رحلة الإيمان.. استجابة لنداء الرحمن

الحج في الأساس رحلة لا تخلو من المشقة والتعب، وتتطلب بذل المزيد من
الجهد والتحمل والصبر، لذلك فإن الحج جهاد، إلا أنه لا شوكة فيه ولا طعان
ولا نزال.
وإذا كانت رحلات السياحة والسفر، للاستجمام والراحة، فإن
هذه رحلة إيمانية يؤدي الإنسان خلالها واجبات ويأتي بأعمال كتبها الله
عليه ويبتغي من ورائها الأجر، فهو يلبي النداء الخالد ويستجيب للدعوة
الكريمة «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج
عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير».
وعلاوة على ما في هذه الرحلة من
المعاني الإيمانية فإن فيها منافع وفوائد دنيوية، ففيها تحريك لعجلة
الاقتصاد والأسواق والتجارة، ووسائل النقل والاتصالات، والعقار، والمواد
الغذائية وكثير من السلع والبضائع الأخرى «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا
من ربكم» قال أبو صالح مولى عمر: يا أمير المؤمنين، كنتم تتجرون في الحج؟
قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟! وجاء في سبب نزول الآية أن الناس
كانوا يتحرجون من التجارة والبيوع في موسم الحج ويقولون: هذه أيام ذكر،
فأنزل الله الآية «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم». ولما كان
السفر والتجمع والازدحام مظنة ضيق الصدور وسوء الأخلاق، فرض الله على
الحاج سلوكا منضبطا، لأنه في عبادة قدسية «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن
الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج..» فالحج يجب أن يخلو من المعاصي
بكل أنواعها ومستوياتها، فلا سباب ولا خصام ولا فحش، ولا كلام حول أمور
النساء لتحريك الغرائز وإثارة الشهوات، ولذلك جاء في الحديث: «من حج هذا
البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». وقال عليه السلام:
«من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه».
ولا
ينبغي للحاج أن ينشد الراحة في كل شيء وفي كل المواقف والأماكن، أو أن
يحرص على اختيار أرقى الأماكن للسكن، وأفضل الحملات التي تقدم جميع وسائل
الراحة والترفيه، فلا بد في الحج من الخروج على السلوك اليومي والعادات
المألوفة للإنسان، والأجر على قدر المشقة، ولعل الآية الكريمة ترمز إلى
كثير من المعاني «ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق»
والتفث هو إزالة الأوساخ، وقص الشعر والأظافر ولبس الثياب، أي ليزيلوا
عنهم أدرانهم وأوساخهم التي لازمتهم طيلة مدة الإحرام، ولعل في الحجاج
المسلمين اليوم من يدفع مبالغ باهظة لتأمين راحته في الحج الذي هو فريضة
للتجرد والتقشف بما يكفي لتغطية معيشة ونفقات سنة لأسر هي في أمس الحاجة
إلى العون والمساعدة.
يقول أنس رضي الله عنه: حج رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، على رحل رث وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم! فقال: «اللهم حجة لا
رياء فيها». رواه أبو يعلى. وقال بشر بن قدامة الضبابي: أبصرت عيناي حبي
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واقفاً بعرفات مع الناس على ناقة له حمراء
قصواء تحته قطيفة بولانية وهو يقول: «اللهم اجعلها حجة غير رياء ولا
مباهاة ولا سمعة»، والناس يقولون: هذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم!
وقال سفيان الثوري: أدخلت على أبي جعفر بمنى فقلت له: اتق الله فإنما
أنزلت هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم
يموتون جوعاً؟! حج عمر بن الخطاب فسأل: «كم أنفقنا في حجتنا هذه؟». فقيل:
خمسة عشر دينارا! فقال: «لقد أسرفنا!».
وأنت حججت فأنفقت في حجتك بيوت
الأموال! قال: فأي شيء تريد؟ تريد أن أكون مثلك؟! قال: فوق ما أنا فيه
ودون ما أنت فيه، فقال لي: اخرج، فأخرجت!
وقال رسول الله، صلى الله
عليه وسلم: «ان الله تعالى يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم:
انظروا إلى عبادي جاءوني شعثاً غبرا..».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما:
ان رجلاً قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: من الحاج؟ قال: الشعث
التفل، قال: فأي الحج أفضل؟ قال: العج والثج، قال: وما السبيل؟ قال: الزاد
والرحالة. رواه ابن ماجة.