صراع التأويلات.. بين بنيات النص وضغوط السياسة /رشيد الإدريسي
صفحة 1 من اصل 1
صراع التأويلات.. بين بنيات النص وضغوط السياسة /رشيد الإدريسي
تلقي النص بين السياق
الداخلي والسياق الخارجي
إن
عملية تلقي نصوص كاتب ما تختلف من نص إلى آخر، والأمر يتوقف على عدة
معطيات، من بينها ما يحمله المتلقون من مخزون ثقافي حول الكاتب، ومدى
تطابقه مع محتويات النص الخاضع لعملية القراءة. كما أن الأمر قد يتوقف
أحيانا على ما أثير حول النص قبل أن يعرف انتشارا واسعا، مما يؤدي إلى
وصوله للقارئ وصدى النقاش حوله قد تحول إلى جزء من أفق انتظار هذا الأخير.
وفي هذه الحالة يكون المتلقي قد قرأ النص بفعل ما أثير حوله وبدافع منه،
وليس بدافع قراءته لذاته. وهنا تتحول القراءة إلى عملية بحث وتنقيب من طرف
القارئ عن الأسباب التي أدت إلى الضجة الإعلامية، حول نص أدبي نادرا ما
تثار حوله نقاشات بهذا الحجم. والسؤال الذي يحكم القراءة في هذه الحالة،
هو هل الضجة مفتعلة أم هي ضجة لها ما يسوغها على مستوى بنيات النص
الدلالية؟
هذا النوع من التلقي المحكوم بالسياق الخارجي، أي بما يحيط
بالنص من نقاشات وصراعات حادة، عرف في مجال الرواية كما عرف في مجال
الشعر، وهو على وجه الخصوص ذو علاقة بما هو ديني أو سياسي. والقصيدة التي
سنعمل على فك بعض رموزها، أي عابرون في كلام عابر للشاعر محمود درويش،
تعتبر من هذه العينة من النصوص التي يحكم القارئ في تلقيها الضجة
الإعلامية النقدية التي أحاطت بها، مما يجعل القراءة غير تلقائية وخالية
من براءة الاكتشاف الدلالي، كما يجعل من الضروري القيام بعملية تطهير
للذات من كل المسبقات، بعد الوعي بها، حتى يمكن تقديم قراءة وفية للنص،
بعيدة عن تأثيرات هذا الطرف أو ذاك. ويمكننا أن نذكر في مجال الرواية بعض
النصوص التي خضعت لهذا المسار من التلقي وهي كالتالي: رواية السيدة بوفاري
لـ «وستا» فلوبير ولوليطا لـلاديمير نابوكو و1984 لجورج أورويل وأولاد
حارتنا لنجيب محفوظ ووليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر وشيفرة دافنشي لدان
براون...
النص المحرم والتلقي السياسي
إن هذا النوع من التلقي،
نجده دائم الحضور عندما يتعلق الأمر بما يسمى بالنصوص المحرمة، وهذه
التسمية تنطبق بكل المقاييس على قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر".
فهذه القصيدة من زاوية المتلقي الصهيوني نص محرم بامتياز، لذلك فقد شغل
الرأي العام الإسرائيلي وأثار ردود فعل عنيفة من طرف كل القراء الصهاينة،
بل حتى أولئك الذين يحسبون على اليسار والذين كانوا يرفعون شعارات السلم
والتعايش مع الفلسطيني الذي سلبت منه أرضه، لم تتسع صدورهم لمعاني هذه
القصيدة، فرفضوها بقوة وسموها تسميات عدة من بينها القصيدة المسمومة
والقصيدة الخطيرة والقصيدة الحاقدة والمتعطشة للدم والمعادية لإسرائيل،
كما وصف محمود درويش من طرف اليهود المستقرين في أوروبا وأمريكا
والمتعاطفين معهم بكونه شاعرا إرهابيا كما وصف بالعنصري المعادي لليهود
والناطق الرسمي باسم القتلة والمحرض على الكراهية العرقية. هذه عينة فقط
من النعوت التي ألصقت بالشاعر وبقصيدته ، وهي وحدها تكشف عن درجة التوتر
الذي سببه هذا النص للقارئ الإسرائيلي، وعن حدة العنف الذي تم تصريفه من
أجل مواجهتها وقراءتها بشكل ينزع عنها قيمتها الأدبية التي لا يمكن
نكرانها.
لقد كان أول تجسيد لهذا التلقي السياسي، هو ما نشرته صحيفة
معاري اليمينية التي قامت بترجمة القصيدة إلى العبرية ونشرتها في صفحتها
الأولى مصحوبة بصورة لمحمود درويش وبمقال عنونته كالتالي: " الشاعر محمود
درويش المسؤول الثقافي لمنظمة التحرير الفلسطينية يدعو الفلسطينيين إلى
طرد اليهود من البحر إلى النهر". ومباشرة بعد ذلك بدأت حرب الترجمات لهذا
النص المقلق والتي فاقت الأربع، ومن بينها ترجمة صحيفة يديعوت أحرنوت التي
أجرت في أوج النقاش الدائر حوارا مع درويش، ذهب فيه إلى أن قصيدته تدعو
الإسرائيليين إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة لكي يستطيع الفلسطينيون
تأسيس دولتهم الوطنية المستقلة، لا غير. ولكن رغم هذا التنازل من طرف
درويش، وهذه القراءة الاختزالية التي قدمها، والتي حاول من خلالها إيقاف
الهجمة التي استهدفته، وسد الطريق على التيار المتطرف الذي كان يرغب في
تحقيق أهداف سياسية من خلال قراءته لهذه القصيدة على هذا الشكل، فإن
الحملة استمرت وبشكل أكثر عنفا.
إسحاق شامير قارئا لمحمود درويش
لقد
بلغت الحملة ضد القصيدة أوجها، عندما دخل على الخط رئيس الوزراء
الإسرائيلي أنذاك إسحاق شامير، وعمل من خلال تعليقه عليها على توجيه
القراءة نحو التصعيد بدل المهادنة التي سلكتها بعض الأصوات الأخرى، بحيث
بتدخله هذا وبقراءته للقصيدة بوصفها دعوة إلى القضاء على إسرائيل وضع
المجتمع الإسرائيلي في وضع شبيه بمن يرفع في وجه الجميع شعار من ليس معي
فهو ضدي. وبما أن الأمر يتعلق بحياة أو موت الكيان الصهيوني وبوجوده أو
عدمه، فقد انخرط الجميع في تبني قراءة إسحاق شامير الذي ألقى كلمة أمام
البرلمان الإسرائيلي قال فيها: "إنه من الواضح أن السلام ليس هو ما يريده
المنتفضون، ومن يوجهونهم ويساندونهم، ليس من الضروري أن يكون المرء كاهنا
لكي يتبين نواياهم، وعلى كل فإن التعبير الدقيق عن الأهداف التي يراد
تحقيقها من طرف جماعات القتلة المنتظمة تحت الغطاء المسمى منظمة التحرير
الفلسطينية، تم تقديمه من طرف محمود درويش أحد شعرائهم ووزير الثقافة
المزعوم للمنظمة والذي لا يسعنا إلا أن نتساءل كيف أمكنه اكتساب سمعة
المعتدل" ، ليعلق بعد ذلك قائلا "كان بودي قراءة هذه القصيدة أمام
البرلمان، لكنني لا أريد أن أمنحها شرف الدخول إلى أرشيف الكنيست". ليصف
بعد ذلك القصيدة بأنها بليدة والشاعر بأنه مشبوه وبأنه لم يقف عند حد
مطالبة اليهود بمغادرة البلد بل بحمل موتاهم معهم.
وعلى الرغم من أن
بعض الأصوات الإسرائيلية حاولت "تبرئة" محمود درويش بتقديم قراءة ناعمة
لقصيدته، والوقوف عند بعض مقاطعها الأكثر إثارة، وتقديم تأويل "معتدل"
لها، وهو التأويل الذي كان مسنودا بما عمل درويش على كتابته من مقالات
حاول من خلالها تلخيص تصوره بكونه ينحصر في تعبير بسيط مؤداه تحقيق السلام
على كافة الأراضي الفلسطينية، مقابل دولة مستقلة في جزء من هذه الأراضي.
على الرغم من ذلك، فإن الجميع توحد ضد درويش فكان مما وسمت به القصيدة
كونها القصيدة التي وحدت الكنيست الإسرائيلي، وهو ما دفع الذين "تساهلوا"
مع درويش من مثقفي اليسار، إلى تغيير لهجتهم وعلى رأسهم يائيل لوطان الذي
انتقد الضجة التي أثيرت حول القصيدة، ومع ذلك لم يتمالك نفسه فانخرط في
نوع التلقي الرسمي الذي فرض نفسه على الجميع وهو المعروف بـ"اعتداله" وعدم
رضى المؤسسات الرسمية على ما يكتبه، فحكم على القصيدة بكونها "هستيرية،
خالية من الذكاء ومزعجة، بالإضافة إلى كونها قصيدة رديئة"6، وهذا ما دفع
ها ـ اي إيشيد Hagai Eshed إلى القول: " لم يعد هناك صقور ولا حمائم، لا
يمين ولا يسار، لامعسكر قومي ولا معسكر سلام، شكرا لك محمود درويش لتنبيهك
لنا في الوقت المناسب". وهو نفسه ما دعا حاييم ـ وري، أحد الداعين إلى
إسرائيل الكبرى للتعليق قائلا "هذه القصيدة ضمنت من الآن لحزب الليكود
المقعد الذي كان ينقصه لكي يحكم بمفرده" .
إن كل هذه الإشارات تبين بأن
القراءة التي اعتمدت من طرف الجهات الرسمية الإسرائيلية لهذا النص الشعري،
وكذا من طرف اليسار والجهات التي ترفع شعار السلام، كانت قراءة سياسية
تنطلق من منطلق التهديد الذي تشكله هذه القصيدة التي تم إنتاجها في بداية
الانتفاضة الفلسطينية التي أربكت الكيان الصهيوني، وجعلته يتعامل مع هذا
النص بتوتر زائد عن الحد، والذي كان يمكن أن يقرأ بوصفه دعوة شاعر، وللشعر
ضروراته، إلى إزالة الكيان الصهيوني وبوصفه غضبة من طرف الشاعر ورد فعل
على العنف الذي تمارسه الآلة العسكرية الصهيونية في حق شباب وأطفال عزل،
تواجههم بالرصاص الحي وتكسر عظامهم على مرأى ومسمع من العالم، وتنتهي
القضية. لكن يظهر أن هذه القراءة، من خلال كثافة النقد الذي وجه لها
ولصاحبها، كانت في الحقيقة موجهة لتحقيق أهداف سياسية ولإظهار الفلسطينيين
بمظهر الذي لا يمكن التفاهم معه إلا بلغة الحديد والنار، وإعطاء الشرعية
للسلوكات الأكثر تطرفا في التعامل معه، حتى ولو لجأ لأكثر الأساليب سلما
في النضال أي التعبير الشعري. فالنص كان للمتلقي الصهيوني ذريعة لا أكثر،
ولم يكن الهدف قراءته فنيا بقدر قراءته سياسيا والتسويغ من خلاله لأكثر
الأساليب همجية في المواجهة .
الداخلي والسياق الخارجي
إن
عملية تلقي نصوص كاتب ما تختلف من نص إلى آخر، والأمر يتوقف على عدة
معطيات، من بينها ما يحمله المتلقون من مخزون ثقافي حول الكاتب، ومدى
تطابقه مع محتويات النص الخاضع لعملية القراءة. كما أن الأمر قد يتوقف
أحيانا على ما أثير حول النص قبل أن يعرف انتشارا واسعا، مما يؤدي إلى
وصوله للقارئ وصدى النقاش حوله قد تحول إلى جزء من أفق انتظار هذا الأخير.
وفي هذه الحالة يكون المتلقي قد قرأ النص بفعل ما أثير حوله وبدافع منه،
وليس بدافع قراءته لذاته. وهنا تتحول القراءة إلى عملية بحث وتنقيب من طرف
القارئ عن الأسباب التي أدت إلى الضجة الإعلامية، حول نص أدبي نادرا ما
تثار حوله نقاشات بهذا الحجم. والسؤال الذي يحكم القراءة في هذه الحالة،
هو هل الضجة مفتعلة أم هي ضجة لها ما يسوغها على مستوى بنيات النص
الدلالية؟
هذا النوع من التلقي المحكوم بالسياق الخارجي، أي بما يحيط
بالنص من نقاشات وصراعات حادة، عرف في مجال الرواية كما عرف في مجال
الشعر، وهو على وجه الخصوص ذو علاقة بما هو ديني أو سياسي. والقصيدة التي
سنعمل على فك بعض رموزها، أي عابرون في كلام عابر للشاعر محمود درويش،
تعتبر من هذه العينة من النصوص التي يحكم القارئ في تلقيها الضجة
الإعلامية النقدية التي أحاطت بها، مما يجعل القراءة غير تلقائية وخالية
من براءة الاكتشاف الدلالي، كما يجعل من الضروري القيام بعملية تطهير
للذات من كل المسبقات، بعد الوعي بها، حتى يمكن تقديم قراءة وفية للنص،
بعيدة عن تأثيرات هذا الطرف أو ذاك. ويمكننا أن نذكر في مجال الرواية بعض
النصوص التي خضعت لهذا المسار من التلقي وهي كالتالي: رواية السيدة بوفاري
لـ «وستا» فلوبير ولوليطا لـلاديمير نابوكو و1984 لجورج أورويل وأولاد
حارتنا لنجيب محفوظ ووليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر وشيفرة دافنشي لدان
براون...
النص المحرم والتلقي السياسي
إن هذا النوع من التلقي،
نجده دائم الحضور عندما يتعلق الأمر بما يسمى بالنصوص المحرمة، وهذه
التسمية تنطبق بكل المقاييس على قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر".
فهذه القصيدة من زاوية المتلقي الصهيوني نص محرم بامتياز، لذلك فقد شغل
الرأي العام الإسرائيلي وأثار ردود فعل عنيفة من طرف كل القراء الصهاينة،
بل حتى أولئك الذين يحسبون على اليسار والذين كانوا يرفعون شعارات السلم
والتعايش مع الفلسطيني الذي سلبت منه أرضه، لم تتسع صدورهم لمعاني هذه
القصيدة، فرفضوها بقوة وسموها تسميات عدة من بينها القصيدة المسمومة
والقصيدة الخطيرة والقصيدة الحاقدة والمتعطشة للدم والمعادية لإسرائيل،
كما وصف محمود درويش من طرف اليهود المستقرين في أوروبا وأمريكا
والمتعاطفين معهم بكونه شاعرا إرهابيا كما وصف بالعنصري المعادي لليهود
والناطق الرسمي باسم القتلة والمحرض على الكراهية العرقية. هذه عينة فقط
من النعوت التي ألصقت بالشاعر وبقصيدته ، وهي وحدها تكشف عن درجة التوتر
الذي سببه هذا النص للقارئ الإسرائيلي، وعن حدة العنف الذي تم تصريفه من
أجل مواجهتها وقراءتها بشكل ينزع عنها قيمتها الأدبية التي لا يمكن
نكرانها.
لقد كان أول تجسيد لهذا التلقي السياسي، هو ما نشرته صحيفة
معاري اليمينية التي قامت بترجمة القصيدة إلى العبرية ونشرتها في صفحتها
الأولى مصحوبة بصورة لمحمود درويش وبمقال عنونته كالتالي: " الشاعر محمود
درويش المسؤول الثقافي لمنظمة التحرير الفلسطينية يدعو الفلسطينيين إلى
طرد اليهود من البحر إلى النهر". ومباشرة بعد ذلك بدأت حرب الترجمات لهذا
النص المقلق والتي فاقت الأربع، ومن بينها ترجمة صحيفة يديعوت أحرنوت التي
أجرت في أوج النقاش الدائر حوارا مع درويش، ذهب فيه إلى أن قصيدته تدعو
الإسرائيليين إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة لكي يستطيع الفلسطينيون
تأسيس دولتهم الوطنية المستقلة، لا غير. ولكن رغم هذا التنازل من طرف
درويش، وهذه القراءة الاختزالية التي قدمها، والتي حاول من خلالها إيقاف
الهجمة التي استهدفته، وسد الطريق على التيار المتطرف الذي كان يرغب في
تحقيق أهداف سياسية من خلال قراءته لهذه القصيدة على هذا الشكل، فإن
الحملة استمرت وبشكل أكثر عنفا.
إسحاق شامير قارئا لمحمود درويش
لقد
بلغت الحملة ضد القصيدة أوجها، عندما دخل على الخط رئيس الوزراء
الإسرائيلي أنذاك إسحاق شامير، وعمل من خلال تعليقه عليها على توجيه
القراءة نحو التصعيد بدل المهادنة التي سلكتها بعض الأصوات الأخرى، بحيث
بتدخله هذا وبقراءته للقصيدة بوصفها دعوة إلى القضاء على إسرائيل وضع
المجتمع الإسرائيلي في وضع شبيه بمن يرفع في وجه الجميع شعار من ليس معي
فهو ضدي. وبما أن الأمر يتعلق بحياة أو موت الكيان الصهيوني وبوجوده أو
عدمه، فقد انخرط الجميع في تبني قراءة إسحاق شامير الذي ألقى كلمة أمام
البرلمان الإسرائيلي قال فيها: "إنه من الواضح أن السلام ليس هو ما يريده
المنتفضون، ومن يوجهونهم ويساندونهم، ليس من الضروري أن يكون المرء كاهنا
لكي يتبين نواياهم، وعلى كل فإن التعبير الدقيق عن الأهداف التي يراد
تحقيقها من طرف جماعات القتلة المنتظمة تحت الغطاء المسمى منظمة التحرير
الفلسطينية، تم تقديمه من طرف محمود درويش أحد شعرائهم ووزير الثقافة
المزعوم للمنظمة والذي لا يسعنا إلا أن نتساءل كيف أمكنه اكتساب سمعة
المعتدل" ، ليعلق بعد ذلك قائلا "كان بودي قراءة هذه القصيدة أمام
البرلمان، لكنني لا أريد أن أمنحها شرف الدخول إلى أرشيف الكنيست". ليصف
بعد ذلك القصيدة بأنها بليدة والشاعر بأنه مشبوه وبأنه لم يقف عند حد
مطالبة اليهود بمغادرة البلد بل بحمل موتاهم معهم.
وعلى الرغم من أن
بعض الأصوات الإسرائيلية حاولت "تبرئة" محمود درويش بتقديم قراءة ناعمة
لقصيدته، والوقوف عند بعض مقاطعها الأكثر إثارة، وتقديم تأويل "معتدل"
لها، وهو التأويل الذي كان مسنودا بما عمل درويش على كتابته من مقالات
حاول من خلالها تلخيص تصوره بكونه ينحصر في تعبير بسيط مؤداه تحقيق السلام
على كافة الأراضي الفلسطينية، مقابل دولة مستقلة في جزء من هذه الأراضي.
على الرغم من ذلك، فإن الجميع توحد ضد درويش فكان مما وسمت به القصيدة
كونها القصيدة التي وحدت الكنيست الإسرائيلي، وهو ما دفع الذين "تساهلوا"
مع درويش من مثقفي اليسار، إلى تغيير لهجتهم وعلى رأسهم يائيل لوطان الذي
انتقد الضجة التي أثيرت حول القصيدة، ومع ذلك لم يتمالك نفسه فانخرط في
نوع التلقي الرسمي الذي فرض نفسه على الجميع وهو المعروف بـ"اعتداله" وعدم
رضى المؤسسات الرسمية على ما يكتبه، فحكم على القصيدة بكونها "هستيرية،
خالية من الذكاء ومزعجة، بالإضافة إلى كونها قصيدة رديئة"6، وهذا ما دفع
ها ـ اي إيشيد Hagai Eshed إلى القول: " لم يعد هناك صقور ولا حمائم، لا
يمين ولا يسار، لامعسكر قومي ولا معسكر سلام، شكرا لك محمود درويش لتنبيهك
لنا في الوقت المناسب". وهو نفسه ما دعا حاييم ـ وري، أحد الداعين إلى
إسرائيل الكبرى للتعليق قائلا "هذه القصيدة ضمنت من الآن لحزب الليكود
المقعد الذي كان ينقصه لكي يحكم بمفرده" .
إن كل هذه الإشارات تبين بأن
القراءة التي اعتمدت من طرف الجهات الرسمية الإسرائيلية لهذا النص الشعري،
وكذا من طرف اليسار والجهات التي ترفع شعار السلام، كانت قراءة سياسية
تنطلق من منطلق التهديد الذي تشكله هذه القصيدة التي تم إنتاجها في بداية
الانتفاضة الفلسطينية التي أربكت الكيان الصهيوني، وجعلته يتعامل مع هذا
النص بتوتر زائد عن الحد، والذي كان يمكن أن يقرأ بوصفه دعوة شاعر، وللشعر
ضروراته، إلى إزالة الكيان الصهيوني وبوصفه غضبة من طرف الشاعر ورد فعل
على العنف الذي تمارسه الآلة العسكرية الصهيونية في حق شباب وأطفال عزل،
تواجههم بالرصاص الحي وتكسر عظامهم على مرأى ومسمع من العالم، وتنتهي
القضية. لكن يظهر أن هذه القراءة، من خلال كثافة النقد الذي وجه لها
ولصاحبها، كانت في الحقيقة موجهة لتحقيق أهداف سياسية ولإظهار الفلسطينيين
بمظهر الذي لا يمكن التفاهم معه إلا بلغة الحديد والنار، وإعطاء الشرعية
للسلوكات الأكثر تطرفا في التعامل معه، حتى ولو لجأ لأكثر الأساليب سلما
في النضال أي التعبير الشعري. فالنص كان للمتلقي الصهيوني ذريعة لا أكثر،
ولم يكن الهدف قراءته فنيا بقدر قراءته سياسيا والتسويغ من خلاله لأكثر
الأساليب همجية في المواجهة .
iswal- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1023
Localisation : CASA
Emploi : j'ai 1 travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: صراع التأويلات.. بين بنيات النص وضغوط السياسة /رشيد الإدريسي
التلقي المضاد وقوة الإكراه
بقدر
ما ووجهت هذه القصيدة بالرفض والعنف الصريح، فقد استقبلت بالحفاوة التي
تليق بها بوصفها نصا شعريا يعبر عن الكثير مما يختلج في نفس الفلسطيني
البسيط والعرب بصفة عامة. فبدل الرفض الذي أعلنه الجهاز الرسمي
الإسرائيلي، نجد في هذه الحالة التلقي بشكل احتفالي لنص القصيدة من طرف
المجتمع المدني والسياسي في الوطن العربي المناقض سياسيا للأطروحة
الصهيونية. إن دعوة درويش حسب هذا التلقي هي نوع من إحقاق الحق ورد الأمور
إلى نصابها الصحيح، وبالتالي تطابقت دعوته مع أفق انتظار القارئ العربي
وتطابقت مع رغبته الدفينة التي لم يستطع كتمها بفعل العنف الذي كانت تواجه
به الانتفاضة الفلسطينية آنذاك. من هنا نفهم سر الاهتمام بهذا النص ونشره
على نطاق واسع وتلحينه وغنائه وترجمته وقراءة التاريخ بواسطته، حيث تم
ربطه بصلاح الدين الأيوبي في حربه ضد الصليبيين وإخراجهم من بيت المقدس.
كل
هذا يؤكد صفة علقت بمحمود درويش منذ انطلاق مساره الشعري، وهو أنه شاعر
قضية، وإن كان هو يؤكد في أكثر من مناسبة بأنه يجب قراءته بوصفه شاعرا لا
بوصفه قضية، وذلك لما يمكن أن تجنيه عليه هذه الرؤية الأخيرة ولما يمكن أن
تلحقه به من اختزال. وهذا النوع من الشعراء لا بد أن ينقسم حولهم المتلقون
والناس عامة إلى قسمين مساند ومعارض، وهنا بالنسبة لهذه القصيدة تبلغ
المساندة والمعارضة أوجهما.
تجدر الإشارة إلى أن قراءة درويش لهذه
القصيدة من خلال تصريحاته وحواراته والتي يذهب فيها كما ألمحنا إلى ذلك
أعلاه، إلى أن ما قصده هو دعوته للإسرائيليين للخروج من الأراضي المحتلة
لا غير، لا تصمد أمام التحليل المحايث لبنيات هذا النص. كما أنها تصريحات
تمت تحت ضغط إعلامي ممنهج وحرب نفسية استهدفت الشاعر، لدرجة أنها دفعته
فيما بعد أثناء قراءته لهذه القصيدة أمام الجمهور إلى إلغاء بعض مقاطعها
المثيرة للجدل، وهو ما يمكن اعتباره نوعا من إعادة إنتاج للنص ذاته بشكل
يحظى بتسامح بعض أطراف المجتمع الإسرائيلي. لذلك نعتبر أن ما قام به درويش
لا يعبر عن صوته العميق الحقيقي، وإنما هو استجابة للضغوط والإكراهات التي
تعرض لها، والتي لولاها لكان لدلالة هذا النص مصير آخر، مصير يعبر عن
معناه الحقيقي غير منقوص منه، وهذه هي المهمة التي ندبنا أنفسنا للقيام
بها في هذه القراءة.
العنوان أو السر المكشوف
الكثير من
الأسئلة تطرح بصدد هذا النص، وأولها وآخرها يمكن صياغته على الشكل التالي:
ما السر الحقيقي في الغضبة التي أثارها لدى العدو الإسرائيلي، بينما
الكثير من قصائد درويش الأخرى تحمل نفس المعاني تقريبا، إن لم يكن يحمل
بعضها معاني أكثر عنفا؟ الجواب يكمن في العنوان لوحده، فهذه القصيدة تحمل
سرها وتكشف عنه منذ أول سطر منها، بل إن دلالتها العامة تكمن في عنوانها
مختزلة مركزة، بحيث يشكل العنوان وحده المحور النصي الذي من خلاله يمكن
قراءة القصيدة بكاملها. وهذا المحور هو "ضرورة زوال إسرائيل" التي هي
تأويل الدلالة الخفية لـعنوان "عابرون في كلام عابر".
إن عنوان النصوص
الشعرية غالبا ما يكون أشبه باللغز، توافقا مع القاعدة التي تقوم على
ضرورة انطواء الشعر على نسبة من الغموض الذي يضمن للقصيدة التجدد بفعل
القراءات المتعددة. إلا أن هذه "القاعدة" يتم خرقها في هذه القصيدة بشكل
واضح، والخرق يبدأ من العنوان، والسؤال الذي يطرحه القارئ للوصول إلى
المحور المذكور أعلاه هو من العابر وما الكلام العابر؟
الإجابة عن
هذا السؤال من طرف المتلقي، تفترض استحضار خصائص هذا الأخير، فإذا كان
ملما بالضجة التي نتجت عن النص، فجوابه سيكون جاهزا، بل وموجها لقراءته
بكاملها، وذلك لأن الإحاطة بهذه المعطيات تفك شفرات النص و تجعل القارئ
يبذل أقل قدر ممكن من المشاركة التأويلية، لأن ذلك قد تم تحقيقه بقدر كاف
عن طريق الإعلام. وما يهمنا هنا في هذه الجزئية هو القارئ الذي يتعامل مع
النص ولا شيء غير النص، القارئ الذي يحرك مخزونه المعرفي الذي يعتمده
أساسا في إضاءة النص الخاضع للتحليل.
من هذه الزاوية الافتراضية، يمكن
لهذا النوع من القراء أن يتفقد الجواب عن السؤال المطروح أعلاه انطلاقا من
المعجم اللغوي. فكلمة "عابرون" إذا ما تم التعامل معها انطلاقا من المعجم
قد تعبر عن نصف المعنى، لكن باستحضار المعطيات الموسوعية تتضح الرؤية
أكثر، فهي لا تحيل على العبور بمعناه اللغوي فقط، بل المقصود هم
العبرانيون أساسا ذلك لأن هذه التسمية التي كانت تطلق على اليهود القدامى
من معانيها العبور، فكل ألفاظ المرور والعبور ارتبطت بهذا "الشعب"، وهي
بقدر ما تدل على معاني تاريخية من مثل عدم الاستقرار والرحلة والانتقال
وعدم معرفة فن العمارة، فإنها بفعل هذه القصيدة تنضاف إليها دلالة متفرعة
عنها هي عدم الدوام وسرعة الزوال. ومما يؤكد هذا المعنى الأخير هو أن
هؤلاء العابرين لا يمرون في جغرافيا بعينها، بل هم يمرون في الكلمات التي
تتجسد في التاريخ، الذي هو بدوره ليس أكثر من كلمات عابرة، أي زائلة مثلها
مثل "الشعب" الذي تتحدث عنه.
حقيقة العابر ونقيضه الفلسطيني
إن
القصيدة تستهل بأداة النداء "أيها"، معنى ذلك أن هناك مرِسل محدد هو
الشاعر ومتلقي وخطاب يتمثل في القصيدة ذاتها، وهناك هدف هو تبليغ المعاني
المراد بثها. لذلك نجد الشاعر يعتمد تعابير يسهل على المتلقي الملم بعناصر
المجال التداولي اليهودي فك رموزها دون جهد.
أيها المارون في الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا
إن
أول ما يطالب به الشاعر العابرين هو الانصراف بعد حملهم لأسمائهم، وهو طرد
صريح لهم من فلسطين مع عدم الإبقاء على أي أثر يذكر بهم في المستقبل
الفلسطيني. والاسم هو بوابة الهوية، هو الذي ندرك العالم من خلاله،
وبتغييره يتغير الإدراك. بانصرافهم ورحيلهم، بخروج أسمائهم العبرية التي
تسم المدن والشوارع والرموز، سيتغير كل شيء، وستعود فلسطين إلى طبيعتها
العربية التي لا تلغي التنوع، لكنها عربية قبل كل شيء. وقد كانت الإشارة
إلى حمل الأسماء والانصراف، مما أثار حفيظة الكثير من الإسرائيليين ومن
بينهم عاموس كنعان المعروف بـ"اعتداله" فاتهم درويش بالشوفينية المتطرفة،
وعلق على هذه الإشارة قائلا: "إن أسماءنا مكتوبة على كل حجر في بلدنا وفي
كل سفر مطمور تحت أرضنا منذ ثلاثة آلاف وخمس مائة سنة (...) ستة ألاف من
معاصريي رووا هذه الأرض بدمائهم سنة 1948، وآلاف آخرون فيما بعد، كلما
حاولتم محو اسمنا وذكرانا".
ورغبة منه في التخلص من كل ما يذكر
بهؤلاء العابرين، يطالبهم بحمل ساعاتهم من الوقت الفلسطيني، والخروج من
تاريخه وأن يحملوا ما شاؤوا من زرقة البحر ورمل الذاكرة. ولفهم هذا
التعبير الأخير يجب إخضاعه لعملية قلب، ليصبح ذاكرة من رمل، أي ذاكرة غير
مستقرة غير ثابتة، ذاكرة قد تذروها الرياح مثلها مثل الرمل الذي يضرب به
المثل في الضعف والتقلب والتنقل، والذي حتى عندما يتجمع في شكل كثبان
رملية عالية لا يصمد أمام الريح التي تغير من شكلها ومكانها وحجمها مفرقة
لحباتها. وفي مقابل ذلك هناك رمز الحجر، الحجر الفلسطيني الذي يواجه به
الأطفال المستوطن، والذي يمكن فعل المستحيل بواسطته؛ أي بناء سقف للسماء
وهو ما لا يجيد الإسرائيلي فعله لأنه ليس أكثر من عابر في هذه الأرض.
وقبل
أن يطرق الشاعر معان أخرى و يعمد لتعريف الآخر ـ الصهيوني بنفسه، يستهل
القول مرة أخرى بالمناداة على المارين بين الكلمات العابرة التي تشكل
لازمة افتتح بها الشاعر القصيدة ويفتتح بها كل مقاطعها، وبها كذلك يختتم
القول مفسحا للقارئ الفرصة لكي ينتج من المعاني ما لا يعد ولا يحصى، قياسا
على ما قرأه في هذا النص ومثبتا لمعنى العبور والزوال لدى المتلقي بوصفهما
حقيقة شديدة الارتباط بهذا "الشعب".
في المقطع الثاني تحديدا، يحاول
الشاعر تقديم صورة عن هذا العابر، فينجز ذلك في إطار مقابلة بينه وبين
الفلسطينيين الذين يعتبر الشاعر جزءا منهم، فيظهر الفلسطيني من خلال هذه
الصورة مسالما مغلوبا على أمره، لكنه مصر على استرداد حقه، بينما يظهر
العابر بمظهر المتوحش الذي لا يؤمن إلا بلغة القوة التي يعبر عنها الشاعر
بالسيف والفولاذ والنار والدبابة وقنبلة الغاز، في مقابل الفلسطيني الذي
يسفك دمه وتتطاير أشلاؤه ويكتفي بالرد على هذه الأسلحة الفتاكة بالحجر
ويهب الحياة ممثلة في المطر. وإيغالا في إظهار وحشية العدو، وبعد هذه
العناصر التي حاول بواسطتها الشاعر تشكيل الملامح الأولى للصورة، ينتقل
إلى مستوى آخر فيخاطب العدو قائلا:
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص..وانصرفوا
بقدر
ما ووجهت هذه القصيدة بالرفض والعنف الصريح، فقد استقبلت بالحفاوة التي
تليق بها بوصفها نصا شعريا يعبر عن الكثير مما يختلج في نفس الفلسطيني
البسيط والعرب بصفة عامة. فبدل الرفض الذي أعلنه الجهاز الرسمي
الإسرائيلي، نجد في هذه الحالة التلقي بشكل احتفالي لنص القصيدة من طرف
المجتمع المدني والسياسي في الوطن العربي المناقض سياسيا للأطروحة
الصهيونية. إن دعوة درويش حسب هذا التلقي هي نوع من إحقاق الحق ورد الأمور
إلى نصابها الصحيح، وبالتالي تطابقت دعوته مع أفق انتظار القارئ العربي
وتطابقت مع رغبته الدفينة التي لم يستطع كتمها بفعل العنف الذي كانت تواجه
به الانتفاضة الفلسطينية آنذاك. من هنا نفهم سر الاهتمام بهذا النص ونشره
على نطاق واسع وتلحينه وغنائه وترجمته وقراءة التاريخ بواسطته، حيث تم
ربطه بصلاح الدين الأيوبي في حربه ضد الصليبيين وإخراجهم من بيت المقدس.
كل
هذا يؤكد صفة علقت بمحمود درويش منذ انطلاق مساره الشعري، وهو أنه شاعر
قضية، وإن كان هو يؤكد في أكثر من مناسبة بأنه يجب قراءته بوصفه شاعرا لا
بوصفه قضية، وذلك لما يمكن أن تجنيه عليه هذه الرؤية الأخيرة ولما يمكن أن
تلحقه به من اختزال. وهذا النوع من الشعراء لا بد أن ينقسم حولهم المتلقون
والناس عامة إلى قسمين مساند ومعارض، وهنا بالنسبة لهذه القصيدة تبلغ
المساندة والمعارضة أوجهما.
تجدر الإشارة إلى أن قراءة درويش لهذه
القصيدة من خلال تصريحاته وحواراته والتي يذهب فيها كما ألمحنا إلى ذلك
أعلاه، إلى أن ما قصده هو دعوته للإسرائيليين للخروج من الأراضي المحتلة
لا غير، لا تصمد أمام التحليل المحايث لبنيات هذا النص. كما أنها تصريحات
تمت تحت ضغط إعلامي ممنهج وحرب نفسية استهدفت الشاعر، لدرجة أنها دفعته
فيما بعد أثناء قراءته لهذه القصيدة أمام الجمهور إلى إلغاء بعض مقاطعها
المثيرة للجدل، وهو ما يمكن اعتباره نوعا من إعادة إنتاج للنص ذاته بشكل
يحظى بتسامح بعض أطراف المجتمع الإسرائيلي. لذلك نعتبر أن ما قام به درويش
لا يعبر عن صوته العميق الحقيقي، وإنما هو استجابة للضغوط والإكراهات التي
تعرض لها، والتي لولاها لكان لدلالة هذا النص مصير آخر، مصير يعبر عن
معناه الحقيقي غير منقوص منه، وهذه هي المهمة التي ندبنا أنفسنا للقيام
بها في هذه القراءة.
العنوان أو السر المكشوف
الكثير من
الأسئلة تطرح بصدد هذا النص، وأولها وآخرها يمكن صياغته على الشكل التالي:
ما السر الحقيقي في الغضبة التي أثارها لدى العدو الإسرائيلي، بينما
الكثير من قصائد درويش الأخرى تحمل نفس المعاني تقريبا، إن لم يكن يحمل
بعضها معاني أكثر عنفا؟ الجواب يكمن في العنوان لوحده، فهذه القصيدة تحمل
سرها وتكشف عنه منذ أول سطر منها، بل إن دلالتها العامة تكمن في عنوانها
مختزلة مركزة، بحيث يشكل العنوان وحده المحور النصي الذي من خلاله يمكن
قراءة القصيدة بكاملها. وهذا المحور هو "ضرورة زوال إسرائيل" التي هي
تأويل الدلالة الخفية لـعنوان "عابرون في كلام عابر".
إن عنوان النصوص
الشعرية غالبا ما يكون أشبه باللغز، توافقا مع القاعدة التي تقوم على
ضرورة انطواء الشعر على نسبة من الغموض الذي يضمن للقصيدة التجدد بفعل
القراءات المتعددة. إلا أن هذه "القاعدة" يتم خرقها في هذه القصيدة بشكل
واضح، والخرق يبدأ من العنوان، والسؤال الذي يطرحه القارئ للوصول إلى
المحور المذكور أعلاه هو من العابر وما الكلام العابر؟
الإجابة عن
هذا السؤال من طرف المتلقي، تفترض استحضار خصائص هذا الأخير، فإذا كان
ملما بالضجة التي نتجت عن النص، فجوابه سيكون جاهزا، بل وموجها لقراءته
بكاملها، وذلك لأن الإحاطة بهذه المعطيات تفك شفرات النص و تجعل القارئ
يبذل أقل قدر ممكن من المشاركة التأويلية، لأن ذلك قد تم تحقيقه بقدر كاف
عن طريق الإعلام. وما يهمنا هنا في هذه الجزئية هو القارئ الذي يتعامل مع
النص ولا شيء غير النص، القارئ الذي يحرك مخزونه المعرفي الذي يعتمده
أساسا في إضاءة النص الخاضع للتحليل.
من هذه الزاوية الافتراضية، يمكن
لهذا النوع من القراء أن يتفقد الجواب عن السؤال المطروح أعلاه انطلاقا من
المعجم اللغوي. فكلمة "عابرون" إذا ما تم التعامل معها انطلاقا من المعجم
قد تعبر عن نصف المعنى، لكن باستحضار المعطيات الموسوعية تتضح الرؤية
أكثر، فهي لا تحيل على العبور بمعناه اللغوي فقط، بل المقصود هم
العبرانيون أساسا ذلك لأن هذه التسمية التي كانت تطلق على اليهود القدامى
من معانيها العبور، فكل ألفاظ المرور والعبور ارتبطت بهذا "الشعب"، وهي
بقدر ما تدل على معاني تاريخية من مثل عدم الاستقرار والرحلة والانتقال
وعدم معرفة فن العمارة، فإنها بفعل هذه القصيدة تنضاف إليها دلالة متفرعة
عنها هي عدم الدوام وسرعة الزوال. ومما يؤكد هذا المعنى الأخير هو أن
هؤلاء العابرين لا يمرون في جغرافيا بعينها، بل هم يمرون في الكلمات التي
تتجسد في التاريخ، الذي هو بدوره ليس أكثر من كلمات عابرة، أي زائلة مثلها
مثل "الشعب" الذي تتحدث عنه.
حقيقة العابر ونقيضه الفلسطيني
إن
القصيدة تستهل بأداة النداء "أيها"، معنى ذلك أن هناك مرِسل محدد هو
الشاعر ومتلقي وخطاب يتمثل في القصيدة ذاتها، وهناك هدف هو تبليغ المعاني
المراد بثها. لذلك نجد الشاعر يعتمد تعابير يسهل على المتلقي الملم بعناصر
المجال التداولي اليهودي فك رموزها دون جهد.
أيها المارون في الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا
إن
أول ما يطالب به الشاعر العابرين هو الانصراف بعد حملهم لأسمائهم، وهو طرد
صريح لهم من فلسطين مع عدم الإبقاء على أي أثر يذكر بهم في المستقبل
الفلسطيني. والاسم هو بوابة الهوية، هو الذي ندرك العالم من خلاله،
وبتغييره يتغير الإدراك. بانصرافهم ورحيلهم، بخروج أسمائهم العبرية التي
تسم المدن والشوارع والرموز، سيتغير كل شيء، وستعود فلسطين إلى طبيعتها
العربية التي لا تلغي التنوع، لكنها عربية قبل كل شيء. وقد كانت الإشارة
إلى حمل الأسماء والانصراف، مما أثار حفيظة الكثير من الإسرائيليين ومن
بينهم عاموس كنعان المعروف بـ"اعتداله" فاتهم درويش بالشوفينية المتطرفة،
وعلق على هذه الإشارة قائلا: "إن أسماءنا مكتوبة على كل حجر في بلدنا وفي
كل سفر مطمور تحت أرضنا منذ ثلاثة آلاف وخمس مائة سنة (...) ستة ألاف من
معاصريي رووا هذه الأرض بدمائهم سنة 1948، وآلاف آخرون فيما بعد، كلما
حاولتم محو اسمنا وذكرانا".
ورغبة منه في التخلص من كل ما يذكر
بهؤلاء العابرين، يطالبهم بحمل ساعاتهم من الوقت الفلسطيني، والخروج من
تاريخه وأن يحملوا ما شاؤوا من زرقة البحر ورمل الذاكرة. ولفهم هذا
التعبير الأخير يجب إخضاعه لعملية قلب، ليصبح ذاكرة من رمل، أي ذاكرة غير
مستقرة غير ثابتة، ذاكرة قد تذروها الرياح مثلها مثل الرمل الذي يضرب به
المثل في الضعف والتقلب والتنقل، والذي حتى عندما يتجمع في شكل كثبان
رملية عالية لا يصمد أمام الريح التي تغير من شكلها ومكانها وحجمها مفرقة
لحباتها. وفي مقابل ذلك هناك رمز الحجر، الحجر الفلسطيني الذي يواجه به
الأطفال المستوطن، والذي يمكن فعل المستحيل بواسطته؛ أي بناء سقف للسماء
وهو ما لا يجيد الإسرائيلي فعله لأنه ليس أكثر من عابر في هذه الأرض.
وقبل
أن يطرق الشاعر معان أخرى و يعمد لتعريف الآخر ـ الصهيوني بنفسه، يستهل
القول مرة أخرى بالمناداة على المارين بين الكلمات العابرة التي تشكل
لازمة افتتح بها الشاعر القصيدة ويفتتح بها كل مقاطعها، وبها كذلك يختتم
القول مفسحا للقارئ الفرصة لكي ينتج من المعاني ما لا يعد ولا يحصى، قياسا
على ما قرأه في هذا النص ومثبتا لمعنى العبور والزوال لدى المتلقي بوصفهما
حقيقة شديدة الارتباط بهذا "الشعب".
في المقطع الثاني تحديدا، يحاول
الشاعر تقديم صورة عن هذا العابر، فينجز ذلك في إطار مقابلة بينه وبين
الفلسطينيين الذين يعتبر الشاعر جزءا منهم، فيظهر الفلسطيني من خلال هذه
الصورة مسالما مغلوبا على أمره، لكنه مصر على استرداد حقه، بينما يظهر
العابر بمظهر المتوحش الذي لا يؤمن إلا بلغة القوة التي يعبر عنها الشاعر
بالسيف والفولاذ والنار والدبابة وقنبلة الغاز، في مقابل الفلسطيني الذي
يسفك دمه وتتطاير أشلاؤه ويكتفي بالرد على هذه الأسلحة الفتاكة بالحجر
ويهب الحياة ممثلة في المطر. وإيغالا في إظهار وحشية العدو، وبعد هذه
العناصر التي حاول بواسطتها الشاعر تشكيل الملامح الأولى للصورة، ينتقل
إلى مستوى آخر فيخاطب العدو قائلا:
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص..وانصرفوا
iswal- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1023
Localisation : CASA
Emploi : j'ai 1 travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: صراع التأويلات.. بين بنيات النص وضغوط السياسة /رشيد الإدريسي
منذ بدء القصيدة
نفهم أن موضوع الصراع بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي هو الأرض ولا شيء
غير الأرض، بينما الشاعر هنا يقصر اهتمام العدو على الدم الفلسطيني، ويصور
ذلك في شكل مثير لأكثر من سؤال، "خذوا حصتكم من دمنا" وكأن الدم تحول إلى
ماء كل يأخذ منه حصته، بينما أخذ الدم كما نفهمه جميعا معناه سلب الحياة.
وهذا التعبير يترجم في ذهن المتلقي إلى تعبير آخر أكثر مباشرة وهو "اقتلوا
منا العدد الذي تريدون" لكن بشرط أن تنصرفوا من أرضنا. لكن للتعبير الأول
المستعمل من طرف الشاعر فائض في المعنى، لا نجده في هذه المؤولة الأخيرة
أي "اقتلوا منا العدد الذي تريدون"، وهو تحويل الصهاينة إلى مصاصي دماء،
يستحيل عليهم العيش دون حصتهم من الدم الفلسطيني.
والحديث بهذا النوع
من الاستسهال عن الدم، والحديث عنه وكأنه تركة لكل نصيبه منها، يفهم منه
أن الدم عند هذا العابر هو بالفعل أشبه بالماء، وسلب الحياة من طرفه لا
يعتبر جرما بل على العكس من ذلك هو مصدر للفرح والانتشاء، فالمعاني
الإنسانية لدى هذا الكائن العابر لم يعد لها أي وجود، لذلك يقترح عليه
الشاعر مباشرة بعد ذكر الدم، الدخول إلى حفل عشاء راقص شريطة الانصراف حتى
يتيحوا للفلسطيني الفرصة لكي يعيش كما يشاء ، أي بوصفه إنسانا له مشاعر
يحس يتألم ويحمل في أعماقه ذكرى شهدائه الذين أراق العابر دماءهم، وسقى
الأرض منها لتتحول إلى حدائق من ورد.
لقد كان هذا المقطع مع الذي
يليه من المقاطع التي أثارت حفيظة المتلقي الصهيوني، لأنه أظهره فيه
الشاعر بمظهر المخرب. وقد رد الإسرائيلي أموس كنعان، مبينا حسب منطقه أن
مقاومة العرب سنة 1948 للاحتلال الإسرائيلي، وما نتج عنها من قتلى يهود
تسمح له بقلب الصورة، لذلك عبر قائلا : "... في تلك الفترات السيف أنتم
الذين كنتم تسلونه، منكم كان يأتي الفولاذ والنار، ومنا يأتي الدم
واللحم"، ثم يتوجه إلى درويش قائلا : " ربما أمكنك نسيان ذلك، أما أنا
فلا، ورغم ذلك، فإنني لا أرغب فقط في أن تنصرف من هنا، بل أكثر من ذلك،
أريدك أن ترجع".
أوهام الماضي وسوق التحف
في المقطع الثالث
ترتفع حدة النقد ويلجأ الشاعر إلى توظيف معان سلبية في حق الصهيوني، مع
وضعها دائما في إطار مقابلة مع معان أخرى إيجابية يمثلها الفلسطيني.
فالآخر في هذا المستوى كالغبار المر وكالحشرات الطائرة، بينما الفلسطيني
يبقى رمز الحياة وهو ما يعبر عنه الشاعر بقوله:
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
وهو
من أقوى التعابير الدالة على محور الحياة في هذه القصيدة، لقد كان بإمكان
الشاعر أن يقول لنا قمح نزرعه، لكنه اختار هذه الاستعارة، لأن بواسطتها
يتحول القمح إلى شبه طفل، يعمل الفلسطيني على تربيته، أي أن الفلسطيني بلغ
من الحنو والعطف والإيمان بقيم الحياة إلى درجة أنه يتعامل مع عناصر
الطبيعة الجامدة وكأنها كائنات حية تستحق منه أن يضحي من أجلها، ولو اقتضى
الحال أن يهبها من ذاته وأن يسقيها ندى جسده الذي أخذ منه العابر اللحم
والدم. ولقوة هذه الاستعارة فإنه بالإمكان فهمها كذلك بوصفها تعبيرا عن
شدة تمسك الفلسطيني بأرضه، إذ أن المرء كما أنه لا يقبل أن ينفصل ويتخلى
عن أبنائه فكذلك الشأن بالنسبة للفلسطيني مع أرضه وزرعها الذي هو في مقام
الأبناء.
وفي نهاية هذا المقطع الثالث والمقطع الرابع، يبلور الشاعر
حقلا دلاليا آخر، كان من الحقول التي أغضبت الكثير من منتقدي درويش من
الإسرائيليين، والذين رأوا فيه رفضا مطلقا لدولة إسرائيل وللأسس التاريخية
التي قامت عليها، والتي اعتمدتها الحركة الصهيونية في الدعوة إلى إنشاء
وطنها القومي. والقصيدة في مجموعها يمكن فهمها انطلاقا من هذا الحقل، لكن
التعبير عنها صراحة وتكثيفها في مجوعة أبيات لا تبدأ إلا عندما يصل الشاعر
إلى البيت التالي:
فخذوا الماضي إذا شئتم إلى سوق التحف
وهو
بمثابة نواة سيعمل الشاعر فيما سيتلو من أبيات، على تفريعها إلى عدة أبعاد
شارحا لما يمكن أن تحتمله من دلالات وما تحيل عليه من أشياء لم يعد لها
مكان إلا في سوق التحف و المهملات. ذلك أن الماضي الإسرائيلي نفسه
والتاريخ كما تم تشييده من طرف الحركة الصهيونية، لا يمكن بناء دولة
بواسطته على حساب حق شعب آخر، لأن هذا الماضي عند تمحيصه تجده قائما على
مستحيلات أكثر من قيامه على الحقائق الملموسة.
فخذوا الماضي، إذا شئتم إلى سوق التحف
و أعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، إن شئتم
على صحن خزف
لنا ما ليس يرضيكم، لنا المستقبل ولنا في أرضنا ما نعمل
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة ، وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس
أو إلى توقيت موسيقى مسدس
في
هذه الأبيات، انطلاقا من هذه الزاوية ورغبة في تحسيس العدو بعجزه، يطالبه
الشاعر باستعادة الهيكل العظمي للهدهد على صحن من خزف، في إشارة إلى هدهد
سليمان، وهو من المستحيلات، فهيكل سليمان نفسه الذي لا تتوقف الدعاية
الصهيونية عن الحديث عنه لم يتم العثور له على أثر، فما بالك بهيكل هدهد
قضى منذ آلاف السنين. والإشارة إلى الهيكل العظمي للهدهد بهذه التسمية،
مقصودة الغرض منها هو التذكير بهيكل سليمان الذي يراد بناؤه من طرف
الصهاينة مكان المسجد الأقصى.
مباشرة بعد ذلك وبعد مطالبتهم بهذه
المستحيلات التعجيزية، يذكرهم بأن الأرض أرض الفلسطيني ولن يمكنهم سلبها
منه كما لن يجدوا فيها إلا ما ليس يرضيهم، لذلك يطالبهم بالانصراف
ويطالبهم بتكديس كل أوهامهم في حفرة مهجورة، وهو تعبير يستعيد الدلالة
التي نجدها في الإشارة إلى سوق التحف، لكن بصراحة أكثر وعنف أقوى.
والتذكير بالأوهام لا يقف عند هذه الرموز وحدها فقط، بل قبل أن ينتقل من
هذا الحقل إلى آخر، نجده مرة أخرى يشير إلى وهم ومستحيل آخر، عندما يدعوهم
إعادة الوقت إلى شرعية العجل المقدس. والزمن كما هو معلوم من المستحيل
إعادته إلى الخلف فإعادة عقارب الساعة إلى الخلف ولو لدقائق أمر غير ممكن،
وعندما يتعلق الأمر بآلاف السنين يصبح الأمر ضربا من الخيال، هي إذن دعوة
لهم ليعيشوا أوهامهم على مستوى الخيال وترك فلسطين لأصحابها الذين لهم
فيها ما يعملون.
والإشارة إلى العجل المقدس، تنطوي على غير هذه
الدلالات، فالعجل المقدس أو العجل الذهبي، في التراث اليهودي، تمثال من
الذهب عبده بنو إسرائيل في سيناء عندما كان موسى يتعبد فوق الجبل، وهو
تمثال كان يعد تجسيدا للإله، وقد نظر من طرف الصهيونية لإسرائيل بوصفها هي
العجل الذهبي الجديد الذي تجب عبادته، بحيث أن الحركة الصهيونية قامت بنوع
من التوظيف الحديث لرمز قديم مستغلة ما تراكم حوله من تقديس لتربطه بهذا
الكيان القومي، إلا أن النص بالإضافة إلى تحديهم بمطالبتهم بالمستحيل، أي
إعادة عقارب الساعة إلى الخلف، يرمز من طرف شديد الخفاء، قد لا يظهر إلا
للذي يجيد توظيف الموسوعة اليهودية، إلى مصير هذا الكيان. فعند عودة موسى،
كما يروي التاريخ، من الجبل لم يتمالك نفسه وقد كان سريع الغضب، فحطم لوحي
الشهادة، "ثم أخذ العجل الذي صنعوه وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعما
وذرَّاه على وجه الماء، وسقى أعضاء جماعة إسرائيل ثم قتل نحو ثلاثة آلاف
رجل"13. وباستحضارنا لتطابق العجل المقدس والدولة الصهيونية، نحصل على
نتيجة واحدة مفادها حتمية زوال الدولة كما زال العجل الذي يستحيل الرجوع
إلى وقته كما يطالبهم بذلك الشاعر.
نفهم أن موضوع الصراع بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي هو الأرض ولا شيء
غير الأرض، بينما الشاعر هنا يقصر اهتمام العدو على الدم الفلسطيني، ويصور
ذلك في شكل مثير لأكثر من سؤال، "خذوا حصتكم من دمنا" وكأن الدم تحول إلى
ماء كل يأخذ منه حصته، بينما أخذ الدم كما نفهمه جميعا معناه سلب الحياة.
وهذا التعبير يترجم في ذهن المتلقي إلى تعبير آخر أكثر مباشرة وهو "اقتلوا
منا العدد الذي تريدون" لكن بشرط أن تنصرفوا من أرضنا. لكن للتعبير الأول
المستعمل من طرف الشاعر فائض في المعنى، لا نجده في هذه المؤولة الأخيرة
أي "اقتلوا منا العدد الذي تريدون"، وهو تحويل الصهاينة إلى مصاصي دماء،
يستحيل عليهم العيش دون حصتهم من الدم الفلسطيني.
والحديث بهذا النوع
من الاستسهال عن الدم، والحديث عنه وكأنه تركة لكل نصيبه منها، يفهم منه
أن الدم عند هذا العابر هو بالفعل أشبه بالماء، وسلب الحياة من طرفه لا
يعتبر جرما بل على العكس من ذلك هو مصدر للفرح والانتشاء، فالمعاني
الإنسانية لدى هذا الكائن العابر لم يعد لها أي وجود، لذلك يقترح عليه
الشاعر مباشرة بعد ذكر الدم، الدخول إلى حفل عشاء راقص شريطة الانصراف حتى
يتيحوا للفلسطيني الفرصة لكي يعيش كما يشاء ، أي بوصفه إنسانا له مشاعر
يحس يتألم ويحمل في أعماقه ذكرى شهدائه الذين أراق العابر دماءهم، وسقى
الأرض منها لتتحول إلى حدائق من ورد.
لقد كان هذا المقطع مع الذي
يليه من المقاطع التي أثارت حفيظة المتلقي الصهيوني، لأنه أظهره فيه
الشاعر بمظهر المخرب. وقد رد الإسرائيلي أموس كنعان، مبينا حسب منطقه أن
مقاومة العرب سنة 1948 للاحتلال الإسرائيلي، وما نتج عنها من قتلى يهود
تسمح له بقلب الصورة، لذلك عبر قائلا : "... في تلك الفترات السيف أنتم
الذين كنتم تسلونه، منكم كان يأتي الفولاذ والنار، ومنا يأتي الدم
واللحم"، ثم يتوجه إلى درويش قائلا : " ربما أمكنك نسيان ذلك، أما أنا
فلا، ورغم ذلك، فإنني لا أرغب فقط في أن تنصرف من هنا، بل أكثر من ذلك،
أريدك أن ترجع".
أوهام الماضي وسوق التحف
في المقطع الثالث
ترتفع حدة النقد ويلجأ الشاعر إلى توظيف معان سلبية في حق الصهيوني، مع
وضعها دائما في إطار مقابلة مع معان أخرى إيجابية يمثلها الفلسطيني.
فالآخر في هذا المستوى كالغبار المر وكالحشرات الطائرة، بينما الفلسطيني
يبقى رمز الحياة وهو ما يعبر عنه الشاعر بقوله:
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
وهو
من أقوى التعابير الدالة على محور الحياة في هذه القصيدة، لقد كان بإمكان
الشاعر أن يقول لنا قمح نزرعه، لكنه اختار هذه الاستعارة، لأن بواسطتها
يتحول القمح إلى شبه طفل، يعمل الفلسطيني على تربيته، أي أن الفلسطيني بلغ
من الحنو والعطف والإيمان بقيم الحياة إلى درجة أنه يتعامل مع عناصر
الطبيعة الجامدة وكأنها كائنات حية تستحق منه أن يضحي من أجلها، ولو اقتضى
الحال أن يهبها من ذاته وأن يسقيها ندى جسده الذي أخذ منه العابر اللحم
والدم. ولقوة هذه الاستعارة فإنه بالإمكان فهمها كذلك بوصفها تعبيرا عن
شدة تمسك الفلسطيني بأرضه، إذ أن المرء كما أنه لا يقبل أن ينفصل ويتخلى
عن أبنائه فكذلك الشأن بالنسبة للفلسطيني مع أرضه وزرعها الذي هو في مقام
الأبناء.
وفي نهاية هذا المقطع الثالث والمقطع الرابع، يبلور الشاعر
حقلا دلاليا آخر، كان من الحقول التي أغضبت الكثير من منتقدي درويش من
الإسرائيليين، والذين رأوا فيه رفضا مطلقا لدولة إسرائيل وللأسس التاريخية
التي قامت عليها، والتي اعتمدتها الحركة الصهيونية في الدعوة إلى إنشاء
وطنها القومي. والقصيدة في مجموعها يمكن فهمها انطلاقا من هذا الحقل، لكن
التعبير عنها صراحة وتكثيفها في مجوعة أبيات لا تبدأ إلا عندما يصل الشاعر
إلى البيت التالي:
فخذوا الماضي إذا شئتم إلى سوق التحف
وهو
بمثابة نواة سيعمل الشاعر فيما سيتلو من أبيات، على تفريعها إلى عدة أبعاد
شارحا لما يمكن أن تحتمله من دلالات وما تحيل عليه من أشياء لم يعد لها
مكان إلا في سوق التحف و المهملات. ذلك أن الماضي الإسرائيلي نفسه
والتاريخ كما تم تشييده من طرف الحركة الصهيونية، لا يمكن بناء دولة
بواسطته على حساب حق شعب آخر، لأن هذا الماضي عند تمحيصه تجده قائما على
مستحيلات أكثر من قيامه على الحقائق الملموسة.
فخذوا الماضي، إذا شئتم إلى سوق التحف
و أعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، إن شئتم
على صحن خزف
لنا ما ليس يرضيكم، لنا المستقبل ولنا في أرضنا ما نعمل
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة ، وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس
أو إلى توقيت موسيقى مسدس
في
هذه الأبيات، انطلاقا من هذه الزاوية ورغبة في تحسيس العدو بعجزه، يطالبه
الشاعر باستعادة الهيكل العظمي للهدهد على صحن من خزف، في إشارة إلى هدهد
سليمان، وهو من المستحيلات، فهيكل سليمان نفسه الذي لا تتوقف الدعاية
الصهيونية عن الحديث عنه لم يتم العثور له على أثر، فما بالك بهيكل هدهد
قضى منذ آلاف السنين. والإشارة إلى الهيكل العظمي للهدهد بهذه التسمية،
مقصودة الغرض منها هو التذكير بهيكل سليمان الذي يراد بناؤه من طرف
الصهاينة مكان المسجد الأقصى.
مباشرة بعد ذلك وبعد مطالبتهم بهذه
المستحيلات التعجيزية، يذكرهم بأن الأرض أرض الفلسطيني ولن يمكنهم سلبها
منه كما لن يجدوا فيها إلا ما ليس يرضيهم، لذلك يطالبهم بالانصراف
ويطالبهم بتكديس كل أوهامهم في حفرة مهجورة، وهو تعبير يستعيد الدلالة
التي نجدها في الإشارة إلى سوق التحف، لكن بصراحة أكثر وعنف أقوى.
والتذكير بالأوهام لا يقف عند هذه الرموز وحدها فقط، بل قبل أن ينتقل من
هذا الحقل إلى آخر، نجده مرة أخرى يشير إلى وهم ومستحيل آخر، عندما يدعوهم
إعادة الوقت إلى شرعية العجل المقدس. والزمن كما هو معلوم من المستحيل
إعادته إلى الخلف فإعادة عقارب الساعة إلى الخلف ولو لدقائق أمر غير ممكن،
وعندما يتعلق الأمر بآلاف السنين يصبح الأمر ضربا من الخيال، هي إذن دعوة
لهم ليعيشوا أوهامهم على مستوى الخيال وترك فلسطين لأصحابها الذين لهم
فيها ما يعملون.
والإشارة إلى العجل المقدس، تنطوي على غير هذه
الدلالات، فالعجل المقدس أو العجل الذهبي، في التراث اليهودي، تمثال من
الذهب عبده بنو إسرائيل في سيناء عندما كان موسى يتعبد فوق الجبل، وهو
تمثال كان يعد تجسيدا للإله، وقد نظر من طرف الصهيونية لإسرائيل بوصفها هي
العجل الذهبي الجديد الذي تجب عبادته، بحيث أن الحركة الصهيونية قامت بنوع
من التوظيف الحديث لرمز قديم مستغلة ما تراكم حوله من تقديس لتربطه بهذا
الكيان القومي، إلا أن النص بالإضافة إلى تحديهم بمطالبتهم بالمستحيل، أي
إعادة عقارب الساعة إلى الخلف، يرمز من طرف شديد الخفاء، قد لا يظهر إلا
للذي يجيد توظيف الموسوعة اليهودية، إلى مصير هذا الكيان. فعند عودة موسى،
كما يروي التاريخ، من الجبل لم يتمالك نفسه وقد كان سريع الغضب، فحطم لوحي
الشهادة، "ثم أخذ العجل الذي صنعوه وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعما
وذرَّاه على وجه الماء، وسقى أعضاء جماعة إسرائيل ثم قتل نحو ثلاثة آلاف
رجل"13. وباستحضارنا لتطابق العجل المقدس والدولة الصهيونية، نحصل على
نتيجة واحدة مفادها حتمية زوال الدولة كما زال العجل الذي يستحيل الرجوع
إلى وقته كما يطالبهم بذلك الشاعر.
iswal- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1023
Localisation : CASA
Emploi : j'ai 1 travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: صراع التأويلات.. بين بنيات النص وضغوط السياسة /رشيد الإدريسي
| |||
الإتحاد الإشتراكي |
iswal- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1023
Localisation : CASA
Emploi : j'ai 1 travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» رشيد الإدريسي/ اللغة والسياسة في المغرب
» في صراع الجهالات وحاجتنا للأمل
» عائشة، محْبوبةُ النبيّ
» صراع ساخن على النجومية بين شابات السينما!
» رحيل أيقونة إعلامية بعد صراع طويل مع المرض
» في صراع الجهالات وحاجتنا للأمل
» عائشة، محْبوبةُ النبيّ
» صراع ساخن على النجومية بين شابات السينما!
» رحيل أيقونة إعلامية بعد صراع طويل مع المرض
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى