مع الكاتب والناقد المغربي محمد برادة ..
صفحة 1 من اصل 1
مع الكاتب والناقد المغربي محمد برادة ..
مع الكاتب والناقد المغربي محمد برادة .. تجربة الكتابة، علاقة بالحياة
أكتب محفوفا بالقلق والترقـب واللايقين، لأن الكتابة تظل مفتوحة على المجهول..
إعداد: منير الشرقي
لعل تجـربة الكتابة تنـطوي، بالأحرى، على علاقة بالحياة أي أن وسائل
التعبير وأشكاله المختلفة تغدو، عند البعض، واسطة لـتـجْـلية العلاقة التي
تتكــوّن بين الفرد والعالم، بيـنه وبين الآخرين، بينـه وبين نفـسه. من
هنا يبدو نظريا، أن كل واحد منا هو كاتب بالقوة ومحتاج إلى التعبير عن هذه
العلاقة، بشكل أو بآخر.
يكون من الصعب أن نحدد العوامل التي تجعل من
البعض كـُـتـّـابا أو فنانين دون الآخرين؛ فهذا مجال واسع للافتراض
والتأويل، يضمّ أبحاثا عديدة عن الدوافع النفسية والذاتية الكامنة وراء
اختيار المرء للتعبير الفني الإبداعي. لكننا نستطيع أن نتخـيل الأمر
بالنسبة لـمنْ أثبتوا إصرارهم على الكتابة أو الإبداع الفني، فنستنتـج ما
قد يكون كامنا وراء الانجذاب إلى الكتابة، مستعينين بما يحكيه المبدع عن
تجربته، أو ما يستخلصه المحللون من نصوصه ووقائع حياته... غير أن هذه
العملية، في جميع الحالات، تبقى مندرجة ضمْن التخييل، أي المسلك الذي
نتصور أن الكاتب قد سلكه لتمتين روابطه بالإبداع كوسيلة للتعبير عن ذاته
وهواجسه وتجاربه. من هنا، قد لا يهمُّ ما نقوله عن جذور علاقتنا بالكتابة،
لأن ما يعني القارئ هو النصوص المكتوبة بطبيعة الحال في شروط وسياقات
معينة، إلا أنها تتعالى عن تلك الشروط لتخاطب وتتفاعـل مع المتلقي، على
رغم اختلاف شروطه عن المبدع.ومع ذلك، لعل في مثل هذه التأويلات التخييلية
ما يُـلقي الضوء على تجربة الكتابة المحتفظة دوْمـا بأسرارها الغامضة.
أتذكـّـر مثلا، عندما أنبش ذاكرتي، أن هناك لحظة سعيدة ربـطتـْـني
بالكتابة عندما كانت أمي تطلب مني، وأنا تلميذ في الابتدائي، أن أكتب
رسائل إلى خالي في فاس لأستفسره عن أحواله. كانت تلك التجربة تضعني أمام
تحدّ صعب: أن أعوض اللقاء والصوت بالكلمات التي كان زادي منها قليل. فكنت
أجتهد لأختزن كلمات جديدة لأتنافس مع زملائي داخل الفصل الدراسي ولأبهر
أمي وأنا أقرأ عليها ما كتبته. هل هي الرغبة في امتلاك قدرة التعبير؟ أم
الحرص على نيل إعجاب أمي التي كنتُ مفرط الحب لها؟
مهما يكن، يمكن أن أغامـر بالقول: الطفولة مصدر أساس للكتابة ومعين
يمنحـنا الوهْــمَ بالقدرة على مجابهة الزمن. سواء كانت طفولة سعيدة أو
شقية فإنها تلوح كنجمة جاذبة في سماوات المخيلة لإعادة تملـُّـك المسار
الحياتي والانتماء إلى هوية متعالية على تقلبات الوقــت وزحمة التبدلات
الذاتية والجماعية. تلوح الطفولة نقطة بــدْء ومـرفأ انطلاق نحو ما عشناه
متلاحقا، مشتبكا،عصيا على الفهم. وأظن أن معظم الكـُـتاب يستحضرون هذه
اللحظة الطفولية كلما ادلهمّـتْ السحب وتراكضت الأيام خارج المألوف : يكون
عليّ أن أستعيد الطفولة لأعثر على ما كان يزرع في نفسي التحدّي والإصرار
على إثبات الذات، والاندهاش أمام الجديد، والتفاعل مع العالم في جسارة...
من ثمّ تغدو زوّادة الطفولة ومخزوناتها علبة سريّـة «سوداء»، نلجـأ إليها
للتأمل والفـهم ونفـْـض غبار السفر عبر هذه الحياة الدنيا. غيـر أن
علاقتنا بطفولتنا لا تظل ثابتة، واضحة، من دون خبايا وأوهام وإسقاطات
.لأجل ذلك لا أتردد في أن أضع مقابل ذخــيـرة الطفولة عند الكاتب، تجربة َ
الحياة وهو على مشارف الوعي يتطـلع إلى امتلاك مقولات يصوغ بها رؤيته إلى
العالم. التجربة الحياتية في شساعتها وتعقيداتها وتنوعها هي التي تـخط ّ
مصير الكاتب في وصـفـه إنسانا مثل الآخرين، وتضعه أمام اختيارات ليراهــن
على موضوعات معينة ويبلور شكلا فنيا ملائما، وينحت لغة تتحدّر من «العلبة
السوداء» المنطوية على المكنون فيه. ولعلني أعتبر مرحلة النضج هي المدخل
الطبيعي للتعـرّف على تجربة الكتابة، لأن هذه المرحلة تستـثـمـر خصوصية
الطفولة وتحاور الحياة لتحدد علاقة « واعية « بالعالم. وهنا أستحـضر تجربة
دوستويفسكي(1821- 1881)، كما طرحها الفيلسوف المجــري فولدينيي في كتابه
«دوستويفسكي يقرأ هيجل في سيبريا ويُـذرف الدموع بغزارة «، فهو يحكي أن
الروائي الروسي عندما قرأ في منفاه ما كتـبه هيجل عن التاريخ وفلسفته، أحس
أن الفيلسوف يُــسقط من حساب التاريخ الشعوب والأشخاص الذين لا يعتمدون
على العقلانية والسياسة القائمة على المصالح الكبرى. أحس دوستويفسكي أن
هيجل يـنـفـيه هو وأمثاله إلى خارج التاريخ، فتـولـّـد لديه وعي مضادّ
جعله يكتب متحيّزا إلى أولئك الذين ظلوا خارج الحـلـبة الفلسفية
التجريدية، فكتب ليدافع عن الجوانب الحياتية اللامرئــيـة التي تصنع الفرد
وتاريخه الخاص،ومشاعره العميقة... ولحظة الوعي المضادّ عند دوستويفسكي هي
لحظة متـحدرة من تجربة حياة، من آلام وتفاصيل ومعاينات جعلت الإنسان يأخذ
عنده طابعا ملموسا يفتح الطريق إلى حرية الوجود.
من هذا المنظور، تنتمي الكتابة إلى المعيش، إلى ما تستوعبه الذاكرة
وينحفرُ في المسامّ واللاوعـي، بعيدا من التعميمات التجريدية والتنظيرية.
الانتماء إلى الحياة أولا، وإلى تجلياتها وأصواتها التي تكشف المخبوء وتضع
الفرد أمام أسئلة تاريخه الخاص قبل أن تدفعه إلى مواجهة أسئلة المجتمع
والكون. والكاتب المبدع يخوض مغامرة الكتابة من دون أن يستكين إلى ثوابت
أو مقولات نهائية .
صحيح أننا نكتب، فيما العالم يكبر من حولنا، أي أن من يكتب يمشي على بسيطة
متحركة فلا يستطيع أن يطمئن إلى وصفة جاهزة، حتى ولو بعد طول تجربة.
بالنسبة لي، أنا دائما أكتب محفوفا بالقلق والترقـب واللايقين، لأن
الكتابة تظل مفتوحة على المجهول، متطلبة لشكل خاص ولغة تنقل ما يتلبّد في
ثنايا الذاكرة والوجدان.
ولا شك أن الأمكنة تشكـّل عمودا فقريا في النصوص، ولكنها ليست الأمكنة
المشاع، المشتركة، بل تلك التي تحولها الكتابة عبر مصهرها، إلى فضاءات لها
تضاريسها ونكهة تربطها بالعالم الخارجي، الكـلي. وأظن أن مدنا ثلاث رعتْ
حروفي وأسبلتْ عليها عبقا من طيبها وبخورها وأسرارها، وهي : فاس، الرباط،
القاهرة. تكون الصدفة أول الأمر، وراء علاقتنا بالمدن والأمكنة، لكن
الحوار الصامت والمشاهد والأصوات والألوان والروائح كلها تنبعث، عند
الكتابة، لتحول الأمكنة إلى فضاء للنص، أي إلى مجال ملـتحم بالتخيـيـل
والتذكر وإحياء اللحظات المتصرّمة. ترتبط فاس عندي، بالطفولة الأولى، بلغة
الأمّ ،بمتاهات الأزقة الصاعدة الهابطة، بالعـيـون الدُّعـْـج تطلّ من
وراء اللثام، وباللثـغة المـميزة تتلفـظها نساء فتخاوات، ناعمات الملمس...
واقترن انتقالي إلى الرباط ببداية ملامح المراهقة المبكرة، والتحاقي
بمدرسة « حرة «، عصرية، تلقن دروسها بالعربية وتفتح أعيننا على واقع
الاستعمار وأبجدية النضال والسياسة. كــأنّ الرباط، من خلال البحر
ودينامية الحركة الوطنية، هي بــوّابة تناديـني لاكتشاف ما وراء عالم
الطفولة. وكان سفري إلى القاهرة وأنا في منتصف السادسة عشر من عمري،
اجتيازا لـعـتبة طالما حلمتُ بها أثناء ما كنتُ أشاهد في سينما باب بوجلود
بمدينة فاس، أفلاما مصرية يتصدرها زكي رستم ومحمد عبد الوهاب وفاتن حمامة
واسمهان... تعرُّفي على القاهرة الساحرة آنذاك، وضعني في مرحلة مبكرة،
أمام أسئلة الهوية واللغة الواحدة المتعددة، والانتماء إلى عالم أوسع
بكثير من ما كنتُ أتصور .
لذلك، لا أظن أن الرسائل التي كنتُ أكتبها بطلب من الأم العزيزة، وموضوعات
الإنشاء داخل الفصل، والقصص القصيرة التي يكمن وراءها حبّ التميـز
والانتساب إلى عالم الأدباء، لا أظن أنها كانت تجسيدا للكتابة كما بدأت
أعيها وأمارسها بعد أن قطعتُ أشواطا لا بأس بها على درب الحياة ... من ثمّ
قد تكون بداية انتمائي إلى الكتابة إنما تعود إلى إدراكي لأهمية الذاكرة
في نسْــج القصة والرواية .
كيـف أكتب ذاكرتي؟ ذلك هو المنطلق الحقيقي، في ما يخيل إليّ، لمغامرتي في
الكتابة الإبداعية، ذلك أنه سؤال يلخص جميع التفاصيل الفنية والموضوعاتية،
في ترابطها مع أسئلة الوجود وامتلاك اللغة الخاصة وسط المعجم المــشاع ن
والقبض على الهوية التي لا تكفُّ عن الزوغان والانفلات والتواري داخل أرض
بلقع تحمل بصمات المسخ والتزيـيف.
كتابة الذاكرة لجوء إلى اللحظات الباقية وإلى فضاء الحرية والتخييل: إنها
قبل كل شيء، كتابة تقوم على استيحاء واستحضار المنـسيّ غـير القابل
للنسيان.
الاتحاد الاشتراكي
أكتب محفوفا بالقلق والترقـب واللايقين، لأن الكتابة تظل مفتوحة على المجهول..
إعداد: منير الشرقي
لعل تجـربة الكتابة تنـطوي، بالأحرى، على علاقة بالحياة أي أن وسائل
التعبير وأشكاله المختلفة تغدو، عند البعض، واسطة لـتـجْـلية العلاقة التي
تتكــوّن بين الفرد والعالم، بيـنه وبين الآخرين، بينـه وبين نفـسه. من
هنا يبدو نظريا، أن كل واحد منا هو كاتب بالقوة ومحتاج إلى التعبير عن هذه
العلاقة، بشكل أو بآخر.
يكون من الصعب أن نحدد العوامل التي تجعل من
البعض كـُـتـّـابا أو فنانين دون الآخرين؛ فهذا مجال واسع للافتراض
والتأويل، يضمّ أبحاثا عديدة عن الدوافع النفسية والذاتية الكامنة وراء
اختيار المرء للتعبير الفني الإبداعي. لكننا نستطيع أن نتخـيل الأمر
بالنسبة لـمنْ أثبتوا إصرارهم على الكتابة أو الإبداع الفني، فنستنتـج ما
قد يكون كامنا وراء الانجذاب إلى الكتابة، مستعينين بما يحكيه المبدع عن
تجربته، أو ما يستخلصه المحللون من نصوصه ووقائع حياته... غير أن هذه
العملية، في جميع الحالات، تبقى مندرجة ضمْن التخييل، أي المسلك الذي
نتصور أن الكاتب قد سلكه لتمتين روابطه بالإبداع كوسيلة للتعبير عن ذاته
وهواجسه وتجاربه. من هنا، قد لا يهمُّ ما نقوله عن جذور علاقتنا بالكتابة،
لأن ما يعني القارئ هو النصوص المكتوبة بطبيعة الحال في شروط وسياقات
معينة، إلا أنها تتعالى عن تلك الشروط لتخاطب وتتفاعـل مع المتلقي، على
رغم اختلاف شروطه عن المبدع.ومع ذلك، لعل في مثل هذه التأويلات التخييلية
ما يُـلقي الضوء على تجربة الكتابة المحتفظة دوْمـا بأسرارها الغامضة.
أتذكـّـر مثلا، عندما أنبش ذاكرتي، أن هناك لحظة سعيدة ربـطتـْـني
بالكتابة عندما كانت أمي تطلب مني، وأنا تلميذ في الابتدائي، أن أكتب
رسائل إلى خالي في فاس لأستفسره عن أحواله. كانت تلك التجربة تضعني أمام
تحدّ صعب: أن أعوض اللقاء والصوت بالكلمات التي كان زادي منها قليل. فكنت
أجتهد لأختزن كلمات جديدة لأتنافس مع زملائي داخل الفصل الدراسي ولأبهر
أمي وأنا أقرأ عليها ما كتبته. هل هي الرغبة في امتلاك قدرة التعبير؟ أم
الحرص على نيل إعجاب أمي التي كنتُ مفرط الحب لها؟
مهما يكن، يمكن أن أغامـر بالقول: الطفولة مصدر أساس للكتابة ومعين
يمنحـنا الوهْــمَ بالقدرة على مجابهة الزمن. سواء كانت طفولة سعيدة أو
شقية فإنها تلوح كنجمة جاذبة في سماوات المخيلة لإعادة تملـُّـك المسار
الحياتي والانتماء إلى هوية متعالية على تقلبات الوقــت وزحمة التبدلات
الذاتية والجماعية. تلوح الطفولة نقطة بــدْء ومـرفأ انطلاق نحو ما عشناه
متلاحقا، مشتبكا،عصيا على الفهم. وأظن أن معظم الكـُـتاب يستحضرون هذه
اللحظة الطفولية كلما ادلهمّـتْ السحب وتراكضت الأيام خارج المألوف : يكون
عليّ أن أستعيد الطفولة لأعثر على ما كان يزرع في نفسي التحدّي والإصرار
على إثبات الذات، والاندهاش أمام الجديد، والتفاعل مع العالم في جسارة...
من ثمّ تغدو زوّادة الطفولة ومخزوناتها علبة سريّـة «سوداء»، نلجـأ إليها
للتأمل والفـهم ونفـْـض غبار السفر عبر هذه الحياة الدنيا. غيـر أن
علاقتنا بطفولتنا لا تظل ثابتة، واضحة، من دون خبايا وأوهام وإسقاطات
.لأجل ذلك لا أتردد في أن أضع مقابل ذخــيـرة الطفولة عند الكاتب، تجربة َ
الحياة وهو على مشارف الوعي يتطـلع إلى امتلاك مقولات يصوغ بها رؤيته إلى
العالم. التجربة الحياتية في شساعتها وتعقيداتها وتنوعها هي التي تـخط ّ
مصير الكاتب في وصـفـه إنسانا مثل الآخرين، وتضعه أمام اختيارات ليراهــن
على موضوعات معينة ويبلور شكلا فنيا ملائما، وينحت لغة تتحدّر من «العلبة
السوداء» المنطوية على المكنون فيه. ولعلني أعتبر مرحلة النضج هي المدخل
الطبيعي للتعـرّف على تجربة الكتابة، لأن هذه المرحلة تستـثـمـر خصوصية
الطفولة وتحاور الحياة لتحدد علاقة « واعية « بالعالم. وهنا أستحـضر تجربة
دوستويفسكي(1821- 1881)، كما طرحها الفيلسوف المجــري فولدينيي في كتابه
«دوستويفسكي يقرأ هيجل في سيبريا ويُـذرف الدموع بغزارة «، فهو يحكي أن
الروائي الروسي عندما قرأ في منفاه ما كتـبه هيجل عن التاريخ وفلسفته، أحس
أن الفيلسوف يُــسقط من حساب التاريخ الشعوب والأشخاص الذين لا يعتمدون
على العقلانية والسياسة القائمة على المصالح الكبرى. أحس دوستويفسكي أن
هيجل يـنـفـيه هو وأمثاله إلى خارج التاريخ، فتـولـّـد لديه وعي مضادّ
جعله يكتب متحيّزا إلى أولئك الذين ظلوا خارج الحـلـبة الفلسفية
التجريدية، فكتب ليدافع عن الجوانب الحياتية اللامرئــيـة التي تصنع الفرد
وتاريخه الخاص،ومشاعره العميقة... ولحظة الوعي المضادّ عند دوستويفسكي هي
لحظة متـحدرة من تجربة حياة، من آلام وتفاصيل ومعاينات جعلت الإنسان يأخذ
عنده طابعا ملموسا يفتح الطريق إلى حرية الوجود.
من هذا المنظور، تنتمي الكتابة إلى المعيش، إلى ما تستوعبه الذاكرة
وينحفرُ في المسامّ واللاوعـي، بعيدا من التعميمات التجريدية والتنظيرية.
الانتماء إلى الحياة أولا، وإلى تجلياتها وأصواتها التي تكشف المخبوء وتضع
الفرد أمام أسئلة تاريخه الخاص قبل أن تدفعه إلى مواجهة أسئلة المجتمع
والكون. والكاتب المبدع يخوض مغامرة الكتابة من دون أن يستكين إلى ثوابت
أو مقولات نهائية .
صحيح أننا نكتب، فيما العالم يكبر من حولنا، أي أن من يكتب يمشي على بسيطة
متحركة فلا يستطيع أن يطمئن إلى وصفة جاهزة، حتى ولو بعد طول تجربة.
بالنسبة لي، أنا دائما أكتب محفوفا بالقلق والترقـب واللايقين، لأن
الكتابة تظل مفتوحة على المجهول، متطلبة لشكل خاص ولغة تنقل ما يتلبّد في
ثنايا الذاكرة والوجدان.
ولا شك أن الأمكنة تشكـّل عمودا فقريا في النصوص، ولكنها ليست الأمكنة
المشاع، المشتركة، بل تلك التي تحولها الكتابة عبر مصهرها، إلى فضاءات لها
تضاريسها ونكهة تربطها بالعالم الخارجي، الكـلي. وأظن أن مدنا ثلاث رعتْ
حروفي وأسبلتْ عليها عبقا من طيبها وبخورها وأسرارها، وهي : فاس، الرباط،
القاهرة. تكون الصدفة أول الأمر، وراء علاقتنا بالمدن والأمكنة، لكن
الحوار الصامت والمشاهد والأصوات والألوان والروائح كلها تنبعث، عند
الكتابة، لتحول الأمكنة إلى فضاء للنص، أي إلى مجال ملـتحم بالتخيـيـل
والتذكر وإحياء اللحظات المتصرّمة. ترتبط فاس عندي، بالطفولة الأولى، بلغة
الأمّ ،بمتاهات الأزقة الصاعدة الهابطة، بالعـيـون الدُّعـْـج تطلّ من
وراء اللثام، وباللثـغة المـميزة تتلفـظها نساء فتخاوات، ناعمات الملمس...
واقترن انتقالي إلى الرباط ببداية ملامح المراهقة المبكرة، والتحاقي
بمدرسة « حرة «، عصرية، تلقن دروسها بالعربية وتفتح أعيننا على واقع
الاستعمار وأبجدية النضال والسياسة. كــأنّ الرباط، من خلال البحر
ودينامية الحركة الوطنية، هي بــوّابة تناديـني لاكتشاف ما وراء عالم
الطفولة. وكان سفري إلى القاهرة وأنا في منتصف السادسة عشر من عمري،
اجتيازا لـعـتبة طالما حلمتُ بها أثناء ما كنتُ أشاهد في سينما باب بوجلود
بمدينة فاس، أفلاما مصرية يتصدرها زكي رستم ومحمد عبد الوهاب وفاتن حمامة
واسمهان... تعرُّفي على القاهرة الساحرة آنذاك، وضعني في مرحلة مبكرة،
أمام أسئلة الهوية واللغة الواحدة المتعددة، والانتماء إلى عالم أوسع
بكثير من ما كنتُ أتصور .
لذلك، لا أظن أن الرسائل التي كنتُ أكتبها بطلب من الأم العزيزة، وموضوعات
الإنشاء داخل الفصل، والقصص القصيرة التي يكمن وراءها حبّ التميـز
والانتساب إلى عالم الأدباء، لا أظن أنها كانت تجسيدا للكتابة كما بدأت
أعيها وأمارسها بعد أن قطعتُ أشواطا لا بأس بها على درب الحياة ... من ثمّ
قد تكون بداية انتمائي إلى الكتابة إنما تعود إلى إدراكي لأهمية الذاكرة
في نسْــج القصة والرواية .
كيـف أكتب ذاكرتي؟ ذلك هو المنطلق الحقيقي، في ما يخيل إليّ، لمغامرتي في
الكتابة الإبداعية، ذلك أنه سؤال يلخص جميع التفاصيل الفنية والموضوعاتية،
في ترابطها مع أسئلة الوجود وامتلاك اللغة الخاصة وسط المعجم المــشاع ن
والقبض على الهوية التي لا تكفُّ عن الزوغان والانفلات والتواري داخل أرض
بلقع تحمل بصمات المسخ والتزيـيف.
كتابة الذاكرة لجوء إلى اللحظات الباقية وإلى فضاء الحرية والتخييل: إنها
قبل كل شيء، كتابة تقوم على استيحاء واستحضار المنـسيّ غـير القابل
للنسيان.
الاتحاد الاشتراكي
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» الكاتب لا يخـتار زمنه، ولكن/محمد بــــرادة
» إدريس الخوري.. في حضرة الكاتب/محمد معتصم
» رحيل الكاتب المغربي إدمون عمران المالح
» الكاتب المغربي البشير الدامون يكشف متاهات سرير الأسرار
» محمد برادة الذي في بالي * \ رشيد بنحدّو
» إدريس الخوري.. في حضرة الكاتب/محمد معتصم
» رحيل الكاتب المغربي إدمون عمران المالح
» الكاتب المغربي البشير الدامون يكشف متاهات سرير الأسرار
» محمد برادة الذي في بالي * \ رشيد بنحدّو
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى