الوزان في بلاد السنغي
صفحة 1 من اصل 1
الوزان في بلاد السنغي
كان الوزان الذي عُرف في أوروبا, بعد أسره في البلاط البابوي, بـ «ليون
الأفريقي» شغوفاً في صباه بالثقافة وباستنساخ شواهد قبور العظماء من
الرجال، ولا يوازي شغفه هذا سوى كلفه بالترحال والتجوال لمعرفة أحوال
العالم. ولقد قيض له أن يروي تعطشه ذاك وهو في السابعة عشرة من عمره، وذلك
عندما اصطحبه خاله في رحلته (السفارية) إلى بلاد السنغي (السنغال) حاملاً
رسالة من سلطان فاس إلى سلطان السنغي أبي بكر أسكيا محمد، لتوثيق العلاقة
بين البلدين المسلمين في فاتحة القرن السادس عشر المليء بالمخاطر عام
1504، فقادته رحلته الأولى هذه عبر جبال الأطلسي وسجلماسة إلى المنبسط
الصحراوي ثم إلى ولاتة وتومبكتو اللتين أضحتا حاضرتين للإمبراطورية
السنغالية في زمن أعظم سلاطين السنغي قاطبة أسكيا محمد الذي حكم ما بين
1493 و 1521 وأسس أسرة ملكية جديدة هي أسرة أسكيا.
ووسع مملكته إلى
حدودها القصوى، وقام بحجته الشهيرة التي ذاع صيتها بطريقة مماثلة لحجة
السلطان المالي منسا موسى؛ وقد تحدث الوزان عن حجته تلك بقوله، أنه «عندما
فرغ من نشر السلام والهدوء في مملكته، شعر برغبة في أداء شريعة الحج إلى
مكة، وأنفق في هذه الحجة كل خزينته، وبلغت ديونه خمسين ألف دينار»، ولقد
وصف كرم أسكيا محمد وعدله الذي نشره في بلاده، كما سجل كلٌّ من السعدي
وكعت وقائع تلك الحجة بطريقة مفصلة.
التقى في مكة الخليفة العباسي
المتوكل، فقدّم له الولاء، فعينه بدوره والياً على بلاد السودان، حيث روى
السعدي «ولقي في ذلك الأرض المبارك: الشريف العباسي، فطلب منه أن يجعله
خليفة في أرض سغي، فرضي له بذلك وأمره أن يسلم في أمرته التي هو فيها
ثلاثة أيام ويأتيه في اليوم الرابع، ففعل. وجعله خليفته. وجعل على رأسه
قلنسوة وعمامة من عنده، فكان خليفة صحيحاً في الإسلام».
وأثناء رجوعه
إلى مصر التقى الشيخ عبد الرحمن السيوطي، فتأثر بآرائه؛ ولقد أذاع كعت تلك
الحوارية التي جرت ما بين الاثنين، مقدماً لذلك برواية السيوطي لحديث نبوي
مزعوم يتنبأ فيه محمد (صلى الله عليه وسلم) بأن يكون اثنان من
(السودانيين) من الخلفاء، بالمعنى الحقيقي والشرعي للخلافة، وهو ما يرفع
من شأن السودان ومن مكانتهم الرمزية في التاريخ الروحي للإسلام.
وهكذا
صادفت رحلة الوزان الأولى عهد ذلك السلطان أسكيا محمد، وفي رحلته الثانية
التي يعتقد أنه قام بها في عام 1512، بتكليف من سلطان فاس الذي حمَّله
رسالة إلى أسكيا محمد العظيم، الذي تحدث عنه الوزان نفسه، مما يدل على
معرفته به وبمكانته، لولا أنه أرجع نسبه إلى أصول ليبية، فيقول عنه:
«والحقيقة أن ملك تومبكتو الحالي أبو بكر أسكيا، هو من عرق أسود، وقد سمّى
قائداً عاماً لقوم سوني علي، وملكاً على تومبكتو وغاءو، وهو من أصل ليبي».
ولقد
عبر الوزان في رحلته الطريق الممتدة ما بين فاس وتومبكتو إلى مصر، ماراً
ببلاد الهوسة وبورنو وكانم ومملكة غاوغة في شرق تشاد، ويمكننا الوثوق بأن
الوزان مر برحلتيه إلى تومبكتو، لعل الأولى عام 1504م والثانية كما يظن
عام 1512، لكننا لا نعرف بالضبط المدن والبلاد التي زارها، إلا أنه من
المؤكد أنه وصل إلى تومبكتو في طريقه إلى مصر، وربما زار العاصمة غاو.
ولقد
أشار عند حديثه عن رحلته النهرية إلى جني ومالي - لعله يقصد عاصمة مالي
نياني Nian أو مالي بقوله: «ركبنا من هذا النهر (النيجر) بالفعل منطلقين
من تومبكتو شرقاً، وسرنا مع تيار الماء إلى مملكة جني وحتى مملكة مالي،
وكلاهما على الغرب من تومبكتو»، ويؤكد أنه لم يلزمه سوى اثني عشر يوماً
بمحاذاة النيجر لبلوغ مدينة غاو. فدَّون الوزان انطباعاته عما شاهده وخبره
في رحلته الطويلة إلى مدن السنغي أو التابعة لسلطانها، أو ما سمعه عنها من
أهالي السنغي أو ممن عرفوها، حيث اعتمد في وصفه وتقصيه ذاك على تناول
مدينة إثر أخرى، فقدم صورة إثنوغرافية شاملة عن حياة أهل تلك المدينة بما
فيها علاقاتها التجارية وثرواتها وأشكال السلطة عندها، مطلقاً على كل
مدينة اسم (مملكة) مع معرفته بتبعيتها بالنهاية للسلطان (أسكيا محمد)
والذي عرف مدى سطوته ومكانته السياسية في حياة تلك البلاد، مازجاً تدوينه
الموضوعي بأحكامه العامة المستقاة من ثقافته العربية الإسلامية التي ظلت
تلازمه كمرجعية مؤسسة على رغم أسره وتغربه في البلاط البابوي وإعلان
نصرانيته، فامتزج الموضوعي في وصفه بالتخيلي والقيمي.
ومع أننا لا ندري
ما مدى تأثير ترحيله إلى بلاد المغرب مع عائلته من بلاد الأندلس بعد سقوط
غرناطة على تكوين موقفه من «الآخر»، إلا أننا نلمس بعض الأحكام التبخيسية
هنا وهناك بحق أهل السنغي، يجاورها تقديره وإطراؤه لبعض جوانب الحياة
الأخرى عندهم.
لقد تواقتت رحلة الوزان مع زوال عظمة مالي بعد أن تحولت
السيادة إلى إمبراطورية السنغي في زمن أسكيا محمد الذي حول تمبكتو -كما
يشرح الوزان- إلى عاصمة مملكته، وبذلك تحول مركز الثقل التجاري والاقتصادي
إلى انحناءة النيجر وإلى تمبكتو على وجه خاص. كما عكس الوزان لنا التبدلات
الحاصلة على تلك المدن التي زارها أو سمع بها نتيجة لهذا التحول الكبير،
فيظهر من خلال تقصيه حال بعض المدن وبخاصة ولاتة التي يسميها (غوالاطة)
وتومبكتو - وهما مدينتان كان ابن بطوطة قد خبرهما ووصفهما قبله بمئتي عام
- فلاحظ الوزان التبدل الحاصل في أوضاعهما بعد هذا الزمن الطويل، ومع
تبدل السيادة من مالي إلى السنغي.شمس الدين الكيلاني الحياة - 25/10/08//
* كاتب سوري
الأفريقي» شغوفاً في صباه بالثقافة وباستنساخ شواهد قبور العظماء من
الرجال، ولا يوازي شغفه هذا سوى كلفه بالترحال والتجوال لمعرفة أحوال
العالم. ولقد قيض له أن يروي تعطشه ذاك وهو في السابعة عشرة من عمره، وذلك
عندما اصطحبه خاله في رحلته (السفارية) إلى بلاد السنغي (السنغال) حاملاً
رسالة من سلطان فاس إلى سلطان السنغي أبي بكر أسكيا محمد، لتوثيق العلاقة
بين البلدين المسلمين في فاتحة القرن السادس عشر المليء بالمخاطر عام
1504، فقادته رحلته الأولى هذه عبر جبال الأطلسي وسجلماسة إلى المنبسط
الصحراوي ثم إلى ولاتة وتومبكتو اللتين أضحتا حاضرتين للإمبراطورية
السنغالية في زمن أعظم سلاطين السنغي قاطبة أسكيا محمد الذي حكم ما بين
1493 و 1521 وأسس أسرة ملكية جديدة هي أسرة أسكيا.
ووسع مملكته إلى
حدودها القصوى، وقام بحجته الشهيرة التي ذاع صيتها بطريقة مماثلة لحجة
السلطان المالي منسا موسى؛ وقد تحدث الوزان عن حجته تلك بقوله، أنه «عندما
فرغ من نشر السلام والهدوء في مملكته، شعر برغبة في أداء شريعة الحج إلى
مكة، وأنفق في هذه الحجة كل خزينته، وبلغت ديونه خمسين ألف دينار»، ولقد
وصف كرم أسكيا محمد وعدله الذي نشره في بلاده، كما سجل كلٌّ من السعدي
وكعت وقائع تلك الحجة بطريقة مفصلة.
التقى في مكة الخليفة العباسي
المتوكل، فقدّم له الولاء، فعينه بدوره والياً على بلاد السودان، حيث روى
السعدي «ولقي في ذلك الأرض المبارك: الشريف العباسي، فطلب منه أن يجعله
خليفة في أرض سغي، فرضي له بذلك وأمره أن يسلم في أمرته التي هو فيها
ثلاثة أيام ويأتيه في اليوم الرابع، ففعل. وجعله خليفته. وجعل على رأسه
قلنسوة وعمامة من عنده، فكان خليفة صحيحاً في الإسلام».
وأثناء رجوعه
إلى مصر التقى الشيخ عبد الرحمن السيوطي، فتأثر بآرائه؛ ولقد أذاع كعت تلك
الحوارية التي جرت ما بين الاثنين، مقدماً لذلك برواية السيوطي لحديث نبوي
مزعوم يتنبأ فيه محمد (صلى الله عليه وسلم) بأن يكون اثنان من
(السودانيين) من الخلفاء، بالمعنى الحقيقي والشرعي للخلافة، وهو ما يرفع
من شأن السودان ومن مكانتهم الرمزية في التاريخ الروحي للإسلام.
وهكذا
صادفت رحلة الوزان الأولى عهد ذلك السلطان أسكيا محمد، وفي رحلته الثانية
التي يعتقد أنه قام بها في عام 1512، بتكليف من سلطان فاس الذي حمَّله
رسالة إلى أسكيا محمد العظيم، الذي تحدث عنه الوزان نفسه، مما يدل على
معرفته به وبمكانته، لولا أنه أرجع نسبه إلى أصول ليبية، فيقول عنه:
«والحقيقة أن ملك تومبكتو الحالي أبو بكر أسكيا، هو من عرق أسود، وقد سمّى
قائداً عاماً لقوم سوني علي، وملكاً على تومبكتو وغاءو، وهو من أصل ليبي».
ولقد
عبر الوزان في رحلته الطريق الممتدة ما بين فاس وتومبكتو إلى مصر، ماراً
ببلاد الهوسة وبورنو وكانم ومملكة غاوغة في شرق تشاد، ويمكننا الوثوق بأن
الوزان مر برحلتيه إلى تومبكتو، لعل الأولى عام 1504م والثانية كما يظن
عام 1512، لكننا لا نعرف بالضبط المدن والبلاد التي زارها، إلا أنه من
المؤكد أنه وصل إلى تومبكتو في طريقه إلى مصر، وربما زار العاصمة غاو.
ولقد
أشار عند حديثه عن رحلته النهرية إلى جني ومالي - لعله يقصد عاصمة مالي
نياني Nian أو مالي بقوله: «ركبنا من هذا النهر (النيجر) بالفعل منطلقين
من تومبكتو شرقاً، وسرنا مع تيار الماء إلى مملكة جني وحتى مملكة مالي،
وكلاهما على الغرب من تومبكتو»، ويؤكد أنه لم يلزمه سوى اثني عشر يوماً
بمحاذاة النيجر لبلوغ مدينة غاو. فدَّون الوزان انطباعاته عما شاهده وخبره
في رحلته الطويلة إلى مدن السنغي أو التابعة لسلطانها، أو ما سمعه عنها من
أهالي السنغي أو ممن عرفوها، حيث اعتمد في وصفه وتقصيه ذاك على تناول
مدينة إثر أخرى، فقدم صورة إثنوغرافية شاملة عن حياة أهل تلك المدينة بما
فيها علاقاتها التجارية وثرواتها وأشكال السلطة عندها، مطلقاً على كل
مدينة اسم (مملكة) مع معرفته بتبعيتها بالنهاية للسلطان (أسكيا محمد)
والذي عرف مدى سطوته ومكانته السياسية في حياة تلك البلاد، مازجاً تدوينه
الموضوعي بأحكامه العامة المستقاة من ثقافته العربية الإسلامية التي ظلت
تلازمه كمرجعية مؤسسة على رغم أسره وتغربه في البلاط البابوي وإعلان
نصرانيته، فامتزج الموضوعي في وصفه بالتخيلي والقيمي.
ومع أننا لا ندري
ما مدى تأثير ترحيله إلى بلاد المغرب مع عائلته من بلاد الأندلس بعد سقوط
غرناطة على تكوين موقفه من «الآخر»، إلا أننا نلمس بعض الأحكام التبخيسية
هنا وهناك بحق أهل السنغي، يجاورها تقديره وإطراؤه لبعض جوانب الحياة
الأخرى عندهم.
لقد تواقتت رحلة الوزان مع زوال عظمة مالي بعد أن تحولت
السيادة إلى إمبراطورية السنغي في زمن أسكيا محمد الذي حول تمبكتو -كما
يشرح الوزان- إلى عاصمة مملكته، وبذلك تحول مركز الثقل التجاري والاقتصادي
إلى انحناءة النيجر وإلى تمبكتو على وجه خاص. كما عكس الوزان لنا التبدلات
الحاصلة على تلك المدن التي زارها أو سمع بها نتيجة لهذا التحول الكبير،
فيظهر من خلال تقصيه حال بعض المدن وبخاصة ولاتة التي يسميها (غوالاطة)
وتومبكتو - وهما مدينتان كان ابن بطوطة قد خبرهما ووصفهما قبله بمئتي عام
- فلاحظ الوزان التبدل الحاصل في أوضاعهما بعد هذا الزمن الطويل، ومع
تبدل السيادة من مالي إلى السنغي.شمس الدين الكيلاني الحياة - 25/10/08//
* كاتب سوري
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» صدق او لا تصدق
» بلاد جبالة
» لغة التواصل بين سكان بلاد الشام والفرنجة خلال الحروب الصليبية
» بلاد جبالة Pays de Jbala
» Région des Jebalas (jbala) /// بلاد جبالة
» بلاد جبالة
» لغة التواصل بين سكان بلاد الشام والفرنجة خلال الحروب الصليبية
» بلاد جبالة Pays de Jbala
» Région des Jebalas (jbala) /// بلاد جبالة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى