البعد الحضاري في فلسفة محمد إقبال محمد حلمي عبدالوهاب الحياة - 13/12/08/
صفحة 1 من اصل 1
البعد الحضاري في فلسفة محمد إقبال محمد حلمي عبدالوهاب الحياة - 13/12/08/
على غير الشائع، طُرحتْ قضية العلاقة بين الإسلام والغرب مبكراً جداً
في البيئات الإسلامية غير العربية خلال القرن السابع عشر، مع الإرهاصات
الأولى لانهيار الإمبراطورية العثمانية ممثلة في الانهزامات العسكرية
المتتابعة، ومروراً بالتوقيع على المعاهدات الجائرة بحقها، وليس انتهاءً
بمنح الامتيازات الأجنبية.
ومن بين المؤلفات الأولى التي ظهرت في هذا
الشأن كتاب «أصول الحكم في نظم الأمم» لإبراهيم متفرقة، والذي ألفه قرابة
العام 1727، وكتاب «جنة المشركين» لمحمد جلبه أفندي عام 1731، إضافة إلى
تقرير حول التنظيمات العسكرية وأنماط الإدارات والحكومات للدول الأوربية
أعده راتب أفندي عام 1793.
كان بديهياً، والحال هذه، أن ينقسم المفكرون
العثمانيون/ الأتراك إلى فريقين رئيسين: فريق يرفض كل مظاهر التحديث
الأوروبي استشرافاً منه للخطر الداهم الكامن بين ثنايا الثقافة الغربية
الوافدة على الإسلام وشريعته. وفريق آخر أدرك، بحكم الواقع وسياق العصر،
أن لا سبيل لإصلاح شؤون الدولة/ الخلافة إلا باللحاق بركب الحضارة الغربية
وانتحال كل نظمها السياسية والإدارية والاجتماعية حتى ولو تعارضت مع أحكام
الشريعة الإسلامية.
أما مفكرو الهند، فلم تظهر بواكير كتاباتهم
المتعلقة بهذه القضية إلا بعد انهيار دولة المغول الإسلامية، وانتشار موجة
المواجهات العسكرية مع الإنكليز منتصف القرن التاسع عشر. إذ ظهرت في منتصف
العقد الثالث من هذا القرن بواكير الدعوات الإصلاحية التي كان همها الأكبر
ممثلاً في مناقشة قضايا الصراع بين الحضارة الأوروبية الوافدة من جهة،
والثقافة الهندوسية العريقة من جهة ثانية والعقيدة الإسلامية من جهة ثالثة.
تبعا
لذلك، انقسم المفكرون المسلمون هناك، عقب ثورة عام 1857، إلى اتجاهين
رئيسين: أولهما الاتجاه المحافظي ممثلاً بأتباع الشاه ولي الله الدهلوي
(1703-1762) الذي دعا إلى مقاطعة الغرب ومحاربته والتمسك بكتاب الله
وسنته. ثانيهما هو ما يُطلق عليه الاتجاه التحديثي ممثلاً في شخص السيد/
أحمد خان الذي دعا، على العكس من الاتجاه الأول، إلى الاقتباس من الحضارة
الغربية في علومها ونظمها وفنونها مع التمسك بالثوابت العقدية.
وسرعان
ما انتقل هذا الجدال إلى البيئات العربية في القرن التاسع عشر بظهور كتاب
رفاعة الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» عام 1834، ومروراً بكتابي
فارس الشدياق «الواسطة في معرفة أحوال مالطة» و «كشف المخبأ عن فنون
أوروبا» عام 1866، وانتهاءً بكتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»
لخير الدين التونسي عام 1867.
غير أن الملاحظ على هذه الكتابات جميعها
أنها ناقشت قضية العلاقة بين الإسلام والغرب بأسلوب أميل للمحافظة فاكتفت
بمقابلة الواقع الإسلامي ومقارنته بمثيله الغربي، داعية، على استحياء، الى
الأخذ بالجوانب الإيجابية من الحضارة الأوروبية الحديثة.
ملاحظة أخرى
على قدر كبير من الأهمية، وهي أن الراصد لبدايات الانشغال بالعلاقة مع
الآخر في البيئات الإسلامية المعاصرة على اختلافها يخرج بنتيجتين رئيستين:
الأولى أن هذه القضية لم تطرح في ذاك الوقت إلا كرد فعل مباشر للصدام
الحضاري بين الثقافتين الإسلامية والغربية. أي أنها كانت في مجملها وليدة
الواقع المعاش أكثر من كونها إرادة عقلية أو محض استشراف للمستقبل من قبل
مفكري عصر النهضة.
النتيجة الثانية، مبنية على سابقتها وهي أن هذه
القضية لم يتناولها المفكرون المسلمون من منطق الوعي بالهوية والدفاع عن
مشخصاتها وثوابتها ضد الآخر بقدر ما نوقشت باعتبارها إحدى قضايا الإصلاح
والتجديد والتحديث ليس إلا! ونتيجة لذلك، صارت هذه الإشكالية بمثابة حجر
الزاوية في كل معالجة لاحقة طرحت لحل مشكلات أخرى حتى وإن كانت على غير
صلة بها! ولعل في ذلك يكمن سر انبعاثها من جديد وبقائها قيد المناقشة
لقرنين وعقد من الزمان.
ليس غريباً إذاً، أن يولي فيلسوف الإسلام وشاعر
باكستان محمد إقبال (1877-1938) أكبر جهوده لبحث هذه الإشكالية باعتبارها
تمثل جوهر فلسفته وبحكم معايشته لها. وفي الواقع، لم يتوقف إقبال كثيراً
عند حدود إثبات الأنا أو توضيح الهوية وإنما امتدت مناقشاته إلى ما يجب
فعله لإنهاض ذاتها وتحقيق أهدافها ما يحمّل الذات الإسلامية مسؤولية صنع
مستقبلها، بالدرجة الأولى من دون اعتماد على غيرها شرقياً كان أو غربياً.
وفي
سعيه لإثبات وجهة نظره حرص إقبال حرصاً شديداً على تطوير معنى التجديد
المنشود من جهة، وذلك بتعويله على النقد والانتقاء والاستبعاد عند تقديمه
لمشاريع الإصلاح والتحديث المعاصرة له، مثلما سعى إلى تفضيل منهج التأليف
والتركيب على التوفيق في التصدي لثنائيات التراث والمعاصرة، الأصالة
والتجديد، العقل والنقل، العلم والدين، القديم والحديث... إلخ من جهة
ثانية.
ففضلاً عن تجاوزه مثل هذا الثنائيات التي أعيت الفلاسفة على مر
العصور، ظل إقبال موضوعياً في فحصه معطيات الحضارة الغربية ومقابلتها
بالأسس الشرعية للحضارة الإسلامية. ليس هذا فحسب، بل وفي رؤيته لمستقبل
الصراع بين الجانبين وتصوره لمشروع عصبة الأمم الإسلامية، ويبدو أنه كان
مفرطاً في التفاؤل في ما يتعلق بهذا الجانب أكثر من اللازم.
أيضاً لم
يفرق إقبال في كتاباته بين مصطلحيّ الثقافة والحضارة شأنه في ذلك شأن معظم
المفكرين الذين نظروا الى نتاج الحضارة الأوروبية «علم، فكر، سياسة، نظم
اجتماعية واقتصادية وتربوية... إلخ» باعتباره كياناً واحداً. كما انعكس
موقفه من كل تيارات الإصلاح والتجديد والتحديث في عصره على نظرته الى
طبيعة العلاقة بين خطابه التجديدي وبين الحضارة الغربية من ناحية، وعلى
نهجه في التصدي لقضايا عصره المطروحة من ناحية ثانية.
وتبعاً لذلك، لم
يتعرض إقبال لمسألة تحديد العلاقة بين المسلمين والغربيين إلا من خلال
مناقشته قضية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة. كما لم تتبلور أفكاره حيال
هذه القضية إلا بعد اتخاذه موقفاً نقدياً من الاتجاهات الإصلاحية السابقة
عليه والمعاصرة له في آن معاً بغية تحديد الأسس والقواعد الرئيسية لدعوته
التجديدية.
فعلى رغم دعوته الى محاربة البدع والخرافات المنتشرة في
عصره باعتبارها إحدى دروب الجاهلية، وتأكيده ضرورة الالتزام بما جاء في
الكتاب والسنة في شتى ضروب الحياة بوصفهما دستور المسلمين الأوحد، وجه
إقبال انتقادات بالغة الأهمية الى مجمل آراء رواد الاتجاه السلفي كالدهلوي
وأكبر حسين بن تفضل (1846-1921)، وأبو الأعلى المودودي (1903-1979) وغيرهم.
ومع
إقراره أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب (1703-1762) الإصلاحية من أكثر
الدعوات التي كان لها عظيم الأثر في مجال إصلاح العقائد وتهذيب الشعائر
بعد الوهن الذي أصابها؛ إلا أنه يرى ضرورة الاهتمام بالعلوم الغربية
الحديثة، وأن لا يقتصر باب الاجتهاد على شرح الأحكام الشرعية، موضحاً أن
الإصلاح المنشود يجب أن يقوم على قاعدة نقدية تتناول الموروث والجديد معاً.
أيضاً
انتقد إقبال آراء ورواد الاتجاه التحديثي التغريبي لاجترائهم على الدين
وجحودهم بأصول الشريعة وانخداعهم بالمظهر البراق للغرب وحضارته وتوهمهم أن
كل حديث نافع وكل قديم مضر!!. فمع أنه لم يكن معادياً تماماً لمنطق
التحديث أو الانتحال من الغرب، إلا أنه عاب على المستغربين في عصره قصر
جهودهم على انتحال المناهج ونقل المعارف والأساليب والقوالب الجاهزة من
دون أدنى تمحيص.
كما عاب عليهم أيضاً الطابع العلماني الذي انتحلوه عن
الغرب في السياسة والتعليم مؤكداً أنهم ضلوا سبيل الرشاد في فصلهم الدين
عن الدولة وإغلاق المعاهد الدينية، مثلما حدث في تركيا، وإعلائهم العصبية
القومية على الهوية الإسلامية. ومن ثم، انتهى إلى القول بأن المحدثين لم
يفطنوا إلى الغرض الحقيقي للمستعمر الغربي من تشجيع النعرات القومية ألا
وهو تقسيم الأمة الإسلامية وتقطيع أوصالها ليسهل عليه في ما بعد اجتياحها
ومحو الإسلام من الوجود كلية.
من جهة أخرى، حرص إقبال في مختلف كتاباته
وأشعاره على توضيح وجهته ومنهجه في تجديد الفكر الإسلامي، مؤكداً انتماءه
إلى الخط الفاصل بين ثورية الأفغاني وتنويرية أحمد خان (1817-1898)،
معرباً بوضوح عن انتقاداته لرؤية جلال الدين أكبر (1542- 1605) المتعلقة
بوحدة الأديان، واتفاقه مع المواقف المعتدلة لكل من: المصلح التركي سعيد
حليم (1863-1921) والمجدد الهندي محمد علي جناح (1876-1948) الخاصة بقضية
الأصالة والمعاصرة بالنسبة الى الأول، ورؤية الأخير لمستقبل المسلمين في
الهند ورفضه اندماجهم في القومية العلمانية.
ومن بين الأفكار الرئيسية
التي وافق فيها الأفغاني اعتداله في نظرته الى طبيعة العلاقة بين الأنا
والآخر، وربطه مصطلحي التقليد والتجديد بمنفعة المسلمين ومصالحهم من دون
أن يؤثر ذلك في هويتهم أو وجودهم، كما أقره كذلك على دعوته الى إنشاء
الجامعة الإسلامية ورفضه لفكرة القومية العلمانية، وفتحه باب الاجتهاد
العقلي، وأخيراً في تفاؤله في ما يتعلق بعودة الإسلام إلى سابق مجده.
وفي
سياق آخر، وافق إقبال أحمد خان على أهمية نشر المدارس الحديثة وإدراج
العلوم الأوروبية ضمن برامج دراستها، مؤكداً أن المعاهد الدينية لا ترقى
ببرامجها الدراسية العتيقة لأن تحدث نهضة إسلامية. إلا أنه عاد ليرفض بشدة
سياسة علمنة التعليم وانتشار المدارس الأوروبية الخالية من الثقافة
الدينية في الأقطار الإسلامية، داعياً إلى ضرورة الجمع بين العلوم الدينية
ونظيرتها الطبيعية.
وختاماً، يمكن القول إن حديث إقبال عن الهوية
الإسلامية قد نجح في تطوير قضية العلاقة بين الإسلام والغرب وذلك بتجاوزه
السؤال المطروح على الساحة الثقافية وقتذاك وهو: من أنا؟ نحو تساؤل أعمق
عمّا يمكن فعله في مواجهة تحديات العصر وجعل مفهوم الولاء مرتكزاً الى
الوعي بدلاً من العاطفة.
وفي المحصلة، لم يكن نقده الموجه إلى الغرب
منطلقاً من منظور ذاتي أو مذهبي وإنما كان منطلقاً من قاعدة موضوعية
ودراسة متأنية لطبيعة الحضارتين الإسلامية والغربية. فقد ساءه استيراد
البعض مظاهر الحضارة الغربية وقشورها من دون روحها وجوهرها ولعل ذلك ما
قصده بقوله: «لا يستمد الغرب قوته من الناي والرباب، ولا من رقص البنات
العاريات... وليس تمدنه يُرَد إلى اللادينية والإلحاد، بل يُرد إلى العلوم
والفنون. فبمثل هذه النار تستضيء مصابيح الغرب وتشتعل عبقرية».
* كاتب مصري.
في البيئات الإسلامية غير العربية خلال القرن السابع عشر، مع الإرهاصات
الأولى لانهيار الإمبراطورية العثمانية ممثلة في الانهزامات العسكرية
المتتابعة، ومروراً بالتوقيع على المعاهدات الجائرة بحقها، وليس انتهاءً
بمنح الامتيازات الأجنبية.
ومن بين المؤلفات الأولى التي ظهرت في هذا
الشأن كتاب «أصول الحكم في نظم الأمم» لإبراهيم متفرقة، والذي ألفه قرابة
العام 1727، وكتاب «جنة المشركين» لمحمد جلبه أفندي عام 1731، إضافة إلى
تقرير حول التنظيمات العسكرية وأنماط الإدارات والحكومات للدول الأوربية
أعده راتب أفندي عام 1793.
كان بديهياً، والحال هذه، أن ينقسم المفكرون
العثمانيون/ الأتراك إلى فريقين رئيسين: فريق يرفض كل مظاهر التحديث
الأوروبي استشرافاً منه للخطر الداهم الكامن بين ثنايا الثقافة الغربية
الوافدة على الإسلام وشريعته. وفريق آخر أدرك، بحكم الواقع وسياق العصر،
أن لا سبيل لإصلاح شؤون الدولة/ الخلافة إلا باللحاق بركب الحضارة الغربية
وانتحال كل نظمها السياسية والإدارية والاجتماعية حتى ولو تعارضت مع أحكام
الشريعة الإسلامية.
أما مفكرو الهند، فلم تظهر بواكير كتاباتهم
المتعلقة بهذه القضية إلا بعد انهيار دولة المغول الإسلامية، وانتشار موجة
المواجهات العسكرية مع الإنكليز منتصف القرن التاسع عشر. إذ ظهرت في منتصف
العقد الثالث من هذا القرن بواكير الدعوات الإصلاحية التي كان همها الأكبر
ممثلاً في مناقشة قضايا الصراع بين الحضارة الأوروبية الوافدة من جهة،
والثقافة الهندوسية العريقة من جهة ثانية والعقيدة الإسلامية من جهة ثالثة.
تبعا
لذلك، انقسم المفكرون المسلمون هناك، عقب ثورة عام 1857، إلى اتجاهين
رئيسين: أولهما الاتجاه المحافظي ممثلاً بأتباع الشاه ولي الله الدهلوي
(1703-1762) الذي دعا إلى مقاطعة الغرب ومحاربته والتمسك بكتاب الله
وسنته. ثانيهما هو ما يُطلق عليه الاتجاه التحديثي ممثلاً في شخص السيد/
أحمد خان الذي دعا، على العكس من الاتجاه الأول، إلى الاقتباس من الحضارة
الغربية في علومها ونظمها وفنونها مع التمسك بالثوابت العقدية.
وسرعان
ما انتقل هذا الجدال إلى البيئات العربية في القرن التاسع عشر بظهور كتاب
رفاعة الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» عام 1834، ومروراً بكتابي
فارس الشدياق «الواسطة في معرفة أحوال مالطة» و «كشف المخبأ عن فنون
أوروبا» عام 1866، وانتهاءً بكتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»
لخير الدين التونسي عام 1867.
غير أن الملاحظ على هذه الكتابات جميعها
أنها ناقشت قضية العلاقة بين الإسلام والغرب بأسلوب أميل للمحافظة فاكتفت
بمقابلة الواقع الإسلامي ومقارنته بمثيله الغربي، داعية، على استحياء، الى
الأخذ بالجوانب الإيجابية من الحضارة الأوروبية الحديثة.
ملاحظة أخرى
على قدر كبير من الأهمية، وهي أن الراصد لبدايات الانشغال بالعلاقة مع
الآخر في البيئات الإسلامية المعاصرة على اختلافها يخرج بنتيجتين رئيستين:
الأولى أن هذه القضية لم تطرح في ذاك الوقت إلا كرد فعل مباشر للصدام
الحضاري بين الثقافتين الإسلامية والغربية. أي أنها كانت في مجملها وليدة
الواقع المعاش أكثر من كونها إرادة عقلية أو محض استشراف للمستقبل من قبل
مفكري عصر النهضة.
النتيجة الثانية، مبنية على سابقتها وهي أن هذه
القضية لم يتناولها المفكرون المسلمون من منطق الوعي بالهوية والدفاع عن
مشخصاتها وثوابتها ضد الآخر بقدر ما نوقشت باعتبارها إحدى قضايا الإصلاح
والتجديد والتحديث ليس إلا! ونتيجة لذلك، صارت هذه الإشكالية بمثابة حجر
الزاوية في كل معالجة لاحقة طرحت لحل مشكلات أخرى حتى وإن كانت على غير
صلة بها! ولعل في ذلك يكمن سر انبعاثها من جديد وبقائها قيد المناقشة
لقرنين وعقد من الزمان.
ليس غريباً إذاً، أن يولي فيلسوف الإسلام وشاعر
باكستان محمد إقبال (1877-1938) أكبر جهوده لبحث هذه الإشكالية باعتبارها
تمثل جوهر فلسفته وبحكم معايشته لها. وفي الواقع، لم يتوقف إقبال كثيراً
عند حدود إثبات الأنا أو توضيح الهوية وإنما امتدت مناقشاته إلى ما يجب
فعله لإنهاض ذاتها وتحقيق أهدافها ما يحمّل الذات الإسلامية مسؤولية صنع
مستقبلها، بالدرجة الأولى من دون اعتماد على غيرها شرقياً كان أو غربياً.
وفي
سعيه لإثبات وجهة نظره حرص إقبال حرصاً شديداً على تطوير معنى التجديد
المنشود من جهة، وذلك بتعويله على النقد والانتقاء والاستبعاد عند تقديمه
لمشاريع الإصلاح والتحديث المعاصرة له، مثلما سعى إلى تفضيل منهج التأليف
والتركيب على التوفيق في التصدي لثنائيات التراث والمعاصرة، الأصالة
والتجديد، العقل والنقل، العلم والدين، القديم والحديث... إلخ من جهة
ثانية.
ففضلاً عن تجاوزه مثل هذا الثنائيات التي أعيت الفلاسفة على مر
العصور، ظل إقبال موضوعياً في فحصه معطيات الحضارة الغربية ومقابلتها
بالأسس الشرعية للحضارة الإسلامية. ليس هذا فحسب، بل وفي رؤيته لمستقبل
الصراع بين الجانبين وتصوره لمشروع عصبة الأمم الإسلامية، ويبدو أنه كان
مفرطاً في التفاؤل في ما يتعلق بهذا الجانب أكثر من اللازم.
أيضاً لم
يفرق إقبال في كتاباته بين مصطلحيّ الثقافة والحضارة شأنه في ذلك شأن معظم
المفكرين الذين نظروا الى نتاج الحضارة الأوروبية «علم، فكر، سياسة، نظم
اجتماعية واقتصادية وتربوية... إلخ» باعتباره كياناً واحداً. كما انعكس
موقفه من كل تيارات الإصلاح والتجديد والتحديث في عصره على نظرته الى
طبيعة العلاقة بين خطابه التجديدي وبين الحضارة الغربية من ناحية، وعلى
نهجه في التصدي لقضايا عصره المطروحة من ناحية ثانية.
وتبعاً لذلك، لم
يتعرض إقبال لمسألة تحديد العلاقة بين المسلمين والغربيين إلا من خلال
مناقشته قضية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة. كما لم تتبلور أفكاره حيال
هذه القضية إلا بعد اتخاذه موقفاً نقدياً من الاتجاهات الإصلاحية السابقة
عليه والمعاصرة له في آن معاً بغية تحديد الأسس والقواعد الرئيسية لدعوته
التجديدية.
فعلى رغم دعوته الى محاربة البدع والخرافات المنتشرة في
عصره باعتبارها إحدى دروب الجاهلية، وتأكيده ضرورة الالتزام بما جاء في
الكتاب والسنة في شتى ضروب الحياة بوصفهما دستور المسلمين الأوحد، وجه
إقبال انتقادات بالغة الأهمية الى مجمل آراء رواد الاتجاه السلفي كالدهلوي
وأكبر حسين بن تفضل (1846-1921)، وأبو الأعلى المودودي (1903-1979) وغيرهم.
ومع
إقراره أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب (1703-1762) الإصلاحية من أكثر
الدعوات التي كان لها عظيم الأثر في مجال إصلاح العقائد وتهذيب الشعائر
بعد الوهن الذي أصابها؛ إلا أنه يرى ضرورة الاهتمام بالعلوم الغربية
الحديثة، وأن لا يقتصر باب الاجتهاد على شرح الأحكام الشرعية، موضحاً أن
الإصلاح المنشود يجب أن يقوم على قاعدة نقدية تتناول الموروث والجديد معاً.
أيضاً
انتقد إقبال آراء ورواد الاتجاه التحديثي التغريبي لاجترائهم على الدين
وجحودهم بأصول الشريعة وانخداعهم بالمظهر البراق للغرب وحضارته وتوهمهم أن
كل حديث نافع وكل قديم مضر!!. فمع أنه لم يكن معادياً تماماً لمنطق
التحديث أو الانتحال من الغرب، إلا أنه عاب على المستغربين في عصره قصر
جهودهم على انتحال المناهج ونقل المعارف والأساليب والقوالب الجاهزة من
دون أدنى تمحيص.
كما عاب عليهم أيضاً الطابع العلماني الذي انتحلوه عن
الغرب في السياسة والتعليم مؤكداً أنهم ضلوا سبيل الرشاد في فصلهم الدين
عن الدولة وإغلاق المعاهد الدينية، مثلما حدث في تركيا، وإعلائهم العصبية
القومية على الهوية الإسلامية. ومن ثم، انتهى إلى القول بأن المحدثين لم
يفطنوا إلى الغرض الحقيقي للمستعمر الغربي من تشجيع النعرات القومية ألا
وهو تقسيم الأمة الإسلامية وتقطيع أوصالها ليسهل عليه في ما بعد اجتياحها
ومحو الإسلام من الوجود كلية.
من جهة أخرى، حرص إقبال في مختلف كتاباته
وأشعاره على توضيح وجهته ومنهجه في تجديد الفكر الإسلامي، مؤكداً انتماءه
إلى الخط الفاصل بين ثورية الأفغاني وتنويرية أحمد خان (1817-1898)،
معرباً بوضوح عن انتقاداته لرؤية جلال الدين أكبر (1542- 1605) المتعلقة
بوحدة الأديان، واتفاقه مع المواقف المعتدلة لكل من: المصلح التركي سعيد
حليم (1863-1921) والمجدد الهندي محمد علي جناح (1876-1948) الخاصة بقضية
الأصالة والمعاصرة بالنسبة الى الأول، ورؤية الأخير لمستقبل المسلمين في
الهند ورفضه اندماجهم في القومية العلمانية.
ومن بين الأفكار الرئيسية
التي وافق فيها الأفغاني اعتداله في نظرته الى طبيعة العلاقة بين الأنا
والآخر، وربطه مصطلحي التقليد والتجديد بمنفعة المسلمين ومصالحهم من دون
أن يؤثر ذلك في هويتهم أو وجودهم، كما أقره كذلك على دعوته الى إنشاء
الجامعة الإسلامية ورفضه لفكرة القومية العلمانية، وفتحه باب الاجتهاد
العقلي، وأخيراً في تفاؤله في ما يتعلق بعودة الإسلام إلى سابق مجده.
وفي
سياق آخر، وافق إقبال أحمد خان على أهمية نشر المدارس الحديثة وإدراج
العلوم الأوروبية ضمن برامج دراستها، مؤكداً أن المعاهد الدينية لا ترقى
ببرامجها الدراسية العتيقة لأن تحدث نهضة إسلامية. إلا أنه عاد ليرفض بشدة
سياسة علمنة التعليم وانتشار المدارس الأوروبية الخالية من الثقافة
الدينية في الأقطار الإسلامية، داعياً إلى ضرورة الجمع بين العلوم الدينية
ونظيرتها الطبيعية.
وختاماً، يمكن القول إن حديث إقبال عن الهوية
الإسلامية قد نجح في تطوير قضية العلاقة بين الإسلام والغرب وذلك بتجاوزه
السؤال المطروح على الساحة الثقافية وقتذاك وهو: من أنا؟ نحو تساؤل أعمق
عمّا يمكن فعله في مواجهة تحديات العصر وجعل مفهوم الولاء مرتكزاً الى
الوعي بدلاً من العاطفة.
وفي المحصلة، لم يكن نقده الموجه إلى الغرب
منطلقاً من منظور ذاتي أو مذهبي وإنما كان منطلقاً من قاعدة موضوعية
ودراسة متأنية لطبيعة الحضارتين الإسلامية والغربية. فقد ساءه استيراد
البعض مظاهر الحضارة الغربية وقشورها من دون روحها وجوهرها ولعل ذلك ما
قصده بقوله: «لا يستمد الغرب قوته من الناي والرباب، ولا من رقص البنات
العاريات... وليس تمدنه يُرَد إلى اللادينية والإلحاد، بل يُرد إلى العلوم
والفنون. فبمثل هذه النار تستضيء مصابيح الغرب وتشتعل عبقرية».
* كاتب مصري.
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» فلسفة الحياة في زجل الراحل علي الحداني
» رحلة محمد إقبال إلى الديار المقدسة ... عاشها خيالاً لا واقعاً صلاح حسن رشيد
» محمد عبدالوهاب
» محمد عبدالوهاب
» الموسيقار محمد عبدالوهاب " المغربي "
» رحلة محمد إقبال إلى الديار المقدسة ... عاشها خيالاً لا واقعاً صلاح حسن رشيد
» محمد عبدالوهاب
» محمد عبدالوهاب
» الموسيقار محمد عبدالوهاب " المغربي "
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى