الشعر والحق في الاختلاف المجاطي، والخمار الكنوني، والسرغيني، ودينامية السحر
صفحة 1 من اصل 1
الشعر والحق في الاختلاف المجاطي، والخمار الكنوني، والسرغيني، ودينامية السحر
»إن أولى وظائف الأدب، وتحديدا الشعر، هي أن يواصل إنتاج المرحلة اللغوية الأولى الاستعارية حين تسود المراحل اللاحقة، وأن يواصل تقديمها كصيغة لغوية لا يجوز لنا أن نقلل من أهميتها أو أن نتركها تغيب عن نظرنا«1. بهذا المعنى تغدو المرحلة اللغوية الأولى عند «نور ثروب فراي» إحدى علامات الهروب بالشعر نحو تخومه، نحو ما بعد القصيدة، للتدقيق نقول، نحو بويطيقا التماس في مقابل بويطيقا المعيار هذه ،تحديدا، الخلفية التي تحكمت في الممارسة الشعرية العربية المعاصرة (تلك التي كانت تعي جيدا الخلق والإبداع نقصد)، وهي خلفية تروم إخراج هوية القصيدة المنكمشة إلى اللاهوية بعيدا عن كل ميتافيزيقا شعرية، وكذا نقلها من الخصوصية الضيقة إلى الرحابة المصابة بالكثرة pluralité، والموصولة بتأزيم وتقويض كل ما هو معياري، لاختلاق حوار يقظ ودؤوب بين الشعري والنثري في انسلاخ تام عن المواضعات الفنية المتكلسة، دون الوقوع في الرطانة والميوعة أو العدم. إنها أقصى علامات الفرار إلى القصي، إلى الحدودي وما بعده، أو إلى «الشعريات التماسية» بتعبير محمد علوط2.
محمد السرغيني
على
الرُّغم من كل ما قيل حول الحداثة العربية، سلبا أو إيجابا، فلابد من
الإقرار أنها شكلت انعطافة حقيقية نحو ما سمي بحداثة الكتابة، نقصد ما بعد
الحداثة. نفكر هنا فيما قاله الدارس (صلاح بوسريف) عن الوعي الشعري العربي
المعاصر، وعن الوعي الشعري المغربي الستيني والسبعيني، كون هذا المتن لم
يجاوز وعي القصيدة الشفاهي شكلا ومضمونا3، مستثنيا في ذلك بعض التجارب
الشعرية. والحال أن ما تحقق لأدونيس أو لقاسم حداد في كتابه (أخبار
المجنون)، أو لغيرهما من الشعراء استثناء ، ما كان ليتحقق لولا اندفاع
القصيدة إلى أقصى ممكناتها (مضايقها بتعبير أبي نواس) في تلك المرحلة من
خلل تجربة الشعر الحر، أو كما سماها الدارس نفسه «بحداثة القصيدة». ألا
يمكن اعتبار هذه المحاولات الجريئة نحو التحرر، البدايات الحقيقية لانهيار
عمارة القصيدة؟
لقد مرت الحداثة الشعرية العربية بمراحل حاسمة في سعيها
لتسويد شعريات مزدانة بنسغ الانفلات المستمر، الذي سرعان ما يفتح للشاعر
السندبادي أراض مجهولة تتوارى بشكل متسارع نحو التخوم، التي ليست سوى تخوم
مؤقتة. إن أول مظاهر الحداثة الشعرية العربية تجلى أولا في فك الترابط بين
الوزن والقافية داخل النص الشعري، ومن ثمة الخروج على وحديتهما4. ثاني
مظاهر هذه الحداثة تمثل في الخروج عن الأنساق العروضية القديمة جزئيا
وكليا لصالح التفعيلة الخليلية الواحدة أولا، ثم التخلي عن كل ما يتصل
بالعروض العربية ثانيا5. لنا أن نتذكر هنا المحاولات الأولى والخجولة لهذا
الخروج مع أمين الريحاني، أيضا وعطفا على ذلك، تستوقفنا تجربة مائزة
بجرأتها، ورائدة بفتحها لأراض شعرية مجهولة، نقصد تجربة «مجلة شعر»
اللبنانية، على يد شعراء فرسان دشنوا ما سمي «بقصيدة النثر»، نذكر على
رأسهم أدونيس، أنسي الحاج، يوسف الخال، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا...
لقد
شكلت الحداثة عند هؤلاء المغامرين تجاوزا حاسما للمواضعات الجاهزة،
وانطلاقة دونما انقطاع أو عودة. لقد كانت تشوفا نافذا إلى المستقبل من
أعلى «برج بابل» بقصد الكشف والابتكار والتميز من خلل هتك النمط والمعتاد
الأنالوجي، وتفجير النظم، والتمرد على السنن والجاهز. فالشاعر التخومي
(إذا صحت العبارة) فارس مغامر يستكشف حدود الشعري، ويجرب إمكاناته
ومقترحاته اللاتنقطع. إنه يختلق لتجربته الشعرية أشكالا مائزة في التعبير،
وطقوسا جديدة ومترفة في الممارسة الكتابية بما يكسبها الفرادة والتفرد.
وسوف نقف في هذا المقام عند ثلاث قامات وارفة ومتشامخة في سماء مشهدنا
الشعري المغربي المعاصر (المجاطي، والخمار الكنوني، والسرغيني) لكي نبرز
أنها جديرة بانتمائها لتجربة التخوم، ولكي نؤكد أن الحداثة حداثات ، أو قل
سلسلة غير متناهية الحلقات.
-3-
لا مراء، إذن، أن الشعر المغربي
المعاصر في محاولته التمرد على هويته وخرقها مع جيل الرواد، كان ،فعلا،
محاولة جادة لنسف فكرة الأصل النقي/الطهراني لبويطيقا المعيار، وكذا تقويض
كل نزعة وثوقية تنضح بخسف التجذر ويقين الشوفينية. ولعل ورش اللغة كان من
ضمن أهم الأوراش التي فتحها الشاعر التخومي. فلم تعد اللغة سليلة معيار،
لا يني يسمي الأشياء بمسمياتها، بل أصبحت أكثر انكماشا وتكثيفا، بفعل
التشويش الذي يمارسه الانزياح على سلامة اللغة، إما بالإكثار من لعبة
التقديم والتأخير، أو بخرق الترابط الدلالي والنحوي للغة، أو بإحداث قطائع
في بنى السياقات.
ولقد ارتأينا أن نقترب من أهم المخالفات التي تحققت
في المتن الشعري الكنوني بشكل لافت، يتعلق الأمر بمخالفتي «خرق الترابط
الدلالي» بما هو فعل تصادم تحققه المخالفة المقصودة في العلاقة الرابطة
بين عنصرين دلاليين، في إطار العلاقات التجاورية les rapports
syntagmatiques، وكذا المخالفة الحاصلة في منطق السياق، أو كما يسميها
(جان كوهن) «بمخالفة المسند». يقول الشاعر الخمار الكنوني: (حاجز يمنع
الضوء/لو أن أمر ه كان لنا لأزلناه/لامتد في كل منحى سبيل/ فما كان باب
هنا وهناك ليجدي/لارتفعت عن مدانا سجوف/أنبتن في كل باب شحوبا/ وفي كل
نافذة وجلا وعياء/-لا نرى السور يمنع شيئا/فإن الفضاء فسيح أمام المدينة/
والشمس فوق الجميع/وما بين دائرة السور طاب لنا العيش/نحيا، نموت/ولسنا
على ما يرى المارقون)6. نلاحظ من خلل هذا النموذج، أن الانحراف الذي يحدث
في السياق دلاليا، لا نحس به إلا عندما نصل إلى القسم الثاني من هذا
المقطع الذي بدأه الشاعر نفسه بعارضة ( لا نرى السور يمنع شيئا)، مما يعزز
فكرة المخالفة المقصودة. كما نحس في الآن نفسه بنوع من التصادم بين قطبين
دلاليين يشكلان السياق العام:
1- القطب (أ): حاجز يمنع الضوء.
2- القطب (ب): لا نرى السور يمنع شيئا.
- السياق: {(أ) ? (ب)}
يشكل
قطب (ب) نسبة صغيرة وشاذة بالقياس إلى سياق القصيدة ككل الذي ينتمي إليه
(أ). كما أن (ب) يشكل في الوقت نفسه قطبا لمجموعة من المتشاكلات les
Isotopies الدلالية، تتعارض مع باقي متشاكلات السياق ومنها (أ). ولولا
القطب (أ)، لما كان لـ(ب) أي دور ووقع جماليين، علما أن العمق الدلالي
لـ(ب) يخدم بدرجة أشد دلالة السياق ولا ينسفها.
وبناء على ما سلف تسمح قراءة المقطع بالملاحظات التالية:
1-
إن القطب (أ) هو الذي يسهم بشكل كبير في خلق هذه الانزياحات، وفي توليده
لبعض السمات الأسلوبية، بما يسبغه من إشارات على بعض الكلمات التي تكونه،
مما جعلها مفخخة بعناصر المفاجأة والمباغتة.
2- إن القيمة الأسلوبية لهذا التقاطع/الانزياح، تكمن في الترابط بين العنصرين المتصادمين، لا في انفصالهما.
3- لا يمكن خرق الترابط إلا بإحداث التضاد المعنوي في السياق، علما أن الانزياح »يتم نفيه بمجرد ما يتم إنتاجه«7.
وفي
قصيدة «عودة المرجفين» من ديوان «رماد هيسبريس»، سنتوقف عند ثلاث جمل
شعرية في إطار مخالفة «المسند-المنافرة»، وهي: (كتابة تهفو وتحلم/غفا حتى
إذا ما خضه فجر ربيعي، صحا/ اخضر ليل شقوقه). إن المتأمل لهذه الجمل
الشعرية، في مكنته أن يلحظ المنافرة الإسنادية دون تردد. ففي الجملة
الأولى أُسنِد لكلمة الكتابة فعلان هما (تهفو-تحلم)، وهما ينتسبان في
الأصل للعالم الإنساني. الشيء نفسه بالنسبة للجملة الثانية، بحيث ألحق
«الغفو والصحو» بالجذع الذي ينتمي إلى مجال النباتات التي «لا تهفو ولا
تصحو». في حين وظف الشاعر فعل «اخضر» في الجملة الثالثة ونسبه لليل، وهي
مسألة غير معقولة، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصور ليلا مخضرا،
سوى ليل شقوق الجذع، وفي هذه الصورة تحديدا ، دلالة على الينعان والتوهج،
علما أن السياق الذي انوجدت فيه هذه الجمل ، هو الذي أهلنا لتحقيق هذا
المعنى.
وليس من شك أن الشاعر المغربي المعاصر، حسب ما تحقق في المتون
قيد الدرس والتحليل، كان يعي جيدا أن اللغة فعل يمارس التشويش على الوجود،
وأن دور الشاعر التخومي -الجدير بهذا النعت- يكمن في التصدي لهذا التعتيم.
إن الشاعر يقول أوكتافيو باث: «لا يسمي الأشياء بقدر ما يمحي عنها
أسماءها، ويكشف الأشياء دون أسماء. إن نقد العالم يسمى اللغة. ونقد اللغة
هو الشعر. في الحالة الأولى يتحول العالم إلى لغة، أما في الحالة الثانية
فاللغة هي التي تغدو عالما»8.
هذا يعني أنه على الشاعر أن يسعى أبدا
إلى وضع الشيء في مواجهة عرائه9، كما يعني أن اللغة هي مثوى ومسكن الوجود
بتعبير «هايدجر». إن الشاعر التخومي يعي جيدا أن الكتابة الشعرية،هي تلك
التي تعمل بشكل دؤوب على تشتيت العلامات، وأنها قبل كل شيء ترحيلات تجاه
التخوم، وانفلات فطن من سلطتها ورقابتها، ما يجعله يتبرم بالغنائية، ويروم
التسريد عبر توصيف الكينونة داخل الزمن لا خارجه، من خلل حركية الفعل الذي
يقوم »ببث روح الحياة في كم بلا شكل ولا تخوم ولا ضفاف ولا بداية ولا
نهاية«10. هو ذا الفراغ والخلاء الذي عليه تؤسس قصيدة التخوم عمارتها،
شعريتها المخصوصة بما هي مقومات مؤقتة، لا مناص من ذلك، مقومات تفتح حوارا
بين الذات والموضوع، وبين الداخل والخارج، وبين الفني والوجودي، مقومات
يمكن اعتبارها مرقى صعود التجربة الشعرية ذاتها إلى التخوم.
هكذا أصبحت
اللغة في شعر الحداثة يُنظَر إليها فيما تولده، لا فيما وضعت له، على رأي
أحدهم. ولعل المتأمل لمتون رواد/فرسان الشعر المغربي المعاصر المبادرين
منهم خاصة، يستطيع بسرعة أن يلحظ تهريبهم اللغة من وضعها
القدسي/الكلاسيكي، والهروبي/الرومانسي، إلى وضعها الجديد الذي ساهم في
تصميم هندسة بنائية مفتوحة، شكلت في نهاية المطاف ممارسة شعرية «ضدية»،
وما عليك عزيزي القارئ إلا أن تعود لديوان «الفروسية» أو «رماد هسبريس» أو
«ويكون إحراق أسمائه الآتية» تمثيلا لا حصرا، حتى تتأكد مما ذهبنا إليه.
ملمح
فني جديد يحسب لهؤلاء الرواد، ويستحق منا وقفة، ويتعلق بالتوزيع الطباعي
الجديد للقصيدة عندهم، كإبدال حقيقي منح الشاعر حيزا كبيرا يستغله أنى
شاء، وبشكل يخدم الدفقات الشعورية والتصدعات الحاصلة في الذات الشاعرة.
ووجبت
الإشارة إلى أن الشاعر المجاطي قد عمل على إعادة توزيع قصائده في ديوانه
الوحيد «الفروسية» بشكل مغاير تماما عن شكلها الطباعي الذي ظهرت به في أول
الأمر على صفحات الجرائد والمجلات، وذلك وعيا منه بأهمية التوزيع
?التشكيل، كقراءة رأسية ثانية للنصوص بالموازاة مع القراءة
الخطية-الأفقية. ولو تأملنا الفرق بين التوزيعين-التشكيلين، لاستشعرنا
روعة الإحساس الذي نحسه بصريا ونحن نقرأ نفس النموذج وهو مكتوب وموزع بشكل
رائع يخدم المعنى، ويقدم قيمة دلالية مضافة للنص. إن الاختلاف بين
التجربتين عند أحمد المجاطي، يكمن في أن التشكيل الأول لا يعكس -ساعة
الإنشاد أو القراءة- حرارة التجربة الشعرية بنفس الحرارة التي اقتُنِصت
بها، كما هو الحال بالنسبة للتشكيل الثاني، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن
التشكيل الأول -بصريا- يجعل حركة الذات وإيقاعاتها تتداخل بشكل كبير ،
لدرجة يصعب معها على المتلقي تحديد مستويات التوتر والهدوء، التقلص
والتمدد، الكر والفر، بعكس التشكيل الثاني الذي يسهل هذه العملية، مانحا
إياها متعة بصرية إضافية.
ولعل ما يميز تشكيل قصائد المجاطي في
الديوان، كونها تروم الصمت والفراغ بشكل لافت، بحيث لا يمكن البتة تجاهله.
إن »قراءة السواد، فقط، هي قراءة عمياء، أو هي، فضاء الأعمى، لأنها تكتفي
بجزء من المكان، بالمكتوب l écrit دون غيره«11، ومن ثمة لا يمكن القفز على
هذه الخاصية المعتبرة التي وسمت العديد من صفحات الديوان. يقول الشاعر في
قصيدة «الدار البيضاء»:
1- وأنت على شرعة الصمت:
أغمضت عينيك
قبل الصلاة
وقبل مباشرة الدفن
2- كان بيني وبين رماة الطوارق:
صمتك
حين اكتشفت خمارة
فاستدار بي الكأس
أبحرت
أبحرت
حتى افتقدتك12.
يخيم
على النموذجين السالفين طقس جنائزي، يستوطنه الصمت والحزن بشكل رهيب.
ويوازي هذا الصمت على مستوى الكتابة تقلص للأسود لصالح البياض. وانطلاقا
مما يمثله اللون الأبيض في ثقافتنا الشعبية بالمغرب، بحيث به نكفن موتانا،
وبه نحزن عليهم، فإن الشاعر سيحزن بنفس البياض على مدينته (وقبل مباشرة
الدفن/حتى افتقدتك)، وبه سيكفن ،من ثمة ،صفحات هذه القصيدة.
إن تشكيل
البياض في هذين النموذجين، يعبر عن حالة الضياع التي يعيشها الشاعر بسبب
فقده مدينته. يوازي ذلك حالة من الصمت على مستوى الكلام، والبياض على
مستوى الكتابة. لقد كان حوار السواد مع البياض محسوما لصالح الأخير، خصوصا
وأن التيمة المهيمنة هي تيمة الموت والضياع والفقدان، حتى إننا نجد الشاعر
ينحاز في الكثير من مساحات هذه القصيدة للمستوى الثالث والمتأخر من
الصفحة، دون أن ننسى ما يرمز إليه هذا المستوى من معاني البعد، والتيه،
والموت، والصمت، عكس المكان المتقدم منها.
خدعة فنية أخرى يمكن
اعتبارها ملمحا جماليا آخر ، من ملامح شعريات التخوم، تحققت لأحد أهم رواد
الشعر المغربي المعاصر -نقصد محمد السرغيني- هي التوزيع الأفقي للنص، أي
نثر الكلام بشكل خطي، بدءا من يمين الصفحة إلى أقصى يسارها. والشاعر في جل
دواوينه الشعرية: (ويكون إحراق أسمائه الآتية-الكائن السبأي-من فعل هذا
بجماجمكم-أعلى قمم الاحتيال فاس. تمثيلا لا حصرا) عمل باطراد على نسف
الحدود بين الشعري والنثري، بين الامتلاء والفراغ، بين السواد والبياض.
فلو نظرنا إلى جل قصائده، لألفيناه منحازا للسواد، لا لشيء سوى لكي ينتصر
للنثري والامتلاء، ممارسا علينا -نحن القراء- لعبة الإيهام بنثرية
القصيدة، مما يجعلنا نتوهم أننا أمام نص نثري. هي دعوى صريحة، إذن، لتحطيم
الحدود بين الأجناس الأدبية في أفق نص يتداخل فيه الشعري بالنثري،
والفلسفي بالتاريخي والأسطوري والصوفي. »هذا ما يجعل من مسألة التحديد
الأجناسي هنا تنتفي، حيث النص يبقى منشرحا، ديناميا، ومفتوحا، مقيما في
الشعر، كجنس جامع للأنواع على حد تعبير جنيت. لا يتنازل السرغيني عن
الإيقاع، بل يتمسك به كاختيار شعري تفرضه طبيعة الخطاب«13.
للإيقاع
تشكيل خاص في المتن الشعري السرغيني. فانتقال الشعر الحر من نظام العروض
الخليلي التقليدي، إلى نظام التفعيلة، هو تنكر للنظام الكمي لصالح النظام
النبري، ومن ثمة انفتاح الشعر على الشمولية الإيقاعية التي تتحمل النزعة
النبرية أكثر. هذا يعني أن الإيقاع أوسع من العروض، وأن عناصره تتجاوز
النظام الكمي إلى حركة الذات وإيقاع الجسد، مشيرة إليهما بدوال عديدة
ومتنوعة. ففي ديوان «ويكون إحراق أسمائه الآتية» يتحقق الإيقاع من خلل
توالج مجموعة من العناصر كالسرد، والبعد الدرامي، والبوليفونية، وتواشجها
في وشيجة باذخة ومحكمة. لنصغ جيدا وبتأمل عميق لهذا المقطع الرائع جدا من
قصيدة «كيمياء الفاقة»:
زار البيت الواطي ليلا. هللنا لوفادته. أعفيناه جميعا من رصف حكايته. (ملعون في الناس الفاصد سر الرؤيا عنوة)
أعفيناه منه. استغنى عنا بالرؤيا.
ارتبنا في كيس يحمله وعبرنا رؤياه. (حمولتك الأفلاك) وواصلنا تعميق الخيش بإرهاص الإبرة. (البس ما نخلع ولنلبس ما تخلع!)
فاجأنا ظل الواحة فيها وتسايلنا كل من نهر14.
مما
لا شك فيه، أن هذا النص بأبعاده الدرامية، يتلبس بتصعيد حواري خبيئ، نلمس
ذلك في الجمل الموضوعة بين قوسين، الشيء الذي جعل النص يختص بالصراع
الكتيم، في ارتكازه على تعدد الأفكار والحالات النفسية والمواقف في نظيمة
فكرية تنمو بشكل طبيعي داخل النص. إن صدامية هذا النص، صدامية برزخية،
تأخذ موقعها بلا شك في المابين، أي في التصدع الناتج عن تصارع الأصوات
المتعالية، والآتية من هنا وهناك في صوت واحد، هوصوت الشاعر بصيغة الجمع.
من
الملاحظ، كما تبين، أن الشعريات التماسية، تنماز بالتفتح على إمكانات
هائلة من الاحتمالية، بفعل شعرية الفراغ واللاتحديد بتعبير «إيزر»، وما
على القارئ سوى سد هذه الفراغات ، عبر وجهة نظره الجوالة التي ينبغي أن
تتحرك وفق أجندة خاصة داخل النص (دون أن تدعي أي نزوع وثوقي في إدراكها
للمعنى أو الموضوع) في طريقه إلى الفهم الذي لن يتأتى بغير تجميع البنيات
المفككة في مرحلة التفكيك، والمنتهية لا محالة إلى «الجيشطالت»، أي
التأويل المتسق15.
وهكذا فإن كيمياء هذه المتون الشعرية الجديدة، يجعل
المعنى محكوما بجدلية «الخفاء والتجلي». والأكيد أن هذه الجدلية، لا
يمكنها أن تنشأ سوى داخل «العمل المفتوح» بتعبير أمبرطو إيكو. والانفتاح
هذا لا يتحقق بغير البياضات والفراغات ، الناتجة عن الاستعمال الرمزي
للغة. وهذا طرح يدعو القارئ إلى مشاركة الشاعر في لعبة التخييل، بقصد
إنجاز النص وتحقيقه ، مما يخلق المتعة ويرعاها، لأن الفعل الشعري، على كل
حال، صناعة هرمينوسية بامتياز.
فماذا عن القارئ وعن موقعه في الشعريات التماسية؟
يخصص
ياوس Jauss في كتابه «من أجل جمالية التلقي» أطروحة خاصة لمفهوم «أفق
الانتظار» Horizon d attend، ويعني به »نظام الحالات القابلة للتحديد
الموضوعي الذي ينتج بالنسبة لأي عمل عن ثلاثة عوامل أساسية: خبرة الجمهور
السابقة بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه العمل، ثم شكل وتيمات الأعمال
السابقة التي يفترض معرفتها، وأخيرا التعارض بين اللغة الشعرية واللغة
العملية«16. والعلاقة التي تجمع بين أفق انتظار الجمهور والشعريات
التماسية (العمل الجديد بتعبير ياوس)، تتخلخل لأن الانزياح، كخرق يفاجئ
ويصدم المتلقي، يجعل العمل الجديد يدخل في صراع مع أفق انتظار الجمهور.
والنتيجة إما أن أفق القارئ سيتفاعل مع هذه الانزياحات، فيكون بذلك هذا
العمل الجديد قد ساهم في تغيير أفق انتظار القارئ، وإما قد ينفر جمهور
القراء هذا العمل، فيؤدي ذلك إلى تخييب انتظاراته. إن قيمة العمل الأدبي
تتجلى في مدى خلخلته وزعزعته للمعايير الجمالية التي تنتظم أفق انتظار
القارئ. وعلى ضوء هذا، وبالنظر إلى ما اكتشفناه في متون هؤلاء الشعراء
التخوميين، ألا يمكن اعتبارها متونا شعرية لها خصوصية جمالية باذخة
ونافذة، أسهمت بشكل كبير في خلخلة المعايير الجمالية في تلك الفترة.
لقد أصبحت هذه المتون الشعرية الجديدة تطرح تصورا جديدا للشعر، تبعا
للتمفصلات الواقعة في حركية الشعر المغربي الحديث، ومن ثمة تساؤلات جديدة
حول ظروف المرحلة بفلسفة جديدة. إن نصوص كل من المجاطي، والسرغيني،
والخمار الكنوني، والطبال، وبنطلحة، وبلبداوي، وبنيس، وراجع ونصوص أخرى،
قدمت أجوبة لتساؤلات المرحلة، أجوبة تختلف، طبعا، حسب تصور كل شاعر للأدب،
ومواقفه الفكرية. وأما بخصوص العطب الذي أصاب الحداثة الشعرية في نظر
البعض، فهي مسألة نسبية، حتى إن الأعطاب حتمية تاريخية في أفق التغيير.
هذا هو منطق الحداثة.
ولنا أن نتذكر ما حام من شكوك حول الحداثة
العباسية، والحال إنها لم تكن حالة مرضية، بل ظاهرة شرعية لأنها استجابة
طبيعية للتطور الذي حدث في شتى مناحي الحياة.
والحاصل إن تجربة هؤلاء
الرواد شكلت مرحلة تغيير وتخييب في الوقت نفسه. تغيير لأنها أسهمت في
تطوير ذوق جمهور القراء. وكذا في تغيير أفق انتظاراتهم. وتخييب لأنها شكلت
صدمة كبيرة بالنسبة للأصولية النقدية، وعسس الشعرية التقليدية المتكلسة،
صدمة سوف تؤجل الحوار إلى فترة لاحقة، أي إلى حين نضج الشروط لقيام هذا
الحوار.
أما بعد، عزيزي القارئ...
وأنت تقرأ نصوص التجربة
الشعرية التخومية، فإنه عليك أن تسائلها، ما استطعت، فكريا، وفنيا،
وإنسانيا، لتجد نفسك أمام ممارسة كتابية مائزة ومعتبرة، تروم بويطيقا
اللاشكل واللاحدود ، عبر خرق أنالوجية المعيار وجاهزيته. بعبارة أدق
ستجدها ممارسة تنوجد في أشكال وحدود مؤقتة، سرعان ما تمحو نفسها ، لأن
قاعدتها غير ثابتة، كما ستجدها تعمل كل ما في مكنتها على تقويض مركزية
اللوغوس (السرغيني مثلا) وميتافيزيقا الأنساق، مخترقة كل الحدود، نحو
سراديب الذات المبهمة، وتفاصيل هذا الوجود، عبر الذهاب باللغة إلى الدرجة
الصفر ، التي سرعان ما تنطلق نحو أقصى الفيوضات الإشراقية والسيولات
الحياتية في آن. إنها فلسفة الشعريات التماسية التي لا تحيد عن نسبيتها البتة.
هوامش
1-
نورثروب فراي: عن «قضايا أدبية عامة»- تأليف إيمانويل فريس وبرنار موراليس
-ترجمة د. لطيف زيتوني-عالم المعرفة- 300- فبراير 2004- ص: 75.
2- محمد علوط: محو الجسور الفاصلة بين البؤر التعبيرية -للاتحاد الاشتراكي -فكر وإبداع 3-4- مارس 2007 ع-8496.
3- صلاح بوسريف: «الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر» دار الحرف للنشر والتوزيع- ط (1) - يناير 2007- ص: 28.
4- خليل أبو جهجة: «الحداثة الشعرية العربية» -دار الفكر اللبناني- ط 1- 1995- ص: 119.
5- نفسه، ص: 119.
6- محمد الخمار الكنوني: رماد هسبريس -دار توبقال للنشر- ط 1- 1987- ص: 66-67.
7- جان كوهن: بنية اللغة الشعرية -ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري- دار توبقال للنشر- ط 1- 1986- ص: 163.
8- أوكتافيو باث: عن «في الحاجة إلى إبداع فلسفي» -عز الدين الخطابي وإدريس كثير-منشورات الزمن- 2006- ص: 17.
9- صلاح بوسريف: مرجع مذكور -ص: 64.
10- سعيد بنكراد: الخلق والحلم ومقامات الصوفي -الاتحاد الاشتراكي- فكر وإبداع- 8 فبراير 2008 -ع 8789.
11- صلاح بوسريف: مرجع مذكور -ص: 17.
12- أحمد المجاطي: الفروسية -شركة النشر والتوزيع المدارس -ط 2- 2001- ص: 65-66.
13- صلاح بوسريف: مرجع مذكور- ص: 159.
14- محمد السرغيني: ويكون إحراق أسمائه الآتية -منشورات عيون- ط 2- 2001- ص: 9.
15- إيزر: فعل القراءة -ترجمة الحميداني والكدية- منشورات المناهل- ص: 70.
16-H.R. Jauss: pour une Esthétique de la réception, ed- Gallimard. P: 49.
د. محمد الديهاجي
العلم الثقافي
19/3/2010-
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» «ظاهرة الشعر الحديث» للشاعر أحمد المجاطي
» الشعر بوابة الحياة محمد الخمار الكنوني.. في رماد هِسبريس
» حول حجب جائزة الشعر بالمغرب !
» مشروعية الاختلاف/د. حســن الغُرفــي
» احمد المجاطي
» الشعر بوابة الحياة محمد الخمار الكنوني.. في رماد هِسبريس
» حول حجب جائزة الشعر بالمغرب !
» مشروعية الاختلاف/د. حســن الغُرفــي
» احمد المجاطي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى