من طرف said السبت 9 فبراير 2008 - 21:21
ظلال يابانية
سعد سرحان
إذا كان العالم قد نشأ إثر الانفجار الأكبر كما يزعم العلماء، فإنّ اليابان الحديث، وهو عالم أيضاً، قد نشأ، كما يعلم الجميع، إثر انفجار أبشع كابوس في ليل البشرية. ليس درس التاريخ ذاك ما يجعل هذا البلد لا يتبادر إلى الذهن إلا أشلاءً، بل هي الجغرافيا أيضاً.... تلك التي نثرته في عرض المحيط سبائك عملاقة لا تني إشعاعاتها، منذ ذلك الصيف الجهنمي، تنتشر في أرجاء الأرض. لكأن الفينيق الياباني انبعث من رماده الذريِّ أكثر حياةً : الجناحان من أحلام والريش من ضوء. لن يتعرف على اليابان حقا من كان دليله كسيحًا من تلك الهيروشيما ولا من كان دليله فائق السرعة كذلك القطار القذيفة. فلا الحرب ولا التكنولوجيا تصلحان مرآة لهذا البلد أو تلك الحضارة، وإنما الثقافة بمفهومها الواسع ما قد يفي بالغرض. لذلك، فإن الاسترشاد بالأدب وفن العمارة والطبخ والبستنة والحكايات الشعبية.... سيقود حتما إلى تلك الظلال العميقة التي انتبذتها الحياة اليابانية خلال القرون الماضية. في مجال الأدب، قد لا نجد دليلا أكثر فصاحة من الهايكو . فإذا كان اليابان أرخبيلاً من آلاف الجزر الصغيرة، حتى لكأنه بعض ظلال اليابسة في المحيط، فإن الهايكو، وهو أرخبيل شعرٍ، يبدو كظلال غائرة تطفو فوق بحر الكلام . الطبيعة هي لُحمة الهايكو وسَداته هي تلك اللغة المحايدة التي لا يعرف الياباني غيرها ولا يعرفها غيره. فحضارة تحتفي بالظلال ،بما هي طمس للنعوت والعلامات الفارقة، تجعل الشاعر يلتقط الجوهري بهدوء وحياد نادرين، ثم يشتغل عليه اشتغال الصائغ على حجر كريم، فلا يفرغ منه إلا وهو في أبهى صورة. وكما أن الصائغ، تواضعًا منه، لا يترك بصمة على مصوغاته، فإن شاعر الهايكو يعمل ما وسعه ذلك على أن يكون لا أحد. ولعلَّ هذا ما يجعل قصيدة الهايكو تبدو كما لو أنها كتبت بآلة تصوير تتنفس. المسرح الياباني، أيضًا، تتخلله ظلال كثيرة : فالرقص ظل الغناء، والإيماء ظل الكلام، والحركة ظل الحياة.... وفي مسرح " نو" دائما يجسد الممثل الرئيسي روح ميت وهو بذلك يمثل شبحًا، طيفاً، ظلاًّ لضوء آفل.... ما من أحد، عدا الياباني، استطاع أن يحوِّل جسده إلى مجرد ظل. ولنا في رياضة اليوغا أبرز شاهد. فعلى عكس كل الرياضات التي تخاطب الجسد بلغة الحركة، فإن اليوغا تعتمد السكون لسانا لمخاطبة الذهن والروح. ففي اليوغا يتحول الجسد إلى ملعب ظليل تمارس فيه الروح رياضتها التي لا تحتاج من متاع الدنيا سوى الهواء. لكأن الهواء خيط والتنفس إبرة: ففي جلسة القرفصاء تلك، يخيط الياباني روحه إلى شقيقاتها. فلسفات وديانات عديدة تعاقبت على ذلك الشرق القديم، ولأن اليابان في القلب منه، طالته الكثير من التعاليم. لعل بعضها كان حاسمًا في تحديد نظرة الياباني إلى الحياة والعالم من حوله، وكذا للدور الذي أناط به نفسه. فالعمل، مثلاً، بالنسبة للياباني ليس وسيلة عيش فقط، وإنما هو صلاة من نوع خاص جدًّا، والتفاني فيه خشوع محض قد يصل إلى حد إلغاء الذات لصالح الموضوع، وذلك بإلغاء الجسد لصالح العمل كنوع من الحلول: حلول الروح في العمل. " لا تفعل شيئا": توصي الطاوية. فينفذ الياباني الوصية كأعمق ما يكون التنفيذ. فهو يفعل كل شيء من الهايكو إلى " شبه الموصلات" مقيدًا بصرامة الشروط التي لم تفصح عنها الكلمات. فالاختصار والحذف والاقتصاد... هي ظلال الوصية تلك، وإليها يفيء أثناء العمل فيأتي عمله غاية في الإتقان... وكأنه أنجز من تلقاء نفسه: هكذا يفعل الياباني كل شيء وكأنه لم يفعل شيئا. وإذا كانت الحضارة الغربية قد أطلقت ساقيها - الحركةَ والضوءَ - لرياح التقدم، فإن اليابان، رغم انفتاحه عليها، ظل محافظا على الكثير من ثوابته القديمة. فالظلال والعدم والسكون والفراغ... إنما هي عناصر جمالية وظفها الياباني على مر القرون في الكثير من مناحي الحياة. ولعل لبعضها حضورًا ملحوظًا حتى في آخر إبداعاته التكنولوجية. من باب التكنولوجيا دخل اليابان معظم بيوت العالم. وإذا كان قد نجح في ذلك بشكل غير مسبوق، فليس فقط لأنه كان مخفورًا بالظلال، وإنما أيضا لجعله كل ثمار عمله وعلمه ذات حجم يناسب الجميع. فهولا يطرحها إلى السوق إلا بعد أن يوسعها حذفًا واختزالاً، حتى لكأنها قصائد هايكو. أما كيف تسنّى له ذلك، فلعل السر يكمن في شبه الموصلات التي ينتج منها ما يقارب نصف إنتاج العالم. وشبه الموصلات هذه هي أجسام صلبة من صنف الجرمانيوم والسيلسيوم تتزايد مُوصِلِيُّتُها بازدياد درجة الحرارة. ولأن موصليتها ضعيفة أصلاً فإن عملية تنشيطها تتم بإضافة كمية صغيرة من ذرات دخيلة إلى البلّور الخالص. فمن منظور علمي تلعب شبه الموصلات دورًا رئيسًا في تقليص حجم الأجهزة الالكترونية، معززة بذلك انسجام الياباني مع نفسه، مع محيطه، ومع ما يبدع ويخترع. أما إذا نظرنا إليها نظرة أعمق، فإنها تبدو كظلال تتخلل هذه الأجهزة مثلما تتخلل الظلال الساطعة كل شيء في حياة الياباني. وللمزيد من الظلال نقترح على القارئ الكريم كتاب مديح الظل لجونيشيرو تانيزاكي، وهو كتاب ذو حجم صغير، لعله الحجم الذي كان سيكون ل كتاب الحيوان لو أن الجاحظ كان يابانيا. 2008/8/2
|
|
|
|
|
الإتحاد الإشتراكي |