من طرف kaytouni الجمعة 11 يناير 2008 - 17:27
بورتريه•• أحمد المجاطي•• متى ينشرني هدير الموج!!
ميلودي بلمير
في مقهى > البستان < كان يكرس حياته اليومية، بصحبته كتاب وأوراق يتصفحها على مهل. كان وحيدا، حزينا، متعبا، يقضي ساعة أو ساعتين مسائلا نفسه، غارقا في ذاته هاربا من ثرثرة الأندية ومن الحواشي الرائجة في منابر المشاهير حيث لا قديم ولا جديد في أرض الله. قضى عمرا وهو يجوب رحاب البشرية في عراك صامت مع أهل الثقافة وأهل السياسة. في ممشى العبث تفرس النصب السخيفة والتماثيل الصغيرة وعاش مواسم الرياء التي غابت فيها الأناقة ورقة الروح. من يراه على هذا الحال، لا يصدق أنه بإزاء كائن إغريقي صب فيه الشموخ فروسية الأولين، خانه حظه فوجد نفسه في صدر الأعاصير، سلاحه الوحيد شعره الذي يقاوم به الحروب الباردة والساخنة. شاعر جُبل على الصرامة و الوداعة، لم ينل فعل الدهر من جداره السميك، آثر بسعة أو بضيق روحه أن لا يعتب على احد وان لا يفاوض خصما في كبريائه. في جادة >بورگون < كان يبطئ الخطى، مهيب المنظر، وحيدا كناسك زاهد متقشف، حين يناله التعب يسند ظهره إلى عمود ويسرح عيناه في مشهد الجموع البشرية وهي تندفع دون انقطاع وكأنه يفتش فيها عن مسقطه الشعري حيث ملاذه الوحيد خوفا من غارات المتربصين، المربوطين إلى الدوائر الثقافية. كان وهو يتأمل، يخلص إلى أن خصومه لن يفهموه وهذا محزن للغاية، كان يعتقد أن الشاعر الحقيقي لن يفهم إلا من لدن قصيدته ونفسه. هل يخضع الشعر لحكم النقد، أجل، لكن ليس لهوى النقد السخيف. النقد المعادي للذات الإبداعية هو وسام على صدر الشاعر الحقيقي. إلهام الشاعر هو خاصية عالمه الخاص الذي لا يخضع لمقاييس لعبة التضخيم والتصغير، إن وظيفة أي نقد هادف يكمن في دعمه لقيم الإبداع وتحرير هذا الإبداع من سطوة الانصياع للأغراض المشبوهة التي تقود في النهاية إلى معارك وهمية خاسرة. لهذا كان المجاطي يحمل لقاحه المنيع الذي حصنه من سم الأفاعي، مؤمنا أن العمل الأدبي إذا استسلم إلى اللغو المفرط فلن يؤدي رسالته أي رسالة الأديب الحر المتفاني في استيحاء الحياة من واقعه وما يعج به زمانه. المجاطى الذي رحل وهو في أوج قوته الإبداعية، ظل إلى النزع الأخير على رأس الشعراء المبرزين في الأدب الرفيع وسيظل على هذا النحو، لأن هذا الشاعر الكبير ينتسب إلى تلك الظواهر الإبداعية النادرة الحدوث في الأدب المعاصر. لقد حاول خصومه التقليل من مكانته الإبداعية. لكن هذا الشاعر المميز ما كان بمقدوره أن يكتب شعرا رديئا، كان أسمى من بعض الشعراء الذين حظوا بنصيب كبير في الإعلام الثقافي. المجاطى على الرغم ما قدم من نفائس الشعر ومن الأطروحات النقدية ومن الشذرات الأدبية و أشياء كثيرة في الأدب والثقافة، لم يشعر يوما أنه الأجدر بهذه المكانة و إنما كان قانعا بما هو عليه وعاش زمانه في العزلة التي اختارها وعشقها وفي أحضانها انكب على أعماله في صمت ومواظبة قل نظيرهما. كان للمجاطي إحساس مرهف ورقيق بالحياة وقدرة فائقة على تحسس الأشياء وحدس فطري في قراءة الخبيء و الغامض و بقدر تعلقه بالحياة كان لا يدخر أي شيء في إشراك من يأتنس إليه في مباهج و أحزان عالمه. كل ما كتبه من أشعار في سنوات طفرته الشعرية إستقاه من حدسه و من مشاعره المتناقضة و من سعيه إلى إستغوار المناطق المعتمة لمكامن المأساة الإنسانية و استكناه أعماقها ليكشف عنها بأسلوب الثائر المتمرد و بجرأة الشاعر الملتزم بقضايا الإنسان المهمش. هذه الجرأة أكسبته مناعة ضد كل الإغراءات المفترضة. عانى المجاطي من نفور عضوي و من لغة السياسيين، وهذا لا يعني أن إيمانه بالعمل السياسي كان ضئيلا، و إنما كان يصرف اهتمامه لشخصية الكاتب فيه لكي يرى الحياة بصورة أفضل حيث تتكشف علاقته بين الواقع الذي ينتمي إليه و بين فكرة القصيدة التي يرنو إليها. فالكلمة عنده طريق إلى الحقيقة وهي في الأصل فعل سياسي، وهي خطوة إلى إنسانيتنا الضائعة. هذه الإنسانية التي مازالت حبيسة العقل البدائي. كان ينقب، كما في شعره، عن مفاعيل الأفكار السياسية فلا يجد غير مصطلحات و مترادفات قديمة جديدة. كانت السياسة في الراهن المهزوم لا تتطلع إلى الأشياء العظيمة كان يسائل نفسه و يتساءل عن هذا الاختبار المعنوي و الحسي للإنسان، عن هذه الأوجاع المريرة. لقد ضاع الإنسان المعذب في دهاليز السياسة ووضع في شرط مصلحتها العمياء، لهذا لم يبق للمجاطي، في هذا الوضع، غير الخروج من عالم المصطلحات السياسية إلى عالم الكلمات ليلتقط الحقيقة، مبعث الحركة و الحياة. انكسارا ت المرحلة أحدثت عند المجاطي حساسية شاذة تجاه ما هو مناقض له، كان لا يساوم في خياراته و لا يبالي بخسائرها، شهد الفواجع التي نجمت عن الانهيارات المتوالية، فشعر بالحاجة إلى حياة أخرى، حياة العزلة، حياة الشعر، ليتنقل بين منافي عالمها الفسيح، عالم يسبغ عليه أطياف مخيلته و آلامه المبرحة، و أحلامه المنكسرة. في هذه العزلة الاختيارية، الهنيئة و المعذبة. كان المجاطي متمردا على المرحلة أحيانا و منصاعا لنواميسها أحيانا أخرى و حين يتعب يرتكن إلى شهيقها الحزين، يلمس الشوارد العابرة و يمسك بمقابض الغصة و انكسار القلب تاركا للعبارات وحدها سلطة البوح. كان المجاطي يشتغل في منأى عن صخب الزوايا، و قد خيم على عالم عزلته سكون الأديرة، يستوحي منه معاني الصور المترائية و يغوص في بواطنها المركبة. في قلب هذا التوغل، يكشف لنا حقائق عالمنا الملموس و المحسوس، هذا العالم الذي هبت عليه رياح الموروث التي حدت من نزعة التهيب للمغامرة الكبرى، تلك المغامرة التي أثبتت للتاريخ أن قمم الحلم لم تعرف كيف تضع عقيدتها في أية كفة فاختارت عوض السير إلى الأمام المصطلحات الميتة لتسوغ بها بقاءها في دائرة الحركة و هكذا تحول تاريخهم و تاريخنا إلى أساطير مبتدعة تعرض في سوق الاقتباس و الاستيحاء و لا يحتاج بذلك إلى شرعية تتفق مع روح الأمة لأن المغامر المتعب المنهوك القوى ظل و سيظل حتى في الزمن الحديث بطل القضية الخائبة بجزالة لفظه و ضخامة مبناه. >الفروسية< اسم يوحي بالتباس المجهول، بسؤال الوحدة، الشاعر هنا يتأمل استدارة الأفق يريد أن يرسم للزمن الخائب لوحة تعرض في متحف التاريخ، تذكرنا بمشهد الحروب الفاصلة، بمرارة الهزيمة، بسقوط الصقور. من شتات هذه الصور، يريدنا الشاعر أن نرتمي مثله في وحشة العزلة و أن لا نستسلم إلى القدر المحتوم. كان يريدنا بروحه السامية الحزينة أن نكون أقوى بعد الكبوة، أن نسكن قصائده غير المقيدة، أن نشرب نخب الجميع: المهزومون والمنتصرون شاكرين التاريخ الذي ابتدع هذا الحفل البديع، شاكرين أيضا المتنادمين و المتسامرين الذين قبلوا هذه الدعوة بخيار حر و حضروا هذه المأدبة التي قد لا تعوض. شعر المجاطي شعر اعتصام، خرج من تحت اليأس الساحق و وقف عال الجبين بإزاء وقائع الحياة وتفاصيلها. شعره هذا، في ذاته صيحة لليائسين العاجزين عن ركوب الأشياء التي صارت جزءا منهم، كان المجاطي لا يملك منبرا و لا مؤسسة تمضي به إلى الأمام حاملة كنزه الشعري إلى العالمين. كان يحس أن ما يكتبه لا يخرج عن عالم ذاته، في ديوانه >الفروسية< نجده عرافا يدرك بحدسه الحاد حدود الممكنات و حدود المستحيلات، يكتب ليعزي النفوس المنهارة، ليؤثت الفراغ الناتج عن هول المصاب. هذا الفراغ الذي ماتت فيه العواصف و صارت أيامه استفهامات و علل أصابت الأجساد المكلومة. ظل المجاطي يتجرع المرارة و يتحمل بصبر وخزها، ومع ذلك كان يكابد و يقاوم بعناد كل التقلبات و كل الفواجع العابرة. كانت إنسانيته الثائرة، كشاعر ثائر، لا تخيفه الحروف ينخرط فيها ولا يقاتل. كانت تسلبه عبارات العزاء و تستهويه حتى تلك العبارات الزائفة. كان يهجر ساحة الوغى و ينصرف إلى حاله، إلى عزلته التي لا يعبر حدودها أحد. كان يحدس بفراسته الثاقبة موطن الأصل و موطن القناع. يتعقب القناع إلى أن يكشف خباياه فتمتلأ عيناه بالدموع، فيؤوي إلى سكونه المعهود محتضنا جراحه و قد استخلص في النهاية بان لا شيء في حياة البشر يستأهل العتب أو التأنيب. كانت لشخصية المجاطي منزلتها في الشعر المعاصر، كانت أشعاره تعبيرا خالصا عن مكنوناته و مواجعه، يكتمل فيها الجمال في التعبير و الإتقان و الكمال في النظم. كانت خلجاته الشعورية في شعره نابعة من روحه الكاشفة. حين تقرأ شعره تحس بانسجام متناغم بهذا الخيال الجارف و الفسيح الذي يجعلك تطأ أرض الشعر و أنت متخيلا عالما مفعما بنسائم الأمل على الرغم من قسوة المعاقل الحديدية و انحباس المد نحو الغايات. لم تخل صوره الشعرية من مضمون سياسي، يحلم بعالم إنساني تعم فيه أسمى معاني الإنسانية: الحرية و الكرامة. بعيدا عن اللغو المزعج، والتقنيع الكاذب، والمشاعر الزائفة التي تفضي إلى الخيبة و طول الطريق. استطاع المجاطي أن يمنح عالم الشعر تجربة جديدة، تحرر الشعر السائد من نمطيته التقليدية و من سطحيته البائنة لقد تطرف المجاطي في نهجه الشعري فكان شعره صورة له، مرآة ينعكس عليها الواقع بتفاصيله و ملابساته. وجد المجاطي نفسه وراء الأعاصير و ذاق من مراراتها و إخفاقاتها. كان شعره سلاحه الوحيد الذي بإمكانه، كأي حركة تغييرية، قلب المعادلات الخاطئة. لقد مكنه شعره من النفاذ إلى مراكز القوى المتوجة ليفضح أمرها و يصفي حسابه معها. كان بحق صوت المقهورين و المهمشين و المنبوذين. كان يتجسم في المجاطي الصبر المرير و الإحساس الرهيف و الإيمان العميق بحياة ينتفي فيها الألم الإنساني على اختلاف وجوهه. يخشى المجاطي صالونات الثقافة و يحذر من أصدائها و هي صالونات للتباهي الذي لا يجد فيها ما يروح عن النفس المسدودة. رياء الرفاق و الأحباء كان يشعره دائما بأن ضغط الحاجة هو آفة بشرية. كان يأمل أن ينزل الصالونيون الى مهبط الشعب ليجدوا فيه دواءا لعلتهم بدل الانشغال بمصطلحات لا طائل منها. إن الشاعر في المجاطي يتألم في صمت و يتمرد، لا يكظم حقدا لأحد. كان يعتبر الألم لعنة الإنسان، منه ندرك مغزى الحياة و نتعلم الدروس. بالألم نلمس أسرار النفس و نرسم أدق الخطوط و نخرج المعاني التي تعطينا القوة المعنوية لمجابهة تحديات المصير. واليوم، من ينبش ذكرى هذا الشاعر الكبير الذي أورث لنا شعرا طالما إعتنقناه و طالما أثارنا و سحرنا. لقد كانت كتابة المجاطي في الأعم عبارة عن سخط دائم و عن تمرد دائم. كان السخط و التمرد فطريان في غريزته، كان السخط و التمرد يسليانه و يحرضانه على إثارة النفوس الميتة بغرض إحيائها. لقد رحل المجاطي عن عالمنا ممزقا و منكسرا و حاملا قنوطه الأنيق الى مدائن الموت، مخلفا لنا ثروة شعرية عظيمة لن تتآكل و لن يخفت نورها. ولم لا، و هو القائل >يا أحبائي .. مضى أبد و لم يمتد جسر.. بيننا.. ما عادت الأفراس تجمح.. أو تصول الريح.. شد خناجر الفرسان في أغمادها.. صدأ.. سأبقى هاهنا ظلا.. على سفح الجدار.. يلمني جزر.. وينشرني هدير الموج<.
2008/11/1|