كلمة الروائي والناقد الكبير محمد برادة التي ألقيت في ملتقى الفكر والأدب بالقصر الكبير.
صفحة 1 من اصل 1
كلمة الروائي والناقد الكبير محمد برادة التي ألقيت في ملتقى الفكر والأدب بالقصر الكبير.
عـبد الـرحـيـم جـيران : الصــديق الــوفـيّ والباحث الـمبدع
مـحمد بـــرادة
لــم تـكن علاقـتي بـمَـنْ رافـقـتـُـهم وهـم يُـتابعون دراستـهم بـكـلية الآداب، في الرباط أو فــاس، عـلاقـة َالأسـتاذ مـع الطالب، وإنـما كانت، قـبل كل شيء، مـشـروع صــداقة أراهِـنُ عـليه خاصة مع مـن أسـتـشـعـر لديْـه زادا من الفضول والتـطـلع إلى المعرفة ومـيْـلا إلى خوض مغامـرة الإبداع.
وأظــنّ أن سـياق الخـمسينات وإلى ثـمـانـينات القـرن الماضي هـو أحد العـوامل الأساس في تـوجــيـه دفــة هذه العلاقة وتحـديد مضـمونها. ذلك أن طفولة الجامعة المغربية التي فتحت أبـوابها الـعامَ 1958، ومنـاخ الحماسة عـقب الاستقلال، والحرص على رفع التحدي لـبناء جامعة تـستـوعب طموحات الطلبة، جعـل الأساتذة الشباب الحاصل معظمهم على إجازات أو دبلومات، يقـبلون بأن يـضطـلعوا بإعطاء دروس تقوم مقام محاضرات الدكاترة الـمتخصصين؛ وفي الآن نفسه كانوا يحـضرون رسائلهم الجامعية للارتقاء إلى مسـتوى الأستـاذية...مـن ثم لم يكن فارق الـسـنّ كـبيرا بـيـنـنا وبين الطلبة، فـضلا عـن أن التـطـلع إلى بناء مجـتمع العدالة والصـراع الديمقراطي كان عـنصـر تقارب وتفاهم بين معظم الطلبة والأساتـــذة الشباب في الجامعة آنــذاك. بالنسبة لي، كنت أزاوج بيـن التدريس ومحاولة الكتابة والدعوة إلى أدب مغربي جديد في مطلع الستينات. أو بالأحـرى، كنت ومجموعة من الأصدقاء العائدين من الشرق، نبشـر بأدب نســتـشـعـر ضـرورته قـبل أن نـنـجـز نماذج كافية لـبلورة مـعالـمه. ومن ثم مشاركـتنـا في إنشاء اتحاد كتاب المغرب والسـعي إلى جعله مـنـبرا للحوار وأداة لبـلورة الأدب المحلوم بـه.
على ضوء ذلك، أقـول إن مـا وطـّــد علاقــتي بعبد الرحيم جيـران هـو جـديّــته المتـناهية في التحصيل وقـراءة المراجع؛ ثـم بالأخص ممارستـُه للكتابة السردية في تـكـتّـم وتـأنٍ إلى أن قـرأت له نـصا في ملحق ثقافي فـتـأكـدتُ من أن قدرته النقدية التحلـيلية تــسـندُها مـوهبة إبداعية أعـتــبـرها شــبه ضـرورية للناقــد الذي لا يريد أن يكون مـجرد مُـطبّق لمقاييس ومصطلحات جاهـزة تصنع منه مجـرد مُــشـرّح فاقـدٍ لحاسّةِ التفاعل والحدس وتـخـصـيـبِ النصوص.
لـكن إلى جانب هذا "الـتـواطؤ" الذي نسـجه الإبداعُ خـلسة بـيـنـنا، هـناك خـصال عبد الرحيم ومخـزونه الجـواني الذي يجعل سـلوكه في الحياة ومع زملائه وطـلابه حـريصا على مقاومة الابـتذال والانـتهاز والجري وراء التـلميع والمباهاة. وهي خـصال نادرة إن لم تكن معدومة في مرحلة مجتمعنا الراهنة، وبخاصة بـين جدران الكليات والمعاهـد حيث يـنـدُر الإخلاص للبحث، والاهتمام بالطلبة اهتماما مُـنزها عن الـغـرض، وحيث العلائق تـنحو إلى تـثـبــيت معادلة الـسـيـّـد والـعـبد... وهذا الجانب في شخصية عبد الـرحيم يـمنحه الـثقة بالنفس والصلابة الـلازمة للدفاع عـن أفكاره وآرائــه. وهذا مـا خـبَــرتُـه أثـناء تحضـيره لأطروحة السلك الثالث معي. فإلى جانب سـعة الاطلاع والإحاطة بالمراجع الأساس في اللغتين العربية والفرنسية، هـو يـمتلك قدرة على تـطويع المصطلحات ونـحـتـها، وقدرة تــنـظيـرية تــضيء النصوص موضوعَ البحث والتحليل. وكـم أسـعدني أن عبد الرحيم جيران أصدر منذ سنوات، كتابا يناقش فيه كتاب الناقد تـودوروف المتعلق بالأخطار المحدقة بالأدب. لقد اعتبرت هذا الكتاب، بغض النظر عن موقفي من الإشـكالية، دلـيلا على نضج الخطاب الـنقدي العربي الذي بات قادرا على مناقشة ومخالفة مَـنْ اسـتـفـدنا مـنهم عـند بداية اطلاعنا على المناهج النقدية العالمية. وهو كتاب يـؤكد أن باستطاعة النقد العربي، لـو تـوافـرت لـه الشروط الملائمة للبحث والتدريس، أن يـنـتـقل من مرحلة الاقتباس والتـمثـل إلى مســتوى التفاعل والإضافة والابتكــار.
أنا أعلم أن شـروط التدريس والبحث في الجامعة لـم تـتـحـسّـن بالقدر المطلوب والمـرجُـوّ، إلا أنها كانت على أيامنا أكـثـر نـقـصانا وضـيقا، فلم أكـن راضيا عـن حصيلة ما أقدمه للطلبة. لكن وجود مجموعة جدية، لامـعة، من بينهم كانت حـافزا لي على متابعة طـريق التدريس في مثل تلك الشروط. ولـحسن الحظ فـإن جيـران ومجموعة أخرى من أصدقائي الطلبة كانوا يـتـيحون لي أن أحقق بعض مشاريعي النقدية، مستــفيدا من جهودهم وأســئلــتهم الـمُـحفزة، وهذا عنصـر آخـر كان له دور في ضـفــر خيوط الصداقة وتـمـتـيـنها وجعلها مســتـمرة إلى اليوم.
ومـا يُـثلـج صدري هو أن عبد الرحيم جيران لـه أيضا علائق صداقة وارفة مع عدد من طلابه المُـبـتلـين بالإبداع، وأنـه يـرافقهم ويرعاهم وهم يشــقون طريقهم الطويل نحو الكتابة والــتأليف. لذلك ليس لي ما أقوله للصديق جيران في يوم تـكريمه، ســوى أن يـتابع نفس نـهج الصداقة مع طلابه الطامحين إلى المعرفة والإبداع، وأن يـســتـمر في المراهنة على الـقـوى الكامنة بـأعماقـهم، وأن يجعلهم يـتـعلقون باحترام الاختلاف، ويــشـدّ أزرهم وهم يســعون إلى تـحرير المجتمع والجســد والعقل من كلّ وصاية.
م.برادة الرباط 16-2-2016
مـحمد بـــرادة
لــم تـكن علاقـتي بـمَـنْ رافـقـتـُـهم وهـم يُـتابعون دراستـهم بـكـلية الآداب، في الرباط أو فــاس، عـلاقـة َالأسـتاذ مـع الطالب، وإنـما كانت، قـبل كل شيء، مـشـروع صــداقة أراهِـنُ عـليه خاصة مع مـن أسـتـشـعـر لديْـه زادا من الفضول والتـطـلع إلى المعرفة ومـيْـلا إلى خوض مغامـرة الإبداع.
وأظــنّ أن سـياق الخـمسينات وإلى ثـمـانـينات القـرن الماضي هـو أحد العـوامل الأساس في تـوجــيـه دفــة هذه العلاقة وتحـديد مضـمونها. ذلك أن طفولة الجامعة المغربية التي فتحت أبـوابها الـعامَ 1958، ومنـاخ الحماسة عـقب الاستقلال، والحرص على رفع التحدي لـبناء جامعة تـستـوعب طموحات الطلبة، جعـل الأساتذة الشباب الحاصل معظمهم على إجازات أو دبلومات، يقـبلون بأن يـضطـلعوا بإعطاء دروس تقوم مقام محاضرات الدكاترة الـمتخصصين؛ وفي الآن نفسه كانوا يحـضرون رسائلهم الجامعية للارتقاء إلى مسـتوى الأستـاذية...مـن ثم لم يكن فارق الـسـنّ كـبيرا بـيـنـنا وبين الطلبة، فـضلا عـن أن التـطـلع إلى بناء مجـتمع العدالة والصـراع الديمقراطي كان عـنصـر تقارب وتفاهم بين معظم الطلبة والأساتـــذة الشباب في الجامعة آنــذاك. بالنسبة لي، كنت أزاوج بيـن التدريس ومحاولة الكتابة والدعوة إلى أدب مغربي جديد في مطلع الستينات. أو بالأحـرى، كنت ومجموعة من الأصدقاء العائدين من الشرق، نبشـر بأدب نســتـشـعـر ضـرورته قـبل أن نـنـجـز نماذج كافية لـبلورة مـعالـمه. ومن ثم مشاركـتنـا في إنشاء اتحاد كتاب المغرب والسـعي إلى جعله مـنـبرا للحوار وأداة لبـلورة الأدب المحلوم بـه.
على ضوء ذلك، أقـول إن مـا وطـّــد علاقــتي بعبد الرحيم جيـران هـو جـديّــته المتـناهية في التحصيل وقـراءة المراجع؛ ثـم بالأخص ممارستـُه للكتابة السردية في تـكـتّـم وتـأنٍ إلى أن قـرأت له نـصا في ملحق ثقافي فـتـأكـدتُ من أن قدرته النقدية التحلـيلية تــسـندُها مـوهبة إبداعية أعـتــبـرها شــبه ضـرورية للناقــد الذي لا يريد أن يكون مـجرد مُـطبّق لمقاييس ومصطلحات جاهـزة تصنع منه مجـرد مُــشـرّح فاقـدٍ لحاسّةِ التفاعل والحدس وتـخـصـيـبِ النصوص.
لـكن إلى جانب هذا "الـتـواطؤ" الذي نسـجه الإبداعُ خـلسة بـيـنـنا، هـناك خـصال عبد الرحيم ومخـزونه الجـواني الذي يجعل سـلوكه في الحياة ومع زملائه وطـلابه حـريصا على مقاومة الابـتذال والانـتهاز والجري وراء التـلميع والمباهاة. وهي خـصال نادرة إن لم تكن معدومة في مرحلة مجتمعنا الراهنة، وبخاصة بـين جدران الكليات والمعاهـد حيث يـنـدُر الإخلاص للبحث، والاهتمام بالطلبة اهتماما مُـنزها عن الـغـرض، وحيث العلائق تـنحو إلى تـثـبــيت معادلة الـسـيـّـد والـعـبد... وهذا الجانب في شخصية عبد الـرحيم يـمنحه الـثقة بالنفس والصلابة الـلازمة للدفاع عـن أفكاره وآرائــه. وهذا مـا خـبَــرتُـه أثـناء تحضـيره لأطروحة السلك الثالث معي. فإلى جانب سـعة الاطلاع والإحاطة بالمراجع الأساس في اللغتين العربية والفرنسية، هـو يـمتلك قدرة على تـطويع المصطلحات ونـحـتـها، وقدرة تــنـظيـرية تــضيء النصوص موضوعَ البحث والتحليل. وكـم أسـعدني أن عبد الرحيم جيران أصدر منذ سنوات، كتابا يناقش فيه كتاب الناقد تـودوروف المتعلق بالأخطار المحدقة بالأدب. لقد اعتبرت هذا الكتاب، بغض النظر عن موقفي من الإشـكالية، دلـيلا على نضج الخطاب الـنقدي العربي الذي بات قادرا على مناقشة ومخالفة مَـنْ اسـتـفـدنا مـنهم عـند بداية اطلاعنا على المناهج النقدية العالمية. وهو كتاب يـؤكد أن باستطاعة النقد العربي، لـو تـوافـرت لـه الشروط الملائمة للبحث والتدريس، أن يـنـتـقل من مرحلة الاقتباس والتـمثـل إلى مســتوى التفاعل والإضافة والابتكــار.
أنا أعلم أن شـروط التدريس والبحث في الجامعة لـم تـتـحـسّـن بالقدر المطلوب والمـرجُـوّ، إلا أنها كانت على أيامنا أكـثـر نـقـصانا وضـيقا، فلم أكـن راضيا عـن حصيلة ما أقدمه للطلبة. لكن وجود مجموعة جدية، لامـعة، من بينهم كانت حـافزا لي على متابعة طـريق التدريس في مثل تلك الشروط. ولـحسن الحظ فـإن جيـران ومجموعة أخرى من أصدقائي الطلبة كانوا يـتـيحون لي أن أحقق بعض مشاريعي النقدية، مستــفيدا من جهودهم وأســئلــتهم الـمُـحفزة، وهذا عنصـر آخـر كان له دور في ضـفــر خيوط الصداقة وتـمـتـيـنها وجعلها مســتـمرة إلى اليوم.
ومـا يُـثلـج صدري هو أن عبد الرحيم جيران لـه أيضا علائق صداقة وارفة مع عدد من طلابه المُـبـتلـين بالإبداع، وأنـه يـرافقهم ويرعاهم وهم يشــقون طريقهم الطويل نحو الكتابة والــتأليف. لذلك ليس لي ما أقوله للصديق جيران في يوم تـكريمه، ســوى أن يـتابع نفس نـهج الصداقة مع طلابه الطامحين إلى المعرفة والإبداع، وأن يـســتـمر في المراهنة على الـقـوى الكامنة بـأعماقـهم، وأن يجعلهم يـتـعلقون باحترام الاختلاف، ويــشـدّ أزرهم وهم يســعون إلى تـحرير المجتمع والجســد والعقل من كلّ وصاية.
م.برادة الرباط 16-2-2016
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» مع الكاتب والناقد المغربي محمد برادة ..
» الباحث محمد اخريف رئيس جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير: معركة وادي المخازن معركة الن
» محمد برادة الذي في بالي * \ رشيد بنحدّو
» حوار مع الروائي العربي الكبير حيدر حيدر
» الناقد المغربي محمد برادة يرد على اللبناني موريس أبو ناضر
» الباحث محمد اخريف رئيس جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير: معركة وادي المخازن معركة الن
» محمد برادة الذي في بالي * \ رشيد بنحدّو
» حوار مع الروائي العربي الكبير حيدر حيدر
» الناقد المغربي محمد برادة يرد على اللبناني موريس أبو ناضر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى