التاريخ والطبقات البشريّة...

أغرب ما يدور في عقليات سكّان الأرض أنّ صنّاع التاريخ يحيونه بينهم ويؤسّسونه بإرادتهم وعبقريتهم ، ونسوا أنّ التاريخ يسوقهم ويصنع جدولته من الغيب ، فالمعروف لدى المثقّف والواعي عندما يكتب أو يدوّن أو يقرأ بعد فوات زمنه وتنكيل الشّعوب أنه مؤرّخ بمن يختارونه لأنفسهم ..فمنذ بداية التاريخ علي رؤوس المتكاثرين والمزدحمين فوق الأرض صنعت الحدود والجنسيّات بالقرى والمدن عبر كرة حرّة ذات حياة مطلقة خلال أزمنة الخلائق ، أسّس التاريخ طبقات متفاوتة في القوّة والأرزاق ، متصارعة بلا منافسة للسّيطرة والذود عن الأطماع ..طبقات تتخبّط بين الحياة والموت لتنجو وتنجّي كينوناتها ، تبني وتتكاثر داخليا كدعم للبقاء وبقاء الحقب التاريخيّة ....لا تخلو مراحل الطّبقات وأزمنتها المحدّدة من نسف على أيدي مكوّنيها المختلفة أهدافهم وعقليّاتهم ، طبقات موزّعة بين الفقراء والأغنياء والحكّام ومفبركة بهم لتطول أو تقصر عقودها ، فهؤلاء عماد الحقب التاريخيّة ووقودها ليستمرّّ العنف الطبقيّ عبر العصور  ..

فالطّبقات الدّنيا والمتوسّطة تتعذّب وتتحمّل الضّغوط الهابطة المهيمنة من الطّبقات العليا  قمعا أو ظلما أو قتلا أو حربا أو عدلا منحازا تحت راية الاستعباد والاستقلال ....الحياة الدنيويّة مفصّلة بمناهج تاريخيّة تعرقل مساعي الطّبقات إن خالفت دوام التّناحر بين الشّرائح البشريّة ...تنتشر الجرائم الماديّة والمعنويّة لتوزّع الأجيال عبر السّنين والقرون  إلي مناصرين ومعارضين في طبقات مسطّرة تارخيا بدماء أذلّتها وأسالتها التّفرقة وأشكال العنصريّة وتجهز فيما بعد للرّاوي والحكواتي كنقّال لأحداث تاريخ كتب نفسه بنفسه على صفحات طبقاته  ...فلا الدّيّانات توحّد الطّبقات أوتنشر بينها التّناغم والتّعايش ، ولا السّيّاسة تدمج الطّبقات وتقلّص فوارقها الدّائمة ، ولا القوّة تتنازل لتخلق تبادل المنافع العامّة ...أرادها التاريخ صراع طبقات في العيش المتفاوت  فجعلها من البداية إلي النّهاية بكثرة القوانين التي لا تنتصر على التاريخ ولا تخسّره تفريق طبقات هي روحه  ..

من الضّروريّ أن يقع الناس في فخّ التاريخ للامتثال للفتن والاقتتال كأساس التّبديل وتطوير الطّبقات ... العهود التي مرّت ولازالت تتعاقب أنشئت علي الطّبقية الحتميّة  بلا رحمة أو تصحيح لمسارها ....طبقات عليا لا ترمّم أزمات البروليتاريا المسحوقة في الطّبقة السّفلى ، المكدّسة بالكذب والنّفاق والتّعظيم وابتزاز سنوات حياتهم بالخضوع والعهود والخطب والتّسويف والآمال الضّبابيّة اعتمادا علي وطنيّة الأرض وما بني علي باطل أو حقّ ملطّخ بمصالح الأقوياء ....

أساليب التاريخ تختلف عن مبادئ التّسيير بين الطبقات الاجتماعيّة والعرقيّة وغيرها ..يرتكب الإنسان ما يسدّ أفق الحقّ بعقول نيّرة لصالح تاريخ لا يتزعزع .... عقول تنسج المحافظة علي الأسطورة الضّامنة لحقب الطّبقات المهمّشة فتقتنع بالآراء وتذوب في الشّعارات المغريّة للفكر والرّوح حفاظا علي الطّبقة العليا التي فرضها التاريخ كورقة منشودة لتفعيل الزّمن المكتوب في أوراق القدر ..البسطاء من النّاس خدّام الطبقات بإرادة التاريخ ...تصرّفاتهم المختلفة والمتعارضة تعمل لاستمرار الحقب عبر وضعيات طبقيّة مرصودة ... وهكذا يبقي النّاس بالأخلاق والإنسانيّة استفادة مطلقة للتاريخ ومشيئته ...يفرض ما يطاق وما لا يطاق علي العموم والخصوص...

من عجائب الدّنيا ، مصير الطّبقات الثّابت من البداية إلي أبد الآبدين ..طبقات متواضعة مهضومة الحقوق تنجب أبطالا من المجالات المتنوّعة وعيا وتحتضنهم منذ سنواتهم الأولى وبعد النّضج ، أملا للتّغيير بشخصيّتهم يصعدون إلي النّجوميّة الباهرة لتبتلعهم الطّبقة العليا ذات الجاه والسّيطرة المطلقة والإغراء المنوّع ، يتنكّرون لأصلهم وفصلهم وينسون مآسي طبقتهم الأم فيبقى الخلاف الطّبقيّ متوازنا حسب إرادة تاريخ متمسّك بالطّبقيّة  ...فالازدهار والحضارة والتطوّر تقوم علي سحق طبقة دون أخرى ، بيد من تاريخ...