رحيل الفنان التشكيلي ميلود لبيض
صفحة 1 من اصل 1
رحيل الفنان التشكيلي ميلود لبيض
رحيل الفنان التشكيلي ميلود لبيض: خسارة أخرى تصيب الجسد الإبداعي المغربي..
انتقل إلى عفو الله فجر الخميس 09 تشرين الأول (أكتوبر) 2008 بالرباط
المرحوم الفنان التشكيلي المغربي ميلود لبيض بعد صراع شديد مع داء السرطان
ألزمه المكوث طويلا لتلقي العلاج. ومنذ تعرضه لهذا الداء تقلّص النشاط
الإبداعي عند الفنان لبيض بشكل ملفت للنظر وكان آخر معرض تشكيلي فردي
أقامه يعود إلى الفترة الممتدة بين 05 و23 نيسان (أبريل) 2007، وذلك برواق
Venise Cadre بمدينة الدار البيضاء.
ازداد الفنان ميلود لبيض- ابن
الرسامة الفطرية الراحلة راضية بنت الحسين- عام 1939 بدوار أولاد يوسف
ناحية قلعة السراغنة وأقام أول معرض تشكيلي له عام 1958 بمتحف الأوداية
بالرباط. عقب ذلك بسنوات، ستصقل الموهبة الفنية لدى هذا الفنان العصامي لا
سيما بعد استفادته من الورشات الديداكتيكية والدروس التكوينية التي كان
يتلقاها بمرسم الفنانة جاكلين برودسكيس- J. Brodskis إلى جانب فنانين
مغاربة آخرين من ضمنهم الراحل محمد القاسمي وبوشعيب هبولي.
برزت
البداية الصباغية عند الفنان لبيض تشخيصية حيث كان ينفذ مجموعة من
التصاوير والمشاهد الواقعية المستوحاة من البيئة المحلية ومن العالم
المرئي، قبل أن ينخرط وبقوة منذ مطلع السبعينات في التعبير التجريدي
بنوعيه الهندسي والغنائي- Lyrique..إلى جانب بعض مساهماته الفنية في النحت
والتصوير الضوئي (الفوتوغرافيا)..فضلا عن فنون الطباعة، إذ استطاع قبل
سنوات إنشاء مؤسسة (تحمل اسمه) مختصة في الرشمات- Estampes والنسخ والحفر
الفني والليثوغرافيا وذلك بإحدى المناطق القروية الواقعة بين مراكش
وأمزميز أمست تمثل قبلة لفنانين مغاربة وأجانب مختصين في فنون الغرافيك.
مساره
الجمالي غني ومليء بالكثير من المعارض التشكيلية على المستوى الوطني
والدولي، أبرزها أقيم بفرنسا وإسبانيا والبرتغال ومصر والعراق والدنمارك
وبلجيكا..
نظام الأشكال المدورة:
في مسار الفنان الراحل
لبيض، نلحظ بأن الأبحاث الصباغية التجريدية التي قام بها اتسمت لديه
بالتعدد والتنوّع: غنائية، تركيبية، هندسية..لكنها رغم ذلك ظلت تقوم على
نوع من التوحد على إيقاع نظام الأشكال المدورة والتوريقات وانفلات الخطوط
داخل الظلال التي تولدها الألوان الداكنة المستعملة..
هي بلا شك
عنوان لمرحلة صباغية متنوعة بدأت برسم التكوينات الهندسية الزرقاء، أو
الدوائر الزرقاء المكررة المستعارة من عوالم نباتية والتي تبدو في لوحاته
'أشبه بورود متفتحة في حقل كبير، لكنها في لاوعي الرسام شيء آخر. لقد كانت
ميزة ميلود، في هذه المرحلة، هي تعامله مع جميع مواد الصباغة حيث تأتي
اللوحة وهي محملة بخليط من الطباشير والمائي والزيتي، أما الأشكال فهي
عبارة عن دوائر صغيرة داخل دوائر كبيرة، أو منفصلة عنها، تكاد تنفجر من
شدة حرارتها الداخلية، بل أشبه بفقاعات هوائية، تنضاف إليها ألوان قوية،
شاعرية وغنائية، تسلب عين المشاهد، على أن هذه المرحلة الدائرية، كما
أسميها، ستتنوع من معرض إلى آخر وضمن الموضوع الواحد، حيث تتجزأ عناصر
اللوحة وتتناغم تناغما جماليا وإن اتسمت ضربة الفرشاة بالفوضى للانفلات من
النمطية الجامدة، إن هذا التجريد الشاعري الذي انتهى إليه ميلود، بعد
المرحلة الفطرية/المدرسية سيمكنه من الاستمرار في تحديد أسلوبه إلى أن
يعبأ منه !'، كما قال الكاتب ادريس الخوري.
تتفاعل الدوائر إذن، في
لوحات الفنان ميلود لبيض وتتألسن مشكلة بذلك خطابا تشكيليا تجريديا يستمد
مسوغاته الجمالية ومدركاته البصرية من الأجساد الآدمية، غير أن هذه
الدوائر، بصرف النظر عن الأحجام والأشكال التي استقرت عليها، يظل الهدف
منها عند الفنان هو مقاربة واستعمال عناصر ومفردات تعبيرية مستمدة من
محيطنا ومن تربتنا البيئية والثقافية..هذه المقاربة سمتها الإبداعية
الأساسية التركيز على اللون بإيحاءاته ودواله الأيقونية وعلاقته بالأثر
الذي يساهم بدوره في خلق العديد من الثراءات المرئية فوق السند..
في
لوحات الفنان لبيض أيضا تتكتل الألوان في نسق جمالي وتضاد طيفي متعاشق
يعبّر في الأساس عن حس فني بالغ العذوبة والشفافية اللونية..هكذا يمكن وصف
تجربة هذا الفنان الطلائعي الذي لازمه الصمت إنسانا وفنانا إلى أن
رحل..تجربة صباغية موشاة بأنفاس غرافيكية إقلالية وإيجازية، لذلك هي
مملوءة بفوضى العلامات والتباس الآثار اللونية المتراكبة داخل ترصيفات
ومقطعات مساحية تجريدية، مفككة ومتشظية، تمزقها (أو تأسرها في حالات
مخالفة) خطوط الإحاطة وإطارات البناء والتكوين.
هي سلسلة قماشات مطبوعة
بتجاورات اصطفافية يبرز في عمقها البعد التجريدي الذي يخدم النهج البصري
للمعالجة الصباغية فوق السند، ومحصلة ذلك أن الفنان لم يكن يعتمد على
صدفوية النتائج، قدر ما كان يركز على تخصيب سطوح اللوحة أو أوجهها وعلى
استغلال العلاقات البصرية المتبادلة بين اللون والأثر..
عقب هذه
التجربة، سيدخل الفنان في تجريب ممارسة تشكيلية جديدة أكثر جرأة تتميز
بإنتاج اللوحة المجسمة ذات المفردات الناتئة والبارزة-En relief المستمدة
من الجسم البشري الذكوري منه والأنثوي. هذا التطور، أو بالأحرى التحوّل
الصباغي برّره الفنان بنفسه: اأنا لا أقدم لوحات نسجتها الفرشاة والألوان،
بل اعتمد هنا على اللوحة/النتوء. من خلال التضاريس والتجويفات يتنامى
ويتناغم فضاء اللوحة. مصدر الاستيحاء في مجموع هذه الأعمال هو الجسم
البشري، جسم المرأة وجسم الرجل على السواء، استحدثت نواة كل لوحة من
تقاطيع وخطوط واستدارات ومنعرجات الجسد، لكنني لم أفضل ذلك بدافع من
المحاكاة، وإنما لأعطي لأعمالي إطارا موحدا يستجيب للموضوع الأساسي الذي
يشغلني منذ سنوات وأعني موضوع الجنس، إنه غريزة منغرسة في عروقنا
وأوردتنا، ومع ذلك، فإن الكثيرين يراوغون ويتظاهرون باحتقارها ويتجنبون
طرح الموضوع مباشرةب..
لوحات رصاصية لا لون لها..
سبق
للفنان ميلود الأبيض أن انخرط أيضا في تجربة صباغية مغايرة كثر فيها
السواد والبياض السادر والألوان الرمادية الداكنة: لوحات رصاصية لا لون
لها إلا لونها، غلفتها خيوط بيضاء ضاربة في كل الاتجاهات مخترقة الأشكال
المعمارية الصافية التي يوظفها. لذلك ظلت لوحاته الشاهدة على هذه المرحلة
موسومة بنارين، كما لاحظ ذلك الفنان محمد شبعة: 'نار الصرامة الهندسية
ونار الصرامة اللونية، حيث الداكن والفولاذي والرصاصي والأسود. لقد وضع
ميلود يده على نظام هندسي صعب وخطير المنزلق في نفس الوقت، ومن هنا نحس
بقلقه، فليست التقنية الجديدة فقط هي مصدر شواغله وجهده من أجل التحكم
فيها، بل إنني أرى أنه قد شعر بحسه الخاص والمثير للإعجاب، إن هذا النظام
الهندسي الذي يخوض فيه قد زج به في مغامرة عليه أن يواجهها بالحذر والجرأة
معا '..
وعن إحدى التجارب الأخرى لهذا الرسام المتعدد، قال الراحل محمد
القاسمي: اأحيانا يخيل للمتلقي أن ميلود يجري، يلهث خلف حركة الفرشاة
والخط المرسوم مباشرة بالعلبة الملونة، في محاولة للسيطرة دفعة واحدة على
الأحجام المتولدة، حتى عندما يستعمل بعض المواد الأخرى للوصول إلى حبكة-
Texture خاصة، مثل الطباشير المشحم والغواش مضافة إلى الألوان الزيتية،
وذلك لإحداث ذبذبات وجو بصري متحرك مع إدخال لمسات لونية صغيرة كجمل
موسيقية صغيرة تتخلل الحركة المتدفقة المنجزة بفرشاة عريضة في غالب
الأحيان، الشيء الذي يقودنا لقراءة (الجزء) الذي يحول التكوين في عموميته
إلى بناءٍ مُطَعَّم بمثلثات، بعلامات وإشارات أخرى مستمدة من صميم الفن
البربري بالمغرب ورموز(نجمية) ذات معنى كوني..
ففي الغالب، تتكثف
الحركة عند ميلود وسط اللوحة، مع تقتيم محيط هذا التكثيف/ الشكل، لإبراز
التكوين العام وتركيزه، ومرات أخرى يترك المساحات المحيطة بيضاء ليتمكن من
استعمال كتلة لونية تميل نحو القتامة، وإعطائها المجال لتبرز إلى الواجهة
الأمامية: عنصر التضاد، الإضاءة الآتية من الخلف'..
وتعود آخر مرة
التقيت فيها بالراحل ميلود لبيض إلى أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2005
بمناسبة المعرض التشكيلي الذي أقامه الفنان فريد بلكاهية برواق باب الرواح
بالرباط، صادفته بمدخل الرواق متعبا يكاد لا يقدر على المشي مستعينا في
الخطو على عكاز معدني يتكئ عليه ببنيته القصيرة والممتلئة وقبعته المعهودة
لا تفارق رأسه.
وقد شاء القدر أن يصاب الفنان الراحل لبيض بوباء
السرطان لم ينفع معه علاج رغم جهود الأطباء الذين أشرفوا على علاجه ليتوقف
قلب مبدع كبير بنى مساره الصباغي بأناة وصبر طويل تاركا وراءه سجلا جماليا
واسعا وحافلا بالكثير من الإبداع. ولا شك أن هذا الغياب المحزن يعد خسارة
أخرى فادحة تصيب الجسد الإبداعي المغربي (والعربي أيضا) بعد رحيل العديد
من الفنانين المرموقين أمثال: أحمد الشرقاوي، جيلالي الغرباوي، عزيز أبو
علي، شعيبية طلال، أمين الدمناتي، بوجمعة لخضر، محمد القاسمي، عمر
أفوس..وغيرهم كثير.
آه كم هو قاس هذا الموت الذي فرّق بيننا..
هذه النهاية الحتمية وهذا الخلود الأبدي..
عفوا أيها الفقيد المحبوب
رحلت عنا وأوغلت في الرحيل
لكنك، بالتأكيد، ستبقى حاضرا معنا في الوجدان الجمالي المشترك
وسنظل نتذكرك في الإبداع والحياة..
ابراهيم الحيسن
ناقد تشكيلي من المغرب
القدس العربي
Sun Oct 19 2008
انتقل إلى عفو الله فجر الخميس 09 تشرين الأول (أكتوبر) 2008 بالرباط
المرحوم الفنان التشكيلي المغربي ميلود لبيض بعد صراع شديد مع داء السرطان
ألزمه المكوث طويلا لتلقي العلاج. ومنذ تعرضه لهذا الداء تقلّص النشاط
الإبداعي عند الفنان لبيض بشكل ملفت للنظر وكان آخر معرض تشكيلي فردي
أقامه يعود إلى الفترة الممتدة بين 05 و23 نيسان (أبريل) 2007، وذلك برواق
Venise Cadre بمدينة الدار البيضاء.
ازداد الفنان ميلود لبيض- ابن
الرسامة الفطرية الراحلة راضية بنت الحسين- عام 1939 بدوار أولاد يوسف
ناحية قلعة السراغنة وأقام أول معرض تشكيلي له عام 1958 بمتحف الأوداية
بالرباط. عقب ذلك بسنوات، ستصقل الموهبة الفنية لدى هذا الفنان العصامي لا
سيما بعد استفادته من الورشات الديداكتيكية والدروس التكوينية التي كان
يتلقاها بمرسم الفنانة جاكلين برودسكيس- J. Brodskis إلى جانب فنانين
مغاربة آخرين من ضمنهم الراحل محمد القاسمي وبوشعيب هبولي.
برزت
البداية الصباغية عند الفنان لبيض تشخيصية حيث كان ينفذ مجموعة من
التصاوير والمشاهد الواقعية المستوحاة من البيئة المحلية ومن العالم
المرئي، قبل أن ينخرط وبقوة منذ مطلع السبعينات في التعبير التجريدي
بنوعيه الهندسي والغنائي- Lyrique..إلى جانب بعض مساهماته الفنية في النحت
والتصوير الضوئي (الفوتوغرافيا)..فضلا عن فنون الطباعة، إذ استطاع قبل
سنوات إنشاء مؤسسة (تحمل اسمه) مختصة في الرشمات- Estampes والنسخ والحفر
الفني والليثوغرافيا وذلك بإحدى المناطق القروية الواقعة بين مراكش
وأمزميز أمست تمثل قبلة لفنانين مغاربة وأجانب مختصين في فنون الغرافيك.
مساره
الجمالي غني ومليء بالكثير من المعارض التشكيلية على المستوى الوطني
والدولي، أبرزها أقيم بفرنسا وإسبانيا والبرتغال ومصر والعراق والدنمارك
وبلجيكا..
نظام الأشكال المدورة:
في مسار الفنان الراحل
لبيض، نلحظ بأن الأبحاث الصباغية التجريدية التي قام بها اتسمت لديه
بالتعدد والتنوّع: غنائية، تركيبية، هندسية..لكنها رغم ذلك ظلت تقوم على
نوع من التوحد على إيقاع نظام الأشكال المدورة والتوريقات وانفلات الخطوط
داخل الظلال التي تولدها الألوان الداكنة المستعملة..
هي بلا شك
عنوان لمرحلة صباغية متنوعة بدأت برسم التكوينات الهندسية الزرقاء، أو
الدوائر الزرقاء المكررة المستعارة من عوالم نباتية والتي تبدو في لوحاته
'أشبه بورود متفتحة في حقل كبير، لكنها في لاوعي الرسام شيء آخر. لقد كانت
ميزة ميلود، في هذه المرحلة، هي تعامله مع جميع مواد الصباغة حيث تأتي
اللوحة وهي محملة بخليط من الطباشير والمائي والزيتي، أما الأشكال فهي
عبارة عن دوائر صغيرة داخل دوائر كبيرة، أو منفصلة عنها، تكاد تنفجر من
شدة حرارتها الداخلية، بل أشبه بفقاعات هوائية، تنضاف إليها ألوان قوية،
شاعرية وغنائية، تسلب عين المشاهد، على أن هذه المرحلة الدائرية، كما
أسميها، ستتنوع من معرض إلى آخر وضمن الموضوع الواحد، حيث تتجزأ عناصر
اللوحة وتتناغم تناغما جماليا وإن اتسمت ضربة الفرشاة بالفوضى للانفلات من
النمطية الجامدة، إن هذا التجريد الشاعري الذي انتهى إليه ميلود، بعد
المرحلة الفطرية/المدرسية سيمكنه من الاستمرار في تحديد أسلوبه إلى أن
يعبأ منه !'، كما قال الكاتب ادريس الخوري.
تتفاعل الدوائر إذن، في
لوحات الفنان ميلود لبيض وتتألسن مشكلة بذلك خطابا تشكيليا تجريديا يستمد
مسوغاته الجمالية ومدركاته البصرية من الأجساد الآدمية، غير أن هذه
الدوائر، بصرف النظر عن الأحجام والأشكال التي استقرت عليها، يظل الهدف
منها عند الفنان هو مقاربة واستعمال عناصر ومفردات تعبيرية مستمدة من
محيطنا ومن تربتنا البيئية والثقافية..هذه المقاربة سمتها الإبداعية
الأساسية التركيز على اللون بإيحاءاته ودواله الأيقونية وعلاقته بالأثر
الذي يساهم بدوره في خلق العديد من الثراءات المرئية فوق السند..
في
لوحات الفنان لبيض أيضا تتكتل الألوان في نسق جمالي وتضاد طيفي متعاشق
يعبّر في الأساس عن حس فني بالغ العذوبة والشفافية اللونية..هكذا يمكن وصف
تجربة هذا الفنان الطلائعي الذي لازمه الصمت إنسانا وفنانا إلى أن
رحل..تجربة صباغية موشاة بأنفاس غرافيكية إقلالية وإيجازية، لذلك هي
مملوءة بفوضى العلامات والتباس الآثار اللونية المتراكبة داخل ترصيفات
ومقطعات مساحية تجريدية، مفككة ومتشظية، تمزقها (أو تأسرها في حالات
مخالفة) خطوط الإحاطة وإطارات البناء والتكوين.
هي سلسلة قماشات مطبوعة
بتجاورات اصطفافية يبرز في عمقها البعد التجريدي الذي يخدم النهج البصري
للمعالجة الصباغية فوق السند، ومحصلة ذلك أن الفنان لم يكن يعتمد على
صدفوية النتائج، قدر ما كان يركز على تخصيب سطوح اللوحة أو أوجهها وعلى
استغلال العلاقات البصرية المتبادلة بين اللون والأثر..
عقب هذه
التجربة، سيدخل الفنان في تجريب ممارسة تشكيلية جديدة أكثر جرأة تتميز
بإنتاج اللوحة المجسمة ذات المفردات الناتئة والبارزة-En relief المستمدة
من الجسم البشري الذكوري منه والأنثوي. هذا التطور، أو بالأحرى التحوّل
الصباغي برّره الفنان بنفسه: اأنا لا أقدم لوحات نسجتها الفرشاة والألوان،
بل اعتمد هنا على اللوحة/النتوء. من خلال التضاريس والتجويفات يتنامى
ويتناغم فضاء اللوحة. مصدر الاستيحاء في مجموع هذه الأعمال هو الجسم
البشري، جسم المرأة وجسم الرجل على السواء، استحدثت نواة كل لوحة من
تقاطيع وخطوط واستدارات ومنعرجات الجسد، لكنني لم أفضل ذلك بدافع من
المحاكاة، وإنما لأعطي لأعمالي إطارا موحدا يستجيب للموضوع الأساسي الذي
يشغلني منذ سنوات وأعني موضوع الجنس، إنه غريزة منغرسة في عروقنا
وأوردتنا، ومع ذلك، فإن الكثيرين يراوغون ويتظاهرون باحتقارها ويتجنبون
طرح الموضوع مباشرةب..
لوحات رصاصية لا لون لها..
سبق
للفنان ميلود الأبيض أن انخرط أيضا في تجربة صباغية مغايرة كثر فيها
السواد والبياض السادر والألوان الرمادية الداكنة: لوحات رصاصية لا لون
لها إلا لونها، غلفتها خيوط بيضاء ضاربة في كل الاتجاهات مخترقة الأشكال
المعمارية الصافية التي يوظفها. لذلك ظلت لوحاته الشاهدة على هذه المرحلة
موسومة بنارين، كما لاحظ ذلك الفنان محمد شبعة: 'نار الصرامة الهندسية
ونار الصرامة اللونية، حيث الداكن والفولاذي والرصاصي والأسود. لقد وضع
ميلود يده على نظام هندسي صعب وخطير المنزلق في نفس الوقت، ومن هنا نحس
بقلقه، فليست التقنية الجديدة فقط هي مصدر شواغله وجهده من أجل التحكم
فيها، بل إنني أرى أنه قد شعر بحسه الخاص والمثير للإعجاب، إن هذا النظام
الهندسي الذي يخوض فيه قد زج به في مغامرة عليه أن يواجهها بالحذر والجرأة
معا '..
وعن إحدى التجارب الأخرى لهذا الرسام المتعدد، قال الراحل محمد
القاسمي: اأحيانا يخيل للمتلقي أن ميلود يجري، يلهث خلف حركة الفرشاة
والخط المرسوم مباشرة بالعلبة الملونة، في محاولة للسيطرة دفعة واحدة على
الأحجام المتولدة، حتى عندما يستعمل بعض المواد الأخرى للوصول إلى حبكة-
Texture خاصة، مثل الطباشير المشحم والغواش مضافة إلى الألوان الزيتية،
وذلك لإحداث ذبذبات وجو بصري متحرك مع إدخال لمسات لونية صغيرة كجمل
موسيقية صغيرة تتخلل الحركة المتدفقة المنجزة بفرشاة عريضة في غالب
الأحيان، الشيء الذي يقودنا لقراءة (الجزء) الذي يحول التكوين في عموميته
إلى بناءٍ مُطَعَّم بمثلثات، بعلامات وإشارات أخرى مستمدة من صميم الفن
البربري بالمغرب ورموز(نجمية) ذات معنى كوني..
ففي الغالب، تتكثف
الحركة عند ميلود وسط اللوحة، مع تقتيم محيط هذا التكثيف/ الشكل، لإبراز
التكوين العام وتركيزه، ومرات أخرى يترك المساحات المحيطة بيضاء ليتمكن من
استعمال كتلة لونية تميل نحو القتامة، وإعطائها المجال لتبرز إلى الواجهة
الأمامية: عنصر التضاد، الإضاءة الآتية من الخلف'..
وتعود آخر مرة
التقيت فيها بالراحل ميلود لبيض إلى أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2005
بمناسبة المعرض التشكيلي الذي أقامه الفنان فريد بلكاهية برواق باب الرواح
بالرباط، صادفته بمدخل الرواق متعبا يكاد لا يقدر على المشي مستعينا في
الخطو على عكاز معدني يتكئ عليه ببنيته القصيرة والممتلئة وقبعته المعهودة
لا تفارق رأسه.
وقد شاء القدر أن يصاب الفنان الراحل لبيض بوباء
السرطان لم ينفع معه علاج رغم جهود الأطباء الذين أشرفوا على علاجه ليتوقف
قلب مبدع كبير بنى مساره الصباغي بأناة وصبر طويل تاركا وراءه سجلا جماليا
واسعا وحافلا بالكثير من الإبداع. ولا شك أن هذا الغياب المحزن يعد خسارة
أخرى فادحة تصيب الجسد الإبداعي المغربي (والعربي أيضا) بعد رحيل العديد
من الفنانين المرموقين أمثال: أحمد الشرقاوي، جيلالي الغرباوي، عزيز أبو
علي، شعيبية طلال، أمين الدمناتي، بوجمعة لخضر، محمد القاسمي، عمر
أفوس..وغيرهم كثير.
آه كم هو قاس هذا الموت الذي فرّق بيننا..
هذه النهاية الحتمية وهذا الخلود الأبدي..
عفوا أيها الفقيد المحبوب
رحلت عنا وأوغلت في الرحيل
لكنك، بالتأكيد، ستبقى حاضرا معنا في الوجدان الجمالي المشترك
وسنظل نتذكرك في الإبداع والحياة..
ابراهيم الحيسن
ناقد تشكيلي من المغرب
القدس العربي
Sun Oct 19 2008
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» رحيل الفنان صلاح الشرقي
» رحيل الفنان المسرحي والإعلامي إدريس التادلي
» ملف : المرحوم الشيخ الحاج محمد العروسي
» لوحات للفنان التشكيلي محمد مغلف
» رحيل إدريس التادلي
» رحيل الفنان المسرحي والإعلامي إدريس التادلي
» ملف : المرحوم الشيخ الحاج محمد العروسي
» لوحات للفنان التشكيلي محمد مغلف
» رحيل إدريس التادلي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى