المغرب المنقرض / والتر هاريس
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
المغرب المنقرض / والتر هاريس
بعيدا عن بلده الأم انجلترا، حل والتر هاريس ابن إحدى العائلات البريطانية الغنية بالمغرب في القرن التاسع عشر، وسافر في ربوعه وتعرف على عادات المغاربة وتقاليدهم. بعد سنوات من استقراره في طنجة، تعرض هاريس للاختطاف وسقط في أيدي رجال مولاي أحمد الريسوني، الرجل القوي في طنجة الشهير بكونه قاطع طريق وجبارا ومختطفا. نشر هاريس فصول قصة اختطافه، ولقائه بالسلطان مولاي الحسن وحياة القصور الفخمة بأسلوبه الساخر الممزوج بالطرافة في كتابه «المغرب المنقرض» الذي تنشره «المساء» هذا الصيف على مدى حلقات...
ترجمة وإعداد- سعاد رودي
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-1-
الحسن الأول يحد من أطماع الاستعمار والريسوني يبسط سطوته على طنجة
الحسن الأول يحد من أطماع الاستعمار والريسوني يبسط سطوته على طنجة
بعد بلوغه عامه العشرين، قرر الشاب والتر هاريس، سليل إحدى أغنى العائلات البريطانية التي تعمل في البحار، الهجرة إلى المغرب بعد أن أنهى دراسته. حطت به السفينة القادمة من عاصمة الضباب في طنجة عام 1886، قبل أن يشد الرحال جنوبا ليصل وحيدا إلى مدينة مراكش. وأمضى هذا المغامر الأوروبي سنوات عمره متنقلا بين العديد من الدول المسلمة قبل أن يستقر في طنجة، وكانت حياته تتحدى عقارب ساعات الزمن. وعلى بعد خمسة كيلومترات من المدينة، بعيدا عن أعين السلطات المخزنية، بنى هاريس إقامة سكنية فاخرة أطلق عليها «فيلا هاريس» وتوجد لغاية اليوم في ملكية المجموعة الفندقية «كلوب ميد».
شكل القرن 19 منعطفا خطيرا في تاريخ المغرب، حيث أصبح محط أطماع القوى الأوربية التي استغلت تفوقها العسكري والاقتصادي لممارسة ضغوطات ممنهجة على المغرب. لمواجهة هذه التطورات المستجدة قام المخزن بمحاولات إصلاحية إلا أن الاستعمار حد من فعاليتها وأدى إلى إفشالها.
زار هاريس المغرب مرات متعددة خلال الفترة الممتدة بين 1886 و1889، وبفضل شجاعته وحبه للاستكشاف، عينت جريدة «التايمز» البريطانية هاريس مراسلها الرسمي المعتمد في المغرب عام 1906، مما ساعده على التعرف على المغرب وعلى حكامه. كان هذا الأوروبي المثير للدهشة يتحدث باللهجة الدارجة المغربية ويرتدي ملابس تماما مثل باقي المغاربة، ويلتقي مع زعماء القبائل في مختلف المناطق المغربية ولم يتوان في التوغل إلى أبعد الأماكن الخطيرة والمغامرة بحياته. كتابات هاريس تترك لدى القارئ انطباعا بأنه كان «عميلا» للاستخبارات البريطانية والفرنسية في المغرب.
دعا السلطان الحسن الأول إلى انعقاد مؤتمر دولي لتقنين تطبيق مفهوم الحماية القنصلية. إلا أن الدول الأوربية شكلت جبهة في مؤتمر مدريد الذي انعقدت أشغاله ما بين 19 ماي و 3 يوليوز 1880. والذي أكد ما جاء في المعاهدات السابقة وزاد من امتيازات الدول الأوربية، حيث أصبحت قراراته وثيقة دولية، جعلت المغرب تحت وصاية مجموعة من الدول، أهمها: انجلترا التي ترغب في تجديد معاهدة 1856.
كان رفض المخزن في مرحلة أولى تجديد بنود المعاهدة على انفراد مع بريطانيا، ورفضه الثاني لإبرام معاهدة جديدة مع الدول الأوربية، إيذانا بالفشل الذريع الذي منيت به السياسة التي نهجتها بريطانيا على يد نائبها دراموند هاي في المغرب مدة ناهزت نصف قرن، وكانت خيبة أمل دراموند هاي كبيرة، إذ كانت تحذوه رغبة أكيدة في إنهاء مهامه في المغرب بتوقيع معاهدة تجارية جديدة لفائدة بلاده، وأشارت الصحف الصادرة في طنجة إلى أن «المحبة التي كانت بين الدولة الشريفة ودولة الإنجليز تبدلت، حيث لم يبق في خدمة الجناب الشريف المهندس «سيلب» وقائد الحرس بطنجة، وأبدل الرئيس الإنجليزي الذي كان بالبابور برايس من البلجيك». ومن جهة أخرى، رفض المخزن استغلال المعادن على يد القبطان الإنجليزي وارن ، كما ظلت أمور وقضايا عديدة دون فصال لصالح الرعايا البريطانيين في المغرب.
وحاول الحاجب موسى بن أحمد طمأنة دراموند هاي بأن «المحبة بين بريطانيا العظمى والمغرب راسخة صافية متتابعة متوالية». وحين علم المولى الحسن بقرار أصدرته وزارة الخارجية البريطانية بتقاعد دراموند هاي عن الخدمة لكبر سنه، وجه رسالة في الموضوع إلى الملكة فكتوريا أثنى فيها الثناء الكبير على النائب البريطاني.
وكانت وفاة فكتوريا في يناير 1901، و مجيئ إدوارد السابع الذي كان شديد الإعجاب بفرنسا، سبباً في تقرب بريطانيا من فرنسا للحفاظ على مكتسباتها الاستعمارية وتعزيزها في مواجهة محتملة ضد ألمانيا.
في يونيو 1903، وبينما كان هاريس يزور منطقة زينات البعيدة عن طنجة ببضعة كيلومترات، اختطفه زعيم القبيلة مولاي أحمد الريسوني الذي كان يفرض قانونه على منطقة زينات. وبعد مرور ثلاثة أسابيع على اختطافه، أفرج المختطفون عن هاريس بعد أن حصلوا على فدية من السير ارتور نيكولسون وزير بريطانيا العظمى في طنجة.
نشر هاريس مقالات متعددة عن المغرب في جريدة «التايمز»، وانتقد في مقاله الصادر عام 1917 «طنجة والمنطقة الاسبانية» أطماع اسبانيا في المدينة. وبعد أربع سنوات، نشر كتابه «المغرب الذي كان» وصف فيه بطريقة طريفة تاريخ المغرب ما بين 1887 و1921. حكى هاريس في كتابه باستفاضة عن الريسوني وتفاصيل اختطافه وكيف تخلص من الأسر، كما يصف تفاصيل الزيارة التاريخية لإمبراطور ألمانيا إلى طنجة. اعتبر المؤرخون الصحفي المشهور والتر هاريس «صديق الشعب المغربي»، ودفن بعد وفاته في طنجة بالمقبرة الانجليكانية لسانت اندرو.
تعرف والتر هاريس على الطقوس السلطانية أثناء زيارة صديقه السير ويليام كيربي غرين للمغرب الذي رافقه في أول زيارة له إلى المغرب من أجل لقاء السلطان مولاي الحسن..
شكل القرن 19 منعطفا خطيرا في تاريخ المغرب، حيث أصبح محط أطماع القوى الأوربية التي استغلت تفوقها العسكري والاقتصادي لممارسة ضغوطات ممنهجة على المغرب. لمواجهة هذه التطورات المستجدة قام المخزن بمحاولات إصلاحية إلا أن الاستعمار حد من فعاليتها وأدى إلى إفشالها.
زار هاريس المغرب مرات متعددة خلال الفترة الممتدة بين 1886 و1889، وبفضل شجاعته وحبه للاستكشاف، عينت جريدة «التايمز» البريطانية هاريس مراسلها الرسمي المعتمد في المغرب عام 1906، مما ساعده على التعرف على المغرب وعلى حكامه. كان هذا الأوروبي المثير للدهشة يتحدث باللهجة الدارجة المغربية ويرتدي ملابس تماما مثل باقي المغاربة، ويلتقي مع زعماء القبائل في مختلف المناطق المغربية ولم يتوان في التوغل إلى أبعد الأماكن الخطيرة والمغامرة بحياته. كتابات هاريس تترك لدى القارئ انطباعا بأنه كان «عميلا» للاستخبارات البريطانية والفرنسية في المغرب.
دعا السلطان الحسن الأول إلى انعقاد مؤتمر دولي لتقنين تطبيق مفهوم الحماية القنصلية. إلا أن الدول الأوربية شكلت جبهة في مؤتمر مدريد الذي انعقدت أشغاله ما بين 19 ماي و 3 يوليوز 1880. والذي أكد ما جاء في المعاهدات السابقة وزاد من امتيازات الدول الأوربية، حيث أصبحت قراراته وثيقة دولية، جعلت المغرب تحت وصاية مجموعة من الدول، أهمها: انجلترا التي ترغب في تجديد معاهدة 1856.
كان رفض المخزن في مرحلة أولى تجديد بنود المعاهدة على انفراد مع بريطانيا، ورفضه الثاني لإبرام معاهدة جديدة مع الدول الأوربية، إيذانا بالفشل الذريع الذي منيت به السياسة التي نهجتها بريطانيا على يد نائبها دراموند هاي في المغرب مدة ناهزت نصف قرن، وكانت خيبة أمل دراموند هاي كبيرة، إذ كانت تحذوه رغبة أكيدة في إنهاء مهامه في المغرب بتوقيع معاهدة تجارية جديدة لفائدة بلاده، وأشارت الصحف الصادرة في طنجة إلى أن «المحبة التي كانت بين الدولة الشريفة ودولة الإنجليز تبدلت، حيث لم يبق في خدمة الجناب الشريف المهندس «سيلب» وقائد الحرس بطنجة، وأبدل الرئيس الإنجليزي الذي كان بالبابور برايس من البلجيك». ومن جهة أخرى، رفض المخزن استغلال المعادن على يد القبطان الإنجليزي وارن ، كما ظلت أمور وقضايا عديدة دون فصال لصالح الرعايا البريطانيين في المغرب.
وحاول الحاجب موسى بن أحمد طمأنة دراموند هاي بأن «المحبة بين بريطانيا العظمى والمغرب راسخة صافية متتابعة متوالية». وحين علم المولى الحسن بقرار أصدرته وزارة الخارجية البريطانية بتقاعد دراموند هاي عن الخدمة لكبر سنه، وجه رسالة في الموضوع إلى الملكة فكتوريا أثنى فيها الثناء الكبير على النائب البريطاني.
وكانت وفاة فكتوريا في يناير 1901، و مجيئ إدوارد السابع الذي كان شديد الإعجاب بفرنسا، سبباً في تقرب بريطانيا من فرنسا للحفاظ على مكتسباتها الاستعمارية وتعزيزها في مواجهة محتملة ضد ألمانيا.
في يونيو 1903، وبينما كان هاريس يزور منطقة زينات البعيدة عن طنجة ببضعة كيلومترات، اختطفه زعيم القبيلة مولاي أحمد الريسوني الذي كان يفرض قانونه على منطقة زينات. وبعد مرور ثلاثة أسابيع على اختطافه، أفرج المختطفون عن هاريس بعد أن حصلوا على فدية من السير ارتور نيكولسون وزير بريطانيا العظمى في طنجة.
نشر هاريس مقالات متعددة عن المغرب في جريدة «التايمز»، وانتقد في مقاله الصادر عام 1917 «طنجة والمنطقة الاسبانية» أطماع اسبانيا في المدينة. وبعد أربع سنوات، نشر كتابه «المغرب الذي كان» وصف فيه بطريقة طريفة تاريخ المغرب ما بين 1887 و1921. حكى هاريس في كتابه باستفاضة عن الريسوني وتفاصيل اختطافه وكيف تخلص من الأسر، كما يصف تفاصيل الزيارة التاريخية لإمبراطور ألمانيا إلى طنجة. اعتبر المؤرخون الصحفي المشهور والتر هاريس «صديق الشعب المغربي»، ودفن بعد وفاته في طنجة بالمقبرة الانجليكانية لسانت اندرو.
تعرف والتر هاريس على الطقوس السلطانية أثناء زيارة صديقه السير ويليام كيربي غرين للمغرب الذي رافقه في أول زيارة له إلى المغرب من أجل لقاء السلطان مولاي الحسن..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-2-
بعد شهر من وصولي إلى المغرب، اكتشفت لأول مرة فضاء القصور الملكية المغربية عام 1887، كنت حينها ضيفا لدى السير الراحل ويليام كيربي غرين الذي دعاني لزيارة سفارته لدى السلطان.
وقتها كان مولاي الحسن في أوج مجده وقوته، امتاز بتسلطه وقدرته على مواجهة أعدائه. طاقته لم تكن تخمد أبدا، ونجح في استتباب النظام بين القبائل المتناحرة وأخرس الثورات التي لم تتوقف أبدا وهو يتنقل في ربوع البلد مرفوقا بحرس «الحركة» الذين لا يفارقون السلطان في أسفاره الداخلية. كان مولاي الحسن يمضي ستة أشهر في عاصمة من عواصم الأقاليم، ويردد المغاربة حينها: «الخيمة الملكية منصوبة دائما»، فيما يصعب تقييم الجهد الكبير لتهييء الخيمة والبضائع التي تتطلبها هذه الأسفار. لم يكن السلطان يفوت مرافقة زوجاته وكل وزرائه وعائلاتهم، إضافة إلى عشرة آلاف جندي وعدد كبير من الخدم والحشم.
عند ازدهار «الحركة» تزدهر التجارة بشكل ملحوظ ويتم تبادل المواد الغذائية في المنطقة التي يتوقف فيها السلطان وحاشيته، ويتم عرض سلع متنوعة يقبل على شرائها الأهالي. بإمكاننا استخلاص فكرة حول انعكاسات هذه التجمعات البشرية، ومنها اشتق الاصطلاح العربي عليها بـ«الحركة» والتي تعني الحريق.
سواء كانت القبائل في حالة حرب مفتوحة، تعيش هدنة أو في فترة سلم، تجد نفسها مطالبة بتوفير الغذاء والأكل لهذه الأعداد الهائلة من البشر، والتي ما إن تحط الرحال في منطقة معينة، تجد أنها تشبه أسراب الجراد الصحراوي ولا تترك آثار عبور كائنات إنسانية بها. لا يتم الاكتفاء بسحب الأشياء من الناس بمسوغ قانوني، بل يتعدى الأمر ذلك بحصول الوزراء ومحيط السلطان على الهدايا والأموال، بينما يسطو كل جندي في المخيم على ممتلكات الرعايا لحسابه الخاص.
ومع إعلان قرب قدوم هذه الزيارات السلطانية، يخلي السكان بلداتهم كيفما استطاعوا، ويستقرون في مناطق أخرى، تاركين أحيانا خلفهم ما تيسر للقائد من مؤن ليسلمها إلى السلطان الذي يجد نفسه في منطقة جرداء خالية من البشر..
المغرب ما يزال بلدا مجهولا حتى هذا اليوم، ولم تكن أوروبا تولي أي اهتمام لما يحدث داخل حدود المملكة لأن تحركات السلطان لم تتسبب في نشوب حروب دولية تستدعي تدخل الدول الأجنبية لإيقافها.
وفي وقت ساد فيه الصراع الثنائي بين بريطانيا وفرنسا وشكل السمة البارزة للوضع السياسي العالمي، عاش المغرب بمعزل عن تلك التجاذبات رغم إطلاله على البحر الأبيض المتوسط، وتحرص الحكومات الأوروبية على إيفاد بعثات خاصة إلى السلطان في عدد من المدن المغربية، ويستقبلهم في حفلات باذخة لاستعراض المسائل العالقة، وتتعلق في غالب الأحيان بالاتفاقيات التجارية، ورغم هذه المظاهر، تسود دائما بين المغاربة والأوروبيين المسيحيين مشاعر الحقد والكراهية.
وصلت البعثة الخاصة للسير ويليام بيركبي غرين إلى مازاغان عبر البحر على متن سفينة حربية انجليزية، ليسلك بعدها الطريق البرية صوب مراكش. وحسب ما تقتضيه الأعراف، أرسل السلطان إلى الميناء إرسالية تضم اللحوم والأكل والخيام. شكلت الدولة المغربية في تلك الفترة شوكة صلبة في وجه الأعداء ووقف مولاي الحسن في وجه الأطماع الأجنبية.. التقت القافلة البريطانية في طريقها قبائل مسالمة استقبلتها بحفاوة وتلقائية مثيرة للإعجاب. وأخيرا وصلت البعثة وسط عاصفة من الغبار الأصفر والشمس تختفي في الأفق، والحشود مصطفة لاستقبالنا وعشرات الخيل تؤدي التحية للضيوف، الذين اجتازوا حديقة من أشجار الزيتون والبرتقال المحيطة بإقامة المامونية حيث ستمضي البعثة البريطانية مقامها في المغرب.
يستقبل السلطان المبعوثين الأجانب داخل مكان بديكورات رائعة، وبعد مرور سنوات، تغير البروتوكول تدريجيا، ولم يعد بالإمكان استقبال ممثلي الحكومات الأوروبية باعتبارهم سفراء فوق العادة لبلدانهم بالمغرب. رغم هذا التغيير، حافظت أبهة الاستقبال على رونقها بشكل لا يقبل النقاش. لقد وجد ممثلو القوى العظمى أنفسهم واقفين برؤوسهم العارية تحت الشمس الملتهبة أمام السلطان الذي يحتمي من الحر بمظلة ملكية، ولا ينكر أحد أن المشهد كان متميزا ذا نكهة شرقية خالصة.
تمتد مساحة ساحة القصر حيث يتم استقبال الضيوف على مئات الأمتار بسواري ضخمة مزركشة، وتحيط بها جدران صفراء سميكة تخترقها بوابات رخامية. على جانبي الساحة وأسفل السواري، تظهر الأرضيات المسطحة مرمرية الملمس، وعلى بعد أمتار تنتصب أشجار الزيتون والاوكاليبتوس. بعيدا نحو الجنوب، تسطع أشعة الصباح على منظر مدهش بخلفية قمم جبال الأطلس الوردية.. من الصعب أن يتخيل المرء مشهدا يوازي هذا الجمال من حيث روعة المناظر وسحر الهندسة..
وقتها كان مولاي الحسن في أوج مجده وقوته، امتاز بتسلطه وقدرته على مواجهة أعدائه. طاقته لم تكن تخمد أبدا، ونجح في استتباب النظام بين القبائل المتناحرة وأخرس الثورات التي لم تتوقف أبدا وهو يتنقل في ربوع البلد مرفوقا بحرس «الحركة» الذين لا يفارقون السلطان في أسفاره الداخلية. كان مولاي الحسن يمضي ستة أشهر في عاصمة من عواصم الأقاليم، ويردد المغاربة حينها: «الخيمة الملكية منصوبة دائما»، فيما يصعب تقييم الجهد الكبير لتهييء الخيمة والبضائع التي تتطلبها هذه الأسفار. لم يكن السلطان يفوت مرافقة زوجاته وكل وزرائه وعائلاتهم، إضافة إلى عشرة آلاف جندي وعدد كبير من الخدم والحشم.
عند ازدهار «الحركة» تزدهر التجارة بشكل ملحوظ ويتم تبادل المواد الغذائية في المنطقة التي يتوقف فيها السلطان وحاشيته، ويتم عرض سلع متنوعة يقبل على شرائها الأهالي. بإمكاننا استخلاص فكرة حول انعكاسات هذه التجمعات البشرية، ومنها اشتق الاصطلاح العربي عليها بـ«الحركة» والتي تعني الحريق.
سواء كانت القبائل في حالة حرب مفتوحة، تعيش هدنة أو في فترة سلم، تجد نفسها مطالبة بتوفير الغذاء والأكل لهذه الأعداد الهائلة من البشر، والتي ما إن تحط الرحال في منطقة معينة، تجد أنها تشبه أسراب الجراد الصحراوي ولا تترك آثار عبور كائنات إنسانية بها. لا يتم الاكتفاء بسحب الأشياء من الناس بمسوغ قانوني، بل يتعدى الأمر ذلك بحصول الوزراء ومحيط السلطان على الهدايا والأموال، بينما يسطو كل جندي في المخيم على ممتلكات الرعايا لحسابه الخاص.
ومع إعلان قرب قدوم هذه الزيارات السلطانية، يخلي السكان بلداتهم كيفما استطاعوا، ويستقرون في مناطق أخرى، تاركين أحيانا خلفهم ما تيسر للقائد من مؤن ليسلمها إلى السلطان الذي يجد نفسه في منطقة جرداء خالية من البشر..
المغرب ما يزال بلدا مجهولا حتى هذا اليوم، ولم تكن أوروبا تولي أي اهتمام لما يحدث داخل حدود المملكة لأن تحركات السلطان لم تتسبب في نشوب حروب دولية تستدعي تدخل الدول الأجنبية لإيقافها.
وفي وقت ساد فيه الصراع الثنائي بين بريطانيا وفرنسا وشكل السمة البارزة للوضع السياسي العالمي، عاش المغرب بمعزل عن تلك التجاذبات رغم إطلاله على البحر الأبيض المتوسط، وتحرص الحكومات الأوروبية على إيفاد بعثات خاصة إلى السلطان في عدد من المدن المغربية، ويستقبلهم في حفلات باذخة لاستعراض المسائل العالقة، وتتعلق في غالب الأحيان بالاتفاقيات التجارية، ورغم هذه المظاهر، تسود دائما بين المغاربة والأوروبيين المسيحيين مشاعر الحقد والكراهية.
وصلت البعثة الخاصة للسير ويليام بيركبي غرين إلى مازاغان عبر البحر على متن سفينة حربية انجليزية، ليسلك بعدها الطريق البرية صوب مراكش. وحسب ما تقتضيه الأعراف، أرسل السلطان إلى الميناء إرسالية تضم اللحوم والأكل والخيام. شكلت الدولة المغربية في تلك الفترة شوكة صلبة في وجه الأعداء ووقف مولاي الحسن في وجه الأطماع الأجنبية.. التقت القافلة البريطانية في طريقها قبائل مسالمة استقبلتها بحفاوة وتلقائية مثيرة للإعجاب. وأخيرا وصلت البعثة وسط عاصفة من الغبار الأصفر والشمس تختفي في الأفق، والحشود مصطفة لاستقبالنا وعشرات الخيل تؤدي التحية للضيوف، الذين اجتازوا حديقة من أشجار الزيتون والبرتقال المحيطة بإقامة المامونية حيث ستمضي البعثة البريطانية مقامها في المغرب.
يستقبل السلطان المبعوثين الأجانب داخل مكان بديكورات رائعة، وبعد مرور سنوات، تغير البروتوكول تدريجيا، ولم يعد بالإمكان استقبال ممثلي الحكومات الأوروبية باعتبارهم سفراء فوق العادة لبلدانهم بالمغرب. رغم هذا التغيير، حافظت أبهة الاستقبال على رونقها بشكل لا يقبل النقاش. لقد وجد ممثلو القوى العظمى أنفسهم واقفين برؤوسهم العارية تحت الشمس الملتهبة أمام السلطان الذي يحتمي من الحر بمظلة ملكية، ولا ينكر أحد أن المشهد كان متميزا ذا نكهة شرقية خالصة.
تمتد مساحة ساحة القصر حيث يتم استقبال الضيوف على مئات الأمتار بسواري ضخمة مزركشة، وتحيط بها جدران صفراء سميكة تخترقها بوابات رخامية. على جانبي الساحة وأسفل السواري، تظهر الأرضيات المسطحة مرمرية الملمس، وعلى بعد أمتار تنتصب أشجار الزيتون والاوكاليبتوس. بعيدا نحو الجنوب، تسطع أشعة الصباح على منظر مدهش بخلفية قمم جبال الأطلس الوردية.. من الصعب أن يتخيل المرء مشهدا يوازي هذا الجمال من حيث روعة المناظر وسحر الهندسة..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-3-
وسط ساحة قصر السلطان بمراكش، ظل الوزير الانجليزي ممتطيا بغلته محاطا برجال من القصر يرتدون جلابيب بيضاء ، وخلف وفد الأوروبيين بأزيائهم الموحدة، اصطفت أكياس الهدايا التي أرسلتها الحكومة البريطانية إلى سلطان المملكة الشريفة.
صدحت الأبواق وفتحت بوابة كبيرة خضراء داخل القصر، وظهرت مجموعة من خدام القصر بطرابيشهم الحمراء وبدؤوا يعزفون على الطبول وينفخون في الأبواق والمزامير. وأخيرا ظهر السلطان على صهوة جواد أبيض مزين بقماش حريري أخضر مذهب وبجانبه يمسك أحد الحراس مظلة مخزنية مسطحة بزركشات حمراء مطرزة بالذهب، وعلى جانبه خدام مهمتهم التلويح بأقمشة حريرية في الهواء لإبعاد الذباب عن شخصه المقدس. وخلف السلطان، يقف الوزراء وأعيان الدولة بملابس بيضاء خفيفة، وبجانبهم العبيد والخدم الواقفون على شكل حلقة تحيط بأسيادها. وعندما يمر سمو جلالته، يبادر أحد الحراس ويصرخ بصوت مرتفع: «الله يبارك في عمر سيدي». ومع تقدم الموكب من تمثيلية السفارة الانجليزية، ينقسم الجمع إلى فريقين، واحد إلى اليمين وآخر إلى اليسار، ويتقدم الملك مرفوقا برئيس التشريفات السلطانية وخادم والوزراء. ينحني ممثلو البعثة الانجليزية أمام مولاي الحسن ويحيونه، ويقدم الحاجب الوزير الانجليزي إلى سمو جلالته الذي يرحب بقدومه. بعدها يتلو السير وليام كيربي غرين نص الخطاب الذي يحمله، وسلم رسائل اعتماده المغلفة بثوب حريري إلى السلطان الذي تسلمها منه وأدخل ثنية ثوب جلبابه بين أصابعه المقدسة. وبعد كلمات تقديم الوفد البريطاني، رحب بهم مولاي الحسن بحفاوة، قبل أن يستدير بحصانه ويغادر الساحة متجها إلى إحدى القاعات الداخلية لقصره وسط هتافات شعبه وهدير المدافع وضجيج الموسيقى الشعبية..
كنت مرتبطا سنة 1902 بالبعثة الخاصة للسير ارتور نيكولسون لدى السلطان عبد العزيز بالرباط، وكانت السفارات الأوروبية تحلم بتغيير الطقوس التقليدية للاستقبال الملكي لممثلي القوى العظمى بشكل آخر. تم إيفادي قبل أسبوع من الاستقبال إلى الرباط للحديث مع السلطان حول هذا الأمر وإخباره بضرورة تغيير تلك الطقوس. كانت لي وقتها علاقات ودية وحميمة مع جلالته، وبدا لي عرض هذا المشروع عليه أمرا في غاية السهولة. مولاي عبد العزيز، الذي يتصف بدماثة أخلاقه وثقافته العالية، لم يتأخر في إخباري أن مراسيم الاستقبال في القصر كانت بمثابة تجاوز للاحترام الواجب في حق المبعوث الخاص للحكومة البريطانية. لكنه في نفس الوقت اعتبر أنه من الصعب إدخال تغييرات جذرية إلى تلك التقاليد الملكية داخل قصره لأن ذلك قد يؤجج غضب الشعب وانتقادات متعددة لدى رجال الدين. دام تردده عدة أيام، لكنه عشية وصول السير أرتور نيكولسون، سمح لي بإخبار السير أن الطقوس الملكية سيتم إلغاؤها لاحقا وأنه سيستقبل نيكولسون داخل قاعة بالقصر. لكي أفسر هذا التغيير لممثل بريطانيا، أخبرته أن جلالة الملك غير قادر على تحمل التعب وحضور مراسيم الاستقبال كما جرت العادة بذلك.
بدا السلطان الشاب جالسا على أريكة زرقاء تعود إلى عهد لويس الخامس عشر، وعلى جانبه وزير الشؤون الخارجية وباقي الوزراء. قام المكلف بالتشريفات بتقديم الوزير الانجليزي الذي تلا خطابا باللغة الانجليزية تكلف أحد المترجمين الرسميين بترجمته الفورية إلى العربية أمام الحاضرين. همس السلطان بجوابه في أذن وزير الخارجية الذي أسمعها إلى الجميع بصوت مرتفع. كان المشهد عفويا وأكثر دفئا من حفلات الاستقبال التقليدية، وحافظ على جماليته الملكية المتميزة.
خلال أول زيارة لي للقصر الملكي، ظل أحمد بن موسى المعروف باسم با احمد، الشخص الأكثر حضورا بين موظفي القصر، إذ كان المكلف بالبرتوكول الملكي مما يعني أنه وطيد الصلة بالسلطان الذي يكلمه بحرية في أي وقت يشاء، ويكرس جهوده للمحافظة على مصالح السلطان الذي يخدمه بطاعة وإخلاص. لم يكن يستوعب مؤامرات الدول الأوروبية وخبرته في السياسة كانت متواضعة، لذا كان يكن العداء للأوروبيين. سيصبح بن موسى بعد سنوات الوزير الأول في عهد مولاي عبد العزيز، وكان يترك الوزراء الآخرين يناقشون مواضيع السياسة الخارجية، لكن ظل دائما صاحب القرار الأخير.
قرر مولاي الحسن سنة 1893 زيارة منطقة تافيلالت، موطن أجداده من نسب الرسول محمد والذين جاؤوا من شبه الجزيرة العربية. غادر السلطان مدينة فاس مسافرا نحو الجنوب، وعبر منطقة الأطلس والقصبات المخزنية ليقترب أكثر من واحة زيز. لم يتوقع الرعايا هذه الزيارة السلطانية التي يتطلب تنظيمها العتاد والعدة لإطعام الجيش، وبدا وضع المغاربة صعبا وهم يعانون من الجفاف ومن شح المواد الغذائية، ووجدوا أنفسهم يقدمون للجنود والحرس ما تيسر لديهم من أكل وشرب..
صدحت الأبواق وفتحت بوابة كبيرة خضراء داخل القصر، وظهرت مجموعة من خدام القصر بطرابيشهم الحمراء وبدؤوا يعزفون على الطبول وينفخون في الأبواق والمزامير. وأخيرا ظهر السلطان على صهوة جواد أبيض مزين بقماش حريري أخضر مذهب وبجانبه يمسك أحد الحراس مظلة مخزنية مسطحة بزركشات حمراء مطرزة بالذهب، وعلى جانبه خدام مهمتهم التلويح بأقمشة حريرية في الهواء لإبعاد الذباب عن شخصه المقدس. وخلف السلطان، يقف الوزراء وأعيان الدولة بملابس بيضاء خفيفة، وبجانبهم العبيد والخدم الواقفون على شكل حلقة تحيط بأسيادها. وعندما يمر سمو جلالته، يبادر أحد الحراس ويصرخ بصوت مرتفع: «الله يبارك في عمر سيدي». ومع تقدم الموكب من تمثيلية السفارة الانجليزية، ينقسم الجمع إلى فريقين، واحد إلى اليمين وآخر إلى اليسار، ويتقدم الملك مرفوقا برئيس التشريفات السلطانية وخادم والوزراء. ينحني ممثلو البعثة الانجليزية أمام مولاي الحسن ويحيونه، ويقدم الحاجب الوزير الانجليزي إلى سمو جلالته الذي يرحب بقدومه. بعدها يتلو السير وليام كيربي غرين نص الخطاب الذي يحمله، وسلم رسائل اعتماده المغلفة بثوب حريري إلى السلطان الذي تسلمها منه وأدخل ثنية ثوب جلبابه بين أصابعه المقدسة. وبعد كلمات تقديم الوفد البريطاني، رحب بهم مولاي الحسن بحفاوة، قبل أن يستدير بحصانه ويغادر الساحة متجها إلى إحدى القاعات الداخلية لقصره وسط هتافات شعبه وهدير المدافع وضجيج الموسيقى الشعبية..
كنت مرتبطا سنة 1902 بالبعثة الخاصة للسير ارتور نيكولسون لدى السلطان عبد العزيز بالرباط، وكانت السفارات الأوروبية تحلم بتغيير الطقوس التقليدية للاستقبال الملكي لممثلي القوى العظمى بشكل آخر. تم إيفادي قبل أسبوع من الاستقبال إلى الرباط للحديث مع السلطان حول هذا الأمر وإخباره بضرورة تغيير تلك الطقوس. كانت لي وقتها علاقات ودية وحميمة مع جلالته، وبدا لي عرض هذا المشروع عليه أمرا في غاية السهولة. مولاي عبد العزيز، الذي يتصف بدماثة أخلاقه وثقافته العالية، لم يتأخر في إخباري أن مراسيم الاستقبال في القصر كانت بمثابة تجاوز للاحترام الواجب في حق المبعوث الخاص للحكومة البريطانية. لكنه في نفس الوقت اعتبر أنه من الصعب إدخال تغييرات جذرية إلى تلك التقاليد الملكية داخل قصره لأن ذلك قد يؤجج غضب الشعب وانتقادات متعددة لدى رجال الدين. دام تردده عدة أيام، لكنه عشية وصول السير أرتور نيكولسون، سمح لي بإخبار السير أن الطقوس الملكية سيتم إلغاؤها لاحقا وأنه سيستقبل نيكولسون داخل قاعة بالقصر. لكي أفسر هذا التغيير لممثل بريطانيا، أخبرته أن جلالة الملك غير قادر على تحمل التعب وحضور مراسيم الاستقبال كما جرت العادة بذلك.
بدا السلطان الشاب جالسا على أريكة زرقاء تعود إلى عهد لويس الخامس عشر، وعلى جانبه وزير الشؤون الخارجية وباقي الوزراء. قام المكلف بالتشريفات بتقديم الوزير الانجليزي الذي تلا خطابا باللغة الانجليزية تكلف أحد المترجمين الرسميين بترجمته الفورية إلى العربية أمام الحاضرين. همس السلطان بجوابه في أذن وزير الخارجية الذي أسمعها إلى الجميع بصوت مرتفع. كان المشهد عفويا وأكثر دفئا من حفلات الاستقبال التقليدية، وحافظ على جماليته الملكية المتميزة.
خلال أول زيارة لي للقصر الملكي، ظل أحمد بن موسى المعروف باسم با احمد، الشخص الأكثر حضورا بين موظفي القصر، إذ كان المكلف بالبرتوكول الملكي مما يعني أنه وطيد الصلة بالسلطان الذي يكلمه بحرية في أي وقت يشاء، ويكرس جهوده للمحافظة على مصالح السلطان الذي يخدمه بطاعة وإخلاص. لم يكن يستوعب مؤامرات الدول الأوروبية وخبرته في السياسة كانت متواضعة، لذا كان يكن العداء للأوروبيين. سيصبح بن موسى بعد سنوات الوزير الأول في عهد مولاي عبد العزيز، وكان يترك الوزراء الآخرين يناقشون مواضيع السياسة الخارجية، لكن ظل دائما صاحب القرار الأخير.
قرر مولاي الحسن سنة 1893 زيارة منطقة تافيلالت، موطن أجداده من نسب الرسول محمد والذين جاؤوا من شبه الجزيرة العربية. غادر السلطان مدينة فاس مسافرا نحو الجنوب، وعبر منطقة الأطلس والقصبات المخزنية ليقترب أكثر من واحة زيز. لم يتوقع الرعايا هذه الزيارة السلطانية التي يتطلب تنظيمها العتاد والعدة لإطعام الجيش، وبدا وضع المغاربة صعبا وهم يعانون من الجفاف ومن شح المواد الغذائية، ووجدوا أنفسهم يقدمون للجنود والحرس ما تيسر لديهم من أكل وشرب..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-4-
وصل المولى الحسن إلى تافيلالت مريضا وأشبه بالرجل الميت، وأصبح واضحا أن المرض الذي كان يعاني منه قد جعله بطيء الحركة خصوصا وأنه لم يكن قادرا على أخذ قسط من الراحة وتتبع الحمية الصحية التي يفرضها وضعه الصحي.
استقر به المقام في تافيلالت عاصمة الجنوب، وفي نهاية شتنبر 1894 غادر مولاي الحسن لإخماد ثورة في تادلة، وأثناء نزوله بها، داهمه الموت في أرض العدو. في تلك الفترة وفاة السلطان في ظروف مماثلة كهذه كانت بمثابة خطر محدق بالدولة التي تحكمها ملكية مطلقة، وغياب رمز السلطة فيها جعل البلاد بلا قائد إلى غاية الإعلان عن اسم من سيخلفه على العرش. وجد الجيش نفسه في موقف صعب إذ بعد الإعلان عن خبر وفاة مولاي الحسن اندلعت أعمال العنف وسرقة ممتلكات الحركة الملكية.
لطالما حافظ وجود السلطان وحضوره وسط الجيش على هيبة المملكة ضد أي هجوم للقبائل المتناحرة، وخلق التماسك في صفوف القوات الملكية لتصير مثل الجسد الواحد، وبمجرد وفاته، سادت موجة من الفوضى في صفوف الجيش ولم تتوان القوات عن اغتنام الفرصة لتطلق يدها في السرقة والقتل.. توفي السلطان داخل خيمة محصنة بأقمشة خشنة الملمس، ولم يكن يتم السماح بدخولها سوى لقلة من الشخصيات المقربة في حالات نادرة، لذا لم يعلم بخبر هذه الوفاة سوى العبيد وبا احمد مدير التشريفات الملكية. صدرت الأوامر أن موكب السلطان سيتحرك من أجل العودة قبل بزوغ الفجر، وتم إخفاء تابوت المولى الحسن وإقفال الأبواب ورفع ستائر الخيمة، وتكلفت البغال بحمل نعش السلطان بشكل متقن. صدحت الأبواق وبدأ الحرس يرددون العبارة المعروفة: «الله يطول في عمر سيدي». بدأ الموكب بالتشكل ورفرفت الرايات، واستمر السلطان المتوفى في شق طريقه. استمر سفرنا وقتا طويلا ولم نتوقف إلا عندما أراد «السلطان أن يتناول وجبة الغذاء»، وبالفعل تم إحضار الوجبة وإدخالها مع صينية الشاي قبل أن يتم الانتهاء منها ولم يكن أحد يعلم بالسر ودخول الخيمة سوى العبيد. ظل مدير التشريفات على اتصال بـ«الجثة»، ويخرج بعد فترة قصيرة من الوقت ليخبرنا أن السلطان يأخذ قسطا من الراحة وقد تناول وجبة الغذاء، ليبدأ الموكب في التحرك.
بعد مضينا في رحلة سير مضنية، وصلنا ليلا إلى المكان الذي تم تحديده، ليخاطبنا مدير التشريفات بأن السلطان يحس بالتعب وأنه سيتباحث مع المستشارين بخصوص المواضيع الراهنة في الخيمة مثلما جرت به العادة دائما. أحضر الحاجب الوثائق التي تحتاج إلى التوقيع إلى الخيمة الملكية، ليخرج إلى الحاضرين بالإجابات موقعة بالخاتم الشريف إلى المعنيين بها. استحث عناصر الجيش الخطى لأن الموكب مازال يتواجد في أرض الأعداء، لكن وفاة المولى الحسن لم تبق أمرا مخفيا لمدة طويلة، فسرعان ما كشفت الجثة السر، ليعلن با احمد إذن أن جلالة الملك قد توفي قبل يومين، ليتسنى بالتالي لنجله الشاب مولاي عبد العزيز، الذي اختاره والده، أن يصبح وريث العرش الجديد في الرباط بعد تلقي خبر الوفاة من طرف المبعوثين من تافيلالت.
كانت «العملية متقنة للغاية» وأصبح الجيش الآن في منأى عن هجوم القبائل، وبث خبر تولي السلطان الجديد على عرش والده نوعا من الهدوء في كل الربوع ومنع من نشوب الصراعات والتناحرات.
بعد يومين وصلت جثة السلطان المتوفى في حالة تحلل إلى العاصمة الرباط، ووصل الموكب في حالة يرثى لها كما وصف لي مولاي عبد العزيز، إذ لم تستطع البغال تحمل الرائحة التي لا تطاق للجثة التي كانت تسير خمسة أيام في عز الصيف، وحاولت غير ما مرة أن تنزل ذاك الثقل من على ظهرها. وحسب ما تقتضيه العادات، لا يسمح لأي جثة أن تمر من أبواب مدينة مغربية، ولم يكن السلطان استثناء لهذه العادة، لذا تم حفر ثقب في حائط المدينة وتمرير الجثة عبره إلى أن وصلت إلى القصر لكي يتم دفنها، وبعدها تم إغلاق تلك الكوة في الحائط. حضرت العديد من حفلات الاستقبال أمام مولاي الحسن كلما جاءت بعثة إنجليزية إلى المغرب، لكنني لم تتح لي فرصة تجاذب أطراف الحديث مع السلطان الراحل، وفي تلك الفترة كان القصر مغلق الأسوار وتقاليده وقواعده كانت صارمة. لم يكن متشددا في سياسته الخارجية، بل كان قادرا على نسج علاقات مع الدول الأوروبية للانفتاح على العالم وأعتقد أنه كان سعيدا بذاك الأمر.
استقر به المقام في تافيلالت عاصمة الجنوب، وفي نهاية شتنبر 1894 غادر مولاي الحسن لإخماد ثورة في تادلة، وأثناء نزوله بها، داهمه الموت في أرض العدو. في تلك الفترة وفاة السلطان في ظروف مماثلة كهذه كانت بمثابة خطر محدق بالدولة التي تحكمها ملكية مطلقة، وغياب رمز السلطة فيها جعل البلاد بلا قائد إلى غاية الإعلان عن اسم من سيخلفه على العرش. وجد الجيش نفسه في موقف صعب إذ بعد الإعلان عن خبر وفاة مولاي الحسن اندلعت أعمال العنف وسرقة ممتلكات الحركة الملكية.
لطالما حافظ وجود السلطان وحضوره وسط الجيش على هيبة المملكة ضد أي هجوم للقبائل المتناحرة، وخلق التماسك في صفوف القوات الملكية لتصير مثل الجسد الواحد، وبمجرد وفاته، سادت موجة من الفوضى في صفوف الجيش ولم تتوان القوات عن اغتنام الفرصة لتطلق يدها في السرقة والقتل.. توفي السلطان داخل خيمة محصنة بأقمشة خشنة الملمس، ولم يكن يتم السماح بدخولها سوى لقلة من الشخصيات المقربة في حالات نادرة، لذا لم يعلم بخبر هذه الوفاة سوى العبيد وبا احمد مدير التشريفات الملكية. صدرت الأوامر أن موكب السلطان سيتحرك من أجل العودة قبل بزوغ الفجر، وتم إخفاء تابوت المولى الحسن وإقفال الأبواب ورفع ستائر الخيمة، وتكلفت البغال بحمل نعش السلطان بشكل متقن. صدحت الأبواق وبدأ الحرس يرددون العبارة المعروفة: «الله يطول في عمر سيدي». بدأ الموكب بالتشكل ورفرفت الرايات، واستمر السلطان المتوفى في شق طريقه. استمر سفرنا وقتا طويلا ولم نتوقف إلا عندما أراد «السلطان أن يتناول وجبة الغذاء»، وبالفعل تم إحضار الوجبة وإدخالها مع صينية الشاي قبل أن يتم الانتهاء منها ولم يكن أحد يعلم بالسر ودخول الخيمة سوى العبيد. ظل مدير التشريفات على اتصال بـ«الجثة»، ويخرج بعد فترة قصيرة من الوقت ليخبرنا أن السلطان يأخذ قسطا من الراحة وقد تناول وجبة الغذاء، ليبدأ الموكب في التحرك.
بعد مضينا في رحلة سير مضنية، وصلنا ليلا إلى المكان الذي تم تحديده، ليخاطبنا مدير التشريفات بأن السلطان يحس بالتعب وأنه سيتباحث مع المستشارين بخصوص المواضيع الراهنة في الخيمة مثلما جرت به العادة دائما. أحضر الحاجب الوثائق التي تحتاج إلى التوقيع إلى الخيمة الملكية، ليخرج إلى الحاضرين بالإجابات موقعة بالخاتم الشريف إلى المعنيين بها. استحث عناصر الجيش الخطى لأن الموكب مازال يتواجد في أرض الأعداء، لكن وفاة المولى الحسن لم تبق أمرا مخفيا لمدة طويلة، فسرعان ما كشفت الجثة السر، ليعلن با احمد إذن أن جلالة الملك قد توفي قبل يومين، ليتسنى بالتالي لنجله الشاب مولاي عبد العزيز، الذي اختاره والده، أن يصبح وريث العرش الجديد في الرباط بعد تلقي خبر الوفاة من طرف المبعوثين من تافيلالت.
كانت «العملية متقنة للغاية» وأصبح الجيش الآن في منأى عن هجوم القبائل، وبث خبر تولي السلطان الجديد على عرش والده نوعا من الهدوء في كل الربوع ومنع من نشوب الصراعات والتناحرات.
بعد يومين وصلت جثة السلطان المتوفى في حالة تحلل إلى العاصمة الرباط، ووصل الموكب في حالة يرثى لها كما وصف لي مولاي عبد العزيز، إذ لم تستطع البغال تحمل الرائحة التي لا تطاق للجثة التي كانت تسير خمسة أيام في عز الصيف، وحاولت غير ما مرة أن تنزل ذاك الثقل من على ظهرها. وحسب ما تقتضيه العادات، لا يسمح لأي جثة أن تمر من أبواب مدينة مغربية، ولم يكن السلطان استثناء لهذه العادة، لذا تم حفر ثقب في حائط المدينة وتمرير الجثة عبره إلى أن وصلت إلى القصر لكي يتم دفنها، وبعدها تم إغلاق تلك الكوة في الحائط. حضرت العديد من حفلات الاستقبال أمام مولاي الحسن كلما جاءت بعثة إنجليزية إلى المغرب، لكنني لم تتح لي فرصة تجاذب أطراف الحديث مع السلطان الراحل، وفي تلك الفترة كان القصر مغلق الأسوار وتقاليده وقواعده كانت صارمة. لم يكن متشددا في سياسته الخارجية، بل كان قادرا على نسج علاقات مع الدول الأوروبية للانفتاح على العالم وأعتقد أنه كان سعيدا بذاك الأمر.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-5-
اعتلى مولاي عبد العزيز العرش سنة 1894 وعمره لم يتجاوز ثلاث عشرة سنة، وكان أصغر أبناء المولى الحسن، لم تكن الخلافة في العرش في ذلك الوقت تتم بالوراثة، ونادرا ما اعتلى العرش شقيق السلطان خلفا له أو أحد الآباء ذوي النسب البعيد. وإذا كانت الملكية وراثية، فإن السلطان في المغرب هو من كان يختار من سيخلفه على العرش. أن تكون من النسب الشريف، أي من نسب الرسول محمد أهم من رابطة الأبوة التي تربطك بالسلطان الذي ستتولى العرش محله. بعد خلع وتنازل السلطان مولاي حفيظ عن العرش سنة 1912، وقع الاختيار على المولى يوسف ليحكم البلاد فوافق بلا تردد.
كانت والدة مولاي عبد العزيز، للا رقية، سيدة تركية تم جلبها من القسطنطينية إلى المغرب، ومعروفة بذكائها وقوة شخصيتها وأما شجاعة. لا أنسى أن أضيف أنها لعبت دورا سياسيا في البلاد ولم تتردد في توجيه النصائح إلى زوجها بخصوص شؤون الدولة. على أية حال، كان من الواضح أن تأثيرها على الخصوم مكنها من بسط نفوذها على السلطان إلى أن توفي، وضمنت بالتالي تولي ابنها العرش، ونسجت للا رقية علاقة صداقة وطيدة مع تركية أخرى من الحريم، لم تكن سوى والدة السلطان مولاي يوسف. من الغريب أن تصبح هاتان السيدتان الأجنبيتان والدتي سلطانين في تاريخ المغرب. كان من الطبيعي أن يحدث تولي أمير قاصر مقاليد الحكم ظهور مؤامرات في القصر الذي كان ينقسم إلى فريق يتزعمه الحاجب القوي با احمد، أما الفريق الثاني فكان يقوده الوزير الأكبر ووزير الحرب، وينحدر هذان الموظفان من عائلة كبيرة لأولاد الجامعي ويتعلق الأمر بالحاج المعطي وسي محمد صغير.
لم يكن با احمد سوى ابن أحد العبيد في القصر، مما جعله محروما من الاعتماد على قبيلة أو عائلة تتمتع بالنفوذ، وكان خصومه ارستقراطيين من فاس ومن عائلات عريقة لها نفوذ في المدن التي تقطنها، وهي تشكل ما يسمى في المغرب بعائلة «المخزن». حصل أفراد هذه العائلات منذ القدم على مناصب عالية في الحكومة، مما جعلهم يطالبون دائما بالاستفادة من الامتيازات، لذا كان من البديهي أن تنشأ الغيرة بين هذين الفريقين.
خول منصب الحاجب لبا احمد امتياز الاقتراب المستمر من الملك، الذي كان، بحكم صغر سنه، على تواصل دائم مع وزرائه. اعتمد با احمد على مساندة والدة السلطان لأنه كان الخادم الوفي لزوجها ونفذ رغبته في تولية ابنه العرش بعد وفاته، وظل هدفه الدائم أن يحافظ على حالة الاستقرار، وهو ما كان يحرص عليه با احمد ووالدة مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ. مباشرة بعد تشكيل الحكومة، أصبح بإمكان مولاي عبد العزيز أن يغادر الرباط إلى فاس، العاصمة الحقيقية للبلاد. لا يستطيع أي سلطان ضمان عرشه دون الحصول على رضا رجال الدين والارستقراطيين في مدينة فاس وتثبيت إقامته في مدينتهم.
كانت فاس بمثابة مركز ديني وجامعي وبها كانت تحاك المؤامرات، إضافة إلى النفوذ الكبير الذي كانت تمارسه ساكنتها على باقي القبائل، لذا كان من الضروري أن ينتقل السلطان الشاب إلى فاس في أقرب فرصة، ونجحت لقاءاته مع قبائل مكناس في الهدف المرسوم لها. لقد استقبله سكان مكناس بحفاوة في المدينة التي بناها مولاي اسماعيل في عهد لويس الرابع عشر، وفاس لم تعد تبعد سوى بـ 32 ميلا وأصبحت أقرب الآن. استوعب با احمد ظروف هذا الوضع بشكل جيد لأنه يعلم أن نفوذه سيتقلص بمجرد أن يضع قدميه في فاس. وفي وقت يعتمد خصومه على سكان فاس وأقارب السلطان الذين يعيشون في العاصمة، يجد با احمد نفسه وحيدا لأن الفاسيين هم من جلبوه إلى القصر ويتحينون الفرصة للإيقاع به، مما يعني أن الوقت حان لاتخاذ قرارات حاسمة. لا أحد كان بإمكانه توقع موعد العاصفة، والأخوان الجامعي ينتظران بلا شك وصوله إلى فاس ليحيكا المؤامرات ضده، بينما يبدي با احمد اللباقة أمام الوزيرين القويين.
بعد أيام من وصولهما إلى مكناس، بدأت الاستعدادات لعقد الاجتماع الصباحي مثلما جرت به العادة. دخل الوزير الحاج المعطي إلى القاعة بجلبابه الأبيض وسط صف الخدم والفرق التي حيت قدومه. كان السلطان مولاي عبد العزيز وحيدا مع حاجبه با احمد عندما دخل الوزير وانحنى أمامه منتظرا أن يعطيه السلطان فرصة الحديث. بنبرة باردة، طرح مولاي عبد العزيز سؤالا على الوزير ولا يبدو أن الجواب الذي حصل عليه قد أعجبه ليتطور المشهد بعدها على نحو مثير..
كانت والدة مولاي عبد العزيز، للا رقية، سيدة تركية تم جلبها من القسطنطينية إلى المغرب، ومعروفة بذكائها وقوة شخصيتها وأما شجاعة. لا أنسى أن أضيف أنها لعبت دورا سياسيا في البلاد ولم تتردد في توجيه النصائح إلى زوجها بخصوص شؤون الدولة. على أية حال، كان من الواضح أن تأثيرها على الخصوم مكنها من بسط نفوذها على السلطان إلى أن توفي، وضمنت بالتالي تولي ابنها العرش، ونسجت للا رقية علاقة صداقة وطيدة مع تركية أخرى من الحريم، لم تكن سوى والدة السلطان مولاي يوسف. من الغريب أن تصبح هاتان السيدتان الأجنبيتان والدتي سلطانين في تاريخ المغرب. كان من الطبيعي أن يحدث تولي أمير قاصر مقاليد الحكم ظهور مؤامرات في القصر الذي كان ينقسم إلى فريق يتزعمه الحاجب القوي با احمد، أما الفريق الثاني فكان يقوده الوزير الأكبر ووزير الحرب، وينحدر هذان الموظفان من عائلة كبيرة لأولاد الجامعي ويتعلق الأمر بالحاج المعطي وسي محمد صغير.
لم يكن با احمد سوى ابن أحد العبيد في القصر، مما جعله محروما من الاعتماد على قبيلة أو عائلة تتمتع بالنفوذ، وكان خصومه ارستقراطيين من فاس ومن عائلات عريقة لها نفوذ في المدن التي تقطنها، وهي تشكل ما يسمى في المغرب بعائلة «المخزن». حصل أفراد هذه العائلات منذ القدم على مناصب عالية في الحكومة، مما جعلهم يطالبون دائما بالاستفادة من الامتيازات، لذا كان من البديهي أن تنشأ الغيرة بين هذين الفريقين.
خول منصب الحاجب لبا احمد امتياز الاقتراب المستمر من الملك، الذي كان، بحكم صغر سنه، على تواصل دائم مع وزرائه. اعتمد با احمد على مساندة والدة السلطان لأنه كان الخادم الوفي لزوجها ونفذ رغبته في تولية ابنه العرش بعد وفاته، وظل هدفه الدائم أن يحافظ على حالة الاستقرار، وهو ما كان يحرص عليه با احمد ووالدة مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ. مباشرة بعد تشكيل الحكومة، أصبح بإمكان مولاي عبد العزيز أن يغادر الرباط إلى فاس، العاصمة الحقيقية للبلاد. لا يستطيع أي سلطان ضمان عرشه دون الحصول على رضا رجال الدين والارستقراطيين في مدينة فاس وتثبيت إقامته في مدينتهم.
كانت فاس بمثابة مركز ديني وجامعي وبها كانت تحاك المؤامرات، إضافة إلى النفوذ الكبير الذي كانت تمارسه ساكنتها على باقي القبائل، لذا كان من الضروري أن ينتقل السلطان الشاب إلى فاس في أقرب فرصة، ونجحت لقاءاته مع قبائل مكناس في الهدف المرسوم لها. لقد استقبله سكان مكناس بحفاوة في المدينة التي بناها مولاي اسماعيل في عهد لويس الرابع عشر، وفاس لم تعد تبعد سوى بـ 32 ميلا وأصبحت أقرب الآن. استوعب با احمد ظروف هذا الوضع بشكل جيد لأنه يعلم أن نفوذه سيتقلص بمجرد أن يضع قدميه في فاس. وفي وقت يعتمد خصومه على سكان فاس وأقارب السلطان الذين يعيشون في العاصمة، يجد با احمد نفسه وحيدا لأن الفاسيين هم من جلبوه إلى القصر ويتحينون الفرصة للإيقاع به، مما يعني أن الوقت حان لاتخاذ قرارات حاسمة. لا أحد كان بإمكانه توقع موعد العاصفة، والأخوان الجامعي ينتظران بلا شك وصوله إلى فاس ليحيكا المؤامرات ضده، بينما يبدي با احمد اللباقة أمام الوزيرين القويين.
بعد أيام من وصولهما إلى مكناس، بدأت الاستعدادات لعقد الاجتماع الصباحي مثلما جرت به العادة. دخل الوزير الحاج المعطي إلى القاعة بجلبابه الأبيض وسط صف الخدم والفرق التي حيت قدومه. كان السلطان مولاي عبد العزيز وحيدا مع حاجبه با احمد عندما دخل الوزير وانحنى أمامه منتظرا أن يعطيه السلطان فرصة الحديث. بنبرة باردة، طرح مولاي عبد العزيز سؤالا على الوزير ولا يبدو أن الجواب الذي حصل عليه قد أعجبه ليتطور المشهد بعدها على نحو مثير..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-6-
انبرى الحاجب با احمد لمهاجمة الوزير الحاج المعطي وتوبيخه واتهامه بخيانة الأمانة وفساد الذمة وبارتكابه جرائم سياسية، وفجأة استدار وطلب من السلطان أن يقوم بتوقيف الوزير، وأومأ إليه مولاي عبد العزيز بالموافقة على ما قاله. بعد لحظات، ظهر رجل في وضعية مؤثرة للغاية وهو يبكي يجره الحرس وسط سخرية من كان حاضرا في المكان. تمزقت ملابسه بعد أن جره الجنود بعنف، وتجريده من «الرزة» التي كان يضعها على رأسه. لم يستحمل الوزير الأكبر متابعة ما يتعرض له شقيقه الوزير محمد الصغير الذي تم إلقاء القبض عليه قبل أن يهم بمغادرة بيته ولم يبد أية مقاومة وتم اقتياده بعدها إلى السجن. تتمة هذه القصة قد تكون ربما أكثر الصفحات سوداوية في فترة حكم السلطان عبد العزيز، حيث تم إيداع الوزيرين السابقين معا في بسجن تطوان وتكبيلهما بالسلاسل داخل الزنزانة، ليفارق الحاج المعطي الحياة بعد عشر سنوات. لم يستطع والي تطوان دفن الوزير لأنه كان خائفا أن يتم اتهامه بترك السجين يفر من الحبس، ليراسل القصر للحصول على التوجيهات المناسبة خصوصا وأن فصل الصيف كان حارا تلك السنة. ولم يصل الرد إلا بعد مرور أحد عشر يوما، وطيلة هذا الوقت، بقي محمد الصغير مقيدا إلى جانب جثة أخيه المتوفى.
لم يلاق الصغير مصير شقيقه وظل حيا في السجن، وبعد مرور أربع عشرة سنة على السجن، تم إطلاق سراحه عام 1908، وخرج إلى العالم رجلا محطما بلا أمل وضائعا بعد أن تم الحجز على جميع ممتلكاته. زوجاته وأبناؤه توفوا بسبب البؤس والحسرة، وغادر زنزانته أعمى وجراح القيود الحديدية مازالت محفورة على جسده. في عز أوجه كان الوزير الصغير ذا بأس مهاب الجانب، لكنه دفع ثمن أخطائه غاليا جدا..
قرر الاستقرار في طنجة وهناك كنت ألتقيه بشكل يومي بهيئته الفقيرة ويرضى بالقليل فقط رغم المساعدات التي كان يقدمها له أصدقاؤه القدامى. استضافته سيدة عجوز من العبيد الذين استقدمتهم عائلة الصغير في الماضي، حرصت على العناية به في طنجة وتدليك قدميه ويديه اللتين عانتا من وطأة السجن، لتستيقظ ذات يوم وتجده متوفيا.
قبل يومين من وفاته، رأيته لآخر مرة وكان من الواضح أنه لم يتبق له من الحياة سوى نفس وحيد. بقيت إلى جانبه فترة من الوقت، وعندما وقفت استعدادا للمغادرة، قال لي: «اسمعني، عندما يريدون تغسيلي قبل الدفن، اطلب منهم أن يضعوا علي السلاسل والقيود الحديدية لأنني أريد أن أقابل ربي بالهيئة التي قضيت بها أربع عشرة سنة داخل السجن. أريد أن أطلب من ربي تحقيق العدالة التي رفض السلطان أن يعترف لي بها وأنال المغفرة منه لكي تفتح لي أبواب الجنة». كان من المستحيل أن يتم وضع الأغلال والسلاسل على جسده بعد وفاته، لكنهم وضعوا قطعة حديدية على قبره، وخصصت له جنازة عسكرية حضرها المسؤولون العسكريون وكبار الموظفين بالمدينة، ألم يكن في الماضي «وزيرا للحرب»؟
بعد الإعلان عن تولي مولاي عبد العزيز العرش، كانت بريطانيا العظمى ممثلة في المغرب بالسير ارنست ساتوو، ونقل إليه القائد ماك لين هذا الخبر دون إبطاء. اقترح علي السير ساتوو فكرة إرسال مبعوث خاص إلى فاس ليقوم بمهمة تبليغ القصر بالمخاطر المحدقة بالمغرب وإمكانية اندلاع ثورات داخلية فور الإعلان عن نبإ وفاة السلطان. اقترحت نفسي للقيام بهذه المهمة وتم قبول العرض، لأبدأ الاستعداد ليلا مع أحد المرافقين وكلانا مسلح وجاهز للانطلاق. لم أكن أحمل في العادة الأسلحة أثناء تنقلي في مناطق المغرب، ونادرا ما كنت أجد نفسي مجبرا على ذلك لأنني كنت أخشى أن تعترض العصابات سبيلي أثناء السفر.
ارتديت ملابس الرحل الذين يعيشون في الجبال وحلقت رأسي مثل المغاربة وانتعلت نعلا جلديا أصفر ومعطفا صوفيا بنيا خفيفا يغطي جسدي، لكي لا أثير انتباه قطاع الطرق عكس مرافقي الذي لم يكن يثير أية شبهات، وبعدها اخترنا فرسين قادرين على تحمل مشاق السفر. كان من الضروري أن نسافر في أقرب وقت لكي نصل بسرعة إلى القصر لأن نبأ وفاة السلطان لم يكن منتشرا بعد في مدينة طنجة.
لم أكن قادرا على السفر مباشرة إلى فاس، لأن مهمتي تتضمن أيضا زيارة بعض عائلات «الشرفاء» الذين لديهم نفوذ في البلد ويعرفونني بشكل شخصي، لكي أطلب منهم أن يستخدموا نفوذهم لضمان السلم والنظام في البلد.
لم يلاق الصغير مصير شقيقه وظل حيا في السجن، وبعد مرور أربع عشرة سنة على السجن، تم إطلاق سراحه عام 1908، وخرج إلى العالم رجلا محطما بلا أمل وضائعا بعد أن تم الحجز على جميع ممتلكاته. زوجاته وأبناؤه توفوا بسبب البؤس والحسرة، وغادر زنزانته أعمى وجراح القيود الحديدية مازالت محفورة على جسده. في عز أوجه كان الوزير الصغير ذا بأس مهاب الجانب، لكنه دفع ثمن أخطائه غاليا جدا..
قرر الاستقرار في طنجة وهناك كنت ألتقيه بشكل يومي بهيئته الفقيرة ويرضى بالقليل فقط رغم المساعدات التي كان يقدمها له أصدقاؤه القدامى. استضافته سيدة عجوز من العبيد الذين استقدمتهم عائلة الصغير في الماضي، حرصت على العناية به في طنجة وتدليك قدميه ويديه اللتين عانتا من وطأة السجن، لتستيقظ ذات يوم وتجده متوفيا.
قبل يومين من وفاته، رأيته لآخر مرة وكان من الواضح أنه لم يتبق له من الحياة سوى نفس وحيد. بقيت إلى جانبه فترة من الوقت، وعندما وقفت استعدادا للمغادرة، قال لي: «اسمعني، عندما يريدون تغسيلي قبل الدفن، اطلب منهم أن يضعوا علي السلاسل والقيود الحديدية لأنني أريد أن أقابل ربي بالهيئة التي قضيت بها أربع عشرة سنة داخل السجن. أريد أن أطلب من ربي تحقيق العدالة التي رفض السلطان أن يعترف لي بها وأنال المغفرة منه لكي تفتح لي أبواب الجنة». كان من المستحيل أن يتم وضع الأغلال والسلاسل على جسده بعد وفاته، لكنهم وضعوا قطعة حديدية على قبره، وخصصت له جنازة عسكرية حضرها المسؤولون العسكريون وكبار الموظفين بالمدينة، ألم يكن في الماضي «وزيرا للحرب»؟
بعد الإعلان عن تولي مولاي عبد العزيز العرش، كانت بريطانيا العظمى ممثلة في المغرب بالسير ارنست ساتوو، ونقل إليه القائد ماك لين هذا الخبر دون إبطاء. اقترح علي السير ساتوو فكرة إرسال مبعوث خاص إلى فاس ليقوم بمهمة تبليغ القصر بالمخاطر المحدقة بالمغرب وإمكانية اندلاع ثورات داخلية فور الإعلان عن نبإ وفاة السلطان. اقترحت نفسي للقيام بهذه المهمة وتم قبول العرض، لأبدأ الاستعداد ليلا مع أحد المرافقين وكلانا مسلح وجاهز للانطلاق. لم أكن أحمل في العادة الأسلحة أثناء تنقلي في مناطق المغرب، ونادرا ما كنت أجد نفسي مجبرا على ذلك لأنني كنت أخشى أن تعترض العصابات سبيلي أثناء السفر.
ارتديت ملابس الرحل الذين يعيشون في الجبال وحلقت رأسي مثل المغاربة وانتعلت نعلا جلديا أصفر ومعطفا صوفيا بنيا خفيفا يغطي جسدي، لكي لا أثير انتباه قطاع الطرق عكس مرافقي الذي لم يكن يثير أية شبهات، وبعدها اخترنا فرسين قادرين على تحمل مشاق السفر. كان من الضروري أن نسافر في أقرب وقت لكي نصل بسرعة إلى القصر لأن نبأ وفاة السلطان لم يكن منتشرا بعد في مدينة طنجة.
لم أكن قادرا على السفر مباشرة إلى فاس، لأن مهمتي تتضمن أيضا زيارة بعض عائلات «الشرفاء» الذين لديهم نفوذ في البلد ويعرفونني بشكل شخصي، لكي أطلب منهم أن يستخدموا نفوذهم لضمان السلم والنظام في البلد.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-7-
كنا في عز الصيف، في فترة كانت الشمس تشرق في ساعة مبكرة جدا، وقبل بزوغ الفجر، وصلنا إلى مدينة أصيلة على بعد 26 ميلا من طنجة.
تناولت وجبة الغذاء مع شريف عطريش، صديق الريسوني وأحد أشهر الشخصيات في المدينة، ووعدني بأن يبذل كل ما في جهده لكي يحافظ على الاستقرار بين القبائل. وبعد فترة استراحة قصيرة، غادرت المدينة ووصلت ليلا إلى منطقة «القصر» وقد قطعت مسافة 60 ميلا، لأشد الرحال بعدها إلى وزان التي بلغتها بعد ثمان ساعات مع حلول الفجر. استقبلني شرفاء مدينة وزان الجبلية التي نادرا ما يزورها الأوروبيون لأنها أرض مقدسة. كان اليوم يوم عيد، ورغم ذلك لم يتوان الشرفاء في إرسال العديد من الرسائل تدعو إلى ضمان استتباب الأمن والاستقرار بين القبائل. بقيت في وزان حتى منتصف اليوم الموالي، لأسافر بعدها من جديد وأصل ليلا إلى «المزيرية»، وهي قرية ممتدة على السفح المطل على سهل سبو. خلدنا إلى النوم استعدادا للسفر قبل شروق الشمس، وعندها كنت متأكدا أن خبر وفاة السلطان قد انتشر مثل النار في الهشيم، وتناهت إلى أسماعنا أصوات إطلاق البنادق بشكل فوضوي وغير مفهوم، ومع تباشير الصباح الأولى، شاهدنا مجموعة من الفرسان مصطفين أسفل الوادي. بدأت حملات تصفية الحسابات، ورافقتها عمليات السرقة والاختطاف بطريقة منظمة، وحاولت أنا ورفيقي قدر الإمكان تفادي المرور من تلك الأماكن. قابلتنا قافلة جمال في الاتجاه المعاكس تحمل المؤن والبضائع يقودها ستة رجال، انسحبوا مذعورين عندما لمحونا مقبلين في اتجاههم، ليهدأ روعهم بعد أن أخبرناهم أننا مجرد عابري سبيل وأننا لن نمسهم بسوء. بعد مرور أربعة أيام على مغادرتنا مدينة طنجة، وصلنا أخيرا إلى فاس وقد قطعنا مسافة 200 ميل، وبدت الجياد منهكة من طول الرحلة. في الظهيرة، حملت معي رسائل الوزير البريطاني والخطاب الشفوي إلى مجلس السلطات المحلية الواقع ببيت الأمين عبد السلام المقري، أحد ألمع وأذكى رجال السياسة المغاربة. مكثت في فاس لعدة أسابيع، وكان وقتها مولاي عبد العزيز في طريقه عائدا من مكناس إلى فاس، بعد أن أصدر حكمه بتوقيف الوزير الأكبر ووزير الحرب وسجنهما، ليجدني السلطان الشاب بعدها في فاس.
كنت أسترجع بفخر ذكريات تلك الأيام التي كنت مكلفا فيها بمهمة حساسة وتابعت عن كثب أحداثا كبرى هزت البلاد، إضافة إلى هذا كله، استقبلتني عائلة المقري بحفاوة في منزلها الكبير، وهو أحد أجمل البيوت في فاس بحدائقه الغناء ونافوراته اللامتناهية. كان الأمر يحتاج شجاعة هائلة لكي تقبل عائلة مغربية مسلمة أن تستضيف في بيتها رجلا «مسيحيا»، وأعتقد أنها كانت أول مرة تستقبل فيها عائلة مغربية أوروبيا داخل أحد أكبر البيوت في مدينة فاس.
كنت أرتدي نفس الملابس التي أتيت بها من طنجة، لكنني سرعان ما استمعت بملابس تقليدية مغربية منحني إياها كل من استضافني، إذ كنت أعيش مع الابن الأكبر للعائلة ويعاملني الكل كواحد من أبنائهم.
نجحت في تحقيق المهمة التي أرسلت من أجلها إلى فاس، وفي الرابع عشر من يوليوز، أرسل إلي السير ارنست ساتور خطابا يطلب مني أن أعود أدراجي إلى طنجة مثلما طلبت منه في السابق. ارتكزت مهمتي على السفر لأسابيع طويلة وقطع آلاف الأميال في فصل الصيف بلا وسائل دفاعية ووسط المخاطر المحدقة من كل جانب، وكافأتني الحكومة البريطانية على ما قمت به بشيك بمبلغ مائة جنيه استرليني، ولم أعترض أبدا على حجم المكافأة لأنه من المعتاد ألا تتم مكافأة الذين يقومون بخدمات غير رسمية. وطيلة مقامي في المغرب وأنا أقوم بالمهام التي يرسلني إليها المبعوثون البريطانيون، كنت أدفع بنفسي المصاريف دون أن أطلب أي مقابل من السلطات البريطانية. ولم أعلم بأهمية ما قمت به في أسفاري إلا بعد أن غادر السير ساتو المغرب، لأطالع مراسلاته مع الحكومة البريطانية، والتي كان يكتب فيها : لقد أخبروني أن، واطلعت من مصدر أن ... لذا كنت سعيدا أن يتم ذكر هذه الأشياء وأنا على استعداد للقيام بها مجددا، ومنذ عام 1912 تاريخ فرض نظام الحماية على المغرب من طرف فرنسا، تخلت بريطانيا عن كل أهدافها السياسية حول هذا البلد وظلت مساندة لحليفتها فرنسا، مما جعل المعلومات التي كنت أقدمها للسلطات الصديقة مهمة جدا، ورافقت العديد من البعثات الفرنسية واطلعت على مجموعة من الأسرار..
تناولت وجبة الغذاء مع شريف عطريش، صديق الريسوني وأحد أشهر الشخصيات في المدينة، ووعدني بأن يبذل كل ما في جهده لكي يحافظ على الاستقرار بين القبائل. وبعد فترة استراحة قصيرة، غادرت المدينة ووصلت ليلا إلى منطقة «القصر» وقد قطعت مسافة 60 ميلا، لأشد الرحال بعدها إلى وزان التي بلغتها بعد ثمان ساعات مع حلول الفجر. استقبلني شرفاء مدينة وزان الجبلية التي نادرا ما يزورها الأوروبيون لأنها أرض مقدسة. كان اليوم يوم عيد، ورغم ذلك لم يتوان الشرفاء في إرسال العديد من الرسائل تدعو إلى ضمان استتباب الأمن والاستقرار بين القبائل. بقيت في وزان حتى منتصف اليوم الموالي، لأسافر بعدها من جديد وأصل ليلا إلى «المزيرية»، وهي قرية ممتدة على السفح المطل على سهل سبو. خلدنا إلى النوم استعدادا للسفر قبل شروق الشمس، وعندها كنت متأكدا أن خبر وفاة السلطان قد انتشر مثل النار في الهشيم، وتناهت إلى أسماعنا أصوات إطلاق البنادق بشكل فوضوي وغير مفهوم، ومع تباشير الصباح الأولى، شاهدنا مجموعة من الفرسان مصطفين أسفل الوادي. بدأت حملات تصفية الحسابات، ورافقتها عمليات السرقة والاختطاف بطريقة منظمة، وحاولت أنا ورفيقي قدر الإمكان تفادي المرور من تلك الأماكن. قابلتنا قافلة جمال في الاتجاه المعاكس تحمل المؤن والبضائع يقودها ستة رجال، انسحبوا مذعورين عندما لمحونا مقبلين في اتجاههم، ليهدأ روعهم بعد أن أخبرناهم أننا مجرد عابري سبيل وأننا لن نمسهم بسوء. بعد مرور أربعة أيام على مغادرتنا مدينة طنجة، وصلنا أخيرا إلى فاس وقد قطعنا مسافة 200 ميل، وبدت الجياد منهكة من طول الرحلة. في الظهيرة، حملت معي رسائل الوزير البريطاني والخطاب الشفوي إلى مجلس السلطات المحلية الواقع ببيت الأمين عبد السلام المقري، أحد ألمع وأذكى رجال السياسة المغاربة. مكثت في فاس لعدة أسابيع، وكان وقتها مولاي عبد العزيز في طريقه عائدا من مكناس إلى فاس، بعد أن أصدر حكمه بتوقيف الوزير الأكبر ووزير الحرب وسجنهما، ليجدني السلطان الشاب بعدها في فاس.
كنت أسترجع بفخر ذكريات تلك الأيام التي كنت مكلفا فيها بمهمة حساسة وتابعت عن كثب أحداثا كبرى هزت البلاد، إضافة إلى هذا كله، استقبلتني عائلة المقري بحفاوة في منزلها الكبير، وهو أحد أجمل البيوت في فاس بحدائقه الغناء ونافوراته اللامتناهية. كان الأمر يحتاج شجاعة هائلة لكي تقبل عائلة مغربية مسلمة أن تستضيف في بيتها رجلا «مسيحيا»، وأعتقد أنها كانت أول مرة تستقبل فيها عائلة مغربية أوروبيا داخل أحد أكبر البيوت في مدينة فاس.
كنت أرتدي نفس الملابس التي أتيت بها من طنجة، لكنني سرعان ما استمعت بملابس تقليدية مغربية منحني إياها كل من استضافني، إذ كنت أعيش مع الابن الأكبر للعائلة ويعاملني الكل كواحد من أبنائهم.
نجحت في تحقيق المهمة التي أرسلت من أجلها إلى فاس، وفي الرابع عشر من يوليوز، أرسل إلي السير ارنست ساتور خطابا يطلب مني أن أعود أدراجي إلى طنجة مثلما طلبت منه في السابق. ارتكزت مهمتي على السفر لأسابيع طويلة وقطع آلاف الأميال في فصل الصيف بلا وسائل دفاعية ووسط المخاطر المحدقة من كل جانب، وكافأتني الحكومة البريطانية على ما قمت به بشيك بمبلغ مائة جنيه استرليني، ولم أعترض أبدا على حجم المكافأة لأنه من المعتاد ألا تتم مكافأة الذين يقومون بخدمات غير رسمية. وطيلة مقامي في المغرب وأنا أقوم بالمهام التي يرسلني إليها المبعوثون البريطانيون، كنت أدفع بنفسي المصاريف دون أن أطلب أي مقابل من السلطات البريطانية. ولم أعلم بأهمية ما قمت به في أسفاري إلا بعد أن غادر السير ساتو المغرب، لأطالع مراسلاته مع الحكومة البريطانية، والتي كان يكتب فيها : لقد أخبروني أن، واطلعت من مصدر أن ... لذا كنت سعيدا أن يتم ذكر هذه الأشياء وأنا على استعداد للقيام بها مجددا، ومنذ عام 1912 تاريخ فرض نظام الحماية على المغرب من طرف فرنسا، تخلت بريطانيا عن كل أهدافها السياسية حول هذا البلد وظلت مساندة لحليفتها فرنسا، مما جعل المعلومات التي كنت أقدمها للسلطات الصديقة مهمة جدا، ورافقت العديد من البعثات الفرنسية واطلعت على مجموعة من الأسرار..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-8-
لم يطل مقام مولاي عبد العزيز بفاس طويلا عام 1894، لأنه كان من الضروري للسلطان أن ينتقل إلى الجنوب لتدعيم ركائز حكمه في تلك المناطق.
رغم أن شمال المغرب ظل دوما مسرحا للثورات والنزاعات المسلحة، إلا أنه لم يشكل مصدر قلق للمخزن مقارنة بالجنوب، لأن قبائل الشمال كانت دائما فقيرة، قليلة العدد وفي حرب مستمرة فيما بينها، بينما ظل الأمر مختلفا تماما في مراكش. إنها منطقة غنية بالفلاحة ومواسم الحصاد الخصبة، وهو ما يجعل القبائل تتمتع بالهيمنة والنفوذ ووفرة السلاح والأحصنة. إضافة إلى هذا، يقطن سلسلة جبال الأطلس أمازيغ شجعان ومحاربون شرسون لا يقبلون الخضوع لأية قوة.
لحسن حظ السلاطين الذين حكموا المغرب، كانت هذه القبائل التي حكمها شيوخ عن طريق الوراثة في صراع دائم فيما بينها، ونجحت الحماية الفرنسية في توحيدها تحت سلطة موحدة. ولم يتخيل أي دارس لتاريخ المغرب القديم أن يتصافح شيوخ قبائل «الكلاويين» مع شيوخ كندافة ومتوغة وقائد الرحامنة، وهو ما حدث بالفعل.
عندما غادر مولاي عبد العزيز منطقة الشمال، ظل الأمن مستتبا في الربوع، وتم تعيين ولاة جدد في إشارة واضحة إلى النفوذ الذي أصبح يتمتع به مسير شؤون الدولة با حماد، مما استوجب تنقل السلطان إلى الجنوب بعد وصول أخبار عن نشوب نزاعات تحتاج التدخل لحلها دون إبطاء. هدأ قدوم السلطان من وطأة النزاعات التي خفت عن ذي قبل، وتكلف با حماد بعقد المصالحة بين القبائل الغاضبة والتحضير، بأموال الشعب، لبناء قصر فخم للسلطان. لم تتوقف أشغال البناء طيلة ست سنوات، وانهمك أمهر الصناع والحرفيين القادمين من مدن مغربية متعددة في تشييده وبنائه، لتكون النتيجة قصرا رائعا تستخدمه الإقامة الفرنسية كمقر خاص بها. أطلق على القصر اسم «الباهية» والتي تعني «المتألقة» و«الجميلة» وضم غرفا وقاعات متجاورة مزينة بأشجار الليمون والصنوبر والأروقة التي تعلوها أفاريز خشبية مزخرفة بألوان زاهية بمواد طبيعية. ساحة القصر يتداخل فيها الزليج والرخام وتحيط بها أربع قاعات كبيرة بالأروقة والأقواس. يمتد «الباهية» على مساحة واسعة وكرس أهميته بالطريقة العصرية التي طبعت بناءه.
أهم قاعات قصر الباهية هي القاعة الشمالية، وهي من أكبر قاعات القصر حيطانها مكسوة إلى النصف بالزليج، ونوافذها مفتوحة على الحديقة الأندلسية دائمة الاخضرار، وتعلوها أعمدة من الجبص، وسقف خشبي بألواح مزخرفة ذات طابع إيطالي.
في آخر زيارة لي إلى قصر الباهية بمراكش، رافقني أحد أبناء المدينة للقيام بجولة داخل القصر، واستفدت كثيرا من الشروحات التي قدم لي بعد أن علمت أنه عمل في ورشات بنائه ويعرف كل زواياه وأركانه. كنت قد زرته قبل ذلك بعد أن تلقيت دعوتين من الحاجب باحماد لتناول مأدبة عشاء معه، ومازالت تلك الليالي ماثلة في ذهني وأنا أتذكر عبق الياسمين الذي كان يعطر الأجواء والحدائق الخضراء اليانعة في فصل الربيع. وعندما توضع موائد الأكل الشهية، تعزف الفرق الموسيقية أغان مغربية بشكل عذب يتناهى من البهو المجاور لقاعة الأكل. يستقبلني باحماد بقامته القصيرة وملامحه الجدية، وبعد وفاته قبل عشرين سنة، سلمت ممتلكاته إلى السلطان لتنتقل إلى أشخاص آخرين.. أصبح اسمه مجرد ذكرى من الماضي، لأن السلطة في المغرب زائلة لا دوام لها، وكم نسي المغاربة من قائد ووزير ونسيتهم الذاكرة. بالموازاة مع بناء قصر الباهية، كانت لباحماد هواجس أخرى متعلقة بالحكم، إذ كان يراقب غضب العديد من القبائل خصوصا في منطقة الرحامنة الممتدة حدودها شمال مدينة مراكش. ظهر أحد المحرضين على الثورة وهو الطاهر بنسليمان الذي أراد تأليب القبائل على القصر، لتندلع عمليات طرد وقتل زعماء القبائل وعمت الفوضى بشكل واسع، وساد القمع فترة طويلة وأزهق معه الأرواح. وصل هؤلاء الثوار إلى حدود أبواب مراكش واستولوا على الحي الشمالي للمدينة لكنهم سرعان ما أجبروا على التراجع إلى الخلف. أبان باحماد عن قدرة كبيرة في مواجهة الثورات، ولم تضعف طاقته أبدا لأنه كان يعرف بدهاء كيف يستغل الصراعات والخلافات المحتدمة بين القبائل ويجعلها تواجه بعضها بذكاء. وبفضل المخزن والتخطيط الجيد لباحماد الذي وجد كافة الوسائل التي ساعدته في إخماد الصراعات والانتصار فيها، ليتم القضاء على انقلاب قبائل الرحامنة وتحولت آلاف الهكتارات إلى أراض من دم ونار وامتلأت السجون بمئات السجناء، ووقع الأطفال والنساء أسرى للجنود وسط الجوع والفقر..
رغم أن شمال المغرب ظل دوما مسرحا للثورات والنزاعات المسلحة، إلا أنه لم يشكل مصدر قلق للمخزن مقارنة بالجنوب، لأن قبائل الشمال كانت دائما فقيرة، قليلة العدد وفي حرب مستمرة فيما بينها، بينما ظل الأمر مختلفا تماما في مراكش. إنها منطقة غنية بالفلاحة ومواسم الحصاد الخصبة، وهو ما يجعل القبائل تتمتع بالهيمنة والنفوذ ووفرة السلاح والأحصنة. إضافة إلى هذا، يقطن سلسلة جبال الأطلس أمازيغ شجعان ومحاربون شرسون لا يقبلون الخضوع لأية قوة.
لحسن حظ السلاطين الذين حكموا المغرب، كانت هذه القبائل التي حكمها شيوخ عن طريق الوراثة في صراع دائم فيما بينها، ونجحت الحماية الفرنسية في توحيدها تحت سلطة موحدة. ولم يتخيل أي دارس لتاريخ المغرب القديم أن يتصافح شيوخ قبائل «الكلاويين» مع شيوخ كندافة ومتوغة وقائد الرحامنة، وهو ما حدث بالفعل.
عندما غادر مولاي عبد العزيز منطقة الشمال، ظل الأمن مستتبا في الربوع، وتم تعيين ولاة جدد في إشارة واضحة إلى النفوذ الذي أصبح يتمتع به مسير شؤون الدولة با حماد، مما استوجب تنقل السلطان إلى الجنوب بعد وصول أخبار عن نشوب نزاعات تحتاج التدخل لحلها دون إبطاء. هدأ قدوم السلطان من وطأة النزاعات التي خفت عن ذي قبل، وتكلف با حماد بعقد المصالحة بين القبائل الغاضبة والتحضير، بأموال الشعب، لبناء قصر فخم للسلطان. لم تتوقف أشغال البناء طيلة ست سنوات، وانهمك أمهر الصناع والحرفيين القادمين من مدن مغربية متعددة في تشييده وبنائه، لتكون النتيجة قصرا رائعا تستخدمه الإقامة الفرنسية كمقر خاص بها. أطلق على القصر اسم «الباهية» والتي تعني «المتألقة» و«الجميلة» وضم غرفا وقاعات متجاورة مزينة بأشجار الليمون والصنوبر والأروقة التي تعلوها أفاريز خشبية مزخرفة بألوان زاهية بمواد طبيعية. ساحة القصر يتداخل فيها الزليج والرخام وتحيط بها أربع قاعات كبيرة بالأروقة والأقواس. يمتد «الباهية» على مساحة واسعة وكرس أهميته بالطريقة العصرية التي طبعت بناءه.
أهم قاعات قصر الباهية هي القاعة الشمالية، وهي من أكبر قاعات القصر حيطانها مكسوة إلى النصف بالزليج، ونوافذها مفتوحة على الحديقة الأندلسية دائمة الاخضرار، وتعلوها أعمدة من الجبص، وسقف خشبي بألواح مزخرفة ذات طابع إيطالي.
في آخر زيارة لي إلى قصر الباهية بمراكش، رافقني أحد أبناء المدينة للقيام بجولة داخل القصر، واستفدت كثيرا من الشروحات التي قدم لي بعد أن علمت أنه عمل في ورشات بنائه ويعرف كل زواياه وأركانه. كنت قد زرته قبل ذلك بعد أن تلقيت دعوتين من الحاجب باحماد لتناول مأدبة عشاء معه، ومازالت تلك الليالي ماثلة في ذهني وأنا أتذكر عبق الياسمين الذي كان يعطر الأجواء والحدائق الخضراء اليانعة في فصل الربيع. وعندما توضع موائد الأكل الشهية، تعزف الفرق الموسيقية أغان مغربية بشكل عذب يتناهى من البهو المجاور لقاعة الأكل. يستقبلني باحماد بقامته القصيرة وملامحه الجدية، وبعد وفاته قبل عشرين سنة، سلمت ممتلكاته إلى السلطان لتنتقل إلى أشخاص آخرين.. أصبح اسمه مجرد ذكرى من الماضي، لأن السلطة في المغرب زائلة لا دوام لها، وكم نسي المغاربة من قائد ووزير ونسيتهم الذاكرة. بالموازاة مع بناء قصر الباهية، كانت لباحماد هواجس أخرى متعلقة بالحكم، إذ كان يراقب غضب العديد من القبائل خصوصا في منطقة الرحامنة الممتدة حدودها شمال مدينة مراكش. ظهر أحد المحرضين على الثورة وهو الطاهر بنسليمان الذي أراد تأليب القبائل على القصر، لتندلع عمليات طرد وقتل زعماء القبائل وعمت الفوضى بشكل واسع، وساد القمع فترة طويلة وأزهق معه الأرواح. وصل هؤلاء الثوار إلى حدود أبواب مراكش واستولوا على الحي الشمالي للمدينة لكنهم سرعان ما أجبروا على التراجع إلى الخلف. أبان باحماد عن قدرة كبيرة في مواجهة الثورات، ولم تضعف طاقته أبدا لأنه كان يعرف بدهاء كيف يستغل الصراعات والخلافات المحتدمة بين القبائل ويجعلها تواجه بعضها بذكاء. وبفضل المخزن والتخطيط الجيد لباحماد الذي وجد كافة الوسائل التي ساعدته في إخماد الصراعات والانتصار فيها، ليتم القضاء على انقلاب قبائل الرحامنة وتحولت آلاف الهكتارات إلى أراض من دم ونار وامتلأت السجون بمئات السجناء، ووقع الأطفال والنساء أسرى للجنود وسط الجوع والفقر..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-9-
لوحة للسلطان مولاي عبد العزيز سنوات بعد ذلك، زرت بلاد الرحامنة واكتشفت أنها أصبحت أرضا خلاء وتحولت الأراضي الخصبة إلى مراع نبتت فيها أعشاب برية ومتوحشة تغطي خياما سوداء، يخرج منها الأهالي و الجوع والفقر باد عليهم. هذا ما تبقى من قبيلة الرحامنة القوية.. ألقت قوات المخزن القبض على الطاهر بنسليمان، وألقوا به داخل قفص قضبانه كانت عبارة عن البنادق التي تمت مصادرتها من المتمردين. كان القفص ضيقا لدرجة أنه لا يستطيع التحرك داخله، وتم عرضه داخل الساحة العمومية بمراكش، وبدأ الناس يبصقون عليه ويكيلون له الشتائم، ليتوفى بعد نقله إلى السجن.
طيلة وجود باحماد على رأس إدارة التشريفات الملكية، ظل الملك الشاب داخل قصره، ورغم ظهوره في الاحتفالات والمناسبات الدينية أمام المغاربة، إلا أنه نظريا لم يكن حضوره قويا لأن باحماد هو من كان يحكم لوحده البلاد فعليا.
توفي باحماد عام 1900، وكنت في مراكش عندما كان يعاني من مرضه الأخير، وهو يتناول جرعات منتظمة من الأكسجين. لم يكن أحد يكترث بمعاناته، لكن بالمقابل سيعاني بعض الأشخاص في حالة رحيله عن الوجود. وخارج إقامته الخاصة، ساد نوع من اللامبالاة المطلقة بمرض باحماد. لم يكن هذا الأخير يحظى بالشعبية، والثروة الهائلة التي جمعها والمنزلة الكبيرة التي تمتع بها، ولدت الغيرة في نفوس الذين كانت لهم نفس طموحاته، رغم تباين القدرات.
الجميع كان يخشى سطوة باحماد، ونفوذه ظل من الصعب السيطرة عليه، وأحاط نفسه بهالة من الاحترام المرعب سرعان ما اختفى عندما أقعده المرض وقضى عليه. بعد أن لفظ نفسه الأخير، ظهرت الأحاسيس الحقيقية التي كان يخفيها المقربون منه وهي مزيج من الكراهية والبغض.. لطالما شكلت وفاة شخصية رسمية في المغرب حدثا مأساويا، وبمجرد الإعلان عن خبر احتضار الوزير، اصطفت قوات الحرس خارج القصر، وساد جو من الصمت المطلق. وأخيرا، انطلقت ذات صباح صيحات النساء معلنة خبر الوفاة المنتظرة. أغلق الحراس جميع أبواب القصر، ولم يسمحوا لأحد بالدخول أو الخروج، وداخل القصر، بدأت «الشياطين» بالتحرك. استولى العبيد على كل ما وجدته أيديهم من ممتلكات الحاجب باحماد، ونشبت الصراعات بين النساء لنهب المجوهرات والظفر بمقتنياته. تم تكسير الخزائن الحديدية وسرقة الوثائق وأصول الممتلكات التي كانت بداخلها، والاستيلاء على الأحجار الكريمة من أماكنها لكي يسهل بيعها بعد ذلك، وتعرض البعض للقتل جراء هذه الحملة الشرسة. وفي الوقت الذي استمرت فيه عملية سرقة ما تركه باحماد داخل أسوار القصر الحصين، انطلقت طقوس الدفن ولاحظ المشيعون دموع السلطان الذي كان يبكي على رحيل الشخص الذي وضعه على العرش ووقف إلى جانبه في الساعات الصعبة عندما لم يجد الدعم. وقبل أن تجف دموع السلطان عبد العزيز، عاد إلى القصر وكان أول قرار أصدره هو ظهير مصادرة جميع أملاك الحاجب باحماد، ليتحول الأمر إلى نهب منظم، وأرسل القصر العبيد والحرس لتطبيق مقتضيات هذا القرار الملكي. بعد عدة أيام، صودرت البهائم وقطيع الماشية والأسرة القطنية والأثاث والزرابي التي كانت في السابق في ملكية مدير التشريفات الملكية لتصبح في ملك السلطان. أجبر عبيد وزوجات باحماد على التخلي عن الممتلكات الخاصة بهم وتركوا منازلهم التي أوصدت أبوابها وأضحت فارغة من أهلها. أياما بعد ذلك، لم تتبق سوى جدران البيت الكبير للعائلة التي تشتت أفرادها وعانوا من الجوع والفقر، واستولى السلطان على عبيده لخدمته في القصر وعرض آخرون للبيع، فيما انتقلت الأراضي الواسعة إلى ملكية الدولة، وكانت هذه هي العادة في البلد إذ تتحول أملاك كبار الدولة بعد وفاتهم إلى السلطان. كنت أرى بين الحين والآخر أبناء باحماد وهم يعانون الفقر ويقبلون بعرفان كبير المبالغ المالية الصغيرة التي يرفض تسلمها خادم صغير في انجلترا. غيرت وفاة باحماد من خريطة السلطة في المغرب، وسادت الغيرة بين الوزراء الذين فهموا أنه قد حان الوقت للقيام بخطوة نحو الأمام لحماية مصالحهم وحماية مصالح الوزارة من أطماع المتربصين بها. كان أمامهم خياران: الاختيار بين الإذعان والرضوخ للغير أو الانتصار على الخصوم. كان السلطان يبلغ من العمر وقتها عشرين سنة وتهيأت له الفرصة للإمساك بدواليب الحكم مجتمعة في يده، لكن تحمل سلطان شاب لأمور البلاد في ذلك الوقت كان أمرا محفوفا بالخطر، واعتقد الوزراء أن مولاي عبد العزيز سيكون مستقلا أكثر في تسيير شؤون البلاد وإيجاد صيغة تسمح بمراقبة أفكاره وأفعاله.
طيلة وجود باحماد على رأس إدارة التشريفات الملكية، ظل الملك الشاب داخل قصره، ورغم ظهوره في الاحتفالات والمناسبات الدينية أمام المغاربة، إلا أنه نظريا لم يكن حضوره قويا لأن باحماد هو من كان يحكم لوحده البلاد فعليا.
توفي باحماد عام 1900، وكنت في مراكش عندما كان يعاني من مرضه الأخير، وهو يتناول جرعات منتظمة من الأكسجين. لم يكن أحد يكترث بمعاناته، لكن بالمقابل سيعاني بعض الأشخاص في حالة رحيله عن الوجود. وخارج إقامته الخاصة، ساد نوع من اللامبالاة المطلقة بمرض باحماد. لم يكن هذا الأخير يحظى بالشعبية، والثروة الهائلة التي جمعها والمنزلة الكبيرة التي تمتع بها، ولدت الغيرة في نفوس الذين كانت لهم نفس طموحاته، رغم تباين القدرات.
الجميع كان يخشى سطوة باحماد، ونفوذه ظل من الصعب السيطرة عليه، وأحاط نفسه بهالة من الاحترام المرعب سرعان ما اختفى عندما أقعده المرض وقضى عليه. بعد أن لفظ نفسه الأخير، ظهرت الأحاسيس الحقيقية التي كان يخفيها المقربون منه وهي مزيج من الكراهية والبغض.. لطالما شكلت وفاة شخصية رسمية في المغرب حدثا مأساويا، وبمجرد الإعلان عن خبر احتضار الوزير، اصطفت قوات الحرس خارج القصر، وساد جو من الصمت المطلق. وأخيرا، انطلقت ذات صباح صيحات النساء معلنة خبر الوفاة المنتظرة. أغلق الحراس جميع أبواب القصر، ولم يسمحوا لأحد بالدخول أو الخروج، وداخل القصر، بدأت «الشياطين» بالتحرك. استولى العبيد على كل ما وجدته أيديهم من ممتلكات الحاجب باحماد، ونشبت الصراعات بين النساء لنهب المجوهرات والظفر بمقتنياته. تم تكسير الخزائن الحديدية وسرقة الوثائق وأصول الممتلكات التي كانت بداخلها، والاستيلاء على الأحجار الكريمة من أماكنها لكي يسهل بيعها بعد ذلك، وتعرض البعض للقتل جراء هذه الحملة الشرسة. وفي الوقت الذي استمرت فيه عملية سرقة ما تركه باحماد داخل أسوار القصر الحصين، انطلقت طقوس الدفن ولاحظ المشيعون دموع السلطان الذي كان يبكي على رحيل الشخص الذي وضعه على العرش ووقف إلى جانبه في الساعات الصعبة عندما لم يجد الدعم. وقبل أن تجف دموع السلطان عبد العزيز، عاد إلى القصر وكان أول قرار أصدره هو ظهير مصادرة جميع أملاك الحاجب باحماد، ليتحول الأمر إلى نهب منظم، وأرسل القصر العبيد والحرس لتطبيق مقتضيات هذا القرار الملكي. بعد عدة أيام، صودرت البهائم وقطيع الماشية والأسرة القطنية والأثاث والزرابي التي كانت في السابق في ملكية مدير التشريفات الملكية لتصبح في ملك السلطان. أجبر عبيد وزوجات باحماد على التخلي عن الممتلكات الخاصة بهم وتركوا منازلهم التي أوصدت أبوابها وأضحت فارغة من أهلها. أياما بعد ذلك، لم تتبق سوى جدران البيت الكبير للعائلة التي تشتت أفرادها وعانوا من الجوع والفقر، واستولى السلطان على عبيده لخدمته في القصر وعرض آخرون للبيع، فيما انتقلت الأراضي الواسعة إلى ملكية الدولة، وكانت هذه هي العادة في البلد إذ تتحول أملاك كبار الدولة بعد وفاتهم إلى السلطان. كنت أرى بين الحين والآخر أبناء باحماد وهم يعانون الفقر ويقبلون بعرفان كبير المبالغ المالية الصغيرة التي يرفض تسلمها خادم صغير في انجلترا. غيرت وفاة باحماد من خريطة السلطة في المغرب، وسادت الغيرة بين الوزراء الذين فهموا أنه قد حان الوقت للقيام بخطوة نحو الأمام لحماية مصالحهم وحماية مصالح الوزارة من أطماع المتربصين بها. كان أمامهم خياران: الاختيار بين الإذعان والرضوخ للغير أو الانتصار على الخصوم. كان السلطان يبلغ من العمر وقتها عشرين سنة وتهيأت له الفرصة للإمساك بدواليب الحكم مجتمعة في يده، لكن تحمل سلطان شاب لأمور البلاد في ذلك الوقت كان أمرا محفوفا بالخطر، واعتقد الوزراء أن مولاي عبد العزيز سيكون مستقلا أكثر في تسيير شؤون البلاد وإيجاد صيغة تسمح بمراقبة أفكاره وأفعاله.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-10-
لوحة إعلانية عن سيرك قدم عروضه بالمغرب
في بداية القرن الماضي
فكر وزراء السلطان الشاب مولاي عبد العزيز في إيجاد صيغة توفر لهم هامشا من الحرية في تسيير شؤون الدولة وتقليص نفوذ الملك.
لتحقيق هذا المسعى، كان من الضروري إيجاد شيء يشغل بال الملك عديم التجربة الذي ظل بعيدا عن تسيير المجلس الوزاري، مما يعني الخروج عن العادات المغربية، ولم يعش أي سلطان من قبل هذا الوضع الاستثنائي. أدرك الوزراء أن نفوذهم لا يتمثل فقط في حبس الملك داخل القصر لأنه قادر على الثورة على عزلته، وقد يلقي عليهم القبض ويعذبهم. سحبوا إذن هذا السيناريو من مخططهم، وأجمعوا على أن السلطان بحاجة إلى ترفيه بشكل يجعله يصرف الاهتمام عن تسيير البلاد.
المغرب لوحده غير قادر على توفير كل مصادر الترفيه الضرورية، وكل ما يمكن أن يرفه عن السلطان موجود في البلاد، فلديه النساء والمجوهرات والأحصنة وكل ما يحصل عليه أي سلطان شرقي. وللحصول على أشياء أكثر أناقة، كان من الضروري التواصل مع الأوروبيين للحصول عليها، وكان الأمر مقصودا لأنها كانت بداية السقوط. خطوة كهذه تعني تراكم الديون الخارجية وجر المغرب شيئا فشيئا إلى فقدان استقلاله.
كان وجود مستشار كفء كفيلا بتجنيب المغرب هذا السيناريو، لأن عبد العزيز يفتقر إلى ملكات حكم وتسيير البلاد ولم تكن لديه الرغبة في الحكم رغم أنه كان ذكيا وذا تفكير عميق ويحب أن يتقن كل ما يقوم به. لم يكن إذن من السهل أن يتم تمديد التسلية التي ظل يتمتع بها السلطان بمدينة مراكش، البعيدة عن طنجة بمائة ميل، وتواصلها مع أوروبا كان بطيئا مما يجعل البضائع والشحنات تصل متأخرة نظرا لطول المسافة. وفي بعض الأحيان تجبر العواصف الأطلسية السفن على تأخير رحلاتها لعدة أسابيع. حققت مصادر اللهو الهدف المرجو منها وبدأ التفكير في وسائل لهو جديدة، بعد أن استمتع السلطان بالألعاب النارية والدراجات وكاميرات التصوير. في تلك الأثناء، تواردت أنباء عن وصول سيرك إلى أحد الموانئ المغربية الصغيرة، وهو ما يعني أنه ليس سوى سيرك أوربي بئيس، لكنه حظي باستقبال شعبي كبير كما لو أنه السيرك الشهير «بارنوم». بعث خدام القصر رسائل ملكية إلى القياد والولاة لدعوة السيرك، وقطع «الرقاصون» من كافة الاتجاهات مئات الأميال، ليتم استقدام السيرك ببضائعه وممثليه الاثني عشر وخيوله قاطعين السهول والتلال استجابة للدعوة الملكية. وكثر الحديث في البلاد عن وصول هذا السيرك واستأثر باهتمام الناس. تركز الاهتمام على هؤلاء الضيوف وتحولت صراعات القبائل وتربص القوى الأوروبية بالمغرب إلى مسائل تحتل المستوى الثاني من اهتمام القصر.
كانت صاحبة السيرك سيدة إسبانية شديدة البدانة وضخمة الجثة، ويبدو من الصعب التكهن بسنها، وتثاقلت خطوات البغلة التي كانت تحملها وتحملت عناء هذه الرحلة الطويلة المتعبة. لم يكن لهذه السيدة أي حضور في العروض التي قدمتها المجموعة، ولهذا السبب منعها الحراس من الدخول إلى القصر، واستشاطت غضبا فور سماعها بقرار منعها مرافقة الفرقة لتقديم العروض أمام السلطان. واقتضت أوامر صاحب الجلالة على أن الدخول مقتصر فقط على الممثلين دون سواهم. وتنفيذا لهذا الأمر، بقيت السيدة البدينة واثنان من عمال السيرك خارج الجهة المقابلة التي كان يجلس فيها السلطان في خيمته الواسعة ليشاهد العروض، ويفصل بينهما حائط ارتفاعه عشرون قدما. تناثرت الحجارة المستخدمة في إصلاح مرافق القصر وبقايا مواد البناء في المكان الذي كانت تجلس فيه السيدة الاسبانية، وناهز ارتفاعها وهي مكدسة الجدار الفاصل بين الساحتين. مع مرور الوقت وتزايد حنق السيدة، بدأ الملل يتسلل إليها رغم أنها لم تتوقف عن مشاهدة مجموعة من الغزلان وقطيعا من الماعز البري وهي تسير في الحديقة. لم تتحمل صاحبة السيرك أن تقطع كل هذه المسافة وتتحمل كل المشاق لكي يتم منعها في النهاية من مشاهدة العروض في حضور السلطان، لتخطر فجأة ببالها فكرة تكديس الحجارة ومواد البناء أمام الحائط. كان الأمر شاقا عليها لأنها لم تتعود على القيام بهذا الجهد، لكنها تلقت مساعدة لم تكن تتوقعها.. علا توترها بسبب بطء ما كانت تقوم به، ليقفز إلى جانبها أيل ذكر، استدرجته بهدوء نحوها ودفعته في مواجهة الجدار ليساعدها على تسلقه. في الجهة المقابلة من الجدار، ظل السلطان مستمتعا بالعروض المقدمة أمامه، وفجأة تغيرت ملامحه دون أن ينبس بأي كلمة وعيناه مصوبتان نحو الحائط الممتد أمامه..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
ظهر وجه السيدة الاسبانية البدينة على الحائط وملامح الغضب والحنق بادية عليه، وبدأت تتفرس في السلطان بفضول وهو جالس في خيمته. عندها تحرك الحرس المرافق للملك ولوحوا إليها بأيديهم أن تختفي وترحل عن المكان، وهو ما لم يحصل إذ ظهر الجزء العلوي من جسدها بعد أن رفعها الأيل بقرنه أكثر على الجدار. وأخيرا ظهرت السيدة على الحائط متمسكة به بشدة وهي تسعى بكل قواها للتشبث به لتحمي نفسها من السقوط قبل أن تهوي إلى الأرض.. عندها ظهر الأيل وقفز أمام الخيمة متجاوزا الجدار، واستدار لينطح صاحبة السيرك الاسبانية وتسقط بعيدا على مسافة متر ونصف، ليتحول المكان إذ ذاك إلى ساحة من الفوضى.. حاول الوزراء أن يجبروا الاسبانية على الاختفاء من المكان، وهو ما كانت المسكينة تسعى إليه أيضا، وظل السلطان صامتا ومستمتعا بالجلبة التي عمت المكان، فيما فطن العبيد إلى فكرة إبعاد الأيل القوي برميه بالحجارة لكي يغادر الساحة..
تقربت من السلطان مولاي عبد العزيز ودخلت محيط المقربين منه سنة 1901، وصادفته مرة أو اثنتين عندما رافقت البعثة الخاصة للسير أرتور نيكولسون إلى مراكش، وكان ما يزال ساعتها تحت الوصاية.. استرعى انتباهي خجله الشديد وعلاقته الخاصة بالوزير الشهير باحماد الذي كان يسير شؤون البلاد في ذلك الوقت. مازلت أتذكر مرافقتي للسلطان الشاب داخل إقامته الخاصة بـ «الاكدال» الذي سيستقبل فيه الوزير البريطاني.
سرنا داخل غابة مليئة بأشجار البرتقال وعناقيد العنب تتدلى بين ممراتها، وعلى امتداد البصر تمتد أشجار الصنوبر الخضراء تخترقها نافورات رخامية، وعلى الحواشي تترقرق جداول الماء الصافية بين الشجيرات الصغيرة.. كنا نرتدي جلابيب مغربية بيضاء ناصعة، ورافقنا قائد المشور في هذه الجولة حتى بلغنا «المنزه» ذي السواري المزركشة بسقف اسمنتي أصفر، وتسمرت في مكاني واقفا معجبا بروعة المكان، وفاحت في الأجواء عطور زهور الياسمين والأقحوان..خارج ساحة «المنزه»، يجلس الموظفون وخدم السلطان مشكلين حلقة دائرية. وقف باحماد أمام باب القاعة الوحيدة بقامته الفارعة وبنيته المكتملة وسحنته الإفريقية السوداء. وفي الداخل، يجلس السلطان الشاب على أريكة تعود إلى عهد لويس السادس عشر ويداه مشدودتان إلى الصدر مرتديا جلبابه الأبيض الحريري ذا الأصداف اللماعة. أهم ما شد انتباهي ساعتها هو الهدوء والخجل الذي لا يفارق السلطان، وعلى يمينه جلس الوزير البريطاني فيما ظللت واقفا رفقة الوفد المرافق له بمحاذاة الباب. كلمات السلطان كانت قليلة وفضل أن يهمس بها إلى أذن الوزير الذي نطقها بصوت مسموع أمام السفير. بعد فترة قصيرة، تخلص مولاي عبد العزيز من ارتباكه وأبدى اهتماما واضحا بالبذل الموحدة التي أحضرها الوفد الانجليزي، وعيناه لا تفارقان أحد مساعدي الوزير، وهو اللورد لورتش الذي يبلغ طوله ستة أقدام ويضع على رأسه قبعة حريرية انتزعت إعجاب السلطان.
بعد مرور أربع سنوات، تحدثت مع مولاي عبد العزيز في حوار ودي عن تلك الزيارة، فأجابني ضاحكا بأنه استغرب من القامة الفارعة للورد لوتش ولم يهتم أبدا بأي شخص آخر في البعثة سواه. واستفسرني عما إذا كان بإمكان اللورد لوتش الحضور إلى المغرب في البعثة التالية للسفارة البريطانية التي ستأتي بعد أشهر. نقلت رغبته إلى الحكومة البريطانية وفي يناير 1902 لم يعد السلطان خجولا كما في الزيارة السابقة وخص اللورد لوتش باستقبال رائع. لم يكن يخطر ببالي أبدا أن الارتباك الذي أبداه السلطان لدى لقائه باللورد في أول زيارة له، قد يتحول إلى علاقة خاصة تجعل لوتش يلقن مولاي عبد العزيز، سنوات بعد ذلك، مبادئ لعبة «تيب أند ران». حظيت صيف عام 1907 باستقبال خاص لدى السلطان مولاي عبد العزيز بعد ساعات طويلة من انحناءات البروتوكول الملكي، لأتمكن بعدها من لقاء صاحب الجلالة في مجلسه الخاص. اكتشفت سلطانا ذكيا وحلو الحديث ويمرح كثيرا ويجيد النقاش. فوجئ بأنني لا أتردد في الإجابة عن كل أسئلته كيفما كانت طبيعتها عكس ما كانت تقتضيه الأعراف وقتها، وسرعان ما اعتاد على الأمر وأبدى تجاوبا كبيرا في الحديث معي. أخبرني مسؤول التشريفات أن لقائي مع السلطان لن يدوم سوى بضع دقائق، لكنه طال وامتد إلى حوالي ساعة من الزمن. كان السلطان جالسا وبقيت أنا طيلة الوقت واقفا ولم أبد أي اعتراض على هذا الأمر. على أية حال لقد حققت انتصارا أثناء زيارتي للقصر بعد أن رفضت أن أجلس وذراعي مسندة إلى الأرض تماما كما يفعل الأوروبيون في حضرة صاحب الجلالة.
تقربت من السلطان مولاي عبد العزيز ودخلت محيط المقربين منه سنة 1901، وصادفته مرة أو اثنتين عندما رافقت البعثة الخاصة للسير أرتور نيكولسون إلى مراكش، وكان ما يزال ساعتها تحت الوصاية.. استرعى انتباهي خجله الشديد وعلاقته الخاصة بالوزير الشهير باحماد الذي كان يسير شؤون البلاد في ذلك الوقت. مازلت أتذكر مرافقتي للسلطان الشاب داخل إقامته الخاصة بـ «الاكدال» الذي سيستقبل فيه الوزير البريطاني.
سرنا داخل غابة مليئة بأشجار البرتقال وعناقيد العنب تتدلى بين ممراتها، وعلى امتداد البصر تمتد أشجار الصنوبر الخضراء تخترقها نافورات رخامية، وعلى الحواشي تترقرق جداول الماء الصافية بين الشجيرات الصغيرة.. كنا نرتدي جلابيب مغربية بيضاء ناصعة، ورافقنا قائد المشور في هذه الجولة حتى بلغنا «المنزه» ذي السواري المزركشة بسقف اسمنتي أصفر، وتسمرت في مكاني واقفا معجبا بروعة المكان، وفاحت في الأجواء عطور زهور الياسمين والأقحوان..خارج ساحة «المنزه»، يجلس الموظفون وخدم السلطان مشكلين حلقة دائرية. وقف باحماد أمام باب القاعة الوحيدة بقامته الفارعة وبنيته المكتملة وسحنته الإفريقية السوداء. وفي الداخل، يجلس السلطان الشاب على أريكة تعود إلى عهد لويس السادس عشر ويداه مشدودتان إلى الصدر مرتديا جلبابه الأبيض الحريري ذا الأصداف اللماعة. أهم ما شد انتباهي ساعتها هو الهدوء والخجل الذي لا يفارق السلطان، وعلى يمينه جلس الوزير البريطاني فيما ظللت واقفا رفقة الوفد المرافق له بمحاذاة الباب. كلمات السلطان كانت قليلة وفضل أن يهمس بها إلى أذن الوزير الذي نطقها بصوت مسموع أمام السفير. بعد فترة قصيرة، تخلص مولاي عبد العزيز من ارتباكه وأبدى اهتماما واضحا بالبذل الموحدة التي أحضرها الوفد الانجليزي، وعيناه لا تفارقان أحد مساعدي الوزير، وهو اللورد لورتش الذي يبلغ طوله ستة أقدام ويضع على رأسه قبعة حريرية انتزعت إعجاب السلطان.
بعد مرور أربع سنوات، تحدثت مع مولاي عبد العزيز في حوار ودي عن تلك الزيارة، فأجابني ضاحكا بأنه استغرب من القامة الفارعة للورد لوتش ولم يهتم أبدا بأي شخص آخر في البعثة سواه. واستفسرني عما إذا كان بإمكان اللورد لوتش الحضور إلى المغرب في البعثة التالية للسفارة البريطانية التي ستأتي بعد أشهر. نقلت رغبته إلى الحكومة البريطانية وفي يناير 1902 لم يعد السلطان خجولا كما في الزيارة السابقة وخص اللورد لوتش باستقبال رائع. لم يكن يخطر ببالي أبدا أن الارتباك الذي أبداه السلطان لدى لقائه باللورد في أول زيارة له، قد يتحول إلى علاقة خاصة تجعل لوتش يلقن مولاي عبد العزيز، سنوات بعد ذلك، مبادئ لعبة «تيب أند ران». حظيت صيف عام 1907 باستقبال خاص لدى السلطان مولاي عبد العزيز بعد ساعات طويلة من انحناءات البروتوكول الملكي، لأتمكن بعدها من لقاء صاحب الجلالة في مجلسه الخاص. اكتشفت سلطانا ذكيا وحلو الحديث ويمرح كثيرا ويجيد النقاش. فوجئ بأنني لا أتردد في الإجابة عن كل أسئلته كيفما كانت طبيعتها عكس ما كانت تقتضيه الأعراف وقتها، وسرعان ما اعتاد على الأمر وأبدى تجاوبا كبيرا في الحديث معي. أخبرني مسؤول التشريفات أن لقائي مع السلطان لن يدوم سوى بضع دقائق، لكنه طال وامتد إلى حوالي ساعة من الزمن. كان السلطان جالسا وبقيت أنا طيلة الوقت واقفا ولم أبد أي اعتراض على هذا الأمر. على أية حال لقد حققت انتصارا أثناء زيارتي للقصر بعد أن رفضت أن أجلس وذراعي مسندة إلى الأرض تماما كما يفعل الأوروبيون في حضرة صاحب الجلالة.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-12-
سألني مولاي عن إنجلترا ذات يوم في جلسة خاصة، فأخبرته أنني حظيت بهذا الشرف في السابق، ليسألني بعدها عن طبيعة البروتوكول المتبع في إنجلترا، وأجبته بأنني انحنيت مرة عندما دخلت إلى بهو القاعة ومرة أخرى عندما اقتربت من جلالة الملك. بدا السلطان متفاجئا عندما أخبرته بهذا الأمر وسألني عن سبب «استيراد» الانجليز إلى المغرب عادة الجلوس والاستناد باليد على الأرض لدى المثول أمام السلطان. لم أجد سوى نفي علمي بهذا التصرف وطرحت على مولاي عبد العزيز فرضية أن هؤلاء الإنجليز يعتقدون أنهم بذلك الشكل يتبعون الأعراف التقليدية المغربية. وأعطى السلطان أوامره بإلغاء تلك الطقوس، لكن بعض الأوروبيين لم يتوقفوا عن الانحناء أمامه جالسين خلال الحفلات الكبرى وحتى نهاية فترة حكمه. بعد مرور سنوات، حضرت إحدى الحفلات الخاصة داخل القصر الملكي، واسترعى انتباهي منظر صف طويل لمسؤولين إنجليز ينحنون مسندين أذرعهم على الأرض وهم يقفون أمام السلطان. إن القضية في نهاية المطاف مسألة ذوق فقط، وأعتقد أن كل مخلوق بشري لديه الحق، كيفما كانت الظروف، في تقليد كل ما يسمع، لكنني لا أقبل أن تتضاءل قيمة الشخص أو البلد بهذا الشكل. أي مواطن إنجليزي أو إنجلترا بحد ذاتها لا تستطيع أن تنزل من قيمتها إلى مستوى حركات رياضية معينة. ليس بإمكاني القيام بذلك لسبب وحيد وهو أنني أجد الأمر عبثيا للغاية، مثلما تبدو نصف الطقوس الحكومية في إنجلترا عبثية في أعين المغاربة.
عشت في تلك الفترة البدايات الأولى لظهور الألعاب النارية في المغرب، وطيلة أيام عديدة، زينت هذه الألعاب سماء عاصمة الجنوب مراكش في لياليها الساهرة والقنابل الملونة التي شدت أنظار الأهالي وهم يشاهدونها تدوي في السماء. استدعى القصر إنجليزيا متخصصا من بلاده لكي يشرف على تركيب وإطلاق تلك المفرقعات، وظل ملحقا بالقصر مكلفا دائما بتلك المهمة، وسط استمتاع المغاربة الذين أفزعتهم بالمقابل أصوات التفجيرات المدوية في الهواء. المغاربة بطبعهم لا يحبون الإسراف ولا يرمون المال خارج النافذة، لذا فكلفة تلك الألعاب النارية القادمة إلى مراكش كانت باهظة، فقد تكفلت الحكومة بدفع مصاريف الشحن والتأمين ونقل القوافل التي تحملها، ينضاف إلى كل هذا ثمن الشراء دون احتساب مبلغ العمولة. لقد كانت بلا شك ألعابا رائعة لكن ميزانيتها كانت مكلفة جدا. حضرت إحدى تلك الحفلات رفقة وزير بريطاني لم تعجبه المغالاة في الاحتفالات لكنه لم يستطع رفض الدعوة الموجهة إليه للحضور. تضمن أحد العروض قذف الشهب من مجسم فيل ضخم بعيون مضيئة جعلت الأجواء منيرة واحتفالية، ورغم أنه لم يكن ذا أهمية تذكر إلا أنني توقعت أن مبلغ شرائه كان مرتفعا.
في ظهيرة أحد الأيام، أخبرني السلطان أنه سيتم إطلاق الشهب الاصطناعية على عشب القصر، وفهمت من كلامه أن الحفل مخصص «فقط للسيدات»، ولن يتم استدعاء أي رجل للحضور، وفضلت بدوري الصعود إلى سطح المنزل الذي كنت أقطن فيه ممنيا نفسي بأن أشاهد الألعاب النارية تلك الليلة. شاهدت الصواريخ بألوانها الزاهية وهي تصعد إلى السماء وامتزجت الأضواء الصفراء والبنفسجية والخضراء مع النجوم التي زينت السماء. وفي ساحة الفنا بمركز المدينة، انتظرت الجموع بفارغ الصبر لحظة إطلاق الصواريخ من جدران القصر التي يبلغ ارتفاعها نصف ميل. في اليوم الموالي طلب مني السلطان رأيي حول حفل الليلة الفائتة، ولم أتردد في وصف جمال الألعاب وتكلفتها المرتفعة ومدى إقبال أهالي مراكش لمتابعة الألعاب، عندها بادرني بالسؤال: «وماذا يقول الشعب حول احتفال أمس؟». أجبته أنني لم أتعرف بعد على انطباعاتهم، لكنني في مناسبات متعددة سمعت البعض يصرخ: هاهي مرة أخرى آلاف الدولارات من أموالنا تضيع هباء»، وفاجأه جوابي. لقد كان مولاي عبد العزيز ينتظر أن يسمع من الشعب عبارات الولاء والتقدير بفضل ذلك الحفل الكبير، وربما حركت هذه الملاحظة انتباه السلطان لتنخفض أعداد الصواريخ الاحتفالية في الأيام القادمة، رغم أن الإنجليزي المسؤول عنها في القصر احتفظ بمنصبه لفترة من الزمن.
طيلة الأشهر الطويلة التي قضيتها في القصر الملكي، انتابني الإحساس بأنه يتم دائما تفادي الحديث عن الأمور السلبية. وكان يبدو من الواضح أن السلطان يسير في خط فوضوي، وبما أنني كنت مقربا منه فقد حرصت أن أصف له الأمور بواقعها، لكن بدون جدوى.
عشت في تلك الفترة البدايات الأولى لظهور الألعاب النارية في المغرب، وطيلة أيام عديدة، زينت هذه الألعاب سماء عاصمة الجنوب مراكش في لياليها الساهرة والقنابل الملونة التي شدت أنظار الأهالي وهم يشاهدونها تدوي في السماء. استدعى القصر إنجليزيا متخصصا من بلاده لكي يشرف على تركيب وإطلاق تلك المفرقعات، وظل ملحقا بالقصر مكلفا دائما بتلك المهمة، وسط استمتاع المغاربة الذين أفزعتهم بالمقابل أصوات التفجيرات المدوية في الهواء. المغاربة بطبعهم لا يحبون الإسراف ولا يرمون المال خارج النافذة، لذا فكلفة تلك الألعاب النارية القادمة إلى مراكش كانت باهظة، فقد تكفلت الحكومة بدفع مصاريف الشحن والتأمين ونقل القوافل التي تحملها، ينضاف إلى كل هذا ثمن الشراء دون احتساب مبلغ العمولة. لقد كانت بلا شك ألعابا رائعة لكن ميزانيتها كانت مكلفة جدا. حضرت إحدى تلك الحفلات رفقة وزير بريطاني لم تعجبه المغالاة في الاحتفالات لكنه لم يستطع رفض الدعوة الموجهة إليه للحضور. تضمن أحد العروض قذف الشهب من مجسم فيل ضخم بعيون مضيئة جعلت الأجواء منيرة واحتفالية، ورغم أنه لم يكن ذا أهمية تذكر إلا أنني توقعت أن مبلغ شرائه كان مرتفعا.
في ظهيرة أحد الأيام، أخبرني السلطان أنه سيتم إطلاق الشهب الاصطناعية على عشب القصر، وفهمت من كلامه أن الحفل مخصص «فقط للسيدات»، ولن يتم استدعاء أي رجل للحضور، وفضلت بدوري الصعود إلى سطح المنزل الذي كنت أقطن فيه ممنيا نفسي بأن أشاهد الألعاب النارية تلك الليلة. شاهدت الصواريخ بألوانها الزاهية وهي تصعد إلى السماء وامتزجت الأضواء الصفراء والبنفسجية والخضراء مع النجوم التي زينت السماء. وفي ساحة الفنا بمركز المدينة، انتظرت الجموع بفارغ الصبر لحظة إطلاق الصواريخ من جدران القصر التي يبلغ ارتفاعها نصف ميل. في اليوم الموالي طلب مني السلطان رأيي حول حفل الليلة الفائتة، ولم أتردد في وصف جمال الألعاب وتكلفتها المرتفعة ومدى إقبال أهالي مراكش لمتابعة الألعاب، عندها بادرني بالسؤال: «وماذا يقول الشعب حول احتفال أمس؟». أجبته أنني لم أتعرف بعد على انطباعاتهم، لكنني في مناسبات متعددة سمعت البعض يصرخ: هاهي مرة أخرى آلاف الدولارات من أموالنا تضيع هباء»، وفاجأه جوابي. لقد كان مولاي عبد العزيز ينتظر أن يسمع من الشعب عبارات الولاء والتقدير بفضل ذلك الحفل الكبير، وربما حركت هذه الملاحظة انتباه السلطان لتنخفض أعداد الصواريخ الاحتفالية في الأيام القادمة، رغم أن الإنجليزي المسؤول عنها في القصر احتفظ بمنصبه لفترة من الزمن.
طيلة الأشهر الطويلة التي قضيتها في القصر الملكي، انتابني الإحساس بأنه يتم دائما تفادي الحديث عن الأمور السلبية. وكان يبدو من الواضح أن السلطان يسير في خط فوضوي، وبما أنني كنت مقربا منه فقد حرصت أن أصف له الأمور بواقعها، لكن بدون جدوى.
عدل سابقا من قبل abdelhamid في الخميس 16 يوليو 2009 - 12:14 عدل 1 مرات
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-13-
منذ نهاية عام 1902، بدأت أستخدم قاموسا جديدا مع السلطان، لم يستطع أحد من المقربين منه استخدامه معه من قبل، وهدفي من ذلك كان إنقاذه قبل فوات الأوان. كان يستقبلني بحفاوة ويشكرني على حديثي معه بكل حرية، لكنه رغم ذلك استمر في سلوكياته المبذرة وتقليده للأوربيين. لو أنه قام في هذه الفترة بتسريح الموظفين الأوربيين على أن يترك فقط طبيبا ومهندسا أو اثنين، وعددا من الذين كانوا في خدمة والده الراحل، وتوقف عن تضييع أمواله، لاتخذ مستقبل المغرب وجها مغايرا عما هو عليه الآن. كان مولاي عبد العزيز يفضل قضاء فترات ما بعد الظهيرة في الترفيه والتسلية عن نفسه، وغالبا ما يرافقه وزير الحرب المنهبي وبعض الموظفين الأوربيين يتنزهون في مرافق الأكدال الواسعة..
كنا نفضل التجول قرب بحيرة المنتزه، وأحيانا نركب إحدى البواخر الخاصة بالسلطان. في إحدى المرات، قرر صاحب الجلالة دعوتي ووزير الحرب إلى ركوب قاربه. وانهمك هو ووزيره في التجديف، بصراحة لم يكونا موفقين أبدا في ذلك، فتقمصت أنا دور قائد القارب.
ظل السلطان يجدف في المقدمة، ورش الوزير برذاذ الماء الذي بلله عن آخره.. لم يبق الوزير مكتوف الأيدي، بل بدأ التجديف مائة مرة في الدقيقة، في حين ادخر السلطان جهده وحافظ على وتيرته البطيئة لكنهما استمتعا بتلك الرحلة البحرية القصيرة بشكل يفوق الوصف.
«نحن بحاران وأنت مسافر على متن سفينة مغربية»، صرخ السلطان بحماس، ورددت على مزحته مجيبا: «أنتما أسوأ بحارين صادفتهما في حياتي، وعندما سترسو بنا الباخرة سأخبر السلطات بعدم كفاءتكما».
«هل تريد فعلا القيام بهذا الأمر؟ إذن عليك أن تدفع لنا لأننا قمنا بنقلك على متن الباخرة»، رد علي مولاي عبد العزيز بنفس نبرته المازحة. وما إن أخبرته أنني أريد أن أنهي رحلتي، حتى فاجأني السلطان برشي بالماء إلى أن تبللت ملابسي تماما مثل الوزير. عندما سألته عن المقابل المالي الذي يطلب، أخبرني أنه يريد نصف بسيطة لكل واحد منهما، لأجد نفسي، لأول مرة في حياتي، أمنح هدية لسلطان ووزير حرب..
في خريف 1902، تمت دعوتي إلى مرافقة الموكب الملكي المسافر إلى فاس، عاصمة الشمال. كان من المتوقع أن ينطلق موكب السلطان، المستقر في مراكش لمدة ست سنوات، في بداية الخريف، لكن الاستعدادات تأخرت وبقيت الخيمة السلطانية منصوبة خارج أبواب المدينة، لتنطلق الرحلة أخيرا في نهاية نونبر. وفي ساعة مبكرة من الصباح، غادر مولاي عبد العزيز قصره في عاصمة الجنوب مرفوقا بحاشيته وخدمه متجهين نحو الشمال. أعتقد أنه ليس من الضروري وصف تفاصيل السفر يوما بيوم، لأن الطقوس والمراسيم الملكية لم تتغير أبدا أثناء مرورنا على العديد من المدن المغربية، وسأحاول أن أصف يوما اعتياديا أثناء تلك الرحلة التي تتكرر تفاصيلها يوميا طيلة السفر. قبل بزوغ الفجر، يستيقظ الخدم قبل ثلاث ساعات من مدفع الصباح ويجمعون الخيام ليبدؤوا في تسريج الأحصنة وربط الحمولة على الجمال استعدادا للرحيل. ما إن تبدأ أشعة الشمس الأولى في السطوع حتى يتراءى أمامك منظر أشبه بحفل بألوان خلابة. تتداخل الخيام البيضاء مع الدخان الأحمر للمعسكر الذي اختار المبيت في مرج مليء بأزهار زاهية الألوان. تظهر أطياف الرجال والحيوانات وهي تتحرك في مشهد أشبه بعرض لألعاب السحر، وتسقط الخيمة تلو الأخرى ليتبقى في نهاية المطاف جدار الخيمة الملكية المحاذية لساحة الخيل وآلاف البغال والجمال المحملة بالبضائع والأمتعة. اصطف الفرسان قرب الموكب السلطاني مشكلين حلقة مركزية يقف فيها وزراء الدولة، فيما ارتدى الحرس المرابض أمام خيمة السلطان جلابيب بيضاء وطرابيش حمراء في انتظار خروج صاحب الجلالة من الخيمة. فجأة كسر عزف على البوق صمت المكان، واخترق الجمع رجل بقامة رفيعة وتقدم بين الصفوف بخطى وئيدة وردد بصوت عال: «الله يطول في عمر سيدي»، ما إن أنهاها حتى انحنى الحاضرون في حركة موحدة. ارتفعت الشمس وأرسلت أشعتها الدافئة، لتزدان الأثواب الحريرية الحمراء للخيل وبدا المشهد أشبه بلوحة تشكيلية متعددة الألوان. اقترب أحد كبار الموظفين المحليين وممثل إحدى القبائل من السلطان وانحنى بركبتيه وجبهته على الأرض ووقف يحدث مولاي عبد العزيز في خضوع، قبل أن ينصرف فور انتهاء المقابلة. ما إن امتطى السلطان صهوة جواده، حتى ساد الهرج والمرج في المكان..
كنا نفضل التجول قرب بحيرة المنتزه، وأحيانا نركب إحدى البواخر الخاصة بالسلطان. في إحدى المرات، قرر صاحب الجلالة دعوتي ووزير الحرب إلى ركوب قاربه. وانهمك هو ووزيره في التجديف، بصراحة لم يكونا موفقين أبدا في ذلك، فتقمصت أنا دور قائد القارب.
ظل السلطان يجدف في المقدمة، ورش الوزير برذاذ الماء الذي بلله عن آخره.. لم يبق الوزير مكتوف الأيدي، بل بدأ التجديف مائة مرة في الدقيقة، في حين ادخر السلطان جهده وحافظ على وتيرته البطيئة لكنهما استمتعا بتلك الرحلة البحرية القصيرة بشكل يفوق الوصف.
«نحن بحاران وأنت مسافر على متن سفينة مغربية»، صرخ السلطان بحماس، ورددت على مزحته مجيبا: «أنتما أسوأ بحارين صادفتهما في حياتي، وعندما سترسو بنا الباخرة سأخبر السلطات بعدم كفاءتكما».
«هل تريد فعلا القيام بهذا الأمر؟ إذن عليك أن تدفع لنا لأننا قمنا بنقلك على متن الباخرة»، رد علي مولاي عبد العزيز بنفس نبرته المازحة. وما إن أخبرته أنني أريد أن أنهي رحلتي، حتى فاجأني السلطان برشي بالماء إلى أن تبللت ملابسي تماما مثل الوزير. عندما سألته عن المقابل المالي الذي يطلب، أخبرني أنه يريد نصف بسيطة لكل واحد منهما، لأجد نفسي، لأول مرة في حياتي، أمنح هدية لسلطان ووزير حرب..
في خريف 1902، تمت دعوتي إلى مرافقة الموكب الملكي المسافر إلى فاس، عاصمة الشمال. كان من المتوقع أن ينطلق موكب السلطان، المستقر في مراكش لمدة ست سنوات، في بداية الخريف، لكن الاستعدادات تأخرت وبقيت الخيمة السلطانية منصوبة خارج أبواب المدينة، لتنطلق الرحلة أخيرا في نهاية نونبر. وفي ساعة مبكرة من الصباح، غادر مولاي عبد العزيز قصره في عاصمة الجنوب مرفوقا بحاشيته وخدمه متجهين نحو الشمال. أعتقد أنه ليس من الضروري وصف تفاصيل السفر يوما بيوم، لأن الطقوس والمراسيم الملكية لم تتغير أبدا أثناء مرورنا على العديد من المدن المغربية، وسأحاول أن أصف يوما اعتياديا أثناء تلك الرحلة التي تتكرر تفاصيلها يوميا طيلة السفر. قبل بزوغ الفجر، يستيقظ الخدم قبل ثلاث ساعات من مدفع الصباح ويجمعون الخيام ليبدؤوا في تسريج الأحصنة وربط الحمولة على الجمال استعدادا للرحيل. ما إن تبدأ أشعة الشمس الأولى في السطوع حتى يتراءى أمامك منظر أشبه بحفل بألوان خلابة. تتداخل الخيام البيضاء مع الدخان الأحمر للمعسكر الذي اختار المبيت في مرج مليء بأزهار زاهية الألوان. تظهر أطياف الرجال والحيوانات وهي تتحرك في مشهد أشبه بعرض لألعاب السحر، وتسقط الخيمة تلو الأخرى ليتبقى في نهاية المطاف جدار الخيمة الملكية المحاذية لساحة الخيل وآلاف البغال والجمال المحملة بالبضائع والأمتعة. اصطف الفرسان قرب الموكب السلطاني مشكلين حلقة مركزية يقف فيها وزراء الدولة، فيما ارتدى الحرس المرابض أمام خيمة السلطان جلابيب بيضاء وطرابيش حمراء في انتظار خروج صاحب الجلالة من الخيمة. فجأة كسر عزف على البوق صمت المكان، واخترق الجمع رجل بقامة رفيعة وتقدم بين الصفوف بخطى وئيدة وردد بصوت عال: «الله يطول في عمر سيدي»، ما إن أنهاها حتى انحنى الحاضرون في حركة موحدة. ارتفعت الشمس وأرسلت أشعتها الدافئة، لتزدان الأثواب الحريرية الحمراء للخيل وبدا المشهد أشبه بلوحة تشكيلية متعددة الألوان. اقترب أحد كبار الموظفين المحليين وممثل إحدى القبائل من السلطان وانحنى بركبتيه وجبهته على الأرض ووقف يحدث مولاي عبد العزيز في خضوع، قبل أن ينصرف فور انتهاء المقابلة. ما إن امتطى السلطان صهوة جواده، حتى ساد الهرج والمرج في المكان..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
- 14 -
تناسل شائعات حول المد المسيحي في القصر وبوحمارة يقود الثورة ضد السلطان
عاد مولاي عبد العزيز إلى فاس مع نهاية 1902، وفي نفسه طموح إدخال إصلاحات
على نظام الحكم، رغم اللامبالاة التي ظل يتخبط فيها. نوايا السلطان كانت
في طياتها طيبة، لكنها اصطدمت برفض وزرائه لكل مشروع إصلاحي يود مولاي عبد
العزيز تطبيقه في المغرب، والتي كان من شأنها أن تغير عادات عيشهم وتقلص
ثرواتهم وتزعج خططهم للرشوة التي يأملون أن تدوم لما فيه مصلحتهم. لهذا
يغضون الطرف عن إسراف السلطان في الملاهي ويراقبون تبذيره للأموال ومداخيل
البلد دون أن يحركوا ساكنا، وانتقلت مختلف أشكال الإشاعات بين القبائل حول
ما يدور داخل القصر.
مثلا عندما وجد السلطان أن الجدران البيضاء للساحة الداخلية للقصر
قد تغير لونها، بادر إلى صباغتها باللون الأزرق، وشكل ذلك إبداعا جديدا
داخل القصور الملكية وغير معروف في التقاليد السائدة. أضحت جدران القصور
بارزة من التلال المحيطة لفاس وأثار اللون الأزرق انتباه الفلاحين الذين
يقصدون المدينة للتسوق. بالنسبة للوزراء، يعد الأمر خروجا عن العادات
الإسلامية وتقليدا للطقوس المسيحية، وتكفل أحد الأعوان بنشر خبر أن مولاي
عبد العزيز خسر ثروته بلعب الورق مع المسيحيين، ويراهن بمرافق قصره لتعويض
الخسارة، وتذهب الإشاعة أبعد من ذلك إلى أن السلطان قد خسر القصر لفائدة
المسيحي الذي قرر إعادة صباغته باللون الأزرق. الأمر المؤكد في الحكاية أن
لعب الورق لم يكن معروفا داخل أسوار القصر، وكيفما كانت ملاهي مولاي عبد
العزيز، إلا أنه لم يكن يهتم أبدا بتلك اللعبة، وبما أن القمار واللعب
بالمال حرمه القرآن، فقد حرص السلطان الشاب على تشديد مراقبته لتطبيق
مبادئ الشريعة الإسلامية في القصر. انتشرت بسرعة شائعات المد المسيحي
وحاول كل طرف حماية مصالحه من هذه الإشاعة، خصوصا المدعو عمر الزرهوني أو
الجيلالي الذي حاول خدمة مصالحه إلى أبعد حد. كان رجلا متعلما وعمل لفترة
من الزمن كاتبا في القصر، لكن خطأ إداريا وضع حدا لعمله هناك، لينتقل
بعدها للعمل مع حمو الحسن، القائد الأمازيغي لقبائل بني مطير، والتقيت به
هناك وتعرفت عليه عن كثب.
غادر الجيلالي عمله مع القائد سنة 1901 واختفى داخل البلد، وإضافة
إلى فصاحة لسانه ومواهبه الفطرية التي تميز بها، كان أيضا مزورا محترفا
ويجيد بعض الألعاب السحرية اليدوية. ساعدته هذه الملكات على العيش وإعالة
نفسه والسفر من قبيلة إلى أخرى على ظهر حمارته، ليطلق عليه الناس لقب
«بوحمارة»، وسطع نجمه كثيرا بين قبائل الريف. كان بوحمارة يسافر وفي ذهنه
فكرة واحدة وهي أن يكسب حياته، لتتخذ حياته بعدها مسارا آخر. طبع طريقة
حديثه مع الأهالي بمسحة دينية جعلته يخبر بعض القبائل بأنه المهدي
المنتظر، بل لم يتردد في القول إنه مولاي محمد، الابن البكر للسلطان
الراحل مولاي الحسن. زهده في العيش وامتطاؤه لتلك الدابة جعلا بوحمارة في
أعين الأهالي شخصا عجائبيا وحظي بمكانة خاصة في قلوبهم. مع نهاية خريف عام
1902، غادر مولاي عبد العزيز مدينة فاس في اتجاه العاصمة الرباط، وتأخرت
مغادرته بسبب ثورة بوحمارة، وقلل رجال الجيش من حجم ذلك العصيان، لينطلق
الملك في شهر نونبر، وأرسلت فرقة مسلحة إلى تازة لإخماد الثورة. كان الوضع
دقيقا والكل كان يترقب تحديد هوية القائد الذي سيختاره السلطان وتوقف
مستقبل حل تلك الأزمة على القوات المسلحة الملكية التي قادت المواجهات. لم
تتوقف مظاهر الفساد وانتشرت الرشوة بشكل رهيب مما ضاعف من حجم الأزمة وعقد
الوضع في البلاد. طلبت ساعتها من السلطان وأنا معه في فاس قبل سفره أن
يخبرني من اختار لكي يقود الجيش ضد بوحمارة، وأمام دهشتي الكبيرة أجابني
بلا تردد: «القائد سيكون شقيقي مولاي الكبير»، لم أصدق في البداية ما قال
وأخبرته أن مولاي الكبير مازال طفلا ولم يكن أبدا في حياته جنديا، ليجيبني
مولاي عبد العزيز قائلا: «هذا صحيح، لكن باقي إخوتي قادوا حملات عسكرية في
السابق وقد حانت فرصة مولاي الكبير لكي يغتني قليلا». كان يقصد بكلامه أن
الأمير سيحصل على الأموال من المناطق والقبائل التي ستكون حلبة المواجهات.
رافقت السلطان في نونبر عندما غادر فاس باتجاه الرباط، وارتفعت وتيرة
الحراسة عندما وصل صاحب الجلالة إلى مكناس، لنصل بعد أيام إلى منطقة زمور
التي كانت فيها الحرب أشد وطأة..
تناسل شائعات حول المد المسيحي في القصر وبوحمارة يقود الثورة ضد السلطان
عاد مولاي عبد العزيز إلى فاس مع نهاية 1902، وفي نفسه طموح إدخال إصلاحات
على نظام الحكم، رغم اللامبالاة التي ظل يتخبط فيها. نوايا السلطان كانت
في طياتها طيبة، لكنها اصطدمت برفض وزرائه لكل مشروع إصلاحي يود مولاي عبد
العزيز تطبيقه في المغرب، والتي كان من شأنها أن تغير عادات عيشهم وتقلص
ثرواتهم وتزعج خططهم للرشوة التي يأملون أن تدوم لما فيه مصلحتهم. لهذا
يغضون الطرف عن إسراف السلطان في الملاهي ويراقبون تبذيره للأموال ومداخيل
البلد دون أن يحركوا ساكنا، وانتقلت مختلف أشكال الإشاعات بين القبائل حول
ما يدور داخل القصر.
مثلا عندما وجد السلطان أن الجدران البيضاء للساحة الداخلية للقصر
قد تغير لونها، بادر إلى صباغتها باللون الأزرق، وشكل ذلك إبداعا جديدا
داخل القصور الملكية وغير معروف في التقاليد السائدة. أضحت جدران القصور
بارزة من التلال المحيطة لفاس وأثار اللون الأزرق انتباه الفلاحين الذين
يقصدون المدينة للتسوق. بالنسبة للوزراء، يعد الأمر خروجا عن العادات
الإسلامية وتقليدا للطقوس المسيحية، وتكفل أحد الأعوان بنشر خبر أن مولاي
عبد العزيز خسر ثروته بلعب الورق مع المسيحيين، ويراهن بمرافق قصره لتعويض
الخسارة، وتذهب الإشاعة أبعد من ذلك إلى أن السلطان قد خسر القصر لفائدة
المسيحي الذي قرر إعادة صباغته باللون الأزرق. الأمر المؤكد في الحكاية أن
لعب الورق لم يكن معروفا داخل أسوار القصر، وكيفما كانت ملاهي مولاي عبد
العزيز، إلا أنه لم يكن يهتم أبدا بتلك اللعبة، وبما أن القمار واللعب
بالمال حرمه القرآن، فقد حرص السلطان الشاب على تشديد مراقبته لتطبيق
مبادئ الشريعة الإسلامية في القصر. انتشرت بسرعة شائعات المد المسيحي
وحاول كل طرف حماية مصالحه من هذه الإشاعة، خصوصا المدعو عمر الزرهوني أو
الجيلالي الذي حاول خدمة مصالحه إلى أبعد حد. كان رجلا متعلما وعمل لفترة
من الزمن كاتبا في القصر، لكن خطأ إداريا وضع حدا لعمله هناك، لينتقل
بعدها للعمل مع حمو الحسن، القائد الأمازيغي لقبائل بني مطير، والتقيت به
هناك وتعرفت عليه عن كثب.
غادر الجيلالي عمله مع القائد سنة 1901 واختفى داخل البلد، وإضافة
إلى فصاحة لسانه ومواهبه الفطرية التي تميز بها، كان أيضا مزورا محترفا
ويجيد بعض الألعاب السحرية اليدوية. ساعدته هذه الملكات على العيش وإعالة
نفسه والسفر من قبيلة إلى أخرى على ظهر حمارته، ليطلق عليه الناس لقب
«بوحمارة»، وسطع نجمه كثيرا بين قبائل الريف. كان بوحمارة يسافر وفي ذهنه
فكرة واحدة وهي أن يكسب حياته، لتتخذ حياته بعدها مسارا آخر. طبع طريقة
حديثه مع الأهالي بمسحة دينية جعلته يخبر بعض القبائل بأنه المهدي
المنتظر، بل لم يتردد في القول إنه مولاي محمد، الابن البكر للسلطان
الراحل مولاي الحسن. زهده في العيش وامتطاؤه لتلك الدابة جعلا بوحمارة في
أعين الأهالي شخصا عجائبيا وحظي بمكانة خاصة في قلوبهم. مع نهاية خريف عام
1902، غادر مولاي عبد العزيز مدينة فاس في اتجاه العاصمة الرباط، وتأخرت
مغادرته بسبب ثورة بوحمارة، وقلل رجال الجيش من حجم ذلك العصيان، لينطلق
الملك في شهر نونبر، وأرسلت فرقة مسلحة إلى تازة لإخماد الثورة. كان الوضع
دقيقا والكل كان يترقب تحديد هوية القائد الذي سيختاره السلطان وتوقف
مستقبل حل تلك الأزمة على القوات المسلحة الملكية التي قادت المواجهات. لم
تتوقف مظاهر الفساد وانتشرت الرشوة بشكل رهيب مما ضاعف من حجم الأزمة وعقد
الوضع في البلاد. طلبت ساعتها من السلطان وأنا معه في فاس قبل سفره أن
يخبرني من اختار لكي يقود الجيش ضد بوحمارة، وأمام دهشتي الكبيرة أجابني
بلا تردد: «القائد سيكون شقيقي مولاي الكبير»، لم أصدق في البداية ما قال
وأخبرته أن مولاي الكبير مازال طفلا ولم يكن أبدا في حياته جنديا، ليجيبني
مولاي عبد العزيز قائلا: «هذا صحيح، لكن باقي إخوتي قادوا حملات عسكرية في
السابق وقد حانت فرصة مولاي الكبير لكي يغتني قليلا». كان يقصد بكلامه أن
الأمير سيحصل على الأموال من المناطق والقبائل التي ستكون حلبة المواجهات.
رافقت السلطان في نونبر عندما غادر فاس باتجاه الرباط، وارتفعت وتيرة
الحراسة عندما وصل صاحب الجلالة إلى مكناس، لنصل بعد أيام إلى منطقة زمور
التي كانت فيها الحرب أشد وطأة..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-15-
من الصعب إحصاء عدد المرافقين للسلطان في الحركة، لكن عددنا بلغ تقريبا 20 ألف شخص في المخيم، نصفهم كانوا من المحاربين، إضافة إلى عدد كبير من المفاوضين المنحدرين من فاس كانوا يتنقلون ويرافقون السلطان رفقة عائلاتهم وخدمهم. سافر معنا أيضا مئات من المتسولين الذين فقدوا بصرهم، وبعض المقاتلين من جهة زمور. قرر الزموريون استباق المقاومة بشكل متقدم عبر خط من المقاتلين يعبرون السهل ويقطعون عبر زاوية حادة طريقنا باتجاه المركز. امتد الشريط على مسافة أربعمائة قدم في العمق وعدة أمتار فقط طوليا تخترقه بحيرة إلى غاية نصف ميل من القمة.
عندما استنتجنا قرب اندلاع المقاومة في هذا المكان، تحركت القوات بحماس في المنطقة المنخفضة من السهل وبدا البساط العشبي أشبه بزربية افترش عليها الجنود الخيام السوداء، وبين الحين والآخر، تتناهى إلى الأسماع أصوات الرصاص التي يطلقها المقاتلون المتربصون على مئات الأمتار من الحركة. يتمتع الزموريون بقدرتهم على قيادة الهجمات في السهول لأنهم فرسان لا يشق لهم غبار. تلقت كتيبة الدكاليين الأوامر بالتحرك والاستعداد للسير في المقدمة، واختلطت الأهازيج والموسيقى بحوافر الخيل، وفجأة أطلقت فوهات البنادق عليهم من بعيد، لكنهم واصلوا التقدم إلى أن بلغوا البلدة التي تركها الأهالي فارغة. وعوض أن تتقدم القوات نحو العمق أكثر، فضل الجنود أن ينهبوا ما وقعت عليه أعينهم، إذ رحل أهل البلدة حاملين معه ما خف حمله، تاركين وراءهم غلات الحبوب التي تعتبر غنيمة ثمينة لمعسكر السلطان، لكن نقلها شكل مشكلة تستدعي الحل بسرعة، ليتطوع مقاتلو منطقة دكالة للقيام بهذه المهمة..
بحضور السلطان وباقي أفراد الجيش، وضع الدكاليون بنادقهم جانبا وبدؤوا في ملء سراويلهم القطنية الزرقاء بالقمح، ليحملوها بعد ذلك على ظهورهم دون أن ينسوا البنادق ويعودون إلى باقي القوات لمتابعة السير. لم يكن بإمكانهم الهروب من المكان لأن المراقبين ظلوا يرصدونهم وهم يشحنون الحبوب ويعطونهم التعليمات لتنتهي العملية بشكل منظم. لقد تم إرسال كتيبة من قبيلة عبدة، المعروفة كذلك بشجاعتها، لتقديم يد العون للدكاليين والتأكد أنهم يشحنون الحبوب عوض تركها والالتحاق بالخصوم. عندما بدأت كتيبة عبدة عملها، نشبت مواجهة كانت في الواقع متوقعة بين الفريقين، إذ ترك الدكاليون ما كان في أيديهم وبدؤوا في إطلاق النار على القادمين الجدد، لتندلع معركة صغيرة بين الكتيبتين الوفيتين للسلطان. لم يدم الأمر طويلا وتوقفت المواجهات بعد التوصل إلى اتفاق بين المجموعتين، وتنازل الدكاليون تدريجيا عن سراويلهم المحملة بالحبوب على ضفاف البحيرة وعادوا بأقدام حافية، ليساعدوا الآخرين لتحميل ما تبقى من الغنائم والعودة إلينا محملين بالقمح والشعير مخلفين رفاقهم القتلى والجرحى وراءهم. لن أنسى أبدا مشهد هؤلاء الرجال أثناء عودتهم إلى المعسكر بعد الظهيرة وهم يجاهدون لصعود المرتفعات والعرق يتصبب من أجسادهم المتعبة، فيما ظل السلطان غاضبا وحوله الوزراء العاجزون عن تغيير مجريات الأحداث.
كان من المستحيل عبور المنطقة في تلك اللحظات، لذا قررت القوات الاستراحة قليلا على ضفاف البحيرة. لقد أمضيت ليال من أغرب ما مررت به في حياتي حيث استمرت المواجهات طيلة الليل بين قبيلة عبدة ودكالة للاستئثار بالحبوب التي غنموها، ولم يتوقف إطلاق الرصاص فوق رؤوسنا والكل يحرص على الانبطاح والنوم على الأرض تفاديا للإصابة. وأخيرا هدأ الصراع بعد أن أعلن أحد خدام السلطان أن «الأمور أصبحت تحت السيطرة داخل المعسكر وأن الجيش أصبح موحدا». وهو ما حدث فعلا لأن وزير الحرب نجح في إنهاء الاقتتال بين الفريقين. في اليوم الموالي، وصل إلى السلطان خبر هزيمة جيش أخيه على يد بوحمارة على مشارف تازة، لتتحرك القوات بسرعة وتستدير نصف دورة عائدة مرة أخرى إلى فاس. طريق العودة التي عدنا إليها تركتنا نعاين أشياء رهيبة لم نكن نتخيلها ولم تكن القوات تتوقعها: تناثرت الجثث على طول الطريق، ولم يكونوا سوى المتخلفين عن اللحاق بجيش السلطان ولم يتردد الزموريون في قتلهم، وهو مصير كل من يتأخر ويظل في مؤخرة الجيش دائما.
وجدنا في ساحة مسجد إحدى القرى عشرات الجثث برؤوس مقطوعة ومشوهة، ولم ينج من المجزرة حتى المتسولون المكفوفون إذ لم تشفع لهم إعاقتهم التي منعتهم من اللحاق بالجيش ووقعوا في قبضة مقاتلي القبائل الأخرى.. لاقى الجرحى نفس المصير المفجع وتركوا لوحدهم يواجهون الموت لأن الجيش لم يكن مجهزا بمستشفى متنقل ولا نظام صحي بوسائل الإسعاف الضرورية.
عندما استنتجنا قرب اندلاع المقاومة في هذا المكان، تحركت القوات بحماس في المنطقة المنخفضة من السهل وبدا البساط العشبي أشبه بزربية افترش عليها الجنود الخيام السوداء، وبين الحين والآخر، تتناهى إلى الأسماع أصوات الرصاص التي يطلقها المقاتلون المتربصون على مئات الأمتار من الحركة. يتمتع الزموريون بقدرتهم على قيادة الهجمات في السهول لأنهم فرسان لا يشق لهم غبار. تلقت كتيبة الدكاليين الأوامر بالتحرك والاستعداد للسير في المقدمة، واختلطت الأهازيج والموسيقى بحوافر الخيل، وفجأة أطلقت فوهات البنادق عليهم من بعيد، لكنهم واصلوا التقدم إلى أن بلغوا البلدة التي تركها الأهالي فارغة. وعوض أن تتقدم القوات نحو العمق أكثر، فضل الجنود أن ينهبوا ما وقعت عليه أعينهم، إذ رحل أهل البلدة حاملين معه ما خف حمله، تاركين وراءهم غلات الحبوب التي تعتبر غنيمة ثمينة لمعسكر السلطان، لكن نقلها شكل مشكلة تستدعي الحل بسرعة، ليتطوع مقاتلو منطقة دكالة للقيام بهذه المهمة..
بحضور السلطان وباقي أفراد الجيش، وضع الدكاليون بنادقهم جانبا وبدؤوا في ملء سراويلهم القطنية الزرقاء بالقمح، ليحملوها بعد ذلك على ظهورهم دون أن ينسوا البنادق ويعودون إلى باقي القوات لمتابعة السير. لم يكن بإمكانهم الهروب من المكان لأن المراقبين ظلوا يرصدونهم وهم يشحنون الحبوب ويعطونهم التعليمات لتنتهي العملية بشكل منظم. لقد تم إرسال كتيبة من قبيلة عبدة، المعروفة كذلك بشجاعتها، لتقديم يد العون للدكاليين والتأكد أنهم يشحنون الحبوب عوض تركها والالتحاق بالخصوم. عندما بدأت كتيبة عبدة عملها، نشبت مواجهة كانت في الواقع متوقعة بين الفريقين، إذ ترك الدكاليون ما كان في أيديهم وبدؤوا في إطلاق النار على القادمين الجدد، لتندلع معركة صغيرة بين الكتيبتين الوفيتين للسلطان. لم يدم الأمر طويلا وتوقفت المواجهات بعد التوصل إلى اتفاق بين المجموعتين، وتنازل الدكاليون تدريجيا عن سراويلهم المحملة بالحبوب على ضفاف البحيرة وعادوا بأقدام حافية، ليساعدوا الآخرين لتحميل ما تبقى من الغنائم والعودة إلينا محملين بالقمح والشعير مخلفين رفاقهم القتلى والجرحى وراءهم. لن أنسى أبدا مشهد هؤلاء الرجال أثناء عودتهم إلى المعسكر بعد الظهيرة وهم يجاهدون لصعود المرتفعات والعرق يتصبب من أجسادهم المتعبة، فيما ظل السلطان غاضبا وحوله الوزراء العاجزون عن تغيير مجريات الأحداث.
كان من المستحيل عبور المنطقة في تلك اللحظات، لذا قررت القوات الاستراحة قليلا على ضفاف البحيرة. لقد أمضيت ليال من أغرب ما مررت به في حياتي حيث استمرت المواجهات طيلة الليل بين قبيلة عبدة ودكالة للاستئثار بالحبوب التي غنموها، ولم يتوقف إطلاق الرصاص فوق رؤوسنا والكل يحرص على الانبطاح والنوم على الأرض تفاديا للإصابة. وأخيرا هدأ الصراع بعد أن أعلن أحد خدام السلطان أن «الأمور أصبحت تحت السيطرة داخل المعسكر وأن الجيش أصبح موحدا». وهو ما حدث فعلا لأن وزير الحرب نجح في إنهاء الاقتتال بين الفريقين. في اليوم الموالي، وصل إلى السلطان خبر هزيمة جيش أخيه على يد بوحمارة على مشارف تازة، لتتحرك القوات بسرعة وتستدير نصف دورة عائدة مرة أخرى إلى فاس. طريق العودة التي عدنا إليها تركتنا نعاين أشياء رهيبة لم نكن نتخيلها ولم تكن القوات تتوقعها: تناثرت الجثث على طول الطريق، ولم يكونوا سوى المتخلفين عن اللحاق بجيش السلطان ولم يتردد الزموريون في قتلهم، وهو مصير كل من يتأخر ويظل في مؤخرة الجيش دائما.
وجدنا في ساحة مسجد إحدى القرى عشرات الجثث برؤوس مقطوعة ومشوهة، ولم ينج من المجزرة حتى المتسولون المكفوفون إذ لم تشفع لهم إعاقتهم التي منعتهم من اللحاق بالجيش ووقعوا في قبضة مقاتلي القبائل الأخرى.. لاقى الجرحى نفس المصير المفجع وتركوا لوحدهم يواجهون الموت لأن الجيش لم يكن مجهزا بمستشفى متنقل ولا نظام صحي بوسائل الإسعاف الضرورية.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-16-
الملاريا تجتاح الجنود المغاربة وإنجلترا تقتسم مصالحها في المغرب مع فرنسا وإسبانيا
الملاريا تجتاح الجنود المغاربة وإنجلترا تقتسم مصالحها في المغرب مع فرنسا وإسبانيا
لم تنجح المجهودات التي قام بها الأطباء التابعون للقصر في إسعاف كل الجرحى الذين ظلوا يئنون ألما، ونجا فقط الجنود الذين نقلهم رفاقهم على الأكتاف إلى المعسكر لمعالجة جروحهم وإنقاذهم من الموت، ويتوقف أمر نجاتهم على رد فعل زملائهم، لكن الجنود المغاربة لم يكونوا دائما مهيئين للقيام بتضحيات في سبيل أحد «الرفاق». غالبا ما ينتظرون وفاة أحد الجرحى بغية سرقة ملابسه، وقد يسرقونها منه وهو يحتضر ويغالب جروحه. ضم المعسكر طبيبا واحدا يقدم العلاجات الطبية دون أن يلقى أي تشجيع أو مساعدة من طرف المخزن، وأعتقد أنهم لم يكونوا يعيرون أن مسألة إنقاذ الجرحى أي اهتمام.
عندما أصيب الجنود بالملاريا، كان الطبيب هو الوحيد الذي كان يرق قلبه ويقدم العلاجات من ماله الخاص وكميات الكينين الضرورية لهم، ولا يبدو أن السلطات كانت تهتم وقتها بقيمة الحياة البشرية. في بعض الأحيان، كان الجنود لا يتورعون عن دفن زملائهم أحياء لكي لا يفصل الأعداء رؤوسهم ويحملونها إلى قادتهم. مازلت أتذكر ما سمعته ذات مساء وأنا جالس رفقة مجموعة من الجنود عن حكاية أشعرتني بالرهبة لدى سماعها. وقعت تلك الحادثة صبيحة ذلك اليوم، حين تعرض أحد الجنود لإصابة بليغة وكانت عناصر الجيش بعيدة عنه لا يستطيع اللحاق بها ولم يتمكن صديقه من حمله معه، فبدأ في حفر قبر له ورماه داخله. اعترض عليه الجندي الجريح قائلا: «أنا مازلت حيا، ألا ترى ذلك؟». طلب منه زميله الصمت وأخبره أنه كان حيا يرزق فقط قبل ساعة، والآن أصبح في عداد الموتى. ظل الرجل يصرخ بصوت عال جدا إلى أن غطته الأرض تماما وانتهت حياته. أضاف الجندي الذي كان يروي لي تلك القصة معلقا: «الجندي المغربي عنيد وكثير الشك، لذا لم يصدقنا هذا الجندي الجريح، نحن أصدقاؤه عندما أخبرناه أنه ميت، وأنا أكره الجحود». عندما أنهى كلامه بدأ يملأ غليونه بالكيف وأخذ بعدها نفسا عميقا.. لا تمثل الحياة بالنسبة للجندي المغربي أي معنى، لكن الجندي الذي تحدث معي كان جنديا حقيقيا، ولقد شاهدته مرات متعددة في ظروف مختلفة، ورغم عيوبه، فإنني كنت أحترمه وأكن له الإعجاب. لم تكن لحياة صديقه أية قيمة وحياته هو أيضا كانت بلا معنى، ولقد عاينت في العديد من المناسبات طيبوبة ومروءة هؤلاء الخارجين عن القانون..
هم على العموم مقاتلون شرسون ومحتالون أيضا، وفي دواخلهم لا تختفي أنفة أصولهم القبلية، وحس الشرف في علاقتهم مع الأوروبيين، لكنهم يتعاملون مع الأهالي بطريقة متعالية ويقسون عليهم.
طيلة حياتي وعلى امتداد أسفاري، كنت أحرص على وضع ثقتي في الأشخاص الذين ألتقيهم، ونادرا جدا ما وضعت هذه الثقة في من لا يستحقها. صادقت المغاربة الذين كانوا يعيشون في الجبال النائية، وكنت لا أنفعل عندما يسرقونني بل أتركهم يقومون بذلك، لكنني عندما كنت أقع في مشكلة كنت أجدهم دائما بجانبي ولم يخيبوا ظني بهم أبدا.
أنا محظوظ لأنني لم أتعرض لأي حادث خطير بل كانت حياتي في المغرب سعيدة بفضل الثقة المتبادلة التي جمعتني بأبناء هذا البلد، وأنا فخور بالاعتراف بهذا الأمر. عندما كنت أسافر من منطقة إلى أخرى داخل المغرب، لم يساورني أي شك أن اسمي على الأقل كان معروفا بين الأهالي..
أياما بعد أن اتخذ السلطان القرار المفاجئ بالعودة إلى فاس، فضل مولاي عبد العزيز عدم مغادرتها لسنوات بعدها، والسبب هو أنه كان من المستحيل مغادرة هذه المنطقة المشتعلة بالثورات التي ظهرت شراراتها الأولى.
توصلت فرنسا وانجلترا سنة 1904 إلى اتفاقية بخصوص مصالح كلا البلدين في المغرب، ونصت المعاهدة على تدخل فرنسا دون المساس بالإطار السياسي للمغرب، وتمتعت بكامل الحرية من أجل حماية الأمن والمساهمة في الإشراف على مختلف الإصلاحات التي ينوي المخزن تطبيقها شريطة أن تقر فرنسا بجدوى تلك التدابير. وفي نفس الوقت، اتفقت اسبانيا مع فرنسا، مع الحفاظ بشكل مواز على المصالح الانجليزية.
كان الريسوني في تلك الفترة حليفا لبوحمارة الذي كان يتنقل بين وجدة وتازة، وعندما اختطفني الريسوني ووضعني رهينة لديه، نجحت في الوصول إلى خزنة سرية وسرقة عدد من الوثائق بالغة الأهمية. ضمت تلك الوثائق «ظهير» يكشف تعيين المدعو الريسوني من طرف أحدهم حاكما على القبائل الشمالية الغربية، ولم يكن صاحب هذا التوقيع الذي منحه هذه الصلاحيات سوى محمد بن الحسن، أي أنه ممثل السلطان مولاي عبد العزيز في هذه المنطقة.
عندما أصيب الجنود بالملاريا، كان الطبيب هو الوحيد الذي كان يرق قلبه ويقدم العلاجات من ماله الخاص وكميات الكينين الضرورية لهم، ولا يبدو أن السلطات كانت تهتم وقتها بقيمة الحياة البشرية. في بعض الأحيان، كان الجنود لا يتورعون عن دفن زملائهم أحياء لكي لا يفصل الأعداء رؤوسهم ويحملونها إلى قادتهم. مازلت أتذكر ما سمعته ذات مساء وأنا جالس رفقة مجموعة من الجنود عن حكاية أشعرتني بالرهبة لدى سماعها. وقعت تلك الحادثة صبيحة ذلك اليوم، حين تعرض أحد الجنود لإصابة بليغة وكانت عناصر الجيش بعيدة عنه لا يستطيع اللحاق بها ولم يتمكن صديقه من حمله معه، فبدأ في حفر قبر له ورماه داخله. اعترض عليه الجندي الجريح قائلا: «أنا مازلت حيا، ألا ترى ذلك؟». طلب منه زميله الصمت وأخبره أنه كان حيا يرزق فقط قبل ساعة، والآن أصبح في عداد الموتى. ظل الرجل يصرخ بصوت عال جدا إلى أن غطته الأرض تماما وانتهت حياته. أضاف الجندي الذي كان يروي لي تلك القصة معلقا: «الجندي المغربي عنيد وكثير الشك، لذا لم يصدقنا هذا الجندي الجريح، نحن أصدقاؤه عندما أخبرناه أنه ميت، وأنا أكره الجحود». عندما أنهى كلامه بدأ يملأ غليونه بالكيف وأخذ بعدها نفسا عميقا.. لا تمثل الحياة بالنسبة للجندي المغربي أي معنى، لكن الجندي الذي تحدث معي كان جنديا حقيقيا، ولقد شاهدته مرات متعددة في ظروف مختلفة، ورغم عيوبه، فإنني كنت أحترمه وأكن له الإعجاب. لم تكن لحياة صديقه أية قيمة وحياته هو أيضا كانت بلا معنى، ولقد عاينت في العديد من المناسبات طيبوبة ومروءة هؤلاء الخارجين عن القانون..
هم على العموم مقاتلون شرسون ومحتالون أيضا، وفي دواخلهم لا تختفي أنفة أصولهم القبلية، وحس الشرف في علاقتهم مع الأوروبيين، لكنهم يتعاملون مع الأهالي بطريقة متعالية ويقسون عليهم.
طيلة حياتي وعلى امتداد أسفاري، كنت أحرص على وضع ثقتي في الأشخاص الذين ألتقيهم، ونادرا جدا ما وضعت هذه الثقة في من لا يستحقها. صادقت المغاربة الذين كانوا يعيشون في الجبال النائية، وكنت لا أنفعل عندما يسرقونني بل أتركهم يقومون بذلك، لكنني عندما كنت أقع في مشكلة كنت أجدهم دائما بجانبي ولم يخيبوا ظني بهم أبدا.
أنا محظوظ لأنني لم أتعرض لأي حادث خطير بل كانت حياتي في المغرب سعيدة بفضل الثقة المتبادلة التي جمعتني بأبناء هذا البلد، وأنا فخور بالاعتراف بهذا الأمر. عندما كنت أسافر من منطقة إلى أخرى داخل المغرب، لم يساورني أي شك أن اسمي على الأقل كان معروفا بين الأهالي..
أياما بعد أن اتخذ السلطان القرار المفاجئ بالعودة إلى فاس، فضل مولاي عبد العزيز عدم مغادرتها لسنوات بعدها، والسبب هو أنه كان من المستحيل مغادرة هذه المنطقة المشتعلة بالثورات التي ظهرت شراراتها الأولى.
توصلت فرنسا وانجلترا سنة 1904 إلى اتفاقية بخصوص مصالح كلا البلدين في المغرب، ونصت المعاهدة على تدخل فرنسا دون المساس بالإطار السياسي للمغرب، وتمتعت بكامل الحرية من أجل حماية الأمن والمساهمة في الإشراف على مختلف الإصلاحات التي ينوي المخزن تطبيقها شريطة أن تقر فرنسا بجدوى تلك التدابير. وفي نفس الوقت، اتفقت اسبانيا مع فرنسا، مع الحفاظ بشكل مواز على المصالح الانجليزية.
كان الريسوني في تلك الفترة حليفا لبوحمارة الذي كان يتنقل بين وجدة وتازة، وعندما اختطفني الريسوني ووضعني رهينة لديه، نجحت في الوصول إلى خزنة سرية وسرقة عدد من الوثائق بالغة الأهمية. ضمت تلك الوثائق «ظهير» يكشف تعيين المدعو الريسوني من طرف أحدهم حاكما على القبائل الشمالية الغربية، ولم يكن صاحب هذا التوقيع الذي منحه هذه الصلاحيات سوى محمد بن الحسن، أي أنه ممثل السلطان مولاي عبد العزيز في هذه المنطقة.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-17-
قيصر ألمانيا يؤكد وحدة المغرب ومولاي عبد العزيز يرفض الإصلاحات الفرنسية
سكان طنجة يخرجون إلى الشارع احتفالا بضيفهم الكبير
لا شك أن الريسوني الذي كان في تلك الفترة والي مولاي عبد العزيز في
الشمال لم يثق بما يخبئه له المخزن، لذا احتفظ بظهير تعيينه تحسبا لأي
طارئ قد يستدعي التشكيك في منصبه. كان من الواضح أن الاتفاق الفرنسي
الانجليزي سيجلب الفوضى إلى البلد، وهكذا اختطف رجال الريسوني الانجليزي
بيرديكاريس وابنه فارلي، ولم يتم إطلاق سراحهما إلا بعد مضي ثمانية أسابيع
ودفع فدية قدرها 14 ألف جنيه استرليني إضافة إلى امتيازات سياسية في صالح
الريسوني، الذي حصل على لقب زعامة قبائل الشمال الشرقي.
تميزت الأوضاع في المدن الداخلية للمغرب بالتوتر، مما جعل الأوروبيين
يغادرونه عبر الموانئ، وظل الوضع معقدا أيضا في مدينة طنجة وأضحى الأمن
داخلها مهددا. في شهر دجنبر، تعرضت الفيلا الزراعية الخاصة بي إلى هجوم في
الليل، وأفلتت بأعجوبة من الخطف للمرة الثانية. صادر المهاجمون أسلحة
وملابس الجنود المكلفين بحراسة الفيلا، وبقيادة رئيسهم المدعو «باكاشة» لم
ينجح هؤلاء في اقتحام الفيلا رغم نجاحهم في قطع الخط الهاتفي الذي ساعدني
قبل ساعة من الهجوم في إرسال نداء استغاثة عاجل، لتحضر القوات ويفر
المهاجمون، وتوفي أحد الجنود وجرح جراء ما حصل. اضطررت بسبب هذا إلى
التخلي عن الفيلا للعيش في المدينة، فيما قتل ولد باكاشة أسابيع بعد ذلك.
كان شابا طويل القامة وسيم القسمات ومن عائلة معروفة، وكان يحلم بأن يكون
مثل الريسوني لكن القدر لم يمهله كثيرا لتحقيق مبتغاه. في خضم غارة على
إحدى البلدات، تعرض باكاشة لإطلاق نار أرداه قتيلا في الحال.
كان يحاول اقتحام أحد المنازل وواجه مقاومة رب البيت الذي ظل متسمرا
خلف الباب رافضا فتحه لباكاشة، قبل أن ينادي على ابنه الصغير طالبا منه
إحضار البندقية المعلقة على الحائط. وبينما كان الطفل يجري تعثر ووقع
أرضا، وانطلقت رصاصة من البندقية واخترقت الباب لتستقر في جسم باكاشة الذي
سقط جثة هامدة. فر أفراد عصابته وتركوا جثة قائدهم أمام الباب غارقة في
دمائها.
شهدت سنة 1905 فصول الزيارة التاريخية لامبراطور ألمانيا إلى مدينة
طنجة، بعد التوصل إلى اتفاقية بين فرنسا وانجلترا سنة قبل ذلك، وإرسال
بعثة فرنسية متخصصة إلى فاس للسهر على فرض تطبيق إصلاحات في المغرب.
وصل القيصر الألماني في 31 مارس 1905، وتردد في آخر لحظة في الهبوط
من الباخرة بسبب هيجان البحر، إضافة إلى اقتناعه أن زيارته تشكل إزعاجا
لفرنسا ومضايقة غير مباشرة لانجلترا، لذا كان تدبير محاولة انقلابية ضده
أمرا واردا لم يفارقه أبدا.
بدأ الامبراطور ينظر بحنق إلى اليمين وإلى الشمال وهو يتجول على صهوة
جواده داخل طنجة التي تزينت شوارعها، قاصدا مكتب المفوضية الألمانية.
اصطفت مجموعة من الأهالي وهي تتابع بأعداد كبيرة موكب القيصر، في إشارة
منها إلى المناداة بالاستقلال الوطني. لم تغادر الجموع الساحة الكبرى
للسوق المقابل للمكتب الألماني، وبدؤوا يطلقون البارود في الهواء منذ قدوم
القيصر وحتى مغادرته.
كنت في قاعة الاستقبال رفقة الهيئة الديبلوماسية والمسؤولين المغاربة
للترحيب بالقيصر، وبدأ يتحدث بشكل جانبي مع الكونت شيريزي المكلف بالشؤون
الفرنسية. وأعلن الامبراطور الألماني أمام الجميع أنه ينوي اعتبار المغرب
بلدا حرا وأنه سيتعامل مع السلطان باعتباره الممثل الأسمى للدولة.
أشهرا بعد هذه الزيارة، شهدت فاس تدشين ثلاث سفارات جديدة، انجليزية
أشرف عليها البريطاني لاوتر، وأخرى فرنسية أدارها سانت ريني تايلاندير،
والثالثة ألمانية أشرف عليها الكونت راتينباش. ومارست الحكومة الفرنسية
ضغوطاتها لكي ينفذ السلطان المشاريع الإصلاحية بمساعدة انجلترا لتحقيق
الأهداف المرجوة، لكن الهيمنة الألمانية كانت كبيرة ليرفض السلطان عبد
العزيز الاقتراحات الفرنسية في 28 من شهر ماي، يومين قبل وصول السفير
الانجليزية إلى فاس، واختار السلطان الوقت المناسب للإعلان عن قراره. كانت
البعثة الانجليزية التي ترأسها السفير لاوتر في تلك الأثناء في طريقها نحو
فاس لمقابلة مولاي عبد العزيز دون أن يكون على علم بالقرار الذي اتخذه.
فات الأوان ساعتها على ثني السلطان للتراجع عن قراره وكان من الصعب أن
يتراجع السفير الانجليزي عن المهمة التي كلف بها. قاد فشل فرنسا في إجبار
المغرب على إدخال الإصلاحات إلى إعفاء السفير ديلكاسي من مهامه،
والاستعداد لعقد ندوة دولية بخصوص مستقبل المغرب. لم تتحسن الأوضاع
الداخلية للبلاد في تلك المرحلة، إذ استمرت ثورة بوحمارة شرق البلاد، فيما
سيطر الريسوني على القبائل الشمالية الشرقية وسادت الفوضى البلاد.
قيصر ألمانيا يؤكد وحدة المغرب ومولاي عبد العزيز يرفض الإصلاحات الفرنسية
سكان طنجة يخرجون إلى الشارع احتفالا بضيفهم الكبير
لا شك أن الريسوني الذي كان في تلك الفترة والي مولاي عبد العزيز في
الشمال لم يثق بما يخبئه له المخزن، لذا احتفظ بظهير تعيينه تحسبا لأي
طارئ قد يستدعي التشكيك في منصبه. كان من الواضح أن الاتفاق الفرنسي
الانجليزي سيجلب الفوضى إلى البلد، وهكذا اختطف رجال الريسوني الانجليزي
بيرديكاريس وابنه فارلي، ولم يتم إطلاق سراحهما إلا بعد مضي ثمانية أسابيع
ودفع فدية قدرها 14 ألف جنيه استرليني إضافة إلى امتيازات سياسية في صالح
الريسوني، الذي حصل على لقب زعامة قبائل الشمال الشرقي.
تميزت الأوضاع في المدن الداخلية للمغرب بالتوتر، مما جعل الأوروبيين
يغادرونه عبر الموانئ، وظل الوضع معقدا أيضا في مدينة طنجة وأضحى الأمن
داخلها مهددا. في شهر دجنبر، تعرضت الفيلا الزراعية الخاصة بي إلى هجوم في
الليل، وأفلتت بأعجوبة من الخطف للمرة الثانية. صادر المهاجمون أسلحة
وملابس الجنود المكلفين بحراسة الفيلا، وبقيادة رئيسهم المدعو «باكاشة» لم
ينجح هؤلاء في اقتحام الفيلا رغم نجاحهم في قطع الخط الهاتفي الذي ساعدني
قبل ساعة من الهجوم في إرسال نداء استغاثة عاجل، لتحضر القوات ويفر
المهاجمون، وتوفي أحد الجنود وجرح جراء ما حصل. اضطررت بسبب هذا إلى
التخلي عن الفيلا للعيش في المدينة، فيما قتل ولد باكاشة أسابيع بعد ذلك.
كان شابا طويل القامة وسيم القسمات ومن عائلة معروفة، وكان يحلم بأن يكون
مثل الريسوني لكن القدر لم يمهله كثيرا لتحقيق مبتغاه. في خضم غارة على
إحدى البلدات، تعرض باكاشة لإطلاق نار أرداه قتيلا في الحال.
كان يحاول اقتحام أحد المنازل وواجه مقاومة رب البيت الذي ظل متسمرا
خلف الباب رافضا فتحه لباكاشة، قبل أن ينادي على ابنه الصغير طالبا منه
إحضار البندقية المعلقة على الحائط. وبينما كان الطفل يجري تعثر ووقع
أرضا، وانطلقت رصاصة من البندقية واخترقت الباب لتستقر في جسم باكاشة الذي
سقط جثة هامدة. فر أفراد عصابته وتركوا جثة قائدهم أمام الباب غارقة في
دمائها.
شهدت سنة 1905 فصول الزيارة التاريخية لامبراطور ألمانيا إلى مدينة
طنجة، بعد التوصل إلى اتفاقية بين فرنسا وانجلترا سنة قبل ذلك، وإرسال
بعثة فرنسية متخصصة إلى فاس للسهر على فرض تطبيق إصلاحات في المغرب.
وصل القيصر الألماني في 31 مارس 1905، وتردد في آخر لحظة في الهبوط
من الباخرة بسبب هيجان البحر، إضافة إلى اقتناعه أن زيارته تشكل إزعاجا
لفرنسا ومضايقة غير مباشرة لانجلترا، لذا كان تدبير محاولة انقلابية ضده
أمرا واردا لم يفارقه أبدا.
بدأ الامبراطور ينظر بحنق إلى اليمين وإلى الشمال وهو يتجول على صهوة
جواده داخل طنجة التي تزينت شوارعها، قاصدا مكتب المفوضية الألمانية.
اصطفت مجموعة من الأهالي وهي تتابع بأعداد كبيرة موكب القيصر، في إشارة
منها إلى المناداة بالاستقلال الوطني. لم تغادر الجموع الساحة الكبرى
للسوق المقابل للمكتب الألماني، وبدؤوا يطلقون البارود في الهواء منذ قدوم
القيصر وحتى مغادرته.
كنت في قاعة الاستقبال رفقة الهيئة الديبلوماسية والمسؤولين المغاربة
للترحيب بالقيصر، وبدأ يتحدث بشكل جانبي مع الكونت شيريزي المكلف بالشؤون
الفرنسية. وأعلن الامبراطور الألماني أمام الجميع أنه ينوي اعتبار المغرب
بلدا حرا وأنه سيتعامل مع السلطان باعتباره الممثل الأسمى للدولة.
أشهرا بعد هذه الزيارة، شهدت فاس تدشين ثلاث سفارات جديدة، انجليزية
أشرف عليها البريطاني لاوتر، وأخرى فرنسية أدارها سانت ريني تايلاندير،
والثالثة ألمانية أشرف عليها الكونت راتينباش. ومارست الحكومة الفرنسية
ضغوطاتها لكي ينفذ السلطان المشاريع الإصلاحية بمساعدة انجلترا لتحقيق
الأهداف المرجوة، لكن الهيمنة الألمانية كانت كبيرة ليرفض السلطان عبد
العزيز الاقتراحات الفرنسية في 28 من شهر ماي، يومين قبل وصول السفير
الانجليزية إلى فاس، واختار السلطان الوقت المناسب للإعلان عن قراره. كانت
البعثة الانجليزية التي ترأسها السفير لاوتر في تلك الأثناء في طريقها نحو
فاس لمقابلة مولاي عبد العزيز دون أن يكون على علم بالقرار الذي اتخذه.
فات الأوان ساعتها على ثني السلطان للتراجع عن قراره وكان من الصعب أن
يتراجع السفير الانجليزي عن المهمة التي كلف بها. قاد فشل فرنسا في إجبار
المغرب على إدخال الإصلاحات إلى إعفاء السفير ديلكاسي من مهامه،
والاستعداد لعقد ندوة دولية بخصوص مستقبل المغرب. لم تتحسن الأوضاع
الداخلية للبلاد في تلك المرحلة، إذ استمرت ثورة بوحمارة شرق البلاد، فيما
سيطر الريسوني على القبائل الشمالية الشرقية وسادت الفوضى البلاد.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-18-
وزراء السلطان يعزلونه عن الشعب والروكي يقود ثورة مسلحة في الشرق
رغم أن السلطان مولاي عبد العزيز اقتنى العديد من الأشياء الفاخرة، لكن
القليل منها استأثر بإعجابه وحافظ عليه، وهكذا لم يخف اهتمامه بالتصوير
واستمتع به لفترة من الوقت قبل أن يصبح أداة لاستغلاله ماديا. لقد اقتنى
من لندن آلة تصوير ذهبية بألفي جنيه استرليني، ودفع 10 آلاف فرنك للحصول
على الورق المستعمل في الصور بعد أن بعث بطلب الحصول عليه من باريس.
أخبرني صاحب الجلالة أن عدة التصوير الخاصة به، تشمل الأجهزة والعدسات،
تكلفه سنويا حوالي 7000 جنيه استرليني. من الطبيعي ألا يكون على علم بما
يقوم به الوسطاء الذين يكلفهم باقتناء كل ما يحتاجه، فهم يفرضون أسعارهم
ويقومون بما يحلو لهم.. لا يجب أن نعتقد أن السلطان يعيش هذه الحياة
الباذخة بشكل مستمر، فتسلياته لم تكن تدوم وقتا طويلا، فقط ساعة أو ساعتين
في اليوم لا أكثر، وخارج ذلك، تستأثر شؤون الدولة باهتمامه، لكنها لم تكن
في مستوى الطموحات التي كان يحلم بها. يتحدث مع مخاطبيه بنبرة جدية في
العديد من المناسبات، لكنه عندما يجالسني، يستفيض في الكلام أكثر من ساعة
من الزمن وينتقل في الحديث من موضوع إلى آخر. أما فيما يخص الجانب الديني،
فقد كان مولاي عبد العزيز مسلما ورعا، متشبثا بتعاليم الدين إلى حد
الصرامة، رغم كل ما قيل عنه بهذا الخصوص. لقد ارتكب أخطاء وتجاوزات مست
تقاليد أسلافه، لكن الأمر لم يصل أبدا إلى حد المساس بالإسلام. اختلطت هذه
الأحكام المتناقضة في أذهان المغاربة وترسخت الشائعات التي كانت تطال
مولاي عبد العزيز إلى أن بدت وكأنها حقيقية وغير مختلقة. لم يكن أصلا
ليثير كل هذا الاهتمام لولا ذكاؤه وفطنته، ووحدهم المقربون منه الذين
اقتنوا له البواخر للإساءة إليه يستحقون المحاكمة بسبب الخيانة. يجب أيضا
متابعة الرجل الذي كان يخيط له البذل لحضور الحفلات الغنائية في أوروبا
والمصور الذي كان يلتقط له الصور فور عودته منها وينشرها في المجلات
الأوروبية، كلاهما يستحقان المحاكمة بسبب خيانتهما للسلطان. نشرت صور
مولاي عبد العزيز في البطاقات المصورة والجرائد، وزينت صور أمير المؤمنين
والممثل السامي للإسلام في شمال افريقيا واجهات جميع المحلات في طنجة، رغم
أننا كنا في بلد تحرم فيه ديانته تصوير الأشخاص. أن يتم إضعاف مولاي عبد
العزيز، فهذا أمر لا يحتاج إلى تأكيد، وقد تم استغلال الفرص السانحة من
أجل تشويه سمعته والحد من نفوذه ودفع الشعب للابتعاد عنه أكثر. أشرفوا على
تربيته لكي يتركوا له في نهاية المطاف كنزا عديم الفائدة سيتحمل وحده عناء
حمله رغم الأزمة المالية التي خنقت البلاد. ارتبط كل وزير في الحكومة مع
تجار كانوا يقدمون له السلع والشحنات الموجهة إلى القصر مقابل اقتسام هامش
الأرباح. لم يكن أي شخص قادرا على إسماع صوته المندد بتلك الممارسات وسط
هذا الجو المشحون بالمؤامرات والدسائس. لو نصحه الأشخاص الذين يملكون
نفوذا عليه بإيقاف شراء تلك الأشياء كان سيستمع إلى نصيحتهم، للأسف لم يكن
هذا الأمر ضمن خطتهم لأنهم كانوا يحرصون على عزل السلطان عن شعبه لكي لا
ينتبه إلى الثورة المشتعلة في البلاد. الرجل الوحيد الذي كان يرى أفضل من
غيره أن الأمور تتجه نحو الأسوأ وشكل شخصية نموذجية للمسؤولين المغاربة،
إنه سيدي المهدي المنبهي سفير المغرب في لندن وبرلين. خاطر المنبهي مرتين
بالحديث بصراحة مع السلطان حول وضع البلاد، لكنه واجه تحالفا قويا قادته
زمرة من المتآمرين. مازلت أتذكر حادثا يعكس ظروف تلك المرحلة وقع في دجنبر
1902. كنت أستعد لمغادرة فاس في طريقي نحو طنجة لقضاء عدة أيام بها،
وقابلت فلاحا مغربيا أخبرني أن الروكي قاد قوات كبيرة من المقاتلين وكان
على وشك مهاجمة كتيبة لجيش مولاي عبد العزيز كانت في بعثة استطلاعية نحو
المنطقة الشرقية. لو وصلني هذا الخبر وأنا مازلت مستقرا في فاس لما ترددت
في الخروج منها، لأن الروكي لن يتردد في شن غارة عليها. كنت أفكر في إخبار
السلطان بهذا الخبر لكنني لم أقم بذلك لأنني لا أريد أن أمارس عليه أي
ضغط. لم يكن يخشى حجم القوات المسلحة التي كان يقودها خصمه الروكي، وهي
المخاوف التي نقلتها إليه بعد تردد طويل، فرد علي قائلا: «لا عليك، سيشرف
وزير الحرب على إعداد وليمة عشاء لك بحضور فرقة موسيقية». كنت واثقا أنه
يدرك جيدا في قرارة نفسه مدى جدية المخاطر التي تحيط به.
وزراء السلطان يعزلونه عن الشعب والروكي يقود ثورة مسلحة في الشرق
رغم أن السلطان مولاي عبد العزيز اقتنى العديد من الأشياء الفاخرة، لكن
القليل منها استأثر بإعجابه وحافظ عليه، وهكذا لم يخف اهتمامه بالتصوير
واستمتع به لفترة من الوقت قبل أن يصبح أداة لاستغلاله ماديا. لقد اقتنى
من لندن آلة تصوير ذهبية بألفي جنيه استرليني، ودفع 10 آلاف فرنك للحصول
على الورق المستعمل في الصور بعد أن بعث بطلب الحصول عليه من باريس.
أخبرني صاحب الجلالة أن عدة التصوير الخاصة به، تشمل الأجهزة والعدسات،
تكلفه سنويا حوالي 7000 جنيه استرليني. من الطبيعي ألا يكون على علم بما
يقوم به الوسطاء الذين يكلفهم باقتناء كل ما يحتاجه، فهم يفرضون أسعارهم
ويقومون بما يحلو لهم.. لا يجب أن نعتقد أن السلطان يعيش هذه الحياة
الباذخة بشكل مستمر، فتسلياته لم تكن تدوم وقتا طويلا، فقط ساعة أو ساعتين
في اليوم لا أكثر، وخارج ذلك، تستأثر شؤون الدولة باهتمامه، لكنها لم تكن
في مستوى الطموحات التي كان يحلم بها. يتحدث مع مخاطبيه بنبرة جدية في
العديد من المناسبات، لكنه عندما يجالسني، يستفيض في الكلام أكثر من ساعة
من الزمن وينتقل في الحديث من موضوع إلى آخر. أما فيما يخص الجانب الديني،
فقد كان مولاي عبد العزيز مسلما ورعا، متشبثا بتعاليم الدين إلى حد
الصرامة، رغم كل ما قيل عنه بهذا الخصوص. لقد ارتكب أخطاء وتجاوزات مست
تقاليد أسلافه، لكن الأمر لم يصل أبدا إلى حد المساس بالإسلام. اختلطت هذه
الأحكام المتناقضة في أذهان المغاربة وترسخت الشائعات التي كانت تطال
مولاي عبد العزيز إلى أن بدت وكأنها حقيقية وغير مختلقة. لم يكن أصلا
ليثير كل هذا الاهتمام لولا ذكاؤه وفطنته، ووحدهم المقربون منه الذين
اقتنوا له البواخر للإساءة إليه يستحقون المحاكمة بسبب الخيانة. يجب أيضا
متابعة الرجل الذي كان يخيط له البذل لحضور الحفلات الغنائية في أوروبا
والمصور الذي كان يلتقط له الصور فور عودته منها وينشرها في المجلات
الأوروبية، كلاهما يستحقان المحاكمة بسبب خيانتهما للسلطان. نشرت صور
مولاي عبد العزيز في البطاقات المصورة والجرائد، وزينت صور أمير المؤمنين
والممثل السامي للإسلام في شمال افريقيا واجهات جميع المحلات في طنجة، رغم
أننا كنا في بلد تحرم فيه ديانته تصوير الأشخاص. أن يتم إضعاف مولاي عبد
العزيز، فهذا أمر لا يحتاج إلى تأكيد، وقد تم استغلال الفرص السانحة من
أجل تشويه سمعته والحد من نفوذه ودفع الشعب للابتعاد عنه أكثر. أشرفوا على
تربيته لكي يتركوا له في نهاية المطاف كنزا عديم الفائدة سيتحمل وحده عناء
حمله رغم الأزمة المالية التي خنقت البلاد. ارتبط كل وزير في الحكومة مع
تجار كانوا يقدمون له السلع والشحنات الموجهة إلى القصر مقابل اقتسام هامش
الأرباح. لم يكن أي شخص قادرا على إسماع صوته المندد بتلك الممارسات وسط
هذا الجو المشحون بالمؤامرات والدسائس. لو نصحه الأشخاص الذين يملكون
نفوذا عليه بإيقاف شراء تلك الأشياء كان سيستمع إلى نصيحتهم، للأسف لم يكن
هذا الأمر ضمن خطتهم لأنهم كانوا يحرصون على عزل السلطان عن شعبه لكي لا
ينتبه إلى الثورة المشتعلة في البلاد. الرجل الوحيد الذي كان يرى أفضل من
غيره أن الأمور تتجه نحو الأسوأ وشكل شخصية نموذجية للمسؤولين المغاربة،
إنه سيدي المهدي المنبهي سفير المغرب في لندن وبرلين. خاطر المنبهي مرتين
بالحديث بصراحة مع السلطان حول وضع البلاد، لكنه واجه تحالفا قويا قادته
زمرة من المتآمرين. مازلت أتذكر حادثا يعكس ظروف تلك المرحلة وقع في دجنبر
1902. كنت أستعد لمغادرة فاس في طريقي نحو طنجة لقضاء عدة أيام بها،
وقابلت فلاحا مغربيا أخبرني أن الروكي قاد قوات كبيرة من المقاتلين وكان
على وشك مهاجمة كتيبة لجيش مولاي عبد العزيز كانت في بعثة استطلاعية نحو
المنطقة الشرقية. لو وصلني هذا الخبر وأنا مازلت مستقرا في فاس لما ترددت
في الخروج منها، لأن الروكي لن يتردد في شن غارة عليها. كنت أفكر في إخبار
السلطان بهذا الخبر لكنني لم أقم بذلك لأنني لا أريد أن أمارس عليه أي
ضغط. لم يكن يخشى حجم القوات المسلحة التي كان يقودها خصمه الروكي، وهي
المخاوف التي نقلتها إليه بعد تردد طويل، فرد علي قائلا: «لا عليك، سيشرف
وزير الحرب على إعداد وليمة عشاء لك بحضور فرقة موسيقية». كنت واثقا أنه
يدرك جيدا في قرارة نفسه مدى جدية المخاطر التي تحيط به.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-19-
مولاي عبد العزيز يعيش حياة بسيطة ويحافظ على العادات المغربية
رغم كل البذخ الذي عاش فيها السلطان مولاي عبد العزيز، فإنه رغم كل ذلك
اتسمت حياته بالبساطة. يستيقظ في ساعة مبكرة، وبعد أن يؤدي صلاة الفجر،
يغادر إقامته الخاصة ليلتحق بالبناية التي يلتقي فيها بكبار المسؤولين في
الدولة، ويفضل مولاي عبد العزيز الجلوس في قاعة فسيحة منفصلة عن الفناء
الذي يناقش فيه الوزراء شؤونهم، ويطل على ممرات تقود إلى غرف صغيرة. يجتمع
مختلف الوزراء ومستشاروهم منهمكين في دراسة الملفات والقضايا الخاصة
بوزارة كل واحد منهم، فيما ينتظر في الخارج المواطنون الذين يريدون لقاءهم
بخصوص قضية تهمهم.
يشرف الحرس على تنظيم التواصل مع الوزراء، ويتحركون حاملين رسائل من
المكتب الخاص للسلطان إليهم بشكل مستمر، وبين حين وآخر، يستدعي السلطان
أحد الوزراء ليتحدث معه على انفراد بخصوص موضوع يستأثر باهتمام مولاي عبد
العزيز. لقد حاول بعض المقربين من السلطان إضعاف قنواته التواصلية حتى
يخفوا عنه كافة المعلومات المهمة، حسب ارتباطها بمصالحهم الشخصية. تنتهي
الحصة الصباحية لعمل السلطان في فترة الظهيرة، ليعود بعدها إلى القصر
لتناول وجبة الغذاء وحيدا تماما كما تقتضي عادات البلد. هذه العادة التي
لا تلقى الترحيب في أوروبا تحافظ على طابعها الديني بغسل الأيادي بالماء
الدافئ ويكون الأكل معدا بشكل أنيق يحترم خصوصيات الطبخ المغربي. رغم أن
الأوروبيين لا يتناولون وجباتهم الغذائية بأصابعهم، فإن المغاربة لا
يطيقون ما نقوم به نحن عندما نغسل وجوهنا وأيدينا في صحن ماء، وكذلك عندما
نستحم بمياه راكدة. عندما ينتهي من تناول وجبة الغذاء، يرتاح السلطان
لفترة وجيزة في انتظار أن يغادر القصر على الساعة الثالثة بعد الزوال.
يتوقف دوام العمل مع انتصاف الظهيرة، لذا يكون مولاي عبد العزيز حرا بقية
اليوم يقضيه غالبا برفقة أصدقائه الأوروبيين أو أصدقائه المقربين. كان
يفضل مزاولة رياضة البولو على الدراجة إلى جانب التنس. ذات مساء، بعد
انتهاء شوط من التنس كالمعتاد، بدأت أحزم معه شبكة الملعب لأن السماء كانت
تنذر بأمطار وشيكة. عاد جلالته إلى القصر وتذكر أنه نسي منديله معلقا على
خيوط الشبكة بعد أن قاس به ارتفاع الرميات. عدت لإحضاره وتلمسته بفضول
لأتحسس شيئا صلبا مربوطا في عقدة داخله، فتحتها لأجد جوهرة بحجم ثمرة
بندق، كان جلالته قد اشتراها قبل أيام. خبأت الجوهرة بإمعان في جيبي لأنه
لم يكن من الممكن وقتها مقابلة السلطان الذي دخل إلى إقامته الخاصة، وكان
يسمح فقط للنساء بالدخول، وحاولت الخروج من القصر من البوابة المعتادة.
تجاوزت ساحة فسيحة، وبينما كنت أقترب من البوابة الخارجية، لمحت شخصا كان
يتبعني من الخلف. قبلت اللعبة وبدأت بالعدو، لكنني لم أستطع التغلب على
السلطان الذي كان رشيقا على غير العادة بسبب فقدان جوهرته، ووثب علي
وأسقطني أرضا على العشب. أحكم ركبتيه حول كتفي وبدأ يبحث في جيوبي، ليجد
الجوهرة كما تركها مخبأة وسط المنديل، ونزع عني سترة وحلقة تغطي السلسلة
المربوطة مع ساعتي ودبوسا لربطة العنق وعلبة سجائر. تركني أخيرا وهو يضحك
بفرح لكنني لم أسترجع أبدا الأشياء التي انتزع مني.
تكرر جو الدعابة مع صاحب الجلالة مرة أخرى، ففي أحد الأيام حضرت
تقديم أحد موظفي الدولة للبيعة أمام السلطان الذي لم يكن سوى الحاج عمر
التازي وزير الأملاك المخزنية.. بدأت أتجاذب أطراف الحديث مع السلطان
بمفردنا عندما دخل علينا الحاج عمر التازي وأدى التحية أمامه منحنيا
ولامست جبهته الأرض، ليلتفت مولاي عبد العزيز نحوي قائلا: «هل تعرف هذا
الرجل؟». أخبرته أنني أعرفه جيدا، وأضفت أنه زارني قبل أيام فقط ليلتمس
مني خدمة لدى جلالته. رمقني الحاج التازي، الذي مازال منحنيا أمامنا،
بتوتر دون أن يفهم شيئا مما يحصل. «سأحقق الرغبة التي طلبها منك» رد علي
السلطان وغمزته بعيني لكي يسمح لي بإكمال هذه الحكاية.. تابعت معلقا: «لقد
طلب مني الحاج التازي أن يثبت لجلالتكم مدى شجاعته وإقدامه وذلك بقضاء نصف
ساعة في قفص الأسود». رد علي السلطان مبتسما: «طبعا، سأحقق رغبته». ولم
يتردد التازي في إبداء رأيه قائلا بصوت مرتعش: «إذا أمرني صاحب الجلالة أن
أموت، فأنا مستعد لذلك». عندها نادى السلطان على العبيد ليحضروا مفاتيح
القفص واتجه صوب الأسود ولحقه الوزير زاحفا على يديه ورجليه. مع قدوم
العبيد حاملين معهم تلك المفاتيح، بدا واضحا أن المزحة لن تدوم طويلا،
وأمسك السلطان بيدي ليفر الحاج عمر من المكان هاربا..
مولاي عبد العزيز يعيش حياة بسيطة ويحافظ على العادات المغربية
رغم كل البذخ الذي عاش فيها السلطان مولاي عبد العزيز، فإنه رغم كل ذلك
اتسمت حياته بالبساطة. يستيقظ في ساعة مبكرة، وبعد أن يؤدي صلاة الفجر،
يغادر إقامته الخاصة ليلتحق بالبناية التي يلتقي فيها بكبار المسؤولين في
الدولة، ويفضل مولاي عبد العزيز الجلوس في قاعة فسيحة منفصلة عن الفناء
الذي يناقش فيه الوزراء شؤونهم، ويطل على ممرات تقود إلى غرف صغيرة. يجتمع
مختلف الوزراء ومستشاروهم منهمكين في دراسة الملفات والقضايا الخاصة
بوزارة كل واحد منهم، فيما ينتظر في الخارج المواطنون الذين يريدون لقاءهم
بخصوص قضية تهمهم.
يشرف الحرس على تنظيم التواصل مع الوزراء، ويتحركون حاملين رسائل من
المكتب الخاص للسلطان إليهم بشكل مستمر، وبين حين وآخر، يستدعي السلطان
أحد الوزراء ليتحدث معه على انفراد بخصوص موضوع يستأثر باهتمام مولاي عبد
العزيز. لقد حاول بعض المقربين من السلطان إضعاف قنواته التواصلية حتى
يخفوا عنه كافة المعلومات المهمة، حسب ارتباطها بمصالحهم الشخصية. تنتهي
الحصة الصباحية لعمل السلطان في فترة الظهيرة، ليعود بعدها إلى القصر
لتناول وجبة الغذاء وحيدا تماما كما تقتضي عادات البلد. هذه العادة التي
لا تلقى الترحيب في أوروبا تحافظ على طابعها الديني بغسل الأيادي بالماء
الدافئ ويكون الأكل معدا بشكل أنيق يحترم خصوصيات الطبخ المغربي. رغم أن
الأوروبيين لا يتناولون وجباتهم الغذائية بأصابعهم، فإن المغاربة لا
يطيقون ما نقوم به نحن عندما نغسل وجوهنا وأيدينا في صحن ماء، وكذلك عندما
نستحم بمياه راكدة. عندما ينتهي من تناول وجبة الغذاء، يرتاح السلطان
لفترة وجيزة في انتظار أن يغادر القصر على الساعة الثالثة بعد الزوال.
يتوقف دوام العمل مع انتصاف الظهيرة، لذا يكون مولاي عبد العزيز حرا بقية
اليوم يقضيه غالبا برفقة أصدقائه الأوروبيين أو أصدقائه المقربين. كان
يفضل مزاولة رياضة البولو على الدراجة إلى جانب التنس. ذات مساء، بعد
انتهاء شوط من التنس كالمعتاد، بدأت أحزم معه شبكة الملعب لأن السماء كانت
تنذر بأمطار وشيكة. عاد جلالته إلى القصر وتذكر أنه نسي منديله معلقا على
خيوط الشبكة بعد أن قاس به ارتفاع الرميات. عدت لإحضاره وتلمسته بفضول
لأتحسس شيئا صلبا مربوطا في عقدة داخله، فتحتها لأجد جوهرة بحجم ثمرة
بندق، كان جلالته قد اشتراها قبل أيام. خبأت الجوهرة بإمعان في جيبي لأنه
لم يكن من الممكن وقتها مقابلة السلطان الذي دخل إلى إقامته الخاصة، وكان
يسمح فقط للنساء بالدخول، وحاولت الخروج من القصر من البوابة المعتادة.
تجاوزت ساحة فسيحة، وبينما كنت أقترب من البوابة الخارجية، لمحت شخصا كان
يتبعني من الخلف. قبلت اللعبة وبدأت بالعدو، لكنني لم أستطع التغلب على
السلطان الذي كان رشيقا على غير العادة بسبب فقدان جوهرته، ووثب علي
وأسقطني أرضا على العشب. أحكم ركبتيه حول كتفي وبدأ يبحث في جيوبي، ليجد
الجوهرة كما تركها مخبأة وسط المنديل، ونزع عني سترة وحلقة تغطي السلسلة
المربوطة مع ساعتي ودبوسا لربطة العنق وعلبة سجائر. تركني أخيرا وهو يضحك
بفرح لكنني لم أسترجع أبدا الأشياء التي انتزع مني.
تكرر جو الدعابة مع صاحب الجلالة مرة أخرى، ففي أحد الأيام حضرت
تقديم أحد موظفي الدولة للبيعة أمام السلطان الذي لم يكن سوى الحاج عمر
التازي وزير الأملاك المخزنية.. بدأت أتجاذب أطراف الحديث مع السلطان
بمفردنا عندما دخل علينا الحاج عمر التازي وأدى التحية أمامه منحنيا
ولامست جبهته الأرض، ليلتفت مولاي عبد العزيز نحوي قائلا: «هل تعرف هذا
الرجل؟». أخبرته أنني أعرفه جيدا، وأضفت أنه زارني قبل أيام فقط ليلتمس
مني خدمة لدى جلالته. رمقني الحاج التازي، الذي مازال منحنيا أمامنا،
بتوتر دون أن يفهم شيئا مما يحصل. «سأحقق الرغبة التي طلبها منك» رد علي
السلطان وغمزته بعيني لكي يسمح لي بإكمال هذه الحكاية.. تابعت معلقا: «لقد
طلب مني الحاج التازي أن يثبت لجلالتكم مدى شجاعته وإقدامه وذلك بقضاء نصف
ساعة في قفص الأسود». رد علي السلطان مبتسما: «طبعا، سأحقق رغبته». ولم
يتردد التازي في إبداء رأيه قائلا بصوت مرتعش: «إذا أمرني صاحب الجلالة أن
أموت، فأنا مستعد لذلك». عندها نادى السلطان على العبيد ليحضروا مفاتيح
القفص واتجه صوب الأسود ولحقه الوزير زاحفا على يديه ورجليه. مع قدوم
العبيد حاملين معهم تلك المفاتيح، بدا واضحا أن المزحة لن تدوم طويلا،
وأمسك السلطان بيدي ليفر الحاج عمر من المكان هاربا..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-20-
لم نتردد في ممازحة الحاج عمر التازي مرة أخرى وذلك قبل سفري إلى فاس، لكن هذه المرة كان شريكي في الخطة المنهبي وزير الحرب، وقد أقول إنه كان المحرض عليها منذ البداية وحتى التنفيذ. كان الحاج عمر وقتها بصدد شرح تصميم حديقة جديدة للورود أشرفنا على ترسيم حدودها ومساحتها، وبدا السلطان منهمكا في الاستماع إلى شروحات التازي الواقف إلى جانبه. كنت مع المنهبي على بعد أمتار خلفهم لنكتشف وجود مضخة وإلى جانبها خرطوم مياه طويل، ولم نتردد في ربط الأنبوب بالمضخة وتحريكه بخفة إلى أن صار قريبا من الحاج عمر، وأطلق المنهبي المياه من الصنبور ليتدفق الماء. لم يكن من عادة الأغنياء المغاربة أن يستحموا بالماء البارد، وبدأت المياه بالجريان تحت أقدام الحاج عمر وانتفض جراء هذا الهجوم غير المتوقع. غمرت المياه سرواله القصير وبلغته الصفراء الجلدية إلى أن ابتلت تماما، لكنه لم يستطع أن يتفوه بأية كلمة لأن صاحب الجلالة كان يحدثه. «سننفذ هذا الأمر كما تأمر به جلالتكم» ردد التازي بحزم، وعندما توقف السلطان عن الحديث معه، بدا صوت وزير الأوقاف المخزنية مرتعشا ومثيرا للشفقة، مما أثار فضول مولاي عبد العزيز الذي التفت ليرى ما الذي وقع للتازي. عندها لم تصدق عيناه المشهد الماثل أمامه: الحاج عمر التازي واقفا وهو يرتعش كأنه مصاب بالغثيان وسط بركة من المياه، وبما أن الأعراف الملكية تمنع على السلطان أن يضحك أمام الملأ، لكن هذا لم يمنع مولاي عبد العزيز من أن يخفي وجهه بكم جلبابه لكي يخفي موجة الضحك التي انتابته لينسحب بعدها من المكان مسرعا. تذكرني الأعراف السلطانية بتقليدين تمعنت في تفاصيلهما أثناء وجودي في المغرب... من المعلوم أنه لا يسمح بدخول القاعات الداخلية للقصر الملكي سوى للنساء، لكن مولاي عبد العزيز حدثني عن همومه اليومية التي عايشها في قصره. كان مولاي عبد العزيز يعيش في غرفة نوم بسيطة ورائعة مصبوغة بلون واحد وهو الأزرق الفاتح، بها أريكة مخيطة بثوب حريري تم تصميمه في المغرب، كما أن الستائر والزرابي والأفرشة كانت كلها بلون موحد دون أن يتم اقتناء أي أثاث أو قطعة من أوروبا. إضافة إلى هذا، يفضل مولاي عبد العزيز قضاء ليلته داخل خيمته عندما يغادر قصره في الأسفار، وكانت تضم ثلاث زرابي، وكان ينام على سرير قطني مفروش على الأرض. ويفرش الوزراء أرضية الخيام بالتبن يضعون عليه الحصائر والزرابي، في حين لا يفضل السلطان افتراش الأرض ويكتفي فقط بالزرابي الثلاث. وعندما تكون الأرض مبتلة في فصل الشتاء، يمشي السلطان على الأرضية ويقوم العبيد بغسل قدميه قبل أن يستلقي على سريره. لا شك أن أصل طقوس النوم هذه المرافقة للخيمة يعود إلى الفترات التي اتسمت بوجود الأخطار الدائمة المحدقة بالسلاطين أثناء غزواتهم، وكان يتم إيقاظهم ليلا لقيادة القوات في الحرب. وكيفما كانت دواعي هذه الأعراف، إلا أنها ظلت غير ملائمة بتاتا وبقيت دون تغيير. خلال الساعات التي كان يقضيها السلطان داخل الخيام الأخرى، لم تتغير أبدا الأشياء الباذخة التي كان يستمتع بها في قصره. ترددت أقوال أن قصر فاس كان مرتبطا بأسطورة مفادها أنه داخل ركن من أركانه يوجد طلسم مخبأ فيه. ويتمثل مفعول هذا الطلسم في أنه يحمي أي سلطان من الموت طالما لم يلمس أحد جدران الغرفة التي كان مخبأ داخلها. والمثير في الحكاية أنه لم يتوف أي سلطان في فاس منذ أن تم بناء تلك الغرفة السحرية. وصف لي جلالته تلك الغرفة لأنها موجودة داخل قصره ولا يسمح لأي شخص بالدخول إليها. كانت غرفة فسيحة مفروشة بالزرابي والأفرشة، ويحرص العبيد، الذين تم اختيارهم لتلك المهمة بالذات، على إضاءة الشموع المثبتة على الشمعدانات داخل الغرفة. يتم الاحتفاظ بشمعتين فقط تم إحضارهما من مكة، فيما يغير العبيد باقي الشموع كل ليلة. لا ينبغي استعمال المصابيح الأوروبية بل فقط الشموع المصنوعة محليا في فاس. حافظت الغرفة على سقفها المنحوت، قبل أن يتم تدريجيا تجديد الجبس الذي كان يزينها دون خلع العارضات الخشبية للمحافظة على جماليته. تم تدعيم الجدران المحيطة بها من الخارج ليصبح سمكها كثيفا وأكثر صلابة. تركت هذه الغرفة كما هي دون تغييرات جوهرية في تصميمها، إلى درجة أن إحدى درجاتها تآكلت بفعل تقادمها إلا أنه تمت المحافظة عليها دون تغيير..
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-21-
كان مولاي عبد العزيز يحب ركوب الدراجات ولم يكن يفوت تنظيم جولات في رياضة البولو على الدراجة تدوم طيلة فترة ما بعد الظهيرة، في الساحة الداخلية للقصر، والمغربي الوحيد الذي كان يشارك هو وزير الحرب المنهبي في عز قوته وهيمنته. أتقن السلطان ركوب الدراجة بشجاعة وبحذر أيضا ونادرا ما كان يرتكب أخطاء أثناء القيادة بل يقود الدراجة ببراعة، والمنهبي لا يقل عنه براعة لكنه ثقيل في السير بعض الشيء. رأيته ذات يوم وهو يلاحق الكرة، قبل أن يصطدم بجدار القصر، وانتشلوه لاحقا من ركام مظلات صيفية قديمة ومكسرة، ولم يتوقف عن الصراخ طالبا الحصول على دراجة جديدة لإكمال المسابقة.
لطالما أحب السلطان امتلاك أشياء مرتفعة القيمة، وغالبية دراجاته كانت مصنوعة من الألومنيوم مما يعني أنها لم تكن ملائمة لمزاولة رياضة البولو، ورغم ذلك شارك بها، وكلما تحطمت إحداها قام باقتناء أخرى جديدة مما أنعش حركة بيع التجار المتعاملين معه. أعتقد أن الرقم القياسي للدراجات المحطمة سجله أحد الموظفين بالمفوضية البريطانية الذي كسر ست دراجات دفعة واحدة في إحدى جولات بعد الظهيرة.
لم يتوقف اهتمام السلطان مولاي عبد العزيز عند القيادة البارعة للدراجات، بل كان أيضا يجيد القيام بالعديد من الحركات الاستعراضية تماما مثل باقي المحترفين. لقد شاهدته يوما يسير فوق لوحة خشبية مائلة، موضوعة على صندوق، أما الحركة الثانية فقد أداها على مجسم يشبه الجسر يحده صندوقان يسمحان له بالنزول والصعود من الاتجاهين. وقع ذات يوم على رأسه، ونهض بعد أن بقي على الأرض للحظات قبل أن يقف ويعيد المحاولة مرة أخرى وحالفه النجاح هذه المرة. لم أقابله بمزاج معكر سوى مرة واحدة، وكنا وقتها فوق تل صغير خارج القصر. على بعد أمتار في الأسفل اصطف تحتنا ما كان يطلق عليه وقتها «الجيش المغربي» وهم يعانون من الجوع وفي أسوأ حال. قلت له إنهم ربما يعيشون هذا الوضع بسبب الحرارة المفرطة واللامبالاة التي تطبع التعامل معهم، والنصب على رواتبهم، ولم أتخيل أنه لم يكن مستعدا ليسمع مني وصف جنوده بالبؤس. «هذه ليست غلطتي» رد السلطان بعصبية، أجبته بنبرة واثقة: «بل هي كذلك، لأن جلالتكم لا تقومون بأي مجهود لمعرفة ما إذا كان يتم تطبيق أوامركم». تصاعدت الدماء في عروقه وارتفعت نبرة صوته ورد علي بصوت حاد: «لا يجب أن تنسى أنك تتكلم أمام أمير المؤمنين»، لم أتردد في أن أخبره قائلا: «أنا لا أنسى هذا الأمر، جلالتكم تنسون أن هؤلاء الرجال هم المؤمنون». تحول غضبه فجأة إلى حزن علا قسمات وجهه، وخفض عينيه للحظات موجها نظره صوب الضيعة الواسعة الممتدة أمامنا، والتفت نحوي قائلا بهدوء: «لا يمكنك أن تعلم كم متعب أن تكون سلطانا» وسالت الدموع من عينيه. زرت مكناس ذات مرة، وسنحت لي فرصة التوجه إلى الحي اليهودي للمدينة لألتقي بعائلة يهودي استضافتني لديها في إحدى المناسبات. كانت ربة البيت سيدة ممتلئة القوام، وقد أقول إنها كانت عملاقة، ورغم هذا فقد كانت كريمة وسخية. استقبلني رب العائلة وزوجته والأبناء والأحفاد بالترحاب، وبمجرد انتهاء تلك المراسيم، بدأت أسمع الشكاوى وعبارات التذمر بسبب عمليات النهب والسرقة التي تعرض لها اليهود من طرف الأمازيغ، ولم يسلم بيتهم وحظيرتهم من هذا المصير أيضا، وسألوني هل بإمكاني مساعدتهم لكي يتم إنصافهم. في تلك الفترة، رغم النوايا الحسنة التي أبان عنها السلطان، ظلت العدالة أصعب الأشياء تحقيقا في المغرب.
كنت أعلم أن السلطان قد أعطى أوامره بأن الخسائر المترتبة عن تلك العمليات ستتحملها السلطات المختصة، لكن أصدقائي لم يحصلوا سوى على جزء صغير من الأشياء التي فقدوها، وتم فقدان ما تبقى وهي «في الطريق إليهم»، وقررت إذن أن أحصل على العدالة من مولاي عبد العزيز باستخدام حيلة صغيرة. أخبرت السيدة الضخمة أن السلطان سيزور المدينة بعد غد، وطلبت منها أن تتسلق أحد الأعمدة المشهورة لباب المنصور لعلج أثناء مرور موكب الملك. وعندما يظهر السلطان، تصرخ بأعلى صوتها: «هل يسمح جلالة السلطان أن أموت وسط المعاناة والبؤس؟ ألا يريد صاحب الجلالة أن يحميني؟». طلبت منها أن تحافظ على مسحة الود في حديثها (كان عمرها يتجاوز الستين) وأن ترتدي قميصها المخملي الجميل ذي التطريزات المذهبة التي تفضل المغربيات اليهوديات ارتداءه في تلك الفترة.
لطالما أحب السلطان امتلاك أشياء مرتفعة القيمة، وغالبية دراجاته كانت مصنوعة من الألومنيوم مما يعني أنها لم تكن ملائمة لمزاولة رياضة البولو، ورغم ذلك شارك بها، وكلما تحطمت إحداها قام باقتناء أخرى جديدة مما أنعش حركة بيع التجار المتعاملين معه. أعتقد أن الرقم القياسي للدراجات المحطمة سجله أحد الموظفين بالمفوضية البريطانية الذي كسر ست دراجات دفعة واحدة في إحدى جولات بعد الظهيرة.
لم يتوقف اهتمام السلطان مولاي عبد العزيز عند القيادة البارعة للدراجات، بل كان أيضا يجيد القيام بالعديد من الحركات الاستعراضية تماما مثل باقي المحترفين. لقد شاهدته يوما يسير فوق لوحة خشبية مائلة، موضوعة على صندوق، أما الحركة الثانية فقد أداها على مجسم يشبه الجسر يحده صندوقان يسمحان له بالنزول والصعود من الاتجاهين. وقع ذات يوم على رأسه، ونهض بعد أن بقي على الأرض للحظات قبل أن يقف ويعيد المحاولة مرة أخرى وحالفه النجاح هذه المرة. لم أقابله بمزاج معكر سوى مرة واحدة، وكنا وقتها فوق تل صغير خارج القصر. على بعد أمتار في الأسفل اصطف تحتنا ما كان يطلق عليه وقتها «الجيش المغربي» وهم يعانون من الجوع وفي أسوأ حال. قلت له إنهم ربما يعيشون هذا الوضع بسبب الحرارة المفرطة واللامبالاة التي تطبع التعامل معهم، والنصب على رواتبهم، ولم أتخيل أنه لم يكن مستعدا ليسمع مني وصف جنوده بالبؤس. «هذه ليست غلطتي» رد السلطان بعصبية، أجبته بنبرة واثقة: «بل هي كذلك، لأن جلالتكم لا تقومون بأي مجهود لمعرفة ما إذا كان يتم تطبيق أوامركم». تصاعدت الدماء في عروقه وارتفعت نبرة صوته ورد علي بصوت حاد: «لا يجب أن تنسى أنك تتكلم أمام أمير المؤمنين»، لم أتردد في أن أخبره قائلا: «أنا لا أنسى هذا الأمر، جلالتكم تنسون أن هؤلاء الرجال هم المؤمنون». تحول غضبه فجأة إلى حزن علا قسمات وجهه، وخفض عينيه للحظات موجها نظره صوب الضيعة الواسعة الممتدة أمامنا، والتفت نحوي قائلا بهدوء: «لا يمكنك أن تعلم كم متعب أن تكون سلطانا» وسالت الدموع من عينيه. زرت مكناس ذات مرة، وسنحت لي فرصة التوجه إلى الحي اليهودي للمدينة لألتقي بعائلة يهودي استضافتني لديها في إحدى المناسبات. كانت ربة البيت سيدة ممتلئة القوام، وقد أقول إنها كانت عملاقة، ورغم هذا فقد كانت كريمة وسخية. استقبلني رب العائلة وزوجته والأبناء والأحفاد بالترحاب، وبمجرد انتهاء تلك المراسيم، بدأت أسمع الشكاوى وعبارات التذمر بسبب عمليات النهب والسرقة التي تعرض لها اليهود من طرف الأمازيغ، ولم يسلم بيتهم وحظيرتهم من هذا المصير أيضا، وسألوني هل بإمكاني مساعدتهم لكي يتم إنصافهم. في تلك الفترة، رغم النوايا الحسنة التي أبان عنها السلطان، ظلت العدالة أصعب الأشياء تحقيقا في المغرب.
كنت أعلم أن السلطان قد أعطى أوامره بأن الخسائر المترتبة عن تلك العمليات ستتحملها السلطات المختصة، لكن أصدقائي لم يحصلوا سوى على جزء صغير من الأشياء التي فقدوها، وتم فقدان ما تبقى وهي «في الطريق إليهم»، وقررت إذن أن أحصل على العدالة من مولاي عبد العزيز باستخدام حيلة صغيرة. أخبرت السيدة الضخمة أن السلطان سيزور المدينة بعد غد، وطلبت منها أن تتسلق أحد الأعمدة المشهورة لباب المنصور لعلج أثناء مرور موكب الملك. وعندما يظهر السلطان، تصرخ بأعلى صوتها: «هل يسمح جلالة السلطان أن أموت وسط المعاناة والبؤس؟ ألا يريد صاحب الجلالة أن يحميني؟». طلبت منها أن تحافظ على مسحة الود في حديثها (كان عمرها يتجاوز الستين) وأن ترتدي قميصها المخملي الجميل ذي التطريزات المذهبة التي تفضل المغربيات اليهوديات ارتداءه في تلك الفترة.
السلطان مولاي عبد العزيز رفقة مسؤولين أجانب
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
- 22 -
مولاي عبد العزيز ينصف العائلة اليهودية والمجاعة تسود مدن البلاد
بعد أن وعدتني السيدة اليهودية بتنفيذ ما طلبت منها، بدأت أفكر في الخطة
التي سأعدها. بعد مرور ساعتين، استقبلني السلطان، وأخبرته أنني رأيت حلما
غريبا في الليلة الماضية، وطلب مني مولاي عبد العزيز أن أقص عليه تفاصيل
ذلك الحلم. أخبرته أنني رأيت نفسي في المنام أرافقه أثناء دخوله الرسمي
إلى مدينة مكناس، وحينما اقتربنا من إحدى بوابات المنصور لعلج، شاهدنا
سيدة يهودية ضخمة ترتدي ملابس العيد ممسكة بالعمود الرخامي للباب وهي
تصرخ: «هل سيتركني صاحب الجلالة أموت جوعا؟». كان السلطان يؤمن بالمعتقدات
الغيبية وسألني عن مغزى ذلك الحلم، ولم أفصح له عن أي شيء لكي تنجح الخطة
التي رسمتها. جرت الأمور كما خططت، بل وانضافت إلى الحيلة مسحة كوميدية
طريفة.
ظهر الموكب الذي تقدمه السلطان أمام مدخل المدينة، وعلى بعد أمتار
تمسكت صديقتي البدينة بالقطعة الرخامية وهي تصرخ بصوت عال لإسماع شكايتها.
صدم مولاي عبد العزيز لدى رؤيته لذلك المشهد والتفت نحوي لكي يرى رد فعلي
والتقت عيوننا، وبدأت أحدق باستغراب أيضا في منظر تلك السيدة الماثلة
أمامنا. في تلك اللحظة بالذات، استبد القلق بالسيدة التي خشيت ألا يصل
صوتها العالي إلى السلطان، فتشبثت بالعمود أكثر لكن قدمها زلت فجأة ولم
أشاهد سوى جسمها الضخم وهو يسقط وسط جموع الجنود بأزيائهم الزرقاء
والحمراء. بعد مرور ساعة، أحضرني الحرس إلى السلطان الذي طلب مقابلتي،
فوجدته قلقا ومنزعجا من حادث السيدة، ولم أتردد في إخباره بأن الحلم
الغريب الذي رأيت في المنام هو بمثابة إنذار لكي يتم إنصاف تلك المرأة.
عندها سألني السلطان إن كنت أعرف هويتها ومن تكون، فنفيت الأمر معللا ذلك
بأنني رأيتها مرة واحدة وقبل ساعة فقط، ليرد علي صاحب الجلالة قائلا: «هيا
وبسرعة، قابل تلك السيدة لكي تخبرك بمطالبها». لا يمكن لأحد أن يتصور
مقدار السعادة التي أحسست بها وأنا أزور أصدقائي اليهود في بيتهم وأسجل
مطالبهم وشكاويهم، وبعث السلطان بعدها أحد أصدقائه المدعو الشريف العمراني
مكلفا إياه بتعويض هذه العائلة عن الأشياء التي فقدوها، وتعيين حرس
لمراقبة بيتهم. بهذا الشكل تيقنت أنه سيتم إنصافهم، وهو ما لم يحدث في
البداية بسبب سطو الوزراء على الأموال التي كانت من نصيبهم أثناء تعرضهم
لحادثة النهب والسطو، وعدت لألتقي بالسلطان بعد يومين وأخبرته بتفاصيل
الحيلة التي حبكتها، وبدا سعيدا لأن الأمور سارت في النهاية على نحو جيد.
عدت سنة 1906 التي شهدت انعقاد لقاء الخزيرات إلى فاس بعد غياب دام
ثلاث سنوات، وبدت الأشياء مختلفة عما كانت عليه في الماضي القريب. تغيرت
الحياة كثيرا لأن أيام الرخاء ولت واختفت صناديق الشحن الأجنبية وبدا
واضحا أن المخزن سيواجه أياما صعبة. سادت موجة العصيان القبيلة تلو
الأخرى، وانتشرت جرائم السرقة والرشوة أكثر مما كانت عليه وعمت المجاعة
مدن البلاد. خلال المهمة التي أشرفت عليها في المغرب كمراسل للتايمز قبل
ثلاث سنوات، تحولت إلى شخصية غير مرغوب فيها لدى الجهات الوزارية أو لدى
السلطان في قصره، ورفضت العائلات استقبالي في بيوتها وبقيت موصدة في وجهي.
بقيت لمدة أشهر في فاس ليتبين لي أن أهل فاس لا يرغبون أبدا في
استقبالي، كانوا يعلمون جيدا أن جريدة التايمز كشفت عن الظروف البئيسة
التي كان يعيشها المغاربة في ذلك الوقت والآلام التي ظلوا يعانون منها،
لذا رفضوا أن تتعرف عليهم الصحيفة وتشير إليهم في مقالاتها. كانوا يعلمون
أيضا أن السلطان رفض استقبالي وأغلق الوزراء أبواب مؤسساتهم أمامي، لقد
كنت أمثل جريدة فتحت صفحاتها دائما لصرخات الحزن ومعاناة الشعوب الذين
يعيشون وسط القهر والإهمال، ووصلت أصواتهم إلى القراء الانجليز والمجتمع
الدولي. لن أنسى إذن تغير موقفهم بعد هذه المدة والحفاوة التي أبانوا عنها
بعد وصولي، مما جعلني أتساءل عن سبب هذا التغيير المفاجئ وغير المتوقع؟
انتشرت المجاعة في صفوف الأهالي وكان الحصول على الخبز أمرا نادرا
لأن الوزراء وكبار المسؤولين استحوذوا على محاصيل السنة من القمح والشعير
واستولوا على خزائن السنوات الماضية وحولوها إلى ملكيتهم. اهتدى هؤلاء إلى
حيلة ذكية وهي شراء القمح قبل دخوله إلى المدينة وبيعه بعد ذلك بأثمان
مرتفعة، مما ساعدهم على تحقيق هامش كبير في الأرباح.
حرفي يهودي مغربي في بداية القرن العشرين
مولاي عبد العزيز ينصف العائلة اليهودية والمجاعة تسود مدن البلاد
بعد أن وعدتني السيدة اليهودية بتنفيذ ما طلبت منها، بدأت أفكر في الخطة
التي سأعدها. بعد مرور ساعتين، استقبلني السلطان، وأخبرته أنني رأيت حلما
غريبا في الليلة الماضية، وطلب مني مولاي عبد العزيز أن أقص عليه تفاصيل
ذلك الحلم. أخبرته أنني رأيت نفسي في المنام أرافقه أثناء دخوله الرسمي
إلى مدينة مكناس، وحينما اقتربنا من إحدى بوابات المنصور لعلج، شاهدنا
سيدة يهودية ضخمة ترتدي ملابس العيد ممسكة بالعمود الرخامي للباب وهي
تصرخ: «هل سيتركني صاحب الجلالة أموت جوعا؟». كان السلطان يؤمن بالمعتقدات
الغيبية وسألني عن مغزى ذلك الحلم، ولم أفصح له عن أي شيء لكي تنجح الخطة
التي رسمتها. جرت الأمور كما خططت، بل وانضافت إلى الحيلة مسحة كوميدية
طريفة.
ظهر الموكب الذي تقدمه السلطان أمام مدخل المدينة، وعلى بعد أمتار
تمسكت صديقتي البدينة بالقطعة الرخامية وهي تصرخ بصوت عال لإسماع شكايتها.
صدم مولاي عبد العزيز لدى رؤيته لذلك المشهد والتفت نحوي لكي يرى رد فعلي
والتقت عيوننا، وبدأت أحدق باستغراب أيضا في منظر تلك السيدة الماثلة
أمامنا. في تلك اللحظة بالذات، استبد القلق بالسيدة التي خشيت ألا يصل
صوتها العالي إلى السلطان، فتشبثت بالعمود أكثر لكن قدمها زلت فجأة ولم
أشاهد سوى جسمها الضخم وهو يسقط وسط جموع الجنود بأزيائهم الزرقاء
والحمراء. بعد مرور ساعة، أحضرني الحرس إلى السلطان الذي طلب مقابلتي،
فوجدته قلقا ومنزعجا من حادث السيدة، ولم أتردد في إخباره بأن الحلم
الغريب الذي رأيت في المنام هو بمثابة إنذار لكي يتم إنصاف تلك المرأة.
عندها سألني السلطان إن كنت أعرف هويتها ومن تكون، فنفيت الأمر معللا ذلك
بأنني رأيتها مرة واحدة وقبل ساعة فقط، ليرد علي صاحب الجلالة قائلا: «هيا
وبسرعة، قابل تلك السيدة لكي تخبرك بمطالبها». لا يمكن لأحد أن يتصور
مقدار السعادة التي أحسست بها وأنا أزور أصدقائي اليهود في بيتهم وأسجل
مطالبهم وشكاويهم، وبعث السلطان بعدها أحد أصدقائه المدعو الشريف العمراني
مكلفا إياه بتعويض هذه العائلة عن الأشياء التي فقدوها، وتعيين حرس
لمراقبة بيتهم. بهذا الشكل تيقنت أنه سيتم إنصافهم، وهو ما لم يحدث في
البداية بسبب سطو الوزراء على الأموال التي كانت من نصيبهم أثناء تعرضهم
لحادثة النهب والسطو، وعدت لألتقي بالسلطان بعد يومين وأخبرته بتفاصيل
الحيلة التي حبكتها، وبدا سعيدا لأن الأمور سارت في النهاية على نحو جيد.
عدت سنة 1906 التي شهدت انعقاد لقاء الخزيرات إلى فاس بعد غياب دام
ثلاث سنوات، وبدت الأشياء مختلفة عما كانت عليه في الماضي القريب. تغيرت
الحياة كثيرا لأن أيام الرخاء ولت واختفت صناديق الشحن الأجنبية وبدا
واضحا أن المخزن سيواجه أياما صعبة. سادت موجة العصيان القبيلة تلو
الأخرى، وانتشرت جرائم السرقة والرشوة أكثر مما كانت عليه وعمت المجاعة
مدن البلاد. خلال المهمة التي أشرفت عليها في المغرب كمراسل للتايمز قبل
ثلاث سنوات، تحولت إلى شخصية غير مرغوب فيها لدى الجهات الوزارية أو لدى
السلطان في قصره، ورفضت العائلات استقبالي في بيوتها وبقيت موصدة في وجهي.
بقيت لمدة أشهر في فاس ليتبين لي أن أهل فاس لا يرغبون أبدا في
استقبالي، كانوا يعلمون جيدا أن جريدة التايمز كشفت عن الظروف البئيسة
التي كان يعيشها المغاربة في ذلك الوقت والآلام التي ظلوا يعانون منها،
لذا رفضوا أن تتعرف عليهم الصحيفة وتشير إليهم في مقالاتها. كانوا يعلمون
أيضا أن السلطان رفض استقبالي وأغلق الوزراء أبواب مؤسساتهم أمامي، لقد
كنت أمثل جريدة فتحت صفحاتها دائما لصرخات الحزن ومعاناة الشعوب الذين
يعيشون وسط القهر والإهمال، ووصلت أصواتهم إلى القراء الانجليز والمجتمع
الدولي. لن أنسى إذن تغير موقفهم بعد هذه المدة والحفاوة التي أبانوا عنها
بعد وصولي، مما جعلني أتساءل عن سبب هذا التغيير المفاجئ وغير المتوقع؟
انتشرت المجاعة في صفوف الأهالي وكان الحصول على الخبز أمرا نادرا
لأن الوزراء وكبار المسؤولين استحوذوا على محاصيل السنة من القمح والشعير
واستولوا على خزائن السنوات الماضية وحولوها إلى ملكيتهم. اهتدى هؤلاء إلى
حيلة ذكية وهي شراء القمح قبل دخوله إلى المدينة وبيعه بعد ذلك بأثمان
مرتفعة، مما ساعدهم على تحقيق هامش كبير في الأرباح.
حرفي يهودي مغربي في بداية القرن العشرين
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: المغرب المنقرض / والتر هاريس
-23-
انتشار المجاعة في صفوف المغاربة والفساد يستشري في دواليب الدولة
كان المحتسب يرفع بلا سبب ثمن اللحوم ويفرض هذا الأمر على كافة الجزارين،
ولكي يرضي الجموع الغاضبة من هذا الإجراء، يعمد المحتسب إلى تخفيض أسعار
اللحوم، قبل أن يقوم بنفس العملية مجددا. عانى الأهالي من المجاعة بسبب
انقطاع المواد الأساسية للعيش والتي كانت بيد الوزراء وكبار المسؤولين وهم
يوزعونها حسب هواهم على السكان. لم يتوفر الفحم أيضا في الأسواق، مما حرم
العديد من الأسر من الطبخ بسبب تخزين أطنان من الفحم دون بيعها. وعوض أن
تقوم السفن بتحميل شحنات الحبوب إلى المغاربة الذين يعانون من الجوع، كانت
البواخر تصل إلى الموانئ محملة بالرخام لقصور الوزراء، إلى جانب كماليات
أخرى عكست حالة البذخ التي كانوا غارقين فيها. لقد تغيرت مدينة فاس كثيرا
عما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، وللأسف لم يكن هذا التغيير سعيدا أبدا
واختفت معالم الحياة والرخاء من المدينة. لا ترى سوى ملامح جنود قهرهم
الجوع والفقر، وكانوا يحصلون على رواتب كانت بالكاد تكفيهم لشراء قطعة خبر
يسدون بها الجوع ويجولون بعدها تائهين في الأحياء، فيما فضل عدد منهم
الالتحاق ببوحمارة، وباع آخرون بنادقهم لأقرب تاجر لكي يرحلوا بعدها إلى
القبائل الثائرة لمساندتها والقتال معها. لم يكن أحد في الواقع قادرا على
لومهم، لأن الجنود المتبقين ظلوا يمسحون الغبار عن أحذيتهم، وبقي العديد
منهم حافيا وعاجزا عن المشي. امتلأت الشوارع بالأهالي الذين كانوا يتضورون
جوعا، وبرجال يتسولون بأعينهم فقط، كان منظرهم يبعث على الشفقة والرثاء
لحالهم.
ساهمت مواد مدعومة من طرف الحكومة في إسكات معاناة هؤلاء الجوعى، لكن
أموالا طائلة كانت تستثمر لشراء الاسمنت ومواد بناء القصور، ومباشرة بعد
انتهاء لقاء الخزيرات، توقفت المساعدات الغذائية التي كان يوفرها المخزن
لفائدة الفقراء. هل أغلقت أوروبا وقتها أعينها عما يقع في المغرب وهل كان
يجب أن تنتظر رؤية المغاربة المساكين وهو يموتون من جديد؟
وأصبحت صفوف طويلة من الفقراء تقف في طوابير طويلة بمحاذاة جدران
البيوت لكي تسمح بمرور قوافل الجمال والبغال المحملة بأطنان الزليج الخاصة
بقصور الأغنياء وأعيان المدينة، والتي بنوها بأموال الشعب وأرباح عمليات
الفساد الاقتصادي. في الماضي، كان المغاربة يتحملون معاناتهم لأن المخزن
كان متسلطا معهم، وواسوا أنفسهم قائلين: «لا يجب أن يعلم صاحب الجلالة
بهذا الأمر»، لكن الأمور تغيرت اليوم تماما، لقد جعلهم الجوع أكثر جرأة
وبدؤوا يرددون: «لا بد أن السلطان لا يدرك ما يحدث هنا». موقف القبائل كان
مختلفا كثيرا، إذ لم تتردد في التصريح بأنه «لا يوجد سلطان أصلا». لم يكن
هذا الأمر صحيحا لأنه داخل أسوار القصر، حافظ مولاي عبد العزيز على روحه
المرحة وأبان عن نوايا حسنة من أجل تغيير الأمور وظل ينتقل من حديقة إلى
أخرى ويتفقد قاعات القصر، ويعطي الأوامر التي يعلم تماما أنه لن يتم
تنفيذها. لقد تعب من تحسين الأوضاع وتغييرها نحو الأفضل، واكتفى بانتظار
الظروف التي تتغير بمزيج متضارب بين الثقة بالله وبين التوجس من النوايا
الأوروبية. وخارت قواه رغم أنه لا يتحمل لوحده المسؤولية فيما آلت إليه
الأمور، وبعد أن حاول التحرك في فترة من الفترات، إلا أن الظروف لم تكن
كلها في صالحه. كان كريما ومتساهلا وعدد من قراراته هو الذي قاده إلى هذه
الخسارة بعد أن فوض تسيير الأمور إلى رجال أقل كفاءة وغير مستعدين للعمل،
مما جعلهم ينهبون خيرات البلاد بكل حرية. لم يكن يقابل أحدا داخل قصره،
لأن طبيعته ربما لم تسمح له بتحمل الخزي بسبب تدهور وضع البلاد. بدا القصر
في فاس وقتها أشبه بقصر الأحلام الذي تسكنه الأشباح، واختفى مشهد الإقامة
السلطانية قبل ثلاث سنوات وهي تستقبل شحنات البضائع الأوروبية عديمة
الجدوى والمصطفة في صناديق ضخمة. لم يعد الوزراء يعالجون الملفات الموضوعة
أمامهم في نفس اليوم كما كان الأمر في الماضي، بل كانوا يؤجلون البت فيها
ثلاثة أيام أو أكثر، واختفت معالم الحركة والحياة داخل القصر. لم يعد هناك
وجود للموظفين بجلابيبهم البيضاء وطرابيشهم الحمراء؟ أين اختفت تلك
الشخصية الديناميكية المليئة بالحياة ذات العينين اللتين تراقبان أدق
الأمور، أين هو المنهبي وزير الحرب؟
لقد رحلوا جميعا وأضحوا مثل الأشباح تاركين خلفهم مجموعة من الرجال عديمي الجدوى واستخفوا بالمسؤوليات وسادت الفوضى إدارة البلاد.
انتشار المجاعة في صفوف المغاربة والفساد يستشري في دواليب الدولة
كان المحتسب يرفع بلا سبب ثمن اللحوم ويفرض هذا الأمر على كافة الجزارين،
ولكي يرضي الجموع الغاضبة من هذا الإجراء، يعمد المحتسب إلى تخفيض أسعار
اللحوم، قبل أن يقوم بنفس العملية مجددا. عانى الأهالي من المجاعة بسبب
انقطاع المواد الأساسية للعيش والتي كانت بيد الوزراء وكبار المسؤولين وهم
يوزعونها حسب هواهم على السكان. لم يتوفر الفحم أيضا في الأسواق، مما حرم
العديد من الأسر من الطبخ بسبب تخزين أطنان من الفحم دون بيعها. وعوض أن
تقوم السفن بتحميل شحنات الحبوب إلى المغاربة الذين يعانون من الجوع، كانت
البواخر تصل إلى الموانئ محملة بالرخام لقصور الوزراء، إلى جانب كماليات
أخرى عكست حالة البذخ التي كانوا غارقين فيها. لقد تغيرت مدينة فاس كثيرا
عما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، وللأسف لم يكن هذا التغيير سعيدا أبدا
واختفت معالم الحياة والرخاء من المدينة. لا ترى سوى ملامح جنود قهرهم
الجوع والفقر، وكانوا يحصلون على رواتب كانت بالكاد تكفيهم لشراء قطعة خبر
يسدون بها الجوع ويجولون بعدها تائهين في الأحياء، فيما فضل عدد منهم
الالتحاق ببوحمارة، وباع آخرون بنادقهم لأقرب تاجر لكي يرحلوا بعدها إلى
القبائل الثائرة لمساندتها والقتال معها. لم يكن أحد في الواقع قادرا على
لومهم، لأن الجنود المتبقين ظلوا يمسحون الغبار عن أحذيتهم، وبقي العديد
منهم حافيا وعاجزا عن المشي. امتلأت الشوارع بالأهالي الذين كانوا يتضورون
جوعا، وبرجال يتسولون بأعينهم فقط، كان منظرهم يبعث على الشفقة والرثاء
لحالهم.
ساهمت مواد مدعومة من طرف الحكومة في إسكات معاناة هؤلاء الجوعى، لكن
أموالا طائلة كانت تستثمر لشراء الاسمنت ومواد بناء القصور، ومباشرة بعد
انتهاء لقاء الخزيرات، توقفت المساعدات الغذائية التي كان يوفرها المخزن
لفائدة الفقراء. هل أغلقت أوروبا وقتها أعينها عما يقع في المغرب وهل كان
يجب أن تنتظر رؤية المغاربة المساكين وهو يموتون من جديد؟
وأصبحت صفوف طويلة من الفقراء تقف في طوابير طويلة بمحاذاة جدران
البيوت لكي تسمح بمرور قوافل الجمال والبغال المحملة بأطنان الزليج الخاصة
بقصور الأغنياء وأعيان المدينة، والتي بنوها بأموال الشعب وأرباح عمليات
الفساد الاقتصادي. في الماضي، كان المغاربة يتحملون معاناتهم لأن المخزن
كان متسلطا معهم، وواسوا أنفسهم قائلين: «لا يجب أن يعلم صاحب الجلالة
بهذا الأمر»، لكن الأمور تغيرت اليوم تماما، لقد جعلهم الجوع أكثر جرأة
وبدؤوا يرددون: «لا بد أن السلطان لا يدرك ما يحدث هنا». موقف القبائل كان
مختلفا كثيرا، إذ لم تتردد في التصريح بأنه «لا يوجد سلطان أصلا». لم يكن
هذا الأمر صحيحا لأنه داخل أسوار القصر، حافظ مولاي عبد العزيز على روحه
المرحة وأبان عن نوايا حسنة من أجل تغيير الأمور وظل ينتقل من حديقة إلى
أخرى ويتفقد قاعات القصر، ويعطي الأوامر التي يعلم تماما أنه لن يتم
تنفيذها. لقد تعب من تحسين الأوضاع وتغييرها نحو الأفضل، واكتفى بانتظار
الظروف التي تتغير بمزيج متضارب بين الثقة بالله وبين التوجس من النوايا
الأوروبية. وخارت قواه رغم أنه لا يتحمل لوحده المسؤولية فيما آلت إليه
الأمور، وبعد أن حاول التحرك في فترة من الفترات، إلا أن الظروف لم تكن
كلها في صالحه. كان كريما ومتساهلا وعدد من قراراته هو الذي قاده إلى هذه
الخسارة بعد أن فوض تسيير الأمور إلى رجال أقل كفاءة وغير مستعدين للعمل،
مما جعلهم ينهبون خيرات البلاد بكل حرية. لم يكن يقابل أحدا داخل قصره،
لأن طبيعته ربما لم تسمح له بتحمل الخزي بسبب تدهور وضع البلاد. بدا القصر
في فاس وقتها أشبه بقصر الأحلام الذي تسكنه الأشباح، واختفى مشهد الإقامة
السلطانية قبل ثلاث سنوات وهي تستقبل شحنات البضائع الأوروبية عديمة
الجدوى والمصطفة في صناديق ضخمة. لم يعد الوزراء يعالجون الملفات الموضوعة
أمامهم في نفس اليوم كما كان الأمر في الماضي، بل كانوا يؤجلون البت فيها
ثلاثة أيام أو أكثر، واختفت معالم الحركة والحياة داخل القصر. لم يعد هناك
وجود للموظفين بجلابيبهم البيضاء وطرابيشهم الحمراء؟ أين اختفت تلك
الشخصية الديناميكية المليئة بالحياة ذات العينين اللتين تراقبان أدق
الأمور، أين هو المنهبي وزير الحرب؟
لقد رحلوا جميعا وأضحوا مثل الأشباح تاركين خلفهم مجموعة من الرجال عديمي الجدوى واستخفوا بالمسؤوليات وسادت الفوضى إدارة البلاد.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
24-الأوروبيون يكرسون أطماعهم في مؤتمر الخزيرات والثورات تقسم مناطق البلاد
استغربت مما ردده المغاربة بأن «السلطان غير موجود» مما يسقط من شأن
السلطان في عيونهم، ولم يتوقع أحد أن يتحكم كل من الروكي والريسوني في
العديد من المعابر البرية ويحكمون سيطرتهم عليها. لم يتحرك المغاربة في
كافة المناطق لإعلان ثورتهم لكنهم امتنعوا عن دفع الضرائب ولم يعترفوا
بسيادة الحكومة المركزية، وأحس سكان المدن، بعد سنوات من القهر والمعاناة،
أن إرادتهم قد انكسرت مدركين أن النظام الحاكم مسؤول عن المجاعة التي حلت
بهم.
حاول السلطان مولاي عبد العزيز، الذي كان يدرك حجم الأخطار الذي
تهدده، أن يجد حلولا لتجاوز تلك المشاكل، وعبر عن نيته في تحسين ظروف
البلاد، ووضع مخططات لتجاوز تلك الأزمة التي عصفت بالمغرب. كان ملكا ذكيا
ونجيبا، صارما في بعض الأمور ومتساهلا في أمور أخرى، وهو ما لا يتماشى مع
الدور الخطير الذي كان يضطلع به، وإذا كان البابا حبيس الفاتيكان، فإن
السلطان كان سجينا أكثر منه مرتين في قصره بفاس. لم يلمس التغييرات
العميقة التي شهدتها فاس سوى الذين عاشوا فيها لعشرات السنوات، وبالنسبة
للآخرين، ظلت المدينة شبيهة بغيرها من المدن المغربية ببيوتها التي تطل
شرفاتها على الجيران، وأشجار البرتقال التي تزين الحدائق، والمآذن
الاسمنتية والمقابر القابعة في مخرج المدينة، ولم تتوسع مساحة فاس ولو
بمتر واحد منذ أن تمت محاصرة الأسوار. وبمحاذاة الجدران، تدفقت مياه
البحيرات لتسقي أشجار الزيتون والفواكه والعنب مشكلة سهلا أخضر يحيط
بالمدينة ذات اللونين الأبيض والرمادي، وظل يمتد حتى مشارف واد سبو مخترقا
الضيعات الفلاحية.
تكسرت النافورات الرخامية واقتلعت قطع الزليج المزركشة منها، وجفت
المياه من منابعها عكس ما كانت عليه في الماضي، وكسا الطين الممرات
المؤدية إليها واتسعت في أخدود طويل على مرمى البصر. وحدها الفنادق حافظت
على فخامتها وجمالية أعمدتها الخشبية وحدائقها الغناء المطلة على بيوت
الوزراء والتي بنيت «بخبز» وأموال الشعب.. عندما تلتقي بأبناء هذه
المدينة، تثيرك ملامح الحزن واليأس على وجوههم جراء سنوات الذل التي
عاشوها. إنهم لا يتوقعون أي أمل في المستقبل ويحاولون نسيان الماضي ولا
يكفون عن ترديد أنها «مشيئة وإرادة الله». لم يكن أي شيء آخر قادرا على
زعزعة هذا الاعتقاد في نفوسهم لأنهم يرون أن ما يمرون به الآن هو قدرهم
ويكفي أنه أمر «مكتوب عليهم». ورغم أن الأوروبيين كانوا على وشك خوض حرب
بسبب المغرب، في وقت كان العالم يتابع تفاصيل مؤتمر الخزيرات، كانت فاس
جامدة ومنقطعة عن العالم، بينما بسط السلطان نفوذه على عدد من المدن
المغلقة وسيطر معارضوه على خمس مساحة البلاد. خرج لقاء الخزيرات بنتائج
متوقعة خدمت مصالح الجميع، وأرسلت الدول الأوربية مندوبيها إلى المدينة
الاسبانية الهادئة الواقعة على بعد أميال من جبل طارق، وظلت كل حكومة تتبع
عن كثب أطوار اللقاء. وبينما ناقش السفراء العديد من المواضيع التي سجلوها
في «كتاب» المعاهدة، وتناولوا مسألة الخدمات العمومية والشرطة الدولية
وأنواع الأسلحة وإنشاء بنك رسمي تملكه البلدان الأوروبية إلى جانب مواضيع
أخرى، كان المغرب غارقا في الفوضى وتناسلت الشائعات بخصوص قرب اندلاع
الحرب بين القبائل. وعلى الجانب الآخر من التلال المحيطة بالخزيرات، أحكم
الريسوني سيطرته على مناطق الشمال، فيما بسط بوحمارة نفوذه على الجهة
الشرقية من البلاد. كان بوحمارة، المنحدر من زرهون، يعمل «فقيها» لدى موظف
سام في مكناس، وأصبح كاتبا غير مرغوب فيه لأنه لم يكن فقط يقلد توقيع هذا
الموظف، بل نجح أيضا في صنع ختم سلطاني استخدمه للحصول على أموال طائلة.
انتقل بوحمارة بين القبائل إلى أن وصل إلى منطقة تازة القريبة من فاس
ومن الحدود مع الجزائر، واستعمل دهاءه لاستمالة القبائل مما أتاح له نيل
حظوة بينهم. كان بوحمارة يتصرف وكأنه القائد، ليعترف للناس بعد مدة بأنه
مولاي محمد، الابن البكر للسلطان الراحل مولاي الحسن، أي الأخ الأكبر
للسلطان مولاي عبد العزيز. وصنع ختما ملكيا رسميا وعين نفسه سلطانا على
البلاد. لقد تطرقت إلى الهزائم التي ألحقها بقوات السلطان في دجنبر 1902،
ليبلغ نفوذ بوحمارة مرحلة الأوج ويثير قلق القصر الملكي. حكم هذا الشخص
شرق المغرب لسنوات عديدة محققا انتصارات ساحقة على خصومه، ورغم نجاح قوات
وزير الحرب المنهبي في إجبار مقاتلي بوحمارة على التراجع إلى جبال الريف،
فإنه تمكن من استرجاع تلك البلدات وبسط سيطرته مرة أخرى.
المسؤولون المشاركون في مؤتمر «الخزيرات»
السلطان في عيونهم، ولم يتوقع أحد أن يتحكم كل من الروكي والريسوني في
العديد من المعابر البرية ويحكمون سيطرتهم عليها. لم يتحرك المغاربة في
كافة المناطق لإعلان ثورتهم لكنهم امتنعوا عن دفع الضرائب ولم يعترفوا
بسيادة الحكومة المركزية، وأحس سكان المدن، بعد سنوات من القهر والمعاناة،
أن إرادتهم قد انكسرت مدركين أن النظام الحاكم مسؤول عن المجاعة التي حلت
بهم.
حاول السلطان مولاي عبد العزيز، الذي كان يدرك حجم الأخطار الذي
تهدده، أن يجد حلولا لتجاوز تلك المشاكل، وعبر عن نيته في تحسين ظروف
البلاد، ووضع مخططات لتجاوز تلك الأزمة التي عصفت بالمغرب. كان ملكا ذكيا
ونجيبا، صارما في بعض الأمور ومتساهلا في أمور أخرى، وهو ما لا يتماشى مع
الدور الخطير الذي كان يضطلع به، وإذا كان البابا حبيس الفاتيكان، فإن
السلطان كان سجينا أكثر منه مرتين في قصره بفاس. لم يلمس التغييرات
العميقة التي شهدتها فاس سوى الذين عاشوا فيها لعشرات السنوات، وبالنسبة
للآخرين، ظلت المدينة شبيهة بغيرها من المدن المغربية ببيوتها التي تطل
شرفاتها على الجيران، وأشجار البرتقال التي تزين الحدائق، والمآذن
الاسمنتية والمقابر القابعة في مخرج المدينة، ولم تتوسع مساحة فاس ولو
بمتر واحد منذ أن تمت محاصرة الأسوار. وبمحاذاة الجدران، تدفقت مياه
البحيرات لتسقي أشجار الزيتون والفواكه والعنب مشكلة سهلا أخضر يحيط
بالمدينة ذات اللونين الأبيض والرمادي، وظل يمتد حتى مشارف واد سبو مخترقا
الضيعات الفلاحية.
تكسرت النافورات الرخامية واقتلعت قطع الزليج المزركشة منها، وجفت
المياه من منابعها عكس ما كانت عليه في الماضي، وكسا الطين الممرات
المؤدية إليها واتسعت في أخدود طويل على مرمى البصر. وحدها الفنادق حافظت
على فخامتها وجمالية أعمدتها الخشبية وحدائقها الغناء المطلة على بيوت
الوزراء والتي بنيت «بخبز» وأموال الشعب.. عندما تلتقي بأبناء هذه
المدينة، تثيرك ملامح الحزن واليأس على وجوههم جراء سنوات الذل التي
عاشوها. إنهم لا يتوقعون أي أمل في المستقبل ويحاولون نسيان الماضي ولا
يكفون عن ترديد أنها «مشيئة وإرادة الله». لم يكن أي شيء آخر قادرا على
زعزعة هذا الاعتقاد في نفوسهم لأنهم يرون أن ما يمرون به الآن هو قدرهم
ويكفي أنه أمر «مكتوب عليهم». ورغم أن الأوروبيين كانوا على وشك خوض حرب
بسبب المغرب، في وقت كان العالم يتابع تفاصيل مؤتمر الخزيرات، كانت فاس
جامدة ومنقطعة عن العالم، بينما بسط السلطان نفوذه على عدد من المدن
المغلقة وسيطر معارضوه على خمس مساحة البلاد. خرج لقاء الخزيرات بنتائج
متوقعة خدمت مصالح الجميع، وأرسلت الدول الأوربية مندوبيها إلى المدينة
الاسبانية الهادئة الواقعة على بعد أميال من جبل طارق، وظلت كل حكومة تتبع
عن كثب أطوار اللقاء. وبينما ناقش السفراء العديد من المواضيع التي سجلوها
في «كتاب» المعاهدة، وتناولوا مسألة الخدمات العمومية والشرطة الدولية
وأنواع الأسلحة وإنشاء بنك رسمي تملكه البلدان الأوروبية إلى جانب مواضيع
أخرى، كان المغرب غارقا في الفوضى وتناسلت الشائعات بخصوص قرب اندلاع
الحرب بين القبائل. وعلى الجانب الآخر من التلال المحيطة بالخزيرات، أحكم
الريسوني سيطرته على مناطق الشمال، فيما بسط بوحمارة نفوذه على الجهة
الشرقية من البلاد. كان بوحمارة، المنحدر من زرهون، يعمل «فقيها» لدى موظف
سام في مكناس، وأصبح كاتبا غير مرغوب فيه لأنه لم يكن فقط يقلد توقيع هذا
الموظف، بل نجح أيضا في صنع ختم سلطاني استخدمه للحصول على أموال طائلة.
انتقل بوحمارة بين القبائل إلى أن وصل إلى منطقة تازة القريبة من فاس
ومن الحدود مع الجزائر، واستعمل دهاءه لاستمالة القبائل مما أتاح له نيل
حظوة بينهم. كان بوحمارة يتصرف وكأنه القائد، ليعترف للناس بعد مدة بأنه
مولاي محمد، الابن البكر للسلطان الراحل مولاي الحسن، أي الأخ الأكبر
للسلطان مولاي عبد العزيز. وصنع ختما ملكيا رسميا وعين نفسه سلطانا على
البلاد. لقد تطرقت إلى الهزائم التي ألحقها بقوات السلطان في دجنبر 1902،
ليبلغ نفوذ بوحمارة مرحلة الأوج ويثير قلق القصر الملكي. حكم هذا الشخص
شرق المغرب لسنوات عديدة محققا انتصارات ساحقة على خصومه، ورغم نجاح قوات
وزير الحرب المنهبي في إجبار مقاتلي بوحمارة على التراجع إلى جبال الريف،
فإنه تمكن من استرجاع تلك البلدات وبسط سيطرته مرة أخرى.
المسؤولون المشاركون في مؤتمر «الخزيرات»
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» كتاب : من المغرب التقليدي الى المغرب الحديث
» المغرب بلا جزائر ، المغرب بلا عدو
» سلاطين المغرب
» اعلام المغرب
» المغرب في عام الجوع
» المغرب بلا جزائر ، المغرب بلا عدو
» سلاطين المغرب
» اعلام المغرب
» المغرب في عام الجوع
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى