رواية يوسف زيدان «عزازيل»
صفحة 1 من اصل 1
رواية يوسف زيدان «عزازيل»
«عزازيل» الجماعات
يتجاوب الزمان الداخلي الذي تتحرك في مداره المغلق رواية يوسف زيدان
«عزازيل» مع زمان خارجي، قلق، مضطرب، مملوء بالعنف وذلك على نحو يغدو معه
الزمانان زمناً واحداً يناوشه القمع من كل جوانبه التي تبدأ وتنتهي
بالتعصب الديني الذي يغدو إرهاباً، ويجعل من الرواية نفسها مداراً مغلقاً
من الصراع المتصل، سواء في داخل البطل هيبا الذي يصارع شيطانه الذي يصارعه
بدوره، أو في الخارج الذي تنطلق فيه شياطين التعصب كالبراكين المتفجرة بكل
ما يقضي على إمكانات الحياة الآمنة لكل من يراهم زبانية التعصب مختلفين أو
مخالفين، مقيمين اتحاداً تخييلياً بينهم وشياطين الكفر الذين لا بد من
استئصالهم، وقطع جذورهم، فلا حياة مسموحاً بها إلا للأشباه الذين يدخلون
حظيرة الاتِّباع والطاعة المذعنة للذين يمتلكون، وحدهم، الحقيقة، ويحتكرون
معرفة تعاليم الحق المطلق وتأويله.
ومن هذا المنظور، تبدو الرواية
نوعاً من المجاز الموسّع، أو تصويراً رمزياً لزمن خاص، تتحول دلالة تعينه
إلى زمن عام، وذلك على نحو لا تغدو فيه تفاصيل التعين هي المقصد المباشر،
وإنما ما يسميه عبد القاهر الجرجاني «المعنى الأول» المراد منه الدلالة
على «المعنى الثاني» وهو الدلالة المقصودة من المجاز، حيث لا يُراد ظاهر
المعنى، بل دلالته التي ينقلب بها الخاص إلى عام، والزمن المتعين إلى زمن
محتمل، يمكن أن يقع حين تتوافر شروط موازية، كي يتحقق معنى المماثلة أو
المشابهة التي هي أصل المجاز الذي ينطوي على الاستعارة والكارثة الإنسانية
المقصودة، في تفاعل سياقات «عزازيل» وتجاوبها، هي التعصب الذي ينقلب إلى
إرهاب، حين يغدو عنفاً لا يعرف التسامح أو يقبله، حتى في دائرة العقيدة
الواحدة وما رأته عينا الراهب هيبا في زمنه المتعين الذي تحدده الرواية،
في معالجتها المجازية لموضوع القمع الديني، هو صورة متكررة، تغدو رمزاً
لكل قمع يحدث باسم الدين أو السياسة أو حتى تقاليد الطائفة أو القبيلة،
وذلك حين يغدو العنف سبيلاً لاستئصال المختلف دينياً، أو طائفياً، أو
اجتماعياً، أو عرقياً.
وقد شهدت عينا الراهب هيبا هذا العنف
الاستئصالي، من دون أن يستطيع له صداً، ثلاث مرات على الأقل الأولى هي قتل
أبيه على أيدي مجموعة متعصبة دينية، بحجة أنه ظل على وثنيته، وكانت أمه
طرفاً متآمراً في هذا الاغتيال الذي ظلت دلالته تترجع في وعي هيبا، مؤكدة
إمكان أن تبيع الزوجة زوجها، وتغدر به نتيجة تعصب ينقلب إلى عنف إرهابي.
أما
المرة الثانية فهي التي تشغل حيزاً أساسياً من الرواية، وفيها نسمع خطاب
التعصب الذي يبرر الإرهاب الذي يحضّ عليه ملاك الحقيقة من صُنّاع الفتن
والمحن، أولئك الذين يدفعون جماهيرهم إلى الفعل، بعد غسل عقولهم، وحشوها
بما يجعل منهم أسلحة فتاكة للإرهاب هكذا ينطق صوت داعية الإرهاب، في رواية
يوسف زيدان، مؤكداً أننا نعيش زمن الفتن، ومن ثم فنحن في زمن الجهاد، حيث
الظلمات تعشش في كل مكان، وتطل على أرض الله بوجه الفتن والهرطقات التي
تنخر في قلوب الناس، «ولن يهدأ جهادنا لها، ما دمنا أحياء فلنكن جنود الحق
الذين لا يرضون إلا بإكليل النصرة السماوية» ونتيجة لمثل هذه الكلمات
وتخييلاتها المصاحبة تثور ثائرة الجماهير التي اكتمل ترويض سلوكها
والسيطرة على عقولها.
هكذا، تزداد الجماهير هياجاً في مدينة الإسكندرية
القديمة، مع إحدى خطب الأنبا كيرلس الأسقف الأعظم للمدينة خصوصاً حين يهدر
بصوته الحماسي قـول يسوع المسيح ما جئت لألقي في الأرض سلاماً، بل سيفاً،
فيزداد هياج الجموع، ويقارب بحدته حدود الجنون الذي يقع الجميع في أسره
بعد صرخة كالرعد، يطلقها قارئ الإنجيل بكنيسة قيصرون الذي انفجر من بين
الجموع قائلاً: «بعون السماء، سنطهر أرض الرب من أعوان الشيطان» وتخرج
الجماهير، في حالة التهوس التي انتابتها، إلى الطرقات، وتهرب الملائكة
الرحيمة من السماء، يقودها بطرس القارئ بصيحاته الهائلة ودمويته البشعة
التي لا علاقة لها بأي دين وتكون الضحية هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية التي
كانت تقول في أول وآخر محاضرة استمع إليها هيبا إن العقل الإنساني يمكن أن
يستشف النظام الكامن في الكون، وأن يصل بالفهم إلى معرفة جوهر الأشياء،
وبالتالي يميز أعراضها وصفاتها المتغيرة، وإن الفهم، وإن كان فعلاً
عقلياً، فإنه فعل روحي أيضاً، فالحقائق التي نصل إليها بالمنطق
وبالرياضيات، إن لم نستشعرها بأرواحنا فستظل حقائق باردة، أو نظل نحن
قاصرين عن فهم روعة إدراكنا لها.
وقد تعمدت المجاورة بين خطاب الإرهاب
الغوغائي والخطاب الهادئ للعقل لكي يبرز الفارق بين الاثنين أعني خطاب
العنف الذي يحكم على المخالف بالاستئصال، ويبرر حكمه بتأويل تخييلي لنص من
نصوص الدين، معزول عن سياقه في الأغلب، كي يتحول استغلال النص المجتزأ إلى
ما يبدو، تخييلاً، دعوة إلى الاغتيال الذي يقترن بالإرهاب، في مقابل خطاب
العقل الذي يلازمه التسامح، وتجذبه المعرفة التي تجاوز الأديان ولا
تضادها، في التحليل الأخير ومن الممكن أن نحذف اسم كيرلس أو بطرس، ونضع
محلهما أسماء أخرى، تنتسب إلى أية عقيدة دينية أو سياسية أصابتها فيروسات
التعصب، ولن يكون هناك فارق جوهري، فمبدأ خطاب العنف الذي ينتجه تعصب
يتحول إلى إرهاب، واحد في كل الأحوال، بل في كل العصور والأزمنة، والنتائج
التي تترتب عليه متشابهة في كل الديانات والعقائد وما نال الضحايا من
عمليات تعذيب وحشي أدى إلى القتل أو الحرق، في هذا الزمان أو ذلك المكان،
لا يختلف في جوهره، فآليات الخطاب واحدة، ومفرداته متشابهة وتخييلاته
متقاربة، لا فارق جوهرياً بين تلك التي أدت إلى الاغتيال البشع لهيباتيا،
باسم إله بريء من فظائع قتلها، وبين الفتوى التي أباحت قتل الأطفال
المسلمين في الجزائر، حتى لا يشبّوا كفاراً مثل آبائهم ولذلك ليس المعوّل
على الأسماء، أو الديانة، أو المكان، في هذا السياق الروائي، فالأهم هو
الدلالة المتكررة الرجع، الدلالة التي لا يقصد من ورائها هذا الاسم بعينه،
أو تلك الطائفة الدينية من دون غيرها، بل جوهر الفعل الذي تتعدد تجلياته
وتتكاثر صوره، عبر الأزمنة والأمكنة، وفي كل الديانات والاعتقادات التي
يشيع فيها خطاب التعصب، وتسيطر على وعي طائفة منها آليات خطاب العنف الذي
يتحول إلى وصمة في جبين الإنسانية، ما ظل العموم هو المقصود من خصوص
الخطاب الروائي الذي هو خطاب مجازي في نهاية الأمر.
وليس من الضروري،
والأمر كذلك، ترويع القارئ بتفاصيل اغتيال هيباتيا، ابتداء من سحلها
وانتهاء بحرقها، فما حدث لها لا يختلف كثيراً عن ما حدث لغيرها عبر
التاريخ الإنساني، خصوصاً في اللحظات التي سادت فيها غوايات عزازيل وكوارث
الذين تقمصتهم روحه التدميرية الشريرة، وذلك في الأزمنة المؤهلة له،
والمرحبة به، أكثر من غيرها ويُكمل المغزى التناقض اللافت بين ظاهر الفاعل
لخطاب العنف الديني وجوهر العقيدة التي ينشر هذا الفاعل الدمار باسمها،
محققاً هدفاً أبعد ما يكون عن حقيقة العقيدة الدينية ومبدئها الأسمى ويبدو
هذا الأمر واضحاً في المفارقة التي تلحظها عينا هيبا على النحو التالي
«نظرت إلى الثوب الممزق في تمثال يسوع، ثم إلى الرداء الموشى للأسقف ملابس
يسوع أسمال بالية ممزقة عن صدره ومعظم أعضائه، وملابس الأسقف محلاة بخيوط
ذهبية تغطيه كله، وبالكاد تظهر وجهه يد يسوع فارغة من حطام دنيانا، وفي يد
الأسقف صولجان أظنه، من شدة بريقه، مصنوعاً من الذهب الخالص فوق رأس يسوع
أشواك تاج الآلام، وعلى رأس الأسقف تاج الأسقفية الذهبي البراق بدا لي
يسوع مستسلماً وهو يقبل تضحيته بنفسه على صليب الفداء، وبدا لي كيرلس
مقبلاً على الإمساك بأطراف السماوات والأرض». وأتصور أن هذا النوع من
الوعي بالتضاد ينقلنا إلى ما يماثله من المفارقة بين الأجساد الضخمة
للمتعصبين بطرس القارئ مثلاً، حاملاً سكينه الرهيب، ووجوههم التي لا تعرف
البسمة طريقاً إليها، مقابل الأجساد المهزولة للرهبان الذين أفرغوا أنفسهم
من أغراض الدنيا، تاركين بسمة التسامح والرحمة علامة على وجوههم ووجودهم
في الوقت نفسه وأضف إلى ذلك وجهاً آخر من حرص هيبا على كتابة ما رآه وسمعه
وعاينه في تعاقب الأحداث التي عاناها، أو عايشها، فهو يقوم بدور الشاهد
الذي لا يكتم شهادته، على الأقل لنفسه، في رقوق يعرف، قطعاً، أنها ستجد من
يقرأها، في زمن ما، وأنها ستظل شهادة إدانة لكل أشكال التعصب والعنف التي
رآها وعاينها، ابتداء من مصرع أبيه الفيزيقي، وانتهاء بإسقاط أبيه الروحي،
نسطور الذي هزمه التعصب، ووقع عليه نوع موازٍ من عنف القمع، هو وأتباعه
على السواء وتوحّد هيبا، في لحظات الكتابة التي تحولت إلى اعترافات أكسب
شهادته صفة الصدق الجارح الذي جعل منه شاهداً وضحية في آن، وإذا كان لم
يستطع أن يفعل شيئاً إيجابياً، يقاوم به العنف الذي أحاط به، فإنه على
الأقل لم يكف عن مقاومة عزازيل الذي انطوى عليه وأحسب أن محاولة مقاومة
عزازيل، في داخله، كانت فعلاً رمزياً تعويضياً عن عجزه في مواجهة الشر
الذي كانت آخر معاركه الخارجية معركة نسطور التي كانت الخسارة فيها هي
الأخيرة، والقاضية على أمل هيبا في الخلاص من عنف عالمه الذي هو عالمنا
بمعنى من المعاني.
وقد بدأت علاقة هيبا بنسطور في أورشليم التي ذهب
إليها حاجاً، وتعارفا في الدير الذي سكنت فيه روحه القلقة، فوجد فيه
معلِّماً وأباً روحياً، يشاركه في رغبة المعرفة التي لا يشوبها التعصب،
والتي تنفتح على الفلسفات القديمة، ولا تتردد في الإفادة من الفلاسفة
القدماء، ما ظلوا على الحق، في الدائرة الكبرى التي لا يحكمها سوى العقل،
بعيداً من التعصب وما يلازمه من ضيق أفق، فقد كان مبدأ نسطور نؤمن ثم
نتعقل، فيتأكد إيماننا، وكان في ذلك على النقيض من كيرلس الذي يكره
الفلسفة، ويعادي العقل، ويلح على أن الكتاب المقدس ينطوي على حلول لكل
شيء، وعلاج لكل مرض، وحماية من تأملات العقل وشطحاته التي تقود إلى
الهرطقة أما نقيضه نسطور فكان يرى أن ما جرى في الإسكندرية من جرائم تعصب
لا شأن للدين به، وأن قتل الناس باسم الدين لا يجعله ديناً، وأن الدين
ينقلب إلى جحيم من البشاعة عندما يتغلغل الشيطان في نفوس القائمين به،
فيتحول التسامح إلى تعصب ويظل الإيمان صافياً، في عيني نسطور، ما ظلت
الممارسة الدينية محافظة على سماحة الدين، وإلا فإن أصحابه يتحولون إلى
أهل سلطان لا أصحاب إيمان، أهل قسوة دنيوية، لا محبة روحانية ولذلك كان
يؤكد لتلميذه هيبا أن الرهبان لا يَقْتلون، ولا يختالون، وإنما يمشون على
الأرض هوناً، متبعين خطى الرسل والقديسين والشهداء.
ولكن للأسف، يبدو
أن الشيطان وجد سبيله إلى نسطور بعد أن أصبح أسقفاً للقسطنطينية، فاستبدل
التعصب بالتسامح، وبطش بالمعارضين له وهدم كنائس الأريوسيين وطردهم من
القسطنطينية، ففعل ما فعله الذين وقف ضدهم، وناقض نفسه بنفسه، تماماً مثل
المعتزلة دعاة العقل في التراث الإسلامي، عندما فرضوا مبادئهم على غيرهم
بقوة السلطة وبطش السلطان، فناقضوا أنفسهم، وصنعوا مصيرهم الذي قادهم إليه
أعداؤهم وهذا عين ما حدث مع نسطور الذي أهاج عليه كيرلس الكثيرين، وجمع
الممالئين له في المجمع المقدس الذي اجتمع برضا الإمبراطور في إفسوس وقرر
إدانة نسطور، وحرمانه من منصبه، ونفيه إلى مكان قصي تابع للإسكندرية التي
كانت مقر كيرلس ومركز قوته التي فرضها على الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني
الذي كان قد رسم نسطور أسقفاً لعاصمة الإمبراطورية، وطالبه الثاني بأن
يساعده في حربه على الكفرة، ويعطيه الأرض خالية من الهرطقة، كي يعطيه
مفاتيح السموات ونعيمها المقيم وكان نسطور بذلك يطلب الأرض للسماء، ويتحول
إلى واحد من أهل السلطان لا أهل الإيمان، في ما يقول هيبا.
ولذلك كله،
أعتبر رواية «عزازيل» تمثيلاً مجازياً أو رمزياً بلا فارق، وأنظر إلى كل
بطل من أبطالها بوصفه مشبّهاً به لشخصية من الشخصيات المماثلة في المغزى
والدلالة في زمن التعصب والعنف الذي نعيشه ونعانيه، ونراه، في الرواية، من
خلال موازياتها الرمزية، أو تشبيهاتها التمثيلية التي ترينا زمننا من
منظور جديد، وفى ضوء مغاير، كما لو كانت تطلب بعد الدار عنه، تمثيلاً، لكي
تزداد قرباً منه، تحقيقاً، فنغدو أقدر على فهمه، وأكثر استعداداً لتغييره،
ساعين إلى القضاء على جرثومة العنف الذي يتولد عن التعصب، ونهزم عزازيل
الذي استولى، في زماننا الذي نرى أشباه رموز العنف فيه، وسلوكهم الدموي
التدميري، في رقوق هيبا التي هي مرايا مزدوجة، نرى فيها علاقات ودوافع
وصراعات الزمن الماضي الذي تتحدث عنه.
جابر عصفور الحياة - 22/10/08//
يتجاوب الزمان الداخلي الذي تتحرك في مداره المغلق رواية يوسف زيدان
«عزازيل» مع زمان خارجي، قلق، مضطرب، مملوء بالعنف وذلك على نحو يغدو معه
الزمانان زمناً واحداً يناوشه القمع من كل جوانبه التي تبدأ وتنتهي
بالتعصب الديني الذي يغدو إرهاباً، ويجعل من الرواية نفسها مداراً مغلقاً
من الصراع المتصل، سواء في داخل البطل هيبا الذي يصارع شيطانه الذي يصارعه
بدوره، أو في الخارج الذي تنطلق فيه شياطين التعصب كالبراكين المتفجرة بكل
ما يقضي على إمكانات الحياة الآمنة لكل من يراهم زبانية التعصب مختلفين أو
مخالفين، مقيمين اتحاداً تخييلياً بينهم وشياطين الكفر الذين لا بد من
استئصالهم، وقطع جذورهم، فلا حياة مسموحاً بها إلا للأشباه الذين يدخلون
حظيرة الاتِّباع والطاعة المذعنة للذين يمتلكون، وحدهم، الحقيقة، ويحتكرون
معرفة تعاليم الحق المطلق وتأويله.
ومن هذا المنظور، تبدو الرواية
نوعاً من المجاز الموسّع، أو تصويراً رمزياً لزمن خاص، تتحول دلالة تعينه
إلى زمن عام، وذلك على نحو لا تغدو فيه تفاصيل التعين هي المقصد المباشر،
وإنما ما يسميه عبد القاهر الجرجاني «المعنى الأول» المراد منه الدلالة
على «المعنى الثاني» وهو الدلالة المقصودة من المجاز، حيث لا يُراد ظاهر
المعنى، بل دلالته التي ينقلب بها الخاص إلى عام، والزمن المتعين إلى زمن
محتمل، يمكن أن يقع حين تتوافر شروط موازية، كي يتحقق معنى المماثلة أو
المشابهة التي هي أصل المجاز الذي ينطوي على الاستعارة والكارثة الإنسانية
المقصودة، في تفاعل سياقات «عزازيل» وتجاوبها، هي التعصب الذي ينقلب إلى
إرهاب، حين يغدو عنفاً لا يعرف التسامح أو يقبله، حتى في دائرة العقيدة
الواحدة وما رأته عينا الراهب هيبا في زمنه المتعين الذي تحدده الرواية،
في معالجتها المجازية لموضوع القمع الديني، هو صورة متكررة، تغدو رمزاً
لكل قمع يحدث باسم الدين أو السياسة أو حتى تقاليد الطائفة أو القبيلة،
وذلك حين يغدو العنف سبيلاً لاستئصال المختلف دينياً، أو طائفياً، أو
اجتماعياً، أو عرقياً.
وقد شهدت عينا الراهب هيبا هذا العنف
الاستئصالي، من دون أن يستطيع له صداً، ثلاث مرات على الأقل الأولى هي قتل
أبيه على أيدي مجموعة متعصبة دينية، بحجة أنه ظل على وثنيته، وكانت أمه
طرفاً متآمراً في هذا الاغتيال الذي ظلت دلالته تترجع في وعي هيبا، مؤكدة
إمكان أن تبيع الزوجة زوجها، وتغدر به نتيجة تعصب ينقلب إلى عنف إرهابي.
أما
المرة الثانية فهي التي تشغل حيزاً أساسياً من الرواية، وفيها نسمع خطاب
التعصب الذي يبرر الإرهاب الذي يحضّ عليه ملاك الحقيقة من صُنّاع الفتن
والمحن، أولئك الذين يدفعون جماهيرهم إلى الفعل، بعد غسل عقولهم، وحشوها
بما يجعل منهم أسلحة فتاكة للإرهاب هكذا ينطق صوت داعية الإرهاب، في رواية
يوسف زيدان، مؤكداً أننا نعيش زمن الفتن، ومن ثم فنحن في زمن الجهاد، حيث
الظلمات تعشش في كل مكان، وتطل على أرض الله بوجه الفتن والهرطقات التي
تنخر في قلوب الناس، «ولن يهدأ جهادنا لها، ما دمنا أحياء فلنكن جنود الحق
الذين لا يرضون إلا بإكليل النصرة السماوية» ونتيجة لمثل هذه الكلمات
وتخييلاتها المصاحبة تثور ثائرة الجماهير التي اكتمل ترويض سلوكها
والسيطرة على عقولها.
هكذا، تزداد الجماهير هياجاً في مدينة الإسكندرية
القديمة، مع إحدى خطب الأنبا كيرلس الأسقف الأعظم للمدينة خصوصاً حين يهدر
بصوته الحماسي قـول يسوع المسيح ما جئت لألقي في الأرض سلاماً، بل سيفاً،
فيزداد هياج الجموع، ويقارب بحدته حدود الجنون الذي يقع الجميع في أسره
بعد صرخة كالرعد، يطلقها قارئ الإنجيل بكنيسة قيصرون الذي انفجر من بين
الجموع قائلاً: «بعون السماء، سنطهر أرض الرب من أعوان الشيطان» وتخرج
الجماهير، في حالة التهوس التي انتابتها، إلى الطرقات، وتهرب الملائكة
الرحيمة من السماء، يقودها بطرس القارئ بصيحاته الهائلة ودمويته البشعة
التي لا علاقة لها بأي دين وتكون الضحية هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية التي
كانت تقول في أول وآخر محاضرة استمع إليها هيبا إن العقل الإنساني يمكن أن
يستشف النظام الكامن في الكون، وأن يصل بالفهم إلى معرفة جوهر الأشياء،
وبالتالي يميز أعراضها وصفاتها المتغيرة، وإن الفهم، وإن كان فعلاً
عقلياً، فإنه فعل روحي أيضاً، فالحقائق التي نصل إليها بالمنطق
وبالرياضيات، إن لم نستشعرها بأرواحنا فستظل حقائق باردة، أو نظل نحن
قاصرين عن فهم روعة إدراكنا لها.
وقد تعمدت المجاورة بين خطاب الإرهاب
الغوغائي والخطاب الهادئ للعقل لكي يبرز الفارق بين الاثنين أعني خطاب
العنف الذي يحكم على المخالف بالاستئصال، ويبرر حكمه بتأويل تخييلي لنص من
نصوص الدين، معزول عن سياقه في الأغلب، كي يتحول استغلال النص المجتزأ إلى
ما يبدو، تخييلاً، دعوة إلى الاغتيال الذي يقترن بالإرهاب، في مقابل خطاب
العقل الذي يلازمه التسامح، وتجذبه المعرفة التي تجاوز الأديان ولا
تضادها، في التحليل الأخير ومن الممكن أن نحذف اسم كيرلس أو بطرس، ونضع
محلهما أسماء أخرى، تنتسب إلى أية عقيدة دينية أو سياسية أصابتها فيروسات
التعصب، ولن يكون هناك فارق جوهري، فمبدأ خطاب العنف الذي ينتجه تعصب
يتحول إلى إرهاب، واحد في كل الأحوال، بل في كل العصور والأزمنة، والنتائج
التي تترتب عليه متشابهة في كل الديانات والعقائد وما نال الضحايا من
عمليات تعذيب وحشي أدى إلى القتل أو الحرق، في هذا الزمان أو ذلك المكان،
لا يختلف في جوهره، فآليات الخطاب واحدة، ومفرداته متشابهة وتخييلاته
متقاربة، لا فارق جوهرياً بين تلك التي أدت إلى الاغتيال البشع لهيباتيا،
باسم إله بريء من فظائع قتلها، وبين الفتوى التي أباحت قتل الأطفال
المسلمين في الجزائر، حتى لا يشبّوا كفاراً مثل آبائهم ولذلك ليس المعوّل
على الأسماء، أو الديانة، أو المكان، في هذا السياق الروائي، فالأهم هو
الدلالة المتكررة الرجع، الدلالة التي لا يقصد من ورائها هذا الاسم بعينه،
أو تلك الطائفة الدينية من دون غيرها، بل جوهر الفعل الذي تتعدد تجلياته
وتتكاثر صوره، عبر الأزمنة والأمكنة، وفي كل الديانات والاعتقادات التي
يشيع فيها خطاب التعصب، وتسيطر على وعي طائفة منها آليات خطاب العنف الذي
يتحول إلى وصمة في جبين الإنسانية، ما ظل العموم هو المقصود من خصوص
الخطاب الروائي الذي هو خطاب مجازي في نهاية الأمر.
وليس من الضروري،
والأمر كذلك، ترويع القارئ بتفاصيل اغتيال هيباتيا، ابتداء من سحلها
وانتهاء بحرقها، فما حدث لها لا يختلف كثيراً عن ما حدث لغيرها عبر
التاريخ الإنساني، خصوصاً في اللحظات التي سادت فيها غوايات عزازيل وكوارث
الذين تقمصتهم روحه التدميرية الشريرة، وذلك في الأزمنة المؤهلة له،
والمرحبة به، أكثر من غيرها ويُكمل المغزى التناقض اللافت بين ظاهر الفاعل
لخطاب العنف الديني وجوهر العقيدة التي ينشر هذا الفاعل الدمار باسمها،
محققاً هدفاً أبعد ما يكون عن حقيقة العقيدة الدينية ومبدئها الأسمى ويبدو
هذا الأمر واضحاً في المفارقة التي تلحظها عينا هيبا على النحو التالي
«نظرت إلى الثوب الممزق في تمثال يسوع، ثم إلى الرداء الموشى للأسقف ملابس
يسوع أسمال بالية ممزقة عن صدره ومعظم أعضائه، وملابس الأسقف محلاة بخيوط
ذهبية تغطيه كله، وبالكاد تظهر وجهه يد يسوع فارغة من حطام دنيانا، وفي يد
الأسقف صولجان أظنه، من شدة بريقه، مصنوعاً من الذهب الخالص فوق رأس يسوع
أشواك تاج الآلام، وعلى رأس الأسقف تاج الأسقفية الذهبي البراق بدا لي
يسوع مستسلماً وهو يقبل تضحيته بنفسه على صليب الفداء، وبدا لي كيرلس
مقبلاً على الإمساك بأطراف السماوات والأرض». وأتصور أن هذا النوع من
الوعي بالتضاد ينقلنا إلى ما يماثله من المفارقة بين الأجساد الضخمة
للمتعصبين بطرس القارئ مثلاً، حاملاً سكينه الرهيب، ووجوههم التي لا تعرف
البسمة طريقاً إليها، مقابل الأجساد المهزولة للرهبان الذين أفرغوا أنفسهم
من أغراض الدنيا، تاركين بسمة التسامح والرحمة علامة على وجوههم ووجودهم
في الوقت نفسه وأضف إلى ذلك وجهاً آخر من حرص هيبا على كتابة ما رآه وسمعه
وعاينه في تعاقب الأحداث التي عاناها، أو عايشها، فهو يقوم بدور الشاهد
الذي لا يكتم شهادته، على الأقل لنفسه، في رقوق يعرف، قطعاً، أنها ستجد من
يقرأها، في زمن ما، وأنها ستظل شهادة إدانة لكل أشكال التعصب والعنف التي
رآها وعاينها، ابتداء من مصرع أبيه الفيزيقي، وانتهاء بإسقاط أبيه الروحي،
نسطور الذي هزمه التعصب، ووقع عليه نوع موازٍ من عنف القمع، هو وأتباعه
على السواء وتوحّد هيبا، في لحظات الكتابة التي تحولت إلى اعترافات أكسب
شهادته صفة الصدق الجارح الذي جعل منه شاهداً وضحية في آن، وإذا كان لم
يستطع أن يفعل شيئاً إيجابياً، يقاوم به العنف الذي أحاط به، فإنه على
الأقل لم يكف عن مقاومة عزازيل الذي انطوى عليه وأحسب أن محاولة مقاومة
عزازيل، في داخله، كانت فعلاً رمزياً تعويضياً عن عجزه في مواجهة الشر
الذي كانت آخر معاركه الخارجية معركة نسطور التي كانت الخسارة فيها هي
الأخيرة، والقاضية على أمل هيبا في الخلاص من عنف عالمه الذي هو عالمنا
بمعنى من المعاني.
وقد بدأت علاقة هيبا بنسطور في أورشليم التي ذهب
إليها حاجاً، وتعارفا في الدير الذي سكنت فيه روحه القلقة، فوجد فيه
معلِّماً وأباً روحياً، يشاركه في رغبة المعرفة التي لا يشوبها التعصب،
والتي تنفتح على الفلسفات القديمة، ولا تتردد في الإفادة من الفلاسفة
القدماء، ما ظلوا على الحق، في الدائرة الكبرى التي لا يحكمها سوى العقل،
بعيداً من التعصب وما يلازمه من ضيق أفق، فقد كان مبدأ نسطور نؤمن ثم
نتعقل، فيتأكد إيماننا، وكان في ذلك على النقيض من كيرلس الذي يكره
الفلسفة، ويعادي العقل، ويلح على أن الكتاب المقدس ينطوي على حلول لكل
شيء، وعلاج لكل مرض، وحماية من تأملات العقل وشطحاته التي تقود إلى
الهرطقة أما نقيضه نسطور فكان يرى أن ما جرى في الإسكندرية من جرائم تعصب
لا شأن للدين به، وأن قتل الناس باسم الدين لا يجعله ديناً، وأن الدين
ينقلب إلى جحيم من البشاعة عندما يتغلغل الشيطان في نفوس القائمين به،
فيتحول التسامح إلى تعصب ويظل الإيمان صافياً، في عيني نسطور، ما ظلت
الممارسة الدينية محافظة على سماحة الدين، وإلا فإن أصحابه يتحولون إلى
أهل سلطان لا أصحاب إيمان، أهل قسوة دنيوية، لا محبة روحانية ولذلك كان
يؤكد لتلميذه هيبا أن الرهبان لا يَقْتلون، ولا يختالون، وإنما يمشون على
الأرض هوناً، متبعين خطى الرسل والقديسين والشهداء.
ولكن للأسف، يبدو
أن الشيطان وجد سبيله إلى نسطور بعد أن أصبح أسقفاً للقسطنطينية، فاستبدل
التعصب بالتسامح، وبطش بالمعارضين له وهدم كنائس الأريوسيين وطردهم من
القسطنطينية، ففعل ما فعله الذين وقف ضدهم، وناقض نفسه بنفسه، تماماً مثل
المعتزلة دعاة العقل في التراث الإسلامي، عندما فرضوا مبادئهم على غيرهم
بقوة السلطة وبطش السلطان، فناقضوا أنفسهم، وصنعوا مصيرهم الذي قادهم إليه
أعداؤهم وهذا عين ما حدث مع نسطور الذي أهاج عليه كيرلس الكثيرين، وجمع
الممالئين له في المجمع المقدس الذي اجتمع برضا الإمبراطور في إفسوس وقرر
إدانة نسطور، وحرمانه من منصبه، ونفيه إلى مكان قصي تابع للإسكندرية التي
كانت مقر كيرلس ومركز قوته التي فرضها على الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني
الذي كان قد رسم نسطور أسقفاً لعاصمة الإمبراطورية، وطالبه الثاني بأن
يساعده في حربه على الكفرة، ويعطيه الأرض خالية من الهرطقة، كي يعطيه
مفاتيح السموات ونعيمها المقيم وكان نسطور بذلك يطلب الأرض للسماء، ويتحول
إلى واحد من أهل السلطان لا أهل الإيمان، في ما يقول هيبا.
ولذلك كله،
أعتبر رواية «عزازيل» تمثيلاً مجازياً أو رمزياً بلا فارق، وأنظر إلى كل
بطل من أبطالها بوصفه مشبّهاً به لشخصية من الشخصيات المماثلة في المغزى
والدلالة في زمن التعصب والعنف الذي نعيشه ونعانيه، ونراه، في الرواية، من
خلال موازياتها الرمزية، أو تشبيهاتها التمثيلية التي ترينا زمننا من
منظور جديد، وفى ضوء مغاير، كما لو كانت تطلب بعد الدار عنه، تمثيلاً، لكي
تزداد قرباً منه، تحقيقاً، فنغدو أقدر على فهمه، وأكثر استعداداً لتغييره،
ساعين إلى القضاء على جرثومة العنف الذي يتولد عن التعصب، ونهزم عزازيل
الذي استولى، في زماننا الذي نرى أشباه رموز العنف فيه، وسلوكهم الدموي
التدميري، في رقوق هيبا التي هي مرايا مزدوجة، نرى فيها علاقات ودوافع
وصراعات الزمن الماضي الذي تتحدث عنه.
جابر عصفور الحياة - 22/10/08//
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: رواية يوسف زيدان «عزازيل»
«عزازيل» ليوسف زيدان: ترحال بين الأفكار وغوص في وجدان المؤمن
قراءة مخطوط قديم اكتشف خارج تراب مصر الناشفة وبغير لغة صاحب التدوين
القبطية، مخطوط مثير للسجال، يستحضر ذاكرة البدايات ويوصل الى صفاء
الأشياء، يدخلك في صميم العمل. لذلك انصح القارئ عند قراءة رواية «عزازيل»
للدكتور يوسف زيدان (منشورات دار الشروق - القاهرة 2008), بتجاوز المقدمة
التي بدت غريبة لأول وهلة في هذا النوع الروائي التاريخي. فكيف يبدأ راوٍ
روايته بتبيئتها في أول الطريق للكشف عن زمنها الروائي، الذي يتفتح مثل
النهار عن سحره الذي نُسجت به الرواية الى النهاية (تاريخ ترجمة الرواية
المفترض من السريانية الى العربية 2004). والزمن أصلاً صيغ لنا نادراً كما
هو النص الذي يُعلن عن نشره للمرة الأولى نادر.
* * *
رواية
«عزازيل» هي كتابة على الرقوق (لفائف البردي) وضع لها المترجم عناوين
لتبويبها: الرق الأول (بدء التدوين) الرق الثاني (بيت الرب) الى الرق
الحادي والثلاثين (قانون الايمان). والسارد هو نفسه بطل الرواية الراهب
الذي يدوّن على طريقة الاسترجاع، وباللغة السريانية، وقائع حياته القلقة
والشكوك التي تملؤه:
«وأفضيت الى نسطور بفزعي من أنهار العنف التي
تتدقق في أرض الله، ورعبي من القتل المروّع الذي يجري باسم المسيح...
وصرّحت له باحتياجي الى اليقين، وافتاري اليه». (182).
يلتصق زمن السرد
بالزمن الحكائي أي لحظة التدوين، هي هي اللحظة الانتقالية التي يسترجعها
المدوّن بلحظات طيبة لأيام يعيشها في رهبنة قلقة وأديرة متباعدة. والمكان
ترحال خارجي بين مدن وادي نيل في مصر العليا من أخميم صعوداً الى
الاسكندرية فشرقاً الى أورشليم، ومن ثم الى الشمال الغربي من حلب. والمكان
أيضاً ترحال داخلي وجداني في حدود مساحة الدير التي يمشيها بين الصومعة
والمكتبة والكنيسة وبين السراج الذي يشعل نوره خافتاً للكتابة.
في الرق العاشر يخبرنا عن حضور زمنين في التدوين واسترجاع الماضي:
ها
قد امتلأ الرق، وما انتهت الذكريات التي صيّرتها الكتابة حاضراً يُعاش
مرتين، غير أنني أراها على نحو جديد كلما مضت السنون، وكلما استرجعتني من
الماضي البعيد. وها هو عقد التذكر ينفرط مني، ويكاد خيط التدبر ينقطع،
فلأرجع في الرق التالي الى حكاية ما جرى مع نسطور أيام لقيته للمرة الأولى
عند كنيسة القيامة. (171).
يتفاعل الراهب، الشخصية الرئيسية، صاحب
السرد ومحور المتن الحكائي مع شخصيات لعبت دوراً في دوائر الكنائس
المسيحية كالإسقف تيودور، والأسقف الانطاكي الشهير باسمه الكنسي نسطور (38
هيئته)، والأسقف اوغسطين (وصفه 39) وغيرهم. أما عزازيل، وهو شخصية لها
حضور كوني ولعب دوراً مميزاً في القلق الذي يعيشه فهو «من الراهب وفيه»
شيطان السلطة الزمانية (51 - 52), وهناك اطلالة شخصيات غريبة من وقت لآخر،
زوّار لهم حضور الصوفيين وأسئلة الحائرين:
«صعد الشاب والقرد النخلة
بلا مجهود كبير وكأنه يمشي على الأرض (59) ألقى في حجر هيبا البلح من دون
أن يقول شيئاً. كيف يصحب الملاك قرداً؟».
وللشخصيات النسائية حضور مع
أننا أمام راهب: فقد استضافت أوكتافيا راهبنا في بيتها بعد غرقه في بحر
الاسكندرية - ودخلت حياته كدخول حواء الى آدم في الجنّة (قصة حياتها 90)،
علمته الحب وقصت عليه القصص، وحكت له عن سيدها التاجر الصقلي. وسمع
لهيباتيا الفيلسوفة الاسكندرانية وأستاذة عصرها، محاضرة في الرياضيات،
وأحب مارتا التي ظهرت في مستقره الديري الأخير مطلّقة صبية جميلة، مغنية
في العربية والسريانية. هام بها الراهب وهامت به.
من هو الراهب بطل الحكاية؟
مسيحي
ولد لسنة احدى وتسعين وثلاثمئة للميلاد المجيد (391م) في نجع حمادي (صعيد
مصر). أي ولد بعد أن اصبحت المسيحية الدين الرسمي للامبراطورية البيزنطية،
وبعد أن دخلت كنيسة مصر المرقسية آنذاك في صميم الاختيارات اللاهوتية
الكبيرة حول طبيعة السيد المسيح الأولى قطبها روما والاسكندرية والثانية
القسطنطينية وانطاكيا. في هذه الأجواء أراد الراهب أن يستعيد للقارئ الزمن
المخيف الذي وجد نفسه داخل حلقته، وراهبنا ليس شخصية عادية فهو طبيب
وشاعر، يعاني جدلية بين قناعاته العلمية والفكرية وبين قناعات رجال الدين
الصاعدين. ويعاني جدلية أخرى بين الحياة التي اختارها كراهب في حدود الدير
بين الصومعة والكنيسة والمكتبة وبين رغباته كإنسان له جوعه وعطشه. في لحظة
من اللحظات التي رأى ما يقترفه أهل الديانة المسيحية بأهل الديانة الغابرة
رمى ثوب الرهبنة وخلع على نفسه اسماً جديداً، يقول: ورحت أتلو صلاة لم أكن
قد قرأتها من قبل في كتاب، ولا سمعتها في قدّاس... (164) انحنيت فغرفت
بكفيّ من الماء الطاهر، ووقفت فألقيته فوق رأسي، ليغسلني من كل الذي كان.
لحظتها، عمّدت نفسي بنفسي، وأعطيت لنفسي في لحظة الإشراق المفاجئ هذه
اسماً جديداً. هو الاسم الذي أعرف به الآن هيبا وما هو إلا النصف الأول من
اسمها (هيباتيا).
ولد الراهب هيبا لأب وثني، قتله المسيحيون، ولأم وشت
بأبيه لدى أقاربها الجهلة. درس في نجع حمادي وأخميم وانتظم سنين في كنيسة
أخميم الكبيرة ورآه معلّمه القسّ الأخميمي لائقاً بالرهبنة فرسمه حين
التمس منه ذلك «على لسان اندهاش بريء ساكن في عينيه». هيبا نحيل البنية
(65)، مفجوع «بكى بألم على مقتل أبيه طعناً بالسكاكين الصدئة» (41)، مؤدّب
مهموم بمصير صديقه وحبيبته وشيطانه: «ثالوث عذابي قد اكتمل. قلقي على مصير
نسطور، وشغفي بمصير مرتا، وطلات عزازيل المفاجئة (51)».
متقشّف على
عادة الرهبان المتوحدين في الأديرة على طول وادي النيل حيث يصف لنا هندامه
البسيط، حماره الذي يسافر عليه، المخلاة التي يقتات منها الحمار، ونومه
العادي جالساً، وانتظامه على الصلاة والصوم والقراءة «فلم أتناول طيلة
أيام الرحلة الثمانية، إلا البلح الجافّ والماء ورحيق صلواتي» (61).
للراهب
هيبا ثقافة مميزة، يقرأ اليونانية والعبرية والقبطية والآرامية، ويكتب
الشعر بالسريانية واليونانية، مع أنه مصري المولد والقبطية هي لغته الأم.
درس المنطق على يد رجل غير مسيحي، وقرأ لفيثاغورس في أخميم، يحتفظ بكنوز
من الكتب الممنوعة (والأناجيل المنحولة)، التي نسمع عنها في مكتبة نجع
حمادي، ككتاب أفلوطين المسمى التاسوعات، وكتاب آريوس الذي عنوانه ثاليا
(قصيدة مكتوبة بالقبطية على ورق البردي) انجيل توما، نسخة قديمة من انجيل
المصريين، وانجيل يهوذا، وسفر الأسرار... وخُطب شيشرون، و «مدينة الله»
للأسقف أوغسطين (الجزءان الأول والثاني منه)، الترجمة القبطية لميمر -
المرحلة المقدسة - كتاب مشهور في مصر أصله يوناني كتبه الأسقف ثيوفيلوس
السكندري (40) ولديه صور بديعة منها صورة الإله خنوم يصنع البشر من طين
الصلصال ثم ينفخ فيها آمون، ليهبهم الحياة.
وهو ذو اهتمامات علمية وشغف
بالبحث عن أصول الديانة المسيحية في الحضارة المصرية القديمة، كما سمعناه
يخبر الأسقف تيودور بوجود القس نسطور: أفكر كثيراً في أفلوطين، وفي مصر.
فأرى أن كثيراً من أصول الديانة أتت من هناك لا من هنا! الرهبنة، حب
الاستشهاد، علامة الصليب، كلمة الانجيل... حتى الثالوث المقدّس، هو فكرة
ظهرت أولاً بنصوع عند أفلوطين، وقد قال بكتابه التاسوعات...
قاطع هيبا
تأملات الأسقف قائلاً: لا يا أبتِ ثالوث أفلوطين فلسفي، هو عنده: الواحد
والعقل الأول والنفس الكلية، والثالوث في ديانتنا سماوي رباني: الأب
والابن وروح القدس، وشتّان بين الاثنين.
أجداده يعتقدون في ثالوث
إلهيّ، زواياه إيزيس وابنها حورس وزوجها أوزيريس الذي أنجبت منه دون
مضاجعة. فهل نعيد بعث الديانة القديمة؟ لا ولا يصح أن يقال عن الله إنه
ثالث ثلاثة. الله يا هيبا لا شريك له في ألوهيته. ولقد أراد آريوس أن تكون
الديانة لله وحده... اكتوى بنيران الاسكندرية اغتيل بالسمّ (54).
ويثير
هيبا سجالات لاهوتية، وينتقد المجامع الدينية التي حسمت الصراع بالنهاية
لمصلحة التفسير المجازي للعقائد لا التفسير التاريخي لها.
وأوضح أن
الراهب هيبا نسطوري الهوى والانتماء، وقد لعب نسطور دوراً في خياراته
الشخصية، بدءاً من زيارة الاسقف نسطور الى حجرته في أورشليم الى أن
استدعاه الى انطاكيا لمهمة عاجلة وخطرة. والنسطورية عقيدة لا تزال حية
ومنتشرة الى الآن في الشرق والغرب، ولا تزال تثير أسئلتنا الكثيرة. فقد
أثار نسطور بين تدربه في كنيسة انطاكية ورسمه أسقفاً للقسطنطينية عام
428م، حفيظة زملاء من أساقفة الاسكندرية بسبب رفضه انزال الألوهية الى
الارض، وقد اتهم انه يعلم ببشرية المسيح، وأنه يأخذ موقفاً حاسماً من لقب
«أم الإله» ثيوتوكس في اشارة الى مريم العذراء. وقد شكلت هذه العقائد
سجالات كبيرة على كل المستويات العامة والشعبية والسلطوية والبابوية
والامبراطورية شهدت عليها كثرة المجامع التي عقدت لنقاشها.
خُلع الأسقف
نسطوريوس في مجمع أفسس (431م) وفي عام 435 أمر ثيودوسيوس 11 بحرق كتاباته.
وقد انعقد مجمع خلقدونية (451م) للحسم في مسألة طبيعة المسيح. وكتب هيبا
في الرق الأخير عن قانون الايمان الذي أصبح القانون الرسمي للكنيسة.
إذاً،
غلبت على الراهب اهتماماته اللاهوتية على اهتماماته الأخرى في قضايا الأدب
والشعر والموسيقى والحب. وهيبا بليغ جداً يحفظ لغة الحب (89) وأشعار
هوميروس وبندار، وقرأ كذلك أعمال اسخيلوس وسوفوكليس. يعيش في القراءة ومع
المرأة شعائرياً وطقساً روحانياً. ويشكك في رواية الخطيئة الأولى لا لأنه
مارق بل لأنه يؤمن ان الانسان لا يمكن أن يقترف الخطيئة في سبيل المعرفة
الصحيحة:
«ترى، هل طرد الله آدم من الجنة لأنه عصى الأمر. أم لأنه حين عرف سرّ أنوثة حواء، فأدرك رجولته واختلافه عن الله؟» (90).
موقف
هيبا من المرأة كله إعجاب (مع انه يتنازل في كل مرة): حضر لهيباتيا
الفيلسوفة محاضرة عامة في الرياضيات في الاسكندرية، وسمى نفسه تيمناً
باسمها بعد أن شهد مقتلها. يعترف بأن للحب سلطاناً عليه، فيستسلم لغوايات
أوكتافيا، وفي أكثر من رقّ وبلغة أدبية يحكي لنا عن طقس الحب الذي لا
تواريه تابوهات:
حاجتنا للحب حقيقية «منديل لا للتغطية لكن للعشق»،
«ارتبكت حين انتبهت لانتصاب شيطاني من تحت سروالي المبلول بماء البحر
المالح» (81). أطعمتني كالطفل. شبعت حتى ظننت أنني لن أجوع بعدها أبداً».
ويصف جسده مثل الأرض التي عادة توصف بالأنثوي: كانت يدها تغوص فيّ، فتنهك
أرضي المستسلمة كلها، من أصابع قدمي الى سائر جسمي المتكوّم في حضنها».
في
«عزازيل» يغلب السرد على الحوار، بسبب طبيعة المتون والأقلام التي تجدّ
على الرقوق، وتتميز الحوارات بالهدوء مما يعني أن صاحب السرد لا يحتاج الى
الرفقة أو المشاركة في فعل السرد. والوصف (أو الوصل) غنيّ ينقل به هيئات
الشخصيات والأجواء التي يعيش لحظاتها والأحداث المريعة التي تحصل من أمامه
ومن ورائه.
يصف مقتل هيباتيا على يد بطرس القارئ ليشهدنا على تخاذله
بالدفاع عنها. ويصف مقتل اوكتافيا حاسرة الرأس صارخة بجنود الرومان..
ليقول لنا إنها ماتت من دون أن تراه (157).
يصف الألوان: «الأصفر لون
الموت والجدب، ولون معابد الآلهة المندثرة... ولون الخريف والخطيّة».
والأبيض «لون المنديل الكبير، والثوب الشفيف، والنهد المطل، والبشرة
والدهشة». (81).
* * *
نجح يوسف زيدان في رسم صورة الراهب وفي سردية
الأحداث من حوله، وللمرة الأولى تستعاد في شكل روائي أحداث السجالات
العقدية المسيحية القديمة وأثرها على الفكر والفلسفة والعلوم. وهذا مما
نعتبره، في أجواء الاصولية الاسلامية والصراعات حول الاسلام اليوم خروجاً
عن الخطاب المهيمن والمألوف.
ونجح يوسف زيدان في اعادة الاعتبار
للثقافة الهيلينستية التي شاركت في التفاعل الحضاري لكلّ من المسلمين
والمسيحيين، والتي يعدّ الكلام في حضارتها من التابوهات. وقد كشف صاحب
الحكاية عن تسلط المؤسسة الدينية حال وصولها الى الحكم مما شغل المسيحية
الشرقية المبكرة في صراعات وصلت الى حدّ العنف والقتل والغاء الفكر
والتعددية و «الآخر» وهذا مما حصل ليس في المسيحية فقط بل في الاسلام،
وللتاريخ الاسلامي سجّل حافل نذكر منه محنة خلق القرآن على يد المأمون وما
حصل بعدها من تراجع فكري وحضاري.
ونجح يوسف زيدان في دخول عالم الراهب،
حين صوّر لنا الرهبنة في التعبّد والتقشّف وصراع الأضداد الذي ينتج منه
استنفارات «عزازيل» في الأوقات الحرجة كما في الأوقات الفرحة في أوقات
الحب كما في أوقات الارتقاء بالروح. وقد شعرنا في لحظات لها من الدقة
بوجود «عزازيل» وجوداً مثيراً قد ينافس البطل في دوره الأساسي القائم على
جدلية الوجود.
* * *
بعد الانتهاء من الرواية عدت الى شخصيات
المخطوط الخارجي في الاطار، في مقدمة الرواية: فهناك الراهب العربي، من
أتباع كنيسة الرّها التي اتخذت النسطورية مذهباً لها، وهو من اهتم باضافة
الحواشي والتعليقات المكتوبة بخط نسخي دقيق على اطراف الرقوق في حدود
القرن الخامس الهجري (أي القرن الحادي عشر ميلادي). وهناك المترجم الذي
أوصى أن تنشر (بعد وفاته) ترجمته الأمينة لمجموعة اللفائف (الرقوق) التي
اكتشفت قبل عشر سنوات في الخرائب الأثرية الواقعة الى جهة الشمال الغربي
من مدينة حلب. اذاً، أضاف الروائي زيدان ثلاثة أزمنة الى زمن هيبا المضاعف
بالحكاية والخيال: زمن الراهب العربي وزمن المترجم من السريانية الى
العربية، وزمن يوسف زيدان الاسكندراني.
كما أن هناك أزمنة متراكمة في
حياة المخطوطات التي تكون أحياناً موقعة وأحياناً مطوية، وأحياناً كثيرة
مدفونة في الرمال الى حين، فإن في حياتنا اليوم زمناً واحداً يغلب عليه
الجهل بجوهر الأشياء. سررت بهذه الرواية لأزمنتها المتراكمة ولحظتها
المتأزمة ولغتها الصوفية، ولا اعتبر هذه المراجعة قد وفت زيدان حقه في فنّ
السرد الروائي، أو القول الهادي الى عالم النفوس الرقيقة وسريرة المكان،
تبقى متعة السرد لديه ساحرة كما كانت متعة القراءة لدينا حاضرة.
حُسن عبود الحياة - 11/10/08//
قراءة مخطوط قديم اكتشف خارج تراب مصر الناشفة وبغير لغة صاحب التدوين
القبطية، مخطوط مثير للسجال، يستحضر ذاكرة البدايات ويوصل الى صفاء
الأشياء، يدخلك في صميم العمل. لذلك انصح القارئ عند قراءة رواية «عزازيل»
للدكتور يوسف زيدان (منشورات دار الشروق - القاهرة 2008), بتجاوز المقدمة
التي بدت غريبة لأول وهلة في هذا النوع الروائي التاريخي. فكيف يبدأ راوٍ
روايته بتبيئتها في أول الطريق للكشف عن زمنها الروائي، الذي يتفتح مثل
النهار عن سحره الذي نُسجت به الرواية الى النهاية (تاريخ ترجمة الرواية
المفترض من السريانية الى العربية 2004). والزمن أصلاً صيغ لنا نادراً كما
هو النص الذي يُعلن عن نشره للمرة الأولى نادر.
* * *
رواية
«عزازيل» هي كتابة على الرقوق (لفائف البردي) وضع لها المترجم عناوين
لتبويبها: الرق الأول (بدء التدوين) الرق الثاني (بيت الرب) الى الرق
الحادي والثلاثين (قانون الايمان). والسارد هو نفسه بطل الرواية الراهب
الذي يدوّن على طريقة الاسترجاع، وباللغة السريانية، وقائع حياته القلقة
والشكوك التي تملؤه:
«وأفضيت الى نسطور بفزعي من أنهار العنف التي
تتدقق في أرض الله، ورعبي من القتل المروّع الذي يجري باسم المسيح...
وصرّحت له باحتياجي الى اليقين، وافتاري اليه». (182).
يلتصق زمن السرد
بالزمن الحكائي أي لحظة التدوين، هي هي اللحظة الانتقالية التي يسترجعها
المدوّن بلحظات طيبة لأيام يعيشها في رهبنة قلقة وأديرة متباعدة. والمكان
ترحال خارجي بين مدن وادي نيل في مصر العليا من أخميم صعوداً الى
الاسكندرية فشرقاً الى أورشليم، ومن ثم الى الشمال الغربي من حلب. والمكان
أيضاً ترحال داخلي وجداني في حدود مساحة الدير التي يمشيها بين الصومعة
والمكتبة والكنيسة وبين السراج الذي يشعل نوره خافتاً للكتابة.
في الرق العاشر يخبرنا عن حضور زمنين في التدوين واسترجاع الماضي:
ها
قد امتلأ الرق، وما انتهت الذكريات التي صيّرتها الكتابة حاضراً يُعاش
مرتين، غير أنني أراها على نحو جديد كلما مضت السنون، وكلما استرجعتني من
الماضي البعيد. وها هو عقد التذكر ينفرط مني، ويكاد خيط التدبر ينقطع،
فلأرجع في الرق التالي الى حكاية ما جرى مع نسطور أيام لقيته للمرة الأولى
عند كنيسة القيامة. (171).
يتفاعل الراهب، الشخصية الرئيسية، صاحب
السرد ومحور المتن الحكائي مع شخصيات لعبت دوراً في دوائر الكنائس
المسيحية كالإسقف تيودور، والأسقف الانطاكي الشهير باسمه الكنسي نسطور (38
هيئته)، والأسقف اوغسطين (وصفه 39) وغيرهم. أما عزازيل، وهو شخصية لها
حضور كوني ولعب دوراً مميزاً في القلق الذي يعيشه فهو «من الراهب وفيه»
شيطان السلطة الزمانية (51 - 52), وهناك اطلالة شخصيات غريبة من وقت لآخر،
زوّار لهم حضور الصوفيين وأسئلة الحائرين:
«صعد الشاب والقرد النخلة
بلا مجهود كبير وكأنه يمشي على الأرض (59) ألقى في حجر هيبا البلح من دون
أن يقول شيئاً. كيف يصحب الملاك قرداً؟».
وللشخصيات النسائية حضور مع
أننا أمام راهب: فقد استضافت أوكتافيا راهبنا في بيتها بعد غرقه في بحر
الاسكندرية - ودخلت حياته كدخول حواء الى آدم في الجنّة (قصة حياتها 90)،
علمته الحب وقصت عليه القصص، وحكت له عن سيدها التاجر الصقلي. وسمع
لهيباتيا الفيلسوفة الاسكندرانية وأستاذة عصرها، محاضرة في الرياضيات،
وأحب مارتا التي ظهرت في مستقره الديري الأخير مطلّقة صبية جميلة، مغنية
في العربية والسريانية. هام بها الراهب وهامت به.
من هو الراهب بطل الحكاية؟
مسيحي
ولد لسنة احدى وتسعين وثلاثمئة للميلاد المجيد (391م) في نجع حمادي (صعيد
مصر). أي ولد بعد أن اصبحت المسيحية الدين الرسمي للامبراطورية البيزنطية،
وبعد أن دخلت كنيسة مصر المرقسية آنذاك في صميم الاختيارات اللاهوتية
الكبيرة حول طبيعة السيد المسيح الأولى قطبها روما والاسكندرية والثانية
القسطنطينية وانطاكيا. في هذه الأجواء أراد الراهب أن يستعيد للقارئ الزمن
المخيف الذي وجد نفسه داخل حلقته، وراهبنا ليس شخصية عادية فهو طبيب
وشاعر، يعاني جدلية بين قناعاته العلمية والفكرية وبين قناعات رجال الدين
الصاعدين. ويعاني جدلية أخرى بين الحياة التي اختارها كراهب في حدود الدير
بين الصومعة والكنيسة والمكتبة وبين رغباته كإنسان له جوعه وعطشه. في لحظة
من اللحظات التي رأى ما يقترفه أهل الديانة المسيحية بأهل الديانة الغابرة
رمى ثوب الرهبنة وخلع على نفسه اسماً جديداً، يقول: ورحت أتلو صلاة لم أكن
قد قرأتها من قبل في كتاب، ولا سمعتها في قدّاس... (164) انحنيت فغرفت
بكفيّ من الماء الطاهر، ووقفت فألقيته فوق رأسي، ليغسلني من كل الذي كان.
لحظتها، عمّدت نفسي بنفسي، وأعطيت لنفسي في لحظة الإشراق المفاجئ هذه
اسماً جديداً. هو الاسم الذي أعرف به الآن هيبا وما هو إلا النصف الأول من
اسمها (هيباتيا).
ولد الراهب هيبا لأب وثني، قتله المسيحيون، ولأم وشت
بأبيه لدى أقاربها الجهلة. درس في نجع حمادي وأخميم وانتظم سنين في كنيسة
أخميم الكبيرة ورآه معلّمه القسّ الأخميمي لائقاً بالرهبنة فرسمه حين
التمس منه ذلك «على لسان اندهاش بريء ساكن في عينيه». هيبا نحيل البنية
(65)، مفجوع «بكى بألم على مقتل أبيه طعناً بالسكاكين الصدئة» (41)، مؤدّب
مهموم بمصير صديقه وحبيبته وشيطانه: «ثالوث عذابي قد اكتمل. قلقي على مصير
نسطور، وشغفي بمصير مرتا، وطلات عزازيل المفاجئة (51)».
متقشّف على
عادة الرهبان المتوحدين في الأديرة على طول وادي النيل حيث يصف لنا هندامه
البسيط، حماره الذي يسافر عليه، المخلاة التي يقتات منها الحمار، ونومه
العادي جالساً، وانتظامه على الصلاة والصوم والقراءة «فلم أتناول طيلة
أيام الرحلة الثمانية، إلا البلح الجافّ والماء ورحيق صلواتي» (61).
للراهب
هيبا ثقافة مميزة، يقرأ اليونانية والعبرية والقبطية والآرامية، ويكتب
الشعر بالسريانية واليونانية، مع أنه مصري المولد والقبطية هي لغته الأم.
درس المنطق على يد رجل غير مسيحي، وقرأ لفيثاغورس في أخميم، يحتفظ بكنوز
من الكتب الممنوعة (والأناجيل المنحولة)، التي نسمع عنها في مكتبة نجع
حمادي، ككتاب أفلوطين المسمى التاسوعات، وكتاب آريوس الذي عنوانه ثاليا
(قصيدة مكتوبة بالقبطية على ورق البردي) انجيل توما، نسخة قديمة من انجيل
المصريين، وانجيل يهوذا، وسفر الأسرار... وخُطب شيشرون، و «مدينة الله»
للأسقف أوغسطين (الجزءان الأول والثاني منه)، الترجمة القبطية لميمر -
المرحلة المقدسة - كتاب مشهور في مصر أصله يوناني كتبه الأسقف ثيوفيلوس
السكندري (40) ولديه صور بديعة منها صورة الإله خنوم يصنع البشر من طين
الصلصال ثم ينفخ فيها آمون، ليهبهم الحياة.
وهو ذو اهتمامات علمية وشغف
بالبحث عن أصول الديانة المسيحية في الحضارة المصرية القديمة، كما سمعناه
يخبر الأسقف تيودور بوجود القس نسطور: أفكر كثيراً في أفلوطين، وفي مصر.
فأرى أن كثيراً من أصول الديانة أتت من هناك لا من هنا! الرهبنة، حب
الاستشهاد، علامة الصليب، كلمة الانجيل... حتى الثالوث المقدّس، هو فكرة
ظهرت أولاً بنصوع عند أفلوطين، وقد قال بكتابه التاسوعات...
قاطع هيبا
تأملات الأسقف قائلاً: لا يا أبتِ ثالوث أفلوطين فلسفي، هو عنده: الواحد
والعقل الأول والنفس الكلية، والثالوث في ديانتنا سماوي رباني: الأب
والابن وروح القدس، وشتّان بين الاثنين.
أجداده يعتقدون في ثالوث
إلهيّ، زواياه إيزيس وابنها حورس وزوجها أوزيريس الذي أنجبت منه دون
مضاجعة. فهل نعيد بعث الديانة القديمة؟ لا ولا يصح أن يقال عن الله إنه
ثالث ثلاثة. الله يا هيبا لا شريك له في ألوهيته. ولقد أراد آريوس أن تكون
الديانة لله وحده... اكتوى بنيران الاسكندرية اغتيل بالسمّ (54).
ويثير
هيبا سجالات لاهوتية، وينتقد المجامع الدينية التي حسمت الصراع بالنهاية
لمصلحة التفسير المجازي للعقائد لا التفسير التاريخي لها.
وأوضح أن
الراهب هيبا نسطوري الهوى والانتماء، وقد لعب نسطور دوراً في خياراته
الشخصية، بدءاً من زيارة الاسقف نسطور الى حجرته في أورشليم الى أن
استدعاه الى انطاكيا لمهمة عاجلة وخطرة. والنسطورية عقيدة لا تزال حية
ومنتشرة الى الآن في الشرق والغرب، ولا تزال تثير أسئلتنا الكثيرة. فقد
أثار نسطور بين تدربه في كنيسة انطاكية ورسمه أسقفاً للقسطنطينية عام
428م، حفيظة زملاء من أساقفة الاسكندرية بسبب رفضه انزال الألوهية الى
الارض، وقد اتهم انه يعلم ببشرية المسيح، وأنه يأخذ موقفاً حاسماً من لقب
«أم الإله» ثيوتوكس في اشارة الى مريم العذراء. وقد شكلت هذه العقائد
سجالات كبيرة على كل المستويات العامة والشعبية والسلطوية والبابوية
والامبراطورية شهدت عليها كثرة المجامع التي عقدت لنقاشها.
خُلع الأسقف
نسطوريوس في مجمع أفسس (431م) وفي عام 435 أمر ثيودوسيوس 11 بحرق كتاباته.
وقد انعقد مجمع خلقدونية (451م) للحسم في مسألة طبيعة المسيح. وكتب هيبا
في الرق الأخير عن قانون الايمان الذي أصبح القانون الرسمي للكنيسة.
إذاً،
غلبت على الراهب اهتماماته اللاهوتية على اهتماماته الأخرى في قضايا الأدب
والشعر والموسيقى والحب. وهيبا بليغ جداً يحفظ لغة الحب (89) وأشعار
هوميروس وبندار، وقرأ كذلك أعمال اسخيلوس وسوفوكليس. يعيش في القراءة ومع
المرأة شعائرياً وطقساً روحانياً. ويشكك في رواية الخطيئة الأولى لا لأنه
مارق بل لأنه يؤمن ان الانسان لا يمكن أن يقترف الخطيئة في سبيل المعرفة
الصحيحة:
«ترى، هل طرد الله آدم من الجنة لأنه عصى الأمر. أم لأنه حين عرف سرّ أنوثة حواء، فأدرك رجولته واختلافه عن الله؟» (90).
موقف
هيبا من المرأة كله إعجاب (مع انه يتنازل في كل مرة): حضر لهيباتيا
الفيلسوفة محاضرة عامة في الرياضيات في الاسكندرية، وسمى نفسه تيمناً
باسمها بعد أن شهد مقتلها. يعترف بأن للحب سلطاناً عليه، فيستسلم لغوايات
أوكتافيا، وفي أكثر من رقّ وبلغة أدبية يحكي لنا عن طقس الحب الذي لا
تواريه تابوهات:
حاجتنا للحب حقيقية «منديل لا للتغطية لكن للعشق»،
«ارتبكت حين انتبهت لانتصاب شيطاني من تحت سروالي المبلول بماء البحر
المالح» (81). أطعمتني كالطفل. شبعت حتى ظننت أنني لن أجوع بعدها أبداً».
ويصف جسده مثل الأرض التي عادة توصف بالأنثوي: كانت يدها تغوص فيّ، فتنهك
أرضي المستسلمة كلها، من أصابع قدمي الى سائر جسمي المتكوّم في حضنها».
في
«عزازيل» يغلب السرد على الحوار، بسبب طبيعة المتون والأقلام التي تجدّ
على الرقوق، وتتميز الحوارات بالهدوء مما يعني أن صاحب السرد لا يحتاج الى
الرفقة أو المشاركة في فعل السرد. والوصف (أو الوصل) غنيّ ينقل به هيئات
الشخصيات والأجواء التي يعيش لحظاتها والأحداث المريعة التي تحصل من أمامه
ومن ورائه.
يصف مقتل هيباتيا على يد بطرس القارئ ليشهدنا على تخاذله
بالدفاع عنها. ويصف مقتل اوكتافيا حاسرة الرأس صارخة بجنود الرومان..
ليقول لنا إنها ماتت من دون أن تراه (157).
يصف الألوان: «الأصفر لون
الموت والجدب، ولون معابد الآلهة المندثرة... ولون الخريف والخطيّة».
والأبيض «لون المنديل الكبير، والثوب الشفيف، والنهد المطل، والبشرة
والدهشة». (81).
* * *
نجح يوسف زيدان في رسم صورة الراهب وفي سردية
الأحداث من حوله، وللمرة الأولى تستعاد في شكل روائي أحداث السجالات
العقدية المسيحية القديمة وأثرها على الفكر والفلسفة والعلوم. وهذا مما
نعتبره، في أجواء الاصولية الاسلامية والصراعات حول الاسلام اليوم خروجاً
عن الخطاب المهيمن والمألوف.
ونجح يوسف زيدان في اعادة الاعتبار
للثقافة الهيلينستية التي شاركت في التفاعل الحضاري لكلّ من المسلمين
والمسيحيين، والتي يعدّ الكلام في حضارتها من التابوهات. وقد كشف صاحب
الحكاية عن تسلط المؤسسة الدينية حال وصولها الى الحكم مما شغل المسيحية
الشرقية المبكرة في صراعات وصلت الى حدّ العنف والقتل والغاء الفكر
والتعددية و «الآخر» وهذا مما حصل ليس في المسيحية فقط بل في الاسلام،
وللتاريخ الاسلامي سجّل حافل نذكر منه محنة خلق القرآن على يد المأمون وما
حصل بعدها من تراجع فكري وحضاري.
ونجح يوسف زيدان في دخول عالم الراهب،
حين صوّر لنا الرهبنة في التعبّد والتقشّف وصراع الأضداد الذي ينتج منه
استنفارات «عزازيل» في الأوقات الحرجة كما في الأوقات الفرحة في أوقات
الحب كما في أوقات الارتقاء بالروح. وقد شعرنا في لحظات لها من الدقة
بوجود «عزازيل» وجوداً مثيراً قد ينافس البطل في دوره الأساسي القائم على
جدلية الوجود.
* * *
بعد الانتهاء من الرواية عدت الى شخصيات
المخطوط الخارجي في الاطار، في مقدمة الرواية: فهناك الراهب العربي، من
أتباع كنيسة الرّها التي اتخذت النسطورية مذهباً لها، وهو من اهتم باضافة
الحواشي والتعليقات المكتوبة بخط نسخي دقيق على اطراف الرقوق في حدود
القرن الخامس الهجري (أي القرن الحادي عشر ميلادي). وهناك المترجم الذي
أوصى أن تنشر (بعد وفاته) ترجمته الأمينة لمجموعة اللفائف (الرقوق) التي
اكتشفت قبل عشر سنوات في الخرائب الأثرية الواقعة الى جهة الشمال الغربي
من مدينة حلب. اذاً، أضاف الروائي زيدان ثلاثة أزمنة الى زمن هيبا المضاعف
بالحكاية والخيال: زمن الراهب العربي وزمن المترجم من السريانية الى
العربية، وزمن يوسف زيدان الاسكندراني.
كما أن هناك أزمنة متراكمة في
حياة المخطوطات التي تكون أحياناً موقعة وأحياناً مطوية، وأحياناً كثيرة
مدفونة في الرمال الى حين، فإن في حياتنا اليوم زمناً واحداً يغلب عليه
الجهل بجوهر الأشياء. سررت بهذه الرواية لأزمنتها المتراكمة ولحظتها
المتأزمة ولغتها الصوفية، ولا اعتبر هذه المراجعة قد وفت زيدان حقه في فنّ
السرد الروائي، أو القول الهادي الى عالم النفوس الرقيقة وسريرة المكان،
تبقى متعة السرد لديه ساحرة كما كانت متعة القراءة لدينا حاضرة.
حُسن عبود الحياة - 11/10/08//
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» عن النار التي وراء دخان يوسف زيدان - ياسين عدنان
» هوامش للكتابة - إشكالية «عزازيل»
» رحلة جرجي زيدان إلى فلسطين ومشاهداته معالم خطر الاستيطان الصهيوني / محمد عويس
» جرجي زيدان المفكر المسيحي العربي ورؤيته للإسلام وحضارته
» رواية هالة كوثراني، « استديو بيروت»
» هوامش للكتابة - إشكالية «عزازيل»
» رحلة جرجي زيدان إلى فلسطين ومشاهداته معالم خطر الاستيطان الصهيوني / محمد عويس
» جرجي زيدان المفكر المسيحي العربي ورؤيته للإسلام وحضارته
» رواية هالة كوثراني، « استديو بيروت»
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى