من طرف said السبت 25 أكتوبر 2008 - 16:48
لم يعزب عن بالي وأنا أقارب تجربة الشاعر محمد الشيخي أن موقف الناقد الأدبي من أي أثر فني يتناوله ينبغي ألا يكون موقف العابد أو العاشق، مهما كانت علاقته بالنص وصاحبه، وإني وإن كنت أفخر أنني من شهود ولادة بعض ملامح تجربة هذا الشاعر على مدى من السنوات يتجاوز مع بداية عامنا هذا(2008) الأربعين سنة بقليل، فإن ذلك يزيد في منعي من أن أقف على النقيض من أن تكون قراءتي لمتن شعر محمد الشيخي كقراءة محمد نور لكتاب «في الشعر الجاهلي» الذي شهد على نفسه أنه أنطلق فيها باحثا عن أي ثغرة ينفذ منها إلى إدانة الكتاب وصاحبه، مفضلا أن أكون العاشق لا القاضي، وإنني وإن كنت أخشى أن تكون كلمتي في مناسبة كهذه محض مجاملة، أو مجرد تحية في مناسبة تكريمية، إلا أنني لن أجانب الصدق وأنا أعود إلى ديوان هذا الشاعر الذي يتكون من أربع مجموعات كتبت على مدى الأربعين سنة المذكورة، دون أن أعمل فيها مبضعا مّا، أو مسطرة قاض، أو ينطلق لساني بنصح لمن قاربت ممارسته للشعر ، قراءة وكتابة وتدريسا عمرًا أهله لكي يكون عن حق الشاعر والناقد والأستاذ الذي تشد إليه الرحال ، نـُشدانا لقصيدة أو طلبًا لرأي، أوالتماساً لشهادة ، وقد كان في شخص الشاعر محمد الشيخي ما يؤهله لهذه الأدوار الثلاثة، فهو الشاعر الذي اجتهد في تجويد القصيدة ، والناقد ألذي لا يتعجل في تقديم بيان بعثرات هذا أو ذاك, لكنه لا يبخل في التشجيع والحث على الإبداع، وأنا الذي عاشرت هذا الشاعر زمنا طويلا، لم أره مرة يشنع بأي عيب على ما كتبتٌ ، و عندي من تلك العيوب ما يعيي العد، ويفوق الوصف، لكن هذا الصمت المحبب بين سماته الشخصية غلب حتى على طبع الناقد والأستاذ فيه، فكأن هذا الشاعر يراكم ما يراكم من خبرات ، لا ليتباهى بها مستعرضا إياها أمام الآخرين , لكن لغوصه الخاص إلى أعماق المواقف والتجارب، أو التحليق إلى آفاق الفكر والرؤى،نظريات وممارسات، ولهذا حقق الشاعر محمد الشيخي في شعره المعادلة الصعبة بين الفني والفكري ، ووازى في ممارسته الشعرية بين القصيدة التي لا تغفل عن جماليات التعبير ، ولا تبتعد عن المضمون العميق الدال على الترابط الجامع بين الممارسة الفنية، وتجربة الحياة بكل ما تطرحه من أسئلة عن محنة الوجود ومعاناة الذات، وغربتها وضياعها ، على أبواب هذا العالم الموبوء ، الذي لا يتوقف عن امتحان الإنسان في شتى المواقف ومختلف الأحوال .فلو أعدتَ قراءة تلك المجموعات مرتبة بحسب تواريخ صدورها لتكوّن عندك مثل هذا الإحساس الذي تكوّن لديّ ، بما يوجد في عمقها من تفاعل لم يتوقف، وحركة لا تزال مستمرة، يدلان على تفاعل وعي الشاعر مع تحولات مراحل الممارسة الشعرية ، وتطور النظر إلى الشعر في المغرب، فبين كل قصيدة في شعره جدل لافت مع اللحظة التاريخية ، وصيرورة القصيدة التي انطلقت من قول العالم وعلاقاته في نماذجها الأولى في ديوانه البكر «حينما يتحول الحزن جمرا»، فالقصيدة مشتعلة منخرطة في هموم اليومي والعابر، ويشهد كل دارسي الشعر المغربي ونقاده ، أن مرحلة السينيات والسبعينيات حاصرت قول المغاربة الشعري، فلم يفلت منها شاعر، صوفيا ميتافيزيقا كان، أم مؤدلجا للإنسان في كافة أشكال الصراع التي يخوضها هذا الكائن مع نفسه، أو محيطه، أو مع أخيه الإنسان، كانت سنوات الجمر والرصاص وتحدياتها قد أطبقت على الوعي الفني والفكري ، ووسمت الممارسات الأدبية والشعرية ، رغم كل ظروف القمع الحصار، فكان طبيعيا أن يستجيب الشعر لنبض الجماعة ، وهذا ما عكست جانبا منه قصائد مجموعة محمد الشيخي الشعرية الأولى ، ليظل الثقل الإيديولوجي مهيمنا على قصائد ديوانه الثاني (الأشجار) وموجها لرموزها، بدْءا من إيحاءات هذا العنوان ، الذي لا تخفى أبعاده السياسية ، مع عدم إنكار الإيحاءات الأخرى لهذه اللفظة التي جاءت منفردة في هذا العنوان ، فالأشجار تدخل حياتنا الحميمة لتكون أقرب إلينا من أي شئ آخر ، توفر لنا الحماية والدفء والستر، فليس أقرب إلينا منها إلا هذا الماء الذي منه جاءت وجئنا ، لكن الأشجار في حضورها الرمزي تقوم بدور أسمى وأجمل وأقوى ، فهي رمز العطاء والصمود والاستشهاد ، فـ « في الأشجار شيء فردوسي يذكرنا دائما بالجنّة الأولى» كما يعبر الشاعر اللبناني شوقي بزيع، فهذه الأشجارـ بتعبير نفس الشاعر أيضا ـ كائنات رائعة تهب دائما من جهة الطفولة (...) تلفح العمر بشكل متواصل .(1) وكأننا بالشاعر وهو يتطلع إلى «فضاء الحلم المستحيل» وإلى «أندلس المحال » لا يتطلع لغير زمن الطفولة الشخصي، وإلى البراءة على مستوى الواقع العام المدان، تاريخيا وسياسيا.وليس غريبا أن تنطق مجموعة «الأشجار» ببعض هذه الدلالات ، على المستويين الخاص والعام، في مرحلة حكمت القصيدة المغربية فيها بنية الشهادة والاستشهاد ، بتعبير شاعر كبير وناقد متميز، من نقاد مرحلة السبعينات، هو الشاعر المرحوم عبد الله راجع، هذا بالإضافة إلى ما تشير إليه علاقات تناص، أدبي ثقافي، في هذا العنوان مع المثل الإسباني السائر «الأشجار تموت واقفة» الذي كان الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو قد جعله عنوانا لأحد دواوينه.وتتنامى تجربة الشاعر محمد الشيخي ، بما يدل على تطور وعيه بالعالم ورؤيته إلى علاقاته، وتغير أدواته الفنية ، دون أن يختار طريق التجديد ـ غير المحسوب العواقب ـ الذي يستوحي تجارب غربية أصبحت تدافع عن نظريات شعرية تجد جذورها في شعر الآخر وشعريات ثقافات أخرى، لكنها رهنت وعينا الحميم بآفاق غريبة ، وربطت أجنحة شعرائنا بأقفاص مانعة من أية حركة تسمح للذات بالتحرر، بله الإبداع الذي يجب أن يتجاوز كل الحدود ، لم يخرج الشاعر محمد الشيخي إلى الكتابة الشعرية النثرية ، وكانت خطواته محسوبة ،وأشعاره مقطرة، ملتزمة بضوابط فن الشعر العربي،الذي يحقق منجزاته التاريخية في خدمة لغة شعرنا و تثويرها، غير متجاوز لبنيات الصرف والنحو المتصلة بالجملة العربية الجميلة، ولا عن مستوياتها في التركيب والدلالة والرمز ، فظل متمسكا على المستوى الصوتي بالتكوينات الموسيقية من خلال تعامله مع ما تسمح به التفاعيل العروضية التي يرتاح لها ،دون وقوع في أسر الحساسية اللغوية التقليدية، فجاءت قصيدة محمد الشيخي نسيجا متميزا عما يملأ ساحتنا الشعرية في المغرب والوطن العربي من أصوات متشابهة تتوسل إلى الشعر بالنثر، وكأنها مازالت وهي تدعي أنها تجدد مرتبطة بأقدم ما وسم النظر الشعري عند العرب في عصورهم الأولى حين فضلوا الشعر على النثر ، بادعاء أن للشعر مصادر فوقية خارقة ، لم يعد لمثل هذه المعتقدات في زماننا ما يبررها ، بعد أن زالت مزاعم الإلهام والموهبة وتوجيههما لقدرات الشاعر أو المنتج الفني، بعد أن أسقط النقد الحديث أي أثر للإلهام في أنتاج النص الجيد، وبعد أن جعل تشيكوف الموهبة نتاج عمل، فإذا ربطنا بين الشعر ولغته وما ينبغي للشاعر أن يوفره لها من بحث جمالي ، ومنجزات لا تتوقف عرفنا أن الأدب بنمطي إنتاجه في النثر والشعر، إنما يوفران للغة ما يجعلها قادرة على قول الجديد، وعلى التحرر من أسر الماضي، فالتعبير عن الجديد الفني مرتبط بالتحولات ألتي يجب عدم الوقوف ضدها، ولم تغامر قصيدة الشيخي بملامحها الخاصة التي تشكلت لها ، ولم تقف في الآن نفسه ضد تطورها الدلالي والمعجمي، فغيرت جلدتها دون أن تغير شخصيتها وعمقها : فانتماؤها الفني بدأ في مرحلة التسعينات وما كتبه مع بداية الألفية الثالثة بعد سنة ألفين(2000) يتخذ توجهات للغوص في الذات وتناول خصوصياتها، بما يجعل من القصيدة مجالا لبناء عوالم النفس الحميمة، والفرار إلى أجمل الآفاق في مسعى لتطوير الحلم بأجمل الأوطان ، فعمّ يبحث الشاعر في غرناطة التي تعلق بها - أعن صورة الزمن الضائع يبحث - أم عن وطن الحلم وطفولة الماء ووردة المستحيل؟ إننا لو جمعنا بين الكلمات الواقعة مضافا في هذه العبارات الثلاث «وطن الطفولة والوردة » وبين الثلاث الأواخر الواقعة مضافا إليه «الحلم والماء والمستحيل» لانفتحت أمامنا حقول دلالية غنية الإيحاء، واسعة المعاني والمرامي، كلها مما يكشف عن أشياء في نفس الشاعر محمد الشيخي ، منها ما يظهر جليا صريحا في شعره ، ومنها ما يكتفي بالإشارة البعيدة إليه، تعريضا أو رمزا أو إيماءً وتلويحا.وقد لاحظ قبلي الناقد الصديق نجيب العوفي أن في شعر محمد الشيخي احتفاء بهيا بالحلم (2)، هو احتفاؤه البهي ذاته بالتطلع إلى المستحيل الذي لا نجد له دلالة أقرب من إحساسه بالضيق من واقع خانق للأرواح ، مخيب للآمال ، ولو سمحت هذه العجالة بالتحليل البلاغي لبعض قصائد الشاعر لاستنطقنا بعض عباراته محللين شيئا من إشاراته إلى معان لا تكشف عنها إلا دلالة السياق ، أبرزها:هذه العبارات الجميلة الموحية التي جعلها الشاعر عناوين لمجموعاته الشعرية الأربع ، منها ما يدل على واقع اللحظة التاريخية الراهنة في ديوانيه الأخيرين «وردة المستحيل» و «ذاكرة الجرح الجميل» فإن وردة التاريخ التي يبحث عنها محمد الشيخي في حدائق ماضي وحاضر غرناطة تتنافر ، في رؤيا مؤلمة، مع مستحيل الجرح الجميل، وما أكثر ما ينبثق من صور جميلة عن تصحيف هذا العنوان مع قراءة الجُرح جَرحا، لتتوالد من هذا المجاز العقلي أبعاد و صور، فتصبح الذاكرة بما هي تاريخ، ذاكرة الشاعر نفسه ، وذاكرة الشعر أيضا، تاريخ جراح وآلام فردية وجماعية ، كان الشاعر محمد الشيخي خلال مراحله الفنية جميعها ، يصغي فيجيد الإصغاء إلى ذاته ومجتمعه، فيعبر بشعر لا يتوقف عن التحول، لكن دون تفريط في الضوابط الفنية التي أختار بعضهم التخلي عنها ، حتى لم نعد نميز فيما يكتبون ملامح فنية من أي نوع ، أو غير فنية، أو أية خصائص أسلوبية تنقذ المتلقي من وهاد الإبهام، وليس الغموض الذي يتعللون به كظاهرة فنية، فـ (أفخر الشعر ما غمُض)، كما لا يخفى ، ولكنها مذاهب في الإبهام تذهب بالقارئ المسكين على أسوإ الطرائق والآفاق.وأستطيع الجزم ، رغم الصفة الاحتمالية للغة الشعر ، أن الشاعر لم يذهب بعبارة (وردة المستحيل) ليدل على الشعر، أو ليشير إلى شئ من ذلك، فإذا صح الحديث عن ممكن يسعى الشاعر إلى معانقته في عالم كثرت مستحيلاته فهو الشعر ، وإن شهد أكثر الشعراء أن الوصول إلى القصيدة النموذج، والمثال الكامل، هو طموح لا يتوقف عن إغراء الشاعر،بل وإغوائه، لذلك لا ترضينا أية قصيدة تتحقق تحت أصابعنا، دون أن يتبادر إلى أذهاننا أن الوصول إلى الشعر شئ مستحيل.أما هذا الجريح الجميل ، صاحب هذه الذاكرة الجريحة، فقد حمل صليب عبارته، واختار أن يقطع الطريق الطويلة والشاقة : طريق الإبداع غير متذمر أوشاك، كأي مبدع صادق، وقديما قال احد الفلاسفة : إذا أردت أن تبدع أدبا عظيما فكن صادقا ، ويكفي الشاعر محمد الشيخي أنه كان في كل ما كتب شاعرا صادقا.وإني لأعتز، شديد الاعتزاز، بأن ما سيبقى مما يجمعني بهذا الشاعر، هو صدق شهادتي ، الآن وفي كل المواقف ، ماضيا وراهنا ومستقبلا، عن عمق حب محمد الشيخي للشعر والناس، وشدة إخلاصه للكلمة التي جمعتنا حولها صداقة وطيدة كانت وستبقى ـ هي أيضاً ـ ما بقيت السموات والأرض.(٭) يتكون ديوان الشاعر محمد الشيخي من أربع مجموعات شعرية هي:ــ حينما يتحول الحزن جمرا، منشورات الجامعة- سنة 1983ـ الأشجار، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء 1988ـ وردة المستحيل، منشورات : فضاءات مستقبلية 2002ـ ذاكرة الجرح الجميل، منشورات فضاءات مستقبلية 2000(1) في حوار معه نشر بجريدة السفير اللبنانية أجراه اسكندر حبش. (2) نجيب العوفي: في « هو الشعر يقطف وردة المستحيل »، ديوان «وردة المستحيل» ص 93.
أحمد بنميمون
2008/10/24|