رمضان مع الاستاذ احمد الريسوني
صفحة 1 من اصل 1
رمضان مع الاستاذ احمد الريسوني
احمد الريسوني
المرجع: المساء
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
من الطرائف التي سمعتها خارج المغرب أن أركان الإسلام الخمسة
ها هي مدرسة رمضان تفتح أبوابها كالمعتاد، في موعد سنوي لا يتخلف منذ
تأسيسها في السنة الثانية من الهجرة النبوية، وهي السنة التي فرض فيها
الصوم في الإسلام، أي أنها منتظمة منذ أربعة عشر قرنا و 28سنة.
مدرسة رمضان يلج أبوابها هذه الأيام أكثر من عشرين مليون مغربي، بمن
فيهم عدد كبير من المسنين والمرضى والأطفال وغيرِهم من ذوي الأعذار.
فرمضان في المغرب يلقى من الحفاوة والمبالغة ما يفوق مثله لدى سائر الشعوب
الإسلامية.
ومن الطرائف التي سمعتها خارج المغرب، أن أركان الإسلام الخمسة
توزعت العناية بها بين أقطار المغرب العربي: فكانت الصلاة عند
الموريتانيين، والزكاة عند الليبيين، والصوم عند المغاربة، والحج عند
الجزائريين، والشهادة عند التونسيين !
على كل حال فشهر رمضان وصيام رمضان مدرسة حقيقية للتربية والتعبئة
والتكوين والتدريب. ولو بحثنا لوجدنا جميع المتدينين مدينين في صلاحهم
وتدينهم لمدرسة رمضان. فإما فيها بدأ تحولهم والتزامهم، وإما بفضلها
يرممون ما يتضعضع من أحوالهم، وإما فيها يجددون عزائمهم، وإما في أجوائها
يرتقون في مراتبهم ...
مدرسة رمضان - كما هو معلوم - لا تستمر سوى شهر واحد، ولكنها تقدم
مواد دراسية وتداريب عملية مكثفة، بمستويات عالية الجودة والفعالية، مما
يجعل الشهادة المحصلة للناجحين، تفوق في قيمتها الشهادات المحصل عليها في
سنة كاملة أو حتى في عدة سنوات، من الدراسات العادية. أما موادها الدراسية
والتطبيقية فهي:
> 1 > مادة الصوم > 2 > مادة احترام الوقت > 3 >
مادة الصلاة > 4 > مادة القرآن الكريم > 5 > مادة الكرم
والإنفاق > 6 > مادة التزاور والتغافر.
فأما المادة الأولى، فهي المادة الرئيسية في مدرسة رمضان، وهي التي
تستغرق أكبر عدد من الساعات الدراسية. ومضمنها الامتناع والانقطاع عما هو
مباح من شهوات البطن والفرج من الفجر إلى الغروب، ومن باب أولى الامتناع
والانقطاع عما هو محرم من أصله.
ومقصود هذه المادة هو تمكين الصائمين من تحصيل التقوى وتدريبهم على
ممارستها. وهو المقصد الذي أشارت إليه الآية الكريمة «يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» [البقرة/183].
والتقوى في جوهرها منهج سلوك يتسم باليقظة والانتباه والاحتياط،
ومقتضاه أن الإنسان عند كل خطوة يريد أن يقدم عليها: ينظر فيها، وينظر
حواليها، وينظر ما قبلها وما بعدها.. وبعد ذلك يُقدم عن بينة ويمشي على
بصيرة. وبيان هذا ومثاله ما روي «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل
أبيَّ بنَ كعب عن التقوى فقال له أُبيّ: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى
قال: فما عملتَ؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى»
ومِثلُه عن أبي هريرة: «أن رجلاً قال له: ما التقوى؟ فقال: هل أخذتَ
طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيتُ الشوك عدلتُ
عنه، أو جاوزته، أو قصُرت عنه، قال: ذاك التقوى»
وقد نظم الشاعر هذا المعنى بقوله:
خَـلِّ الذنوب صغيـرَهـا ... وكبيـرَهـا، ذاك التُّـقَى
واصنع كماشٍ فوق أر... ض الشوك يحذر ما يرى
فالصائم حين يصبح ويظل حذرا متيقظا، خشية أن يتناول ما يفسد صومه، من
جرعة ماء، أو حبة تمر، أو لقمة طعام...، وحين يغفل لحظة ثم ينتبه فيسحب
الطعام أو الشراب من بين شفتيه، وحين يمسي خائفا متوجسا أن ينطق بكلمة
غيبة أو كذب أو شهادة زور... وحين يغدو صارفا سمعه وبصره عن هذه وتلك وهذا
وذاك ...، وحين يُغضبه أو يستفزه أحد فتـثور ثائرته، لكنه يتذكر ويقول:
اللهم إني صائم...، وحين يهُمُّ بكسب حرام ثم يخاف على نفسه وعلى صيامه...
حينئذ يكون فعلا «كَمَاشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى»، وتلك هي التقوى...
وهو المعنى الذي يعبر عنه المغاربة بالمشي على البيض ...
وأما مادة احترام الوقت، فهي أن الإحساس بالوقت وضبطه والتقيد به،
يكون في رمضان بما لا مثيل له ولا قريب منه في أي وقت آخر من السنة. فشهر
رمضان يعده الناس يوما بيوم، فلا يكاد أحد يخطئ أو يتردد في كم مضى منه
وكم بقي. بل يعدون أيامه ولياليه ساعة بساعة، ويعدون بعض مواعيده دقيقة
بدقيقة، كما هو شأن وقت الإمساك ووقت الإفطار. وهذا فضلا عن ضبط مواعيد
الصلوات الخمس وصلوات التراويح.
وأما مادة الصلاة، فهي وإن لم تكن خاصة برمضان، فإنها تعرف في رمضان
زيادة كبيرة كما وكيفا، سواء بالمحافظة على أوقات الصلوات، أو بأدائها في
المساجد والجماعات، أو في زيادة الصلوات النافلة، وخاصة منها صلاة
التراويح. ولكن أهم ما تعرفه الصلاة في رمضان هو كثرة المنخرطين الجدد في
صفوف المصلين.
أما مادة القرآن الكريم، فتأتي أهميتها وخصوصيتها من كون رمضان هو
شهر القرآن «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ» [البقرة/185]. وكان
جبريل عليه السلام يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيدارسه ويعارضه
القرآن مرة أو مرتين كل رمضان.
وأما الكرم والإنفاق، فهما أيضا مما يتضاعف ويزدهر في رمضان. وذلك
أثر من آثار الصيام والإقبال على الله في هذا الشهر الذي يوصف بالشهر
الكريم. فحينما يهنئ الناس بعضهم بحلول رمضان يقولون: «رمضان كريم».
فرمضان شهر الجود والكرم والإنفاق، وفيه اشتهرت «موائد الرحمن» قديما
وحديثا. وهذا مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس رضي
الله عنهما: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود
ما يكون فى رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان
فيدارسه القرآن، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح
المرسلة»
وهو القائل عليه السلام: «من فطَّر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا»
ومن أسباب ما يقع في رمضان من ارتفاع في أثمان المواد الغذائية و
المواد الاستهلاكية عموما، كثرة الإطعام للفقراء، وكثرة الصدقة والإنفاق
عليهم. ويتوج ذلك بإخراج زكاة الفطر في الأيام الأخيرة من رمضان وصبيحة
الأول من شوال.
غير أن أعظم كرم يعرفه رمضان هو كرم الله تعالى الموصوف في الحديث
النبوي الشريف: «إذا كان أولُ ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين ومردة
الجن، وغُلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم
يغلق منها باب، وينادي منادٍ كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر
أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة»
وأما مادة التزاور والتغافر التي يكثر تداولها في رمضان، بين الأقارب
والجيران والأصدقاء، فلأن رمضان شهر المغفرة والتغافر، فمن يحب أن يغفر
الله له فليغفر وليتغافر مع عباد الله: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ» [النور/22].
ومعلوم أن الأعمال الصالحة والإنجازات الناجحة - وهي كثيرة في رمضان
- تبقى موقوفة القبول عند الله تعالى لكل من بينهم خصومة وقطيعة وتدابر.
فمن هنا يبادر الناس إلى التزاور والتغافر والتصالح والتسامح في رمضان.
ومن لم يكن عندهم شيء من هذا، فتواصلهم وتزاورهم خير على خير في شهر الكرم
والخير.
وبقي أن أذكِّر كافة المسجلين في مدرسة رمضان أن الامتحانات
النهائية تبدأ منذ «العشر الأواخر» من الشهر الكريم، وتبلغ ذروتها في ليلة
القدر. وفي هذا الصدد يجب على الجميع أن يتذكروا قول السيدة عائشة رضي
الله عنها: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العَشرُ شد مئزره،
وأحيى ليله، وأيقظ أهله»
فمدرسة رمضان - ككل المدارس الجدية - ليست مضمونة النجاح لكل من
يدخلونها ويمضون أوقاتهم بين جدرانها، وإنما النجاح فيها يكون بقدر ما تم
تحصيله من موادها وتداريبها، وما تم تحقيقه من مقاصدها وفوائدها. وقد حذر
النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الحالات التي لا يخرج أصحابها من مدرسة
رمضان بشيء. قال عليه السلام: «رُبَّ صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش،
ورُبَّ قائمٍ حظه من قيامه السهر». وقال «من لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ
به فليس لله حاجة في أن يدَعَ طعامه وشرابه».
وفي الحديث أيضا: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فلما
رقيَ عتبة، قال: «آمين» ثم رقي عتبة أخرى، فقال: «آمين»، ثم رقي عتبة
ثالثة، فقال: «آمين» ثم، قال: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد، من أدرك
رمضانَ فلم يغفر له، فأبعده الله، قلت: آمين، قال: ومن أدرك والديه أو
أحدَهما، فدخل النار، فأبعده الله، قلت: آمين، فقال : ومن ذُكرتَ عنده فلم
يصلِّ عليك، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين» .
تأسيسها في السنة الثانية من الهجرة النبوية، وهي السنة التي فرض فيها
الصوم في الإسلام، أي أنها منتظمة منذ أربعة عشر قرنا و 28سنة.
مدرسة رمضان يلج أبوابها هذه الأيام أكثر من عشرين مليون مغربي، بمن
فيهم عدد كبير من المسنين والمرضى والأطفال وغيرِهم من ذوي الأعذار.
فرمضان في المغرب يلقى من الحفاوة والمبالغة ما يفوق مثله لدى سائر الشعوب
الإسلامية.
ومن الطرائف التي سمعتها خارج المغرب، أن أركان الإسلام الخمسة
توزعت العناية بها بين أقطار المغرب العربي: فكانت الصلاة عند
الموريتانيين، والزكاة عند الليبيين، والصوم عند المغاربة، والحج عند
الجزائريين، والشهادة عند التونسيين !
على كل حال فشهر رمضان وصيام رمضان مدرسة حقيقية للتربية والتعبئة
والتكوين والتدريب. ولو بحثنا لوجدنا جميع المتدينين مدينين في صلاحهم
وتدينهم لمدرسة رمضان. فإما فيها بدأ تحولهم والتزامهم، وإما بفضلها
يرممون ما يتضعضع من أحوالهم، وإما فيها يجددون عزائمهم، وإما في أجوائها
يرتقون في مراتبهم ...
مدرسة رمضان - كما هو معلوم - لا تستمر سوى شهر واحد، ولكنها تقدم
مواد دراسية وتداريب عملية مكثفة، بمستويات عالية الجودة والفعالية، مما
يجعل الشهادة المحصلة للناجحين، تفوق في قيمتها الشهادات المحصل عليها في
سنة كاملة أو حتى في عدة سنوات، من الدراسات العادية. أما موادها الدراسية
والتطبيقية فهي:
> 1 > مادة الصوم > 2 > مادة احترام الوقت > 3 >
مادة الصلاة > 4 > مادة القرآن الكريم > 5 > مادة الكرم
والإنفاق > 6 > مادة التزاور والتغافر.
فأما المادة الأولى، فهي المادة الرئيسية في مدرسة رمضان، وهي التي
تستغرق أكبر عدد من الساعات الدراسية. ومضمنها الامتناع والانقطاع عما هو
مباح من شهوات البطن والفرج من الفجر إلى الغروب، ومن باب أولى الامتناع
والانقطاع عما هو محرم من أصله.
ومقصود هذه المادة هو تمكين الصائمين من تحصيل التقوى وتدريبهم على
ممارستها. وهو المقصد الذي أشارت إليه الآية الكريمة «يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» [البقرة/183].
والتقوى في جوهرها منهج سلوك يتسم باليقظة والانتباه والاحتياط،
ومقتضاه أن الإنسان عند كل خطوة يريد أن يقدم عليها: ينظر فيها، وينظر
حواليها، وينظر ما قبلها وما بعدها.. وبعد ذلك يُقدم عن بينة ويمشي على
بصيرة. وبيان هذا ومثاله ما روي «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل
أبيَّ بنَ كعب عن التقوى فقال له أُبيّ: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى
قال: فما عملتَ؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى»
ومِثلُه عن أبي هريرة: «أن رجلاً قال له: ما التقوى؟ فقال: هل أخذتَ
طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيتُ الشوك عدلتُ
عنه، أو جاوزته، أو قصُرت عنه، قال: ذاك التقوى»
وقد نظم الشاعر هذا المعنى بقوله:
خَـلِّ الذنوب صغيـرَهـا ... وكبيـرَهـا، ذاك التُّـقَى
واصنع كماشٍ فوق أر... ض الشوك يحذر ما يرى
فالصائم حين يصبح ويظل حذرا متيقظا، خشية أن يتناول ما يفسد صومه، من
جرعة ماء، أو حبة تمر، أو لقمة طعام...، وحين يغفل لحظة ثم ينتبه فيسحب
الطعام أو الشراب من بين شفتيه، وحين يمسي خائفا متوجسا أن ينطق بكلمة
غيبة أو كذب أو شهادة زور... وحين يغدو صارفا سمعه وبصره عن هذه وتلك وهذا
وذاك ...، وحين يُغضبه أو يستفزه أحد فتـثور ثائرته، لكنه يتذكر ويقول:
اللهم إني صائم...، وحين يهُمُّ بكسب حرام ثم يخاف على نفسه وعلى صيامه...
حينئذ يكون فعلا «كَمَاشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى»، وتلك هي التقوى...
وهو المعنى الذي يعبر عنه المغاربة بالمشي على البيض ...
وأما مادة احترام الوقت، فهي أن الإحساس بالوقت وضبطه والتقيد به،
يكون في رمضان بما لا مثيل له ولا قريب منه في أي وقت آخر من السنة. فشهر
رمضان يعده الناس يوما بيوم، فلا يكاد أحد يخطئ أو يتردد في كم مضى منه
وكم بقي. بل يعدون أيامه ولياليه ساعة بساعة، ويعدون بعض مواعيده دقيقة
بدقيقة، كما هو شأن وقت الإمساك ووقت الإفطار. وهذا فضلا عن ضبط مواعيد
الصلوات الخمس وصلوات التراويح.
وأما مادة الصلاة، فهي وإن لم تكن خاصة برمضان، فإنها تعرف في رمضان
زيادة كبيرة كما وكيفا، سواء بالمحافظة على أوقات الصلوات، أو بأدائها في
المساجد والجماعات، أو في زيادة الصلوات النافلة، وخاصة منها صلاة
التراويح. ولكن أهم ما تعرفه الصلاة في رمضان هو كثرة المنخرطين الجدد في
صفوف المصلين.
أما مادة القرآن الكريم، فتأتي أهميتها وخصوصيتها من كون رمضان هو
شهر القرآن «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ» [البقرة/185]. وكان
جبريل عليه السلام يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيدارسه ويعارضه
القرآن مرة أو مرتين كل رمضان.
وأما الكرم والإنفاق، فهما أيضا مما يتضاعف ويزدهر في رمضان. وذلك
أثر من آثار الصيام والإقبال على الله في هذا الشهر الذي يوصف بالشهر
الكريم. فحينما يهنئ الناس بعضهم بحلول رمضان يقولون: «رمضان كريم».
فرمضان شهر الجود والكرم والإنفاق، وفيه اشتهرت «موائد الرحمن» قديما
وحديثا. وهذا مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس رضي
الله عنهما: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود
ما يكون فى رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان
فيدارسه القرآن، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح
المرسلة»
وهو القائل عليه السلام: «من فطَّر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا»
ومن أسباب ما يقع في رمضان من ارتفاع في أثمان المواد الغذائية و
المواد الاستهلاكية عموما، كثرة الإطعام للفقراء، وكثرة الصدقة والإنفاق
عليهم. ويتوج ذلك بإخراج زكاة الفطر في الأيام الأخيرة من رمضان وصبيحة
الأول من شوال.
غير أن أعظم كرم يعرفه رمضان هو كرم الله تعالى الموصوف في الحديث
النبوي الشريف: «إذا كان أولُ ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين ومردة
الجن، وغُلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم
يغلق منها باب، وينادي منادٍ كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر
أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة»
وأما مادة التزاور والتغافر التي يكثر تداولها في رمضان، بين الأقارب
والجيران والأصدقاء، فلأن رمضان شهر المغفرة والتغافر، فمن يحب أن يغفر
الله له فليغفر وليتغافر مع عباد الله: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ» [النور/22].
ومعلوم أن الأعمال الصالحة والإنجازات الناجحة - وهي كثيرة في رمضان
- تبقى موقوفة القبول عند الله تعالى لكل من بينهم خصومة وقطيعة وتدابر.
فمن هنا يبادر الناس إلى التزاور والتغافر والتصالح والتسامح في رمضان.
ومن لم يكن عندهم شيء من هذا، فتواصلهم وتزاورهم خير على خير في شهر الكرم
والخير.
وبقي أن أذكِّر كافة المسجلين في مدرسة رمضان أن الامتحانات
النهائية تبدأ منذ «العشر الأواخر» من الشهر الكريم، وتبلغ ذروتها في ليلة
القدر. وفي هذا الصدد يجب على الجميع أن يتذكروا قول السيدة عائشة رضي
الله عنها: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العَشرُ شد مئزره،
وأحيى ليله، وأيقظ أهله»
فمدرسة رمضان - ككل المدارس الجدية - ليست مضمونة النجاح لكل من
يدخلونها ويمضون أوقاتهم بين جدرانها، وإنما النجاح فيها يكون بقدر ما تم
تحصيله من موادها وتداريبها، وما تم تحقيقه من مقاصدها وفوائدها. وقد حذر
النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الحالات التي لا يخرج أصحابها من مدرسة
رمضان بشيء. قال عليه السلام: «رُبَّ صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش،
ورُبَّ قائمٍ حظه من قيامه السهر». وقال «من لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ
به فليس لله حاجة في أن يدَعَ طعامه وشرابه».
وفي الحديث أيضا: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فلما
رقيَ عتبة، قال: «آمين» ثم رقي عتبة أخرى، فقال: «آمين»، ثم رقي عتبة
ثالثة، فقال: «آمين» ثم، قال: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد، من أدرك
رمضانَ فلم يغفر له، فأبعده الله، قلت: آمين، قال: ومن أدرك والديه أو
أحدَهما، فدخل النار، فأبعده الله، قلت: آمين، فقال : ومن ذُكرتَ عنده فلم
يصلِّ عليك، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين» .
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
الإسرائيليون منعوا الفلسطينيين من الاحتفال بذكرى «النكبة» لأنهم لا يريدون لهم أخذ العبرة من المناسبة
نحن نعيش الآن أيام رمضان. وأيام رمضان فيها الكثير من الأيام العظيمة
المشهودة، كنزول القرآن الكريم، وليلة القدر، ومعركة بدر وأمثالِـها من
الوقائع التاريخية، وعيدِ الفطر الذي ليس سوى تتويجٍ لرمضان واحتفالٍ
بمكاسبه وغنائمه. فعيد الفطر تابع لشهر رمضان وإن كان يقع في شهر شوال. بل
إن شهر رمضان كله يمكن اعتباره يوما واحدا من أيام الإسلام والمسلمين، أو
هو يوم من (أيام الله)، حسب التعبير القرآني.
فلفظ (الأيام) أو (أيام الله) يعبر به عن الوقائع واللحظات التاريخية
المشهودة والحاسمة، وهي الأيام التي تختصر تواريخ الأمم وترسم ملامحها
وتوجه مساراتها، وتكون فيها عبرةٌ لمن يعتبر. وهذا واضح - على سبيل المثال
- في العنوان الذي اتخذه ابن خلدون لكتابه حين سماه: (كتاب العِـبَـر،
وديوان المبتدإ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي
السلطان الأكبر)
فالتاريخ في جوهره إنما هو (أيام وعبر) أو هو (أيام فيها عبر)
ومن تعابير العرب قولهم: فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعها
وتواريخها. وقال تعالى «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ» [آل عمران/140]
ما أريد تناوله وبيانه في هذا المقال هو أن معرفة (أيام الله)،
والاعتبارَ بها، هو جزء من الدين وجزء من رسالة الأنبياء. وهو صريح قول
الله تبارك وتعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ
قَوْمَكَ مِنَ الظُّـلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ
اللَّه ِإِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ»
[إبراهيم/5]
فقد حددت هذه الآية الكريمة رسالة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام في أمرين هما:
إخراج بني إسرائيل من الظلمات إلى النور.
وبعبارة أخرى، فرسالة موسى هي: تبليغ آيات الله، والتذكير بأيام الله.
وليس هذا خاصا بموسى كما قد يفهم من الآية المذكورة، بل هي سنة الله
في عامة أنبيائه ورسله، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم. فمن المعلوم أن
حيزا كبيرا من القرآن الكريم إنما هو تذكير بأيام الله ودعوة للاعتبار
بها.
وقد خاطب الله تعالى نبيَّ القرآن بقوله: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَس [الأعراف/176]
وقال سبحانه: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب» [يوسف:111].
وقال: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَار» [آل عمران/13] .
وقد سارت السنة النبوية كعادتها على نفس النهج، فأكثرت من ذكر نماذج
ممن كانوا قبلنا، منبهة إلى ما في حياتهم وأفعالهم من دروس وعبر، ومنها
هذا الحديث الذي أهديه إلى المتمسكين بالخمر، لعلهم يدركون مقدار جنايتهم
على البلاد والعباد. قال عليه الصلاة والسلام: « اجتنبوا أم الخبائث؛ فإنه
كان رجل ممن قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فعَلِـقَـتْـه (أي عشقته) امرأة
فأرسلت إليه خادما، فقالت : إنا ندعوك لشهادة، فدخل فطفقت كلما يدخل بابا
أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة جالسة، وعندها غلام وباطية (إناء)
فيها خمر، فقالت : إنا لم ندعك لشهادة، ولكن دعوتك لتقتل هذا الغلام، أو
تقع علي ( وهذا هو غرضها الحقيقي)، أو تشرب كأسا من هذا الخمر، فإن أبيتَ
صحتُ بك وفضحتك. فلما رأى أنه لا بد له من ذلك، قال : اسقيني كأسا من هذا
الخمر، فسقته كأسا من الخمر، فقال : زيديني، فلم يزل حتى وقع عليها، وقتل
النفس.. فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر في صدر
رجل أبدا، لَيوشِكنَّ أحدهما يُـخرج صاحبه ».
فدعوة الرسل ومن يقوم مقامهم من العلماء والدعاة والمصلحين، يجب أن
تقوم على النظر في آيات الله، والنظر في أيام الله. وأيامُ الله هي
التاريخ، أو هي الجزء الأهم من التاريخ.
قال العلامة ابن خلدون رحمه الله في بيان أهمية التاريخ: «أما بعد
فإن التاريخ فنٌّ من الفنون، تتداوله الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائب
والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال،
وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار
تاريخٍ عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُول، تنمو فيها الأقوال،
وتُضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن
الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا
الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال»(تاريخ ابن خلدون 1/ 3).
فهذا عن الجوانب الظاهرية من التاريخ، ولكن التاريخ فيه ما هو أعمق
وأنفع؛ ولذلك أضاف ابن خلدون قائلا: «وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل
للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك
أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق».
وإذا كان ابن رشد قد كتب لنا «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة
من الاتصال»، فإن ابن خلدون يلفت الأنظار إلى ما بين التاريخ والشريعة من
وجوه الحكمة والاعتبار.
ورغم هذا، فقد أهمل كثير من العلماء والدعاة التاريخ وزهدوا في قيمته
ونفائسه التي نبه إليها ابن خلدون، حتى اضطر المحدث الكبير الحافظ شمس
الدين السخاوي إلى الدفاع عن التاريخ وبيان فوائده ومقاصده والرد على بعض
الفقهاء المستخِـفِّين به، فوضع لذلك كتابه الشهير(الإعلان بالتوبيخ لمن
ذم التوريخ).
وإذا كان للتاريخ أهله المتخصصون فيه كما هو شأن سائر العلوم، فإن
عامة الناس لا يستغنون عن معرفة شيء من أحداثه ومحطاته الكبرى، وهي المعبر
عنها بأيام الله، أي الوقائع التي تُذَكِّر الناس وتُبصِّرهم بحِكَمِ الله
ونعمه وسننه في خلقه، بحلوها ومُرِّها وسَرَّائها وضَرَّائها.
ومما يدخل في هذا الباب: الاحتفال بالمناسبات والذكريات الدينية
والقومية والوطنية، إحياء ونشرا لمعانيها وقِـيَمها، واسحضارا لدروسها
وعِـبَـرها.
على أن الاحتفال ببعض المناسبات الإسلامية - كذكرى المولد النبوي
الشريف مثلا - ما زال يثير تحفظا وجدلا لدى كثير من الفئات المتدينة، وحتى
عند كثير من العلماء، على اعتبار أن ذلك ضرب من الابتداع في الدين، أو هو
مدخل ومجال للبدع والمحدثات، التي لم تَرِدْ فيها سنة نبوية ولا عمِلَ بها
السلف الصالح المقتدى بهم.
وفصلُ الخطاب عندي في هذه المسألة، يكمن في التمييز بين ما هو من
قبيل العبادات المحددة الثابتة، التي ليس لأحد أن يقدم فيها أو يؤخر، ولا
أن يزيد فيها أو ينقص، وما هو من قبيل العمل الثقافي والاجتماعي.
فالاحتفال بالمولد النبوي، أو بذكرى الهجرة النبوية، يكون بدعة لمن اعتبره
عبادة ومارسه على هذا الأساس، أو لمن اتخذ فيه عبادة إضافية، كتخصيصه
بصلاة أو صيام أو عمرة أو ذكر معين.
وأما الاحتفال بهذه المناسبات للمعاني والمقاصد الثقافية والتربوية
والاجتماعية، فهو من باب (وذكرهم بأيام الله)، فهو وسيلةُ توعيةٍ وتربية
وتعبئة دعوية ووطنية...
وهذا يقال - ولو مع الفارق- في الاحتفاء والاحتفال بعظمائنا
وشخصياتنا الإسلامية، من العلماء والمجاهدين ومؤسسي الدول والمفكرين
المبدعين، ابتداء من الصحابة والتابعين، إلى غيرهم من القدامى والمحدثين.
وها هي مناسبات وشخصيات قريبة منا وتنتمي إلى زماننا قد أصبحت باهتة
أو متلاشية في أذهاننا بفعل الإهمال وعدم الاحتفال. فأي مكانة وأي حضور
الآن - على سبيل المثال - لعبد الكريم الخطابي، ومحمد بن عبد الكبير
الكتاني، ومحمد بن جعفر الكتاني، وشعيب الدكالي، ومحمد بن العربي العلوي،
والمختار السوسي، وعلال الفاسي، ومحمد بن الحسن الوزاني، وعبد الخالق
الطريس، ومحمد الحجوي الثعالبي، وعبد العزيز بن ادريس، وعبد الله كنون،
والمهدي بن عبود، وإبراهيم الكتاني، ومحمد المنوني، وأحمد الأخضر غزال
...؟؟ متى تمر بنا الذكرى العاشرة أو العشرون أو الخمسون لميلادهم أو
لوفاتهم أو لبعض إنجازاتهم ومواقفهم ...؟ مع أن هذه كلها مناسبات ومحطات
للاعتبار والاستلهام والتأسي واستخلاص الدروس.
وعما قريب تُقبِل علينا السنة الميلادية الجديدة، فتتحرك - على مدى
عدة أسابيع - أصناف من الاستعدادات والاحتفالات، وتزدهر الخمور والمخدرات،
والرذائل والمنكرات. ولكننا ننسى- أو نتجاهل- أن بداية السنة الهجرية ستحل
بنا هذه المرة قبل بداية السنة الميلادية بنحو أسبوعين. فلماذا لا يتجند
الدعاة والأدباء والشعراء والفنانون والإعلاميون والأساتذة والمعلمون،
للاحتفال بسنتنا الهجرية الجديدة، وملء الساحة بما نريد وما يفيد، قبل أن
يُفرض علينا ما لا نريد وما يضر ولا يفيد؟! علما بأن المناسبة - أي مناسبة
- تُحدث لدى الناس مزيدَ إقبال واهتمام واستعداد وتفاعل. ويزداد ذلك كله
بقدر ما يكون الاحتفاء جماعيا وحماسيا، وبقدر ما للمناسبة من مكانة في
النفوس. فهذا مما جرت به سنة الله تعالى في خلقه. ولذلك قالوا: «المناسبة
شرط». وعلى ذكر رأس السنة الهجرية نتذكر شيئا من صميم موضوعنا الذي هو
التذكير بأيام الله. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدِم رسول الله
صلى الله عليه وسلم المدينةَ فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء (أي اليوم
العاشر من محرم)، فقال لهم (أي لليهود): «ما هذا؟» قالوا: يوم عظيم نجى
الله فيه موسى وأغرق آل فرعون، فصامه موسى شكرا لله، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «أنا أَوْلـى بموسى، وأحق بصيامه منكم»، فصامه وأمر
بصيامه».
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فقد قررت حكومة العدو الإسرائيلي مؤخرا
منع الفلسطينيين من الاحتفال بذكرى النكبة، لأنهم لا يريدون لهم التذكر
وأخذ العبرة والفائدة من هذه المناسبة. كما قررت حذفا إجباريا لكلمة
«النكبة» من الكتب والمقررات المدرسية للفلسطينيين. إنهم - ببساطة -
يمنعون وينقضون ما أرسل به نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام، وهو التذكير
بأيام الله!
المشهودة، كنزول القرآن الكريم، وليلة القدر، ومعركة بدر وأمثالِـها من
الوقائع التاريخية، وعيدِ الفطر الذي ليس سوى تتويجٍ لرمضان واحتفالٍ
بمكاسبه وغنائمه. فعيد الفطر تابع لشهر رمضان وإن كان يقع في شهر شوال. بل
إن شهر رمضان كله يمكن اعتباره يوما واحدا من أيام الإسلام والمسلمين، أو
هو يوم من (أيام الله)، حسب التعبير القرآني.
فلفظ (الأيام) أو (أيام الله) يعبر به عن الوقائع واللحظات التاريخية
المشهودة والحاسمة، وهي الأيام التي تختصر تواريخ الأمم وترسم ملامحها
وتوجه مساراتها، وتكون فيها عبرةٌ لمن يعتبر. وهذا واضح - على سبيل المثال
- في العنوان الذي اتخذه ابن خلدون لكتابه حين سماه: (كتاب العِـبَـر،
وديوان المبتدإ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي
السلطان الأكبر)
فالتاريخ في جوهره إنما هو (أيام وعبر) أو هو (أيام فيها عبر)
ومن تعابير العرب قولهم: فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعها
وتواريخها. وقال تعالى «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ» [آل عمران/140]
ما أريد تناوله وبيانه في هذا المقال هو أن معرفة (أيام الله)،
والاعتبارَ بها، هو جزء من الدين وجزء من رسالة الأنبياء. وهو صريح قول
الله تبارك وتعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ
قَوْمَكَ مِنَ الظُّـلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ
اللَّه ِإِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ»
[إبراهيم/5]
فقد حددت هذه الآية الكريمة رسالة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام في أمرين هما:
إخراج بني إسرائيل من الظلمات إلى النور.
وبعبارة أخرى، فرسالة موسى هي: تبليغ آيات الله، والتذكير بأيام الله.
وليس هذا خاصا بموسى كما قد يفهم من الآية المذكورة، بل هي سنة الله
في عامة أنبيائه ورسله، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم. فمن المعلوم أن
حيزا كبيرا من القرآن الكريم إنما هو تذكير بأيام الله ودعوة للاعتبار
بها.
وقد خاطب الله تعالى نبيَّ القرآن بقوله: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَس [الأعراف/176]
وقال سبحانه: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب» [يوسف:111].
وقال: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَار» [آل عمران/13] .
وقد سارت السنة النبوية كعادتها على نفس النهج، فأكثرت من ذكر نماذج
ممن كانوا قبلنا، منبهة إلى ما في حياتهم وأفعالهم من دروس وعبر، ومنها
هذا الحديث الذي أهديه إلى المتمسكين بالخمر، لعلهم يدركون مقدار جنايتهم
على البلاد والعباد. قال عليه الصلاة والسلام: « اجتنبوا أم الخبائث؛ فإنه
كان رجل ممن قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فعَلِـقَـتْـه (أي عشقته) امرأة
فأرسلت إليه خادما، فقالت : إنا ندعوك لشهادة، فدخل فطفقت كلما يدخل بابا
أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة جالسة، وعندها غلام وباطية (إناء)
فيها خمر، فقالت : إنا لم ندعك لشهادة، ولكن دعوتك لتقتل هذا الغلام، أو
تقع علي ( وهذا هو غرضها الحقيقي)، أو تشرب كأسا من هذا الخمر، فإن أبيتَ
صحتُ بك وفضحتك. فلما رأى أنه لا بد له من ذلك، قال : اسقيني كأسا من هذا
الخمر، فسقته كأسا من الخمر، فقال : زيديني، فلم يزل حتى وقع عليها، وقتل
النفس.. فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر في صدر
رجل أبدا، لَيوشِكنَّ أحدهما يُـخرج صاحبه ».
فدعوة الرسل ومن يقوم مقامهم من العلماء والدعاة والمصلحين، يجب أن
تقوم على النظر في آيات الله، والنظر في أيام الله. وأيامُ الله هي
التاريخ، أو هي الجزء الأهم من التاريخ.
قال العلامة ابن خلدون رحمه الله في بيان أهمية التاريخ: «أما بعد
فإن التاريخ فنٌّ من الفنون، تتداوله الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائب
والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال،
وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار
تاريخٍ عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُول، تنمو فيها الأقوال،
وتُضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن
الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا
الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال»(تاريخ ابن خلدون 1/ 3).
فهذا عن الجوانب الظاهرية من التاريخ، ولكن التاريخ فيه ما هو أعمق
وأنفع؛ ولذلك أضاف ابن خلدون قائلا: «وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل
للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك
أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق».
وإذا كان ابن رشد قد كتب لنا «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة
من الاتصال»، فإن ابن خلدون يلفت الأنظار إلى ما بين التاريخ والشريعة من
وجوه الحكمة والاعتبار.
ورغم هذا، فقد أهمل كثير من العلماء والدعاة التاريخ وزهدوا في قيمته
ونفائسه التي نبه إليها ابن خلدون، حتى اضطر المحدث الكبير الحافظ شمس
الدين السخاوي إلى الدفاع عن التاريخ وبيان فوائده ومقاصده والرد على بعض
الفقهاء المستخِـفِّين به، فوضع لذلك كتابه الشهير(الإعلان بالتوبيخ لمن
ذم التوريخ).
وإذا كان للتاريخ أهله المتخصصون فيه كما هو شأن سائر العلوم، فإن
عامة الناس لا يستغنون عن معرفة شيء من أحداثه ومحطاته الكبرى، وهي المعبر
عنها بأيام الله، أي الوقائع التي تُذَكِّر الناس وتُبصِّرهم بحِكَمِ الله
ونعمه وسننه في خلقه، بحلوها ومُرِّها وسَرَّائها وضَرَّائها.
ومما يدخل في هذا الباب: الاحتفال بالمناسبات والذكريات الدينية
والقومية والوطنية، إحياء ونشرا لمعانيها وقِـيَمها، واسحضارا لدروسها
وعِـبَـرها.
على أن الاحتفال ببعض المناسبات الإسلامية - كذكرى المولد النبوي
الشريف مثلا - ما زال يثير تحفظا وجدلا لدى كثير من الفئات المتدينة، وحتى
عند كثير من العلماء، على اعتبار أن ذلك ضرب من الابتداع في الدين، أو هو
مدخل ومجال للبدع والمحدثات، التي لم تَرِدْ فيها سنة نبوية ولا عمِلَ بها
السلف الصالح المقتدى بهم.
وفصلُ الخطاب عندي في هذه المسألة، يكمن في التمييز بين ما هو من
قبيل العبادات المحددة الثابتة، التي ليس لأحد أن يقدم فيها أو يؤخر، ولا
أن يزيد فيها أو ينقص، وما هو من قبيل العمل الثقافي والاجتماعي.
فالاحتفال بالمولد النبوي، أو بذكرى الهجرة النبوية، يكون بدعة لمن اعتبره
عبادة ومارسه على هذا الأساس، أو لمن اتخذ فيه عبادة إضافية، كتخصيصه
بصلاة أو صيام أو عمرة أو ذكر معين.
وأما الاحتفال بهذه المناسبات للمعاني والمقاصد الثقافية والتربوية
والاجتماعية، فهو من باب (وذكرهم بأيام الله)، فهو وسيلةُ توعيةٍ وتربية
وتعبئة دعوية ووطنية...
وهذا يقال - ولو مع الفارق- في الاحتفاء والاحتفال بعظمائنا
وشخصياتنا الإسلامية، من العلماء والمجاهدين ومؤسسي الدول والمفكرين
المبدعين، ابتداء من الصحابة والتابعين، إلى غيرهم من القدامى والمحدثين.
وها هي مناسبات وشخصيات قريبة منا وتنتمي إلى زماننا قد أصبحت باهتة
أو متلاشية في أذهاننا بفعل الإهمال وعدم الاحتفال. فأي مكانة وأي حضور
الآن - على سبيل المثال - لعبد الكريم الخطابي، ومحمد بن عبد الكبير
الكتاني، ومحمد بن جعفر الكتاني، وشعيب الدكالي، ومحمد بن العربي العلوي،
والمختار السوسي، وعلال الفاسي، ومحمد بن الحسن الوزاني، وعبد الخالق
الطريس، ومحمد الحجوي الثعالبي، وعبد العزيز بن ادريس، وعبد الله كنون،
والمهدي بن عبود، وإبراهيم الكتاني، ومحمد المنوني، وأحمد الأخضر غزال
...؟؟ متى تمر بنا الذكرى العاشرة أو العشرون أو الخمسون لميلادهم أو
لوفاتهم أو لبعض إنجازاتهم ومواقفهم ...؟ مع أن هذه كلها مناسبات ومحطات
للاعتبار والاستلهام والتأسي واستخلاص الدروس.
وعما قريب تُقبِل علينا السنة الميلادية الجديدة، فتتحرك - على مدى
عدة أسابيع - أصناف من الاستعدادات والاحتفالات، وتزدهر الخمور والمخدرات،
والرذائل والمنكرات. ولكننا ننسى- أو نتجاهل- أن بداية السنة الهجرية ستحل
بنا هذه المرة قبل بداية السنة الميلادية بنحو أسبوعين. فلماذا لا يتجند
الدعاة والأدباء والشعراء والفنانون والإعلاميون والأساتذة والمعلمون،
للاحتفال بسنتنا الهجرية الجديدة، وملء الساحة بما نريد وما يفيد، قبل أن
يُفرض علينا ما لا نريد وما يضر ولا يفيد؟! علما بأن المناسبة - أي مناسبة
- تُحدث لدى الناس مزيدَ إقبال واهتمام واستعداد وتفاعل. ويزداد ذلك كله
بقدر ما يكون الاحتفاء جماعيا وحماسيا، وبقدر ما للمناسبة من مكانة في
النفوس. فهذا مما جرت به سنة الله تعالى في خلقه. ولذلك قالوا: «المناسبة
شرط». وعلى ذكر رأس السنة الهجرية نتذكر شيئا من صميم موضوعنا الذي هو
التذكير بأيام الله. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدِم رسول الله
صلى الله عليه وسلم المدينةَ فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء (أي اليوم
العاشر من محرم)، فقال لهم (أي لليهود): «ما هذا؟» قالوا: يوم عظيم نجى
الله فيه موسى وأغرق آل فرعون، فصامه موسى شكرا لله، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «أنا أَوْلـى بموسى، وأحق بصيامه منكم»، فصامه وأمر
بصيامه».
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فقد قررت حكومة العدو الإسرائيلي مؤخرا
منع الفلسطينيين من الاحتفال بذكرى النكبة، لأنهم لا يريدون لهم التذكر
وأخذ العبرة والفائدة من هذه المناسبة. كما قررت حذفا إجباريا لكلمة
«النكبة» من الكتب والمقررات المدرسية للفلسطينيين. إنهم - ببساطة -
يمنعون وينقضون ما أرسل به نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام، وهو التذكير
بأيام الله!
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
التراويح التراويح تتم في ضيافة الرحمن وعلى مائدة القرآن
خفت شهر غشت وسطع شهر رمضان.
وها هي المهرجانات خنَست، وصلاة التراويح عمَّت.
طيلة الصيف وقبله، كان أرباب المهرجانات وسدنتها يفتخرون بأن عددها
يناهز المائة مهرجان، وأن زبائنهم - أو ضحاياهم - يُعدُّون في مجموعهم
بمئات الألوف من المتفرجين ومن المراهقين الكبار والصغار... وهذا صحيح،
ولا ننكر أن المغرب قد سجل - أو يوشك - أعلى نسبة في العالم من المهرجانات
والحفلات، قياسا إلى عدد سكانه.
الآن جاءت التراويح، لتعم بكل تلقائية جميع المدن، وجميع الأحياء، وجميع القرى. ولكن شتان ما بين الثرى والثريا...
التراويح تتم في ضيافة الرحمن، وعلى مائدة القرآن، بينما المهرجانات
تتم في ضيافة الشياطين وعلى مائدة المبذرين. «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ
كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ» [الإسراء/27]
التراويح كلها عبادة وسكينة، وثقافة ورياضة، وأخلاق وتربية... يأتيها الإنسان راضيا ويخرج منها مرضيا.
والمهرجانات معظمها ضجيج وصخب، وخمر وحشيش، وعربدة وبلطجة، وسرقات ومشاجرات... والتفاصيل مسجلة في محاضر الشرطة وتقاريرها.
التراويح يؤمها ملايين الناس كل يوم على مدى شهر كامل. ملايين
المصلين ينتظمون في صفوف التراويح، مع أنها نافلة تطوعية ليس فيها إلزام
من الشرع ولا إكراه من الدولة. وهم يأتونها بدون لافتات ولا إغراءات،
وبدون ملصقات دعائية ولا وَصلات إشهارية، كما يفعل أرباب المهرجانات
وأنصارها مع بضاعتهم.
المهرجانات تتطلب التعبئة والاستنفار - فعليا واحتياطيا - لعدد كبير
من رجال الشرطة، ومن الحراس الأمنيين الخصوصيين، ومن المنظمين والمسيرين،
ومن الأطباء والممرضين... وتقف وراءها جمعيات ومنظمات ومؤسسات رسمية.
أما التراويح، فهي مريحة ومستريحة، كما يدل على ذلك اسمها المشتق من
الراحة. فهي تقوم وتنتظم بنفسها، بلا جند ولا جهد، ولا تعب ولا صخب.
المهرجانات تعول بالدرجة الأولى على استقدام نساء معروفات، فنانات
في نهب الأموال وتهييج الرجال واللعب على الحبال. ويتطلب إحضارهن تدخلات
من معالي الوزير وتوسلات من سعادة السفير، وشهورا من التحضير والتبذير،
لعل فنانتهم المدللة تقبل وتأتي لتتعرى وتثير ...
أما التراويح فلا تحتاج إلا إلى شخص واحد، متطوعٍ أو شبه متطوع، حافظٍ لكتاب الله، يتلو على الناس مما علمه الله.
مهرجانات مملكتنا الشريفة ترصد لها ميزانيات ضخمة خيالية، تُستخرج من
الصناديق السوداء والحمراء. أما التراويح فلا تكلف دينارا ولا دولارا.
بعض الناس يتصورون أو يزعمون أن هذه المهرجانات قد تأسست لخدمة
الثقافة والفن، وأنها تشكل نهضة فنية كبرى، وأن من ينتقدونها مناهضون
وأعداء للفن، ويسعون إلى مصادرة الحق في الفن والحق في الموسيقى. وهذا
وهْمٌ وخلط وتلبيس.
وأنا لا أتحدث عما قد يكون من حالات استثنائية وحالات نادرة، من بعض
المهرجانات والتظاهرات التي قد يكون فيها شيء من الفن أو شيء من الثقافة،
لأن النادر له حكمه الخاص، ولا حكم له على الغالب السائد الذي نتحدث عنه.
أما هذه المهرجانات السائدة فهي أولا أكبر إفساد للثقافة وللقابلية الثقافية عند زبنائها. فهي ليست سوى جائحة ثقافية وقحط ثقافي.
وأما الفن، فهو ضحية أخرى من ضحايا المهرجانات. لقد تم تمييعه وتسييسه
واستئجاره لإلهاء الناس عامة، وإلهاء الشباب خاصة، والتنفيس الوهمي
لهمومهم ومعاناتهم.
لقد صارت المهرجانات «الفنية» من أهم الحلول الترقيعية لمشكلة
البطالة والفراغ، ومن بين العقاقير المسَكِّنة للتذمر والقلق الاجتماعي،
ومن البدائل المفضلة لمشكلة التدين والتطرف. إنها باختصار: خطة ووسيلة
«فنية» لتغطية المشاكل وترحيلها وتأجيل حلها. فهذه هي مكانة الفن ووظيفته
في سياسة المهرجانات.
لقد أصبح الفن في المفهوم المهرجاناتي مساويا للفرجة والتفريج
(تفريج الكروب بالانشغال عنها). فكما من عادة الناس أن يهبوا ويزدحموا
للتفرج على المشاجرات وعلى حوادث السير وعلى مطاردة الهاربين، فإنهم يهبون
ويسارعون أكثر نحو «التفريجة» المنظمة والمنوعة والمزركشة بكل عوامل
الإثارة والجاذبية والتخدير الفكري والنفسي ...
ولا بد هنا أن نتذكر ونذكر أن مهندس السياسة المهرجاناتية لم يكن
وزيرا للثقافة والفنون الجميلة، ولا وزيرا للتربية والتهذيب الوطني، ولا
وزيرا للإعلام، ولا مجلسا أعلى للفنون والآداب... مهندس سياسة المهرجانات
لم يكن سوى وزير الداخلية إدريس البصري عفا الله عنا وعنه. ومن هنا نعرف
أن فكرة المهرجانات لم تكن أبدا وليدة اهتمامات وتطلعات فنية ثقافية، ولا
هي «خدمة فنية ورسالة سامية» بادرت بها جهات فنية ثقافية أو جهات مهتمة
بالثقافة والفنون، وإنما هي وليدة اهتمامات سياسية أمنية، فهي «خدمة أمنية
وأداة سياسية»، صنعتها واحتضنتها الجهات المختصة، ثم انخرطت فيها بعد ذلك
جهات أخرى لغايات ومكاسب مختلفة...
المشكلة الآن هي أن سياسة المهرجانات أصبحت تحظى بنوع من القدسية
باعتبارها نوعا من الجهاد المقدس، حتى لقد أصبحنا نخشى أن يسند الإشراف
عليها إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية... لقد أصبح الكثير من
السياسيين والصحفيين والدارسين يتخوفون من نقد سياسة المهرجانات وتشريحها
وكشف خفاياها وعوراتها. وأما القليلون الذين يطرقون هذا الباب، فغالبا ما
يقفون عند حد الإشارة إلى الجوانب المالية وما يشوبها وما يتعلق بها من
تساؤلات لا تجد جوابا...
وقبل مدة قرأت مقالا تحليليا جيدا للأستاذ محمد الساسي عن
المهرجانات، ذكَّر فيه ببعض أهدافها السياسية المعروفة - من محاربة اليسار
في البداية، إلى محاربة الإسلاميين مؤخرا - ثم قال: «ولكن ذلك لا يعني حق
الدولة أن تحول المهرجانات إلى مؤسسة مقدسة، لأنها تخوض من خلال تلك
المؤسسة ما يشبه الحرب المقدسة. ولأننا نتقاطع مع الدولة في رفع شعار الحق
في الموسيقى، ونعتبر كذلك أن هناك من يستهدف هذا الحق، فهذا التقاطع لا
يملي علينا التزاما بأن نلوذ بالصمت. فتدبير المهرجانات يجب أن يخضع
لرقابة ممثلي الشعب وللمؤسسات المختصة. ووجود شخصيات مقربة من الدولة على
رأس الجمعيات المشرفة على المهرجانات لا يتعين أن يعطل بوجه من الوجوه تلك
الرقابة»
وإذا كانت الرقابة المالية والافتحاص المالي لهذه المهرجانات أمرا
مشروعا وواجبا مؤكدا، فإن ما هو أهم منه وآكد وأخطر، هو الفحص السياسي
والثقافي والأخلاقي والاجتماعي لهذه المهرجانات. ماذا تجلب لنا وعلينا؟
وماذا تحقق لمجتمعنا ومواطنينا وشبابنا من فوائد ومفاسد ومن أرباح وخسائر؟
على أن المحاسبة المالية لهذه المهرجانات لا تقف عند التحقق من
مشروعية الإنفاق وسلامته من الناحية القانونية والمسطرية، ولا تقف عند
البحث عما يجري فيها من تلاعبات واختلاسات ومبالغات، بل يجب أن يمتد إلى
التوقف عند حجم الأموال وسخاء العطايا والهدايا، وما يسميه الوافدون
الأجانب بكرم الضيافة المغربية، وهل هذه المهرجانات تستحق كل ذلك؟ وهل هي
الأجدر والأولى بتلك الأموال في سلم نفقات الدولة واحتياجات المجتمع؟ وهل
المهرجانات أجدى وأحق بالأموال من الصحة والتعليم والبحث العلمي والتشغيل
ومشاريع التنمية البشرية...؟
فهل تستطيع الدولة والوزارات المعنية أن تنجز لنا دراسة علمية
وتقييما محايدا لهذا الموضوع بكل جوانبه؟. قطعا لا تستطيع ذلك ولن تفعله.
ولكن هل تقوم بهذا العمل أحزاب أو هيئات صحفية أو مؤسسات مجتمعية أو باحثون مستقلون؟ هذا ما أرجوه.
وها هي المهرجانات خنَست، وصلاة التراويح عمَّت.
طيلة الصيف وقبله، كان أرباب المهرجانات وسدنتها يفتخرون بأن عددها
يناهز المائة مهرجان، وأن زبائنهم - أو ضحاياهم - يُعدُّون في مجموعهم
بمئات الألوف من المتفرجين ومن المراهقين الكبار والصغار... وهذا صحيح،
ولا ننكر أن المغرب قد سجل - أو يوشك - أعلى نسبة في العالم من المهرجانات
والحفلات، قياسا إلى عدد سكانه.
الآن جاءت التراويح، لتعم بكل تلقائية جميع المدن، وجميع الأحياء، وجميع القرى. ولكن شتان ما بين الثرى والثريا...
التراويح تتم في ضيافة الرحمن، وعلى مائدة القرآن، بينما المهرجانات
تتم في ضيافة الشياطين وعلى مائدة المبذرين. «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ
كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ» [الإسراء/27]
التراويح كلها عبادة وسكينة، وثقافة ورياضة، وأخلاق وتربية... يأتيها الإنسان راضيا ويخرج منها مرضيا.
والمهرجانات معظمها ضجيج وصخب، وخمر وحشيش، وعربدة وبلطجة، وسرقات ومشاجرات... والتفاصيل مسجلة في محاضر الشرطة وتقاريرها.
التراويح يؤمها ملايين الناس كل يوم على مدى شهر كامل. ملايين
المصلين ينتظمون في صفوف التراويح، مع أنها نافلة تطوعية ليس فيها إلزام
من الشرع ولا إكراه من الدولة. وهم يأتونها بدون لافتات ولا إغراءات،
وبدون ملصقات دعائية ولا وَصلات إشهارية، كما يفعل أرباب المهرجانات
وأنصارها مع بضاعتهم.
المهرجانات تتطلب التعبئة والاستنفار - فعليا واحتياطيا - لعدد كبير
من رجال الشرطة، ومن الحراس الأمنيين الخصوصيين، ومن المنظمين والمسيرين،
ومن الأطباء والممرضين... وتقف وراءها جمعيات ومنظمات ومؤسسات رسمية.
أما التراويح، فهي مريحة ومستريحة، كما يدل على ذلك اسمها المشتق من
الراحة. فهي تقوم وتنتظم بنفسها، بلا جند ولا جهد، ولا تعب ولا صخب.
المهرجانات تعول بالدرجة الأولى على استقدام نساء معروفات، فنانات
في نهب الأموال وتهييج الرجال واللعب على الحبال. ويتطلب إحضارهن تدخلات
من معالي الوزير وتوسلات من سعادة السفير، وشهورا من التحضير والتبذير،
لعل فنانتهم المدللة تقبل وتأتي لتتعرى وتثير ...
أما التراويح فلا تحتاج إلا إلى شخص واحد، متطوعٍ أو شبه متطوع، حافظٍ لكتاب الله، يتلو على الناس مما علمه الله.
مهرجانات مملكتنا الشريفة ترصد لها ميزانيات ضخمة خيالية، تُستخرج من
الصناديق السوداء والحمراء. أما التراويح فلا تكلف دينارا ولا دولارا.
بعض الناس يتصورون أو يزعمون أن هذه المهرجانات قد تأسست لخدمة
الثقافة والفن، وأنها تشكل نهضة فنية كبرى، وأن من ينتقدونها مناهضون
وأعداء للفن، ويسعون إلى مصادرة الحق في الفن والحق في الموسيقى. وهذا
وهْمٌ وخلط وتلبيس.
وأنا لا أتحدث عما قد يكون من حالات استثنائية وحالات نادرة، من بعض
المهرجانات والتظاهرات التي قد يكون فيها شيء من الفن أو شيء من الثقافة،
لأن النادر له حكمه الخاص، ولا حكم له على الغالب السائد الذي نتحدث عنه.
أما هذه المهرجانات السائدة فهي أولا أكبر إفساد للثقافة وللقابلية الثقافية عند زبنائها. فهي ليست سوى جائحة ثقافية وقحط ثقافي.
وأما الفن، فهو ضحية أخرى من ضحايا المهرجانات. لقد تم تمييعه وتسييسه
واستئجاره لإلهاء الناس عامة، وإلهاء الشباب خاصة، والتنفيس الوهمي
لهمومهم ومعاناتهم.
لقد صارت المهرجانات «الفنية» من أهم الحلول الترقيعية لمشكلة
البطالة والفراغ، ومن بين العقاقير المسَكِّنة للتذمر والقلق الاجتماعي،
ومن البدائل المفضلة لمشكلة التدين والتطرف. إنها باختصار: خطة ووسيلة
«فنية» لتغطية المشاكل وترحيلها وتأجيل حلها. فهذه هي مكانة الفن ووظيفته
في سياسة المهرجانات.
لقد أصبح الفن في المفهوم المهرجاناتي مساويا للفرجة والتفريج
(تفريج الكروب بالانشغال عنها). فكما من عادة الناس أن يهبوا ويزدحموا
للتفرج على المشاجرات وعلى حوادث السير وعلى مطاردة الهاربين، فإنهم يهبون
ويسارعون أكثر نحو «التفريجة» المنظمة والمنوعة والمزركشة بكل عوامل
الإثارة والجاذبية والتخدير الفكري والنفسي ...
ولا بد هنا أن نتذكر ونذكر أن مهندس السياسة المهرجاناتية لم يكن
وزيرا للثقافة والفنون الجميلة، ولا وزيرا للتربية والتهذيب الوطني، ولا
وزيرا للإعلام، ولا مجلسا أعلى للفنون والآداب... مهندس سياسة المهرجانات
لم يكن سوى وزير الداخلية إدريس البصري عفا الله عنا وعنه. ومن هنا نعرف
أن فكرة المهرجانات لم تكن أبدا وليدة اهتمامات وتطلعات فنية ثقافية، ولا
هي «خدمة فنية ورسالة سامية» بادرت بها جهات فنية ثقافية أو جهات مهتمة
بالثقافة والفنون، وإنما هي وليدة اهتمامات سياسية أمنية، فهي «خدمة أمنية
وأداة سياسية»، صنعتها واحتضنتها الجهات المختصة، ثم انخرطت فيها بعد ذلك
جهات أخرى لغايات ومكاسب مختلفة...
المشكلة الآن هي أن سياسة المهرجانات أصبحت تحظى بنوع من القدسية
باعتبارها نوعا من الجهاد المقدس، حتى لقد أصبحنا نخشى أن يسند الإشراف
عليها إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية... لقد أصبح الكثير من
السياسيين والصحفيين والدارسين يتخوفون من نقد سياسة المهرجانات وتشريحها
وكشف خفاياها وعوراتها. وأما القليلون الذين يطرقون هذا الباب، فغالبا ما
يقفون عند حد الإشارة إلى الجوانب المالية وما يشوبها وما يتعلق بها من
تساؤلات لا تجد جوابا...
وقبل مدة قرأت مقالا تحليليا جيدا للأستاذ محمد الساسي عن
المهرجانات، ذكَّر فيه ببعض أهدافها السياسية المعروفة - من محاربة اليسار
في البداية، إلى محاربة الإسلاميين مؤخرا - ثم قال: «ولكن ذلك لا يعني حق
الدولة أن تحول المهرجانات إلى مؤسسة مقدسة، لأنها تخوض من خلال تلك
المؤسسة ما يشبه الحرب المقدسة. ولأننا نتقاطع مع الدولة في رفع شعار الحق
في الموسيقى، ونعتبر كذلك أن هناك من يستهدف هذا الحق، فهذا التقاطع لا
يملي علينا التزاما بأن نلوذ بالصمت. فتدبير المهرجانات يجب أن يخضع
لرقابة ممثلي الشعب وللمؤسسات المختصة. ووجود شخصيات مقربة من الدولة على
رأس الجمعيات المشرفة على المهرجانات لا يتعين أن يعطل بوجه من الوجوه تلك
الرقابة»
وإذا كانت الرقابة المالية والافتحاص المالي لهذه المهرجانات أمرا
مشروعا وواجبا مؤكدا، فإن ما هو أهم منه وآكد وأخطر، هو الفحص السياسي
والثقافي والأخلاقي والاجتماعي لهذه المهرجانات. ماذا تجلب لنا وعلينا؟
وماذا تحقق لمجتمعنا ومواطنينا وشبابنا من فوائد ومفاسد ومن أرباح وخسائر؟
على أن المحاسبة المالية لهذه المهرجانات لا تقف عند التحقق من
مشروعية الإنفاق وسلامته من الناحية القانونية والمسطرية، ولا تقف عند
البحث عما يجري فيها من تلاعبات واختلاسات ومبالغات، بل يجب أن يمتد إلى
التوقف عند حجم الأموال وسخاء العطايا والهدايا، وما يسميه الوافدون
الأجانب بكرم الضيافة المغربية، وهل هذه المهرجانات تستحق كل ذلك؟ وهل هي
الأجدر والأولى بتلك الأموال في سلم نفقات الدولة واحتياجات المجتمع؟ وهل
المهرجانات أجدى وأحق بالأموال من الصحة والتعليم والبحث العلمي والتشغيل
ومشاريع التنمية البشرية...؟
فهل تستطيع الدولة والوزارات المعنية أن تنجز لنا دراسة علمية
وتقييما محايدا لهذا الموضوع بكل جوانبه؟. قطعا لا تستطيع ذلك ولن تفعله.
ولكن هل تقوم بهذا العمل أحزاب أو هيئات صحفية أو مؤسسات مجتمعية أو باحثون مستقلون؟ هذا ما أرجوه.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
ظهور دعاة ترسيم العامية وإحلالها محل اللغة العربية وجه من وجوه الاحتيال لتشكيل هويةجديدة للمغرب
من يتابع المسألة اللغوية والسياسة اللغوية بالمغرب الحديث، والجدالات
المتواصلة حولها، منذ استقلال المغرب وإلى الآن، يحس أنه أمام بلد ما زال
يبحث عن هوية، وأنه يعيش مخاض ولادة وتَشَكّل...
فمِن فرْنَسَةٍ شبهِ تامة للغة الإدارة والتعليم، إلى محاولات
متعثرة للتعريب، إلى نصف تعريب أو رُبع تعريب، إلى الانقلاب على التعريب
ونِصفِه ورُبعِه، إلى مناهضة صريحة لكل خطوة جديدة نحو التعريب، إلى
التعهد بإنشاء «أكاديمية اللغة العربية»، إلى القرار السري بمنع إقامتها،
إلى محاولة فرنَسَة اللغة والكتابة الأمازيغية، إلى التخلي عن كتابتها
بالحرف العربي الذي كتبت به منذ قرون وقرون ... إلى ظهور نابتة جديدة من
دعاة ترسيم العامية وإحلالها محل اللغة العربية، إلى غير ذلك من وجوه
التخبط والاحتيال والالتفاف ومحاولات تشكيل جديد لهوية المغرب، أو على
الأقل جعله بدون هوية...
وكل هذا يستمر ويتكرر منذ نصف قرن ويزيد، وهو زمن أكثر من كثير لحسم هذه القضية، فكيف وهي محسومة شعبيا وتاريخيا ودستوريا؟؟!!
لو أردنا قرارات سياسية تتخذها الجهات الممثلة للأمة، أو الجهات ذات
القرار والتنفيذ، فهي أسهل شيء في هذا الباب. ولكن ها هنا مكمن الداء!
ولو أردنا دراسة الموضوع دراسة علمية استراتيجية شاملة، يتولاها
علماء خبراء مختصون أكفاء، تنـتهي إلى نتائج وتوصيات موضوعية، فهذا يمكن
إنجازه في سنتين أو ثلاث، فنعتمد ذلك، ويكون منهجنا علميا واختيارنا
علميا. ولو أردنا الرجوع إلى الشعب صاحب السيادة كما يقال، وكما ينص الفصل
الثاني من الدستور المغربي، فالاستفتاء ممكن في كل وقت وحين، ويمكن أن
نُعِدَّ أسئلته ونقاشاته وحملته الدعائية وكل متطلباته في سنة وسنتين على
أبعد تقدير. فلماذا لا نستفتي الشعب:
ما هي اللغة التي تختارونها لغة رسمية للبلاد ولمؤسساتها الرسمية؟
هل تريدون لغة رسمية ثانية أو ثالثة، وهل هي هذه أو هذه أو هذه؟
وإلى أن يقع شيء مما سبق، فالمعول عليه الآن هو الدستور، الذي نص في
صدارته على أن «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها
الرسمية هي اللغة العربية». وهذا النص موجود في جميع الدساتير التي عُمل
بها بالمغرب. وبناء عليه فكل تهميش للغة العربية، وكل إضعاف لها، وكل
تعطيل لها أو تفضيل لغيرها عليها في مؤسسات الدولة ومعاملاتها، فهو تعطيل
وخيانة للدستور وللاستفتاءات الشعبية المتعددة التي أقرته. وأنا لا أعلم
الآن أحدا في المغرب يعترض أو يتحفظ على تعليم اللغات الأجنبية واستعمالها
والاستعانة بها، عند الحاجة، سواء في التعليم والبحث العلمي، أو في غير
ذلك من المجالات. ولكن هذا كله لا يجوز أن يكون متقدما ولا مفضلا على لغة
البلاد الرسمية، ولا على حسابها. وهذه من البديهيات الوطنية في كل بلد
يحترم نفسه ويؤمن بذاته.
العربية والأمازيغية شقيقتان لا ضَرَّتان
وأما اللغة الأمازيغية فمما لا شك فيه أنها أولى بالعناية والمكانة من
أي لغة أجنبية. ومن حقها على المغاربة وعلى الدولة المغربية تمكينها من
المكانة اللائقة بها، وكذلك تطويرها وتأهيلها، لتكون وعاء آخر لشخصية
المغرب وثقافته، ولتكون أقدر على أداء وظائفها الوطنية بشكل متواصل
ومتنام.
وليس في هذا أي تحفظ أو تردد أو إشكال، ولكن المشكلة في بعض مَن
يريدون افتعال خصومة أو معركة أمازيغية مع اللغة العربية ومكانتها الشعبية
والدستورية. فالحقيقة التاريخية والمصلحة الوطنية تفرضان أن تكون
الأمازيغية والعربية شقيقتين لا ضَرَّتين، كما يتصورهما البعض. وهذا يقتضي
العمل على تصحيح الخطأ الجسيم الذي تمثل في التخلي عن كتابة الأمازيغية
بالحروف العربية والانتقال إلى ما سمي بتيفناغ. وهذا يستدعي توضيح أمرين
مهمين:
الأمر الأول: هو أن كتابة اللغة الأمازيغية بالحروف العربية هو أقرب
طريق نحو تقويتها وتعميمها على كافة المغاربة بسهولة وتلقائية. ثم هو
الأمر الذي ارتضاه الأمازيغ وعملوا به على مدى القرون الماضية، وكان ذلك
بتلقائية بعيدة عن الحسابات النخبوية الإديولوجية، التي تتحكم في الموضوع
اليوم. كما أن كل حرف غير الحرف العربي يستعمل لكتابة الأمازيغية، سيشكل
قطيعة مع التراث الأمازيغي المكتوب بالحرف العربي، بينما الكتابة بالحرف
العربي تعزز وتنمي الوحدة الوطنية والأصالة التاريخية، وتسهل توسيع
الخريطة الجغرافية والديموغرافة لاستعمال اللغة الأمازيغية.
الأمر الثاني: هو أن اللغة - أي لغة - تتمثل حقيقتها وشخصيتها أساسا
في نطقها لا في كتابتها. فالوجود الحقيقي للغة هو اللسان وليس الخط، ولذلك
يعبَّـر عن اللغة باللسان والألسُن والألسِنة، فنقول: اللسان العربي،
واللسان الأمازيغي، واللسان الفرنسي... وعلى هذا الأساس سمَّى ابن منظور
موسوعته اللغوية (لسان العرب). وفي القرآن الكريم «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» [الروم/22]. ومن هنا أيضا
يعبر عن العلوم اللغوية وعن الدراسات اللغوية باسم: الألسُنية، أو باسم
اللسانيات. فاللغة هي اللسان والنطق، لا الكتابة والخط.
وها هم مئات الملايين من المسلمين غير العرب، من أمم ذات حضارة
وعراقة، ولها مكانة دولية اليوم أرفع مما للعرب، يكتبون لغاتهم بالحرف
العربي، في الهند وباكستان وإيران وغيرها ... ولا يمثل ذلك عندهم أي مشكلة
أو منقصة أو عائق.
وعلى كل حال فتصحيح الغلط ما زال مطلوبا وممكنا، والخطب فيه يسير.
والمصلحة الوطنية ومصلحة اللغة الأمازيغية تستدعيان هذا التصحيح، ولو بعد
إعادة دراسة المسألة دراسة علمية موضوعية.
البديل العامي للغة العربية؟!
كما أشرت سابقا وكما هو معلوم، انبعثت مؤخرا دعوات ومبادرات عديدة
ترمي إلى استعمال اللهجة العامية وترسيمها بديلا عن اللغة العربية، بحيث
تصبح اللهجةُ العامية هي لغة التعليم والتأليف والإعلام والوثائق
الإدارية... وهذه فكرة قديمة يتم إحياؤها ومحاولة فرضها من حين لآخر، في
هذا البلد أو ذاك من البلدان العربية. وقد عرفت هذه الدعوة سجالات ساخنة
بين بعض المفكرين والأدباء المصريين أوائل القرن العشرين.
ولعل مبتكرها وأقدم دعاتها هو المستشرق الألماني الدكتور ولهم سبيتا،
الذي عاش بمصر، ودرس العاميّة المصرية، وعايش حركة الإحياء والنهوض التي
كانت تعتمل داخل مصر ...وفي سنة 1880م ألّف كتاباً سمّاه (قواعد اللغة
العامية في مصر)، زعم فيه أن النهضة العلمية المصرية متوقفة على التخلص من
اللغة العربية واعتماد العامية ... ثم حمل الراية من بعده المهندس
الإنجليزي المبشر وليم ولكوكس، الذي كان مهندساً للري. فقد ألقى محاضرة
ونشرها في مجلة الأزهر سنة 1893م، أعلن فيها أنَّ الذي يؤخر المصريين عن
الاختراع والتقدم العلمي هو استعمالهم اللغة العريبة الفصحى. ولكنه بدل أن
يعلم المصريين هذه الاختراعات أو يكتب شيئا عنها بلهجتهم العامية، ترجم
لهم أجزاءً من الإنجيل إلى ما سماه اللّغة المصريّة، أي العامية المصرية.
وقد كان الكاتب المصري الشهير سلامة موسى من المعجبين بدعوة ولكوكس والمتحمسين لترويجها والدفاع عنها...
بعد ولكوكس حمل الراية أحد القضاة الإنجليز بمصر وهو سلدن ولمورفألّف
سنة 1901 كتاباً آخر في الموضوع سماه (العربية المحليّة في مصر)، دعا فيه
إلى اتخاذ العاميّة لغة أدبية، محذرا من أننا إن لم نفعل(فإنَّ لغة الحديث
العاميّة ولغة الأدب ستنقرضان وستحل محلهما لغة أجنبية نتيجة الاتصال
بالأمم الأوربية)، ثم أضاف فكرة جديدة أخرى وهي أن (خير الوسائل لتدعيم
اللغة العاميّة هي أن تَـتخذ الصحف الخطوة الأولى في هذا السبيل، وأنها
ستحظى بعون من أصحاب النفوذ..). لست أدري هل اكتشف بعض الصحفيين بالمغرب
فكرة سلدن ولمور بعد قرن من إطلاقها؟ أم أن هناك ولموريين آخرين من أصحاب
النفوذ، ما زالوا يروجون الفكرة ويمدونها بالعون المطلوب؟
من الحجج التي يتذرع بها أنصار «العامية البديلة»، هي أن كل الناس
سيفهمونها ويتفاهمون بها، ويقبلون على القراءة والتعلم بها، لأنهم أصلا
يتحدثون بها منذ ولادتهم. وبناء عليه كان المفروض أن المطبوعة التي تكتب
الآن بالعامية المغربية سيكون قراؤها بالملايين أو نحو ذلك، وأنها ستسبب
كسادا سريعا للصحف والمجلات «النخبوية» المكتوبة بالفصحى، ولكن المفاجأة
هي أنها - ورغم بهارات الإثارة فيها – تظل هي الأقل مبيعا والأكثر خسارة
في سوق الصحافة المغربية. فهل يستطيع صاحبها أن يجيبنا (نيشان) عن مبيعاته
وخسائره، وكيف يعوض الخسارة ويحصل على الربح؟؟ بالمقابل نجد على سبيل
المثال شبكة (الجزيرة) أحدثت عدة قنوات خاصة بالرياضة، وكلها ناطقة
بالعربية الفصحى. والرياضة كما هو معلوم يتابعها العامة والخاصة، ويتابعها
من غير المثقفين أضعاف من يتابعونها من المثقفين بل حتى قناة (الجزيرة
للأطفال)، وقناة (الجزيرة براعم)، اللتين تخاطبان ذوي الخمس سنين ومن
دونهم، تستعملان الفصحى بصفة كاملة، ومع ذلك فهذه القنوات يشاهدها
ويتابعها الملايين، بل يشاهدها في الساعة الواحدة مئات الأضعاف ممن
يشاهدون قنوات أخرى تستعمل العامية، ويشاهدها في الدقيقة الواحدة أكثر ممن
يقرؤون (نيشان) منذ صدورها وإلى الآن...!!!
والذي لا شك فيه - وإن كان بحاجة إلى بحث وبيان - هو أن عامة الناس
في المغرب، كما في عموم الوطن العربي، يفهمون الفصحى أكثر مما يفهمون
اللهجات الخارجة عن مناطقهم ومدنهم وقراهم. ومن الطرائف التي لا أنساها،
أن جدتي لأمي (وهي جبلية من قبيلة سُماتة)، وجدتي لأبي (وهي عْروبية من
قبيلة الخلوط)، كانتا - رحمهما الله – إذا تحدثتا لا تكاد إحداهما تفهم
شيئا مما تقوله الأخرى، وبين قريتيهما أقل من عشرين كيلومترا. وقد كانت
والدتي هي التي تترجم بينهما، لكونها تعلمت اللهجتين معا!!
المتواصلة حولها، منذ استقلال المغرب وإلى الآن، يحس أنه أمام بلد ما زال
يبحث عن هوية، وأنه يعيش مخاض ولادة وتَشَكّل...
فمِن فرْنَسَةٍ شبهِ تامة للغة الإدارة والتعليم، إلى محاولات
متعثرة للتعريب، إلى نصف تعريب أو رُبع تعريب، إلى الانقلاب على التعريب
ونِصفِه ورُبعِه، إلى مناهضة صريحة لكل خطوة جديدة نحو التعريب، إلى
التعهد بإنشاء «أكاديمية اللغة العربية»، إلى القرار السري بمنع إقامتها،
إلى محاولة فرنَسَة اللغة والكتابة الأمازيغية، إلى التخلي عن كتابتها
بالحرف العربي الذي كتبت به منذ قرون وقرون ... إلى ظهور نابتة جديدة من
دعاة ترسيم العامية وإحلالها محل اللغة العربية، إلى غير ذلك من وجوه
التخبط والاحتيال والالتفاف ومحاولات تشكيل جديد لهوية المغرب، أو على
الأقل جعله بدون هوية...
وكل هذا يستمر ويتكرر منذ نصف قرن ويزيد، وهو زمن أكثر من كثير لحسم هذه القضية، فكيف وهي محسومة شعبيا وتاريخيا ودستوريا؟؟!!
لو أردنا قرارات سياسية تتخذها الجهات الممثلة للأمة، أو الجهات ذات
القرار والتنفيذ، فهي أسهل شيء في هذا الباب. ولكن ها هنا مكمن الداء!
ولو أردنا دراسة الموضوع دراسة علمية استراتيجية شاملة، يتولاها
علماء خبراء مختصون أكفاء، تنـتهي إلى نتائج وتوصيات موضوعية، فهذا يمكن
إنجازه في سنتين أو ثلاث، فنعتمد ذلك، ويكون منهجنا علميا واختيارنا
علميا. ولو أردنا الرجوع إلى الشعب صاحب السيادة كما يقال، وكما ينص الفصل
الثاني من الدستور المغربي، فالاستفتاء ممكن في كل وقت وحين، ويمكن أن
نُعِدَّ أسئلته ونقاشاته وحملته الدعائية وكل متطلباته في سنة وسنتين على
أبعد تقدير. فلماذا لا نستفتي الشعب:
ما هي اللغة التي تختارونها لغة رسمية للبلاد ولمؤسساتها الرسمية؟
هل تريدون لغة رسمية ثانية أو ثالثة، وهل هي هذه أو هذه أو هذه؟
وإلى أن يقع شيء مما سبق، فالمعول عليه الآن هو الدستور، الذي نص في
صدارته على أن «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها
الرسمية هي اللغة العربية». وهذا النص موجود في جميع الدساتير التي عُمل
بها بالمغرب. وبناء عليه فكل تهميش للغة العربية، وكل إضعاف لها، وكل
تعطيل لها أو تفضيل لغيرها عليها في مؤسسات الدولة ومعاملاتها، فهو تعطيل
وخيانة للدستور وللاستفتاءات الشعبية المتعددة التي أقرته. وأنا لا أعلم
الآن أحدا في المغرب يعترض أو يتحفظ على تعليم اللغات الأجنبية واستعمالها
والاستعانة بها، عند الحاجة، سواء في التعليم والبحث العلمي، أو في غير
ذلك من المجالات. ولكن هذا كله لا يجوز أن يكون متقدما ولا مفضلا على لغة
البلاد الرسمية، ولا على حسابها. وهذه من البديهيات الوطنية في كل بلد
يحترم نفسه ويؤمن بذاته.
العربية والأمازيغية شقيقتان لا ضَرَّتان
وأما اللغة الأمازيغية فمما لا شك فيه أنها أولى بالعناية والمكانة من
أي لغة أجنبية. ومن حقها على المغاربة وعلى الدولة المغربية تمكينها من
المكانة اللائقة بها، وكذلك تطويرها وتأهيلها، لتكون وعاء آخر لشخصية
المغرب وثقافته، ولتكون أقدر على أداء وظائفها الوطنية بشكل متواصل
ومتنام.
وليس في هذا أي تحفظ أو تردد أو إشكال، ولكن المشكلة في بعض مَن
يريدون افتعال خصومة أو معركة أمازيغية مع اللغة العربية ومكانتها الشعبية
والدستورية. فالحقيقة التاريخية والمصلحة الوطنية تفرضان أن تكون
الأمازيغية والعربية شقيقتين لا ضَرَّتين، كما يتصورهما البعض. وهذا يقتضي
العمل على تصحيح الخطأ الجسيم الذي تمثل في التخلي عن كتابة الأمازيغية
بالحروف العربية والانتقال إلى ما سمي بتيفناغ. وهذا يستدعي توضيح أمرين
مهمين:
الأمر الأول: هو أن كتابة اللغة الأمازيغية بالحروف العربية هو أقرب
طريق نحو تقويتها وتعميمها على كافة المغاربة بسهولة وتلقائية. ثم هو
الأمر الذي ارتضاه الأمازيغ وعملوا به على مدى القرون الماضية، وكان ذلك
بتلقائية بعيدة عن الحسابات النخبوية الإديولوجية، التي تتحكم في الموضوع
اليوم. كما أن كل حرف غير الحرف العربي يستعمل لكتابة الأمازيغية، سيشكل
قطيعة مع التراث الأمازيغي المكتوب بالحرف العربي، بينما الكتابة بالحرف
العربي تعزز وتنمي الوحدة الوطنية والأصالة التاريخية، وتسهل توسيع
الخريطة الجغرافية والديموغرافة لاستعمال اللغة الأمازيغية.
الأمر الثاني: هو أن اللغة - أي لغة - تتمثل حقيقتها وشخصيتها أساسا
في نطقها لا في كتابتها. فالوجود الحقيقي للغة هو اللسان وليس الخط، ولذلك
يعبَّـر عن اللغة باللسان والألسُن والألسِنة، فنقول: اللسان العربي،
واللسان الأمازيغي، واللسان الفرنسي... وعلى هذا الأساس سمَّى ابن منظور
موسوعته اللغوية (لسان العرب). وفي القرآن الكريم «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» [الروم/22]. ومن هنا أيضا
يعبر عن العلوم اللغوية وعن الدراسات اللغوية باسم: الألسُنية، أو باسم
اللسانيات. فاللغة هي اللسان والنطق، لا الكتابة والخط.
وها هم مئات الملايين من المسلمين غير العرب، من أمم ذات حضارة
وعراقة، ولها مكانة دولية اليوم أرفع مما للعرب، يكتبون لغاتهم بالحرف
العربي، في الهند وباكستان وإيران وغيرها ... ولا يمثل ذلك عندهم أي مشكلة
أو منقصة أو عائق.
وعلى كل حال فتصحيح الغلط ما زال مطلوبا وممكنا، والخطب فيه يسير.
والمصلحة الوطنية ومصلحة اللغة الأمازيغية تستدعيان هذا التصحيح، ولو بعد
إعادة دراسة المسألة دراسة علمية موضوعية.
البديل العامي للغة العربية؟!
كما أشرت سابقا وكما هو معلوم، انبعثت مؤخرا دعوات ومبادرات عديدة
ترمي إلى استعمال اللهجة العامية وترسيمها بديلا عن اللغة العربية، بحيث
تصبح اللهجةُ العامية هي لغة التعليم والتأليف والإعلام والوثائق
الإدارية... وهذه فكرة قديمة يتم إحياؤها ومحاولة فرضها من حين لآخر، في
هذا البلد أو ذاك من البلدان العربية. وقد عرفت هذه الدعوة سجالات ساخنة
بين بعض المفكرين والأدباء المصريين أوائل القرن العشرين.
ولعل مبتكرها وأقدم دعاتها هو المستشرق الألماني الدكتور ولهم سبيتا،
الذي عاش بمصر، ودرس العاميّة المصرية، وعايش حركة الإحياء والنهوض التي
كانت تعتمل داخل مصر ...وفي سنة 1880م ألّف كتاباً سمّاه (قواعد اللغة
العامية في مصر)، زعم فيه أن النهضة العلمية المصرية متوقفة على التخلص من
اللغة العربية واعتماد العامية ... ثم حمل الراية من بعده المهندس
الإنجليزي المبشر وليم ولكوكس، الذي كان مهندساً للري. فقد ألقى محاضرة
ونشرها في مجلة الأزهر سنة 1893م، أعلن فيها أنَّ الذي يؤخر المصريين عن
الاختراع والتقدم العلمي هو استعمالهم اللغة العريبة الفصحى. ولكنه بدل أن
يعلم المصريين هذه الاختراعات أو يكتب شيئا عنها بلهجتهم العامية، ترجم
لهم أجزاءً من الإنجيل إلى ما سماه اللّغة المصريّة، أي العامية المصرية.
وقد كان الكاتب المصري الشهير سلامة موسى من المعجبين بدعوة ولكوكس والمتحمسين لترويجها والدفاع عنها...
بعد ولكوكس حمل الراية أحد القضاة الإنجليز بمصر وهو سلدن ولمورفألّف
سنة 1901 كتاباً آخر في الموضوع سماه (العربية المحليّة في مصر)، دعا فيه
إلى اتخاذ العاميّة لغة أدبية، محذرا من أننا إن لم نفعل(فإنَّ لغة الحديث
العاميّة ولغة الأدب ستنقرضان وستحل محلهما لغة أجنبية نتيجة الاتصال
بالأمم الأوربية)، ثم أضاف فكرة جديدة أخرى وهي أن (خير الوسائل لتدعيم
اللغة العاميّة هي أن تَـتخذ الصحف الخطوة الأولى في هذا السبيل، وأنها
ستحظى بعون من أصحاب النفوذ..). لست أدري هل اكتشف بعض الصحفيين بالمغرب
فكرة سلدن ولمور بعد قرن من إطلاقها؟ أم أن هناك ولموريين آخرين من أصحاب
النفوذ، ما زالوا يروجون الفكرة ويمدونها بالعون المطلوب؟
من الحجج التي يتذرع بها أنصار «العامية البديلة»، هي أن كل الناس
سيفهمونها ويتفاهمون بها، ويقبلون على القراءة والتعلم بها، لأنهم أصلا
يتحدثون بها منذ ولادتهم. وبناء عليه كان المفروض أن المطبوعة التي تكتب
الآن بالعامية المغربية سيكون قراؤها بالملايين أو نحو ذلك، وأنها ستسبب
كسادا سريعا للصحف والمجلات «النخبوية» المكتوبة بالفصحى، ولكن المفاجأة
هي أنها - ورغم بهارات الإثارة فيها – تظل هي الأقل مبيعا والأكثر خسارة
في سوق الصحافة المغربية. فهل يستطيع صاحبها أن يجيبنا (نيشان) عن مبيعاته
وخسائره، وكيف يعوض الخسارة ويحصل على الربح؟؟ بالمقابل نجد على سبيل
المثال شبكة (الجزيرة) أحدثت عدة قنوات خاصة بالرياضة، وكلها ناطقة
بالعربية الفصحى. والرياضة كما هو معلوم يتابعها العامة والخاصة، ويتابعها
من غير المثقفين أضعاف من يتابعونها من المثقفين بل حتى قناة (الجزيرة
للأطفال)، وقناة (الجزيرة براعم)، اللتين تخاطبان ذوي الخمس سنين ومن
دونهم، تستعملان الفصحى بصفة كاملة، ومع ذلك فهذه القنوات يشاهدها
ويتابعها الملايين، بل يشاهدها في الساعة الواحدة مئات الأضعاف ممن
يشاهدون قنوات أخرى تستعمل العامية، ويشاهدها في الدقيقة الواحدة أكثر ممن
يقرؤون (نيشان) منذ صدورها وإلى الآن...!!!
والذي لا شك فيه - وإن كان بحاجة إلى بحث وبيان - هو أن عامة الناس
في المغرب، كما في عموم الوطن العربي، يفهمون الفصحى أكثر مما يفهمون
اللهجات الخارجة عن مناطقهم ومدنهم وقراهم. ومن الطرائف التي لا أنساها،
أن جدتي لأمي (وهي جبلية من قبيلة سُماتة)، وجدتي لأبي (وهي عْروبية من
قبيلة الخلوط)، كانتا - رحمهما الله – إذا تحدثتا لا تكاد إحداهما تفهم
شيئا مما تقوله الأخرى، وبين قريتيهما أقل من عشرين كيلومترا. وقد كانت
والدتي هي التي تترجم بينهما، لكونها تعلمت اللهجتين معا!!
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
غلبة الرجال للنساء وسيطرتهم عليهن ليس فيها أي فضل أو مزية أو رقي
روى الإمامان البخاري ومسلم في حديث طويل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال: «كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدِمنا المدينةَ وجدنا قوما
تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ... فتغضبت يوما على امرأتي
فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني. فقالت ما تنكر أن أراجعك؟! فوالله
إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم- ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى
الليل. فانطلقت فدخلت على حفصة (ابنته)، فقلت أتراجعين رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم؟! فقالت: نعم. فقلتُ: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟!
قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله
عليها لغضب رسوله - صلى الله عليه وسلم- فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم- ولا تسأليه شيئا، وسليني ما بدا لك...»
وقد دل هذا الحديث على أمور عديدة منها:
أن العلاقة الزوجية لدى أهل مكة القرشيين، كانت قائمة على أساس غلبة
الرجال للنساء. فالكلمة كلمة الرجل، والشأن شأنه، والصوت صوته، ولا صوت
للمرأة يعلو على صوته، ولا شأن لها فيما يفعله وفيما يتركه.
أن الأمر عند أهل المدينة كان على خلاف هذا، فالأنصار قوم تغلبهم
نساؤهم، أو نقول: كان الأنصار يتركون الغلبة لنسائهم؛ فلهن شأن مرفوع،
ولهن رأي مسموع، ولهن نفوذ مع أزواجهن. وهذا هو السلوك الذي وصفه عمر بأنه
«أدب نساء الأنصار»، كما في رواية للبخاري. وبفضل هذه المكانة المحترمة
للمرأة المدنية الأنصارية، تميز نساء الأنصار بشجاعتهن في البحث والسؤال
عن أحكام دينهن الجديد، حتى فيما يشوبه الحياء والخجل والتحرج. وها هي
القرشية أم المؤمنين رضي الله عنها تشهد للأنصاريات بذلك، حيث قالت:
«نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار؛ لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين
ويتفقهن فيه».
أن النساء القرشيات المهاجرات إلى المدينة بدأن يتأثرن ويقتدين بنساء
الأنصار، في ممارسة نوع من الغلبة أو المغالبة، وذلك بمزاحمة أزواجهن في
الرأي والقرار والمعاملة.
أن معاملة رسول الله وعلاقته بنسائه كانت على نحو ما عند الأنصار
وعلى وفق «أدب نساء الأنصار». أو بعبارة أصح، كان أدب الأنصار ونساء
الأنصار على وفق الهدي والأدب الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم،
حيث كان يسمح ويتحمل أن تناقشه أي واحدة من زوجاته وأن تراجعه في رأيه
وتصرفه، وأن تهجره طيلة النهار، تعبيرا عن مغاضبة ومعاتبة، أو لأجل طلب لم
يستجب لها فيه ...
أن زوجة عمر رضي الله عنها وعنه، بدأت تتأسى بالنموذج النبوي
وبالنموذج المدني، وسندها في ذلك ما كانت تسمعه من ابنتها حفصة زوجة رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فلذلك تشجعت وأقدمت على مراجعة عمر في شأن من
شؤونه، رغم شدته المعروفة، ورغم صخبه وغضبه عليها.
وعموما نستطيع أن نقول: إن هذا الهدي النبوي المتسم بالاحترام
والتكريم والتسامح والإيثار في معاملة المرأة، وكذلك خُلق الأنصار مع
نسائهم، المطابق للهدي النبوي... إن هذا قد أحدث نقلة نوعية في معاملة
النساء في البيئة العربية التي كانت سمتها السائدة هي غلبة الرجال للنساء.
بل إن غلبة الرجال للنساء وسيطرتهم عليهن، هو الوضع السهل السائد لدى
عامة الأمم والشعوب، قديما وحديثا. وليس في هذا أي فضل أو مزية أو رقي، بل
الفضل والمزية والرقي هو ما يتحقق في عكس ذلك. فلهذا جاء الإسلام ينقل
الناس ويدربهم على ما فيه الفضل والمزية والرقي. وهذه النقلة والترقية
ليست بالشيء الميسور على من اعتاد خلافها فرديا وجماعيا، وهذا واضح في
موقف عمر وما حكاه عن قومه وعن نفسه، رضي الله عنه. فهو حتى حينما تحقق من
نمط المعاملة السائدة بين رسول الله وزوجاته، وحتى حينما «غلبته» زوجته
(عاتكة) بقوة حجتها، فإنه لم يستسغ الأمر ولم يرض من ابنته خاصة أن تتجرأ
على رسول الله بالمراجعة والمغاضبة، حتى في حياتهما الزوجية .
وقد أخرج الإمام مالك في موطئه «عن عاتكة بنتِ زيد بن عمرو بن نفيل -
امرأة عمر بن الخطاب - أنها كانت تستأذن عمر بن الخطاب إلى المسجد فيسكت،
فتقول: والله لأخرجن إلا أن تمنعني. فلا يمنعها». إنه المنطق الجديد
والسلوك الجديد بدأ يفرض نفسه، ويُعلِّم الناس الغلبة بالعدل والإحسان،
بديلا عن الغلبة بالقوة والشدة.
وفي سبيل ترسيخ هذه النقلة وقِـيَمها وثقافتها، نجد أيضا حديث عائشة
رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- «خيركم خيركم
لأهله، وأنا خيركم لأهلي».
فمعيار الخيرية والأفضلية هو معاملة الإنسان لأهله، أي لزوجته وأهل
بيته. فأفضل الناس دينا وخلقا هو أحسنهم معاملة لأهله، وأحسنهم خلقا مع
أهله، والعكس بالعكس.
وهذا الحديث يشير إلى وضع اجتماعي فاسد، ولكنه سائد؛ وهو أننا نجد
كثيرا من الناس على قدر مرموق من حسن الخلق ومن حسن المعاملة، في علاقاتهم
مع أصدقائهم وزملائهم ورفقائهم، فتجد عندهم الكثير من الرقة والبشاشة
والأدب والإيثار والتسامح ... ولكنك تجدهم مع أهلهم وداخل بيوتهم على خلاف
هذا، إن لم نقل على عكس هذا...!
وما زال كثير من الرجال يعتقدون أن من تمام رجولتهم وقوامتهم أن
يفرضوا إرادتهم واستبدادهم وغلبتهم وخشونتهم على نسائهم، ويعتقدون أن
مراعاة آراء المرأة المخالفة لآرائهم، والتنازلَ عن رغباتهم لرغباتها،
وخفض الجناح لها، هو نقصان وضعف لا يليقان برجولتهم ومكانتهم. فلأجل ذلك
ولأجل هؤلاء قال عليه السلام: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».
على أن من مواريثنا الخلقية الجميلة التي مازالت تحتفظ بشيء من
بقاياها في مجتمعاتنا الإسلامية، إيثار المرأة بالمساعدة والتقديم
والنجدة، كما نجد - مثلا - في مواطن الازدحام والانتظار، وعند الحاجة إلى
مقعد للجلوس في القطارات والحافلات ونحوها، أو عند التبضع في الدكاكين ...
وهذا السلوك الكريم أصله في سنن الأنبياء، كما حكى القرآن عن موسى
عليه الصلاة والسلام: «وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ
أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ
تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ
الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى
إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ» [القصص/23، 24]
في هذا السياق الذي نحن فيه، لا بد أن ترِدَ مسألة ضرب الزوجات،
المذكور في قوله تعالى «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ
بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا
كَبِيرًا» [النساء/34]
فالآية يستفاد منها جواز ضرب الزوجة، فكيف يجتمع هذا مع كل ما تقدم من نصوص في تكريمها وتقديمها وحسن معاملتها؟
وللجواب عن هذا السؤال ورفع هذا الإشكال، أقول:
لا ينازع مسلم في أن أفضل تفسير وأرقى تطبيق للقرآن الكريم هو ما يصدر
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تزوج هذا النبي الكريم عشر نساء، من
أعمار وصفات مختلفة، وعلى مدى زمني يقترب من أربعة عقود. وها هي إحدى
زوجاته - السيدة عائشة - تروي لنا وتقول: «ما ضرب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم- شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد فى سبيل الله.
وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله
فينتقم لله عز وجل»
وعن عبد الله بن زمعة، قال : «وعظ النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ
في النساء، فقال: يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد، ثم يعانقها آخر النهار ؟!»
هذا الضرب يترتب على ثلاث مراحل، هو رابعها:
فأولها: أن هناك نشوزا فعليا تخشى عواقبه. والنشوز هو تمرد الزوجة على
زوجها في معاشرته وقوامته. وأما عواقبه المحذورة، فهي دفع الزوج إلى
الوقوع في الفاحشة، وهي كذلك احتمال الوصول إلى الطلاق وتشتيت الأسرة. قال
ابن عاشور: «ومعنى «تخافون نشوزهن»: تخافون عواقبه السيّئة. فالمعنى أنّه
قد حصل النشوز، مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه، لا مطلق المغاضبة أو
عدم الامتثال، فإنّ ذلك قلّما يخلو عنه حال الزوجين» وثانيها: اعتماد
الوعظ والنصح مدة من الزمن، لمعالجة هذا النشوز وإصلاح ما فسد من علاقة
وسوء تصرف.
وثالثها: هجران المرأة الناشز، لمدة أخرى، عسى أن تنتبه إلى عواقب نشوزها.
والحقيقة أن هذه المراحل الثلاث التي وضعها الشرع قبل اللجوء إلى
الضرب، إنما هي حواجز حكيمة تمنع الوصول إلى الضرب، لمن كان لهم عقل وخلق.
وبهذا لا يكاد يبقى لفكرة الضرب المذكورة في الآية إلا وظيفة تحذيرية
وقائية.
ومع هذا كله، أو بعد هذا كله، فإن الضرب لا يجوز بحال أن يقع في
الوجه، ولا يجوز أن يكون لغير النشوز المتحقق المستمر، ولا يجوز أن يكون
ضارا ولا مؤثرا في الجسم. فإن وقع شيء من هذا فهو عدوان يستحق فاعله
العقاب في الدنيا والآخرة.
قال: «كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدِمنا المدينةَ وجدنا قوما
تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ... فتغضبت يوما على امرأتي
فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني. فقالت ما تنكر أن أراجعك؟! فوالله
إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم- ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى
الليل. فانطلقت فدخلت على حفصة (ابنته)، فقلت أتراجعين رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم؟! فقالت: نعم. فقلتُ: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟!
قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله
عليها لغضب رسوله - صلى الله عليه وسلم- فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم- ولا تسأليه شيئا، وسليني ما بدا لك...»
وقد دل هذا الحديث على أمور عديدة منها:
أن العلاقة الزوجية لدى أهل مكة القرشيين، كانت قائمة على أساس غلبة
الرجال للنساء. فالكلمة كلمة الرجل، والشأن شأنه، والصوت صوته، ولا صوت
للمرأة يعلو على صوته، ولا شأن لها فيما يفعله وفيما يتركه.
أن الأمر عند أهل المدينة كان على خلاف هذا، فالأنصار قوم تغلبهم
نساؤهم، أو نقول: كان الأنصار يتركون الغلبة لنسائهم؛ فلهن شأن مرفوع،
ولهن رأي مسموع، ولهن نفوذ مع أزواجهن. وهذا هو السلوك الذي وصفه عمر بأنه
«أدب نساء الأنصار»، كما في رواية للبخاري. وبفضل هذه المكانة المحترمة
للمرأة المدنية الأنصارية، تميز نساء الأنصار بشجاعتهن في البحث والسؤال
عن أحكام دينهن الجديد، حتى فيما يشوبه الحياء والخجل والتحرج. وها هي
القرشية أم المؤمنين رضي الله عنها تشهد للأنصاريات بذلك، حيث قالت:
«نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار؛ لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين
ويتفقهن فيه».
أن النساء القرشيات المهاجرات إلى المدينة بدأن يتأثرن ويقتدين بنساء
الأنصار، في ممارسة نوع من الغلبة أو المغالبة، وذلك بمزاحمة أزواجهن في
الرأي والقرار والمعاملة.
أن معاملة رسول الله وعلاقته بنسائه كانت على نحو ما عند الأنصار
وعلى وفق «أدب نساء الأنصار». أو بعبارة أصح، كان أدب الأنصار ونساء
الأنصار على وفق الهدي والأدب الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم،
حيث كان يسمح ويتحمل أن تناقشه أي واحدة من زوجاته وأن تراجعه في رأيه
وتصرفه، وأن تهجره طيلة النهار، تعبيرا عن مغاضبة ومعاتبة، أو لأجل طلب لم
يستجب لها فيه ...
أن زوجة عمر رضي الله عنها وعنه، بدأت تتأسى بالنموذج النبوي
وبالنموذج المدني، وسندها في ذلك ما كانت تسمعه من ابنتها حفصة زوجة رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فلذلك تشجعت وأقدمت على مراجعة عمر في شأن من
شؤونه، رغم شدته المعروفة، ورغم صخبه وغضبه عليها.
وعموما نستطيع أن نقول: إن هذا الهدي النبوي المتسم بالاحترام
والتكريم والتسامح والإيثار في معاملة المرأة، وكذلك خُلق الأنصار مع
نسائهم، المطابق للهدي النبوي... إن هذا قد أحدث نقلة نوعية في معاملة
النساء في البيئة العربية التي كانت سمتها السائدة هي غلبة الرجال للنساء.
بل إن غلبة الرجال للنساء وسيطرتهم عليهن، هو الوضع السهل السائد لدى
عامة الأمم والشعوب، قديما وحديثا. وليس في هذا أي فضل أو مزية أو رقي، بل
الفضل والمزية والرقي هو ما يتحقق في عكس ذلك. فلهذا جاء الإسلام ينقل
الناس ويدربهم على ما فيه الفضل والمزية والرقي. وهذه النقلة والترقية
ليست بالشيء الميسور على من اعتاد خلافها فرديا وجماعيا، وهذا واضح في
موقف عمر وما حكاه عن قومه وعن نفسه، رضي الله عنه. فهو حتى حينما تحقق من
نمط المعاملة السائدة بين رسول الله وزوجاته، وحتى حينما «غلبته» زوجته
(عاتكة) بقوة حجتها، فإنه لم يستسغ الأمر ولم يرض من ابنته خاصة أن تتجرأ
على رسول الله بالمراجعة والمغاضبة، حتى في حياتهما الزوجية .
وقد أخرج الإمام مالك في موطئه «عن عاتكة بنتِ زيد بن عمرو بن نفيل -
امرأة عمر بن الخطاب - أنها كانت تستأذن عمر بن الخطاب إلى المسجد فيسكت،
فتقول: والله لأخرجن إلا أن تمنعني. فلا يمنعها». إنه المنطق الجديد
والسلوك الجديد بدأ يفرض نفسه، ويُعلِّم الناس الغلبة بالعدل والإحسان،
بديلا عن الغلبة بالقوة والشدة.
وفي سبيل ترسيخ هذه النقلة وقِـيَمها وثقافتها، نجد أيضا حديث عائشة
رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- «خيركم خيركم
لأهله، وأنا خيركم لأهلي».
فمعيار الخيرية والأفضلية هو معاملة الإنسان لأهله، أي لزوجته وأهل
بيته. فأفضل الناس دينا وخلقا هو أحسنهم معاملة لأهله، وأحسنهم خلقا مع
أهله، والعكس بالعكس.
وهذا الحديث يشير إلى وضع اجتماعي فاسد، ولكنه سائد؛ وهو أننا نجد
كثيرا من الناس على قدر مرموق من حسن الخلق ومن حسن المعاملة، في علاقاتهم
مع أصدقائهم وزملائهم ورفقائهم، فتجد عندهم الكثير من الرقة والبشاشة
والأدب والإيثار والتسامح ... ولكنك تجدهم مع أهلهم وداخل بيوتهم على خلاف
هذا، إن لم نقل على عكس هذا...!
وما زال كثير من الرجال يعتقدون أن من تمام رجولتهم وقوامتهم أن
يفرضوا إرادتهم واستبدادهم وغلبتهم وخشونتهم على نسائهم، ويعتقدون أن
مراعاة آراء المرأة المخالفة لآرائهم، والتنازلَ عن رغباتهم لرغباتها،
وخفض الجناح لها، هو نقصان وضعف لا يليقان برجولتهم ومكانتهم. فلأجل ذلك
ولأجل هؤلاء قال عليه السلام: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».
على أن من مواريثنا الخلقية الجميلة التي مازالت تحتفظ بشيء من
بقاياها في مجتمعاتنا الإسلامية، إيثار المرأة بالمساعدة والتقديم
والنجدة، كما نجد - مثلا - في مواطن الازدحام والانتظار، وعند الحاجة إلى
مقعد للجلوس في القطارات والحافلات ونحوها، أو عند التبضع في الدكاكين ...
وهذا السلوك الكريم أصله في سنن الأنبياء، كما حكى القرآن عن موسى
عليه الصلاة والسلام: «وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ
أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ
تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ
الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى
إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ» [القصص/23، 24]
في هذا السياق الذي نحن فيه، لا بد أن ترِدَ مسألة ضرب الزوجات،
المذكور في قوله تعالى «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ
بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا
كَبِيرًا» [النساء/34]
فالآية يستفاد منها جواز ضرب الزوجة، فكيف يجتمع هذا مع كل ما تقدم من نصوص في تكريمها وتقديمها وحسن معاملتها؟
وللجواب عن هذا السؤال ورفع هذا الإشكال، أقول:
لا ينازع مسلم في أن أفضل تفسير وأرقى تطبيق للقرآن الكريم هو ما يصدر
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تزوج هذا النبي الكريم عشر نساء، من
أعمار وصفات مختلفة، وعلى مدى زمني يقترب من أربعة عقود. وها هي إحدى
زوجاته - السيدة عائشة - تروي لنا وتقول: «ما ضرب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم- شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد فى سبيل الله.
وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله
فينتقم لله عز وجل»
وعن عبد الله بن زمعة، قال : «وعظ النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ
في النساء، فقال: يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد، ثم يعانقها آخر النهار ؟!»
هذا الضرب يترتب على ثلاث مراحل، هو رابعها:
فأولها: أن هناك نشوزا فعليا تخشى عواقبه. والنشوز هو تمرد الزوجة على
زوجها في معاشرته وقوامته. وأما عواقبه المحذورة، فهي دفع الزوج إلى
الوقوع في الفاحشة، وهي كذلك احتمال الوصول إلى الطلاق وتشتيت الأسرة. قال
ابن عاشور: «ومعنى «تخافون نشوزهن»: تخافون عواقبه السيّئة. فالمعنى أنّه
قد حصل النشوز، مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه، لا مطلق المغاضبة أو
عدم الامتثال، فإنّ ذلك قلّما يخلو عنه حال الزوجين» وثانيها: اعتماد
الوعظ والنصح مدة من الزمن، لمعالجة هذا النشوز وإصلاح ما فسد من علاقة
وسوء تصرف.
وثالثها: هجران المرأة الناشز، لمدة أخرى، عسى أن تنتبه إلى عواقب نشوزها.
والحقيقة أن هذه المراحل الثلاث التي وضعها الشرع قبل اللجوء إلى
الضرب، إنما هي حواجز حكيمة تمنع الوصول إلى الضرب، لمن كان لهم عقل وخلق.
وبهذا لا يكاد يبقى لفكرة الضرب المذكورة في الآية إلا وظيفة تحذيرية
وقائية.
ومع هذا كله، أو بعد هذا كله، فإن الضرب لا يجوز بحال أن يقع في
الوجه، ولا يجوز أن يكون لغير النشوز المتحقق المستمر، ولا يجوز أن يكون
ضارا ولا مؤثرا في الجسم. فإن وقع شيء من هذا فهو عدوان يستحق فاعله
العقاب في الدنيا والآخرة.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
العالم الفقيه...
العالم الفقيه بمثابة الطبيب الذي ينظر في حالة المريض وحاجته وفيما هو متاح له من علاجات ويتصرف بناء على ما يحقق المقصود
اشتهر تعريف الفقه الإسلامي بأنه «العلم بالأحكام الشرعية العملية،
المكتسب من أدلتها التفصيلية» ومعنى هذا أن الفقيه يبحث في الأدلة الشرعية
وينظر فيها، ويستخرج منها ما دلت عليه من أحكام تتعلق بأفعال العباد
وتصرفاتهم.
والفقه بهذا المعنى يقع على ثلاثة مستويات:
شرح النصوص الشرعية وتقرير الأحكام الفقهية التي تضمنتها ودلت عليها،
وبيان ذلك للناس، على نحو ما يفعله المفسرون وشراح السنة النبوية والفقهاء
في مؤلفاتهم.
إفتاء الناس ببيان الحكم الشرعي في نوازلهم وأحوالهم واستفتاءاتهم
المعينة؛ أي نقلُ الحكم الشرعي المقرر على نحو عام ومجرد، وتنزيلُ مقتضاه
على الحالات المعينة أو الموصوفة.
الاجتهاد فيما لم يسبق له حكم مقرر معلوم، فيجتهد الفقيهُ البالغُ
رتبةَ الاجتهاد في استنباط الحكم وتقديره للوقائع والمشاكل والحالات
المستجدة، سواء كانت جِدَّتها كليةً أو جزئية. وأعني بالجدة الكلية
الحالات والوقائع والإشكالات غير المسبوقة، وأما الجدة الجزئية فأعني بها
الأحوال والأفعال المعروفـةَ، والمعروفَ حكمُها من قبل، لكنْ دخلت عليها
أو أحاطت بها عناصر جديدة غيرت حالتها وأثرت في حكمها.
فهذه هي الدوائر الثلاث التي يتحرك فيها فقه الفقهاء واجتهاد المجتهدين.
وفي كل هذه الأحوال، فإن العالم الفقيه بمثابة الطبيب الذي ينظر في
حالة المريض وحاجته، ثم ينظر فيما بين يديه وما هو متاح له من أدوية
وعلاجات، ويتصرف بناء على ذلك بما يحقق المقصود، وهو الشفاء والعافية.
بَيْدَ أن التطبيب الشرعي لا يقف عند معالجة المرضى بعد مرضهم وظهور
آلامهم، بل هو قبل ذلك يعالج الأصحاء أنفسهم، حتى يزدادوا صحة ومناعة
وبُعداً عن الأمراض. وهذه بالضبط هي الوظيفة التي يقوم بها ويشرف عليها
علماء الشريعة.
فرسالة علماء الشرع هي أن يكونوا أطباءَ صيانةٍ ووقاية ، وحُراسَ
حصانةٍ وحماية، وأن يكونوا مستكشفين مشخصين للأعراض والأمراض، عاكفين على
معالجتها ورفع آلامها ودفع تداعياتها.
وإذا كان «العلماء ورثة الأنبياء» كما في الحديث الشريف، فمعناه أنهم
خلفاء الأنبياء فيما بُعثوا به وما بعثوا لأجله. قال العلامة عبد الرؤوف
المناوي: «(العلماء ورثة الأنبياء)؛ لأن الميراث ينتقل إلى الأقرب. وأقرب
الأمة في نسبة الدين العلماء الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة،
وكانوا للأمة بدلا من الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين العلم والعمل،
وحازوا الفضيلتين الكمال والتكميل» (فيض القدير شرح الجامع الصغير - 4 /
384)
وقد بين الله تعالى المقاصد والغايات التي لأجلها بَعث الأنبياء،
ويرثها عنهم العلماء. من ذلك قوله عز وجل: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» [الحديد/25]
وقوله سبحانه عن مهمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم: «يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ» [الأعراف/157]
وقوله: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» [الأنبياء/107]
فشأنُ العلماء أنهم وارثون لكل هذه الصفات والمسؤوليات. يقيمون القسط
ويحكمون به ويعملون على تطبيقه وتحقيقه. يأمرون بالمعروف وينشرونه
وينصرونه، وينهون عن المنكر ويمنعونه أو يعارضونه. يُحِلون للناس طيبات
الأرزاق والأفعال، ويحذرونهم خبائثها ومفاسدها. يرفعون عن الناس الآصار
والأغلال التي تكبل عقولهم وتضني حياتهم.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: «فالعالم المرتاض بما جاءنا عن الشرع
.. إذا أخذ نفسه في تعليم العباد وإرشادهم إلى الحق وجذبهم عن الباطل
ودفعِهم عن البدع، والأخْذِ بحُجَزهم عن كل مزلقة من المزالق ومَدحضة من
المداحض، بالأخلاق النبوية والشمائل المصطفوية .. فـيَـسَّر ولم يُـعَـسر،
وبشر ولم ينفر، وأرشد إلى ائتلاف القلوب واجتماعها، ونهى عن التفرق
والاختلاف، وجعل غاية همه وأقصى رغبته جلبَ المصالح الدينية للعباد ودفعَ
المفاسد عنهم، كان أنفعَ دعاة المسلمين، وأنجعَ الحاملين لحجج رب العالمين
...» (أدب الطلب ومنتهى الأرب، ص135) وهذا هو منهج القرآن وهديُ نبيِّ
القرآن. فالله تعالى أنزل شرائعه وحدد تكاليفه، ورتب على كل ذلك وعدا
ووعيدا، ومساءلة وحسابا، وثوابا وعقابا. وقال سبحانه: «وَإِنْ تُبْدُوا
مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [البقرة/284]. وقال محذرا: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا
هُوَ بِالْهَزْلِ» [الطارق/11-14]
ولكنه مع ذلك التفت سبحانه بعين الرحمة والشفقة إلى طوائف من الناس
أوشكوا أن يضيعوا ويهلكوا، فرفع عنهم بأسهم ويأسهم، وفتح أمامهم أملا
عريضا يسعهم ويسع ضعفهم وتقصيرهم وما سلف منهم، فقال جل وعلا: «قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» [الزمر/53]
ومن عجائب رحمة الله ولطفه بعباده، قوله سبحانه في الحديث القدسي:
«ما ترددتُ في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت
وأنا أكره مَساءته، ولا بد له من الموت». والتعبير بالتردد هنا إنما هو
كناية عن الرحمة البالغة والشفقة السابغة وكراهيته تعالى لكل ما يسوء عبده
المؤمن ويؤذيه.
ما أريد أن أخلص إليه هو أن العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، يجب أن
يكونوا مستحضرين لهذه المعاني وأمثالها، متلبسين بها في فقههم واجتهادهم،
آخذين بها في فتاواهم وتوجيهاتهم للناس. هذا هو الواجب والمأمول.
ولكن الواقع أننا نجد دائما بعض المحسوبين على العلم والفقه والإفتاء
في الدين، بدل أن يقدموا للناس الحلول والمخارج والبدائل لمشاكلهم
ومعاناتهم، يصبحون هم صناع المشاكل والمتاعب والآصار والأغلال. يفعلون ذلك
بسوء فهمهم لأدلة الشريعة وأحكامها. وقد جرَّ هؤلاء على الناس»مشكلاتٍ
كثيرةً لم تزل تُعْنِت الخلق وتُشْجي الحلق»، كما قال العلامة ابن عاشور.
(مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 92)
وأسوق لذلك مثالا بالغ الدلالة، مما ذكر في السنة النبوية الشريفة.
ففي صحيح مسلم: «عن أبى سعيد الخدري أن نبي الله - صلى الله عليه
وسلم- قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم
أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له
من توبة؟ فقال لا. فقتله فكمل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل
على رجل عالم، فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول
بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله،
فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى إذا نَصَف الطريقَ أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة
الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى
الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملَكٌ فى صورة
آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو
له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة».
فهذا الرجل بعد أن سئم حياة القتل والإجرام، وتاقت نفسه لحياة جديدة
نقية، قام يسأل عن أعلم علماء زمانه، لعله يعطيه لحالته حلا ومخرجا. فإذا
به يصل إلى شخصين، كل منهما يُنعت بأنه أعلم أهل زمانه... وهما في الحقيقة
نموذجان لصنفين من الفقهاء: صنف يجلبون المشاكل بفقههم وفتاويهم، أو
يزيدون الناس مشاكل إلى مشاكلهم، وصنف آخر يحلون المشاكل بفقههم وفتاويهم
ويفرجون على الناس. فالعالمُ الأول أفتى السائلَ بأن لا توبة له، بمعنى أن
مشكلته ليس لها في الدين حل ولا مخرج!. وعلى هذا الأساس قتله هو أيضا
وأكمل به المائة من قتلاه، فكانت هذه إحدى النتائج الطبيعية لمثل تلك
الفتوى. وقد كان يمكن أن يقتل آخرين أيضا...
- والعالِـم الثاني فتح له باب التوبة والفرج، ووصف له العلاج
والمخرج، وأعطاه أكثر مما طلب، ووضح له أن البيئة التي جعلت منه مجرما لا
يمكن أن تساعده على توبته وحياته الجديدة: فقال له: «انطلق إلى أرض كذا
وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك،
فإنها أرض سوء»
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إجابة السائلين أن
يتجاوز ما سألوا عنه إلى غيره من التوضيحات والإرشادات المفيدة لهم في
مسألتهم، ولو لم يسألوا عنها. من ذلك ما في صحيح البخارى: (باب من أجاب
السائلَ بأكثر مما سأله)، وفيه حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أن رجلا سأله: ما يلبس المحْرِمُ؟ فقال: «لا يلبس القميص ولا
العمامة ولا السراويل ولا البرنس، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران ، فإن
لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين»
فالسائل سأل عما يلبسه المحرم في الحج أو العمرة، لكن النبي صلى الله
عليه وسلم زاده على ذلك، ووضح له ما يلبسه وما لا يلبسه، وفي حال لم يجد
كذا أن يفعل كذا بطريقة كذا...
قال الفقيه المالكي المُـهَلَّب بن أبي صفرة: «وإنما زاده لِعِلمه
بمشقة السفر وقلة وجود ما يحتاج إليه من الثياب فيه، ولِـما يلحق الناسَ
من الحفي بالمشي، رحمة لهم وتنبيها على منافعهم، وكذلك يجب على العالم أن
ينبه الناس في المسائل على ما ينتفعون به، ويتسعون فيه، ما لم يكن ذريعة
إلى ترخيص شيء من حدود الله» – (شرح ابن بطال لصحيح البخاري - ج 1 / ص
227)
اشتهر تعريف الفقه الإسلامي بأنه «العلم بالأحكام الشرعية العملية،
المكتسب من أدلتها التفصيلية» ومعنى هذا أن الفقيه يبحث في الأدلة الشرعية
وينظر فيها، ويستخرج منها ما دلت عليه من أحكام تتعلق بأفعال العباد
وتصرفاتهم.
والفقه بهذا المعنى يقع على ثلاثة مستويات:
شرح النصوص الشرعية وتقرير الأحكام الفقهية التي تضمنتها ودلت عليها،
وبيان ذلك للناس، على نحو ما يفعله المفسرون وشراح السنة النبوية والفقهاء
في مؤلفاتهم.
إفتاء الناس ببيان الحكم الشرعي في نوازلهم وأحوالهم واستفتاءاتهم
المعينة؛ أي نقلُ الحكم الشرعي المقرر على نحو عام ومجرد، وتنزيلُ مقتضاه
على الحالات المعينة أو الموصوفة.
الاجتهاد فيما لم يسبق له حكم مقرر معلوم، فيجتهد الفقيهُ البالغُ
رتبةَ الاجتهاد في استنباط الحكم وتقديره للوقائع والمشاكل والحالات
المستجدة، سواء كانت جِدَّتها كليةً أو جزئية. وأعني بالجدة الكلية
الحالات والوقائع والإشكالات غير المسبوقة، وأما الجدة الجزئية فأعني بها
الأحوال والأفعال المعروفـةَ، والمعروفَ حكمُها من قبل، لكنْ دخلت عليها
أو أحاطت بها عناصر جديدة غيرت حالتها وأثرت في حكمها.
فهذه هي الدوائر الثلاث التي يتحرك فيها فقه الفقهاء واجتهاد المجتهدين.
وفي كل هذه الأحوال، فإن العالم الفقيه بمثابة الطبيب الذي ينظر في
حالة المريض وحاجته، ثم ينظر فيما بين يديه وما هو متاح له من أدوية
وعلاجات، ويتصرف بناء على ذلك بما يحقق المقصود، وهو الشفاء والعافية.
بَيْدَ أن التطبيب الشرعي لا يقف عند معالجة المرضى بعد مرضهم وظهور
آلامهم، بل هو قبل ذلك يعالج الأصحاء أنفسهم، حتى يزدادوا صحة ومناعة
وبُعداً عن الأمراض. وهذه بالضبط هي الوظيفة التي يقوم بها ويشرف عليها
علماء الشريعة.
فرسالة علماء الشرع هي أن يكونوا أطباءَ صيانةٍ ووقاية ، وحُراسَ
حصانةٍ وحماية، وأن يكونوا مستكشفين مشخصين للأعراض والأمراض، عاكفين على
معالجتها ورفع آلامها ودفع تداعياتها.
وإذا كان «العلماء ورثة الأنبياء» كما في الحديث الشريف، فمعناه أنهم
خلفاء الأنبياء فيما بُعثوا به وما بعثوا لأجله. قال العلامة عبد الرؤوف
المناوي: «(العلماء ورثة الأنبياء)؛ لأن الميراث ينتقل إلى الأقرب. وأقرب
الأمة في نسبة الدين العلماء الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة،
وكانوا للأمة بدلا من الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين العلم والعمل،
وحازوا الفضيلتين الكمال والتكميل» (فيض القدير شرح الجامع الصغير - 4 /
384)
وقد بين الله تعالى المقاصد والغايات التي لأجلها بَعث الأنبياء،
ويرثها عنهم العلماء. من ذلك قوله عز وجل: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» [الحديد/25]
وقوله سبحانه عن مهمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم: «يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ» [الأعراف/157]
وقوله: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» [الأنبياء/107]
فشأنُ العلماء أنهم وارثون لكل هذه الصفات والمسؤوليات. يقيمون القسط
ويحكمون به ويعملون على تطبيقه وتحقيقه. يأمرون بالمعروف وينشرونه
وينصرونه، وينهون عن المنكر ويمنعونه أو يعارضونه. يُحِلون للناس طيبات
الأرزاق والأفعال، ويحذرونهم خبائثها ومفاسدها. يرفعون عن الناس الآصار
والأغلال التي تكبل عقولهم وتضني حياتهم.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: «فالعالم المرتاض بما جاءنا عن الشرع
.. إذا أخذ نفسه في تعليم العباد وإرشادهم إلى الحق وجذبهم عن الباطل
ودفعِهم عن البدع، والأخْذِ بحُجَزهم عن كل مزلقة من المزالق ومَدحضة من
المداحض، بالأخلاق النبوية والشمائل المصطفوية .. فـيَـسَّر ولم يُـعَـسر،
وبشر ولم ينفر، وأرشد إلى ائتلاف القلوب واجتماعها، ونهى عن التفرق
والاختلاف، وجعل غاية همه وأقصى رغبته جلبَ المصالح الدينية للعباد ودفعَ
المفاسد عنهم، كان أنفعَ دعاة المسلمين، وأنجعَ الحاملين لحجج رب العالمين
...» (أدب الطلب ومنتهى الأرب، ص135) وهذا هو منهج القرآن وهديُ نبيِّ
القرآن. فالله تعالى أنزل شرائعه وحدد تكاليفه، ورتب على كل ذلك وعدا
ووعيدا، ومساءلة وحسابا، وثوابا وعقابا. وقال سبحانه: «وَإِنْ تُبْدُوا
مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [البقرة/284]. وقال محذرا: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا
هُوَ بِالْهَزْلِ» [الطارق/11-14]
ولكنه مع ذلك التفت سبحانه بعين الرحمة والشفقة إلى طوائف من الناس
أوشكوا أن يضيعوا ويهلكوا، فرفع عنهم بأسهم ويأسهم، وفتح أمامهم أملا
عريضا يسعهم ويسع ضعفهم وتقصيرهم وما سلف منهم، فقال جل وعلا: «قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» [الزمر/53]
ومن عجائب رحمة الله ولطفه بعباده، قوله سبحانه في الحديث القدسي:
«ما ترددتُ في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت
وأنا أكره مَساءته، ولا بد له من الموت». والتعبير بالتردد هنا إنما هو
كناية عن الرحمة البالغة والشفقة السابغة وكراهيته تعالى لكل ما يسوء عبده
المؤمن ويؤذيه.
ما أريد أن أخلص إليه هو أن العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، يجب أن
يكونوا مستحضرين لهذه المعاني وأمثالها، متلبسين بها في فقههم واجتهادهم،
آخذين بها في فتاواهم وتوجيهاتهم للناس. هذا هو الواجب والمأمول.
ولكن الواقع أننا نجد دائما بعض المحسوبين على العلم والفقه والإفتاء
في الدين، بدل أن يقدموا للناس الحلول والمخارج والبدائل لمشاكلهم
ومعاناتهم، يصبحون هم صناع المشاكل والمتاعب والآصار والأغلال. يفعلون ذلك
بسوء فهمهم لأدلة الشريعة وأحكامها. وقد جرَّ هؤلاء على الناس»مشكلاتٍ
كثيرةً لم تزل تُعْنِت الخلق وتُشْجي الحلق»، كما قال العلامة ابن عاشور.
(مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 92)
وأسوق لذلك مثالا بالغ الدلالة، مما ذكر في السنة النبوية الشريفة.
ففي صحيح مسلم: «عن أبى سعيد الخدري أن نبي الله - صلى الله عليه
وسلم- قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم
أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له
من توبة؟ فقال لا. فقتله فكمل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل
على رجل عالم، فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول
بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله،
فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى إذا نَصَف الطريقَ أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة
الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى
الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملَكٌ فى صورة
آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو
له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة».
فهذا الرجل بعد أن سئم حياة القتل والإجرام، وتاقت نفسه لحياة جديدة
نقية، قام يسأل عن أعلم علماء زمانه، لعله يعطيه لحالته حلا ومخرجا. فإذا
به يصل إلى شخصين، كل منهما يُنعت بأنه أعلم أهل زمانه... وهما في الحقيقة
نموذجان لصنفين من الفقهاء: صنف يجلبون المشاكل بفقههم وفتاويهم، أو
يزيدون الناس مشاكل إلى مشاكلهم، وصنف آخر يحلون المشاكل بفقههم وفتاويهم
ويفرجون على الناس. فالعالمُ الأول أفتى السائلَ بأن لا توبة له، بمعنى أن
مشكلته ليس لها في الدين حل ولا مخرج!. وعلى هذا الأساس قتله هو أيضا
وأكمل به المائة من قتلاه، فكانت هذه إحدى النتائج الطبيعية لمثل تلك
الفتوى. وقد كان يمكن أن يقتل آخرين أيضا...
- والعالِـم الثاني فتح له باب التوبة والفرج، ووصف له العلاج
والمخرج، وأعطاه أكثر مما طلب، ووضح له أن البيئة التي جعلت منه مجرما لا
يمكن أن تساعده على توبته وحياته الجديدة: فقال له: «انطلق إلى أرض كذا
وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك،
فإنها أرض سوء»
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إجابة السائلين أن
يتجاوز ما سألوا عنه إلى غيره من التوضيحات والإرشادات المفيدة لهم في
مسألتهم، ولو لم يسألوا عنها. من ذلك ما في صحيح البخارى: (باب من أجاب
السائلَ بأكثر مما سأله)، وفيه حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أن رجلا سأله: ما يلبس المحْرِمُ؟ فقال: «لا يلبس القميص ولا
العمامة ولا السراويل ولا البرنس، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران ، فإن
لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين»
فالسائل سأل عما يلبسه المحرم في الحج أو العمرة، لكن النبي صلى الله
عليه وسلم زاده على ذلك، ووضح له ما يلبسه وما لا يلبسه، وفي حال لم يجد
كذا أن يفعل كذا بطريقة كذا...
قال الفقيه المالكي المُـهَلَّب بن أبي صفرة: «وإنما زاده لِعِلمه
بمشقة السفر وقلة وجود ما يحتاج إليه من الثياب فيه، ولِـما يلحق الناسَ
من الحفي بالمشي، رحمة لهم وتنبيها على منافعهم، وكذلك يجب على العالم أن
ينبه الناس في المسائل على ما ينتفعون به، ويتسعون فيه، ما لم يكن ذريعة
إلى ترخيص شيء من حدود الله» – (شرح ابن بطال لصحيح البخاري - ج 1 / ص
227)
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
العلماء المتملقون...
إذا كان العلماء المتملقون مؤاخذين على هذا السلوك فإن المؤاخذة أكبر على الأنظمة التي تعتمد سياسة شراء الذمم
زارني مؤخرا أحد الأصدقاء، بعد عودته من زيارة مطولة إلى مصر. وبحكم
اختصاصه وعلاقاته فقد التقى وتحدث مع عشرات من العلماء المصريين،
الأزهريين وغير الأزهريين. وكان مما لفت انتباه صديقي وآلمه، أن عددا غير
قليل من هؤلاء العلماء مهمومون ومشغولون بدرجة كبيرة بالعلاوات
والإكراميات والبعثات، ومشغولون بهاجس البحث عن فرص ومنافذ إضافية للكسب
والتمول، سواء داخل البلاد أو خارجها ... وكل هذا يستدعي منهم ويكسبهم
مهارة وبراعة وإسرافا في التزلف والتملق والتحيل ...
كان هذا الحديث العابر بيننا حافزا جديدا لي لفتح هذا الموضوع وكتابة
هذا المقال عن (العلماء ومشكلة التملق والتورق)، لا سيما وأن هذا الأمر
ليس خاصا بمصر وعلماء مصر، بل هكذا الحال عندنا، وهكذا الحال حيث أنا...
التملق والتورق؟
أما (التملق) فلفظ مفهوم مستعمل بين الناس. والتملق والمَـلَق بمعنى واحد. وفي (اللسان): «رجل مَلِقٌ: يعطي بلسانه ما ليس في قلبه»
وأما التَّـوَرُّق: فهو تعبير فقهي، مأخوذ من الورِق، وهي الفضة أو
النقود الفضية. ويمكن اليوم أن نقول: التورق مأخوذ من الأوراق، أي النقود
الورقية، أو الأوراق النقدية.
والتورق في اصطلاح الفقهاء عبارة عن معاملة مالية يلجأ إليها بعض
الناس، بغرض الحصول بواسطتها على المال، دون تعامل ربوي صريح. وصورتها: أن
الإنسان يريد المال، فيشتري السلعة وهو لا يريدها، ولكنه يريد أن يبيعها
من أجل أن يسدد دينا، أو يشتري أو يبني بيتا، أو يتوفر على نفقات زواج
وحفل ... فهو يريد مالاً وليس هناك أحد يقرضه هذا المال، فيشتري مثلا
سيارة بمبلغ معين، مقسَّط على فترة زمنية محددة، ثم يبيع السيارة نقدا
ويقبض ثمنها، فيحصل على المبلغ المطلوب، وبهذا يكون قد قام بعملية تورق.
وغالبا ما يكون البيع بأقل من ثمن الشراء.
والمسألة فيها نقاش فقهي قديم وحديث متجدد، وخاصة بعد دخول بعض
البنوك في عهد ما يسمى بـ»التورق المنظم» واعتبارها له منتجا إسلاميا...
وليس هو ما أريده الآن، وإنما أريد بلفظ «التورق»، معنى بسيطا هو
السعي إلى الحصول على المال والأوراق المالية. وأعني بصفة خاصة انشغالَ
العلماء وانهماكهم في تحصيل «التورق»، بهذا المعنى.
وأما الجمع بين التملق والتورق في هذا المقال، فلأنهما يقترنان
ويتلازمان عند من يمارسهما من العلماء وغيرهم من المثقفين والسياسيين...
فالتورق يستدعي التملق، والتملق يأتي بالتورق. وقد جرت العادة عند
الأمراء: من زاد في التملق فزيدوه في التورق!
التملق بين الشعراء والعلماء
قديما كان التملق والتورق حرفةَ طائفة دنيئة من الشعراء، على اعتبار
أنهم «فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا
يَفْعَلُونَ» [الشعراء/225، 226]
وقد ذكر ابن رشيق القيرواني في عمدته أن العرب كانت تستهجن التكسب
بالشعر وتأنف منه «حتى نشأ النابغة الذبياني؛ فمدح الملوك، وقبِلَ الصلة
على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر ... فسقطت منزلته، وتكسَّب مالاً
جسيماً، حتى كان أكله وشربه في صِحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك
... وذُكر أن أبا عمرو بن العلاء سئل: لِـمَ خضع النابغة للنعمان؟ فقال:
رغب في عطائه وعصافيره» – (العمدة في محاسن الشعر وآدابه - ج 1 / ص 22/23)
ثم ما لبث هذا السلوك أن انتقل إلى بعض الفقهاء أو المتفقهة، ممن
ضعفت نفوسهم وانحطت ِهمَمُهم، فأصبح التورقُ غايتَهم والتملقُ مطيتَهم.
وقد نقل البيهقي في (شعب الإيمان4/224)، عن الإمام الجليل أبي عبد الله
الحليمي رحمه الله قوله: «والمَـلَق من أفعال أهل الذلة والضَّعة، ومما
يزري بفاعله ويدل على سقاطته و قلته مقدار نفسه عنده. و ليس لأحد أن يهين
نفسه، كما ليس لغيره أن يهينه»
تبعات التملق والتورق
التملق والتورق ليسا مجرد آفة خلقية تقود صاحبها إلى الذلة والضعة
وهوان النفس، بل إن التمسك بهذه الآفة والاسترسالَ فيها، وتعددَ الماشين
عليها، يصبح خطرا على الدين وضررا على المسلمين. فإن هذا الطريق يؤدي
بأصحابه إلى السكوت عن كثير من أحكام الدين، وإلى التوقف عن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، عملا بالقاعدة العرفية «إذا كان الكلام من فضة
فالسكوت من ذهب»، وهي خلافُ القاعدة الشرعية «الساكت عن الحق شيطان أخرس».
والأدهى من هذا هو أن يصل بعض علماء التملق والتورق إلى حد تحريف
الدين وتأويله وتطويعه، لإرضاء ذوي المال والسلطان ونيل عطاياهم. وفي
هؤلاء قال الشاعر:
قل للأمير نصيحة لا تَركننَّ إلى فقيهْ
إن الفقيه إذا أتى أبوابكم لا خير فيهْ
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: «ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم
الأمراءَ والسلاطين، ومداهنتهم وتركُ الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك.
وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه، لينالوا من دنياهم عرضا، فيقع بذلك
الفساد لثلاثة أوجه:
الأول الأمير، يقول: لولا أني على صواب لأنكر على الفقيه، وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي.
والثاني العامي، فإنه يقول: لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإن فلانا الفقيه لا يبرح عنده.
والثالث الفقيه، فإنه يفسد دينه بذلك» – (تلبيس إبليس - ص 148)
ومن الأضرار الناجمة عن آفة التورق والجري وراءها، أن بعض هؤلاء
العلماء المتورقة يلِجُون كل باب يفضي إلى التورق والزيادة منه؛ فتتعدد
وظائفهم والتزاماتهم وتتراكم، حتى لا يستطيعون القيام بأي واحدة منها على
ما يرام. فتجد أحدهم موظفا عموميا، ثم هو خطيب جمعة، وواعظ محلي ودولي،
وهو عضو بالمجلس العلمي، أو رئيس له، أو ساعٍ لرئاسته، وتجده في تأطير
الحجاج في موسم الحج، ومع المعتمرين في رمضان، أو تجده في ضيافة الجاليةِ
المقيمة بالخارج، ثم هو يبحث ويقول هل من مزيد...؟!
لو كان هذا السعي الدؤوب لله وفي سبيل الله، وخدمة للإسلام
والمسلمين، ولو كان هذا أو بعضه يأخذ حقه من الإتقان والوفاء بشروطه
ومستلزماته، لكان شيئا جليلا وعظيما...
بعض هؤلاء السادة إذا دُعوا إلى عمل في سبيل الله، ليس فيه إلا ثواب
الله، جاؤوك بأعذار ثقيلة وأَيمان مغلظة ... ولكن إذا دعوا إلى عمل جديد
مُدِرٍّ للتورق رحبوا وتسارعوا ... فهم يغيبون حيث غاب المال، ويقبلون إذا
لاح. فهم على خلاف الوصف الذي أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال
للأنصار رضي الله عنهم:»إنكم لَـتَـقِلُّون عند الطمع وتكثرون عند الفزع «
ومن طرائف المتورقة أن إحدى المجلات العلمية أرسلت إلي بحثا للتحكيم،
فلما قرأته فوجئت في آخره بفقرة تقول: «وقد كان أسلافكم يا مولاي ...»،
فضحكت وطويت الموضوع، بعد أن عرفت أن هذا البحث كان قد تم إلقاؤه ضمن
الدروس الحسنية الرمضانية بالمغرب، وقد نال به صاحبه ما نال من وزارة
الأوقاف، ثم أرسله للنشر لينال به مرة أخرى، ولكنه غفل عن هذه الفقرة
فبقيت كما كانت.!! وقد اتصلت برئيس تحرير المجلة، واعتذرت له عن القيام
بالتحكيم، لأني قد عرفت صاحب البحث، فلم أعد صالحا للتحكيم في هذه الحالة.
ثم رأيت البحث منشورا فيما بعد.
واتصل بي يوما أحد الموظفين بمجمع الفقه الإسلامي يسألني: الدكتور
فلان الفلاني هل تعرفه؟ قلت نعم أعرفه، لكن عن بعد. قال: نحن نبحث عن رقم
هاتفه لدعوته إلى مؤتمر المجمع... هل تساعدنا للحصول عليه؟ قلت نعم أحاول.
وفعلا حصلت لهم على رقم هاتفه من عند أحد أصدقائه ... وبعد أيام قليلة
اتصل بي الموظف يخبرني - وهو مسرور- أنهم قد اتصلوا بالدكتور الذي أتيتهم
برقم هاتفه، وأنه قد أرسل إليهم بحثه بالإيميل، وهو - ما شاء الله - في
مائة وعشرين صفحة ...!!
نعم لقد وصل البحث قبل توصل صاحبه بالدعوة التي أرسلت إليه! ولم يكلف
نفسه حتى القيام باختصار بحثه وملاءمته ... إنها بضاعة جاهزة للبيع أو
للإيجار لكل من يدفع.
وإذا كان أصحاب هذا السلوك مؤاخذين عليه وعلى نتائجه بدون شك، فإن
المؤاخذة أكبر على الأنظمة والحكومات التي تعتمد سياسة التطميع والتطويع
وشراء الذمم في كل المجالات. وها نحن نرى اليوم حتى التصوف الذي كان دائما
عنوان الزهد والتقشف والتقلل من الدنيا والتجافي عنها، قد أصبح يكلف
الدولة ميزانيات كبيرة وأغلفة مالية كثيرة، تنفق وتوزع هنا وهناك، داخل
البلد وخارجه. لقد كان السادة الصوفية منذ القديم يتَسَمَّون باسم
«الفقراء»، لكنهم اليوم مدعوون إما لمراجعة هذا الإسم، وإما لتثبيته، لكن
برفض مسار التورق الذي أدخلوا فيه. فالتصوف والتورق لا يجتمعان.
زارني مؤخرا أحد الأصدقاء، بعد عودته من زيارة مطولة إلى مصر. وبحكم
اختصاصه وعلاقاته فقد التقى وتحدث مع عشرات من العلماء المصريين،
الأزهريين وغير الأزهريين. وكان مما لفت انتباه صديقي وآلمه، أن عددا غير
قليل من هؤلاء العلماء مهمومون ومشغولون بدرجة كبيرة بالعلاوات
والإكراميات والبعثات، ومشغولون بهاجس البحث عن فرص ومنافذ إضافية للكسب
والتمول، سواء داخل البلاد أو خارجها ... وكل هذا يستدعي منهم ويكسبهم
مهارة وبراعة وإسرافا في التزلف والتملق والتحيل ...
كان هذا الحديث العابر بيننا حافزا جديدا لي لفتح هذا الموضوع وكتابة
هذا المقال عن (العلماء ومشكلة التملق والتورق)، لا سيما وأن هذا الأمر
ليس خاصا بمصر وعلماء مصر، بل هكذا الحال عندنا، وهكذا الحال حيث أنا...
التملق والتورق؟
أما (التملق) فلفظ مفهوم مستعمل بين الناس. والتملق والمَـلَق بمعنى واحد. وفي (اللسان): «رجل مَلِقٌ: يعطي بلسانه ما ليس في قلبه»
وأما التَّـوَرُّق: فهو تعبير فقهي، مأخوذ من الورِق، وهي الفضة أو
النقود الفضية. ويمكن اليوم أن نقول: التورق مأخوذ من الأوراق، أي النقود
الورقية، أو الأوراق النقدية.
والتورق في اصطلاح الفقهاء عبارة عن معاملة مالية يلجأ إليها بعض
الناس، بغرض الحصول بواسطتها على المال، دون تعامل ربوي صريح. وصورتها: أن
الإنسان يريد المال، فيشتري السلعة وهو لا يريدها، ولكنه يريد أن يبيعها
من أجل أن يسدد دينا، أو يشتري أو يبني بيتا، أو يتوفر على نفقات زواج
وحفل ... فهو يريد مالاً وليس هناك أحد يقرضه هذا المال، فيشتري مثلا
سيارة بمبلغ معين، مقسَّط على فترة زمنية محددة، ثم يبيع السيارة نقدا
ويقبض ثمنها، فيحصل على المبلغ المطلوب، وبهذا يكون قد قام بعملية تورق.
وغالبا ما يكون البيع بأقل من ثمن الشراء.
والمسألة فيها نقاش فقهي قديم وحديث متجدد، وخاصة بعد دخول بعض
البنوك في عهد ما يسمى بـ»التورق المنظم» واعتبارها له منتجا إسلاميا...
وليس هو ما أريده الآن، وإنما أريد بلفظ «التورق»، معنى بسيطا هو
السعي إلى الحصول على المال والأوراق المالية. وأعني بصفة خاصة انشغالَ
العلماء وانهماكهم في تحصيل «التورق»، بهذا المعنى.
وأما الجمع بين التملق والتورق في هذا المقال، فلأنهما يقترنان
ويتلازمان عند من يمارسهما من العلماء وغيرهم من المثقفين والسياسيين...
فالتورق يستدعي التملق، والتملق يأتي بالتورق. وقد جرت العادة عند
الأمراء: من زاد في التملق فزيدوه في التورق!
التملق بين الشعراء والعلماء
قديما كان التملق والتورق حرفةَ طائفة دنيئة من الشعراء، على اعتبار
أنهم «فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا
يَفْعَلُونَ» [الشعراء/225، 226]
وقد ذكر ابن رشيق القيرواني في عمدته أن العرب كانت تستهجن التكسب
بالشعر وتأنف منه «حتى نشأ النابغة الذبياني؛ فمدح الملوك، وقبِلَ الصلة
على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر ... فسقطت منزلته، وتكسَّب مالاً
جسيماً، حتى كان أكله وشربه في صِحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك
... وذُكر أن أبا عمرو بن العلاء سئل: لِـمَ خضع النابغة للنعمان؟ فقال:
رغب في عطائه وعصافيره» – (العمدة في محاسن الشعر وآدابه - ج 1 / ص 22/23)
ثم ما لبث هذا السلوك أن انتقل إلى بعض الفقهاء أو المتفقهة، ممن
ضعفت نفوسهم وانحطت ِهمَمُهم، فأصبح التورقُ غايتَهم والتملقُ مطيتَهم.
وقد نقل البيهقي في (شعب الإيمان4/224)، عن الإمام الجليل أبي عبد الله
الحليمي رحمه الله قوله: «والمَـلَق من أفعال أهل الذلة والضَّعة، ومما
يزري بفاعله ويدل على سقاطته و قلته مقدار نفسه عنده. و ليس لأحد أن يهين
نفسه، كما ليس لغيره أن يهينه»
تبعات التملق والتورق
التملق والتورق ليسا مجرد آفة خلقية تقود صاحبها إلى الذلة والضعة
وهوان النفس، بل إن التمسك بهذه الآفة والاسترسالَ فيها، وتعددَ الماشين
عليها، يصبح خطرا على الدين وضررا على المسلمين. فإن هذا الطريق يؤدي
بأصحابه إلى السكوت عن كثير من أحكام الدين، وإلى التوقف عن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، عملا بالقاعدة العرفية «إذا كان الكلام من فضة
فالسكوت من ذهب»، وهي خلافُ القاعدة الشرعية «الساكت عن الحق شيطان أخرس».
والأدهى من هذا هو أن يصل بعض علماء التملق والتورق إلى حد تحريف
الدين وتأويله وتطويعه، لإرضاء ذوي المال والسلطان ونيل عطاياهم. وفي
هؤلاء قال الشاعر:
قل للأمير نصيحة لا تَركننَّ إلى فقيهْ
إن الفقيه إذا أتى أبوابكم لا خير فيهْ
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: «ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم
الأمراءَ والسلاطين، ومداهنتهم وتركُ الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك.
وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه، لينالوا من دنياهم عرضا، فيقع بذلك
الفساد لثلاثة أوجه:
الأول الأمير، يقول: لولا أني على صواب لأنكر على الفقيه، وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي.
والثاني العامي، فإنه يقول: لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإن فلانا الفقيه لا يبرح عنده.
والثالث الفقيه، فإنه يفسد دينه بذلك» – (تلبيس إبليس - ص 148)
ومن الأضرار الناجمة عن آفة التورق والجري وراءها، أن بعض هؤلاء
العلماء المتورقة يلِجُون كل باب يفضي إلى التورق والزيادة منه؛ فتتعدد
وظائفهم والتزاماتهم وتتراكم، حتى لا يستطيعون القيام بأي واحدة منها على
ما يرام. فتجد أحدهم موظفا عموميا، ثم هو خطيب جمعة، وواعظ محلي ودولي،
وهو عضو بالمجلس العلمي، أو رئيس له، أو ساعٍ لرئاسته، وتجده في تأطير
الحجاج في موسم الحج، ومع المعتمرين في رمضان، أو تجده في ضيافة الجاليةِ
المقيمة بالخارج، ثم هو يبحث ويقول هل من مزيد...؟!
لو كان هذا السعي الدؤوب لله وفي سبيل الله، وخدمة للإسلام
والمسلمين، ولو كان هذا أو بعضه يأخذ حقه من الإتقان والوفاء بشروطه
ومستلزماته، لكان شيئا جليلا وعظيما...
بعض هؤلاء السادة إذا دُعوا إلى عمل في سبيل الله، ليس فيه إلا ثواب
الله، جاؤوك بأعذار ثقيلة وأَيمان مغلظة ... ولكن إذا دعوا إلى عمل جديد
مُدِرٍّ للتورق رحبوا وتسارعوا ... فهم يغيبون حيث غاب المال، ويقبلون إذا
لاح. فهم على خلاف الوصف الذي أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال
للأنصار رضي الله عنهم:»إنكم لَـتَـقِلُّون عند الطمع وتكثرون عند الفزع «
ومن طرائف المتورقة أن إحدى المجلات العلمية أرسلت إلي بحثا للتحكيم،
فلما قرأته فوجئت في آخره بفقرة تقول: «وقد كان أسلافكم يا مولاي ...»،
فضحكت وطويت الموضوع، بعد أن عرفت أن هذا البحث كان قد تم إلقاؤه ضمن
الدروس الحسنية الرمضانية بالمغرب، وقد نال به صاحبه ما نال من وزارة
الأوقاف، ثم أرسله للنشر لينال به مرة أخرى، ولكنه غفل عن هذه الفقرة
فبقيت كما كانت.!! وقد اتصلت برئيس تحرير المجلة، واعتذرت له عن القيام
بالتحكيم، لأني قد عرفت صاحب البحث، فلم أعد صالحا للتحكيم في هذه الحالة.
ثم رأيت البحث منشورا فيما بعد.
واتصل بي يوما أحد الموظفين بمجمع الفقه الإسلامي يسألني: الدكتور
فلان الفلاني هل تعرفه؟ قلت نعم أعرفه، لكن عن بعد. قال: نحن نبحث عن رقم
هاتفه لدعوته إلى مؤتمر المجمع... هل تساعدنا للحصول عليه؟ قلت نعم أحاول.
وفعلا حصلت لهم على رقم هاتفه من عند أحد أصدقائه ... وبعد أيام قليلة
اتصل بي الموظف يخبرني - وهو مسرور- أنهم قد اتصلوا بالدكتور الذي أتيتهم
برقم هاتفه، وأنه قد أرسل إليهم بحثه بالإيميل، وهو - ما شاء الله - في
مائة وعشرين صفحة ...!!
نعم لقد وصل البحث قبل توصل صاحبه بالدعوة التي أرسلت إليه! ولم يكلف
نفسه حتى القيام باختصار بحثه وملاءمته ... إنها بضاعة جاهزة للبيع أو
للإيجار لكل من يدفع.
وإذا كان أصحاب هذا السلوك مؤاخذين عليه وعلى نتائجه بدون شك، فإن
المؤاخذة أكبر على الأنظمة والحكومات التي تعتمد سياسة التطميع والتطويع
وشراء الذمم في كل المجالات. وها نحن نرى اليوم حتى التصوف الذي كان دائما
عنوان الزهد والتقشف والتقلل من الدنيا والتجافي عنها، قد أصبح يكلف
الدولة ميزانيات كبيرة وأغلفة مالية كثيرة، تنفق وتوزع هنا وهناك، داخل
البلد وخارجه. لقد كان السادة الصوفية منذ القديم يتَسَمَّون باسم
«الفقراء»، لكنهم اليوم مدعوون إما لمراجعة هذا الإسم، وإما لتثبيته، لكن
برفض مسار التورق الذي أدخلوا فيه. فالتصوف والتورق لا يجتمعان.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
الحسن الثاني قال «لو لم تكن عندي معارضة لأوجدتها»
ثنائية (الحُكم
والمعارضة) هي سُنَّـة كونية من سنن الحياة ومن ضروراتها. وهي فرع من سنة
أعمّ، هي ثنائية التضاد، التي تشمل كافة المخلوقات، وكل مناحي الحياة.كما
قال ابن قتيبة: "الله جل وعز لم يخلق شيئاً إلا جعل له ضداً؛ كالنور
والظلمة، والبياض والسواد، والطاعة والمعصية، والخير والشر، والتمام
والنقصان، واليمين والشمال، والعدل والظلم ..." – (تأويل مختلف الحديث - ج
1 / ص 100)
وهذه الثنائية المطَّرِدة تشكل إحدى وسائل التدافع والتوازن بين
مختلف الأضداد. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» [البقرة/251]
كما أنها وسيلة للتمييز بين الثنائيات المتضادة ومعرفة قيمة كل منها
وميزتِه ومدى صلاحه أو فساده. وفي هذا يقول ابن قتيبة أيضا: "ولن تكمل
الحكمة والقدرة إلا بخلق الشيء وضده، ليعرف كل واحد منهما بصاحبه؛ فالنور
يعرف بالظلمة، والعلم يعرف بالجهل، والخير يعرف بالشر، والنفع يعرف بالضر،
والحلو يعرف بالمر، لقول الله تبارك وتعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ
الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ» [يس/36]، والأزواج: الأضداد والأصناف، كالذكر
والأنثى، واليابس والرطب، وقال تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى»." - (تأويل مختلف الحديث - ج 1 / ص 3)
هذه السُّنة إذاً ساريةٌ في مجال ممارسة الحكـــــــــــــــــم
والسلطة، فهي قانون اجتمـــــــاعي لا يتخلف. ومن العبارات الشهيرة عن
الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله قوله: "لو لم تكن عندي معارضة
لأوجدتها". وقد يفهم من هذا أن المعارضة قد لا توجد في بعض الحالات، وليس
الأمر كذلك؛ وكل ما هنالك أن المعارضة إذا تم منعها وقمعها أو تضييق
الخناق عليها، فإنها تأخذ أشكالا غير مرئية أو غير صريحة أو غير منظمة أو
غير معترف بها، ولكن لا بد أن توجد ولا بد أن تكون. نعم قد تكون المعارضة
قوية وقد تكون ضعيفة، وقد تكون شديدة وقد تكون خفيفة، وقد تكون جزئية وقد
تكون كلية ... وكل هذا يتوقف على أسباب عديدة، أهمها حالة الحكم القائم
ومدى رشده وعدله، ومدى خلاف ذلك... أما أن لا تكون معارضة أصلا، فهذا
مخالف لسنة الله في خلقه، ومخالف لطبائع العمران، حسب العبارة الخلدونية.
فما هي المجالات والوسائل المتاحة والمباحة شرعا للمعارضة؟ أو ما هو
المشروع وغير المشروع في ممارسة حق المعارضة؟ ما هي المساحة الخضراء وما
هي المساحة الحمراء في ذلك؟
وبصيغة أخرى أكثر واقعية وراهنية: ما هي المداخل والوسائل الممكنة
شرعا لممارسة المعارضة وتحقيق التغيير والإصلاح في مجتمعاتنا العربية
والإسلامية؟
بين المنحصر والمنتشر
المعارضة والتغيير أمامهما اتجاهان أو مساران، أحدهما منحصر والآخر
منتشر. فالمنحصر هو استعمال السلاح، وأما المنتشر فطرق وشُعَب لا حصر لها،
وقد تعد بالعشرات، وقد تعد بالمئات، وكلها جائزة ومشروعة. ولنقل على سبيل
المثال: إن طرق المعارضة والتغيير 1 % منها ممنوع، وهو طريق السلاح
والقتال، و99 % منها مشروع، وهو باقي الطرق الكائنة والممكنة. ومن هنا
نعلم أن دوران بعض المعارضين ودعاة التغيير بين طريقين أوثلاثة طرق
للتغيير، وانحصار تفكيرهم وممارستهم في هذا النطاق المحدود، هو نوع من
العقم والعجز. فليس لأحد مثلا أن يبقى حائرا مترددا بين طريقين لا ثالث
لهما: العنف أو المشاركة الانتخابية، أو أن يقف حائرا مترددا بين طريق
العمل الدعوي وطريق العمل السياسي، أو بين الثورة المسلحة ومحاولة الإصلاح
من الداخل... فأبواب الله واسعة غير منحصرة.
لكني أبدأ بتوضيح حكم المنحصر، قبل الرجوع إلى المنتشر.
مسألة التغيير بالسلاح
الأحاديث النبوية المتعلقة بمنع استعمال السلاح في مواجهة المسلمين -
حكاما أو محكومين - بالغةٌ مبلغَ التواتر والقطع ثبوتا ودلالة، من ذلك:
1. في الصحيحين عن جنادة بن أبى أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت
وهو مريض، فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال: دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
فبايعناه؛ فكان فيما أَخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة فى منشطنا
ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: « إلا
أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان » وفي رواية الإمام أحمد:
"بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة فى العسر
واليسر والمنشط والمكره ولا ننازع الأمر أهله، نقول بالحق حيثما كنا لا
نخاف فى الله لومة لائم"
2. وفي صحيح مسلم وغيره، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي
فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها. ألا فإذا نزلت أو وقعت: فمن كان
له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض
فليلحق بأرضه». قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيتَ من لم يكن له إبل ولا
غنم ولا أرض؟ قال «يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لِينجُ إن استطاع
النجاة، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟». قال: فقال رجل:
يا رسول الله أرأيت إن أُكرهت حتى يُنطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى
الفئتين فضربنى رجل بسيفه، أو يجىء سهم فيقتلني؟ قال « يبوء بإثمه وإثمك
ويكون من أصحاب النار».
3. وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم – يقول: « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى
النار» . فقلت يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان
حريصا على قتل صاحبه».
على أن بعض الفئات المقاتلة قديما وحديثا تتوسل إلى استباحة مقاتلة
الحكام والخروجِ المسلح عليهم بتكفيرهم وإخراجهم من الملة. ومعلوم أن
تكفير من يعلن إسلامه ويظهره لا سبيل إليه في الشرع، وأن الإقدام على
تكفير مسلم لا يقل خطورة وتحريما عن قتله. والتكفير بالظنون والشبهات
والتأويلات، وكذلك القتل بالظنون والشبهات والتأويلات، كل هذا ضلال في
الدين وخروج عن سبيل المؤمنين.
وبالإضافة إلى ما تقدم من أحاديث نبوية، فإن تجارب المواجهات
المسلحة داخل الكيان الإسلامي، لم تنتج في يوم من الأيام خيرا يحسب لها
ويسجل لفائدتها، بل لم تنتج سوى قتل الأرواح من الطرفين، وأدهى منه سفك
دماء عامة المسلمين، وتدمير أمنهم وأرزاقهم وسلامتهم، إلى جراح نفسية قد
لا تندمل إلا بعد عصور وأجيال. والحالة الوحيدة التي يجوز فيها القتال
داخل الكيان الإسلامي، هي (القتال لأجل وقف القتال)، أي كف الفئة الباغية
عما بادرت إليه من قتال، إذا هي رفضت الصلح. وهي الحالة المذكورة في سورة
الحجرات: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».
مداخل ووسائل لا حصر لها
فإذا تجاوزنا هذا الطريق الذي أغلقه الشرع ويفضله الكثيرون، فإن كل
وسائل المعارضة والتدافع، والضغط والتأثير، والإصلاح والتغيير، تبقى في
مجملها على المشروعية والجواز، سواء في ذلك ما عُرف وجرب عبر التاريخ، أو
ما هو مستعمل اليوم لدى مختلف شعوب الأرض، أو ما يمكن ابتكاره واستحداثه.
· فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب واسع فتحه الشرع وأوجبه
وألزم الناس القيام به. فما من حق أو واجب، وما من عدل أو إحسان، وما من
مصلحة كبيرة ولا صغيرة، عامة أو خاصة، إلا وهي داخلة في الأمر بالمعروف.
وما من فساد أو انحراف، أو ظلم أو إضرار، أو استبداد أو طغيان، إلا وهو
داخل في النهي عن المنكر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون جماعيا وفرديا، منظما
وعفويا، كتابيا وشفويا، سريا وعلنيا. ويسري على الكبير والصغير والقوي
والضعيف. وهو مع ذوي القوة والسلطان أعظم قدرا وأكثر فضلا عند الله. وفي
الحديث الشريف "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".
وقد أجاز العلماء الغيبة في مواطن استثنائية، عَدَّ منها القاضي عبدُ
الحق بنُ عطية منها "ما يقال في الفَسَقة وفي ولاة الجور، ويُقصد به
التحذير منهم" - (المحرر الوجيز -ج 6 / ص 172). فالغيبة في هذه الحالة هي
نوع من المعارضة وإنكار المنكر.
وجميع وسائل الاحتجاج والضغط ضد الظلم والفساد والاستبداد، من عرائض
وبيانات، وفتاوى ومقالات، وكذلك المظاهرات والاعتصامات، كلها متاحة مباحة،
على ألا يكون فيها تعدٍّ على مصالح وحقوق عامة أو خاصة.
ثم هناك المناداة بعزل الحاكم إذا لم يكن منه بُد، وهو ما يجب أن
يمارسه أهل الاختصاص به، أو ذوو القدرة عليه. وإذا لم يكن هذا الأمر
منصوصا عليه في الدساتير ونحوها، فينبغي العمل على إقراره وجعله قابلا
للتطبيق.
وأما إذا طفح الكيل واشتد سوء الأحوال، وعظمت وطأة الفساد والجَور،
فاندفع الناس في ثورة شعبية عامة، فهذا أيضا سائغ ومشروع لهذه الحالة، ما
لم يُستعمل فيه قتل أو نهب أو تخريب. وفي هذه الحالة لا تجوز طاعة من
يأمرون بقتل الشعب المعبر عن نقمته ورفضه ونفاد صبره، "فإنما الطاعة فى
المعروف"، كما قال عليه الصلاة والسلام. على أن التغيير والإصلاح لا ينبغي
أن يُـحصر في دائرة الحكام والأنظمة الحاكمة؛ بل الشعوب والمجتمعات،
والأحزاب والتنظيمات، وكل الفئات والطبقات، هي محل لذلك.
وختاما أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام».
فإذا وقع التفريط أو التقصير من الأطباء أو المرضى أو الصيادلة أو الممرضين، فهذا شأنهم وذنبهم.
والمعارضة) هي سُنَّـة كونية من سنن الحياة ومن ضروراتها. وهي فرع من سنة
أعمّ، هي ثنائية التضاد، التي تشمل كافة المخلوقات، وكل مناحي الحياة.كما
قال ابن قتيبة: "الله جل وعز لم يخلق شيئاً إلا جعل له ضداً؛ كالنور
والظلمة، والبياض والسواد، والطاعة والمعصية، والخير والشر، والتمام
والنقصان، واليمين والشمال، والعدل والظلم ..." – (تأويل مختلف الحديث - ج
1 / ص 100)
وهذه الثنائية المطَّرِدة تشكل إحدى وسائل التدافع والتوازن بين
مختلف الأضداد. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو
فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» [البقرة/251]
كما أنها وسيلة للتمييز بين الثنائيات المتضادة ومعرفة قيمة كل منها
وميزتِه ومدى صلاحه أو فساده. وفي هذا يقول ابن قتيبة أيضا: "ولن تكمل
الحكمة والقدرة إلا بخلق الشيء وضده، ليعرف كل واحد منهما بصاحبه؛ فالنور
يعرف بالظلمة، والعلم يعرف بالجهل، والخير يعرف بالشر، والنفع يعرف بالضر،
والحلو يعرف بالمر، لقول الله تبارك وتعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ
الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ» [يس/36]، والأزواج: الأضداد والأصناف، كالذكر
والأنثى، واليابس والرطب، وقال تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى»." - (تأويل مختلف الحديث - ج 1 / ص 3)
هذه السُّنة إذاً ساريةٌ في مجال ممارسة الحكـــــــــــــــــم
والسلطة، فهي قانون اجتمـــــــاعي لا يتخلف. ومن العبارات الشهيرة عن
الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله قوله: "لو لم تكن عندي معارضة
لأوجدتها". وقد يفهم من هذا أن المعارضة قد لا توجد في بعض الحالات، وليس
الأمر كذلك؛ وكل ما هنالك أن المعارضة إذا تم منعها وقمعها أو تضييق
الخناق عليها، فإنها تأخذ أشكالا غير مرئية أو غير صريحة أو غير منظمة أو
غير معترف بها، ولكن لا بد أن توجد ولا بد أن تكون. نعم قد تكون المعارضة
قوية وقد تكون ضعيفة، وقد تكون شديدة وقد تكون خفيفة، وقد تكون جزئية وقد
تكون كلية ... وكل هذا يتوقف على أسباب عديدة، أهمها حالة الحكم القائم
ومدى رشده وعدله، ومدى خلاف ذلك... أما أن لا تكون معارضة أصلا، فهذا
مخالف لسنة الله في خلقه، ومخالف لطبائع العمران، حسب العبارة الخلدونية.
فما هي المجالات والوسائل المتاحة والمباحة شرعا للمعارضة؟ أو ما هو
المشروع وغير المشروع في ممارسة حق المعارضة؟ ما هي المساحة الخضراء وما
هي المساحة الحمراء في ذلك؟
وبصيغة أخرى أكثر واقعية وراهنية: ما هي المداخل والوسائل الممكنة
شرعا لممارسة المعارضة وتحقيق التغيير والإصلاح في مجتمعاتنا العربية
والإسلامية؟
بين المنحصر والمنتشر
المعارضة والتغيير أمامهما اتجاهان أو مساران، أحدهما منحصر والآخر
منتشر. فالمنحصر هو استعمال السلاح، وأما المنتشر فطرق وشُعَب لا حصر لها،
وقد تعد بالعشرات، وقد تعد بالمئات، وكلها جائزة ومشروعة. ولنقل على سبيل
المثال: إن طرق المعارضة والتغيير 1 % منها ممنوع، وهو طريق السلاح
والقتال، و99 % منها مشروع، وهو باقي الطرق الكائنة والممكنة. ومن هنا
نعلم أن دوران بعض المعارضين ودعاة التغيير بين طريقين أوثلاثة طرق
للتغيير، وانحصار تفكيرهم وممارستهم في هذا النطاق المحدود، هو نوع من
العقم والعجز. فليس لأحد مثلا أن يبقى حائرا مترددا بين طريقين لا ثالث
لهما: العنف أو المشاركة الانتخابية، أو أن يقف حائرا مترددا بين طريق
العمل الدعوي وطريق العمل السياسي، أو بين الثورة المسلحة ومحاولة الإصلاح
من الداخل... فأبواب الله واسعة غير منحصرة.
لكني أبدأ بتوضيح حكم المنحصر، قبل الرجوع إلى المنتشر.
مسألة التغيير بالسلاح
الأحاديث النبوية المتعلقة بمنع استعمال السلاح في مواجهة المسلمين -
حكاما أو محكومين - بالغةٌ مبلغَ التواتر والقطع ثبوتا ودلالة، من ذلك:
1. في الصحيحين عن جنادة بن أبى أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت
وهو مريض، فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال: دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
فبايعناه؛ فكان فيما أَخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة فى منشطنا
ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: « إلا
أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان » وفي رواية الإمام أحمد:
"بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة فى العسر
واليسر والمنشط والمكره ولا ننازع الأمر أهله، نقول بالحق حيثما كنا لا
نخاف فى الله لومة لائم"
2. وفي صحيح مسلم وغيره، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي
فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها. ألا فإذا نزلت أو وقعت: فمن كان
له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض
فليلحق بأرضه». قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيتَ من لم يكن له إبل ولا
غنم ولا أرض؟ قال «يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لِينجُ إن استطاع
النجاة، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟». قال: فقال رجل:
يا رسول الله أرأيت إن أُكرهت حتى يُنطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى
الفئتين فضربنى رجل بسيفه، أو يجىء سهم فيقتلني؟ قال « يبوء بإثمه وإثمك
ويكون من أصحاب النار».
3. وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم – يقول: « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى
النار» . فقلت يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان
حريصا على قتل صاحبه».
على أن بعض الفئات المقاتلة قديما وحديثا تتوسل إلى استباحة مقاتلة
الحكام والخروجِ المسلح عليهم بتكفيرهم وإخراجهم من الملة. ومعلوم أن
تكفير من يعلن إسلامه ويظهره لا سبيل إليه في الشرع، وأن الإقدام على
تكفير مسلم لا يقل خطورة وتحريما عن قتله. والتكفير بالظنون والشبهات
والتأويلات، وكذلك القتل بالظنون والشبهات والتأويلات، كل هذا ضلال في
الدين وخروج عن سبيل المؤمنين.
وبالإضافة إلى ما تقدم من أحاديث نبوية، فإن تجارب المواجهات
المسلحة داخل الكيان الإسلامي، لم تنتج في يوم من الأيام خيرا يحسب لها
ويسجل لفائدتها، بل لم تنتج سوى قتل الأرواح من الطرفين، وأدهى منه سفك
دماء عامة المسلمين، وتدمير أمنهم وأرزاقهم وسلامتهم، إلى جراح نفسية قد
لا تندمل إلا بعد عصور وأجيال. والحالة الوحيدة التي يجوز فيها القتال
داخل الكيان الإسلامي، هي (القتال لأجل وقف القتال)، أي كف الفئة الباغية
عما بادرت إليه من قتال، إذا هي رفضت الصلح. وهي الحالة المذكورة في سورة
الحجرات: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».
مداخل ووسائل لا حصر لها
فإذا تجاوزنا هذا الطريق الذي أغلقه الشرع ويفضله الكثيرون، فإن كل
وسائل المعارضة والتدافع، والضغط والتأثير، والإصلاح والتغيير، تبقى في
مجملها على المشروعية والجواز، سواء في ذلك ما عُرف وجرب عبر التاريخ، أو
ما هو مستعمل اليوم لدى مختلف شعوب الأرض، أو ما يمكن ابتكاره واستحداثه.
· فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب واسع فتحه الشرع وأوجبه
وألزم الناس القيام به. فما من حق أو واجب، وما من عدل أو إحسان، وما من
مصلحة كبيرة ولا صغيرة، عامة أو خاصة، إلا وهي داخلة في الأمر بالمعروف.
وما من فساد أو انحراف، أو ظلم أو إضرار، أو استبداد أو طغيان، إلا وهو
داخل في النهي عن المنكر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون جماعيا وفرديا، منظما
وعفويا، كتابيا وشفويا، سريا وعلنيا. ويسري على الكبير والصغير والقوي
والضعيف. وهو مع ذوي القوة والسلطان أعظم قدرا وأكثر فضلا عند الله. وفي
الحديث الشريف "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".
وقد أجاز العلماء الغيبة في مواطن استثنائية، عَدَّ منها القاضي عبدُ
الحق بنُ عطية منها "ما يقال في الفَسَقة وفي ولاة الجور، ويُقصد به
التحذير منهم" - (المحرر الوجيز -ج 6 / ص 172). فالغيبة في هذه الحالة هي
نوع من المعارضة وإنكار المنكر.
وجميع وسائل الاحتجاج والضغط ضد الظلم والفساد والاستبداد، من عرائض
وبيانات، وفتاوى ومقالات، وكذلك المظاهرات والاعتصامات، كلها متاحة مباحة،
على ألا يكون فيها تعدٍّ على مصالح وحقوق عامة أو خاصة.
ثم هناك المناداة بعزل الحاكم إذا لم يكن منه بُد، وهو ما يجب أن
يمارسه أهل الاختصاص به، أو ذوو القدرة عليه. وإذا لم يكن هذا الأمر
منصوصا عليه في الدساتير ونحوها، فينبغي العمل على إقراره وجعله قابلا
للتطبيق.
وأما إذا طفح الكيل واشتد سوء الأحوال، وعظمت وطأة الفساد والجَور،
فاندفع الناس في ثورة شعبية عامة، فهذا أيضا سائغ ومشروع لهذه الحالة، ما
لم يُستعمل فيه قتل أو نهب أو تخريب. وفي هذه الحالة لا تجوز طاعة من
يأمرون بقتل الشعب المعبر عن نقمته ورفضه ونفاد صبره، "فإنما الطاعة فى
المعروف"، كما قال عليه الصلاة والسلام. على أن التغيير والإصلاح لا ينبغي
أن يُـحصر في دائرة الحكام والأنظمة الحاكمة؛ بل الشعوب والمجتمعات،
والأحزاب والتنظيمات، وكل الفئات والطبقات، هي محل لذلك.
وختاما أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام».
فإذا وقع التفريط أو التقصير من الأطباء أو المرضى أو الصيادلة أو الممرضين، فهذا شأنهم وذنبهم.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به
للجهاد مدلولات متعددة في الشرع، وإن كانت تشترك في الأصل اللغوي الذي هو
بذل الجهد والوسع وتحمل المشقة في ذلك. وهذا المعنى موجود في الاستعمال
الشرعي، فلا يعتبر جهادا إلا ما كان فيه جهد وإجهاد وبذل وتضحية، بحسب كل
نوع من أنواع الجهاد.
المعان الشرعية للجهاد
كما أن المعاني الشرعية للجهاد تشترك في عنصر أساسي يجمع بينها، وهو
أن يكون الجهاد في طاعة الله وفي سبيل الله، أي في حدود الشرع وفي نطاق
مقاصده. وبعد ذلك تتعدد أنواع الجهاد بتنوع مقاصده ومجالاته.
وقد استقصى العلامة ابن القيم أنواع الجهاد ومراتبها، فأوصلها إلى
ثلاثة عشرا نوعا ومرتبة. قال رحمه الله:«فالجهاد أربع مراتب : جهاد النفس،
وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس أربع مراتب أيضا :
إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا
سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين
الثانية : أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة : أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه مَن لا يعلمه، وإلا
كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا
ينجيه من عذاب الله.
الرابعة : أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين؛ فإن السلف مجمعون
على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به
ويُعَلِّمه. فمن علم وعمل وعلَّم، فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات.
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان إحداهما : جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
الثانية : جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات...
وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب : بالقلب، واللسان، والمال، والنفس.
وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب : الأولى : باليد
إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه» - (زاد المعاد 3
/9/10)
غير أن الاصطلاح الشرعي والفقهي جرى أن لفظ الجهاد، أو الجهاد في
سبيل الله، إذا أطلق بدون تحديد أو تقييد، فالغالب أن المراد به القتالُ
في سبيل الله نصرة للدين ودفاعا عن المسلمين.
وحتى هذا النوع من الجهاد فالعلماء يقسمونه إلى ثلاث مراتب: أعلاها
الجهاد الدعوي أو الجهاد باللسان، ثم الجهاد بالرأي والتدبير، ثم أدناها
هو القتال نفسه، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتغل بالمرتبة
الأولى منذ بعثته إلى نهاية عمره، واشتغل بالمرتبة الثانية بقدر أقل، ولم
يشتغل بالمرتبة الثالثة إلا مرات معدودة... – (منهاج السنة لابن تيمية
8/87 – 88).
ومما يجدر التنبيه إليه أن ما ذكره ابن القيم من الجهاد باليد
للمنافقين وأربابِ الظلم والبدع والمنكرات، إذا كان يتوقف على القوة
والإكراه والعقوبة البدنية، فهو من اختصاص الولاة والقضاة، أي الدولة، فلا
يكون إلا بأدواتها أو بإذن منها.
وأما المنافقون، فالمراد بهم مَن يعلنون ويظهرون الدخول في الإسلام
وهم به كافرون، أو بعبارة أخرى: هم من يظهرون الإسلام ويضمرون الكفر. وقد
كانوا أفرادا معلومين بأشخاصهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإعلام
الله تعالى إياه. ومع ذلك فقد كان يعاملهم معاملة المسلمين، ولكنه كان
يَـحذر مكايدهم ودسائسهم، ويرد على شبهاتهم وأراجيفهم، ولذلك ذكر ابن
القيم أن جهادهم يكون أساسا باللسان. فهذا في زمن رسول الله وزمن صحابته.
وأما بعد ذلك، فلا أحد يعرف المنافقين أو أحدا منهم على وجه التحديد
والتعيين. فمن كان ظاهره الإسلام، ولم يعلِن خلافَ ذلك، فهو مسلم ويعامَل
معاملة المسلمين، حتى لو كانت أقواله وأفعاله تثير الريبة والشك وتحتمل
الكفر احتمالا راجحا أو مرجوحا. وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين.
ومن هنا نعلم أن ما نسمع عنه من قتال هنا أو هناك، بدعوى الجهاد ضد
المنافقين، سواء كان المراد بهم حكومات أو طوائف أو أفرادا من المسلمين،
إنما هو بدعة مختلقة لا أساس لها في الدين.
أحكام الجهاد بين العبادة والسياسة
دأب كثير من العلماء والخطباء على وصف الجهاد بأنه عبادة من العبادات.
كما أن بعض الفقهاء والمحَدِّثين، يرتبون باب الجهاد في مصنفاتهم، مباشرة
بعد أبواب العبادات، وإن كان الأكثرون منهم يؤخرونه إلى ما بعد أبواب
المعاملات. ولعل أول من رتب الجهاد بعد العبادات هو الإمام مالك في موطئه،
ولذلك سار عليه الفقهاء المالكية في مؤلفاتهم الفقهية.
وسواء كان قصد هؤلاء العلماء هو إدخال الجهاد ضمن العبادات
واعتبارُه واحدة منها، أو قصدوا بذلك أنه يليها في الأهمية والمكانة في
الدين، فلا أحد منهم يعتبر أن أحكام الجهاد تُؤخذ ويُتعامل معها كما تؤخذ
أحكام العبادات، من طهارة وصلاة وحج وعمرة ...، بمعنى أنها توقيفية
تعبدية، لا تقبل الاجتهاد ولا التقديم ولا التأخير. ويمكن اعتبار الجهاد
عبادة من حيث إنه لا يجوز ولا يقبل إلا إذا كان في سبيل الله لإعلاء كلمة
الله. أما أحكامه التفصيلية والتطبيقية، فإن الناظر فيها وفي معالجة
الفقهاء لها، يجد بوضوح أنها عندهم أحكام معللة ومرتبطة بمقاصدها
وملابساتها ومستجداتها وتقديراتها المصلحية. وأن مجال الاجتهاد في تنزيلها
والتخريج عليها في غاية السعة والمرونة.
فقرار الحرب أو السلم، وعقد الهدنة أو الصلح، والتعامل مع الغنائم
والأنفال والأسرى، والدخول في معاهدات وأحلاف، وكذلك فسخها والخروج منها،
وما يندرج في ذلك من تفاصيل وشروط... كلها أمور يرجع البت فيها إلى ولاة
الأمور وأهل الاختصاص والرأي والخبرة، بناء على التقديرات الظرفية
والاعتبارات المصلحية. فهي خاضعة لمنطق السياسة الشرعية، لا لمنطق العبادة
والتعبد.
وفيما يلي نموذج أنقله من كلام ابن رشد، يستعرض فيه آراء الفقهاء في مسألة من هذا المجال.
قال رحمه الله: «فأما هل تجوز المهادنة ؟ فإن قوما أجازوها ابتداء من
غير سبب، إذا رأى ذلك الإمام مصلحةً للمسلمين. وقوم لم يجيزوها إلا لمكان
الضرورة الداعية لأهل الإسلام، من فتنة أو غير ذلك، إما بشيء يأخذونه منهم
... وإما بلا شيء يأخذونه منهم. وكان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمامُ
الكفارَ على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار، إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة
أو غير ذلك من الضرورات . وقال الشافعي : لا يعطي المسلمون الكفارَ شيئا
إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو وقلتهم، أو لمحنة نزلت بهم. وممن
قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحة: مالك والشافعي وأبو حنيفة،
إلا أن الشافعي لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول
الله صلى الله عليه و سلم الكفار عام الحديبية . وسبب اختلافهم في جواز
الصلح من غير ضرورةٍ معارضةُ ظاهر قوله تعالى «فإذا انسلخ الأشهر الحرم
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» وقولُه تعالى «قاتلوا الذين لا يؤمنون
بالله ولا باليوم الآخر»، لقوله تعالى «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل
على الله». فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية
ناسخة لآية الصلح قال: لا يجوز الصلح إلا من ضرورة، ومن رأى أن آية الصلح
مخصصة لتلك قال: الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام، وعضد تأويله بفعله ذلك
صلى الله عليه و سلم؛ وذلك أن صلحه صلى الله عليه و سلم عام الحديبية لم
يكن لموضع الضرورة» - (بداية المجتهد - 1/512)
والمقصود عندي في النص هو بيان أن هذه أحكام هذه المسائل لا تعتبر
عند الفقهاء أحكاما توقيفية تعبدية ثابتة مستقرة، وإنما هي مسائل اجتهادية
وسياسة شرعية، يرجع تقديرها إلى الاعتبارات والموازين المصلحية، الدينية
والسياسية والعسكرية. فليس عندنا شيء اسمه «الجهاد المقدس»، وليس هناك
طقوس جهادية يجب ممارستها والتعبد بها، بغض النظر عن الظروف والشروط
والمقدمات والنتائج...
بذل الجهد والوسع وتحمل المشقة في ذلك. وهذا المعنى موجود في الاستعمال
الشرعي، فلا يعتبر جهادا إلا ما كان فيه جهد وإجهاد وبذل وتضحية، بحسب كل
نوع من أنواع الجهاد.
المعان الشرعية للجهاد
كما أن المعاني الشرعية للجهاد تشترك في عنصر أساسي يجمع بينها، وهو
أن يكون الجهاد في طاعة الله وفي سبيل الله، أي في حدود الشرع وفي نطاق
مقاصده. وبعد ذلك تتعدد أنواع الجهاد بتنوع مقاصده ومجالاته.
وقد استقصى العلامة ابن القيم أنواع الجهاد ومراتبها، فأوصلها إلى
ثلاثة عشرا نوعا ومرتبة. قال رحمه الله:«فالجهاد أربع مراتب : جهاد النفس،
وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس أربع مراتب أيضا :
إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا
سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين
الثانية : أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة : أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه مَن لا يعلمه، وإلا
كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا
ينجيه من عذاب الله.
الرابعة : أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين؛ فإن السلف مجمعون
على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به
ويُعَلِّمه. فمن علم وعمل وعلَّم، فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات.
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان إحداهما : جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
الثانية : جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات...
وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب : بالقلب، واللسان، والمال، والنفس.
وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب : الأولى : باليد
إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه» - (زاد المعاد 3
/9/10)
غير أن الاصطلاح الشرعي والفقهي جرى أن لفظ الجهاد، أو الجهاد في
سبيل الله، إذا أطلق بدون تحديد أو تقييد، فالغالب أن المراد به القتالُ
في سبيل الله نصرة للدين ودفاعا عن المسلمين.
وحتى هذا النوع من الجهاد فالعلماء يقسمونه إلى ثلاث مراتب: أعلاها
الجهاد الدعوي أو الجهاد باللسان، ثم الجهاد بالرأي والتدبير، ثم أدناها
هو القتال نفسه، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتغل بالمرتبة
الأولى منذ بعثته إلى نهاية عمره، واشتغل بالمرتبة الثانية بقدر أقل، ولم
يشتغل بالمرتبة الثالثة إلا مرات معدودة... – (منهاج السنة لابن تيمية
8/87 – 88).
ومما يجدر التنبيه إليه أن ما ذكره ابن القيم من الجهاد باليد
للمنافقين وأربابِ الظلم والبدع والمنكرات، إذا كان يتوقف على القوة
والإكراه والعقوبة البدنية، فهو من اختصاص الولاة والقضاة، أي الدولة، فلا
يكون إلا بأدواتها أو بإذن منها.
وأما المنافقون، فالمراد بهم مَن يعلنون ويظهرون الدخول في الإسلام
وهم به كافرون، أو بعبارة أخرى: هم من يظهرون الإسلام ويضمرون الكفر. وقد
كانوا أفرادا معلومين بأشخاصهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإعلام
الله تعالى إياه. ومع ذلك فقد كان يعاملهم معاملة المسلمين، ولكنه كان
يَـحذر مكايدهم ودسائسهم، ويرد على شبهاتهم وأراجيفهم، ولذلك ذكر ابن
القيم أن جهادهم يكون أساسا باللسان. فهذا في زمن رسول الله وزمن صحابته.
وأما بعد ذلك، فلا أحد يعرف المنافقين أو أحدا منهم على وجه التحديد
والتعيين. فمن كان ظاهره الإسلام، ولم يعلِن خلافَ ذلك، فهو مسلم ويعامَل
معاملة المسلمين، حتى لو كانت أقواله وأفعاله تثير الريبة والشك وتحتمل
الكفر احتمالا راجحا أو مرجوحا. وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين.
ومن هنا نعلم أن ما نسمع عنه من قتال هنا أو هناك، بدعوى الجهاد ضد
المنافقين، سواء كان المراد بهم حكومات أو طوائف أو أفرادا من المسلمين،
إنما هو بدعة مختلقة لا أساس لها في الدين.
أحكام الجهاد بين العبادة والسياسة
دأب كثير من العلماء والخطباء على وصف الجهاد بأنه عبادة من العبادات.
كما أن بعض الفقهاء والمحَدِّثين، يرتبون باب الجهاد في مصنفاتهم، مباشرة
بعد أبواب العبادات، وإن كان الأكثرون منهم يؤخرونه إلى ما بعد أبواب
المعاملات. ولعل أول من رتب الجهاد بعد العبادات هو الإمام مالك في موطئه،
ولذلك سار عليه الفقهاء المالكية في مؤلفاتهم الفقهية.
وسواء كان قصد هؤلاء العلماء هو إدخال الجهاد ضمن العبادات
واعتبارُه واحدة منها، أو قصدوا بذلك أنه يليها في الأهمية والمكانة في
الدين، فلا أحد منهم يعتبر أن أحكام الجهاد تُؤخذ ويُتعامل معها كما تؤخذ
أحكام العبادات، من طهارة وصلاة وحج وعمرة ...، بمعنى أنها توقيفية
تعبدية، لا تقبل الاجتهاد ولا التقديم ولا التأخير. ويمكن اعتبار الجهاد
عبادة من حيث إنه لا يجوز ولا يقبل إلا إذا كان في سبيل الله لإعلاء كلمة
الله. أما أحكامه التفصيلية والتطبيقية، فإن الناظر فيها وفي معالجة
الفقهاء لها، يجد بوضوح أنها عندهم أحكام معللة ومرتبطة بمقاصدها
وملابساتها ومستجداتها وتقديراتها المصلحية. وأن مجال الاجتهاد في تنزيلها
والتخريج عليها في غاية السعة والمرونة.
فقرار الحرب أو السلم، وعقد الهدنة أو الصلح، والتعامل مع الغنائم
والأنفال والأسرى، والدخول في معاهدات وأحلاف، وكذلك فسخها والخروج منها،
وما يندرج في ذلك من تفاصيل وشروط... كلها أمور يرجع البت فيها إلى ولاة
الأمور وأهل الاختصاص والرأي والخبرة، بناء على التقديرات الظرفية
والاعتبارات المصلحية. فهي خاضعة لمنطق السياسة الشرعية، لا لمنطق العبادة
والتعبد.
وفيما يلي نموذج أنقله من كلام ابن رشد، يستعرض فيه آراء الفقهاء في مسألة من هذا المجال.
قال رحمه الله: «فأما هل تجوز المهادنة ؟ فإن قوما أجازوها ابتداء من
غير سبب، إذا رأى ذلك الإمام مصلحةً للمسلمين. وقوم لم يجيزوها إلا لمكان
الضرورة الداعية لأهل الإسلام، من فتنة أو غير ذلك، إما بشيء يأخذونه منهم
... وإما بلا شيء يأخذونه منهم. وكان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمامُ
الكفارَ على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار، إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة
أو غير ذلك من الضرورات . وقال الشافعي : لا يعطي المسلمون الكفارَ شيئا
إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو وقلتهم، أو لمحنة نزلت بهم. وممن
قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحة: مالك والشافعي وأبو حنيفة،
إلا أن الشافعي لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول
الله صلى الله عليه و سلم الكفار عام الحديبية . وسبب اختلافهم في جواز
الصلح من غير ضرورةٍ معارضةُ ظاهر قوله تعالى «فإذا انسلخ الأشهر الحرم
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» وقولُه تعالى «قاتلوا الذين لا يؤمنون
بالله ولا باليوم الآخر»، لقوله تعالى «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل
على الله». فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية
ناسخة لآية الصلح قال: لا يجوز الصلح إلا من ضرورة، ومن رأى أن آية الصلح
مخصصة لتلك قال: الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام، وعضد تأويله بفعله ذلك
صلى الله عليه و سلم؛ وذلك أن صلحه صلى الله عليه و سلم عام الحديبية لم
يكن لموضع الضرورة» - (بداية المجتهد - 1/512)
والمقصود عندي في النص هو بيان أن هذه أحكام هذه المسائل لا تعتبر
عند الفقهاء أحكاما توقيفية تعبدية ثابتة مستقرة، وإنما هي مسائل اجتهادية
وسياسة شرعية، يرجع تقديرها إلى الاعتبارات والموازين المصلحية، الدينية
والسياسية والعسكرية. فليس عندنا شيء اسمه «الجهاد المقدس»، وليس هناك
طقوس جهادية يجب ممارستها والتعبد بها، بغض النظر عن الظروف والشروط
والمقدمات والنتائج...
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
لا يجوز التقول على الله في أي مسألة من مسائل الشرع خاصة في استباحة الدماء والأموال
تشهد ليبيا منذ سنوات مخاضا سياسيا إصلاحيا متعدد الجوانب، لعله يرمي إلى تهييء (ليبيا أفضل)، للمرحلة الأخيرة من حكم العقيد معمر القذافي، ولخليفته المرتقب...
من بين مسارات هذا المخاض، الحوارات الجارية بين النظام الليبي و(الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية). وهي حوارات قطعت أشواطا من التفاهم والتصالح والمراجعات المتبادلة من الطرفين. ويتردد دائما أن هذه الحوارات جارية بإشراف سيف الإسلام، نجل العقيد القذافي، وبوساطة من المفكر والمؤرخ الليبي الدكتور محمد علي الصلابي.
ما يعنيني الآن هو المراجعات الفكرية والفقهية والسياسية التي قام بها القياديون في الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وتمت صياغتها في كتاب تزيد صفحاته على الأربعمائة صفحة، يحمل عنوان «دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس».
وقد عُرض الكتاب على مجموعة من العلماء من داخل ليبيا ومن خارجها، لأخذ آرائهم وملاحظاتهم العلمية بشأنه، وهم: العلامة المعروف الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ سلمان العودة من السعودية، والشيخ محمد الشنقيطي من موريتانيا، وأحمد الريسوني من المغرب. بالإضافة إلى العلماء الليبيين السادة: د.الصادق الغرياني، ود. حمزة أبو فارس، ود.سليمان البيرة، ود. عقيل حسن عقيل، ود. محمد أحمد الشيخ.
هذه الدراسات التصحيحية هي ثمرة نقاشات وقراءات ومراجعات طويلة، عكفت عليها قيادات الجماعة داخل السجون وخارجها، وتَم تحريرها بالقسم العسكري من سجن أبو سليم الشهير، الذي ينتظر الليبيون إفراغَه وإغلاقه قريبا إن شاء الله تعالى. وقد جاءت هذه الدراسة موقعة بأسماء ستة من المعتقلين الذين أشرفوا على إعدادها وتحريرها، وهم الأساتذة:
< بالحاج سامي مصطفى الساعدي
< عبد الحكيم الخويلدي
< عبد الوهــــــــاب محمد قايــــــد
< مفتــــاح المـــــبروك الــــذوادي
< خالد محمـــد الشـــــريف
< مصـــطفى الصيـــد قنيفيــــد
والحق أن مؤلفي هذه الدراسات التصحيحية قد غاصوا في كتب التفسير والفقه والأصول والمقاصد والتاريخ، فضلا عن تأملاتهم المعمقة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأسسوا على ذلك مراجعاتهم التصحيحية ومواقفهم الحالية. وهذه أهم البنود التي استقرت عليها بحوثهم ومراجعاتهم:
إن سؤال الناس عن عقائدهم أو التفتيش عنها بدعة محدثة، والواجب الأخذ بظواهر الناس ونكل سرائرهم إلى الله.
نحن ( دعاة لا قضاة )؛ واجبنا دعوة الناس للتمسك بتعاليم الإسلام لا الحكم عليهم , ويترك ذلك للمفتين والقضاة .
الجهاد والدعوة والحسبة وسائل لإقامة الدين , وهداية الناس هي الغاية من إرسال الرسل , فإذا تعارضت الوسائل مع الغاية لأي سبب من الأسباب تقدم الغاية على الوسائل .
الجهاد في سبيل الله ضد العدوان أو الاحتلال واجب شرعاً وعلى المسلمين التناصر في ذلك بقدر المستطاع.
الجهاد في سبيل الله له ضوابط وأخلاق نرى وجوب التمسك بها وحرمة انتهاكها, كحرمة قتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان والأُجراء والسفراء, وحرمة الغدر، ووجوب الوفاء بالعهود، والإحسان إلى الأسرى وغيرها. لا يجوز الاقتتال بين المسلمين لأي أسباب سواء كانت جهوية أو قبلية أو عصبية أو نحوها , مع وجوب المصالحة بين المسلمين .
نرى حرمة الخروج واستخدام السلاح من أجل التغيير والإصلاح أو دفع الظلم والفساد، لورود النهي الصريح بذلك , ولما يترتب عليه من سفك دماء المسلمين وغيرها من المفاسد .
الغلو في الدين من أسباب هلاك الأمم , وأن علاج أسبابه بالطرق الشرعية واجب على كل مسلم .
لا يجوز الإقدام على أي عمل من الأعمال إذا غلبت مفسدته على مصلحته، ويجب اعتبار مآلات الأمور والنظر إلى عواقبها .
لا يجوز التقول على الله بغير علم في أي مسألة من مسائل الشرع، وتتأكد هذه الحرمة إذا تعلق الأمر باستباحة الدماء والأموال .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية وقد يتعين في مواطن , ويجب التقيد بضوابطه وأحكامه. وكل ما أدى منه إلى تقابل الصفين وإشهار السلاح , فهو خاص بالسلطان .
نرى أن الحكم على المسلم بالكفر من أعظم الذنوب، فلا يجوز الإقدام عليه. انظر (ص 415-416)
ومما يلفت الانتباه في هذه الدراسة أن مراجعاتها وتوجهاتها لا تقف عند الحالة الليبية والتجربة الليبية، بل جاءت متطلعة إلى تقديم خلاصاتها وثمرات تجربتها العلمية والعملية إلى عموم الحركات الإسلامية، وخاصة منها التي تبنت النهج الجهادي المسلح لتغيير الأوضاع في البلدان الإسلامية.
يقول أصحاب الدراسة:
«كتبناها لكل مسلم غيور، آلمه حال أمته المكلومة , وقد رأى جرأة الأمم عليها، وسمع صراخ أبنائها ، وقد استبيحت أرضهم ، وسفكت دماؤهم ، وانتهكت حرماتهم، في بلاد كثيرة من فلسطين إلى العراق إلى أفغانستان.
وكتبناها لكل مسلم يرى الفرق الشاسع بين ما يتلوه في كتاب ربه وما يعلمه من سير العظماء من أمته، وبين ما يشاهده من صورة مزعجة لبعض أبناء المسلمين اليوم.
وكتبناها لكل شاب التزم بدينه، وتمسك به، وأراد نصرته، والارتقاء به , ممن قد لا يحالفه السداد في إنزال هذه الرغبة في مكانها الصحيح، أو في طريقها المثمر الذي يخدم أمته.
وكتبناها لكل طالب علم وداعية يحرص على هداية الخلق، وبيان الحق، وإرشاد العالمين ، وتعليم الجاهلين .
وكتبناها لكل مجاهد يحرص على رقي أمته، فيقف في وجه المؤامرات الخارجية بقلمه أو لسانه أو ماله أو سلاحه أو دعائه .
وكتبناها لكل من ربطتنا به يوماً من الأيام، علاقةٌ أخوية أو أدبية أو تنظيمية، فأَحَبَّ أن يطَّلع على خلاصة تجربتنا وزبدة قناعاتنا» (ص7) «وهي تجـربة خلاصتــها :
أنَّ أبناء الصحوة سيكونون بخير وسداد إذا ما رجعوا إلى العلماء الثقات في أمورهم وأعمالهم، لاسيما فيما يترتب عليه نتائج عظيمة تتعلق بالمصالح العامة لبلدهم وأمتهم. وبقدر تزودهم بالعلم الشرعي وتبصرهم بالواقع، فإن اختياراتهم ستكون مسددة وموفقة.
وأنَّ طريق الارتقاء بالأمة طويل يحتاج إلى صبر ومصابرة ، وجهد ووقت، لأنَّ الأمة الإسلامية لم تصل إلى ما وصلت إليه من تخلف وتأخر بين عشية وضحاها، بل كان ذلك نتيجة لتراكم عوامل كثيرة، استمر الانحدار فيها لقرون طويلة، فمثل هذا الخلل لا يمكن معالجته بحلول مستعجلة ولا أعمال حماسية، ولا تصرفات عاطفية...» (ص13)
وتبدو أزمة العلم وغياب العلماء، والخللُ الكبير الناجم عن الفصام بين الشباب والعلماء، تبدو قضية محورية في مراجعات الإخوة الليبيين وفي خلاصات تجربتهم. وهذا ما يتأكد في مواضع عدة من الكتاب، منها قولهم: «وكان لغياب العلماء ووسائلِ نشر العلم وقلةِ الموجهين، دورٌ كبيرٌ في عدم صواب الاختيار, كما كان لقلّة مجالات الدعوة بل وانعدامها في بعض الأحيان، بحيث لا يجد الإنسانُ سبيلاً متاحاً للعمل من خلاله لدين الله، كان لذلك كله دور كبير في تضييق دائرة الاختيار للعمل للدين .
والناظر في تلك الظروف وما أحاط بها من ملابسات ، لا يستغرب أن يكون ما يتولد عنها هو ما حدث في الواقع , أمَّا ماذا كان ينبغي أن يكون ، فهذا ما كُتبت أبواب هذه الدراسات الشرعية من أجله» (ص11)
وهنا أود أن أسجل أن إعراض كثير من التنظيمات الإسلامية الشبابية، ومن الشباب المتدينين عن العلماء، يرجع إلى عدة أسباب لا بد من معالجتها لاستعادة مكانة العلماء ودورهم وفاعليتهم في التوجيه والترشيد والتحصين.
- منها مسألة البعد عن الناس وعن الشباب. وقرب العلماء أو بعدهم قد يكون بانعزالهم وابتعادهم عن الشباب، وعدم مخالطتهم ومجالستهم ومذاكرتهم لهم. وينسى العلماء ورثة الأنبياء قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا» [الفرقان/20]، وهو ما يفرض على العلماء أن ينزلوا إلى أسواق الناس عامة، وإلى ميادين الشباب خاصة. فهذه سنة الأنبياء جميعا.
وقد يكون البعد بعدا فكريا، بحيث يغرق العلماء في عوالمهم واهتماماتهم العلمية والدنيوية، بعيدا عما يعيشه الشباب وما يعتمل في نفوسهم وعقولهم وحياتهم. فإذا تكلموا أو أفتوا أو ألفوا، ظهر أنهم في وادٍ والشباب في واد.
- ومنها مسألة المصداقية. فكثير من الشباب المتدينين لا يرون في عامة العلماء إلا علماء سلاطين وطلاب دنيا. يفقدون الثقة بصدقهم واسقلاليتهم ورسالتهم، فيُضربون عنهم صفحا، ويعمدون إلى البحث والتخريج السريع «للعلماء المجاهدين»، من بين طلبة الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والكمبيوتر... وفي أحيان قليلة من بين طلبة العلوم الشرعية، الذين لم يكملوا دراساتهم. وجميع هؤلاء يجدون أنفسهم فجأة يفتون ويفسرون ويؤصلون ويُنَظِّرون في أخطر قضايا الدين والسياسة ...
من بين مسارات هذا المخاض، الحوارات الجارية بين النظام الليبي و(الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية). وهي حوارات قطعت أشواطا من التفاهم والتصالح والمراجعات المتبادلة من الطرفين. ويتردد دائما أن هذه الحوارات جارية بإشراف سيف الإسلام، نجل العقيد القذافي، وبوساطة من المفكر والمؤرخ الليبي الدكتور محمد علي الصلابي.
ما يعنيني الآن هو المراجعات الفكرية والفقهية والسياسية التي قام بها القياديون في الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وتمت صياغتها في كتاب تزيد صفحاته على الأربعمائة صفحة، يحمل عنوان «دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس».
وقد عُرض الكتاب على مجموعة من العلماء من داخل ليبيا ومن خارجها، لأخذ آرائهم وملاحظاتهم العلمية بشأنه، وهم: العلامة المعروف الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ سلمان العودة من السعودية، والشيخ محمد الشنقيطي من موريتانيا، وأحمد الريسوني من المغرب. بالإضافة إلى العلماء الليبيين السادة: د.الصادق الغرياني، ود. حمزة أبو فارس، ود.سليمان البيرة، ود. عقيل حسن عقيل، ود. محمد أحمد الشيخ.
هذه الدراسات التصحيحية هي ثمرة نقاشات وقراءات ومراجعات طويلة، عكفت عليها قيادات الجماعة داخل السجون وخارجها، وتَم تحريرها بالقسم العسكري من سجن أبو سليم الشهير، الذي ينتظر الليبيون إفراغَه وإغلاقه قريبا إن شاء الله تعالى. وقد جاءت هذه الدراسة موقعة بأسماء ستة من المعتقلين الذين أشرفوا على إعدادها وتحريرها، وهم الأساتذة:
< بالحاج سامي مصطفى الساعدي
< عبد الحكيم الخويلدي
< عبد الوهــــــــاب محمد قايــــــد
< مفتــــاح المـــــبروك الــــذوادي
< خالد محمـــد الشـــــريف
< مصـــطفى الصيـــد قنيفيــــد
والحق أن مؤلفي هذه الدراسات التصحيحية قد غاصوا في كتب التفسير والفقه والأصول والمقاصد والتاريخ، فضلا عن تأملاتهم المعمقة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأسسوا على ذلك مراجعاتهم التصحيحية ومواقفهم الحالية. وهذه أهم البنود التي استقرت عليها بحوثهم ومراجعاتهم:
إن سؤال الناس عن عقائدهم أو التفتيش عنها بدعة محدثة، والواجب الأخذ بظواهر الناس ونكل سرائرهم إلى الله.
نحن ( دعاة لا قضاة )؛ واجبنا دعوة الناس للتمسك بتعاليم الإسلام لا الحكم عليهم , ويترك ذلك للمفتين والقضاة .
الجهاد والدعوة والحسبة وسائل لإقامة الدين , وهداية الناس هي الغاية من إرسال الرسل , فإذا تعارضت الوسائل مع الغاية لأي سبب من الأسباب تقدم الغاية على الوسائل .
الجهاد في سبيل الله ضد العدوان أو الاحتلال واجب شرعاً وعلى المسلمين التناصر في ذلك بقدر المستطاع.
الجهاد في سبيل الله له ضوابط وأخلاق نرى وجوب التمسك بها وحرمة انتهاكها, كحرمة قتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان والأُجراء والسفراء, وحرمة الغدر، ووجوب الوفاء بالعهود، والإحسان إلى الأسرى وغيرها. لا يجوز الاقتتال بين المسلمين لأي أسباب سواء كانت جهوية أو قبلية أو عصبية أو نحوها , مع وجوب المصالحة بين المسلمين .
نرى حرمة الخروج واستخدام السلاح من أجل التغيير والإصلاح أو دفع الظلم والفساد، لورود النهي الصريح بذلك , ولما يترتب عليه من سفك دماء المسلمين وغيرها من المفاسد .
الغلو في الدين من أسباب هلاك الأمم , وأن علاج أسبابه بالطرق الشرعية واجب على كل مسلم .
لا يجوز الإقدام على أي عمل من الأعمال إذا غلبت مفسدته على مصلحته، ويجب اعتبار مآلات الأمور والنظر إلى عواقبها .
لا يجوز التقول على الله بغير علم في أي مسألة من مسائل الشرع، وتتأكد هذه الحرمة إذا تعلق الأمر باستباحة الدماء والأموال .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية وقد يتعين في مواطن , ويجب التقيد بضوابطه وأحكامه. وكل ما أدى منه إلى تقابل الصفين وإشهار السلاح , فهو خاص بالسلطان .
نرى أن الحكم على المسلم بالكفر من أعظم الذنوب، فلا يجوز الإقدام عليه. انظر (ص 415-416)
ومما يلفت الانتباه في هذه الدراسة أن مراجعاتها وتوجهاتها لا تقف عند الحالة الليبية والتجربة الليبية، بل جاءت متطلعة إلى تقديم خلاصاتها وثمرات تجربتها العلمية والعملية إلى عموم الحركات الإسلامية، وخاصة منها التي تبنت النهج الجهادي المسلح لتغيير الأوضاع في البلدان الإسلامية.
يقول أصحاب الدراسة:
«كتبناها لكل مسلم غيور، آلمه حال أمته المكلومة , وقد رأى جرأة الأمم عليها، وسمع صراخ أبنائها ، وقد استبيحت أرضهم ، وسفكت دماؤهم ، وانتهكت حرماتهم، في بلاد كثيرة من فلسطين إلى العراق إلى أفغانستان.
وكتبناها لكل مسلم يرى الفرق الشاسع بين ما يتلوه في كتاب ربه وما يعلمه من سير العظماء من أمته، وبين ما يشاهده من صورة مزعجة لبعض أبناء المسلمين اليوم.
وكتبناها لكل شاب التزم بدينه، وتمسك به، وأراد نصرته، والارتقاء به , ممن قد لا يحالفه السداد في إنزال هذه الرغبة في مكانها الصحيح، أو في طريقها المثمر الذي يخدم أمته.
وكتبناها لكل طالب علم وداعية يحرص على هداية الخلق، وبيان الحق، وإرشاد العالمين ، وتعليم الجاهلين .
وكتبناها لكل مجاهد يحرص على رقي أمته، فيقف في وجه المؤامرات الخارجية بقلمه أو لسانه أو ماله أو سلاحه أو دعائه .
وكتبناها لكل من ربطتنا به يوماً من الأيام، علاقةٌ أخوية أو أدبية أو تنظيمية، فأَحَبَّ أن يطَّلع على خلاصة تجربتنا وزبدة قناعاتنا» (ص7) «وهي تجـربة خلاصتــها :
أنَّ أبناء الصحوة سيكونون بخير وسداد إذا ما رجعوا إلى العلماء الثقات في أمورهم وأعمالهم، لاسيما فيما يترتب عليه نتائج عظيمة تتعلق بالمصالح العامة لبلدهم وأمتهم. وبقدر تزودهم بالعلم الشرعي وتبصرهم بالواقع، فإن اختياراتهم ستكون مسددة وموفقة.
وأنَّ طريق الارتقاء بالأمة طويل يحتاج إلى صبر ومصابرة ، وجهد ووقت، لأنَّ الأمة الإسلامية لم تصل إلى ما وصلت إليه من تخلف وتأخر بين عشية وضحاها، بل كان ذلك نتيجة لتراكم عوامل كثيرة، استمر الانحدار فيها لقرون طويلة، فمثل هذا الخلل لا يمكن معالجته بحلول مستعجلة ولا أعمال حماسية، ولا تصرفات عاطفية...» (ص13)
وتبدو أزمة العلم وغياب العلماء، والخللُ الكبير الناجم عن الفصام بين الشباب والعلماء، تبدو قضية محورية في مراجعات الإخوة الليبيين وفي خلاصات تجربتهم. وهذا ما يتأكد في مواضع عدة من الكتاب، منها قولهم: «وكان لغياب العلماء ووسائلِ نشر العلم وقلةِ الموجهين، دورٌ كبيرٌ في عدم صواب الاختيار, كما كان لقلّة مجالات الدعوة بل وانعدامها في بعض الأحيان، بحيث لا يجد الإنسانُ سبيلاً متاحاً للعمل من خلاله لدين الله، كان لذلك كله دور كبير في تضييق دائرة الاختيار للعمل للدين .
والناظر في تلك الظروف وما أحاط بها من ملابسات ، لا يستغرب أن يكون ما يتولد عنها هو ما حدث في الواقع , أمَّا ماذا كان ينبغي أن يكون ، فهذا ما كُتبت أبواب هذه الدراسات الشرعية من أجله» (ص11)
وهنا أود أن أسجل أن إعراض كثير من التنظيمات الإسلامية الشبابية، ومن الشباب المتدينين عن العلماء، يرجع إلى عدة أسباب لا بد من معالجتها لاستعادة مكانة العلماء ودورهم وفاعليتهم في التوجيه والترشيد والتحصين.
- منها مسألة البعد عن الناس وعن الشباب. وقرب العلماء أو بعدهم قد يكون بانعزالهم وابتعادهم عن الشباب، وعدم مخالطتهم ومجالستهم ومذاكرتهم لهم. وينسى العلماء ورثة الأنبياء قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا» [الفرقان/20]، وهو ما يفرض على العلماء أن ينزلوا إلى أسواق الناس عامة، وإلى ميادين الشباب خاصة. فهذه سنة الأنبياء جميعا.
وقد يكون البعد بعدا فكريا، بحيث يغرق العلماء في عوالمهم واهتماماتهم العلمية والدنيوية، بعيدا عما يعيشه الشباب وما يعتمل في نفوسهم وعقولهم وحياتهم. فإذا تكلموا أو أفتوا أو ألفوا، ظهر أنهم في وادٍ والشباب في واد.
- ومنها مسألة المصداقية. فكثير من الشباب المتدينين لا يرون في عامة العلماء إلا علماء سلاطين وطلاب دنيا. يفقدون الثقة بصدقهم واسقلاليتهم ورسالتهم، فيُضربون عنهم صفحا، ويعمدون إلى البحث والتخريج السريع «للعلماء المجاهدين»، من بين طلبة الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والكمبيوتر... وفي أحيان قليلة من بين طلبة العلوم الشرعية، الذين لم يكملوا دراساتهم. وجميع هؤلاء يجدون أنفسهم فجأة يفتون ويفسرون ويؤصلون ويُنَظِّرون في أخطر قضايا الدين والسياسة ...
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
المسلمون من أقل الأمم اكتراثا بالوقت وهو ما يوجب على القائمين بتوجيه الأمة معالجة هذا الخلل
أما مكانة الصلاة في الإسلام وكونُها تاجَ الأركان وأُمَّ العبادات وعمادَ
الدين، فهو مما لا يخفى على أحد، سواء من يصلي ومن لا يصلي. فليس عن هذا
أريد الحديث، وإنما حديثي عن الصلاة باعتبارها نظاما، وعن الأبعاد والآثار
التربوية والاجتماعية والسياسية لهذا النظام.
الصلاة أحكام ونظام
أمَّا كون الصلاة أحكاما، أو أن للصلاة أحكاما، فهذا واضح ومعلوم...
وأما كونها نظاما، فأعني به أنها ليست مجرد أحكام تُـعَلِّم الناسَ
وجوب الصلاة ومقاديرها وكيفيتها وشروطها، وما إلى ذلك مما يحتاج المكلف
إلى معرفته في أي عمل كلف به، وإنما هي نظام شامل متكامل، يمس ويوجه جوانب
كثيرة من حياة الناس أفرادا وجماعة. ويمكن أن نقول إنها نموذج مصغر للسلوك
الإسلامي والنظام الإسلامي...
في هذا المقال أعرض ما لاح لي من معالم هذا النظام وحِكَمه ومراميه.
ومجموع ذلك يمكن تلخيصه في ثلاث كلمات: الارتباط، والانخراط، والانضباط...
وفيما يلي شيء من تفاصيلها وأدلتها وفوائدها.
الارتباط بالله سبحانه:
وهــــــــــــــــــذا هو الأساس الأول في نظام الصلاة. فالمصلون يتم
ربطهم وارتباطهم بالله تعالى بشكل وثيق ودائم. وهذا الارتباط لا يتحقق بأي
طريق آخر كما يتحقق في نظام الصلاة. وهذا واضح لا يحتاج إلى شرح أو بيان.
فأداء الصلاة من أوله إلى آخره ارتباط بالله، والتفكير فيها وفي وقتها
ارتباط بالله، والاستعداد لها بالوضوء أو الاغتسال أو التيمم ارتباط
بالله، واللباس للصلاة ارتباط بالله، والمشي إليها ارتباط بالله،
ومُعَقِّباتها ارتباط بالله...
والارتباط بالله ليس مجرد ذكر وشكر وركوع وسجود، بل هو مسار يحكم
الحياة برمتها، في ظاهرها وباطنها؛ يصبغها بصبغته، ويقودها في وجهته. كما
أن عدم الارتباط بالله يشكل مسارا مماثلا، وإن كان مضادا.
الارتباط بالكون: ويتجلى ذلك في ربط مواقيت الصلوات الخمس بحركة
الأرض والشمس؛ فمواقيت الصلاة وحركة المصلين مرتبطة بحركة الدورة الفلكية،
تدور معها وتتكرر بتكررها وتدوم بدوامها. قال الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ» (الأنبياء/33). فهؤلاء في السماء يَسْبَحون، والمصلون في
الأرض يُسَبِّحون.
الارتباط بالوقت: فالمصلي دائم التفكير في عنصر الوقت، وهو دائما
يسأل أو يتساءل عن صلواته الخمس: هل دخل الوقت؟ هل اقترب الوقت؟ هل خرج
الوقت؟ كم بقي من الوقت؟ هل ضاق الوقت؟ وهكذا ينتقل من وقت إلى وقت، على
مدار اليوم والليلة، يرقب الأوقات ويضبط الدقائق والساعات...ومعلوم أن
«الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا»
(النساء/103) وفي الحديث: «سئل النبي - صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال
أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها».
ورغم وضوح هذه المسألة في نظام الصلاة وفي عبادات وأحكام ونصوص
شرعية كثيرة، فإن مما يدعو للحسرة والألم، كون المسلمين من أقل الأمم
اكتراثا بالوقت ورعاية له، وهو ما يوجب على كل القائمين بتوجيه الأمة
وتثقيفها وتربيتها التركيزَ على معالجة هذا الخلل الفظيع والعيب الشنيع،
وبيانَ تنافيه مع الدين والتدين.
الانخراط في الجماعة والمجتمع: وهذا واضح ومشاهد في صلاة الجماعة،
التي هي في جملتها فريضة من فرائض الله وشعيرة من شعائره. فإذا كان الناس
يفاضلون ويتخيرون في علاقاتهم بين الخلطة والعزلة، وبين الاندماج
والانكفاء، وبين الإكثار والإقلال من هذا أو ذاك، فإن المصلين ليس أمامهم
إلا الاختلاط مع جيرانهم وزملائهم والانخراطُ في جماعتهم ومجتمعهم. وخمسة
تجمعات كل يوم كافية لتحقيق ذلك وتمتينه، أثناء الذهاب إلى المسجد، وأثناء
الرجوع منه، وأثناء المكوث فيه... قال ابن العربي: «... المقصد الأكثر
والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليفُ القلوب والكلمة. .. حتى يقع الأنس
بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسادة...» – أحكام القرآن2/582
من التكبير إلى التسليم
الانضباط في النظام: وهذا أيضا مما يتحقق ويتجلى في صلاة الجماعة
خاصة. فالمصلون حين يذهبون إلى صلاة الجماعة ويؤدونها، ينخرطون في نظام
تام محكم من الألف إلى الياء، أو بالتعبير الفقهي: من التكبير إلى
التسليم: فالاجتماع في الصلاة ليس كالاجتماعات الأخرى، في الولائم
والحفلات والأسواق والمحلات. فهذه يأتيها الناس وينصرفون منها ويتصرفون
فيها متى شاؤوا وكيف شاؤوا. أما الصلاة فيتوجهون إليها جميعا متوضئين،
ويأتونها في وقت واحد، وينهضون إليها ويشرعون فيها في لحظة واحدة، بكلمة
واحدة وإشارة واحدة. وهم ملزمون وملتزمون بالاصطفاف لها وتسوية صفوفهم
خلالها. كما أنهم ملزمون وملتزمون باتباع إمامهم في حركاته وسكناته، لا
يخالفونه ولا يتقدمون عليه. وهم يختمون صلاتهم في لحظة واحدة وبطريقة
موحدة وكلمة واحدة.
ومن تمام النظام في الصلاة أن الإمام يكون متبوعا ومحاطا بأهل العلم
والفكر قبل غيرهم، قال عليه الصلاة والسلام: «استووا ولا تختلفوا فتختلفَ
قلوبكم، لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّـهَى، ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم». وفي حديث آخر: «لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّـهَى، ثم الذين
يلونهم - ثلاثا - وإياكم وهَيشاتِ الأسواق». والمراد بهيشات الأسواق
خصوماتها ومنازعاتها. وفي هذا كله تنبيه وتدريب للمسلمين لكي ينظموا
صفوفهم ويوحدوا كلمتهم وينسقوا أعمالهم، وأن يبتعدوا عن التخاصم
والغوغائية والفوضى... وفيه أيضا توجيه لأصحاب الولايات والزعامات في
الأمة، لكي يجعلوا بطانتهم ومقربيهم من ذوي العلم والعقل والصلاح، لا من
الجهلة وذوي الأطماع والأغراض.
ومن مظاهر الانضباط في الصلاة: انضباط الإمام نفسِه؛ فعليه أولا أن
يكون مقبولا مرضيا لدى مأموميه، فإن كانوا يرفضونه ويكرهون إمامته فعليه
أن يترك إمامتهم. ففي الحديث قال عليه السلام: «من أمَّ قوما وهم له
كارهون لم تُجاوز صلاتُه تَرقُوَّتَه». والترقوة هي العظم بين النحر
والعاتق، والتعبير كناية عن عدم قبول صلاته وأنها لا تتجاوز حنجرته.
وفي حديث آخر «ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة : إمامُ قوم وهم له
كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها غضبان، وأخوان متصارمان ( أي متخاصمان
متقاطعان)»
قال الإمام أحمد وإسحاق: «إذا كره واحد أو اثنان أو ثلاثة، فلا بأس أن يصلي بهم، حتى يكرهه أكثر القوم»
فإذا كان إمام الصلاة لا تقبل صلاته إذا صلى بالناس وهم له كارهون، مع
أن ذلك غير مؤثر على صلاتهم ولا يضرهم في شيء، فهذا الحكم ينطبق من باب
أولى على من يترأسون على الناس رغما عنهم وهم لهم كارهون.
وقد جاء في عدة أحاديث أن الإمام إذا انتهت إمامته عليه أن يتحول من
مكانه، وأن يصلي نافلته في موضع آخر. فهو مأمور بتغيير موضعه إيذانا بتغير
وضعيته وانتهاءِ إمامته. ففي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
قال: «لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه». وفي
هذا درس لمن تنتهي ولاياتهم ولكنهم يبقون مستمسكين بمواقعهم ومقاعدهم،
فعليهم أن يتنحوا كما يتنحى إمام الصلاة عن موضعه.
كما أن على الإمام أن يكون منتبها لمن خلفه ومن يتبعونه، فإذا نبهوه
على غلط أو سهو أو إخلال أخذ بتنبيههم وتصحيحهم. وأما إذا كان غلطه فاحشا
فالصلاة تبطل والإمامة تنتهي. وهذا ينطبق على أئمة الحكم من باب أولى، فلا
بد أن يقبلوا التنبيه والنصح والتصحيح ممن خلفهم.
وفي الحديث أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأدخل في
الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من
شدة وَجدِ أمه من بكائه»، فانهماك الإمام في صلاته وإمامته، لا ينبغي أن
يشغله عن معاناة من خلفه. وهذا أولى وآكد في الإمامة السياسية ونحوها. فلا
بد لكل إمام ومسؤول أن ينصت ويستجيب لحاجات من خلفه من الناس.
وفي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمَّ
رجل القوم فلا يختص بدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا يُدخل عينه في
بيت قوم بغير إذنهم، فإن فعل فقد خانهم».
فمما يؤخذ من هذا الحديث أن صاحب الإمامة والرياسة والمنصب، لا
ينبغي له أن يخص نفسه بمنافع وامتيازات ومغانم دون رعيته، «فإن فعل فقد
خانهم. ..».
والخلاصة أن الصلاة التي هي أم العبادات، هي أيضا نظام. ولهذا النظام
قواعد ومبادئ تربوية وخلقية وتنظيمية يقوم عليها ويروم نشرها وترسيخها في
السلوك الاجتماعي.
الدين، فهو مما لا يخفى على أحد، سواء من يصلي ومن لا يصلي. فليس عن هذا
أريد الحديث، وإنما حديثي عن الصلاة باعتبارها نظاما، وعن الأبعاد والآثار
التربوية والاجتماعية والسياسية لهذا النظام.
الصلاة أحكام ونظام
أمَّا كون الصلاة أحكاما، أو أن للصلاة أحكاما، فهذا واضح ومعلوم...
وأما كونها نظاما، فأعني به أنها ليست مجرد أحكام تُـعَلِّم الناسَ
وجوب الصلاة ومقاديرها وكيفيتها وشروطها، وما إلى ذلك مما يحتاج المكلف
إلى معرفته في أي عمل كلف به، وإنما هي نظام شامل متكامل، يمس ويوجه جوانب
كثيرة من حياة الناس أفرادا وجماعة. ويمكن أن نقول إنها نموذج مصغر للسلوك
الإسلامي والنظام الإسلامي...
في هذا المقال أعرض ما لاح لي من معالم هذا النظام وحِكَمه ومراميه.
ومجموع ذلك يمكن تلخيصه في ثلاث كلمات: الارتباط، والانخراط، والانضباط...
وفيما يلي شيء من تفاصيلها وأدلتها وفوائدها.
الارتباط بالله سبحانه:
وهــــــــــــــــــذا هو الأساس الأول في نظام الصلاة. فالمصلون يتم
ربطهم وارتباطهم بالله تعالى بشكل وثيق ودائم. وهذا الارتباط لا يتحقق بأي
طريق آخر كما يتحقق في نظام الصلاة. وهذا واضح لا يحتاج إلى شرح أو بيان.
فأداء الصلاة من أوله إلى آخره ارتباط بالله، والتفكير فيها وفي وقتها
ارتباط بالله، والاستعداد لها بالوضوء أو الاغتسال أو التيمم ارتباط
بالله، واللباس للصلاة ارتباط بالله، والمشي إليها ارتباط بالله،
ومُعَقِّباتها ارتباط بالله...
والارتباط بالله ليس مجرد ذكر وشكر وركوع وسجود، بل هو مسار يحكم
الحياة برمتها، في ظاهرها وباطنها؛ يصبغها بصبغته، ويقودها في وجهته. كما
أن عدم الارتباط بالله يشكل مسارا مماثلا، وإن كان مضادا.
الارتباط بالكون: ويتجلى ذلك في ربط مواقيت الصلوات الخمس بحركة
الأرض والشمس؛ فمواقيت الصلاة وحركة المصلين مرتبطة بحركة الدورة الفلكية،
تدور معها وتتكرر بتكررها وتدوم بدوامها. قال الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ» (الأنبياء/33). فهؤلاء في السماء يَسْبَحون، والمصلون في
الأرض يُسَبِّحون.
الارتباط بالوقت: فالمصلي دائم التفكير في عنصر الوقت، وهو دائما
يسأل أو يتساءل عن صلواته الخمس: هل دخل الوقت؟ هل اقترب الوقت؟ هل خرج
الوقت؟ كم بقي من الوقت؟ هل ضاق الوقت؟ وهكذا ينتقل من وقت إلى وقت، على
مدار اليوم والليلة، يرقب الأوقات ويضبط الدقائق والساعات...ومعلوم أن
«الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا»
(النساء/103) وفي الحديث: «سئل النبي - صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال
أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها».
ورغم وضوح هذه المسألة في نظام الصلاة وفي عبادات وأحكام ونصوص
شرعية كثيرة، فإن مما يدعو للحسرة والألم، كون المسلمين من أقل الأمم
اكتراثا بالوقت ورعاية له، وهو ما يوجب على كل القائمين بتوجيه الأمة
وتثقيفها وتربيتها التركيزَ على معالجة هذا الخلل الفظيع والعيب الشنيع،
وبيانَ تنافيه مع الدين والتدين.
الانخراط في الجماعة والمجتمع: وهذا واضح ومشاهد في صلاة الجماعة،
التي هي في جملتها فريضة من فرائض الله وشعيرة من شعائره. فإذا كان الناس
يفاضلون ويتخيرون في علاقاتهم بين الخلطة والعزلة، وبين الاندماج
والانكفاء، وبين الإكثار والإقلال من هذا أو ذاك، فإن المصلين ليس أمامهم
إلا الاختلاط مع جيرانهم وزملائهم والانخراطُ في جماعتهم ومجتمعهم. وخمسة
تجمعات كل يوم كافية لتحقيق ذلك وتمتينه، أثناء الذهاب إلى المسجد، وأثناء
الرجوع منه، وأثناء المكوث فيه... قال ابن العربي: «... المقصد الأكثر
والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليفُ القلوب والكلمة. .. حتى يقع الأنس
بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسادة...» – أحكام القرآن2/582
من التكبير إلى التسليم
الانضباط في النظام: وهذا أيضا مما يتحقق ويتجلى في صلاة الجماعة
خاصة. فالمصلون حين يذهبون إلى صلاة الجماعة ويؤدونها، ينخرطون في نظام
تام محكم من الألف إلى الياء، أو بالتعبير الفقهي: من التكبير إلى
التسليم: فالاجتماع في الصلاة ليس كالاجتماعات الأخرى، في الولائم
والحفلات والأسواق والمحلات. فهذه يأتيها الناس وينصرفون منها ويتصرفون
فيها متى شاؤوا وكيف شاؤوا. أما الصلاة فيتوجهون إليها جميعا متوضئين،
ويأتونها في وقت واحد، وينهضون إليها ويشرعون فيها في لحظة واحدة، بكلمة
واحدة وإشارة واحدة. وهم ملزمون وملتزمون بالاصطفاف لها وتسوية صفوفهم
خلالها. كما أنهم ملزمون وملتزمون باتباع إمامهم في حركاته وسكناته، لا
يخالفونه ولا يتقدمون عليه. وهم يختمون صلاتهم في لحظة واحدة وبطريقة
موحدة وكلمة واحدة.
ومن تمام النظام في الصلاة أن الإمام يكون متبوعا ومحاطا بأهل العلم
والفكر قبل غيرهم، قال عليه الصلاة والسلام: «استووا ولا تختلفوا فتختلفَ
قلوبكم، لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّـهَى، ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم». وفي حديث آخر: «لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّـهَى، ثم الذين
يلونهم - ثلاثا - وإياكم وهَيشاتِ الأسواق». والمراد بهيشات الأسواق
خصوماتها ومنازعاتها. وفي هذا كله تنبيه وتدريب للمسلمين لكي ينظموا
صفوفهم ويوحدوا كلمتهم وينسقوا أعمالهم، وأن يبتعدوا عن التخاصم
والغوغائية والفوضى... وفيه أيضا توجيه لأصحاب الولايات والزعامات في
الأمة، لكي يجعلوا بطانتهم ومقربيهم من ذوي العلم والعقل والصلاح، لا من
الجهلة وذوي الأطماع والأغراض.
ومن مظاهر الانضباط في الصلاة: انضباط الإمام نفسِه؛ فعليه أولا أن
يكون مقبولا مرضيا لدى مأموميه، فإن كانوا يرفضونه ويكرهون إمامته فعليه
أن يترك إمامتهم. ففي الحديث قال عليه السلام: «من أمَّ قوما وهم له
كارهون لم تُجاوز صلاتُه تَرقُوَّتَه». والترقوة هي العظم بين النحر
والعاتق، والتعبير كناية عن عدم قبول صلاته وأنها لا تتجاوز حنجرته.
وفي حديث آخر «ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة : إمامُ قوم وهم له
كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها غضبان، وأخوان متصارمان ( أي متخاصمان
متقاطعان)»
قال الإمام أحمد وإسحاق: «إذا كره واحد أو اثنان أو ثلاثة، فلا بأس أن يصلي بهم، حتى يكرهه أكثر القوم»
فإذا كان إمام الصلاة لا تقبل صلاته إذا صلى بالناس وهم له كارهون، مع
أن ذلك غير مؤثر على صلاتهم ولا يضرهم في شيء، فهذا الحكم ينطبق من باب
أولى على من يترأسون على الناس رغما عنهم وهم لهم كارهون.
وقد جاء في عدة أحاديث أن الإمام إذا انتهت إمامته عليه أن يتحول من
مكانه، وأن يصلي نافلته في موضع آخر. فهو مأمور بتغيير موضعه إيذانا بتغير
وضعيته وانتهاءِ إمامته. ففي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
قال: «لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه». وفي
هذا درس لمن تنتهي ولاياتهم ولكنهم يبقون مستمسكين بمواقعهم ومقاعدهم،
فعليهم أن يتنحوا كما يتنحى إمام الصلاة عن موضعه.
كما أن على الإمام أن يكون منتبها لمن خلفه ومن يتبعونه، فإذا نبهوه
على غلط أو سهو أو إخلال أخذ بتنبيههم وتصحيحهم. وأما إذا كان غلطه فاحشا
فالصلاة تبطل والإمامة تنتهي. وهذا ينطبق على أئمة الحكم من باب أولى، فلا
بد أن يقبلوا التنبيه والنصح والتصحيح ممن خلفهم.
وفي الحديث أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأدخل في
الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من
شدة وَجدِ أمه من بكائه»، فانهماك الإمام في صلاته وإمامته، لا ينبغي أن
يشغله عن معاناة من خلفه. وهذا أولى وآكد في الإمامة السياسية ونحوها. فلا
بد لكل إمام ومسؤول أن ينصت ويستجيب لحاجات من خلفه من الناس.
وفي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمَّ
رجل القوم فلا يختص بدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا يُدخل عينه في
بيت قوم بغير إذنهم، فإن فعل فقد خانهم».
فمما يؤخذ من هذا الحديث أن صاحب الإمامة والرياسة والمنصب، لا
ينبغي له أن يخص نفسه بمنافع وامتيازات ومغانم دون رعيته، «فإن فعل فقد
خانهم. ..».
والخلاصة أن الصلاة التي هي أم العبادات، هي أيضا نظام. ولهذا النظام
قواعد ومبادئ تربوية وخلقية وتنظيمية يقوم عليها ويروم نشرها وترسيخها في
السلوك الاجتماعي.
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» وفاة الاستاذ سي احمد بن سي العربي الهاشمي
» وفاة الحاج البوعيادي أحمد
» مولاي أحمد الريسوني
» أحمد الريسوني و حرب العدوان والشيطان
» عبدالرحيم شيخي رئيسا لحركة التوحيد والإصلاح
» وفاة الحاج البوعيادي أحمد
» مولاي أحمد الريسوني
» أحمد الريسوني و حرب العدوان والشيطان
» عبدالرحيم شيخي رئيسا لحركة التوحيد والإصلاح
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى