الساميون والعرب، أصلهم من العراق والشام أم من الجزيرة العربية؟! / سليم مطر
صفحة 1 من اصل 1
الساميون والعرب، أصلهم من العراق والشام أم من الجزيرة العربية؟! / سليم مطر
الرؤية القومية العروبية في دراسة التاريخ
من الناحية الموضوعية
والانسانية، ان هذه الاشكالية تبدو ثانوية وغير مهمة، لأن كل شعوب الارض
أتت من أماكن مختلفة واستقبلت هجرات مختلفة وامتزجت مع شعوب وجماعات
مختلفة..
لكن مشكلة (كتابة التاريخ) انه من أكثر المجالات استخداماً
في السياسة. فالشعوب مثل الافراد، تعيش حاضرها بالاستناد على شخصيتها التي
تكونت خلال ماضيها. كما يقول علم النفس، ان علاقة الانسان بماضيه تحدد
علاقته بحاضره ومستقبله. كذلك يصح القول بأن علاقة الشعب بتاريخه تحدد
علاقته بحاضره ومستقبله.
اذا أردت أن تسيطر على شعب يكفيك أن تقنعه بأن
تاريخه تابع لك. وإذا أردت تقسيمه، يكفيك أن تقنعه انه في تاريخه كان
مقسَّماً. بل يمكنك أن تصنع وطناً وشعباً من لا شيء اذا نجحت أن تصنع
تاريخاً خاصاً به، و(اسرائيل) أوضح مثال على ذلك! ثم ان التاريخ سلاح خطير
لا يمكننا أبداً أن نتعامل معه بحيادية وبرود، فإن لم تسارع الى الاستيلاء
عليه واستعماله وكتابته لصالح وطنك، فإن هنالك مختلف القوى الاقليمية
والدولية تعمل ليل نهار لكي تستولي على تاريخك من أجل كتابته بما يكفل
مصالحها ويبرر إضعاف بلادك والسيطرة على شعبك.
لهذا فان مسألة (ما هو
الموطن الاصلي للساميين والعرب)، قد تبدو ثانوية من الناحية المعرفية،
إلاّ أنها للأسف تعتبر من أخطر الاشكالات التاريخية التي تم استخدامها
سياسياً في العراق خصوصاً وكذلك في بلدان الشام. ان هذه المسألة قد
استخدمت بنفس الوقت، من قبل التيارات العروبية والتيارات المعادية لها.
يكفي القول ان الفكرة العروبية القائلة بأصل العرب من الجزيرة، قد استفادت
منها الصهيونية الى حد كبير بطرد الفلسطينيين من بلادهم لكي: (يرجعوا الى
الجزيرة العربية موطنهم الاصلي)! وكيف استخدمت هذه العروبة في العراق بخلق
عقدة نفسية واجتماعية خطيرة ودائمة لدى العراقيين حتى لدى الرافضين
للعروبة، بأن أياً منهم لكي يثبت عراقيته عليه أولاً أن يثبت ان أصل
أجداده يماني أو حجازي أو نجدي!!
بل بلغت المازوشية والتعصب العروبي
الى حد نفي وجود أوطاننا تاريخياً من أجل تقديس الاصل الجزيري. فها هو أحد
متعصبي العروبة الباحث اللبناني المعروف (كمال الصليبي) ينفي صراحة وجود
العراق بل يعتبره جزءاً من ايران، إذ يقول حرفياً في مقابلة مع جريدة
السفير: ((ليس هناك ما يسمى عراق في الجغرافيا التاريخية. (العراق) اسم
كان يطلقه العرب على المناطق الجنوبية لما يسمى اليوم عراقاً. العراق كانت
تطلق على الوديان والأراضي الخصبة أو ما سمي أرض السواد. في الجغرافيا
التاريخية نهر الفرات هو أحد حدود الجزيرة العربية لناحية الشمال الشرقي.
نكمل في الصحراء بعد الفرات إلى أن نصل إلى دجلة التي هي مصب الأنهر التي
تنبع من جبال زاغروس في إيران. يعني كأن دجلة ساحل بحر، لكنه ليس كذلك، هو
نهر. العراق إذاً من الناحية الجغرافية التاريخية هو جزء من بلاد فارس، أي
الجزء الغربي لما يسمى اليوم إيران. وعندما ظهر الإسلام في الجزيرة
العربية وصل فوراً إلى نهر الفرات، وكان الفتح يسيراً)) (1).
لهذا نقول
لأخوتنا في الجزيرة العربية، اننا في بحثنا هذا لا نبتغي أبداً الاستهانة
بهم والتنكر لعلاقاتنا الانسانية والتاريخية والثقافية وحتى الاقوامية
بهم. ان القول بأن أهل الجزيرة أصلهم من المشرق العراقي الشامي، وليس
العكس، لن يغير نوعية علاقتنا بهم. في كلتا الحالتين نتفق على اننا من
أصول تاريخية وأقوامية مشتركة. ثم ان هذه القناعة التاريخية الجديدة لن
تؤثر على علاقة شعوب الجزيرة بهوياتها الوطنية، بل يقيناً ستمنحها بعض
العمق التاريخي الجديد، وفي نفس الوقت تقدم لنا نحن شعوب الهلال الخصيب،
زخماً إيجابياً في علاقتنا مع هوياتنا وتواريخنا الوطنية.
من المعلوم
ان أكثر مؤثرات التيار القومي العروبي تجلت في كتابة تاريخ العراق والشام
(الهلال الخصيب). والسبب يعود الى ان غالبية مثقفي هذا التيار هم من أبناء
المشرق العراقي الشامي. ان حجر الزاوية في الفكر العروبي هو (تقديس
الجزيرة العربية) باعتبارها (موطن العرب التاريخي الاصلي)! لهذا فأن أي
انسان أو تاريخ أو حضارة، لن تثبت عروبته القحة وأصالته النقية، إلاّ إذا
ثبت بأن أصله ومنبعه من هذه (الجزيرة العربية المقدسة)! يبدو ان هذا
الاصرار على تقديس الاصل الجزيري، لم يكن اختراعاً خاصاً بالنخب العروبية،
بل هو تقليد للتيارات القومية التي تأسست في نهايات القرن التاسع عشر. إذ
ساد حينذاك نوع من (الرومانسية الشوقية) لتقديس (وطن بعيد ضائع). وقد تجلى
هذا في (التيار القومي التركي) بتقديس ذلك (الوطن الطوراني الآسيوي
البعيد). كذلك الحركة القومية اليهودية (الصهيونية)، التي قدست (الارض
الموعودة ـ فلسطين) ذلك الوطن الضائع. وقد قام بالتنظير لهذا الميل
العروبي الجزيري مؤسسو التيار الاوائل وكلهم من أصول شامية: جورج أنطونيوس
وقسطنطين زريق وساطع الحصري وزكي الارسوزي وميشيل عفلق.
وقد تعزز هذه
الميل العروبي بتقديس (الاصل الجزيري) بالميل العام السائد لدى النخب
العراقية الشامية بالبحث عن أي (انتماء خارجي)، بسبب معاناتها التاريخية
من فقدان الثقة بالذات الوطنية. وفي أعوام الخمسينات والستينات من القرن
الماضي، غدت (مصر الناصرية) هي قبلة العروبيين في العراق والشام. بل ان
عقدة التبعية للخارج كانت أيضاً سبباً لانتشار التيارات الشيوعية
والحداثية التي قدست روسيا والصين واوروبا الغربية. يقيناً لو كان هؤلاء
اليساريون والحداثيون قادرين، لأشاعوا بأن العراقيين والشاميين أصلهم من
اوروبا.. نعم انها عقدة احتقار الذات الوطنية والبحث عن أصل خارجي!!
تحت
تأثير هذا المفهوم العروبي قام المؤرخون بتسليط الضوء فقط على الفرضية
القائلة بالاصل الجزيري للشعوب السامية، ومنهم العرب طبعا. وقد بلغ هذا
الميل ذروته باستخدام تسميات (الشعوب العروبية) و(الشعوب الجزيرية) بدلاً
من (الساميين)(2 ) وآخر تعبيرات هذا الميل العروبي هي طروحات اللبناني
(كمال الصليبي) القائل بأن (التوارة جاءت من جزيرة العرب). وهو يعتمد
أساساً على حجة وجود أماكن في الجزيرة تحمل مسميات هي ذاتها المسميات
الواردة في التوراة. وبسبب عقيدته العروبية، فانه لم يفكر بأن وجود أماكن
في الجزيرة العربية تحمل نفس أسماء أماكن أخرى في الشام، تدل بكل بساطة
على ان المهاجرين الشاميين الى الجزيرة قد اطلقوا هذه التسميات، وليس
العكس. لكن باحثنا قام بارجاع الاصل الى الفرع، بدلاً من ارجاع الفرع الى
الاصل.
أصل الشعوب السامية
قبل التطرق لموضوع (أصل العرب)، لنعرف (أصل الساميين) الذين يعتبر(العرب) جزءاً منهم.
ان
المتمعن جيداً بما كتبه الباحثون المتخصصون في هذا الموضوع يكتشف ان هنالك
عدة فرضيات عن أصل الساميين من ضمنها واحدة فقط تقول بأن أصلهم يعود الى
(الجزيرة العربية):
((فبعضهم يزعم أن المهد الأصلي للساميين انما هو
أرض أرمينية (القفقاس) وبعضهم يقول أن هذه المنطقة هي المهد الأصلي للأمم
السامية والأمم الآرية جميعاً ثم تفرعت منها جموع البشر في أرض الله
الواسعة. وللتوراة نظرية خاصة عن أقدم ناحية عمرها بنو نوح وهي أرض بابل
وقد تكون هذه النظرية أقرب الى الحقيقة فقد أثبتت البحوث التاريخية أن أرض
بابل هي المهد الأصلي للحضارة السامية. وقد أيد العالم (جويدي) هذه
النظرية في رسالة يقول فيها إن المهد الأصلي للأمم السامية كان في نواحي
جنوب العراق على نهر الفرات وقد سرد عدداً من الكلمات المألوفة في جميع
اللغات السامية من العمران والحيوان والنبات وقال أن أول من استعملها هم
أهل تلك المنطقة ثم أخذها عنهم جميع الساميين )3).
أما الباحث السوري
القدير (فراس السواح) فيعتبر نظرية (الاصل الجزيري للساميين) قد (غدت
بالية وبحاجة الى اعادة نظر، وان أكثر المدافعين عنها بدأ يتخلى عنها) منذ
المكتشفات ألاثرية الكبرى التي حدثت في أواسط القرن العشرين( 4). كذلك
الباحث الفرنسي (جورج رو) يقول: (ان هذه النظرية أصبحت ملغية بالنسبة
لجميع المختصين)، بسبب الغاء تلك الفكرة السابقة بأن الجزيرة العربية كانت
خضراء مقطونة بالناس قبل أن تتصحر ويهاجر سكانها الى الشمال، حيث دلت
أبحاث السنوات الاخيرة بأنها كانت منذ القدم متصحرة، وان الاماكن الوحيدة
التي ظلت قابلة لسكن البشر هي المحاذية للبحار، سواحل الخليج والبحر
الاحمر واليمن. وان عدم استخدام الجمل حتى عام 1200 ق.م كان يجعل التنقل
لفترات طويلة عبر الصحاري القاحلة أمراً مستحيلاً. لهذا فانه من المعقول
جداً أن يكون الساميون هم أبناء الهلال الخصيب الاصليين، حيث في هذه
المنطقة دلَّت جميع آثارهم ودلائل تواجدهم منذ فجر التاريخ (5).
ان
الهلال الخصيب ظل مأهولا بالبشر منذ عشرات الآلاف من الاعوام، وفيه نشأت
أولى المستوطنات الزراعية منذ الالف التاسع ق.م وظهرت معالم الحضارة في
الالف السادس ق.م في حسونة وسامراء وحلف والعبيد واوروك وجمدة نصر(6).
بالحقيقة اننا لسنا بحاجة للبحث عن أصول خارج منطقة الهلال الخصيب لهذه الشعوب السامية، للسببين التاليين:
1ـ
ان اول ظهور في التاريخ لهذه الشعوب ولغتها وحضارتها، حدث في منطقة
المشرق( 7). في العراق والشام أسس الساميون أولى الحضارات في تاريخ
البشرية (بجانب الحضارة المصرية) في الالف الثالث قبل الميلاد. بالنسبة
لسورية فان (ايبلا) أول حضارة فيها وكانت منذ البدء ناطقة بالسامية. بنفس
الحقبة ظهرت أول حضارة عراقية، رغم انها كانت ناطقة بالسومرية إلاّ أن
الآثار والمصادر تدل على ان الساميين الاكديين كانوا منذ البدء من
المشاركين بها أيضاً. بل هنالك فرضية بأن السومريين والساميين كانوا من
نفس العنصر، حيث دلت البحوث الاخيرة على تشابه تام بينهم في الشكل والدين
والحضارة. وان زيادة السكان المفاجئة في هذه الحقبة في الجنوب العراقي
كشفت عن وصول هجرات من الشمال العراقي السوري، وربما أيضاً من الاحواز(8)
2ـ
في جميع المصادر والآثار التي خلفها هؤلاء الساميون لم يتم العثور على أية
اشارة أو دليل على قدومهم من الجزيرة العربية، ولا حتى من أية منطقة أخرى
في العالم. أما بالنسبة لتوصل العلماء الى وجود علاقة بين (اللغة السامية)
و(اللغة الحامية) في مصر الفرعونية وبربر شمال أفريقيا، بحيث أطلق عليها
تسمية (عائلة اللغات السامية ـ الحامية)، فان هذا ناتج عن علاقات عرقية
قديمة، بسبب نزوح قبائل بربرية من شمال أفريقيا الى مصر ثم الى الهلال
الخصيب، بعد الجفاف الكبير الذي حدث هناك في الالف السادس والخامس ق. م(
9). هذا لا يعني أبداً بأن الساميين قد نزحوا من شمال أفريقيا، بل يعني
بأن مهاجرين من شمال أفريقيا قد اختلطوا بهم، بالاضافة الى هجرات عديدة
بين المشرق والمغرب طيلة آلاف الاعوام، سواء عن طريق البوادي المتصلة أو
عن طريق السواحل، (مثال هجرات الفينيقيين الى شمال أفريقيا)، أدت الى
تمازجات عرقية وثقافية ولغوية.
لهذا يمكننا الغاء تلك العبارة المكررة
التي نقرأها عن (نزوح الساميين الى العراق والشام)، فهم أبناء الهلال
الخصيب ولم ينزحوا لا من الجزيرة العربية ولا من أي مكان آخر. لكن هذه
المنطقة بسبب موقعها الوسطي بين اوروبا وآسيا وافريقيا، استقبلت عبر
التاريخ الكثير من الهجرات السلمية والحربية، من هذه القارات المحيطة،
غالبيتهم ذابوا وأصبحوا جزءاً من الناطقين بالسامية، وبعضهم القليل حافظ
على تمايزه الاقوامي حتى الآن، مثل التركمان والاكراد والارمن والشركس
والافارقة..
الساميون الاوائل
تتفق جميع المصادر على ان
أقدم وجود توثيقي عثر عليه حتى الآن للناطقين بالسامية، هو في الهلال
الخصيب. طيلة التاريخ القديم للعراق والشام، في كل حقبة تظهر مجموعة سامية
جديدة تسيطر على الواجهة السياسية والحضارية خلال حقبة كاملة قد تدوم ألف
عام أو أكثر. ان من الاخطاء الكبرى التي ورثها المؤرخون والمنقبون الذين
كتبوا تاريخنا، انهم تبنوا (الرؤية التوراتية) التي تتحدث عن (شعوب: أكدية
وآشورية عمورية وكلدانية، وكنعانية وفينيقية وآرامية.. الخ.. )، بينما في
الحقيقة هم جماعات أو تحالفات قبائلية أو سلالات، تنتمي لنفس الاصل
الاقوامي واللغوي والحضاري السامي. لو أخذنا مثالاً من الحقبة العربية
الاسلامية، هل يصح الحديث عن الشعوب: الراشدية والاموية والعباسية
والعلوية والفاطمية؟! فهي مجرد تحالفات قبائلية أو سياسية أو مذهبية تسيطر
على الاوضاع في حقبة معينة، وهي تنتمي الى ذات الاصل الاقوامي والحضاري
واللغوي العربي الاسلامي.
ان الموجة السامية الاولى هي (الاكدية ـ
الكنعانية). نحن نفضل الحديث عن (ظهور) وليس (قدوم أو نزوح)، لأن المقصود
بأن في هذه الحقبة بدأوا يظهرون في النشاط السياسي والحضاري، رغم انهم
موجودون منذ القدم. في العراق بسط الاكديون نفوذهم السياسي نحو (2350 ق.م)
بقيادة زعيمهم (سرجون الأكدي) الذي شكل أول امبراطورية وحدت المشرق كله.
حتى
وقت قريب لم يكن أحد يظن ان هنالك في سورية حضارة واضحة قبل الالف الثاني
ق.م. وهي حضارة (اوغاريت). لكن اكتشاف مدينة (ايبلا) قرب حلب، عام 1975 قد
بين ان الوجود السامي الحضاري في سورية يضاهي مثيله في العراق. تعد لغة
إيبلا أقدم لغة وصلت إلينا مكتوبة (بالخط المسماري العراقي)، حتى الآن،
ولم يكن أحد يتوقع العثور على شواهد مسطرة منها، وتتماثل هذه اللغة مع
اللغة التي جرت العادة على تسميتها بالكنعانية، فضلاً عن هذا انها تشبه
العربية في بعض النواحي، فمثلاً نجد فيها كلمات مثل (كتب) و(ملك) و(يد)..
علماً
بأن داخل هذه الموجة المتفرعة الى أكدية وكنعانية، ثمة موجات وتفرعات
داخلية عديدة، لكن ظلت مجتمعة مع الاكدية والكنعانية في الوحدة اللغوية
والحضارية. ففي الجانب الاكدي العراقي، ظهرت موجة التحالف القبائلي
(العموري) القادمة من بادية الشام، والذين أسسوا ما سمي بالسلالة البابلية
الاولى. كذلك ظهرت السلالة الآشورية في شمال العراق. لكن كل هذه الجماعات
المختلفة بقيت محتفظة بنفس اللغة (الاكدية) والحضارة والدين. كذلك بالنسبة
للشام، فبالاضافة الى ايبلا ثم اوغاريت، ثم الجماعات الفينيقية في الساحل،
وربما بعض الجماعات الاولى من العبرانيين (الغابيرو) الذين جاورا من سبقهم
من الكنعانيين في فلسطين. لكن كل هذه الجماعات المختلفة بقيت محتفظة
باللغة الكنعانية مع اختلاف اللهجات والوحدة الحضارية.
البادية العراقية ـ السورية موطن الآراميين ثم العرب
هذه
البادية الجبارة، تم تجاهل دورها التاريخي في التكوين العرقي واللغوي
لمنطقة الهلال الخصيب. بل انه حتى عندما يضطر المؤرخون (العروبيون خصوصاً)
الى التطرق لدورها، فانهم يعتمون عليها بتسميتها (شمال الجزيرة)!! بينما
هي منفصلة عملياً عن الجزيرة من ناحية التكوين البيئي والارتباط المباشر
الطبيعي والسكاني بالعراق والشام.
ان سبب هذا التعتيم المتقصد على
أهمية بادية الشام، يعود لأسباب عروبية قومية لكي يتم تمرير (نظرية الاصل
الجزيري للشعوب السامية). هذه البادية يطلق عليها حالياً مختلف التسميات:
(بادية الشام) (بادية السماوة ـ الشام)، (البادية العراقية ـ السورية).
لكن يبقى أهم أسمائها التاريخية القديمة، تسمية (عربايا)، وهي تسمية مشتقة
من (غربا) أطلقها الاكديون العراقيون على هذه البادية لأنها تقع غرب
العراق، حيث لا يزال اسمها الشائع (البادية الغربية أو بادية السماوة).
يكفي
أن نعرف ان مساحة هذه البادية أكثر من نصف مليون كم مربع، أي تساوي مساحة
بلد كبير مثل العراق. فهي تضم أكثر من نصف أرض العراق وسورية بالاضافة الى
الاردن. وهي تقع على امتداد الضفة الغربية لنهر الفرات. انها تشكل مثلثاً
رأسه قرب (حلب) وقاعدته تمتد من ساحل خليج العقبة الاردني، هبوطاً حتى
سواحل البصرة والكويت. هذه البادية الكبيرة تحاط من الشرق والشمال بـ
(هلال خصيب) يشمل أرض النهرين والساحل الشامي وينتهي في صحراء سيناء. هذه
البادية تختلف عن صحارى الجزيرة العربية التي تحدها جنوبا، بكونها (بادية)
وليست (صحراء)، أي انها ليست رملية قاحلة تماماً، بل أرضها صلبة وتنتشر
فيها الكثير من الحيوانات والاعشاب البرية الصالحة لرعي الماشية، حيث ان
معدل الأمطار سنوياً يقدر بحوالي 127 مم. لهذا فان القبائل التي تنتشر
فيها ليست بدوية بصورة كاملة، بل هم (رعاة وشبه رعاة) البدو الرحل الذين
يعتمدون على الماشية والابل. ومن هذه القبائل حالياً: (عنزة والفدعان
والحسنة) وغيرها، كذلك قلة من قبائل (العقيدات والنعيم وبني خالد
والحديديين وشمر) وغيرهم.
هذه البادية ليست فقيرة وليست مجرد سهول
رتيبة، ولا تلال جرداء، إنما تضم جبالاً شاهقة وتلالاً عالية وأودية
متنوعة منها الصخرية ومنها الترابية ومنها الرملية بعضها عميق كأنما
جدرانه جبال شاهقة وبعضها عريض كأنما هي مجاري أنهار قديمة وبعضها سيلات
ضيقة أو واسعة تظل خضراء تحفل بالحياة معظم أيام السنة. وهي ليست فقيرة
بالمياه، فهناك الأودية الكثيفة التي تتجمع فيها مياه الامطار. وهي غنية
بالثروات الباطنية التي تتمثل بالنفط والغاز والفوسفات والإسفلت والرمال
الملونة بأشكال متعددة.
وهي تحتوي على الكثير من المناطق والتلال
الاثرية وكهوف ومغارات، منها الكهوف الصنعية الأثرية والمدافن الأثرية
ومنها الأودية الممتدة تحت الأرض مثل شبكة مياه متكاملة. وفيها حصون وقلاع
ومعابد وقصور ومدن تاريخية شهيرة، مثل تدمر (ملكتها الشهيرة زنوبيا) في
سورية، ومملكة البتراء في الاردن (10).
من الناحية الموضوعية
والانسانية، ان هذه الاشكالية تبدو ثانوية وغير مهمة، لأن كل شعوب الارض
أتت من أماكن مختلفة واستقبلت هجرات مختلفة وامتزجت مع شعوب وجماعات
مختلفة..
لكن مشكلة (كتابة التاريخ) انه من أكثر المجالات استخداماً
في السياسة. فالشعوب مثل الافراد، تعيش حاضرها بالاستناد على شخصيتها التي
تكونت خلال ماضيها. كما يقول علم النفس، ان علاقة الانسان بماضيه تحدد
علاقته بحاضره ومستقبله. كذلك يصح القول بأن علاقة الشعب بتاريخه تحدد
علاقته بحاضره ومستقبله.
اذا أردت أن تسيطر على شعب يكفيك أن تقنعه بأن
تاريخه تابع لك. وإذا أردت تقسيمه، يكفيك أن تقنعه انه في تاريخه كان
مقسَّماً. بل يمكنك أن تصنع وطناً وشعباً من لا شيء اذا نجحت أن تصنع
تاريخاً خاصاً به، و(اسرائيل) أوضح مثال على ذلك! ثم ان التاريخ سلاح خطير
لا يمكننا أبداً أن نتعامل معه بحيادية وبرود، فإن لم تسارع الى الاستيلاء
عليه واستعماله وكتابته لصالح وطنك، فإن هنالك مختلف القوى الاقليمية
والدولية تعمل ليل نهار لكي تستولي على تاريخك من أجل كتابته بما يكفل
مصالحها ويبرر إضعاف بلادك والسيطرة على شعبك.
لهذا فان مسألة (ما هو
الموطن الاصلي للساميين والعرب)، قد تبدو ثانوية من الناحية المعرفية،
إلاّ أنها للأسف تعتبر من أخطر الاشكالات التاريخية التي تم استخدامها
سياسياً في العراق خصوصاً وكذلك في بلدان الشام. ان هذه المسألة قد
استخدمت بنفس الوقت، من قبل التيارات العروبية والتيارات المعادية لها.
يكفي القول ان الفكرة العروبية القائلة بأصل العرب من الجزيرة، قد استفادت
منها الصهيونية الى حد كبير بطرد الفلسطينيين من بلادهم لكي: (يرجعوا الى
الجزيرة العربية موطنهم الاصلي)! وكيف استخدمت هذه العروبة في العراق بخلق
عقدة نفسية واجتماعية خطيرة ودائمة لدى العراقيين حتى لدى الرافضين
للعروبة، بأن أياً منهم لكي يثبت عراقيته عليه أولاً أن يثبت ان أصل
أجداده يماني أو حجازي أو نجدي!!
بل بلغت المازوشية والتعصب العروبي
الى حد نفي وجود أوطاننا تاريخياً من أجل تقديس الاصل الجزيري. فها هو أحد
متعصبي العروبة الباحث اللبناني المعروف (كمال الصليبي) ينفي صراحة وجود
العراق بل يعتبره جزءاً من ايران، إذ يقول حرفياً في مقابلة مع جريدة
السفير: ((ليس هناك ما يسمى عراق في الجغرافيا التاريخية. (العراق) اسم
كان يطلقه العرب على المناطق الجنوبية لما يسمى اليوم عراقاً. العراق كانت
تطلق على الوديان والأراضي الخصبة أو ما سمي أرض السواد. في الجغرافيا
التاريخية نهر الفرات هو أحد حدود الجزيرة العربية لناحية الشمال الشرقي.
نكمل في الصحراء بعد الفرات إلى أن نصل إلى دجلة التي هي مصب الأنهر التي
تنبع من جبال زاغروس في إيران. يعني كأن دجلة ساحل بحر، لكنه ليس كذلك، هو
نهر. العراق إذاً من الناحية الجغرافية التاريخية هو جزء من بلاد فارس، أي
الجزء الغربي لما يسمى اليوم إيران. وعندما ظهر الإسلام في الجزيرة
العربية وصل فوراً إلى نهر الفرات، وكان الفتح يسيراً)) (1).
لهذا نقول
لأخوتنا في الجزيرة العربية، اننا في بحثنا هذا لا نبتغي أبداً الاستهانة
بهم والتنكر لعلاقاتنا الانسانية والتاريخية والثقافية وحتى الاقوامية
بهم. ان القول بأن أهل الجزيرة أصلهم من المشرق العراقي الشامي، وليس
العكس، لن يغير نوعية علاقتنا بهم. في كلتا الحالتين نتفق على اننا من
أصول تاريخية وأقوامية مشتركة. ثم ان هذه القناعة التاريخية الجديدة لن
تؤثر على علاقة شعوب الجزيرة بهوياتها الوطنية، بل يقيناً ستمنحها بعض
العمق التاريخي الجديد، وفي نفس الوقت تقدم لنا نحن شعوب الهلال الخصيب،
زخماً إيجابياً في علاقتنا مع هوياتنا وتواريخنا الوطنية.
من المعلوم
ان أكثر مؤثرات التيار القومي العروبي تجلت في كتابة تاريخ العراق والشام
(الهلال الخصيب). والسبب يعود الى ان غالبية مثقفي هذا التيار هم من أبناء
المشرق العراقي الشامي. ان حجر الزاوية في الفكر العروبي هو (تقديس
الجزيرة العربية) باعتبارها (موطن العرب التاريخي الاصلي)! لهذا فأن أي
انسان أو تاريخ أو حضارة، لن تثبت عروبته القحة وأصالته النقية، إلاّ إذا
ثبت بأن أصله ومنبعه من هذه (الجزيرة العربية المقدسة)! يبدو ان هذا
الاصرار على تقديس الاصل الجزيري، لم يكن اختراعاً خاصاً بالنخب العروبية،
بل هو تقليد للتيارات القومية التي تأسست في نهايات القرن التاسع عشر. إذ
ساد حينذاك نوع من (الرومانسية الشوقية) لتقديس (وطن بعيد ضائع). وقد تجلى
هذا في (التيار القومي التركي) بتقديس ذلك (الوطن الطوراني الآسيوي
البعيد). كذلك الحركة القومية اليهودية (الصهيونية)، التي قدست (الارض
الموعودة ـ فلسطين) ذلك الوطن الضائع. وقد قام بالتنظير لهذا الميل
العروبي الجزيري مؤسسو التيار الاوائل وكلهم من أصول شامية: جورج أنطونيوس
وقسطنطين زريق وساطع الحصري وزكي الارسوزي وميشيل عفلق.
وقد تعزز هذه
الميل العروبي بتقديس (الاصل الجزيري) بالميل العام السائد لدى النخب
العراقية الشامية بالبحث عن أي (انتماء خارجي)، بسبب معاناتها التاريخية
من فقدان الثقة بالذات الوطنية. وفي أعوام الخمسينات والستينات من القرن
الماضي، غدت (مصر الناصرية) هي قبلة العروبيين في العراق والشام. بل ان
عقدة التبعية للخارج كانت أيضاً سبباً لانتشار التيارات الشيوعية
والحداثية التي قدست روسيا والصين واوروبا الغربية. يقيناً لو كان هؤلاء
اليساريون والحداثيون قادرين، لأشاعوا بأن العراقيين والشاميين أصلهم من
اوروبا.. نعم انها عقدة احتقار الذات الوطنية والبحث عن أصل خارجي!!
تحت
تأثير هذا المفهوم العروبي قام المؤرخون بتسليط الضوء فقط على الفرضية
القائلة بالاصل الجزيري للشعوب السامية، ومنهم العرب طبعا. وقد بلغ هذا
الميل ذروته باستخدام تسميات (الشعوب العروبية) و(الشعوب الجزيرية) بدلاً
من (الساميين)(2 ) وآخر تعبيرات هذا الميل العروبي هي طروحات اللبناني
(كمال الصليبي) القائل بأن (التوارة جاءت من جزيرة العرب). وهو يعتمد
أساساً على حجة وجود أماكن في الجزيرة تحمل مسميات هي ذاتها المسميات
الواردة في التوراة. وبسبب عقيدته العروبية، فانه لم يفكر بأن وجود أماكن
في الجزيرة العربية تحمل نفس أسماء أماكن أخرى في الشام، تدل بكل بساطة
على ان المهاجرين الشاميين الى الجزيرة قد اطلقوا هذه التسميات، وليس
العكس. لكن باحثنا قام بارجاع الاصل الى الفرع، بدلاً من ارجاع الفرع الى
الاصل.
أصل الشعوب السامية
قبل التطرق لموضوع (أصل العرب)، لنعرف (أصل الساميين) الذين يعتبر(العرب) جزءاً منهم.
ان
المتمعن جيداً بما كتبه الباحثون المتخصصون في هذا الموضوع يكتشف ان هنالك
عدة فرضيات عن أصل الساميين من ضمنها واحدة فقط تقول بأن أصلهم يعود الى
(الجزيرة العربية):
((فبعضهم يزعم أن المهد الأصلي للساميين انما هو
أرض أرمينية (القفقاس) وبعضهم يقول أن هذه المنطقة هي المهد الأصلي للأمم
السامية والأمم الآرية جميعاً ثم تفرعت منها جموع البشر في أرض الله
الواسعة. وللتوراة نظرية خاصة عن أقدم ناحية عمرها بنو نوح وهي أرض بابل
وقد تكون هذه النظرية أقرب الى الحقيقة فقد أثبتت البحوث التاريخية أن أرض
بابل هي المهد الأصلي للحضارة السامية. وقد أيد العالم (جويدي) هذه
النظرية في رسالة يقول فيها إن المهد الأصلي للأمم السامية كان في نواحي
جنوب العراق على نهر الفرات وقد سرد عدداً من الكلمات المألوفة في جميع
اللغات السامية من العمران والحيوان والنبات وقال أن أول من استعملها هم
أهل تلك المنطقة ثم أخذها عنهم جميع الساميين )3).
أما الباحث السوري
القدير (فراس السواح) فيعتبر نظرية (الاصل الجزيري للساميين) قد (غدت
بالية وبحاجة الى اعادة نظر، وان أكثر المدافعين عنها بدأ يتخلى عنها) منذ
المكتشفات ألاثرية الكبرى التي حدثت في أواسط القرن العشرين( 4). كذلك
الباحث الفرنسي (جورج رو) يقول: (ان هذه النظرية أصبحت ملغية بالنسبة
لجميع المختصين)، بسبب الغاء تلك الفكرة السابقة بأن الجزيرة العربية كانت
خضراء مقطونة بالناس قبل أن تتصحر ويهاجر سكانها الى الشمال، حيث دلت
أبحاث السنوات الاخيرة بأنها كانت منذ القدم متصحرة، وان الاماكن الوحيدة
التي ظلت قابلة لسكن البشر هي المحاذية للبحار، سواحل الخليج والبحر
الاحمر واليمن. وان عدم استخدام الجمل حتى عام 1200 ق.م كان يجعل التنقل
لفترات طويلة عبر الصحاري القاحلة أمراً مستحيلاً. لهذا فانه من المعقول
جداً أن يكون الساميون هم أبناء الهلال الخصيب الاصليين، حيث في هذه
المنطقة دلَّت جميع آثارهم ودلائل تواجدهم منذ فجر التاريخ (5).
ان
الهلال الخصيب ظل مأهولا بالبشر منذ عشرات الآلاف من الاعوام، وفيه نشأت
أولى المستوطنات الزراعية منذ الالف التاسع ق.م وظهرت معالم الحضارة في
الالف السادس ق.م في حسونة وسامراء وحلف والعبيد واوروك وجمدة نصر(6).
بالحقيقة اننا لسنا بحاجة للبحث عن أصول خارج منطقة الهلال الخصيب لهذه الشعوب السامية، للسببين التاليين:
1ـ
ان اول ظهور في التاريخ لهذه الشعوب ولغتها وحضارتها، حدث في منطقة
المشرق( 7). في العراق والشام أسس الساميون أولى الحضارات في تاريخ
البشرية (بجانب الحضارة المصرية) في الالف الثالث قبل الميلاد. بالنسبة
لسورية فان (ايبلا) أول حضارة فيها وكانت منذ البدء ناطقة بالسامية. بنفس
الحقبة ظهرت أول حضارة عراقية، رغم انها كانت ناطقة بالسومرية إلاّ أن
الآثار والمصادر تدل على ان الساميين الاكديين كانوا منذ البدء من
المشاركين بها أيضاً. بل هنالك فرضية بأن السومريين والساميين كانوا من
نفس العنصر، حيث دلت البحوث الاخيرة على تشابه تام بينهم في الشكل والدين
والحضارة. وان زيادة السكان المفاجئة في هذه الحقبة في الجنوب العراقي
كشفت عن وصول هجرات من الشمال العراقي السوري، وربما أيضاً من الاحواز(8)
2ـ
في جميع المصادر والآثار التي خلفها هؤلاء الساميون لم يتم العثور على أية
اشارة أو دليل على قدومهم من الجزيرة العربية، ولا حتى من أية منطقة أخرى
في العالم. أما بالنسبة لتوصل العلماء الى وجود علاقة بين (اللغة السامية)
و(اللغة الحامية) في مصر الفرعونية وبربر شمال أفريقيا، بحيث أطلق عليها
تسمية (عائلة اللغات السامية ـ الحامية)، فان هذا ناتج عن علاقات عرقية
قديمة، بسبب نزوح قبائل بربرية من شمال أفريقيا الى مصر ثم الى الهلال
الخصيب، بعد الجفاف الكبير الذي حدث هناك في الالف السادس والخامس ق. م(
9). هذا لا يعني أبداً بأن الساميين قد نزحوا من شمال أفريقيا، بل يعني
بأن مهاجرين من شمال أفريقيا قد اختلطوا بهم، بالاضافة الى هجرات عديدة
بين المشرق والمغرب طيلة آلاف الاعوام، سواء عن طريق البوادي المتصلة أو
عن طريق السواحل، (مثال هجرات الفينيقيين الى شمال أفريقيا)، أدت الى
تمازجات عرقية وثقافية ولغوية.
لهذا يمكننا الغاء تلك العبارة المكررة
التي نقرأها عن (نزوح الساميين الى العراق والشام)، فهم أبناء الهلال
الخصيب ولم ينزحوا لا من الجزيرة العربية ولا من أي مكان آخر. لكن هذه
المنطقة بسبب موقعها الوسطي بين اوروبا وآسيا وافريقيا، استقبلت عبر
التاريخ الكثير من الهجرات السلمية والحربية، من هذه القارات المحيطة،
غالبيتهم ذابوا وأصبحوا جزءاً من الناطقين بالسامية، وبعضهم القليل حافظ
على تمايزه الاقوامي حتى الآن، مثل التركمان والاكراد والارمن والشركس
والافارقة..
الساميون الاوائل
تتفق جميع المصادر على ان
أقدم وجود توثيقي عثر عليه حتى الآن للناطقين بالسامية، هو في الهلال
الخصيب. طيلة التاريخ القديم للعراق والشام، في كل حقبة تظهر مجموعة سامية
جديدة تسيطر على الواجهة السياسية والحضارية خلال حقبة كاملة قد تدوم ألف
عام أو أكثر. ان من الاخطاء الكبرى التي ورثها المؤرخون والمنقبون الذين
كتبوا تاريخنا، انهم تبنوا (الرؤية التوراتية) التي تتحدث عن (شعوب: أكدية
وآشورية عمورية وكلدانية، وكنعانية وفينيقية وآرامية.. الخ.. )، بينما في
الحقيقة هم جماعات أو تحالفات قبائلية أو سلالات، تنتمي لنفس الاصل
الاقوامي واللغوي والحضاري السامي. لو أخذنا مثالاً من الحقبة العربية
الاسلامية، هل يصح الحديث عن الشعوب: الراشدية والاموية والعباسية
والعلوية والفاطمية؟! فهي مجرد تحالفات قبائلية أو سياسية أو مذهبية تسيطر
على الاوضاع في حقبة معينة، وهي تنتمي الى ذات الاصل الاقوامي والحضاري
واللغوي العربي الاسلامي.
ان الموجة السامية الاولى هي (الاكدية ـ
الكنعانية). نحن نفضل الحديث عن (ظهور) وليس (قدوم أو نزوح)، لأن المقصود
بأن في هذه الحقبة بدأوا يظهرون في النشاط السياسي والحضاري، رغم انهم
موجودون منذ القدم. في العراق بسط الاكديون نفوذهم السياسي نحو (2350 ق.م)
بقيادة زعيمهم (سرجون الأكدي) الذي شكل أول امبراطورية وحدت المشرق كله.
حتى
وقت قريب لم يكن أحد يظن ان هنالك في سورية حضارة واضحة قبل الالف الثاني
ق.م. وهي حضارة (اوغاريت). لكن اكتشاف مدينة (ايبلا) قرب حلب، عام 1975 قد
بين ان الوجود السامي الحضاري في سورية يضاهي مثيله في العراق. تعد لغة
إيبلا أقدم لغة وصلت إلينا مكتوبة (بالخط المسماري العراقي)، حتى الآن،
ولم يكن أحد يتوقع العثور على شواهد مسطرة منها، وتتماثل هذه اللغة مع
اللغة التي جرت العادة على تسميتها بالكنعانية، فضلاً عن هذا انها تشبه
العربية في بعض النواحي، فمثلاً نجد فيها كلمات مثل (كتب) و(ملك) و(يد)..
علماً
بأن داخل هذه الموجة المتفرعة الى أكدية وكنعانية، ثمة موجات وتفرعات
داخلية عديدة، لكن ظلت مجتمعة مع الاكدية والكنعانية في الوحدة اللغوية
والحضارية. ففي الجانب الاكدي العراقي، ظهرت موجة التحالف القبائلي
(العموري) القادمة من بادية الشام، والذين أسسوا ما سمي بالسلالة البابلية
الاولى. كذلك ظهرت السلالة الآشورية في شمال العراق. لكن كل هذه الجماعات
المختلفة بقيت محتفظة بنفس اللغة (الاكدية) والحضارة والدين. كذلك بالنسبة
للشام، فبالاضافة الى ايبلا ثم اوغاريت، ثم الجماعات الفينيقية في الساحل،
وربما بعض الجماعات الاولى من العبرانيين (الغابيرو) الذين جاورا من سبقهم
من الكنعانيين في فلسطين. لكن كل هذه الجماعات المختلفة بقيت محتفظة
باللغة الكنعانية مع اختلاف اللهجات والوحدة الحضارية.
البادية العراقية ـ السورية موطن الآراميين ثم العرب
هذه
البادية الجبارة، تم تجاهل دورها التاريخي في التكوين العرقي واللغوي
لمنطقة الهلال الخصيب. بل انه حتى عندما يضطر المؤرخون (العروبيون خصوصاً)
الى التطرق لدورها، فانهم يعتمون عليها بتسميتها (شمال الجزيرة)!! بينما
هي منفصلة عملياً عن الجزيرة من ناحية التكوين البيئي والارتباط المباشر
الطبيعي والسكاني بالعراق والشام.
ان سبب هذا التعتيم المتقصد على
أهمية بادية الشام، يعود لأسباب عروبية قومية لكي يتم تمرير (نظرية الاصل
الجزيري للشعوب السامية). هذه البادية يطلق عليها حالياً مختلف التسميات:
(بادية الشام) (بادية السماوة ـ الشام)، (البادية العراقية ـ السورية).
لكن يبقى أهم أسمائها التاريخية القديمة، تسمية (عربايا)، وهي تسمية مشتقة
من (غربا) أطلقها الاكديون العراقيون على هذه البادية لأنها تقع غرب
العراق، حيث لا يزال اسمها الشائع (البادية الغربية أو بادية السماوة).
يكفي
أن نعرف ان مساحة هذه البادية أكثر من نصف مليون كم مربع، أي تساوي مساحة
بلد كبير مثل العراق. فهي تضم أكثر من نصف أرض العراق وسورية بالاضافة الى
الاردن. وهي تقع على امتداد الضفة الغربية لنهر الفرات. انها تشكل مثلثاً
رأسه قرب (حلب) وقاعدته تمتد من ساحل خليج العقبة الاردني، هبوطاً حتى
سواحل البصرة والكويت. هذه البادية الكبيرة تحاط من الشرق والشمال بـ
(هلال خصيب) يشمل أرض النهرين والساحل الشامي وينتهي في صحراء سيناء. هذه
البادية تختلف عن صحارى الجزيرة العربية التي تحدها جنوبا، بكونها (بادية)
وليست (صحراء)، أي انها ليست رملية قاحلة تماماً، بل أرضها صلبة وتنتشر
فيها الكثير من الحيوانات والاعشاب البرية الصالحة لرعي الماشية، حيث ان
معدل الأمطار سنوياً يقدر بحوالي 127 مم. لهذا فان القبائل التي تنتشر
فيها ليست بدوية بصورة كاملة، بل هم (رعاة وشبه رعاة) البدو الرحل الذين
يعتمدون على الماشية والابل. ومن هذه القبائل حالياً: (عنزة والفدعان
والحسنة) وغيرها، كذلك قلة من قبائل (العقيدات والنعيم وبني خالد
والحديديين وشمر) وغيرهم.
هذه البادية ليست فقيرة وليست مجرد سهول
رتيبة، ولا تلال جرداء، إنما تضم جبالاً شاهقة وتلالاً عالية وأودية
متنوعة منها الصخرية ومنها الترابية ومنها الرملية بعضها عميق كأنما
جدرانه جبال شاهقة وبعضها عريض كأنما هي مجاري أنهار قديمة وبعضها سيلات
ضيقة أو واسعة تظل خضراء تحفل بالحياة معظم أيام السنة. وهي ليست فقيرة
بالمياه، فهناك الأودية الكثيفة التي تتجمع فيها مياه الامطار. وهي غنية
بالثروات الباطنية التي تتمثل بالنفط والغاز والفوسفات والإسفلت والرمال
الملونة بأشكال متعددة.
وهي تحتوي على الكثير من المناطق والتلال
الاثرية وكهوف ومغارات، منها الكهوف الصنعية الأثرية والمدافن الأثرية
ومنها الأودية الممتدة تحت الأرض مثل شبكة مياه متكاملة. وفيها حصون وقلاع
ومعابد وقصور ومدن تاريخية شهيرة، مثل تدمر (ملكتها الشهيرة زنوبيا) في
سورية، ومملكة البتراء في الاردن (10).
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: الساميون والعرب، أصلهم من العراق والشام أم من الجزيرة العربية؟! / سليم مطر
ظهور الموجة الآرامية
ان سكان البادية الغربية يقطنون فيها منذ
فجر التاريخ، وهم شبه رعاة، وعلى علاقة مستمرة بأهل الحضر والمزارعين. حتى
نهاية الالف الثاني السابق للميلاد ظلت تنقلاتهم وقدراتهم الحربية محدودة
بسبب عدم وجود الجمال حينذاك، بل كانوا يستخدمون الحمير. كانوا يضخون
العراق والشام بهجرات بين حين وآخر، لكنها ظلت محدودة ومنفصلة بفترات
زمنية بعيدة. ان أول الهجرات المعروفة من هذه البادية الغربية الى العراق
هي هجرة (الاموريين ـ 2200 ق.م) وهي تسمية سومرية تعني (الغربيين) أي
القادمين من البادية الغربية. ويبدو ان تسمية (مدينة ماري) في أعالي
الفرات مشتقة أيضاً من معنى (الغرب)، وتسمية (مارـ تو) تعني (منطقة
الغرب). وربما كان العبرانيون (الخابيرو) من ضمن هذه الموجة العمورية التي
اتجهت ناحية فلسطين. تقول قصيدة باللغة السومرية من تلك الحقبة بوصف هؤلاء
البدو:
((الاموري، السلاح رفيقه / لا يعرف الخضوع / يأكل لحماً غير
مطبوخ / وفي حياته لا يملك بيتاً / ولا يدفن رفيقه اذا مات / لكنه الآن
يملك بيتاً، ويملك حبوباً..)) (11).
في أواخر الالف الثاني أي بعد
انتشار استعمال الجمل كأعظم واسطة نقل في الصحراء ذلك الحين، بدأت الهجرات
تتكثف وتصبح أكثر قوة وجرأة على اقتحام المناطق الحضرية والمدن. وكان من
أول وأكبر هذه الهجرات الكبرى هي القبائل الآرامية التي تفرعت منها
القبائل العربية (كما سنبين) (12).
ان ظهور الاراميين في أواسط الالف
الثانية ق.م يعتبر من أخطر الموجات السامية التي نقلت الهلال الخصيب بل
أيضاً الجزيرة العربية الى مرحلة تاريخية جديدة تماماً. يبدو ان انطلاق
موجة النزوح من البادية يعود الى حالة الجفاف التي عمت المنطقة بين 1600
و1200 ق.م، فأخذت المناطق الهامشية في سورية وفلسطين تخسر سكانها، وحدثت
تنقلات وهجرات نحو البوادي بحثاً عن مناطق افضل، وبعضها انحدرت نحو
الجزيرة العربية (13).
ويكمن سر قوة هذه الموجة الآرامية انها امتلكت
أعظم مكتشفين حضاريين في تلك الحقبة: الجمل والابجدية!! الجمل ساعدهم على
التنقل والسيطرة العسكرية، والكتابة الابجدية ساعدتهم على السيطرة اللغوية
والثقافية.
ان استخدام الجمل بدلاً من الحمير كوسيلة للتنقل مكنت هذه
القبائل السامية التي كانت مكتفية بحياتها في بادية الشام، ان تتجرأ
وتنتشر في مختلف الاتجاهات، نحو ضواحي ومدن العراق والشام، ولكن أيضاً
وهذه هي الثورة الجديدة: انها تجرأت لأول مرة في التاريخ أن تقتحم صحارى
الجزيرة العربية وتتوغل خصوصاً جنوباً نحو الحجاز حتى اليمن.(سوف نفصل هذا
بعد قليل) (14).
لقد اثر هذا التحالف القبائلي الجديد كثيراً في
التكوين العرقي واللغوي لسكان النهرين في القرون الاخيرة قبل نهاية بابل
في القرن السادس ق.م، أي في السلالة ألآشورية ثم الكلدانية. كذلك نجح
الآراميون بتأسيس بعض الامارات والدويلات في سورية، ومنها (دولة آرام
دمشق) الشهيرة في القرن التاسع ق.م . كذلك بعض الدويلات العبرانية في
فلسطين، مثل (يهودا واسرائيل).
أما بالنسبة للابجدية، فقد استفاد
الآراميون من (الابجدية الكنعانية) المكتشفة حديثاً، لكي يدونوا (لهجتهم)
ولتصبح مع الزمن وبفضل الابجدية لغة خاصة متميزة تنتشر في أنحاء العراق
والشام، وتهضم اللغتين الاكدية في العراق والكنعانية (من ضمنها العبرية)
في بلدان الشام، اللَّتين فقدتا حظوتهما بسبب اعتمادهما على الكتابة
المسمارية التي أصبحت متخلفة بعد شيوع الابجدية. ثم ارتفع أكثر شأن
الآرامية بعد انتشار المسيحية، حيث ان لغة المسيح كانت هي الآرامية، وهي
أيضا لغة الانجيل والكنائس والطقوس، وقد اتخذت تسمية جديدة هي
(السريانية). ان قبائل هذه الموجة حملت تسمية (آراميين)، ربما تعني (سكان
المرتفعات) حيث كلمة (آرم، ورم، مرتفع)، ولكن هنالك من يربط بين تسمية
(ارم، وارب أي عرب)، أي سكان عربايا (البادية الغربية). ان هذا الابدال
بين حرفي (م) و(ب) وارد في العربية، فقد ورد اسم (مكة) بلفظ (بكة) في قوله
تعالى في سورة {آل عمران/96}: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}. كذلك هنالك
أمثلة عديدة، منها ان كلمة (زمان) العربية هي نفسها (زبانو) السريانية.
أما تحول حرف (ع) الى (همزة)، فيكفي أن ننظر الى انه لم يكن من المصادفة
أن تكتب الهمزة مثل حرف (عـ) الصغيرة، لأنهما نفس الاصل، وان الاكديين
العراقيين كثيراً ما كانوا يستصعبون لفظ حرف (ع) ويحولونه الى همزة. وفي
جنوب العراق يفعلون العكس، حيث يقولون (سوعال) بدلاً من (سؤال)..
لننظر
الى اللغة الآرامية (السريانية) كيف تستخدم كلمة (عرب) ومشتقاتها: (عروبو=
غروب) و(عروبتو= يوم الجمعة) أي نفس التسمية التي كان يستخدمها العرب قبل
الاسلام، وتعني (اليوم النهائي) من الاسبوع. و(عرابو= العراب) أي الغريب
من خارج العائلة الذي يكفل الطفل. و(عروبيو = الاعراب أي النحو) وتعني
(غريب اللغة) (راجع أي قاموس سرياني عربي)( 15) ويمكن ان نذكر عبارة (اعرب
عن مشاعره، وعبّر عن مشاعره)، بمعنى اخرج مشاعره، وهما كلمتان تذكران بـ
(عرب وعبريين). وكلها معاني غربة وابتعاد، لوصف البدو الرحل المتنقلين.
سكان الجزيرة العربية الاوائل ليسوا ساميين
رغم
ان مناطق جنوب الجزيرة العربية وسواحلها كانت مأهولة بالسكان منذ آلآف
الاعوام إلاّ أنه حتى الآن وفي كل انحاء الجزيرة العربية لم يعثر على أي
أثر أو كتابة يدل على وجود (جماعات ناطقة بالسامية) قبل الالفية السابقة
للميلاد، حيث ظهرت أقدم حضارات اليمن (الدولة السبئية) وهي اولى الحضارات
في الجزيرة وناطقة بلغة سامية. وهذا يعني ان أول ظهور سامي واضح في
الجزيرة قد تأخر عن مثيله في الهلال الخصيب أكثر من ألفي عام! ان التاريخ
الشعبي العربي يحدثنا عن وجود ثلاث طبقات متعاقبة تاريخياً من سكان
الجزيرة العربية:
(العرب البائدة)، وهم أقدم الطبقات وقد سموا كذلك
لانهم أبيدوا وطويت صفحات تاريخهم. ثم (العرب العاربة) او العرباء او
القحطانيون وهم عرب الجنوب او اليمن. ثم(العرب المستعربة) وهم العدنانيون،
بنو اسماعيل بن ابراهيم الخليل وهم عرب الشمال أي الحجاز.
بغض النظر عن
مدى جدية هذه الحكايات الشعبية، إلاّ أنها قد تعبر عن بعض الحقائق
التاريخية المخفية، مثل جميع الحكايات والاساطير. يبدو ان تشكل العرب
كجماعة عرقية ولغوية يشبه الى حد بعيد تشكل غالبية الجماعات العرقية
الكبرى في العالم، أي انه نتيجة تراكم عدة طبقات عرقية كل منها تكونت فوق
السابقة واستوعبتها. أو مثل البحيرة التي تجتمع فيها مياه عدة سواقي
وأنهار وأمطار، لتشكل مياهاً موحدة. بالنسبة لسكان الجزيرة العربية فهنالك
ثلاث طبقات:
v الطبقة الاولى (العرب البائدة)، وهم السكان الاصليين
الاوائل: تخمن البحوث ان السكان الاوائل للجزيرة ما كانوا من الساميين
(أشكال البحر المتوسط)، بل من الجنس الاسمر المماثلين لسكان سواحل المحيط
الهندي. اذا تتبعنا الشريط البحري الممتد من سواحل الهند مروراً بسواحل
ايران وسواحل البصرة والخليج العربي حتى اليمن، فاننا نلاحظ سيادة جنس
أسمر واحد يمكن تسميته بـ (جنس المحيط الهندي)، رغم كل تنوعهم الاقوامي:
هنود وبلوش وفرس وعرب(16 ). هذا الجنس هو الذي شكل الطبقة الاولى من سكان
جنوب الجزيرة العربية، ولكن لم يتمكن من ترك أية آثار حضارية وكتابية،
لأنه ظل يعيش في العصر الحجري حتى الالف السابق للميلاد، أي حتى قدوم
الساميين. وهم قد (ابيدو) ليس بالمعنى البدني، بل بالمعنى الحضاري. فهذا
الجنس الاسمر يلاحظ وجوده بكثرة في جنوب وسواحل الجزيرة، وبعضه ممتزج بجنس
البحر المتوسط السامي الابيض.
v الطبقة الثانية (العرب العاربة)، وهم
الجماعات السامية الاولى القادمة من الهلال الخصيب. خلال الفي عام من ظهور
الحضارة في العراق والشام، ظل التواصل مع الجزيرة العربية محدوداً بسبب
عدم اكتشاف الجمل الذي من دونه كان من الصعب اقتحام صحارى الجزيرة
العربية. لهذا فأن البحر ظل وسيلة الاتصال الوحيدة بين الساميين في الشمال
وسكان الجزيرة. فمن ناحية الخليج ظل العراقيون والكنعانيون الشاميون على
تواصل مع سواحله وأسسوا لهم قواعد بحرية ومستعمرات تجارية عديدة في
البحرين وقطر وعمان حتى اليمن. بالنسبة لـ (قطر) انها كانت مأهولة بالسكان
منذ الألف الرابع قبل الميلاد، ولها علاقة مباشرة مع الحضارة العبيدية في
جنوبي العراق. كذلك إن الكنعانيين أول من سكن قطر في مطلع تاريخها الحضاري
في الفترة 825 -484 ق.م، بل ان تسميتها نفسها كنعانية! أما بالنسبة لـ
(عمان) فأن السومريين أسسوا لهم قواعد تجارية فيها، وأطلقو عليها تسمية
(مجان) أو جبل النحاس. وقد وردت عمان تحت هذا الاسم (مجان) في مئات النصوص
العراقية بالخط المسماري. ويبدو أن الفينيقيين كان لهم وجود على ساحل عمان
وأجزاء من الخليج العربي ومنهم من كان في الفجيرة وخور فكان وصور
العمانية. كما كانوا في البحرين وجزيرة تاروت السعودية حيث قيل أنها سميت
هكذا تبعاً لإلهة الفينيقيين عشتاروت بمعنى (عش تاروت) أو بيت تاروت. كذلك
(البحرين) الذي ذكرت باسم (دلمون) في الاساطير العراقية(17 ) . ان الدور
العراقي والكنعاني في نقل العنصر والثقافة واللغة السامية (الاكدية
والكنعانية) الى الجزيرة يتضح من خلال الناحية التالية: ان أول الحضارات
المعروفة التي نشأت في الجزيرة (الحضارة السبئية) في اليمن، حوالي الف سنة
قبل الميلاد. أي بعد أكثر من الفي سنة من حضارة العراق وسورية. وقد استغرب
العلماء من انتقال اليمن فجأة من العصر الحجري الى عصر البناء والكتابة من
دون أي تطور معقول، وهذا يعني قدوم شعب متحضر الى اليمن ساهم بهذه النقلة
السريعة. على هذا الاساس يعتقد ان السبئيون في نظر الكثير من العلماء
جاءوا الى اليمن من الشمال (العراقي ـ السوري). فالدكتور فرتزهومل يقول:
ان الفترة السابقة لتاريخهم الحقيقي بدأت خارج اليمن، ويرجح هذا الوطن
الخارجي أنه كان في الأصل في شمال بلاد العرب. ومثل هذا سبق أن أوصى به
سترابر حين ربط بين الأنباط والسبئيين لكونهم أول من سكن العربية السعيدة.
وتمشياً مع هذا الرأي اقترح الأستاذ و. ف. البرايت تاريخاً لهجرتهم حوالي
1200 ق. م ذاهباً في نفس الوقت إلى أن هجرتهم تلك تأتي بعد هجرة القبائل
الأخرى (معين وحضرموت وقتبان) والتي حدثت في تقديره حوالي 1500 ق. م (18).
لهذا
يمكن القول ان حضارة ولغة اليمن القديمة، التي تعتبر احدى أصول اللغة
العربية، هي بالحقيقة مزيج من لغة الشعب (الاسمر) الاصلي المجهولة التاريخ
مع اللغة الاكدية والكنعانية التي جلبها المهاجرون الشماليون.
v الطبقة
الثالثة، (العرب المستعربة) وهي الهجرة (الآرامية) الكبرى التي أتت من
الشمال العراقي الشامي، بعد شيوع استخدام الجمل. في هذه الحقبة شرع خصوصاً
سكان بادية الشام (العراقي السورية) يتجرأون أكثر على الخروج من باديتهم
ويسيحوا بقبائلهم نحو حواضر العراق والشام. بل بلغت بهم الجرأة انهم راحوا
يغوصون جنوباً في صحارى الجزيرة العربية، نحو سواحل الخليج وواحات الحجاز
ليؤسسوا اولى معاقل الاستيطان، مثل (يثرب) و(مكة). وليس بالصدفة ان هاتين
المدينتين واقعتين على الطريق التجاري الذي يربط جنوب الجزيرة مع الشمال
العراقي الشامي. ان البادية الغربية العراقية السورية، مع اكتشاف الجمل
أخذت تطلق بسهولة أكثر الموجات من المهاجرين الذين راحوا يستعينون بالجمال
بالتنقل وفي السيطرة الحربية.
ان فرضية هجرة الساميين من الشمال،
يفسر لنا هذا الفرق (الاجناسي ـ الشكلي) الواضح بين نوعين من الاجناس:
غالبية سكان شمال ووسط الجزيرة (أشكال البحر المتوسط الفاتحة البشرة) وهم
(العرب المستعربة) أو القيسيين ـ المضريين ـ الاسماعيليين القادمين من
المشرق. ثم غالبية سكان الجنوب والسواحل ذوي البشرة السمراء وشكل المحيط
الهندي، وهم السكان الاصليين والذي اطلق عليهم تسمية (العرب البائدة).
العرب الاوائل
الحقيقة
المهمة المعتم عليها عروبياً رغم انها متداولة في جميع المصادر التاريخية:
ان سكان اليمن الناطقين بالسامية (السبئية والمعينية والحميرية)، قبل ظهور
الأسلام، (ليسوا عرب)، لا بالمعنى العرقي ولا بالمعنى اللغوي والثقافي.
فهم لم يحملوا (تسمية عرب) طيلة تاريخهم المعروف، بل حتى كلمة (عرب) لم
تكن متداولة لديهم، ثم ان لغتهم بعيدة عن العربية الفصحى، بعد اية لغة
سامية مختلفة، بل حتى خطهم الكتابي (المسند) رغم انه من أصل شامي كنعاني،
إلاّ أنه ليس له أية علاقة بالخط العربي الذي تم اشتقاقة من الخط الآرامي
العراقي (النبطي). ثم ان لغة اليمن (سامية جنوبية) وليست عربية. ان تسمية
(عرب) الحقت بسكان جنوب الجزيرة العربية بعد ظهور الاسلام وانتشار اللغة
العربية (الحجازية) والتعريب لدى اليمنيين، ونشأت تلك الاسطورة القائلة ان
أهل الجنوب هم (العرب العاربة ـ القحطانيون)..الخ..
المصادر
التاريخية تكشف لنا بأن تسمية (عرب) قد أتت أساساً من الهلال الخصيب
وبالذات من العراق. ان أول من استخدم تسمية (عرب) هم العراقيون إذ أطلقوها
على سكان (الغرب) أي (البادية الغربية) الشامية العراقية. حتى الآن يستعمل
العراقيون تسمية (الغربية أو المغربية) على سكان أعالي الفرات، عكس
(الشرقية أو الشروقية) أي سكان شرق العراق. ان تسمية (عربا، عربو) تعني
سكان (عربايا) أي سكان البادية الغربية. من المعلوم ان حرفي الـ (ع) و(غ)
تتبادل في اللغات السامية، فكان الاكديون يطلقون على (العبرانيين) تسمية
(غابيرو)(19 ) وتعني (العابرين المتنقلين) أو سكان (الغبرا) أي البادية.
ان
الذي يعزز نظرية ان أصل العرب من هذه البادية، ان أول ذكر لتسمية (عرب) في
التاريخ، يعود الى وثيقة عراقية آشورية من القرن الثامن قبل الميلاد،
مكتوبة على لسان الملك (شلمنصر الثالث 858 -823 ق.م ) ويتحدث فيها عن
غريمه زعيم احدى العشائر البدوية اسمه (جندب العربي). كذلك وردت في
الكتابات البابلية جملة (ماتو اربي) Matu A-Ra-bi ،Matu Arabaai ومعنى
(ماتو) (متو) أرض، فيكون المعنى (أرض عربي)، أي (أرض العرب)، أو (بلاد
العرب)، أو (العربية)، أو (بلاد الأعراب) بتعبير اصدق وأصح. إذ قصد بها
البادية، وكانت تحفل بالأعراب. وجاءت في كتابة (بهستون) بيستونBehistun
لدارا الكبير )داريوس) لفظة (ارباية) عرباية Arabaya وذلك في النص الفارسي
المكتوب باللغة (الأخمينية) (20).
أما في (التوراة) فقد وردت فيها كلمة
(عربي) و (عرب) في التوراة، بمعنى البدوً. ففي كل المواضع التي وردت فيها
في سفر (أشعياء): (ولا يخيم هناك أعرابي) و (وحي من جهة بلاد العرب في
الوعر في بلاد العرب تبيتين). نفس الحال بسفر (ارميا). وبعض الباحثين
يعتبرون ان كلمتي (عبري) و(عربي)، بأصل واحد، تعني سكان البوادي
المتنقلين(21).
وقد وردت في التوراة تسمية (ها عرابة ha'Arabah (في
العبرانية. والمقصود بها: )وادي عربة)، أي الوادي الممتد من البحر الميت
أو من بحر الجليل إلى خليج العقبة. كذلك تعني لفظة (برابة) في العبرانية
الجفاف وحافة الصحراء وأرض محروقة، أي معاني ذات صلة بالبداوة والبادية.
وقد أقامت في هذا الوادي قبائل بدوية شملتها لفظة (عرب). وفي تقارب لفظة
(عرب) و (عرابة)، وتقارب معناهما، دلالة على الأصل المشترك للفظتين. ويعدّ
وادي (العربة) وكذلك (طور سيناء) في بلاد العرب. وقصد بـ (العربية) برية
سورية في (رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطة(. وأول من ذكر العرب من
اليونان هو (أسكيلوس في القرن السادس ق.م، وقال: انه كان في جيشه ضابط
عربي من الرؤساء مشهور. ثم تلاه (هيرودوتس) شيخ المؤرخين في القرن الخامس
ق.م. وقد أطلق لفظة (Arabae) (عربيا) على بلاد العرب، البادية وجزيرة
العرب والأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيل. فأدخل (طور سيناء) وما
بعدها إلى ضفاف النيل في بلاد العرب( 22). كذلك يمكن ذكر (فيليب العربي
204- 249 م) ذلك العسكري السوري من السويداء، الذي أصبح إمبراطور روما
(23).
ويمكن ذكر دليل بسيط من بين ما لا يحصى من الادلة عن الاصل
ألآرمي المشرقي للعرب، ان المسميات الأساسية للجمل، هي من أصل آرامي:
جملو= جمل // أبلثو= ابل // بعيرو = دابة(24).
ان سكان البادية الغربية يقطنون فيها منذ
فجر التاريخ، وهم شبه رعاة، وعلى علاقة مستمرة بأهل الحضر والمزارعين. حتى
نهاية الالف الثاني السابق للميلاد ظلت تنقلاتهم وقدراتهم الحربية محدودة
بسبب عدم وجود الجمال حينذاك، بل كانوا يستخدمون الحمير. كانوا يضخون
العراق والشام بهجرات بين حين وآخر، لكنها ظلت محدودة ومنفصلة بفترات
زمنية بعيدة. ان أول الهجرات المعروفة من هذه البادية الغربية الى العراق
هي هجرة (الاموريين ـ 2200 ق.م) وهي تسمية سومرية تعني (الغربيين) أي
القادمين من البادية الغربية. ويبدو ان تسمية (مدينة ماري) في أعالي
الفرات مشتقة أيضاً من معنى (الغرب)، وتسمية (مارـ تو) تعني (منطقة
الغرب). وربما كان العبرانيون (الخابيرو) من ضمن هذه الموجة العمورية التي
اتجهت ناحية فلسطين. تقول قصيدة باللغة السومرية من تلك الحقبة بوصف هؤلاء
البدو:
((الاموري، السلاح رفيقه / لا يعرف الخضوع / يأكل لحماً غير
مطبوخ / وفي حياته لا يملك بيتاً / ولا يدفن رفيقه اذا مات / لكنه الآن
يملك بيتاً، ويملك حبوباً..)) (11).
في أواخر الالف الثاني أي بعد
انتشار استعمال الجمل كأعظم واسطة نقل في الصحراء ذلك الحين، بدأت الهجرات
تتكثف وتصبح أكثر قوة وجرأة على اقتحام المناطق الحضرية والمدن. وكان من
أول وأكبر هذه الهجرات الكبرى هي القبائل الآرامية التي تفرعت منها
القبائل العربية (كما سنبين) (12).
ان ظهور الاراميين في أواسط الالف
الثانية ق.م يعتبر من أخطر الموجات السامية التي نقلت الهلال الخصيب بل
أيضاً الجزيرة العربية الى مرحلة تاريخية جديدة تماماً. يبدو ان انطلاق
موجة النزوح من البادية يعود الى حالة الجفاف التي عمت المنطقة بين 1600
و1200 ق.م، فأخذت المناطق الهامشية في سورية وفلسطين تخسر سكانها، وحدثت
تنقلات وهجرات نحو البوادي بحثاً عن مناطق افضل، وبعضها انحدرت نحو
الجزيرة العربية (13).
ويكمن سر قوة هذه الموجة الآرامية انها امتلكت
أعظم مكتشفين حضاريين في تلك الحقبة: الجمل والابجدية!! الجمل ساعدهم على
التنقل والسيطرة العسكرية، والكتابة الابجدية ساعدتهم على السيطرة اللغوية
والثقافية.
ان استخدام الجمل بدلاً من الحمير كوسيلة للتنقل مكنت هذه
القبائل السامية التي كانت مكتفية بحياتها في بادية الشام، ان تتجرأ
وتنتشر في مختلف الاتجاهات، نحو ضواحي ومدن العراق والشام، ولكن أيضاً
وهذه هي الثورة الجديدة: انها تجرأت لأول مرة في التاريخ أن تقتحم صحارى
الجزيرة العربية وتتوغل خصوصاً جنوباً نحو الحجاز حتى اليمن.(سوف نفصل هذا
بعد قليل) (14).
لقد اثر هذا التحالف القبائلي الجديد كثيراً في
التكوين العرقي واللغوي لسكان النهرين في القرون الاخيرة قبل نهاية بابل
في القرن السادس ق.م، أي في السلالة ألآشورية ثم الكلدانية. كذلك نجح
الآراميون بتأسيس بعض الامارات والدويلات في سورية، ومنها (دولة آرام
دمشق) الشهيرة في القرن التاسع ق.م . كذلك بعض الدويلات العبرانية في
فلسطين، مثل (يهودا واسرائيل).
أما بالنسبة للابجدية، فقد استفاد
الآراميون من (الابجدية الكنعانية) المكتشفة حديثاً، لكي يدونوا (لهجتهم)
ولتصبح مع الزمن وبفضل الابجدية لغة خاصة متميزة تنتشر في أنحاء العراق
والشام، وتهضم اللغتين الاكدية في العراق والكنعانية (من ضمنها العبرية)
في بلدان الشام، اللَّتين فقدتا حظوتهما بسبب اعتمادهما على الكتابة
المسمارية التي أصبحت متخلفة بعد شيوع الابجدية. ثم ارتفع أكثر شأن
الآرامية بعد انتشار المسيحية، حيث ان لغة المسيح كانت هي الآرامية، وهي
أيضا لغة الانجيل والكنائس والطقوس، وقد اتخذت تسمية جديدة هي
(السريانية). ان قبائل هذه الموجة حملت تسمية (آراميين)، ربما تعني (سكان
المرتفعات) حيث كلمة (آرم، ورم، مرتفع)، ولكن هنالك من يربط بين تسمية
(ارم، وارب أي عرب)، أي سكان عربايا (البادية الغربية). ان هذا الابدال
بين حرفي (م) و(ب) وارد في العربية، فقد ورد اسم (مكة) بلفظ (بكة) في قوله
تعالى في سورة {آل عمران/96}: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}. كذلك هنالك
أمثلة عديدة، منها ان كلمة (زمان) العربية هي نفسها (زبانو) السريانية.
أما تحول حرف (ع) الى (همزة)، فيكفي أن ننظر الى انه لم يكن من المصادفة
أن تكتب الهمزة مثل حرف (عـ) الصغيرة، لأنهما نفس الاصل، وان الاكديين
العراقيين كثيراً ما كانوا يستصعبون لفظ حرف (ع) ويحولونه الى همزة. وفي
جنوب العراق يفعلون العكس، حيث يقولون (سوعال) بدلاً من (سؤال)..
لننظر
الى اللغة الآرامية (السريانية) كيف تستخدم كلمة (عرب) ومشتقاتها: (عروبو=
غروب) و(عروبتو= يوم الجمعة) أي نفس التسمية التي كان يستخدمها العرب قبل
الاسلام، وتعني (اليوم النهائي) من الاسبوع. و(عرابو= العراب) أي الغريب
من خارج العائلة الذي يكفل الطفل. و(عروبيو = الاعراب أي النحو) وتعني
(غريب اللغة) (راجع أي قاموس سرياني عربي)( 15) ويمكن ان نذكر عبارة (اعرب
عن مشاعره، وعبّر عن مشاعره)، بمعنى اخرج مشاعره، وهما كلمتان تذكران بـ
(عرب وعبريين). وكلها معاني غربة وابتعاد، لوصف البدو الرحل المتنقلين.
سكان الجزيرة العربية الاوائل ليسوا ساميين
رغم
ان مناطق جنوب الجزيرة العربية وسواحلها كانت مأهولة بالسكان منذ آلآف
الاعوام إلاّ أنه حتى الآن وفي كل انحاء الجزيرة العربية لم يعثر على أي
أثر أو كتابة يدل على وجود (جماعات ناطقة بالسامية) قبل الالفية السابقة
للميلاد، حيث ظهرت أقدم حضارات اليمن (الدولة السبئية) وهي اولى الحضارات
في الجزيرة وناطقة بلغة سامية. وهذا يعني ان أول ظهور سامي واضح في
الجزيرة قد تأخر عن مثيله في الهلال الخصيب أكثر من ألفي عام! ان التاريخ
الشعبي العربي يحدثنا عن وجود ثلاث طبقات متعاقبة تاريخياً من سكان
الجزيرة العربية:
(العرب البائدة)، وهم أقدم الطبقات وقد سموا كذلك
لانهم أبيدوا وطويت صفحات تاريخهم. ثم (العرب العاربة) او العرباء او
القحطانيون وهم عرب الجنوب او اليمن. ثم(العرب المستعربة) وهم العدنانيون،
بنو اسماعيل بن ابراهيم الخليل وهم عرب الشمال أي الحجاز.
بغض النظر عن
مدى جدية هذه الحكايات الشعبية، إلاّ أنها قد تعبر عن بعض الحقائق
التاريخية المخفية، مثل جميع الحكايات والاساطير. يبدو ان تشكل العرب
كجماعة عرقية ولغوية يشبه الى حد بعيد تشكل غالبية الجماعات العرقية
الكبرى في العالم، أي انه نتيجة تراكم عدة طبقات عرقية كل منها تكونت فوق
السابقة واستوعبتها. أو مثل البحيرة التي تجتمع فيها مياه عدة سواقي
وأنهار وأمطار، لتشكل مياهاً موحدة. بالنسبة لسكان الجزيرة العربية فهنالك
ثلاث طبقات:
v الطبقة الاولى (العرب البائدة)، وهم السكان الاصليين
الاوائل: تخمن البحوث ان السكان الاوائل للجزيرة ما كانوا من الساميين
(أشكال البحر المتوسط)، بل من الجنس الاسمر المماثلين لسكان سواحل المحيط
الهندي. اذا تتبعنا الشريط البحري الممتد من سواحل الهند مروراً بسواحل
ايران وسواحل البصرة والخليج العربي حتى اليمن، فاننا نلاحظ سيادة جنس
أسمر واحد يمكن تسميته بـ (جنس المحيط الهندي)، رغم كل تنوعهم الاقوامي:
هنود وبلوش وفرس وعرب(16 ). هذا الجنس هو الذي شكل الطبقة الاولى من سكان
جنوب الجزيرة العربية، ولكن لم يتمكن من ترك أية آثار حضارية وكتابية،
لأنه ظل يعيش في العصر الحجري حتى الالف السابق للميلاد، أي حتى قدوم
الساميين. وهم قد (ابيدو) ليس بالمعنى البدني، بل بالمعنى الحضاري. فهذا
الجنس الاسمر يلاحظ وجوده بكثرة في جنوب وسواحل الجزيرة، وبعضه ممتزج بجنس
البحر المتوسط السامي الابيض.
v الطبقة الثانية (العرب العاربة)، وهم
الجماعات السامية الاولى القادمة من الهلال الخصيب. خلال الفي عام من ظهور
الحضارة في العراق والشام، ظل التواصل مع الجزيرة العربية محدوداً بسبب
عدم اكتشاف الجمل الذي من دونه كان من الصعب اقتحام صحارى الجزيرة
العربية. لهذا فأن البحر ظل وسيلة الاتصال الوحيدة بين الساميين في الشمال
وسكان الجزيرة. فمن ناحية الخليج ظل العراقيون والكنعانيون الشاميون على
تواصل مع سواحله وأسسوا لهم قواعد بحرية ومستعمرات تجارية عديدة في
البحرين وقطر وعمان حتى اليمن. بالنسبة لـ (قطر) انها كانت مأهولة بالسكان
منذ الألف الرابع قبل الميلاد، ولها علاقة مباشرة مع الحضارة العبيدية في
جنوبي العراق. كذلك إن الكنعانيين أول من سكن قطر في مطلع تاريخها الحضاري
في الفترة 825 -484 ق.م، بل ان تسميتها نفسها كنعانية! أما بالنسبة لـ
(عمان) فأن السومريين أسسوا لهم قواعد تجارية فيها، وأطلقو عليها تسمية
(مجان) أو جبل النحاس. وقد وردت عمان تحت هذا الاسم (مجان) في مئات النصوص
العراقية بالخط المسماري. ويبدو أن الفينيقيين كان لهم وجود على ساحل عمان
وأجزاء من الخليج العربي ومنهم من كان في الفجيرة وخور فكان وصور
العمانية. كما كانوا في البحرين وجزيرة تاروت السعودية حيث قيل أنها سميت
هكذا تبعاً لإلهة الفينيقيين عشتاروت بمعنى (عش تاروت) أو بيت تاروت. كذلك
(البحرين) الذي ذكرت باسم (دلمون) في الاساطير العراقية(17 ) . ان الدور
العراقي والكنعاني في نقل العنصر والثقافة واللغة السامية (الاكدية
والكنعانية) الى الجزيرة يتضح من خلال الناحية التالية: ان أول الحضارات
المعروفة التي نشأت في الجزيرة (الحضارة السبئية) في اليمن، حوالي الف سنة
قبل الميلاد. أي بعد أكثر من الفي سنة من حضارة العراق وسورية. وقد استغرب
العلماء من انتقال اليمن فجأة من العصر الحجري الى عصر البناء والكتابة من
دون أي تطور معقول، وهذا يعني قدوم شعب متحضر الى اليمن ساهم بهذه النقلة
السريعة. على هذا الاساس يعتقد ان السبئيون في نظر الكثير من العلماء
جاءوا الى اليمن من الشمال (العراقي ـ السوري). فالدكتور فرتزهومل يقول:
ان الفترة السابقة لتاريخهم الحقيقي بدأت خارج اليمن، ويرجح هذا الوطن
الخارجي أنه كان في الأصل في شمال بلاد العرب. ومثل هذا سبق أن أوصى به
سترابر حين ربط بين الأنباط والسبئيين لكونهم أول من سكن العربية السعيدة.
وتمشياً مع هذا الرأي اقترح الأستاذ و. ف. البرايت تاريخاً لهجرتهم حوالي
1200 ق. م ذاهباً في نفس الوقت إلى أن هجرتهم تلك تأتي بعد هجرة القبائل
الأخرى (معين وحضرموت وقتبان) والتي حدثت في تقديره حوالي 1500 ق. م (18).
لهذا
يمكن القول ان حضارة ولغة اليمن القديمة، التي تعتبر احدى أصول اللغة
العربية، هي بالحقيقة مزيج من لغة الشعب (الاسمر) الاصلي المجهولة التاريخ
مع اللغة الاكدية والكنعانية التي جلبها المهاجرون الشماليون.
v الطبقة
الثالثة، (العرب المستعربة) وهي الهجرة (الآرامية) الكبرى التي أتت من
الشمال العراقي الشامي، بعد شيوع استخدام الجمل. في هذه الحقبة شرع خصوصاً
سكان بادية الشام (العراقي السورية) يتجرأون أكثر على الخروج من باديتهم
ويسيحوا بقبائلهم نحو حواضر العراق والشام. بل بلغت بهم الجرأة انهم راحوا
يغوصون جنوباً في صحارى الجزيرة العربية، نحو سواحل الخليج وواحات الحجاز
ليؤسسوا اولى معاقل الاستيطان، مثل (يثرب) و(مكة). وليس بالصدفة ان هاتين
المدينتين واقعتين على الطريق التجاري الذي يربط جنوب الجزيرة مع الشمال
العراقي الشامي. ان البادية الغربية العراقية السورية، مع اكتشاف الجمل
أخذت تطلق بسهولة أكثر الموجات من المهاجرين الذين راحوا يستعينون بالجمال
بالتنقل وفي السيطرة الحربية.
ان فرضية هجرة الساميين من الشمال،
يفسر لنا هذا الفرق (الاجناسي ـ الشكلي) الواضح بين نوعين من الاجناس:
غالبية سكان شمال ووسط الجزيرة (أشكال البحر المتوسط الفاتحة البشرة) وهم
(العرب المستعربة) أو القيسيين ـ المضريين ـ الاسماعيليين القادمين من
المشرق. ثم غالبية سكان الجنوب والسواحل ذوي البشرة السمراء وشكل المحيط
الهندي، وهم السكان الاصليين والذي اطلق عليهم تسمية (العرب البائدة).
العرب الاوائل
الحقيقة
المهمة المعتم عليها عروبياً رغم انها متداولة في جميع المصادر التاريخية:
ان سكان اليمن الناطقين بالسامية (السبئية والمعينية والحميرية)، قبل ظهور
الأسلام، (ليسوا عرب)، لا بالمعنى العرقي ولا بالمعنى اللغوي والثقافي.
فهم لم يحملوا (تسمية عرب) طيلة تاريخهم المعروف، بل حتى كلمة (عرب) لم
تكن متداولة لديهم، ثم ان لغتهم بعيدة عن العربية الفصحى، بعد اية لغة
سامية مختلفة، بل حتى خطهم الكتابي (المسند) رغم انه من أصل شامي كنعاني،
إلاّ أنه ليس له أية علاقة بالخط العربي الذي تم اشتقاقة من الخط الآرامي
العراقي (النبطي). ثم ان لغة اليمن (سامية جنوبية) وليست عربية. ان تسمية
(عرب) الحقت بسكان جنوب الجزيرة العربية بعد ظهور الاسلام وانتشار اللغة
العربية (الحجازية) والتعريب لدى اليمنيين، ونشأت تلك الاسطورة القائلة ان
أهل الجنوب هم (العرب العاربة ـ القحطانيون)..الخ..
المصادر
التاريخية تكشف لنا بأن تسمية (عرب) قد أتت أساساً من الهلال الخصيب
وبالذات من العراق. ان أول من استخدم تسمية (عرب) هم العراقيون إذ أطلقوها
على سكان (الغرب) أي (البادية الغربية) الشامية العراقية. حتى الآن يستعمل
العراقيون تسمية (الغربية أو المغربية) على سكان أعالي الفرات، عكس
(الشرقية أو الشروقية) أي سكان شرق العراق. ان تسمية (عربا، عربو) تعني
سكان (عربايا) أي سكان البادية الغربية. من المعلوم ان حرفي الـ (ع) و(غ)
تتبادل في اللغات السامية، فكان الاكديون يطلقون على (العبرانيين) تسمية
(غابيرو)(19 ) وتعني (العابرين المتنقلين) أو سكان (الغبرا) أي البادية.
ان
الذي يعزز نظرية ان أصل العرب من هذه البادية، ان أول ذكر لتسمية (عرب) في
التاريخ، يعود الى وثيقة عراقية آشورية من القرن الثامن قبل الميلاد،
مكتوبة على لسان الملك (شلمنصر الثالث 858 -823 ق.م ) ويتحدث فيها عن
غريمه زعيم احدى العشائر البدوية اسمه (جندب العربي). كذلك وردت في
الكتابات البابلية جملة (ماتو اربي) Matu A-Ra-bi ،Matu Arabaai ومعنى
(ماتو) (متو) أرض، فيكون المعنى (أرض عربي)، أي (أرض العرب)، أو (بلاد
العرب)، أو (العربية)، أو (بلاد الأعراب) بتعبير اصدق وأصح. إذ قصد بها
البادية، وكانت تحفل بالأعراب. وجاءت في كتابة (بهستون) بيستونBehistun
لدارا الكبير )داريوس) لفظة (ارباية) عرباية Arabaya وذلك في النص الفارسي
المكتوب باللغة (الأخمينية) (20).
أما في (التوراة) فقد وردت فيها كلمة
(عربي) و (عرب) في التوراة، بمعنى البدوً. ففي كل المواضع التي وردت فيها
في سفر (أشعياء): (ولا يخيم هناك أعرابي) و (وحي من جهة بلاد العرب في
الوعر في بلاد العرب تبيتين). نفس الحال بسفر (ارميا). وبعض الباحثين
يعتبرون ان كلمتي (عبري) و(عربي)، بأصل واحد، تعني سكان البوادي
المتنقلين(21).
وقد وردت في التوراة تسمية (ها عرابة ha'Arabah (في
العبرانية. والمقصود بها: )وادي عربة)، أي الوادي الممتد من البحر الميت
أو من بحر الجليل إلى خليج العقبة. كذلك تعني لفظة (برابة) في العبرانية
الجفاف وحافة الصحراء وأرض محروقة، أي معاني ذات صلة بالبداوة والبادية.
وقد أقامت في هذا الوادي قبائل بدوية شملتها لفظة (عرب). وفي تقارب لفظة
(عرب) و (عرابة)، وتقارب معناهما، دلالة على الأصل المشترك للفظتين. ويعدّ
وادي (العربة) وكذلك (طور سيناء) في بلاد العرب. وقصد بـ (العربية) برية
سورية في (رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطة(. وأول من ذكر العرب من
اليونان هو (أسكيلوس في القرن السادس ق.م، وقال: انه كان في جيشه ضابط
عربي من الرؤساء مشهور. ثم تلاه (هيرودوتس) شيخ المؤرخين في القرن الخامس
ق.م. وقد أطلق لفظة (Arabae) (عربيا) على بلاد العرب، البادية وجزيرة
العرب والأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيل. فأدخل (طور سيناء) وما
بعدها إلى ضفاف النيل في بلاد العرب( 22). كذلك يمكن ذكر (فيليب العربي
204- 249 م) ذلك العسكري السوري من السويداء، الذي أصبح إمبراطور روما
(23).
ويمكن ذكر دليل بسيط من بين ما لا يحصى من الادلة عن الاصل
ألآرمي المشرقي للعرب، ان المسميات الأساسية للجمل، هي من أصل آرامي:
جملو= جمل // أبلثو= ابل // بعيرو = دابة(24).
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: الساميون والعرب، أصلهم من العراق والشام أم من الجزيرة العربية؟! / سليم مطر
تسمية عرب في المصادر العربية
المسألة التي تستحق الانتباه، ان
المصادر اليمنية التي تعتبر أولى الحضارات الكتابية في الجزيرة العربية،
لم تشر ولا مرة الى أسم (عرب) طيلة أكثر من ألف عام أي حتى القرون الاخيرة
قبل الاسلام (449 م) (542 م).. فكانت تطلق على نفسها تسميات عدة مثل
سبأيين ومعينيين وحميريين وغيرها، إلاّ تسمية(عرب)! وهذا دليل كاف على ان
تسمية (عرب) قد أتت من الشمال العراقي الشامي، حيث موطن العرب الاصلي ومنه
اكتسبوا تسميتهم. والاكثر من هذا ان لغات اليمن تختلف عن اللغة العربية
الشمالية التي انبثقت منها اللغة العربية، ولا تشترك معها إلاّ في كونها
من اللغات السامية، وقد كان علماء المسلمين المتقدمين يدركون ذلك حتى قال
أبو عمرو بن العلاء (770م): (ما لسان حمير بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا).
يضاف الى ذلك، ان (خط المسند) الذي كان سائداً في اليمن، رغم انه من أصول
(كنعانية)، إلاّ أنه بعيد تماماً عن (الخط العربي) الذي اشتق من الخط
النبطي ألآرامي العراقي.
في المصادر اليمنية المتأخرة بدأت ترد لفظة
(اعرب) بمعنى (أعراب) ولم يقصد بها قومية، أي علم لهذا الجنس المعروف،
الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو ومن حضر، فورد: (واعرب ملك حضرموت)
أي (و أعراب ملك حضرموت)، وورد: (واعر ملك سبا)، أي (وأعراب ملك سبأ).
وكالذي ورد في نص (أبرهة)، نائب ملك الحبشة على اليمن. مما يدل على أن
لفظة (عرب) و (العرب) لم تكن تؤدي معنى الجنس والقومية وإن أهل اليمن لم
يفهموا هذا المعنى من اللفظة إلاّ بعد دخولهم في الإسلام، ووقوفهم على
القرآن الكريم، وتكلمهم باللغة التي نزل بها، وذلك بفضل الإسلام بالطبع.
وقد وردت لفظة (عرب) في النصوص علماً لأشخاص. كذلك وردت لفظة (عرب) في عدد
كبير من كتابات (الحضر): (وبحطر و عرب)، أي (وبالحضر وبالعرب) (ملكادي
عرب)، أي (ملك العرب) وقد وردت اللفظة في كل هذه النصوص بمعنى (أعراب)،
ولم ترد علماً على قوم. في (نقش النمارة) الشهير الذي عثر عليه في أحد
القبور في سورية من تاريخ 328 م، والذي يعود إلى (امرء القيس بن عمرو).
والذي كان يحتوي على كتابة آرامية ولكن تحتوي على بعض المفردات العربية
(25).
مدينة التيماء
هنالك تعتيم يبدو مقصوداً على الاهمية
التاريخية الحاسمة لمدينة (التيماء) في الكشف عن دور البابليين في تكوين
(العنصر العربي). صحيح ان علاقات العراق مع الجزيرة قديمة، إلاّ أنها
تعمقت أكثر مع استخدام الجمل. وأصبحت هذه العلاقة ظاهرة ومتعددة الاشكال
منذ حكم السلالة الآشورية في الالف السابق للميلاد من خلال البدو
الاراميون الذين راحوا بالتدريج يصبحون جزءاً من الواقع الاجتماعي
والسياسي لبلاد النهرين. وقد توالت بعد ذلك الاشارات الى حملات الملوك
الآشوريين ومنهم سرجون الثاني (721- 705 ق.م) إذ يذكر في نصوصه بقيامه
بدخول منطقة شمال غرب الجزيرة العربية وتسلمه هدايا الطاعة والولاء من
القبائل العربية القاطنة في تلك المنطقة والتي كانت من بينها (ثمود) وقد
استمرت سيطرة الآشوريين على مناطق شمال الجزيرة العربية في عهد كل من
الملكين سنحاريب (705-681 ق.م) وآشور بنيبال (669-627 ق.م) بهدف فرض
السيطرة المباشرة على المراكز التجارية فيها وهذا ما نستشفه من خلال
النصوص المسمارية التي جائتنا من عهد هذين الملكين. وتذكر حوليات الملك
الآشوري تجلاثبليزر الثالث (744-727 ق.م) انه قام بمحاربة مدن وقبائل
الجزيرة مثل مساي (Masai) وتيماء (Temai) وسابيا (Sabaai) وخيافة
(Haiapai) وبدانيا (Badania) وتسلم هدايا الطاعة والولاء منهم. وبلغت هذه
العلاقات بين العراقيين وسكان الجزيرة في عهد السلالة الكلدانية في القرن
السابع ق.م، والتي كانت سلالة آرامية، بحيث ان (نبونيد 556-539 ق.م) آخر
ملك بابلي اتخذ من (التيماء) عاصمة روحية له. وتقع هذه المدينة ـ الواحة
في شمال الحجاز وقريبة من بادية الشام على الطريق الذي يربط بين خليج
العقبة والبتراء غرباً والخليج العربي شرقاً وتمر بها قوافل الراحلين من
الشام والعراق ومصر الى اليمن في الجنوب على طريق مكة. وقد دامت اقامته
فيها لفترة امتدت عشر سنوات حيث بنى لنفسه قصراً أشار اليه في نصوصه:
(بأنه كالقصر الذي شيده نبوخذ نصر الثاني في بابل، وجعل تيماء مدينة
زاهرة) ويقول هو:
(ولكنني أبعدت نفسي عن مدينة بابل على الطريق الى
تيماء ودادانو وباداكو وخيبر واياديخو وحتى يثربو، تجولت بينها هناك مدة
عشر سنين لم أدخل خلالها عاصمتي بابل). وأقام هذا الملك مستوطنات من
الرعايا البابليين في تلك الواحات. ولهذا فقد أفرزت اقامة العاهل البابلي
في تلك الواحة نتائج حضارية إذ انعكست التأثيرات البابلية على الاعمال
الفنية التي تم الكشف عنها في هذه المدينة فيما بعد ومنها مسلة التيماء
التي تبدو فيها الطرز الفنية للفخار البابلي واضحةً فضلاً عن التأثيرات
الاخرى التي ظهرت في الآثار المكتشفة في تلك المدينة بعد أن أصبحت جزءاً
من الامبراطورية البابلية الحديثة(26).
وهناك من يظن ان سكان مكة أي (القريشيون) هم من أصل بابلي:
((هناك
من يذهب أبعد.. فيرى أن البابليين الذين تسنى لهم النجاة من مذابح داريوس
الفرثي بعد احتلال بابل انتقاماً من ثورتها عليه وخلعها نير سلطانه، هم
الذين بنوا حضارة الحجاز... وربما جاءت الأسطورة الدينية التي تقول بأن
ابراهيم الخليل - وهو كلداني من اور- هو الذي بنى بمكة بيتها المقدس، وكان
من نسله ابنه اسماعيل، لتؤكد هذا الرأي أو الفرض التأريخي وتكرسه واقعة
تاريخية..))(27).
المصادر العربية والاصل العراقي ـ الشامي
ان
هذه الفكرة عن أصل العرب من (عربا ـ أي بادية الشام) ظلت متداولة لدى
المؤرخين العرب أنفسهم. فقالوا: (إنهم سموا عربا بأسم بلدهم العربات. وقال
إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن
إبراهيم عليهما السلام). وقالوا (وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، وأنتشر
سائر العرب في جزيرتها، فنسبوا كلهم إلى عربة، لأن أباهم اسماعيل، صلى
الله عليه وسلم، نشأ وربى أولاده فيها فكثروا).
كذلك تم التعبير عن
الشعور الموروث لدى العرب بأنهم من أصل (عراقي)، من خلال الاعتقاد بقدوم
اسماعيل من (أور) وان ابراهيم هو الذي بنى الكعبة. وهذا قول معروف من
الامام علي :
((جاء في اللسان: قال محمد بن سيرين: سمعت عبيدة قال:
سمعت عليّاً (رض) يقول: (من كان سائلاً عن نسبتنا فإنّا نبط من كوثى). قال
أبو المنصور: والقول هو الأول لقوله (رضي): فإنها نبط من كوثى، ولو أراد
كوثى مكة لما قال نبط. وكوثى العراق هي سُرّة السواد من محل النبط. وإنما
أراد عليٌّ أن أبانا إبراهيم كان من نبط كوثى. ونحو ذلك قال ابن عباس: نحن
معاشر قريش حيّ من النبط من أهل كوثى. والنبط من أهل العراق)). وأنت تعلم
أن مراد العرب بنبط العراق: البابليون الأقدمون. وعلى هذا يكون القرشيون
بابليّي الأصل فلما دخلوا بلاد العرب أدخلوا إليها لغتهم معهم(28).
هذا
يفسر الفكرة السائدة في الاساطير العربية عن (العرب المستعربة) أي
(العدنانيون ـ المضريون) أبناء (اسماعيل) التي تقول الاساطير انهم قدموا
من الشمال. وهذا أيضاً يفسر سبب الاختلاف العرقي واللغوي الكبير بين عرب
الحجاز الشماليين (أشكالهم عراقية سورية بحر متوسطية)، وعرب اليمن
الجنوبيون، (أشكالهم استوائية سمراء). رغم الامتزاجات الكبيرة التي حصلت
بين الطرفين إلاّ أنهم يختلفون بالاصول والاشكال، بل حتى اللغة. علماً بأن
تسمية (أرض العرب أو العربية) قد توسعت مساحتها مع مرور الزمن. ففي بدايات
الالف السابق للميلاد، حسب الوثائق العراقية والتوراتية والايرانية، فان
(العربية) أو (بلاد العرب)، تعني بالضبط: (البادية التي في غرب نهر الفرات
الممتدة إلى تخوم بلاد الشام). ثم بالتدريج بدأت التسمية تشمل (صحراء
سيناء)، حيث تعيش هنالك عدة قبائل بدوية. ثم بالتدريج راحت التسمية تشمل
كل الجزيرة العربية.
الانباط
بدأوا يظهرون في بوادي الهلال
الخصيب منذ القرن الميلادي الاول. يمكن اعتبار(الانباط) نتاج المرحلة
الأولية من التمازج الحاصل بين الآراميين وسكان جنوب الجزيرة العربية
اليمنيين، ولهذا فأن لغتهم وأسمائهم وثقافتهم كانت آرامية ولكنها تحتوي
على بعض صفات العربية من مفردات وأسماء وعادات(29 ). وقد اطلقت عليهم
تسمية (انباط) بمعنى انهم هجروا البادية و(نبطو) أي (انبتو، زرعو) أي
أصبحوا حضر مزارعين. وقد أسسوا بعض الدويلات في العراق والشام، في ظل
الدولتين الفارسية والرومانية المهيمنتين في تلك الفترة. ومن هذه الدويلات
(الحضر) في بادية الموصل، و(الانباط) في بادية الاردن، و(تدمر) غرب الفرات
عند البادية السورية. وكل هذه الدويلات قد نشأت وانتهت تقريباً في نفس
الفترة، حيث دامت بضعة قرون بعد الميلاد.
ظهور العرب
بدأت
القبائل العربية تظهر بالتدريج منذ القرن الرابع الميلادي، حيث استقرت بعض
القبائل في أواسط الفرات لتشكل (دولة المناذرة) في العراق، بالاضافة الى
(دولة الغساسنة) في سورية. ان ميزة هذه الموجة انها كانت تحمل في طياتها
تأثيرات أكثر وضوحاً من عملية التفاعل بين القبائل الآرامية الشمالية مع
قبائل جنوب الجزيرة. ومن أهم هذه التأثيرات هي اللغة التي اكتسبت الكثير
من تأثيرات لغة اليمن. كذلك شيوع تسمية(عرب) رغم ان هذه التسمية أصلها من
العراق. لكن رغم ذلك فأن (ألآرامية) بقيت لغة الثقافة والدين الرسمية
المتداولة في داخل هذه الدويلات. فكل ما وجد من وثائق ونقوش (ثمودية
وصفوية) تنسب للعرب في هذه الحقبة، كانت مكتوبة باللغة والخط الآرامي. ولم
نعرف العرب إلاّ من مسمياتهم(30).
أما الموجة العربية الحقيقية التي أتت مع الفتح العربي الاسلامي من الجزيرة العربية، فانها تستحق التفصيل التالي الخاص بها.
ظهور اللغة العربية
حتى
الآن يبدي جميع المعنيين بتاريخ العرب واللغة العربية، استغرابهم من هذا
الظهور المفاجئ للغة العربية، كلغة متكاملة في وسط مجتمع (مكة) الذي كان
في وضع حضاري محدود ليس له أي ميراث ثقافي عريق مكتوب يمكن أن يفسر هذا
الغنى المتميز للغة القرآن الكريم(31).
إن جوابنا على هذا التساؤل المشروع، هو التالي :
ان
اللغة العربية ليست نتاج مجتمع (مكة) وحده، ولا عموم المجتمع الحجازي الذي
ظهرت فيه، بل هي نتاج التقاء وامتزاج ثقافتين عريقتين اجتمعتا في مكة:
الثقافة اليمنية ذات الميراث الذي يتجاوز الالف عام، والثقافة الآرامية
الحاملة لميراث بضعة آلاف عام من حضارات العراق والشام.
أن مدينة
(مكة) وكذلك (يثرب) ومدن حجازية أخرى، قد تأسست على يد المهاجرين
الشماليين من القبائل الارامية ومعها المجاميع الشمالية المختلفة التي
كانت تنزح نحو الحجاز لأسباب عدة، (مثال النخب البابلية بعد سقوط بابل).
في الحقبة الميلادية أو السابقة للميلاد بقرنين على الاكثر، ظهرت أول
معالم (مكة). لقد استمر الحجاز يستقبل النازحين القادمين من الشمال من بدو
وحضر ومبشرين مسيحيين (خصوصاً النساطرة العراقيين) وكذلك التجار اليهود.
ويبدو ان هذه الهجرات الشمالية نحو الحجاز كانت بزيادة متصاعدة بسبب
استخدام (الجمل) وكذلك نتيجة استمرار فقدان الامن وتردي الحياة في الهلال
الخصيب، بسبب السيطرة الاجنبية (الفارسية ـ الرومانية) والحروب الطاحنة
بين الطرفين. ان موقع (مكة) على خط القوافل بين الجنوب والشمال، ساعدها
على أن تصبح مركز جذب للقبائل والجماعات اليمنية القادمة من الجنوب لتمتزج
مع الاقارب القدماء القادمين من الشمال. وقد نجح أهل (مكة) معتمدين على
ميراثهم الحضاري الشمالي ـ الجنوبي العريق، بتأسيس مكانة دينية جامعة
تتمثل بـ (الكعبة الشريفة)، مما حول المدينة الى مصهر ثقافي وعرقي فعّال،
ليتحول مع الزمن الى مركز حضاري وديني لسكان الجزيرة الشماليين
والجنوبيين. كل هذه التفاعلات وخلال بضعة قرون أدت الى تطور لغة جديدة
تجمع بين اللغتين اليمنية (الجنوبية) وألآرامية (الشمالية)، أطلق عليها
تسمية (لغة عربية) أو (لهجة قريش).
(عبثاً يحاول دارسي العربية
العثور على وثائق لغوية سابقة للقرآن الكريم... أما من ناحية النقوش التي
يسمونها ـ نقوشا عربية ـ سبقت ظهور الاسلام، فهي ركيكة ولا تشبه العربية
الفصحى.. أما نقش النمارة الذي عثر عليه في حوران في سورية عند قبر امروء
القيس المتوفي عام 328 ميلادية وكان ملكاً على الحيرة في العراق، فقد قيل
عن كتابته بأنها لغة رجل آرامي لا يعرف العربية معرفة تامة. لغته سريانية
ولكنه يحاول الكتابة بالعربية) (32).
ان العربية هي لغة مكة وقريش،
وسميت منذ ذلك الحين باللغة العربية الفصحى، وقد أبرزها القرآن الكريم
كلغة دينية مقدسة: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}
{الرعد/37}، {وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا}
{الأحقاف/12}، {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} {النحل/103}.
أن
اللغة العربية التي ظهرت في القرآن الكريم، لم تكن نتاج تراث الحجاز
اللغوي بل هي حصيلة التقاء التراثين اللغويين الجنوبي والشمالي(33 ).
حينها فقط اتخذت تسمية (عرب) التي كانت تعني فقط (الاعراب) أي (بدو عربايا
ـ البادية الغربية)، معناً جديداً يمثل مجموعة أقوامية ناطقة بلغة خاصة
بها هي: اللغة العربية!
ولعل هذا الاصل الآرامي للعرب وللغة العربية،
هو الذي يفسر كيف ان العرب المسلمين اعتبروا اللغة السريانية (وهي نفس
الآرامية)، لغة مقدسة ولغة الانبياء الاوائل: آدم وشيت وادريس ونوح
وابراهيم(34).
وهذا أيضاً يفسر اقتباس العرب (الخط النبطي الآرامي
العراقي) في كتابة لغتهم، بدلاً من الخط اليمني المسند الذي كان شائعاً في
الجزيرة.
تعريب وأسلمة سكان العراق والشام الناطقين بالآرامية
إذن،
(العرب) مثل كل المجموعات الاقوامية الكبيرة في العالم، هم مزيج من مختلف
الاعراق والجماعات المختلفة الاصول ولكنها لظروف مختلفة ذابت في كياني
ثقافي ـ لغوي مشترك غطائه اللغة العربية. ومع الزمن والتمازج العرقي
الثقافي تشكلت نوعاً من (الرابطة القومية) المبنية على الاساطير التي تدعي
بالاصل العرقي المشترك و(جد) خيالي اسمه (يعرب) يفترض بأن تسمية (عرب)
تعود له. ومن أجل تفسير هذا الانقسام التاريخي العرقي الواضح بين سكان
جنوب الجزيرة والقادمون من الشمال، قيل ان (يعرب) له ولدين، (قحطان) جد
الجنوبيين، و(عدنان) جد الشماليين!
ان القفزة الكبرى التي حصلت في هذه
الجماعة (العربية) الاقوامية الناشئة في الحجاز، مع ظهور الاسلام وانشاء
الامبراطورية العربية الاسلامية. إذ انظمت الى (العرب) شعوب بأكملها
(آرامية ومصرية وبربرية ونوبية، وغيرهم الكثيرون) بسبب عمليات الاسلمة
والتعريب التي دامت قرون لتشكل الشعوب العربية الحالية، التي تعتقد بأنها
منحدرة عرقياً وفعلياً من (عرب الحجاز)!
بالحقيقة إن العامل الأول الذي
سهل عملية تعريب شعوب العالم العربي الحالي، هو التقارب العقلي والبشري
بين القبائل العربية وسكان هذه البلدان. بالحقيقة ان عملية التعريب ما كان
يمكنها أن تنجح، لولا هذه العلاقات التاريخية العرقية والحضارية بين هذه
الشعوب (السامية ـ الحامية (35).
www.salim.mesopot.com
مصادر البحث
أدناه فقط المصادر الاساسية المذكورة في متن الكتاب، ولم نذكر العشرات غيرها التي تم استشارتها، ولكن لم يتسن لنا تسجيلها:
1- (جريدة السفير) 2007/10/26 أجرى اللقاء أحمد بزون / منشور أيضا في: http://www.alnahdah.org/doc07102610.htm
ـ كذلك كتابه: التوراة جاءت من جزيرة العرب / كمال الصليبي / بيروت 1985
2- من سومر الى التوراة / فاضل عبد الوحد علي / دار سيناء / القاهرة 1996
3- حضارة العرب / احمد سوسة / وزارة الاعلام / بغداد
4- تاريخ اللغات السامية أ ــ ولفنسون
5- التاريخ القديم للشعب الاسرائيلي / توماس طومسن .
6- آرام دمشق واسرائيل/ فراس السواح / دار علاء الدين / دمشق 1995
la Mesopotamie / Georges ROUX/P 136-138/ Paris 1985) -7)
8- تاريخ سورية ولبنان وفلسطين / فيليب حتي / دار الثقافة / بيروت 1985
9- بادية الشام / كريستينا فيلبس غرانة / ترجمة، تحقيق: خالد أحمد عيسى/ أحمد غسان سبانو/ دار رسلان / بيروت 2007
10- البدو والبادية صور من حياة البدو في بادية الشام / جبرائيل سليمان جبور/ دار العلم للملايين / بيروت 1988
11- أللآلئ السريانية / قاموس سرياني عربي / جوزيف اسمر/ مطبعة العلم / سورية 1991
12- دراسات في تاريخ الثقافة العربية / مجموعة مؤلفين سوفييت / دار التقدم / موسكو 1989
13- شبه الجزيرة العربية والعرب / غريازنيفيتش / موسكو 1977
14- موسوعة ويكيبيديا: قطر، البحرين، عمان، الخليج
15- تاريخ اليمن القديم / محمد بافقيه / المؤسسة العربية / بيروت1985
16- المفصل في تاريخ العرب / جواد علي الطاهر.
17-
هل بنى البابليون مكة والمدينة / د.هديب غزالة / مجلة ميزوبوتاميا / بغداد
/ عدد 7 / 2006 www.mesopotamia4374.com/adad7/fahrast7.htm)
18- محاولة في فهم الشخصية / محمد مبارك / بيروت.
19- حصاد الفكر في اللغة العربية / لجنة باحثين
20- نظريات في اللغة / انيسة فريحة / دار الكتب / بيروت1973
21- كتاب الأختصاص للشيخ المفيد.
22- تفسير الميزان / السيد الطباطبائي.
23- تاريخ العراق الاقتصادي/ عبد العزيز الدوري/ المؤسسة العربية / بيروت
24- كتابنا الذات الجريحة / الفصل الثاني / الطبعة 4 / بغداد 2007
25 - عن تدجين الحصان والجمل/ راجع:
26- تاريخ البشرية / ارنولد توينبي / الدار الاهلية / بيروت 1988
27- الغرب والعالم / كافين رايلي / عالم المعرفة / الكويت 1985
28- ارتقاؤ الانسان / ج. برونوفسكي / عالم المعرفة / الكويت
نستخدم تسميات: (العراق والشام / العراق وسورية / الهلال الخصيب / المشرق / الشمال)، مترادفات بمعنى واحد.
1. (اجرى اللقاء أحمد بزون / جريدة السفير (2007/10/26) منشور أيضاً في : http://www.alnahdah.org/doc07102610.htm
2.
(لقد فصل هذه الاشكالية الباحث العراقي فاضل عبد الواحد في كتابه: من سومر
الى التوراة / ص 43 ـ47)/ كذلك راجع حضارة العرب / احمد سوسة / الذي اطلق
تسمية (عرب) على الشعوب السامية.
3. تاريخ اللغات السامية أ ــ ولفنسون ص 4 ــ 5 .. كذلك راجع التاريخ القديم للشعب الاسرائيلي ــ توماس طومسن ــ ص121 ــ124 .
4 . (آرام دمشق واسرائيل / فراس السواح / ص16
(la Mesopotamie/Georges ROUX/P 136-138) 5.
6. (Georges ROUX/P48/57)
7 . (آرام ودمشق واسرائيل / فراس السواح / ص15).
8 . (Georges ROUX/P 82-85) / كذلك الهامش في صفحة (370: 2/71)
9. السواح ـ نفس المصدر ـ ص17.
10.
عن البادية العراقية ـ الشامية، راجع: تاريخ سورية / فيليب حتي ج 2 حتي
46/ كذلك ـ بادية الشام / كريستينا فيلبس غرانة / كذلك ـ البدو والبادية /
جبرائيل سليمان جبور.
11. تاريخ سورية / فيليب حتي ج2 ص70 ـ 71
12. ـ تاريخ سورية ولبنان وفلسطين / فيليب حتي / ج2 ص55 و71
13. (فراس السواح / ص79).
14 . عن تدجين الحصان والجمل، راجع :
ـ تاريخ البشرية / ارنولد توينبي / الجزء الاول ص204 / الجزء الثاني ص81 / الدار الاهلية / بيروت 1988
ـ الغرب والعالم / كافين رايلي / القسم الاول ص126 / عالم المعرفة / الكويت1985
ـ ارتقاء الانسان / ج. برونوفسكي / ص34 / عالم المعرفة / الكويت
15. أللآلئ السريانية / قاموس سرياني عربي / جوزيف اسمر/ مطبعة العلم / سورية 1991
16. (دراسات في تاريخ الثقافة العربية / مجموعة مؤلفين سوفييت / دار
التقدم ـ موسكو ـ 1989 ص 24/ كذلك: غريازنيفيتش / شبه الجزيرة العربية
والعرب / موسكو 1977 ص 42 52 -).
17. (راجع موسوعة ويكيبيديا: قطر، البحرين، عمان، الخليج)
18. تاريخ اليمن القديم / محمد بافقيه / ص 51 / المؤسسة العربية / بيروت1985
19 . (فراس السواح / ص83).
20 . حول تفاصيل تسمية (عرب) راجع : المفصل في تاريخ العرب / الفصل الاول.
21 . (تاريخ اللغات السامية / أ. ولفنسون / ص165 ).
22. (المفصل / الفصل الاول)
23 . (فيليب حتي / ج2 / ص382)
24. أللآلئ السريانية / قاموس سرياني عربي / جوزيف أسمر / مطبعة العلم / سورية 1991
25. (المفصل / الفصل الاول)
26
. حول اهمية التيماء راجع: (د.هديب غزالة / مجلة ميزوبوتاميا / بغداد /
عدد 7 / 2006 www.mesopotamia4374.com/adad7/fahrast7.htm). كذلك :326
(Georges ROUX/P / كذلك: تاريخ سورية / ج2 ص 189 ـ 239 ـ 300
27 . (محاولة في فهم الشخصية / محمد مبارك / ص 21 ــ 24).
28 . (حصاد الفكر في اللغة العربية / لجنة باحثين / ص 258 ــ286 )
29 . (تاريخ اللغات السامية / أ. ولفنسون / ص134ـ137)
30 . (من سومر الى التوراة / فاضل عبد الواحد علي / ص 188ـ193 )
31 . (نظريات في اللغة / أنيس فريحة / ص67)
32. (انيسة فريحة / نظريات في اللغة / دار الكتب / بيروت1937/ ص66 ـ67)
33. (الكثير من الباحثين يتفقون على هذا: تاريخ اللغات السامية / أ. ولفنسون / ص166 )
34. (راجع كتاب الأختصاص للشيخ المفيد / ص 264 . وتفسير الميزان - السيد الطباطبائي :7 /181 ).
35. حول تعريب سكان الشام، راجع )تاريخ سورية ــ فيليب حتي ــ ج2 ــ 21 ــ
23 / ثم ص 171(، حول تعريب سكان العراق / راجع (تاريخ العراق الاقتصادي) /
عبد العزيز الدوري / ص 31 ــ32 و 76ــ77 / كذلك كتابنا (الذات الجريحة /
الفصل الثاني).
القدس العربي
2009/07/30
المسألة التي تستحق الانتباه، ان
المصادر اليمنية التي تعتبر أولى الحضارات الكتابية في الجزيرة العربية،
لم تشر ولا مرة الى أسم (عرب) طيلة أكثر من ألف عام أي حتى القرون الاخيرة
قبل الاسلام (449 م) (542 م).. فكانت تطلق على نفسها تسميات عدة مثل
سبأيين ومعينيين وحميريين وغيرها، إلاّ تسمية(عرب)! وهذا دليل كاف على ان
تسمية (عرب) قد أتت من الشمال العراقي الشامي، حيث موطن العرب الاصلي ومنه
اكتسبوا تسميتهم. والاكثر من هذا ان لغات اليمن تختلف عن اللغة العربية
الشمالية التي انبثقت منها اللغة العربية، ولا تشترك معها إلاّ في كونها
من اللغات السامية، وقد كان علماء المسلمين المتقدمين يدركون ذلك حتى قال
أبو عمرو بن العلاء (770م): (ما لسان حمير بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا).
يضاف الى ذلك، ان (خط المسند) الذي كان سائداً في اليمن، رغم انه من أصول
(كنعانية)، إلاّ أنه بعيد تماماً عن (الخط العربي) الذي اشتق من الخط
النبطي ألآرامي العراقي.
في المصادر اليمنية المتأخرة بدأت ترد لفظة
(اعرب) بمعنى (أعراب) ولم يقصد بها قومية، أي علم لهذا الجنس المعروف،
الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو ومن حضر، فورد: (واعرب ملك حضرموت)
أي (و أعراب ملك حضرموت)، وورد: (واعر ملك سبا)، أي (وأعراب ملك سبأ).
وكالذي ورد في نص (أبرهة)، نائب ملك الحبشة على اليمن. مما يدل على أن
لفظة (عرب) و (العرب) لم تكن تؤدي معنى الجنس والقومية وإن أهل اليمن لم
يفهموا هذا المعنى من اللفظة إلاّ بعد دخولهم في الإسلام، ووقوفهم على
القرآن الكريم، وتكلمهم باللغة التي نزل بها، وذلك بفضل الإسلام بالطبع.
وقد وردت لفظة (عرب) في النصوص علماً لأشخاص. كذلك وردت لفظة (عرب) في عدد
كبير من كتابات (الحضر): (وبحطر و عرب)، أي (وبالحضر وبالعرب) (ملكادي
عرب)، أي (ملك العرب) وقد وردت اللفظة في كل هذه النصوص بمعنى (أعراب)،
ولم ترد علماً على قوم. في (نقش النمارة) الشهير الذي عثر عليه في أحد
القبور في سورية من تاريخ 328 م، والذي يعود إلى (امرء القيس بن عمرو).
والذي كان يحتوي على كتابة آرامية ولكن تحتوي على بعض المفردات العربية
(25).
مدينة التيماء
هنالك تعتيم يبدو مقصوداً على الاهمية
التاريخية الحاسمة لمدينة (التيماء) في الكشف عن دور البابليين في تكوين
(العنصر العربي). صحيح ان علاقات العراق مع الجزيرة قديمة، إلاّ أنها
تعمقت أكثر مع استخدام الجمل. وأصبحت هذه العلاقة ظاهرة ومتعددة الاشكال
منذ حكم السلالة الآشورية في الالف السابق للميلاد من خلال البدو
الاراميون الذين راحوا بالتدريج يصبحون جزءاً من الواقع الاجتماعي
والسياسي لبلاد النهرين. وقد توالت بعد ذلك الاشارات الى حملات الملوك
الآشوريين ومنهم سرجون الثاني (721- 705 ق.م) إذ يذكر في نصوصه بقيامه
بدخول منطقة شمال غرب الجزيرة العربية وتسلمه هدايا الطاعة والولاء من
القبائل العربية القاطنة في تلك المنطقة والتي كانت من بينها (ثمود) وقد
استمرت سيطرة الآشوريين على مناطق شمال الجزيرة العربية في عهد كل من
الملكين سنحاريب (705-681 ق.م) وآشور بنيبال (669-627 ق.م) بهدف فرض
السيطرة المباشرة على المراكز التجارية فيها وهذا ما نستشفه من خلال
النصوص المسمارية التي جائتنا من عهد هذين الملكين. وتذكر حوليات الملك
الآشوري تجلاثبليزر الثالث (744-727 ق.م) انه قام بمحاربة مدن وقبائل
الجزيرة مثل مساي (Masai) وتيماء (Temai) وسابيا (Sabaai) وخيافة
(Haiapai) وبدانيا (Badania) وتسلم هدايا الطاعة والولاء منهم. وبلغت هذه
العلاقات بين العراقيين وسكان الجزيرة في عهد السلالة الكلدانية في القرن
السابع ق.م، والتي كانت سلالة آرامية، بحيث ان (نبونيد 556-539 ق.م) آخر
ملك بابلي اتخذ من (التيماء) عاصمة روحية له. وتقع هذه المدينة ـ الواحة
في شمال الحجاز وقريبة من بادية الشام على الطريق الذي يربط بين خليج
العقبة والبتراء غرباً والخليج العربي شرقاً وتمر بها قوافل الراحلين من
الشام والعراق ومصر الى اليمن في الجنوب على طريق مكة. وقد دامت اقامته
فيها لفترة امتدت عشر سنوات حيث بنى لنفسه قصراً أشار اليه في نصوصه:
(بأنه كالقصر الذي شيده نبوخذ نصر الثاني في بابل، وجعل تيماء مدينة
زاهرة) ويقول هو:
(ولكنني أبعدت نفسي عن مدينة بابل على الطريق الى
تيماء ودادانو وباداكو وخيبر واياديخو وحتى يثربو، تجولت بينها هناك مدة
عشر سنين لم أدخل خلالها عاصمتي بابل). وأقام هذا الملك مستوطنات من
الرعايا البابليين في تلك الواحات. ولهذا فقد أفرزت اقامة العاهل البابلي
في تلك الواحة نتائج حضارية إذ انعكست التأثيرات البابلية على الاعمال
الفنية التي تم الكشف عنها في هذه المدينة فيما بعد ومنها مسلة التيماء
التي تبدو فيها الطرز الفنية للفخار البابلي واضحةً فضلاً عن التأثيرات
الاخرى التي ظهرت في الآثار المكتشفة في تلك المدينة بعد أن أصبحت جزءاً
من الامبراطورية البابلية الحديثة(26).
وهناك من يظن ان سكان مكة أي (القريشيون) هم من أصل بابلي:
((هناك
من يذهب أبعد.. فيرى أن البابليين الذين تسنى لهم النجاة من مذابح داريوس
الفرثي بعد احتلال بابل انتقاماً من ثورتها عليه وخلعها نير سلطانه، هم
الذين بنوا حضارة الحجاز... وربما جاءت الأسطورة الدينية التي تقول بأن
ابراهيم الخليل - وهو كلداني من اور- هو الذي بنى بمكة بيتها المقدس، وكان
من نسله ابنه اسماعيل، لتؤكد هذا الرأي أو الفرض التأريخي وتكرسه واقعة
تاريخية..))(27).
المصادر العربية والاصل العراقي ـ الشامي
ان
هذه الفكرة عن أصل العرب من (عربا ـ أي بادية الشام) ظلت متداولة لدى
المؤرخين العرب أنفسهم. فقالوا: (إنهم سموا عربا بأسم بلدهم العربات. وقال
إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن
إبراهيم عليهما السلام). وقالوا (وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، وأنتشر
سائر العرب في جزيرتها، فنسبوا كلهم إلى عربة، لأن أباهم اسماعيل، صلى
الله عليه وسلم، نشأ وربى أولاده فيها فكثروا).
كذلك تم التعبير عن
الشعور الموروث لدى العرب بأنهم من أصل (عراقي)، من خلال الاعتقاد بقدوم
اسماعيل من (أور) وان ابراهيم هو الذي بنى الكعبة. وهذا قول معروف من
الامام علي :
((جاء في اللسان: قال محمد بن سيرين: سمعت عبيدة قال:
سمعت عليّاً (رض) يقول: (من كان سائلاً عن نسبتنا فإنّا نبط من كوثى). قال
أبو المنصور: والقول هو الأول لقوله (رضي): فإنها نبط من كوثى، ولو أراد
كوثى مكة لما قال نبط. وكوثى العراق هي سُرّة السواد من محل النبط. وإنما
أراد عليٌّ أن أبانا إبراهيم كان من نبط كوثى. ونحو ذلك قال ابن عباس: نحن
معاشر قريش حيّ من النبط من أهل كوثى. والنبط من أهل العراق)). وأنت تعلم
أن مراد العرب بنبط العراق: البابليون الأقدمون. وعلى هذا يكون القرشيون
بابليّي الأصل فلما دخلوا بلاد العرب أدخلوا إليها لغتهم معهم(28).
هذا
يفسر الفكرة السائدة في الاساطير العربية عن (العرب المستعربة) أي
(العدنانيون ـ المضريون) أبناء (اسماعيل) التي تقول الاساطير انهم قدموا
من الشمال. وهذا أيضاً يفسر سبب الاختلاف العرقي واللغوي الكبير بين عرب
الحجاز الشماليين (أشكالهم عراقية سورية بحر متوسطية)، وعرب اليمن
الجنوبيون، (أشكالهم استوائية سمراء). رغم الامتزاجات الكبيرة التي حصلت
بين الطرفين إلاّ أنهم يختلفون بالاصول والاشكال، بل حتى اللغة. علماً بأن
تسمية (أرض العرب أو العربية) قد توسعت مساحتها مع مرور الزمن. ففي بدايات
الالف السابق للميلاد، حسب الوثائق العراقية والتوراتية والايرانية، فان
(العربية) أو (بلاد العرب)، تعني بالضبط: (البادية التي في غرب نهر الفرات
الممتدة إلى تخوم بلاد الشام). ثم بالتدريج بدأت التسمية تشمل (صحراء
سيناء)، حيث تعيش هنالك عدة قبائل بدوية. ثم بالتدريج راحت التسمية تشمل
كل الجزيرة العربية.
الانباط
بدأوا يظهرون في بوادي الهلال
الخصيب منذ القرن الميلادي الاول. يمكن اعتبار(الانباط) نتاج المرحلة
الأولية من التمازج الحاصل بين الآراميين وسكان جنوب الجزيرة العربية
اليمنيين، ولهذا فأن لغتهم وأسمائهم وثقافتهم كانت آرامية ولكنها تحتوي
على بعض صفات العربية من مفردات وأسماء وعادات(29 ). وقد اطلقت عليهم
تسمية (انباط) بمعنى انهم هجروا البادية و(نبطو) أي (انبتو، زرعو) أي
أصبحوا حضر مزارعين. وقد أسسوا بعض الدويلات في العراق والشام، في ظل
الدولتين الفارسية والرومانية المهيمنتين في تلك الفترة. ومن هذه الدويلات
(الحضر) في بادية الموصل، و(الانباط) في بادية الاردن، و(تدمر) غرب الفرات
عند البادية السورية. وكل هذه الدويلات قد نشأت وانتهت تقريباً في نفس
الفترة، حيث دامت بضعة قرون بعد الميلاد.
ظهور العرب
بدأت
القبائل العربية تظهر بالتدريج منذ القرن الرابع الميلادي، حيث استقرت بعض
القبائل في أواسط الفرات لتشكل (دولة المناذرة) في العراق، بالاضافة الى
(دولة الغساسنة) في سورية. ان ميزة هذه الموجة انها كانت تحمل في طياتها
تأثيرات أكثر وضوحاً من عملية التفاعل بين القبائل الآرامية الشمالية مع
قبائل جنوب الجزيرة. ومن أهم هذه التأثيرات هي اللغة التي اكتسبت الكثير
من تأثيرات لغة اليمن. كذلك شيوع تسمية(عرب) رغم ان هذه التسمية أصلها من
العراق. لكن رغم ذلك فأن (ألآرامية) بقيت لغة الثقافة والدين الرسمية
المتداولة في داخل هذه الدويلات. فكل ما وجد من وثائق ونقوش (ثمودية
وصفوية) تنسب للعرب في هذه الحقبة، كانت مكتوبة باللغة والخط الآرامي. ولم
نعرف العرب إلاّ من مسمياتهم(30).
أما الموجة العربية الحقيقية التي أتت مع الفتح العربي الاسلامي من الجزيرة العربية، فانها تستحق التفصيل التالي الخاص بها.
ظهور اللغة العربية
حتى
الآن يبدي جميع المعنيين بتاريخ العرب واللغة العربية، استغرابهم من هذا
الظهور المفاجئ للغة العربية، كلغة متكاملة في وسط مجتمع (مكة) الذي كان
في وضع حضاري محدود ليس له أي ميراث ثقافي عريق مكتوب يمكن أن يفسر هذا
الغنى المتميز للغة القرآن الكريم(31).
إن جوابنا على هذا التساؤل المشروع، هو التالي :
ان
اللغة العربية ليست نتاج مجتمع (مكة) وحده، ولا عموم المجتمع الحجازي الذي
ظهرت فيه، بل هي نتاج التقاء وامتزاج ثقافتين عريقتين اجتمعتا في مكة:
الثقافة اليمنية ذات الميراث الذي يتجاوز الالف عام، والثقافة الآرامية
الحاملة لميراث بضعة آلاف عام من حضارات العراق والشام.
أن مدينة
(مكة) وكذلك (يثرب) ومدن حجازية أخرى، قد تأسست على يد المهاجرين
الشماليين من القبائل الارامية ومعها المجاميع الشمالية المختلفة التي
كانت تنزح نحو الحجاز لأسباب عدة، (مثال النخب البابلية بعد سقوط بابل).
في الحقبة الميلادية أو السابقة للميلاد بقرنين على الاكثر، ظهرت أول
معالم (مكة). لقد استمر الحجاز يستقبل النازحين القادمين من الشمال من بدو
وحضر ومبشرين مسيحيين (خصوصاً النساطرة العراقيين) وكذلك التجار اليهود.
ويبدو ان هذه الهجرات الشمالية نحو الحجاز كانت بزيادة متصاعدة بسبب
استخدام (الجمل) وكذلك نتيجة استمرار فقدان الامن وتردي الحياة في الهلال
الخصيب، بسبب السيطرة الاجنبية (الفارسية ـ الرومانية) والحروب الطاحنة
بين الطرفين. ان موقع (مكة) على خط القوافل بين الجنوب والشمال، ساعدها
على أن تصبح مركز جذب للقبائل والجماعات اليمنية القادمة من الجنوب لتمتزج
مع الاقارب القدماء القادمين من الشمال. وقد نجح أهل (مكة) معتمدين على
ميراثهم الحضاري الشمالي ـ الجنوبي العريق، بتأسيس مكانة دينية جامعة
تتمثل بـ (الكعبة الشريفة)، مما حول المدينة الى مصهر ثقافي وعرقي فعّال،
ليتحول مع الزمن الى مركز حضاري وديني لسكان الجزيرة الشماليين
والجنوبيين. كل هذه التفاعلات وخلال بضعة قرون أدت الى تطور لغة جديدة
تجمع بين اللغتين اليمنية (الجنوبية) وألآرامية (الشمالية)، أطلق عليها
تسمية (لغة عربية) أو (لهجة قريش).
(عبثاً يحاول دارسي العربية
العثور على وثائق لغوية سابقة للقرآن الكريم... أما من ناحية النقوش التي
يسمونها ـ نقوشا عربية ـ سبقت ظهور الاسلام، فهي ركيكة ولا تشبه العربية
الفصحى.. أما نقش النمارة الذي عثر عليه في حوران في سورية عند قبر امروء
القيس المتوفي عام 328 ميلادية وكان ملكاً على الحيرة في العراق، فقد قيل
عن كتابته بأنها لغة رجل آرامي لا يعرف العربية معرفة تامة. لغته سريانية
ولكنه يحاول الكتابة بالعربية) (32).
ان العربية هي لغة مكة وقريش،
وسميت منذ ذلك الحين باللغة العربية الفصحى، وقد أبرزها القرآن الكريم
كلغة دينية مقدسة: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}
{الرعد/37}، {وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا}
{الأحقاف/12}، {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} {النحل/103}.
أن
اللغة العربية التي ظهرت في القرآن الكريم، لم تكن نتاج تراث الحجاز
اللغوي بل هي حصيلة التقاء التراثين اللغويين الجنوبي والشمالي(33 ).
حينها فقط اتخذت تسمية (عرب) التي كانت تعني فقط (الاعراب) أي (بدو عربايا
ـ البادية الغربية)، معناً جديداً يمثل مجموعة أقوامية ناطقة بلغة خاصة
بها هي: اللغة العربية!
ولعل هذا الاصل الآرامي للعرب وللغة العربية،
هو الذي يفسر كيف ان العرب المسلمين اعتبروا اللغة السريانية (وهي نفس
الآرامية)، لغة مقدسة ولغة الانبياء الاوائل: آدم وشيت وادريس ونوح
وابراهيم(34).
وهذا أيضاً يفسر اقتباس العرب (الخط النبطي الآرامي
العراقي) في كتابة لغتهم، بدلاً من الخط اليمني المسند الذي كان شائعاً في
الجزيرة.
تعريب وأسلمة سكان العراق والشام الناطقين بالآرامية
إذن،
(العرب) مثل كل المجموعات الاقوامية الكبيرة في العالم، هم مزيج من مختلف
الاعراق والجماعات المختلفة الاصول ولكنها لظروف مختلفة ذابت في كياني
ثقافي ـ لغوي مشترك غطائه اللغة العربية. ومع الزمن والتمازج العرقي
الثقافي تشكلت نوعاً من (الرابطة القومية) المبنية على الاساطير التي تدعي
بالاصل العرقي المشترك و(جد) خيالي اسمه (يعرب) يفترض بأن تسمية (عرب)
تعود له. ومن أجل تفسير هذا الانقسام التاريخي العرقي الواضح بين سكان
جنوب الجزيرة والقادمون من الشمال، قيل ان (يعرب) له ولدين، (قحطان) جد
الجنوبيين، و(عدنان) جد الشماليين!
ان القفزة الكبرى التي حصلت في هذه
الجماعة (العربية) الاقوامية الناشئة في الحجاز، مع ظهور الاسلام وانشاء
الامبراطورية العربية الاسلامية. إذ انظمت الى (العرب) شعوب بأكملها
(آرامية ومصرية وبربرية ونوبية، وغيرهم الكثيرون) بسبب عمليات الاسلمة
والتعريب التي دامت قرون لتشكل الشعوب العربية الحالية، التي تعتقد بأنها
منحدرة عرقياً وفعلياً من (عرب الحجاز)!
بالحقيقة إن العامل الأول الذي
سهل عملية تعريب شعوب العالم العربي الحالي، هو التقارب العقلي والبشري
بين القبائل العربية وسكان هذه البلدان. بالحقيقة ان عملية التعريب ما كان
يمكنها أن تنجح، لولا هذه العلاقات التاريخية العرقية والحضارية بين هذه
الشعوب (السامية ـ الحامية (35).
www.salim.mesopot.com
مصادر البحث
أدناه فقط المصادر الاساسية المذكورة في متن الكتاب، ولم نذكر العشرات غيرها التي تم استشارتها، ولكن لم يتسن لنا تسجيلها:
1- (جريدة السفير) 2007/10/26 أجرى اللقاء أحمد بزون / منشور أيضا في: http://www.alnahdah.org/doc07102610.htm
ـ كذلك كتابه: التوراة جاءت من جزيرة العرب / كمال الصليبي / بيروت 1985
2- من سومر الى التوراة / فاضل عبد الوحد علي / دار سيناء / القاهرة 1996
3- حضارة العرب / احمد سوسة / وزارة الاعلام / بغداد
4- تاريخ اللغات السامية أ ــ ولفنسون
5- التاريخ القديم للشعب الاسرائيلي / توماس طومسن .
6- آرام دمشق واسرائيل/ فراس السواح / دار علاء الدين / دمشق 1995
la Mesopotamie / Georges ROUX/P 136-138/ Paris 1985) -7)
8- تاريخ سورية ولبنان وفلسطين / فيليب حتي / دار الثقافة / بيروت 1985
9- بادية الشام / كريستينا فيلبس غرانة / ترجمة، تحقيق: خالد أحمد عيسى/ أحمد غسان سبانو/ دار رسلان / بيروت 2007
10- البدو والبادية صور من حياة البدو في بادية الشام / جبرائيل سليمان جبور/ دار العلم للملايين / بيروت 1988
11- أللآلئ السريانية / قاموس سرياني عربي / جوزيف اسمر/ مطبعة العلم / سورية 1991
12- دراسات في تاريخ الثقافة العربية / مجموعة مؤلفين سوفييت / دار التقدم / موسكو 1989
13- شبه الجزيرة العربية والعرب / غريازنيفيتش / موسكو 1977
14- موسوعة ويكيبيديا: قطر، البحرين، عمان، الخليج
15- تاريخ اليمن القديم / محمد بافقيه / المؤسسة العربية / بيروت1985
16- المفصل في تاريخ العرب / جواد علي الطاهر.
17-
هل بنى البابليون مكة والمدينة / د.هديب غزالة / مجلة ميزوبوتاميا / بغداد
/ عدد 7 / 2006 www.mesopotamia4374.com/adad7/fahrast7.htm)
18- محاولة في فهم الشخصية / محمد مبارك / بيروت.
19- حصاد الفكر في اللغة العربية / لجنة باحثين
20- نظريات في اللغة / انيسة فريحة / دار الكتب / بيروت1973
21- كتاب الأختصاص للشيخ المفيد.
22- تفسير الميزان / السيد الطباطبائي.
23- تاريخ العراق الاقتصادي/ عبد العزيز الدوري/ المؤسسة العربية / بيروت
24- كتابنا الذات الجريحة / الفصل الثاني / الطبعة 4 / بغداد 2007
25 - عن تدجين الحصان والجمل/ راجع:
26- تاريخ البشرية / ارنولد توينبي / الدار الاهلية / بيروت 1988
27- الغرب والعالم / كافين رايلي / عالم المعرفة / الكويت 1985
28- ارتقاؤ الانسان / ج. برونوفسكي / عالم المعرفة / الكويت
نستخدم تسميات: (العراق والشام / العراق وسورية / الهلال الخصيب / المشرق / الشمال)، مترادفات بمعنى واحد.
1. (اجرى اللقاء أحمد بزون / جريدة السفير (2007/10/26) منشور أيضاً في : http://www.alnahdah.org/doc07102610.htm
2.
(لقد فصل هذه الاشكالية الباحث العراقي فاضل عبد الواحد في كتابه: من سومر
الى التوراة / ص 43 ـ47)/ كذلك راجع حضارة العرب / احمد سوسة / الذي اطلق
تسمية (عرب) على الشعوب السامية.
3. تاريخ اللغات السامية أ ــ ولفنسون ص 4 ــ 5 .. كذلك راجع التاريخ القديم للشعب الاسرائيلي ــ توماس طومسن ــ ص121 ــ124 .
4 . (آرام دمشق واسرائيل / فراس السواح / ص16
(la Mesopotamie/Georges ROUX/P 136-138) 5.
6. (Georges ROUX/P48/57)
7 . (آرام ودمشق واسرائيل / فراس السواح / ص15).
8 . (Georges ROUX/P 82-85) / كذلك الهامش في صفحة (370: 2/71)
9. السواح ـ نفس المصدر ـ ص17.
10.
عن البادية العراقية ـ الشامية، راجع: تاريخ سورية / فيليب حتي ج 2 حتي
46/ كذلك ـ بادية الشام / كريستينا فيلبس غرانة / كذلك ـ البدو والبادية /
جبرائيل سليمان جبور.
11. تاريخ سورية / فيليب حتي ج2 ص70 ـ 71
12. ـ تاريخ سورية ولبنان وفلسطين / فيليب حتي / ج2 ص55 و71
13. (فراس السواح / ص79).
14 . عن تدجين الحصان والجمل، راجع :
ـ تاريخ البشرية / ارنولد توينبي / الجزء الاول ص204 / الجزء الثاني ص81 / الدار الاهلية / بيروت 1988
ـ الغرب والعالم / كافين رايلي / القسم الاول ص126 / عالم المعرفة / الكويت1985
ـ ارتقاء الانسان / ج. برونوفسكي / ص34 / عالم المعرفة / الكويت
15. أللآلئ السريانية / قاموس سرياني عربي / جوزيف اسمر/ مطبعة العلم / سورية 1991
16. (دراسات في تاريخ الثقافة العربية / مجموعة مؤلفين سوفييت / دار
التقدم ـ موسكو ـ 1989 ص 24/ كذلك: غريازنيفيتش / شبه الجزيرة العربية
والعرب / موسكو 1977 ص 42 52 -).
17. (راجع موسوعة ويكيبيديا: قطر، البحرين، عمان، الخليج)
18. تاريخ اليمن القديم / محمد بافقيه / ص 51 / المؤسسة العربية / بيروت1985
19 . (فراس السواح / ص83).
20 . حول تفاصيل تسمية (عرب) راجع : المفصل في تاريخ العرب / الفصل الاول.
21 . (تاريخ اللغات السامية / أ. ولفنسون / ص165 ).
22. (المفصل / الفصل الاول)
23 . (فيليب حتي / ج2 / ص382)
24. أللآلئ السريانية / قاموس سرياني عربي / جوزيف أسمر / مطبعة العلم / سورية 1991
25. (المفصل / الفصل الاول)
26
. حول اهمية التيماء راجع: (د.هديب غزالة / مجلة ميزوبوتاميا / بغداد /
عدد 7 / 2006 www.mesopotamia4374.com/adad7/fahrast7.htm). كذلك :326
(Georges ROUX/P / كذلك: تاريخ سورية / ج2 ص 189 ـ 239 ـ 300
27 . (محاولة في فهم الشخصية / محمد مبارك / ص 21 ــ 24).
28 . (حصاد الفكر في اللغة العربية / لجنة باحثين / ص 258 ــ286 )
29 . (تاريخ اللغات السامية / أ. ولفنسون / ص134ـ137)
30 . (من سومر الى التوراة / فاضل عبد الواحد علي / ص 188ـ193 )
31 . (نظريات في اللغة / أنيس فريحة / ص67)
32. (انيسة فريحة / نظريات في اللغة / دار الكتب / بيروت1937/ ص66 ـ67)
33. (الكثير من الباحثين يتفقون على هذا: تاريخ اللغات السامية / أ. ولفنسون / ص166 )
34. (راجع كتاب الأختصاص للشيخ المفيد / ص 264 . وتفسير الميزان - السيد الطباطبائي :7 /181 ).
35. حول تعريب سكان الشام، راجع )تاريخ سورية ــ فيليب حتي ــ ج2 ــ 21 ــ
23 / ثم ص 171(، حول تعريب سكان العراق / راجع (تاريخ العراق الاقتصادي) /
عبد العزيز الدوري / ص 31 ــ32 و 76ــ77 / كذلك كتابنا (الذات الجريحة /
الفصل الثاني).
القدس العربي
2009/07/30
عدل سابقا من قبل abdelhamid في الأربعاء 28 أكتوبر 2009 - 22:52 عدل 1 مرات
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
أقوام الجزيرة العربية وأصولها/ سامي مهدي
قرأت باهتمام مقال الأستاذ سليم مطر ( الرؤية القومية العروبية في دراسة
التاريخ ) المنشور على موقع ( أدب وفن ) في جريدة القدس العربي بتاريخ (
30/7/ 2009 ) . وأول ما لاحظته أن المقال حاول أن يتخذ لنفسه طابع الدراسة
التاريخية الموثقة في نقد تلك ( الرؤية ) ولكن سرعان ما ظهر لي أنه لا
ينطلق من موقف علمي حيادي في دراسة التاريخ ، بل من موقف آيديولوجي _
سياسي مسبق ، فبدا لي مقالاً سياسياً أكثر منه بحثاً في التاريخ . وها قد
مر على ذلك أكثر من شهرين من دون أن تتيسر لي ظروف مناقشته ، ولكن هذا لا
يمنع من مناقشته الآن ، نظراً لما تضمنه من أفكار مثيرة للجدل .
يقول
الأستاذ مطر في مقدمة مقاله ( إذا أردت أن تسيطر على شعب يكفيك أن تقنعه
بأن تاريخه تابع لك ، وإذا أردت تقسيمه يكفيك أن تقنعه أنه في تاريخه كان
مقسماً ، بل يمكنك أن تصنع وطناً من لا شيء إذا نجحت أن تصنع تاريخاً
خاصاً به ، وإسرائيل أوضح مثل على ذلك ! ثم أن التاريخ سلاح خطير لا
يمكننا أبداً أن نتعامل معه بحيادية وبرود ، فإن لم تسارع إلى الاستيلاء
عليه واستعماله لصالح وطنك ، فإن هنالك مختلف القوى الإقليمية والدولية
تعمل ليل نهار لكي تستولي على تاريخك من أجل كتابته بما يكفل مصالحها
ويبرر إضعاف بلادك والسيطرة على شعبك . لهذا فإن مسألة ( ما هو الموطن
الأصلي للساميين والعرب ) قد تبدو ثانوية من الناحية المعرفية ، إلا أنها
للأسف تعتبر من أخطر الإشكالات التاريخية التي تم استخدامها سياسياً في
العراق خصوصاً ، وكذلك بلاد الشام ( ... ) بل بلغت المازوشية إلى حد نفي
أوطاننا تاريخياً من أجل تقديس الأصل الجزيري ) .
يتضح من هذه المقدمة
الساخنة الساخطة أن الأستاذ مطر غير راض عن التاريخ المكتوب ، ويشعر بأن
هناك من استولى على تاريخ وطنه ، وهو يريد إعادة كتابة هذا التاريخ ،
وصناعة تاريخ خاص آخر ، وهذه مسألة لا تحتمل الحياد والبرود في رأيه ،
لأنه إن لم يفعل ذلك فسيسارع غيره للاستيلاء على هذا التاريخ ، هذا إن لم
يكونوا قد استولوا عليه فعلاً . ثمة إذن تاريخ مسروق ، سرقه العروبيون في
رأي الأستاذ مطر ، ومقاله يهدف إلى استرداد هذا التاريخ ، وهذا هدف
آيديولوجي سياسي يتعارض ومتطلبات أي منهج علمي في كتابة التاريخ . إذ ما
يلبث الأستاذ مطر أن يقرر أن ( الهلال الخصيب ) هو موطن الحضارة التي نشأت
منذ آلاف السنين إلى جانب الحضارة المصرية ، وأن سكان هذا ( الهلال )
الذين يسميهم ( ساميين ) هم صناع هذه الحضارة ، وأن من العبث البحث عن
أصولهم خارجه ، ومن التعصب ، وربما التآمر ، أن ننسب هذه الأصول إلى (
الجزيرة العربية ) . وبهذا نكتشف أن الأستاذ مطر يريد أن يقوّض ( حقيقة
تاريخية ) يظنها من تلفيق ( العروبيين ) ليقيم على أنقاضها ( نظرية )
جديدة تضع ( الهلال الخصيب ) في موضع ( الجزيرة العربية ) وبذلك يصنع
لأفكاره الآيديولوجية أرضية تاريخية تلبي طموحها النظري والسياسي . وليس
من شأني هنا مناقشة هذه الآراء فهو حر فيها ، بل يهمني فقط تفحص المفاصل
الأساسية في النظرية التي جاء بها والتعرف على مدى سلامتها . وهذا ما
أحاول القيام به بهذه التعليقات .
الهلال الخصيب :
ما دام الأستاذ
مطر قد سيّس الموضوع فلابد لي من القول : إن الرجل لم ينتبه ، في ما أظن ،
إلى أن نظريته هذه تخدم آيديولوجيا محددة هي آيديولوجيا الحزب القومي
الاجتماعي ، المعروف بالحزب القومي السوري ، أما إذا كان منتبهاً إلى ذلك
فهذه مسألة أخرى تعنيه . ولكن كيف ؟
إن أول من استخدم تسمية ( الهلال
الخصيب ) هو المؤرخ البريطاني هنري بريستد في كتابه ( العصور القديمة ) ،
ثم تلقفه المفكر السوري الراحل أنطون سعادة وأدخله في أدبيات حزبه : الحزب
القومي الاجتماعي ( السوري ) . والمعروف عن سعادة أنه كان يؤمن بأن هناك (
قومية سورية ) وبأن ( سوريا الكبرى ) كما يسميها القوميون الاجتماعيون
ويكتبونها في أدبياتهم ، أو ( سوريا الطبيعية ) التي تضم كلاً من سورية
ولبنان وفلسطين والأردن هي وطن ( الأمة السورية ) . ولكن يبدو أن سعادة
رأى ، في ما بعد ، أن ( سوريا الكبرى ) تبقى ناقصة ما لم يضف إليها ملحقات
أخرى ، فأجرى تعديلاً على هذه الخارطة الحزبية عام 1947 وضم إليها كلاً من
العراق والكويت وجزيرة قبرص ، لأسباب حضارية واقتصادية وستراتيجية ، وأطلق
على خارطته الجديدة اسم ( الهلال الخصيب ) . وهنا أتساءل : هل هذا هو (
هلال ) الأستاذ مطر أيضاً كما يبدو من مقاله ؟ إذا صح أنه هلاله فهذا يعني
أن للمقال مرجعية آيديولوجية محددة ، وإذا لم يصح فهذا يعني أن الأستاذ
مطر انهمك ، دون أن يقصد ، في كتابة تاريخ جديد يتفق مع هذه المرجعية
ويخدم أهدافها السياسية البعيدة ، وهو حر في ذلك أيضاً ، ولكن ليس على
حساب الحقائق التاريخية .
ما قبل التاريخ :
يمر الأستاذ مطر في
مقاله مروراً سريعاً وعابراً على التطور الحضاري في المنطقة في عصور ما
قبل التاريخ ، فيقول بإيجاز ( إن الهلال الخصيب ظل مأهولاً بالبشر منذ
عشرات الآلاف من الأعوام ، وفيه نشأت أولى المستوطنات الزراعية منذ الألف
التاسع ق. م. وظهرت معالم الحضارة في الألف السادس ق. م. في حسونة وسامراء
وحلف والعبيد وأوروك وجمدة نصر ) . ولكن عبارة ( إن الهلال الخصيب ظل
مأهولاً بالبشر منذ عشرات الآلاف من الأعوام ) عبارة عامة مضللة . فحتى
أواخر الألف العاشر قبل الميلاد لم يكن في هذه المنطقة سوى أعداد قليلة
جداً ، ومتناثرة ، من بقايا إنسان الكهوف الذي عاش على الصيد وجمع القوت .
وابتداء من هذا التاريخ بدأت القرى الزراعية بالظهور . ولكنها كانت قليلة
جداً ، ومتباعدة ، هي الأخرى ، وسكانها قليلون جداً لا يتجاوزون عدة أسر
صغيرة في أفضل الأحوال . وليس لدينا في كل ما يسمى ( الهلال الخصيب ) حتى
الآن مثال لقرية زراعية متطورة نسبياً سوى القرية التي عثر عليها في موقع
( جرمو ) في العراق والتي يعود تاريخها إلى الألف السابع قبل الميلاد .
ومع أن القرية التي عثر عليها في أريحا في فلسطين توازيها في القدم ،
ولكنها كانت أقصر عمراً وأقل تطوراً . ومع ذلك قدر سكان قرية موقع ( جرمو
) في آخر مراحل تطورها بنحو (150 ) فرداً ، وقدر عدد بيوتها بنحو ( 25 30
) بيتاً . ولذلك فإن القول ( إن الهلال الخصيب كان مأهولاً بالبشر منذ
عشرات الآلاف من الأعوام ) يوهم بوجود كثافة بشرية مهمة فيه خلافاً
للحقيقة .
ولكن من المهم أن نذكر أن هذا كله قد حدث قبل ظهور من سماهم
الأستاذ مطر بالساميين على مسرح الأحداث بآلاف الأعوام . فالذين أسسوا
القرى الزراعية في مواقع زاوي جمي ، وكريم شهر ، وملفعات ، وكردي جاي ،
وجرمو ، والذين أقاموا المراكز الأولى للحضارة في مواقع حسونة ، وسامراء ،
وحلف ، فالعبيد ، فالوركاء ، فجمدة نصر ، ليسوا ( ساميين ) ومصادرتهم بهذه
التسمية الأسطورية الغامضة تجاوز على التاريخ . فليس ثمة دليل واحد يدل
على أنهم كانوا ( ساميين ) لا بالمعنى العرقي ، ولا بالمعنى الحضاري .
إنهم مستوطنون محليون ، عراقيون إن شئت ، يدل على ذلك التطور التدريجي ،
والمترابط ، الذي حدث في هذا القطر منذ أقدم القرى الزراعية المكتشفة فيه
( زاوي جمي / حوالي 9500 ق. م. ) حتى الدورين الحضاريين المعروفين بدور
أوروك ( 3500 ق. م. ) ودور جمدة نصر ( 3000 ق. م. ) . وتؤكد هذا التدرج في
التطور الحضاري حفريات تل شمشارة ( قرب رانية ) وتل الصوان ( قرب سامراء )
.
ومادام الأستاذ مطر يعترف بأن ( الموجة السامية الأولى ، وهي
الأكدية الكنعانية ) ظهرت على مسرح الأحداث في نحو ( 2350 ق. م. ) فعليه
أن يعترف أيضاً بأن مراحل التطور الحضاري التي تحدثنا عنها لم يكن لمن
يعدهم ( ساميين ) شأن فيها ، برغم أن الأكديين ( الساميين ) نزحوا إلى
العراق في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد . ومعنى هذا أن الأستاذ مطر
يتعسف حين يقول ( إن الساميين أسسوا أولى الحضارات في تاريخ البشرية بجانب
الحضارة المصرية ) . فالحضارة التي يعنيها كانت قواعدها الأولى قد وضعت
وأقيم بنيانها وحققت منجزاتها الأولى ( وأهمها اختراع الكتابة ) دون أن
يكون للساميين دور واضح وملموس فيها . وليس صحيحاً أن يقول الأستاذ مطر
لتسويغ قوله السابق : إن السومريين والساميين كانوا من ( نفس العنصر ) ،
فلم يقل مثل هذا أحد من الباحثين ، بمن فيهم الباحث جورج رو الذي استشهد
به ، بل قالوا العكس ، فالسومريون ( العراقيون ) هم السومريون ، والأكديون
( الساميون ) هم الأكديون ، ولكل من السومريين والأكديين لغته وثقافته
ومعبوداته ومواطن سكناه في العراق ، وإن اندمجوا معاً بعد الألف الثاني
للميلاد تحت اسم البابليين . وهذا لا يحط من قيمة الدور الحضاري الذي لعبه
الأكديون ، ومن بعدهم العموريون ، والكلديون ، في تاريخ العراق ، فهو دور
عظيم ، بل يعطي لكل ذي حق حقه في حدود مساهمته الفعلية في بناء الحضارة .
ولسبب غير مفهوم حرص الأستاذ مطر على أن يضيف اسم الشام إلى اسم العراق
ليجعلها شريكاً له في تأسيس هذه الحضارة ( التي يعدها سامية ) والنهوض بها
، وهذه مصادرة أخرى لا تؤيدها الوقائع التاريخية . فمع أن مؤثرات أدوار
حسونة وسامراء وحلف امتدت إلى الشام والأناضول ، غير أنها لم تفضِ في
الشام ، ولا في الأناضول ، إلى نشوء حضارة أصيلة كالتي نشأت في العراق .
والمثل الذي يستشهد به الأستاذ مطر لتسويغ إضافة اسم الشام إلى اسم العراق
في هذا المجال هو : إيبلا ، في حين أن إيبلا ، على قدمها وأهميتها
التاريخية ، لم يكن لها أي دور حضاري أصيل في التاريخ . وأقصد بالأصالة
هنا : الإبداع . فإيبلا كانت ( تتلقى ) منجزات حضارة بلاد سومر وأكد
وتستفيد منها ( كالخط المسماري وغيره ) ولا تبدع شيئاً تضيفه إليها . وليس
في وسعنا ، في أية حال ، أن نتحدث عن حضارة إيبلاوية كما نتحدث عن الحضارة
السومرية أو الحضارة الفرعونية أو أية حضارة أصيلة خلاقة . وقل مثل ذلك عن
مدينة : ماري ، على الفرات . فهي ، إذا غضضنا النظر عن حدود سايكس بيكو ،
مدينة عراقية بالمعنى الحضاري الكامل .
الساميون :
لا أتفق مع
الأستاذ مطر على استخدام تسمية ( الساميين ) وإطلاقها على أقوام مثل :
الأكديين والعموريين والكلديين والكنعانيين والفنيقيين والآراميين والعرب
وغيرهم . فهذه التسمية ليست علمية ، وقد جاء بها المستشرق النمساوي
اليهودي شلوتزر عام ( 1781 ) وبناها على أسطورة توراتية تقسم الأمم
والشعوب وتنسبها إلى أبناء نوح ومنهم ( سام ) جد ( الساميين ) المزعوم .
وقد سعى إلى إشاعة هذه التسمية المستشرق الألماني إيشهورن وأطلقها مصطلحاً
على أقوام المشرق العربي . وتمسك بها الآثاريون والمؤرخون الغربيون لأغراض
غير علمية ، وربما غير نزيهة ، أقلها إضفاء مصداقية على مقولات التوراة (
التاريخية ) .
غير أنني أتفق مع الأستاذ مطر على أن هناك عدة نظريات
( ربما ست أو يزيد ) حول الوطن الأصلي الذي جاءت منه تلك الأقوام ، وأن
واحدة منها فقط تجعل الجزيرة العربية وطناً أصلياً لها ، ولكنني وجدت أن
هذه النظرية هي المعول عليها بين جمهور الباحثين حتى اليوم ، بخلاف ما
يقوله الأستاذ فراس السواح الذي استشهد به . أما النظريات الأخرى فقد عفا
عليها الزمن لضعفها وتهافتها . وبين يدي الآن قائمة بأسماء أكثر من عشرين
عالماً من علماء القرنين التاسع عشر والعشرين ، وهم من جنسيات مختلفة ،
يقولون بهذه النظرية من دون أن يكون أي منهم من العروبيين الذين يصب
الأستاذ مطر نقمته عليهم . ولكن بعض هؤلاء ( مثل : فيلبي ومونتغمري ) يرى
أن هذا الوطن هو : اليمن ، وبعضهم ( مثل : ورل وآرثر كيث ) يرى أنه : هضبة
نجد ، وغيرهم يرى أنه : الجزيرة العربية عامة . ولم يجتمع كل هؤلاء
العلماء على اعتبار الجزيرة العربية هي أمّ تلك الأقوام اعتباطاً وغفلة .
أما الأستاذ مطر فيرى أن الوطن الأصلي لمن يسميهم الساميين هو الهلال
الخصيب وأطراف الجزيرة العربية الشمالية ، وقد أخذ هذا الرأي عن باحث واحد
هو : جورج رو نفسه ، وهذا أخذه عن موسل في ما أظن . ولكن رو لم يقل هذا عن
جميع الساميين كالأستاذ مطر ، بل قصره على الأكديين والكنعانيين
والفنيقيين والعموريين ، واستثنى من ذلك الأقوام اللاحقة ( أي الآراميين ،
وعرب ما قبل الإسلام ، والعرب المسلمين ) . وحجته ( وهي الحجة التي تبناها
الأستاذ مطر وجعلها ركيزة أساسية من ركائز مقاله ) أن الجمل لم يدجن
ويستخدم في التنقل في المشرق العربي إلا في أواخر الألف الثاني قبل
الميلاد ، وأن الاعتماد على الحمير في التنقل ، قبل هذا التاريخ ، لم يكن
يسمح لمثل هذه الأقوام بالهجرة إلى مناطق بعيدة . وقد تبدو هذه الحجة
منطقية في ظاهرها ، ولكن فات رو ، وفات الأستاذ مطر من بعده ، أن الهجرات
البشرية الأولى لم تكن كثيفة ، وكانت تتم بمتاع خفيف قليل ، وعلى مراحل
تستغرق مدداً زمنية طويلة ، وإلا فكيف يمكننا أن نستوعب اليوم وصول جماعات
بشرية إفريقية إلى الهلال الخصيب قبل تلك الحقبة مثلاً ؟!
ومع ذلك ثمة
نظرية أخرى حول تاريخ تدجين الجمل واستخدامه في المنطقة تبدو أقوى من هذه
النظرية التي تقوم على الافتراضات والتخمينات وإن قال بها علماء مثل
توينبي وأولبرايت ، وأخيراً جورج رو والأستاذ مطر . والنظرية التي أعنيها
يذكرها الدكتور أحمد سوسة ، وهي تقول : إن الجمل قد دجّن واستخدم في
المنطقة منذ أقدم العصور ، ودليلها على ذلك ما اكتشف فيها من صور له في
نقوش يعود تاريخها إلى ما قبل الألف الثاني قبل الميلاد بكثير ، ومنها :
صورة نقشت على صخرة في جبل ( طويق ) عند الحدود الجنوبية الشرقية للمملكة
الأردنية في الموقع المسمى قلوة أو كلوة Kilwah يعود تاريخها إلى العصر
الحجري الميسوليثي ، ويظهر فيها جمل ذو سنام واحد كالجمال التي شاع
استخدامها في الجزيرة العربية وبادية الشام . ومنها أيضاً صورة أخرى لهجين
وراكبه يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد ، وظهور الراكب في هذه
الصورة يدل على أن الجمل قد دجّن واستخدم قبل تلك الحقبة بكثير . وظهرت
صور للجمل في نقوش مصرية تعود إلى التاريخ نفسه ، أي إلى الألف الثالث قبل
الميلاد . ويؤكد سوسة أن بعض العلماء أثبت وجود الجمال ذوات السنام وذوات
السنامين في العهد الأكدي ، أي في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد ، وكان
الأكديون يسمون هذا الحيوان باسم ( جملو ) أو ( إبلو ) وهما الاسمان
المعروفان للجمل في اللغة العربية ، وفي اللغات الجزرية ( السامية )
الأخرى . ويبدو أن الجمل كان معروفاً منذ العصر السومري ، حسب سوسة نفسه ،
وكان السومريون يسمونه ( حمار أرض البحر ) والمقصود بأرض البحر هنا سواحل
الخليج العربي . وقد عثر في مدينة الوركاء العراقية المعروفة بـ ( أوروك )
وفي دور كوريكا لزو ، عاصمة الكاشيين ، قرب بغداد ، على ألواح طينية نقشت
عليها صورة هذا الحيوان . هذا وذكرت التوراة في سفر التكوين مرتين أن
إبراهيم ( القرن التاسع عشر قبل الميلاد ) كان له قطيع من الجمال أيام
وجوده في حران . ومثل ذلك ذكرت عن يعقوب . ويفهم من سفر القضاة أن
المدينيين والعمالقة كانوا ( في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ) يغيرون
بجمالهم على مستوطنات اليهود الزاحفين على فلسطين من سيناء .
فإذا صحت
المعلومات التي جاء بها أصحاب هذه النظرية ، ولا نراها إلاّ صحيحة ، فهي
تنسف النظرية الأخرى حول هجرة الجماعات البشرية ، وتنسف أيضاً الكثير من
افتراضات جورج رو والأستاذ مطر وما بنياه عليها من استنتاجات . وعلى أية
حال ، إن هجرة هذه الجماعات البشرية إلى مواطن بعيدة جداً عن ديارها
الأولى كانت تحدث منذ أزمان سحيقة في القدم ، بغض النظر عن نوع وسائل
الانتقال ، بما فيها الأقدام ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، وعلى هذا الأساس
يمكن الحديث عن هجرة الأكديين والكنعانيين والفنيقيين والعموريين من
الجزيرة العربية بغض النظر عن تاريخ تدجين الجمل .
التاريخ ) المنشور على موقع ( أدب وفن ) في جريدة القدس العربي بتاريخ (
30/7/ 2009 ) . وأول ما لاحظته أن المقال حاول أن يتخذ لنفسه طابع الدراسة
التاريخية الموثقة في نقد تلك ( الرؤية ) ولكن سرعان ما ظهر لي أنه لا
ينطلق من موقف علمي حيادي في دراسة التاريخ ، بل من موقف آيديولوجي _
سياسي مسبق ، فبدا لي مقالاً سياسياً أكثر منه بحثاً في التاريخ . وها قد
مر على ذلك أكثر من شهرين من دون أن تتيسر لي ظروف مناقشته ، ولكن هذا لا
يمنع من مناقشته الآن ، نظراً لما تضمنه من أفكار مثيرة للجدل .
يقول
الأستاذ مطر في مقدمة مقاله ( إذا أردت أن تسيطر على شعب يكفيك أن تقنعه
بأن تاريخه تابع لك ، وإذا أردت تقسيمه يكفيك أن تقنعه أنه في تاريخه كان
مقسماً ، بل يمكنك أن تصنع وطناً من لا شيء إذا نجحت أن تصنع تاريخاً
خاصاً به ، وإسرائيل أوضح مثل على ذلك ! ثم أن التاريخ سلاح خطير لا
يمكننا أبداً أن نتعامل معه بحيادية وبرود ، فإن لم تسارع إلى الاستيلاء
عليه واستعماله لصالح وطنك ، فإن هنالك مختلف القوى الإقليمية والدولية
تعمل ليل نهار لكي تستولي على تاريخك من أجل كتابته بما يكفل مصالحها
ويبرر إضعاف بلادك والسيطرة على شعبك . لهذا فإن مسألة ( ما هو الموطن
الأصلي للساميين والعرب ) قد تبدو ثانوية من الناحية المعرفية ، إلا أنها
للأسف تعتبر من أخطر الإشكالات التاريخية التي تم استخدامها سياسياً في
العراق خصوصاً ، وكذلك بلاد الشام ( ... ) بل بلغت المازوشية إلى حد نفي
أوطاننا تاريخياً من أجل تقديس الأصل الجزيري ) .
يتضح من هذه المقدمة
الساخنة الساخطة أن الأستاذ مطر غير راض عن التاريخ المكتوب ، ويشعر بأن
هناك من استولى على تاريخ وطنه ، وهو يريد إعادة كتابة هذا التاريخ ،
وصناعة تاريخ خاص آخر ، وهذه مسألة لا تحتمل الحياد والبرود في رأيه ،
لأنه إن لم يفعل ذلك فسيسارع غيره للاستيلاء على هذا التاريخ ، هذا إن لم
يكونوا قد استولوا عليه فعلاً . ثمة إذن تاريخ مسروق ، سرقه العروبيون في
رأي الأستاذ مطر ، ومقاله يهدف إلى استرداد هذا التاريخ ، وهذا هدف
آيديولوجي سياسي يتعارض ومتطلبات أي منهج علمي في كتابة التاريخ . إذ ما
يلبث الأستاذ مطر أن يقرر أن ( الهلال الخصيب ) هو موطن الحضارة التي نشأت
منذ آلاف السنين إلى جانب الحضارة المصرية ، وأن سكان هذا ( الهلال )
الذين يسميهم ( ساميين ) هم صناع هذه الحضارة ، وأن من العبث البحث عن
أصولهم خارجه ، ومن التعصب ، وربما التآمر ، أن ننسب هذه الأصول إلى (
الجزيرة العربية ) . وبهذا نكتشف أن الأستاذ مطر يريد أن يقوّض ( حقيقة
تاريخية ) يظنها من تلفيق ( العروبيين ) ليقيم على أنقاضها ( نظرية )
جديدة تضع ( الهلال الخصيب ) في موضع ( الجزيرة العربية ) وبذلك يصنع
لأفكاره الآيديولوجية أرضية تاريخية تلبي طموحها النظري والسياسي . وليس
من شأني هنا مناقشة هذه الآراء فهو حر فيها ، بل يهمني فقط تفحص المفاصل
الأساسية في النظرية التي جاء بها والتعرف على مدى سلامتها . وهذا ما
أحاول القيام به بهذه التعليقات .
الهلال الخصيب :
ما دام الأستاذ
مطر قد سيّس الموضوع فلابد لي من القول : إن الرجل لم ينتبه ، في ما أظن ،
إلى أن نظريته هذه تخدم آيديولوجيا محددة هي آيديولوجيا الحزب القومي
الاجتماعي ، المعروف بالحزب القومي السوري ، أما إذا كان منتبهاً إلى ذلك
فهذه مسألة أخرى تعنيه . ولكن كيف ؟
إن أول من استخدم تسمية ( الهلال
الخصيب ) هو المؤرخ البريطاني هنري بريستد في كتابه ( العصور القديمة ) ،
ثم تلقفه المفكر السوري الراحل أنطون سعادة وأدخله في أدبيات حزبه : الحزب
القومي الاجتماعي ( السوري ) . والمعروف عن سعادة أنه كان يؤمن بأن هناك (
قومية سورية ) وبأن ( سوريا الكبرى ) كما يسميها القوميون الاجتماعيون
ويكتبونها في أدبياتهم ، أو ( سوريا الطبيعية ) التي تضم كلاً من سورية
ولبنان وفلسطين والأردن هي وطن ( الأمة السورية ) . ولكن يبدو أن سعادة
رأى ، في ما بعد ، أن ( سوريا الكبرى ) تبقى ناقصة ما لم يضف إليها ملحقات
أخرى ، فأجرى تعديلاً على هذه الخارطة الحزبية عام 1947 وضم إليها كلاً من
العراق والكويت وجزيرة قبرص ، لأسباب حضارية واقتصادية وستراتيجية ، وأطلق
على خارطته الجديدة اسم ( الهلال الخصيب ) . وهنا أتساءل : هل هذا هو (
هلال ) الأستاذ مطر أيضاً كما يبدو من مقاله ؟ إذا صح أنه هلاله فهذا يعني
أن للمقال مرجعية آيديولوجية محددة ، وإذا لم يصح فهذا يعني أن الأستاذ
مطر انهمك ، دون أن يقصد ، في كتابة تاريخ جديد يتفق مع هذه المرجعية
ويخدم أهدافها السياسية البعيدة ، وهو حر في ذلك أيضاً ، ولكن ليس على
حساب الحقائق التاريخية .
ما قبل التاريخ :
يمر الأستاذ مطر في
مقاله مروراً سريعاً وعابراً على التطور الحضاري في المنطقة في عصور ما
قبل التاريخ ، فيقول بإيجاز ( إن الهلال الخصيب ظل مأهولاً بالبشر منذ
عشرات الآلاف من الأعوام ، وفيه نشأت أولى المستوطنات الزراعية منذ الألف
التاسع ق. م. وظهرت معالم الحضارة في الألف السادس ق. م. في حسونة وسامراء
وحلف والعبيد وأوروك وجمدة نصر ) . ولكن عبارة ( إن الهلال الخصيب ظل
مأهولاً بالبشر منذ عشرات الآلاف من الأعوام ) عبارة عامة مضللة . فحتى
أواخر الألف العاشر قبل الميلاد لم يكن في هذه المنطقة سوى أعداد قليلة
جداً ، ومتناثرة ، من بقايا إنسان الكهوف الذي عاش على الصيد وجمع القوت .
وابتداء من هذا التاريخ بدأت القرى الزراعية بالظهور . ولكنها كانت قليلة
جداً ، ومتباعدة ، هي الأخرى ، وسكانها قليلون جداً لا يتجاوزون عدة أسر
صغيرة في أفضل الأحوال . وليس لدينا في كل ما يسمى ( الهلال الخصيب ) حتى
الآن مثال لقرية زراعية متطورة نسبياً سوى القرية التي عثر عليها في موقع
( جرمو ) في العراق والتي يعود تاريخها إلى الألف السابع قبل الميلاد .
ومع أن القرية التي عثر عليها في أريحا في فلسطين توازيها في القدم ،
ولكنها كانت أقصر عمراً وأقل تطوراً . ومع ذلك قدر سكان قرية موقع ( جرمو
) في آخر مراحل تطورها بنحو (150 ) فرداً ، وقدر عدد بيوتها بنحو ( 25 30
) بيتاً . ولذلك فإن القول ( إن الهلال الخصيب كان مأهولاً بالبشر منذ
عشرات الآلاف من الأعوام ) يوهم بوجود كثافة بشرية مهمة فيه خلافاً
للحقيقة .
ولكن من المهم أن نذكر أن هذا كله قد حدث قبل ظهور من سماهم
الأستاذ مطر بالساميين على مسرح الأحداث بآلاف الأعوام . فالذين أسسوا
القرى الزراعية في مواقع زاوي جمي ، وكريم شهر ، وملفعات ، وكردي جاي ،
وجرمو ، والذين أقاموا المراكز الأولى للحضارة في مواقع حسونة ، وسامراء ،
وحلف ، فالعبيد ، فالوركاء ، فجمدة نصر ، ليسوا ( ساميين ) ومصادرتهم بهذه
التسمية الأسطورية الغامضة تجاوز على التاريخ . فليس ثمة دليل واحد يدل
على أنهم كانوا ( ساميين ) لا بالمعنى العرقي ، ولا بالمعنى الحضاري .
إنهم مستوطنون محليون ، عراقيون إن شئت ، يدل على ذلك التطور التدريجي ،
والمترابط ، الذي حدث في هذا القطر منذ أقدم القرى الزراعية المكتشفة فيه
( زاوي جمي / حوالي 9500 ق. م. ) حتى الدورين الحضاريين المعروفين بدور
أوروك ( 3500 ق. م. ) ودور جمدة نصر ( 3000 ق. م. ) . وتؤكد هذا التدرج في
التطور الحضاري حفريات تل شمشارة ( قرب رانية ) وتل الصوان ( قرب سامراء )
.
ومادام الأستاذ مطر يعترف بأن ( الموجة السامية الأولى ، وهي
الأكدية الكنعانية ) ظهرت على مسرح الأحداث في نحو ( 2350 ق. م. ) فعليه
أن يعترف أيضاً بأن مراحل التطور الحضاري التي تحدثنا عنها لم يكن لمن
يعدهم ( ساميين ) شأن فيها ، برغم أن الأكديين ( الساميين ) نزحوا إلى
العراق في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد . ومعنى هذا أن الأستاذ مطر
يتعسف حين يقول ( إن الساميين أسسوا أولى الحضارات في تاريخ البشرية بجانب
الحضارة المصرية ) . فالحضارة التي يعنيها كانت قواعدها الأولى قد وضعت
وأقيم بنيانها وحققت منجزاتها الأولى ( وأهمها اختراع الكتابة ) دون أن
يكون للساميين دور واضح وملموس فيها . وليس صحيحاً أن يقول الأستاذ مطر
لتسويغ قوله السابق : إن السومريين والساميين كانوا من ( نفس العنصر ) ،
فلم يقل مثل هذا أحد من الباحثين ، بمن فيهم الباحث جورج رو الذي استشهد
به ، بل قالوا العكس ، فالسومريون ( العراقيون ) هم السومريون ، والأكديون
( الساميون ) هم الأكديون ، ولكل من السومريين والأكديين لغته وثقافته
ومعبوداته ومواطن سكناه في العراق ، وإن اندمجوا معاً بعد الألف الثاني
للميلاد تحت اسم البابليين . وهذا لا يحط من قيمة الدور الحضاري الذي لعبه
الأكديون ، ومن بعدهم العموريون ، والكلديون ، في تاريخ العراق ، فهو دور
عظيم ، بل يعطي لكل ذي حق حقه في حدود مساهمته الفعلية في بناء الحضارة .
ولسبب غير مفهوم حرص الأستاذ مطر على أن يضيف اسم الشام إلى اسم العراق
ليجعلها شريكاً له في تأسيس هذه الحضارة ( التي يعدها سامية ) والنهوض بها
، وهذه مصادرة أخرى لا تؤيدها الوقائع التاريخية . فمع أن مؤثرات أدوار
حسونة وسامراء وحلف امتدت إلى الشام والأناضول ، غير أنها لم تفضِ في
الشام ، ولا في الأناضول ، إلى نشوء حضارة أصيلة كالتي نشأت في العراق .
والمثل الذي يستشهد به الأستاذ مطر لتسويغ إضافة اسم الشام إلى اسم العراق
في هذا المجال هو : إيبلا ، في حين أن إيبلا ، على قدمها وأهميتها
التاريخية ، لم يكن لها أي دور حضاري أصيل في التاريخ . وأقصد بالأصالة
هنا : الإبداع . فإيبلا كانت ( تتلقى ) منجزات حضارة بلاد سومر وأكد
وتستفيد منها ( كالخط المسماري وغيره ) ولا تبدع شيئاً تضيفه إليها . وليس
في وسعنا ، في أية حال ، أن نتحدث عن حضارة إيبلاوية كما نتحدث عن الحضارة
السومرية أو الحضارة الفرعونية أو أية حضارة أصيلة خلاقة . وقل مثل ذلك عن
مدينة : ماري ، على الفرات . فهي ، إذا غضضنا النظر عن حدود سايكس بيكو ،
مدينة عراقية بالمعنى الحضاري الكامل .
الساميون :
لا أتفق مع
الأستاذ مطر على استخدام تسمية ( الساميين ) وإطلاقها على أقوام مثل :
الأكديين والعموريين والكلديين والكنعانيين والفنيقيين والآراميين والعرب
وغيرهم . فهذه التسمية ليست علمية ، وقد جاء بها المستشرق النمساوي
اليهودي شلوتزر عام ( 1781 ) وبناها على أسطورة توراتية تقسم الأمم
والشعوب وتنسبها إلى أبناء نوح ومنهم ( سام ) جد ( الساميين ) المزعوم .
وقد سعى إلى إشاعة هذه التسمية المستشرق الألماني إيشهورن وأطلقها مصطلحاً
على أقوام المشرق العربي . وتمسك بها الآثاريون والمؤرخون الغربيون لأغراض
غير علمية ، وربما غير نزيهة ، أقلها إضفاء مصداقية على مقولات التوراة (
التاريخية ) .
غير أنني أتفق مع الأستاذ مطر على أن هناك عدة نظريات
( ربما ست أو يزيد ) حول الوطن الأصلي الذي جاءت منه تلك الأقوام ، وأن
واحدة منها فقط تجعل الجزيرة العربية وطناً أصلياً لها ، ولكنني وجدت أن
هذه النظرية هي المعول عليها بين جمهور الباحثين حتى اليوم ، بخلاف ما
يقوله الأستاذ فراس السواح الذي استشهد به . أما النظريات الأخرى فقد عفا
عليها الزمن لضعفها وتهافتها . وبين يدي الآن قائمة بأسماء أكثر من عشرين
عالماً من علماء القرنين التاسع عشر والعشرين ، وهم من جنسيات مختلفة ،
يقولون بهذه النظرية من دون أن يكون أي منهم من العروبيين الذين يصب
الأستاذ مطر نقمته عليهم . ولكن بعض هؤلاء ( مثل : فيلبي ومونتغمري ) يرى
أن هذا الوطن هو : اليمن ، وبعضهم ( مثل : ورل وآرثر كيث ) يرى أنه : هضبة
نجد ، وغيرهم يرى أنه : الجزيرة العربية عامة . ولم يجتمع كل هؤلاء
العلماء على اعتبار الجزيرة العربية هي أمّ تلك الأقوام اعتباطاً وغفلة .
أما الأستاذ مطر فيرى أن الوطن الأصلي لمن يسميهم الساميين هو الهلال
الخصيب وأطراف الجزيرة العربية الشمالية ، وقد أخذ هذا الرأي عن باحث واحد
هو : جورج رو نفسه ، وهذا أخذه عن موسل في ما أظن . ولكن رو لم يقل هذا عن
جميع الساميين كالأستاذ مطر ، بل قصره على الأكديين والكنعانيين
والفنيقيين والعموريين ، واستثنى من ذلك الأقوام اللاحقة ( أي الآراميين ،
وعرب ما قبل الإسلام ، والعرب المسلمين ) . وحجته ( وهي الحجة التي تبناها
الأستاذ مطر وجعلها ركيزة أساسية من ركائز مقاله ) أن الجمل لم يدجن
ويستخدم في التنقل في المشرق العربي إلا في أواخر الألف الثاني قبل
الميلاد ، وأن الاعتماد على الحمير في التنقل ، قبل هذا التاريخ ، لم يكن
يسمح لمثل هذه الأقوام بالهجرة إلى مناطق بعيدة . وقد تبدو هذه الحجة
منطقية في ظاهرها ، ولكن فات رو ، وفات الأستاذ مطر من بعده ، أن الهجرات
البشرية الأولى لم تكن كثيفة ، وكانت تتم بمتاع خفيف قليل ، وعلى مراحل
تستغرق مدداً زمنية طويلة ، وإلا فكيف يمكننا أن نستوعب اليوم وصول جماعات
بشرية إفريقية إلى الهلال الخصيب قبل تلك الحقبة مثلاً ؟!
ومع ذلك ثمة
نظرية أخرى حول تاريخ تدجين الجمل واستخدامه في المنطقة تبدو أقوى من هذه
النظرية التي تقوم على الافتراضات والتخمينات وإن قال بها علماء مثل
توينبي وأولبرايت ، وأخيراً جورج رو والأستاذ مطر . والنظرية التي أعنيها
يذكرها الدكتور أحمد سوسة ، وهي تقول : إن الجمل قد دجّن واستخدم في
المنطقة منذ أقدم العصور ، ودليلها على ذلك ما اكتشف فيها من صور له في
نقوش يعود تاريخها إلى ما قبل الألف الثاني قبل الميلاد بكثير ، ومنها :
صورة نقشت على صخرة في جبل ( طويق ) عند الحدود الجنوبية الشرقية للمملكة
الأردنية في الموقع المسمى قلوة أو كلوة Kilwah يعود تاريخها إلى العصر
الحجري الميسوليثي ، ويظهر فيها جمل ذو سنام واحد كالجمال التي شاع
استخدامها في الجزيرة العربية وبادية الشام . ومنها أيضاً صورة أخرى لهجين
وراكبه يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد ، وظهور الراكب في هذه
الصورة يدل على أن الجمل قد دجّن واستخدم قبل تلك الحقبة بكثير . وظهرت
صور للجمل في نقوش مصرية تعود إلى التاريخ نفسه ، أي إلى الألف الثالث قبل
الميلاد . ويؤكد سوسة أن بعض العلماء أثبت وجود الجمال ذوات السنام وذوات
السنامين في العهد الأكدي ، أي في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد ، وكان
الأكديون يسمون هذا الحيوان باسم ( جملو ) أو ( إبلو ) وهما الاسمان
المعروفان للجمل في اللغة العربية ، وفي اللغات الجزرية ( السامية )
الأخرى . ويبدو أن الجمل كان معروفاً منذ العصر السومري ، حسب سوسة نفسه ،
وكان السومريون يسمونه ( حمار أرض البحر ) والمقصود بأرض البحر هنا سواحل
الخليج العربي . وقد عثر في مدينة الوركاء العراقية المعروفة بـ ( أوروك )
وفي دور كوريكا لزو ، عاصمة الكاشيين ، قرب بغداد ، على ألواح طينية نقشت
عليها صورة هذا الحيوان . هذا وذكرت التوراة في سفر التكوين مرتين أن
إبراهيم ( القرن التاسع عشر قبل الميلاد ) كان له قطيع من الجمال أيام
وجوده في حران . ومثل ذلك ذكرت عن يعقوب . ويفهم من سفر القضاة أن
المدينيين والعمالقة كانوا ( في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ) يغيرون
بجمالهم على مستوطنات اليهود الزاحفين على فلسطين من سيناء .
فإذا صحت
المعلومات التي جاء بها أصحاب هذه النظرية ، ولا نراها إلاّ صحيحة ، فهي
تنسف النظرية الأخرى حول هجرة الجماعات البشرية ، وتنسف أيضاً الكثير من
افتراضات جورج رو والأستاذ مطر وما بنياه عليها من استنتاجات . وعلى أية
حال ، إن هجرة هذه الجماعات البشرية إلى مواطن بعيدة جداً عن ديارها
الأولى كانت تحدث منذ أزمان سحيقة في القدم ، بغض النظر عن نوع وسائل
الانتقال ، بما فيها الأقدام ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، وعلى هذا الأساس
يمكن الحديث عن هجرة الأكديين والكنعانيين والفنيقيين والعموريين من
الجزيرة العربية بغض النظر عن تاريخ تدجين الجمل .
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: الساميون والعرب، أصلهم من العراق والشام أم من الجزيرة العربية؟! / سليم مطر
ثم أن القول إننا لا نملك دليلاً على أن الأكديين والكنعانيين كانوا بدواً
هو قول مردود ، فجورج رو ( ومن بعده الأستاذ مطر ) ينظران إلى ما أصبح
عليه هؤلاء بعد مرور أكثر من ألف عام على هجرتهم إلى المناطق الخصيبة في
العراق والشام واستقرارهم فيها ، وهي حقبة كانوا خلالها رعاة ، ثم زرّاعاً
، قبل أن يتحضروا ويشيدوا المدن ويكون لهم دور فاعل في التاريخ . فالفاصل
بين حقبة استقرار الأكديين في العراق مثلاً وبروز دورهم الحضاري يبلغ نحو
ألف عام . أما العموريون فالدليل على بداوتهم موجود ، وحسبنا نص سومري
يصفهم بأنهم ( بدو مخربون ، لا يعرفون السكن في البيوت ، ولا الزراعة ولا
الحبوب ، ويعتمدون في قوتهم على استخراج الكمأة من الأرض ، ويأكلون اللحم
نيئاً ، ولا يدفنون موتاهم ) .
إذن فاحتمال هجرة هذه الأقوام من
الجزيرة العربية هو المرجح هنا ، وليس العكس . فالدافع إلى الهجرة من
الجزيرة كان موجوداً ، والوسيلة كانت متوفرة ، والطريق سالكة .
بادية الشام :
وليس صحيحاً أن بادية الشام كانت تسمى ( عربايا ) كما يقول الأستاذ مطر في
مقاله . وهذه التسمية ليست أكدية مشتقة من ( غربا ) وتعني الغرب ، كما
يذكر ، بل هي تسمية سريانية معناها ( بلاد العرب ) مثل ( ماتو _ أريبي )
الأكدية _ الآشورية . وقد أطلقت على المنطقة الواقعة بين نهري دجلة
والفرات ، والتي تعرف اليوم بالجزيرة . وهي سميت بهذا الاسم بعد أن تدفقت
إليها موجات من القبائل العربية النازحة واستوطنتها بعد سقوط الدولة
الآشورية ( 612 ق. م. ) وسقوط الدولة الأكدية ( 539 ق. م. ) وربما قبل ذلك
بقليل . وقد وردت التسمية نفسها في كتابة بهستون بوصف ( عربايا ) إقليماً
من أقاليم الإمبراطورية الإخمينية في عهد دارا الكبير نهاية القرن السادس
قبل الميلاد ، ثم أطلقت في ما بعد على مملكة الحضر التي أسسها هناك هؤلاء
النازحون ( 85 _ 241 م ) وليس للعروبيين في هذا أي ذنب .
هذا أولاً
، وثانياً ليس صحيحاً أن بادية الشام ( منفصلة عملياً عن الجزيرة من ناحية
التكوين البيئي والارتباط المباشر الطبيعي والسكاني بالعراق والشام ) كما
يقول الأستاذ مطر في هذا المقال ، بل هي امتداد جغرافي طبيعي لها منذ
وجدتا ، وتكفي نظرة واحدة إلى الخارطة وما يظهر عليها من تضاريس لاكتشاف
هذه الحقيقة . فليس بينهما أية موانع طبيعية ( كالبحار والسلاسل الجبلية
والأنهار العظيمة ) تفصلهما وتعيق الاتصال بينهما والانتقال من إحداهما
إلى الأخرى بأيسر الوسائط . وطبيعة أراضي البادية الجنوبية امتداد لطبيعة
أراضي الجزيرة الشمالية الغربية . ومناطقها البركانية هي امتداد لسلسلة
جبال السراة البركانية . وقد كانت الرياح الغربية التي تحمل الأمطار إلى
مرتفعات سورية وفلسطين تصل في الأزمنة الغابرة إلى الجزيرة قبل أن تفقد
رطوبتها . وعدا ذلك كانت البادية (وظلت حتى عهد قريب) هي المنفذ البري
الرئيس والمفضل لسكان نجد والحجاز إلى العراق والشام ، وعبرها مرت الخطوط
التجارية بين اليمن وسواحل البحر الأبيض المتوسط ، وبين هذه السواحل
وسواحل الخليج العربي . ومن يدرس تاريخ المدن الثلاث ( تيماء ، ودومة
الجندل ، وسلع أو بطرا ) تتكشف له بجلاء قوة الارتباط والتواصل بين
البادية والجزيرة ، والمقيمين هنا وهناك ، ويظهر له أن نزوح أقوام الجزيرة
إلى العراق والشام كان يبدأ بنزوحهم إلى هذا المثلث وما حوله حتى قبل نشوء
هذه المدن ( الواحات ) وظهورها على مسرح الأحداث في أوائل الألف الأول قبل
الميلاد ، بل أن نواة كل مدينة من هذه المدن تكونت بفعل النزوح المستمر من
الجزيرة إلى البادية ، ثم نمت وازدهرت بفعل الحركة التجارية التي نشطت في
تلك الحقبة ، حتى أصبحت من أهم المحطات التجارية وأشهرها ، وقد كانت
تقطنها مجموعات بشرية من قبائل عربية شتى ، شمالية وجنوبية ، وبعضها ممن
غلب عليها اسم العرب البائدة كالثموديين . وكان ملوك العراق القديم ، من
بابليين وآشوريين وكلديين ، يحرصون على إخضاع هذه المدن ، وخاصة تيماء
ودومة الجندل ، بالقوة أو بغيرها من الوسائل ، لتأمين خطوط تجارتهم
الخارجية مع مصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط وسد الطريق على القبائل
البدوية التي تغير عليها . وهكذا يظهر أن الفصل الذي يقيمه الأستاذ مطر
بين بادية الشام وجزيرة العرب هو فصل متعسف وليس له أي أساس مادي على
الأرض .
وقد أسهب الأستاذ مطر في وصف طبيعة بادية الشام ليقنعنا بأنها
هي الوطن الأصلي ، وليس المؤقت ، الذي انتشر منه من سماهم بالساميين .
ولكنه لم يقدم دليلاً مقنعاً بأن هذه البادية تصلح لأن تكون وطناً أصلياً
لقوم من الأقوام . فالأوطان الأصلية تنشأ حيث تتوفر مقومات العيش
والاستقرار لأمد طويل ، وأولها وجود موارد مائية ثابتة وكافية على مر
الفصول والأعوام ، ولحقبة زمنية طويلة بحيث تسمح بالاستيطان والنمو
والتكاثر ، وهذا ما لم يتوفر لبادية الشام منذ ما قبل التاريخ حتى اليوم .
فبرغم أن معدل أمطارها السنوية يقدر بحوالي 127 ملم ( حسب الأستاذ مطر ،
وهو ما لم يتسنّ لي التأكد منه ) لا تكفي هذه الكمية من مياه الأمطار
لنشوء وطن أصلي لتفريخ البشر وتصديرهم إلى الأقطار المجاورة في دفعات
متعاقبة ، صغيرة وضخمة ، عبر آلاف السنين ، بل يمكن فقط أن تكون مرعى
موسمياً مؤقتاً ومعبراً للنازحين ، كما كانت منذ ما قبل التاريخ حتى نشوء
الدول العربية المعاصرة ، بل حتى بعد نشوئها بقليل . ذلك لأنها تفتقر
افتقاراً شديداً إلى عيون المياه ومجمعاتها التي تسمح بإقامة نظم ري كفؤة
وثابتة تساعد على الاستقرار وتسمح بالاستيطان والتكاثر وتصدير البشر .
ولذلك ندرت في داخلها الواحات وتحولت إلى مراع شتوية _ ربيعية مؤقتة ، ولم
تستطع أن تستوعب إلا جماعات صغيرة قليلة العدد من الرعاة وشبه الرعاة ،
تعيش على هوامش المراكز الحضارية وتتسلل إليها بمرور الزمان . وكان هذا هو
شأنها في الماضي ، وهذا هو شأنها اليوم ، وهو ما كان يدفع النازحين إليها
من الجزيرة العربية إلى تصيّد أقرب الفرص للنزوح منها إلى المناطق الخصيبة
المتحضرة ، وإن عزت عليهم الفرص صنعوها هم بأنفسهم ، بالغزو أو بغيره .
أما ما ذكر الأستاذ مطر من مدن يقول إنها نشأت في البادية فهي لا تتجاوز
ثنتين ، هما تدمر وبطرا ، أو ثلاثاً ( بإضافة بصرى إليهما ) . وهذه المدن
لم تنشأ في البادية نفسها ، بل على أطرافها ، وهي نادرة وقصيرة العمر ،
وكان وقوعها على طرق التجارة هو العامل الحاسم في نشوئها وازدهارها في
الحقبة التي نشأت فيها ، وكان هو السبب أيضاً في طمع الإمبراطوريات
القديمة فيها وسعيها لبسط نفوذها عليها ، وقد جلا أغلب سكانها عنها بمجرد
أن غزيت وتحولت عنها الطرق التجارية . ولو كانت البادية على ما يصوره لنا
الأستاذ مطر لكانت اليوم تعج بالمدن المزدهرة ، بدلاً من كونها معبراً
مملاً للمسافرين .
لهذا يتعذر قبول فكرة أن بادية الشام كانت وطناً
أصلياً لأي قوم من الأقوام ( السامية ) بل كانت معبراً لهم من الجزيرة
العربية في رأي أغلب العلماء والباحثين ، وليس للعلماء العراقيين الذين
يلومهم ، ولا للعروبيين الذين ينقم عليهم ، يد في ذلك . ووجود كهوف
ومغارات ومدافن في هذه البادية أمر طبيعي ، فما أكثر ما مر بها من أقوام
تبحث عن وطن جديد ، ولكنه لا يدل على وجود وطن أصلي لأية جماعة بشرية
متوسطة ، أو كبيرة كالعموريين والآراميين مثلاً . فمثل هذه الجماعات لا
يتكون في المناطق الرعوية ومواسمها المتقلبة ، بل في الأماكن التي تتوفر
فيها مقومات الاستيطان الطويل . ولذا لم تستقر فيها الأقوام التي نزحت
إليها ، بل نزحت منها إلى مراكز الحضارة . فالعموريون مثلاً نزحوا في
موجات متعاقبة صغيرة وكبيرة إلى جنوب العراق ووسطه وشماله ، ونزح آخرون
منهم إلى أعماق بلاد الشام ، وأسسوا ، في العراق والشام ، ممالكهم
وإماراتهم بالقوة وبدونها . وقل مثل ذلك عن الآراميين . فهؤلاء نزحوا إلى
حيث تتوفر لهم موارد ثابتة من مياه الأنهار والأمطار فتغلغلوا في عمق
سورية ( الحالية ) وانتشروا على ضفاف الفرات الأعلى وفروعه ووصلوا أطراف
الأناضول وتسللوا إلى أراضي الجزيرة ( بين دجلة والفرات ) وأسسوا إمارات
صغيرة حيثما استطاعوا في هذه الأصقاع .
جزيرة العرب :
كانت جزيرة
العرب في العصر البلايستوسيني ( قبل الميلاد بعشرة آلاف عام أو أكثر )
أرضاً خضراء ، غزيرة المياه ، معتدلة المناخ ، عامرة بالحياة النباتية
والحيوانية ، ثم تصحرت ، وأخذت تزداد تصحراً على مر العصور ، وتطرد سكانها
تدريجياً إلى بادية الشام في موجات صغيرة وكبيرة من حقبة زمنية إلى أخرى ،
ولم يسجل التاريخ من هذه الموجات إلا تلك التي أحدثت تحولات سكانية
وحضارية وسياسية .
إن خضرة الجزيرة العربية حقيقة تاريخية تدل عليها
جغرافيا الجزيرة نفسها ، وتؤكدها الكتابات القديمة ، شاء جورج رو وفراس
السواح أم أبيا . فصورتها التي نعرفها اليوم كانت غيرها في الأمس البعيد ،
وخاصة مناطقها الصحراوية الحالية . ففي الجزيرة عدة وديان كبرى كانت تجري
فيها أنهار عظيمة تخترقها من شتى الجهات أهمها : وادي حنيفة الذي يبدأ من
منحدرات جبل طويق الغربية ويتجه شرقاً نحو الخليج العربي ولا يصل إليه ،
ووادي الحمض الذي نشأت مدينة يثرب على أحد فروعه ، وكان نهر هذا الوادي
يصب في البحر الأحمر . ووادي السرحان الذي كانت مياهه تنبع من شرقي جبال
حوران وتخترق سهول الجزيرة الشمالية لتصب في الخليج العربي . ووادي الرمة
الذي كانت مياهه تنبع من شرقي جبال مكة وتتجه شرقاً لتصب في بحر عمان بعد
أن تنضم إليها عدة فروع . ووادي الدواسر ، وكانت مياهه تنبع من شرقي اليمن
وتتجه شمالاً فتخترق الربع الخالي ثم تتصل بوادي الرمة على مقربة من
الخليج العربي . غير أن هذه الوديان جفت منذ زمن بعيد ، ولم تعد بالعمق
الذي كانت عليه ، ولكن آثارها الباقية تدل على أنها كانت مجاري أنهار
عظيمة ، وأصبح بعضها مجاري للسيول ومراكز مؤقتة لتجمع المياه في المواسم
المطيرة ، قبل أن تتحول إلى مياه جوفية .
ويذكر برترام توماس صاحب
كتاب ( العرب ) أنه وجد بقايا بحيرة في الربع الخالي عند منخفض ( أبو بحر
) ، كما لاحظ في حينه أن وادي الرمة ما يزال مليئاً بالصخور الرسوبية
والحصى ، وهذا يدل على أنه كان في القدم مجرى نهر غزير المياه . ويؤكد
الدكتور احمد سوسة وجود بقايا بحيرات مليئة بالمياه في بعض المناطق
الصحراوية ، ويذكر أن في منطقة الخرج ، مثلاً ، عدة بحيرات في وسط الصحراء
استغلتها الحكومة السعودية في زراعة الأراضي المجاورة . وقد درس سوسة ،
كما يقول ، هذه البحيرات عندما أوفدته الحكومة العراقية على رأس بعثة فنية
لإقامة مشروع ري عليها منذ بضعة عقود . وتقع منطقة الخرج هذه جنوب شرقي
الرياض ، وتوجد فيها خمس بحيرات منها أربع تقع جنوبي اليمامة ، والخامسة
تقع جنوبي منطقة الخرج بمسافة تقرب من مائة كيلومتر . وأهم هذه البحيرات
ثلاث تبلغ مساحة كل منها أكثر من أربعة آلاف متر مربع ، ويصل عمق مائها
إلى أربع مائة قدم ، ويتصل بعضها ببعض بمجار جوفية . وقد عثر العاملون في
شركة أرامكو النفطية على صهاريج أرضية شبيهة بها متصلة بأنفاق وعليها
فتحات متعددة لاستقاء الماء في القطيف والأحساء والفلج وأواسط نجد وأماكن
أخرى تعد اليوم من المناطق الصحراوية ووجدوا على مقربة منها آثار قرى كانت
عامرة وذات مزارع واسعة ، وهذا يدل على غزارة المياه الجوفية التي كانت
تختزنها في الماضي .
هذه البحيرات والصهاريج ، وتلك الوديان ، دليل
على أن الجزيرة العربية لم تكن كما نعرفها نحن اليوم ، بل ربما لم تكن
فيها أية صحارى في الماضي السحيق . ولكن التصحر حدث في حقبة بعيدة ،
وتزايد بمضي القرون في خضم التحولات المناخية التي طرأت على العالم وعلى
الجزيرة نفسها ( مثلما يحدث اليوم في القارة الإفريقية ) فراح يدفع ببعض
سكانها حين يتكاثرون وتشح مياههم إلى الرحيل عنها والبحث عن مواطن أخرى
أكثر خصباً منها ، أو أقل جدباً ، ولذا اتخذت هجرة هؤلاء السكان شكل موجات
متعاقبة ومتباعدة .
هو قول مردود ، فجورج رو ( ومن بعده الأستاذ مطر ) ينظران إلى ما أصبح
عليه هؤلاء بعد مرور أكثر من ألف عام على هجرتهم إلى المناطق الخصيبة في
العراق والشام واستقرارهم فيها ، وهي حقبة كانوا خلالها رعاة ، ثم زرّاعاً
، قبل أن يتحضروا ويشيدوا المدن ويكون لهم دور فاعل في التاريخ . فالفاصل
بين حقبة استقرار الأكديين في العراق مثلاً وبروز دورهم الحضاري يبلغ نحو
ألف عام . أما العموريون فالدليل على بداوتهم موجود ، وحسبنا نص سومري
يصفهم بأنهم ( بدو مخربون ، لا يعرفون السكن في البيوت ، ولا الزراعة ولا
الحبوب ، ويعتمدون في قوتهم على استخراج الكمأة من الأرض ، ويأكلون اللحم
نيئاً ، ولا يدفنون موتاهم ) .
إذن فاحتمال هجرة هذه الأقوام من
الجزيرة العربية هو المرجح هنا ، وليس العكس . فالدافع إلى الهجرة من
الجزيرة كان موجوداً ، والوسيلة كانت متوفرة ، والطريق سالكة .
بادية الشام :
وليس صحيحاً أن بادية الشام كانت تسمى ( عربايا ) كما يقول الأستاذ مطر في
مقاله . وهذه التسمية ليست أكدية مشتقة من ( غربا ) وتعني الغرب ، كما
يذكر ، بل هي تسمية سريانية معناها ( بلاد العرب ) مثل ( ماتو _ أريبي )
الأكدية _ الآشورية . وقد أطلقت على المنطقة الواقعة بين نهري دجلة
والفرات ، والتي تعرف اليوم بالجزيرة . وهي سميت بهذا الاسم بعد أن تدفقت
إليها موجات من القبائل العربية النازحة واستوطنتها بعد سقوط الدولة
الآشورية ( 612 ق. م. ) وسقوط الدولة الأكدية ( 539 ق. م. ) وربما قبل ذلك
بقليل . وقد وردت التسمية نفسها في كتابة بهستون بوصف ( عربايا ) إقليماً
من أقاليم الإمبراطورية الإخمينية في عهد دارا الكبير نهاية القرن السادس
قبل الميلاد ، ثم أطلقت في ما بعد على مملكة الحضر التي أسسها هناك هؤلاء
النازحون ( 85 _ 241 م ) وليس للعروبيين في هذا أي ذنب .
هذا أولاً
، وثانياً ليس صحيحاً أن بادية الشام ( منفصلة عملياً عن الجزيرة من ناحية
التكوين البيئي والارتباط المباشر الطبيعي والسكاني بالعراق والشام ) كما
يقول الأستاذ مطر في هذا المقال ، بل هي امتداد جغرافي طبيعي لها منذ
وجدتا ، وتكفي نظرة واحدة إلى الخارطة وما يظهر عليها من تضاريس لاكتشاف
هذه الحقيقة . فليس بينهما أية موانع طبيعية ( كالبحار والسلاسل الجبلية
والأنهار العظيمة ) تفصلهما وتعيق الاتصال بينهما والانتقال من إحداهما
إلى الأخرى بأيسر الوسائط . وطبيعة أراضي البادية الجنوبية امتداد لطبيعة
أراضي الجزيرة الشمالية الغربية . ومناطقها البركانية هي امتداد لسلسلة
جبال السراة البركانية . وقد كانت الرياح الغربية التي تحمل الأمطار إلى
مرتفعات سورية وفلسطين تصل في الأزمنة الغابرة إلى الجزيرة قبل أن تفقد
رطوبتها . وعدا ذلك كانت البادية (وظلت حتى عهد قريب) هي المنفذ البري
الرئيس والمفضل لسكان نجد والحجاز إلى العراق والشام ، وعبرها مرت الخطوط
التجارية بين اليمن وسواحل البحر الأبيض المتوسط ، وبين هذه السواحل
وسواحل الخليج العربي . ومن يدرس تاريخ المدن الثلاث ( تيماء ، ودومة
الجندل ، وسلع أو بطرا ) تتكشف له بجلاء قوة الارتباط والتواصل بين
البادية والجزيرة ، والمقيمين هنا وهناك ، ويظهر له أن نزوح أقوام الجزيرة
إلى العراق والشام كان يبدأ بنزوحهم إلى هذا المثلث وما حوله حتى قبل نشوء
هذه المدن ( الواحات ) وظهورها على مسرح الأحداث في أوائل الألف الأول قبل
الميلاد ، بل أن نواة كل مدينة من هذه المدن تكونت بفعل النزوح المستمر من
الجزيرة إلى البادية ، ثم نمت وازدهرت بفعل الحركة التجارية التي نشطت في
تلك الحقبة ، حتى أصبحت من أهم المحطات التجارية وأشهرها ، وقد كانت
تقطنها مجموعات بشرية من قبائل عربية شتى ، شمالية وجنوبية ، وبعضها ممن
غلب عليها اسم العرب البائدة كالثموديين . وكان ملوك العراق القديم ، من
بابليين وآشوريين وكلديين ، يحرصون على إخضاع هذه المدن ، وخاصة تيماء
ودومة الجندل ، بالقوة أو بغيرها من الوسائل ، لتأمين خطوط تجارتهم
الخارجية مع مصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط وسد الطريق على القبائل
البدوية التي تغير عليها . وهكذا يظهر أن الفصل الذي يقيمه الأستاذ مطر
بين بادية الشام وجزيرة العرب هو فصل متعسف وليس له أي أساس مادي على
الأرض .
وقد أسهب الأستاذ مطر في وصف طبيعة بادية الشام ليقنعنا بأنها
هي الوطن الأصلي ، وليس المؤقت ، الذي انتشر منه من سماهم بالساميين .
ولكنه لم يقدم دليلاً مقنعاً بأن هذه البادية تصلح لأن تكون وطناً أصلياً
لقوم من الأقوام . فالأوطان الأصلية تنشأ حيث تتوفر مقومات العيش
والاستقرار لأمد طويل ، وأولها وجود موارد مائية ثابتة وكافية على مر
الفصول والأعوام ، ولحقبة زمنية طويلة بحيث تسمح بالاستيطان والنمو
والتكاثر ، وهذا ما لم يتوفر لبادية الشام منذ ما قبل التاريخ حتى اليوم .
فبرغم أن معدل أمطارها السنوية يقدر بحوالي 127 ملم ( حسب الأستاذ مطر ،
وهو ما لم يتسنّ لي التأكد منه ) لا تكفي هذه الكمية من مياه الأمطار
لنشوء وطن أصلي لتفريخ البشر وتصديرهم إلى الأقطار المجاورة في دفعات
متعاقبة ، صغيرة وضخمة ، عبر آلاف السنين ، بل يمكن فقط أن تكون مرعى
موسمياً مؤقتاً ومعبراً للنازحين ، كما كانت منذ ما قبل التاريخ حتى نشوء
الدول العربية المعاصرة ، بل حتى بعد نشوئها بقليل . ذلك لأنها تفتقر
افتقاراً شديداً إلى عيون المياه ومجمعاتها التي تسمح بإقامة نظم ري كفؤة
وثابتة تساعد على الاستقرار وتسمح بالاستيطان والتكاثر وتصدير البشر .
ولذلك ندرت في داخلها الواحات وتحولت إلى مراع شتوية _ ربيعية مؤقتة ، ولم
تستطع أن تستوعب إلا جماعات صغيرة قليلة العدد من الرعاة وشبه الرعاة ،
تعيش على هوامش المراكز الحضارية وتتسلل إليها بمرور الزمان . وكان هذا هو
شأنها في الماضي ، وهذا هو شأنها اليوم ، وهو ما كان يدفع النازحين إليها
من الجزيرة العربية إلى تصيّد أقرب الفرص للنزوح منها إلى المناطق الخصيبة
المتحضرة ، وإن عزت عليهم الفرص صنعوها هم بأنفسهم ، بالغزو أو بغيره .
أما ما ذكر الأستاذ مطر من مدن يقول إنها نشأت في البادية فهي لا تتجاوز
ثنتين ، هما تدمر وبطرا ، أو ثلاثاً ( بإضافة بصرى إليهما ) . وهذه المدن
لم تنشأ في البادية نفسها ، بل على أطرافها ، وهي نادرة وقصيرة العمر ،
وكان وقوعها على طرق التجارة هو العامل الحاسم في نشوئها وازدهارها في
الحقبة التي نشأت فيها ، وكان هو السبب أيضاً في طمع الإمبراطوريات
القديمة فيها وسعيها لبسط نفوذها عليها ، وقد جلا أغلب سكانها عنها بمجرد
أن غزيت وتحولت عنها الطرق التجارية . ولو كانت البادية على ما يصوره لنا
الأستاذ مطر لكانت اليوم تعج بالمدن المزدهرة ، بدلاً من كونها معبراً
مملاً للمسافرين .
لهذا يتعذر قبول فكرة أن بادية الشام كانت وطناً
أصلياً لأي قوم من الأقوام ( السامية ) بل كانت معبراً لهم من الجزيرة
العربية في رأي أغلب العلماء والباحثين ، وليس للعلماء العراقيين الذين
يلومهم ، ولا للعروبيين الذين ينقم عليهم ، يد في ذلك . ووجود كهوف
ومغارات ومدافن في هذه البادية أمر طبيعي ، فما أكثر ما مر بها من أقوام
تبحث عن وطن جديد ، ولكنه لا يدل على وجود وطن أصلي لأية جماعة بشرية
متوسطة ، أو كبيرة كالعموريين والآراميين مثلاً . فمثل هذه الجماعات لا
يتكون في المناطق الرعوية ومواسمها المتقلبة ، بل في الأماكن التي تتوفر
فيها مقومات الاستيطان الطويل . ولذا لم تستقر فيها الأقوام التي نزحت
إليها ، بل نزحت منها إلى مراكز الحضارة . فالعموريون مثلاً نزحوا في
موجات متعاقبة صغيرة وكبيرة إلى جنوب العراق ووسطه وشماله ، ونزح آخرون
منهم إلى أعماق بلاد الشام ، وأسسوا ، في العراق والشام ، ممالكهم
وإماراتهم بالقوة وبدونها . وقل مثل ذلك عن الآراميين . فهؤلاء نزحوا إلى
حيث تتوفر لهم موارد ثابتة من مياه الأنهار والأمطار فتغلغلوا في عمق
سورية ( الحالية ) وانتشروا على ضفاف الفرات الأعلى وفروعه ووصلوا أطراف
الأناضول وتسللوا إلى أراضي الجزيرة ( بين دجلة والفرات ) وأسسوا إمارات
صغيرة حيثما استطاعوا في هذه الأصقاع .
جزيرة العرب :
كانت جزيرة
العرب في العصر البلايستوسيني ( قبل الميلاد بعشرة آلاف عام أو أكثر )
أرضاً خضراء ، غزيرة المياه ، معتدلة المناخ ، عامرة بالحياة النباتية
والحيوانية ، ثم تصحرت ، وأخذت تزداد تصحراً على مر العصور ، وتطرد سكانها
تدريجياً إلى بادية الشام في موجات صغيرة وكبيرة من حقبة زمنية إلى أخرى ،
ولم يسجل التاريخ من هذه الموجات إلا تلك التي أحدثت تحولات سكانية
وحضارية وسياسية .
إن خضرة الجزيرة العربية حقيقة تاريخية تدل عليها
جغرافيا الجزيرة نفسها ، وتؤكدها الكتابات القديمة ، شاء جورج رو وفراس
السواح أم أبيا . فصورتها التي نعرفها اليوم كانت غيرها في الأمس البعيد ،
وخاصة مناطقها الصحراوية الحالية . ففي الجزيرة عدة وديان كبرى كانت تجري
فيها أنهار عظيمة تخترقها من شتى الجهات أهمها : وادي حنيفة الذي يبدأ من
منحدرات جبل طويق الغربية ويتجه شرقاً نحو الخليج العربي ولا يصل إليه ،
ووادي الحمض الذي نشأت مدينة يثرب على أحد فروعه ، وكان نهر هذا الوادي
يصب في البحر الأحمر . ووادي السرحان الذي كانت مياهه تنبع من شرقي جبال
حوران وتخترق سهول الجزيرة الشمالية لتصب في الخليج العربي . ووادي الرمة
الذي كانت مياهه تنبع من شرقي جبال مكة وتتجه شرقاً لتصب في بحر عمان بعد
أن تنضم إليها عدة فروع . ووادي الدواسر ، وكانت مياهه تنبع من شرقي اليمن
وتتجه شمالاً فتخترق الربع الخالي ثم تتصل بوادي الرمة على مقربة من
الخليج العربي . غير أن هذه الوديان جفت منذ زمن بعيد ، ولم تعد بالعمق
الذي كانت عليه ، ولكن آثارها الباقية تدل على أنها كانت مجاري أنهار
عظيمة ، وأصبح بعضها مجاري للسيول ومراكز مؤقتة لتجمع المياه في المواسم
المطيرة ، قبل أن تتحول إلى مياه جوفية .
ويذكر برترام توماس صاحب
كتاب ( العرب ) أنه وجد بقايا بحيرة في الربع الخالي عند منخفض ( أبو بحر
) ، كما لاحظ في حينه أن وادي الرمة ما يزال مليئاً بالصخور الرسوبية
والحصى ، وهذا يدل على أنه كان في القدم مجرى نهر غزير المياه . ويؤكد
الدكتور احمد سوسة وجود بقايا بحيرات مليئة بالمياه في بعض المناطق
الصحراوية ، ويذكر أن في منطقة الخرج ، مثلاً ، عدة بحيرات في وسط الصحراء
استغلتها الحكومة السعودية في زراعة الأراضي المجاورة . وقد درس سوسة ،
كما يقول ، هذه البحيرات عندما أوفدته الحكومة العراقية على رأس بعثة فنية
لإقامة مشروع ري عليها منذ بضعة عقود . وتقع منطقة الخرج هذه جنوب شرقي
الرياض ، وتوجد فيها خمس بحيرات منها أربع تقع جنوبي اليمامة ، والخامسة
تقع جنوبي منطقة الخرج بمسافة تقرب من مائة كيلومتر . وأهم هذه البحيرات
ثلاث تبلغ مساحة كل منها أكثر من أربعة آلاف متر مربع ، ويصل عمق مائها
إلى أربع مائة قدم ، ويتصل بعضها ببعض بمجار جوفية . وقد عثر العاملون في
شركة أرامكو النفطية على صهاريج أرضية شبيهة بها متصلة بأنفاق وعليها
فتحات متعددة لاستقاء الماء في القطيف والأحساء والفلج وأواسط نجد وأماكن
أخرى تعد اليوم من المناطق الصحراوية ووجدوا على مقربة منها آثار قرى كانت
عامرة وذات مزارع واسعة ، وهذا يدل على غزارة المياه الجوفية التي كانت
تختزنها في الماضي .
هذه البحيرات والصهاريج ، وتلك الوديان ، دليل
على أن الجزيرة العربية لم تكن كما نعرفها نحن اليوم ، بل ربما لم تكن
فيها أية صحارى في الماضي السحيق . ولكن التصحر حدث في حقبة بعيدة ،
وتزايد بمضي القرون في خضم التحولات المناخية التي طرأت على العالم وعلى
الجزيرة نفسها ( مثلما يحدث اليوم في القارة الإفريقية ) فراح يدفع ببعض
سكانها حين يتكاثرون وتشح مياههم إلى الرحيل عنها والبحث عن مواطن أخرى
أكثر خصباً منها ، أو أقل جدباً ، ولذا اتخذت هجرة هؤلاء السكان شكل موجات
متعاقبة ومتباعدة .
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: الساميون والعرب، أصلهم من العراق والشام أم من الجزيرة العربية؟! / سليم مطر
ويبدو أن الوضع في الجزيرة كان في أواسط الألف الأول قبل الميلاد أفضل مما
أصبح عليه في القرون اللاحقة . فقد ذكر هيرودتس ( 484 425 ق. م. ) خبر (
نهر عظيم ) في بلاد العرب سماه ( كورس ) يصب في البحر الأحمر وقال إن
ملكهم عمل على نقل المياه من هذا النهر إلى الصحراء على مسيرة اثني عشر
يوماً من ضفته ، وربما قصد هيرودوتس بذلك وادي الحمض . وبعد أربعة قرون أو
نحوها ذكر ديودروس الصقلي ( 80 ق. م. _ 40 م ) أن بلاد العرب التي تقع في
الشمال من العربية السعيدة ( أي اليمن ) وتمتد حتى سورية ( يتخللها كثير
من الأنهار ويهطل عليها مطر غزير في الصيف فيكون لسكانها بذلك موسمان
زراعيان في السنة الواحدة ) . أما بطليموس ، وهو من رجال القرن الثاني
الميلادي ، فذكر اسم ( نهر عظيم ) آخر من أنهار الجزيرة سماه ( لار ) وذكر
أنه ينبع من منطقة قرب نجران ، ويرى المختصون أن المقصود به وادي الدواسر .
ويبدو أن الجزيرة أصبحت أكثر تصحراً في العصر الجاهلي فاضطرت بعض قبائلها
إلى النزوح من مواطنها نحو العراق والشام وسواحل الخليج العربي . ومع ذلك
يعرف المطلعون اطلاعاً واسعاً على شعر هذا العصر ، وعلى مؤلفات البلدانيين
العرب ، أن القبائل العربية لم تكن قبائل جوالة ، كما يتوهم المتوهمون ،
بل كانت لها مستوطنات ودارات ثابتة عند عيون المياه وتجمعاتها وآبارها ،
وكان لكثير منها مدن ( يسمونها قرى ) تقطن فيها وعلى أطرافها . ولو أخذنا
الحجاز مثلاً وبدأنا من نجران على تخوم اليمن واتجهنا شمالاً نحو بادية
الشام ، لوجدنا سلسلة من المدن والواحات منها : نجران ، وجرش ، وتبالة ،
والطائف ، ومكة ، ويثرب ، ومية ، وخيبر ، والعلا ، وتيماء ، وتبوك ،
وصولاً إلى دومة الجندل . وعدا هذه المدن كان ثمة عيون مياه كثيرة
ومستوطنات ثابتة وحِرار ( جمع حرّة ) ودارات على امتداد الحجاز وجباله
ووديانه . وهذا لا يقتصر على الحجاز وحده ، بل يشمل هضبة نجد واليمامة
وسواحل الخليج العربي . وقد بلغ عدد دارات الجزيرة حسب الفيروز أبادي نحو
( 110 ) دارات ، وهي ليست كل الدارات بل ما تمكن هذا الرجل من إحصائه .
والواقع أنه ما من قبيلة ( أو بطن من بطونها أو فخذ من أفخاذها ) إلا وكان
لها ( أو له ) موطن مستقر عند مورد مائي ثابت يغزر حيناً ويشح حيناً آخر
بحسب الأمطار ومدى غزارتها في المواسم . ولذا يندر أن كانت القبائل تتنازع
من أجل المياه ، وأشهر النزاعات التي نشبت لهذا السبب هو النزاع بين قبيلة
طيء ( القحطانية ) وقبيلة أسد ( العدنانية ) حول جبلي أجأ وسلمى ( جبل
شمّر اليوم ) في شمالي نجد . ولكن غالباً ما كان تقلب المناخ وشح المياه
وتكاثر السكان ما يدفع القبائل للنزوح . فقبيلة إياد ( العدنانية ) مثلاً
كانت تقيم في تهامة ، ولما شحت مياهها وكثر أبناؤها نزحت بطون منها نحو
سواحل الخليج العربي ، ونزحت أخرى نحو العراق . ونزح بعض الأزد من اليمن
إلى تهامة فنزلوا عند عين يقال لها ( غسان ) ثم شح ماؤها فنزحوا إلى الشام
، وهؤلاء هم من عرفوا في ما بعد بالغساسنة . وكان رعاة قبيلة بكر بن وائل
يشتون في الجزبرة العربية ويصيفون في بوادي العراق ، بل أن بعضهم ( بني
شيبان وبني يشكر) نزح إليه واستوطنه . ويمكننا أن نقيس ما كان يحدث من
هجرات في الماضي البعيد بما كان يحدث في العصر الجاهلي . فما حدث في هذا
العصر يعطينا صورة واضحة مشابهة لما كان يحدث قبله ، وهو أيضاً ما كان
يحدث حتى عهد قريب ، حين نزحت بطون من قبائل شمر وعنزة وغيرهما إلى بوادي
العراق والشام .
هذا كله يعني أن الجزيرة العربية ، بعكس بادية الشام
، كانت تتمتع بكل مقومات الوطن الأصلي القادر على استيعاب أعداد كبيرة من
البشر ، ولكن التصحر المطّرد وشح المياه ، في مقابل تكاثر السكان ، هو ما
كان يدفع بأقوامها إلى النزوح . وهذه حقيقة ليس في وسع الأستاذ مطر ، ولا
الأستاذ فراس السواح ، إلغاؤها باجتهاد متحيز .
أصل العرب :
لا
يكتفي الأستاذ مطر بجعل بادية الشام وطناً أصلياً للأقوام ( السامية ) بل
يجعلها وطناً أصلياً للعرب أنفسهم ، ويتبنى في ذلك تقسيماً أسطورياً حول
أصل العرب وضعه الأخباريون والنسابون بعد ظهور الإسلام بمدة طويلة . فقد
قسم هؤلاء العربَ إلى قسمين : عرب بائدة وعرب باقية ، ثم قسموا العرب
الباقية إلى قسمين : عرب عاربة وعرب مستعربة . فأخذ الأستاذ مطر بهذا
التقسيم وكيفه على هواه ، واتخذه هيكلاً لبناء نظريته حول أصل العرب . فقد
وافق على وجود أقوام ( بادت ) بالمعنى الحضاري في الجزيرة العربية ، ولكنه
رأى أن هؤلاء لم يكونوا ( ساميين ) ولا ( عرباً ) بل من أصول هندية
وبلوشية وفارسية ( وفاته أن يضيف إليهم ذوي الأصول الإفريقية ! ) وأطلق
عليهم تسمية ( جنس المحيط الهندي ) . ثم قرر أن ( العرب العاربة ) هم
جماعات سامية ( عراقية كنعانية ) قدمت إلى الجزيرة من الهلال الخصيب عن
طريق البحر ، وأسست لها ( قواعد بحرية ومستعمرات تجارية عديدة في البحرين
وقطر وعمان وحتى اليمن ) . بل هو تحدث عن وجود كنعاني في قطر ، ووجود
فنيقي في سواحل عمان والفجيرة وخور فكان ، وأشار أيضاً إلى دور ( عراقي
كنعاني ) في نقل ما سماه ( الثقافة السامية ) واللغة السامية ( الأكدية
والكنعانية ) إلى الجزيرة وتأسيس أول حضارة نشأت فيها ، وهي في رأيه (
الحضارة السبئية ) في اليمن ويؤرخها بحدود الألف الأول قبل الميلاد .
أما ( العرب المستعربة ) فهم ، كما يعتقد الأستاذ مطر ، آراميون هاجروا من
( الشمال العراقي- السوري إلى الجزيرة بعد شيوع استخدام الجمل في التنقلات
، وأسسوا هناك أولى معاقل الاستيطان مثل يثرب ومكة ) . ثم أنهى كلامه عن
العرب بما يفيد أن فرضية هجرة ( الساميين ) من الشمال إلى الجزيرة تفسر
لنا الفرق الواضح بين جنسين : غالبية سكان شمال الجزيرة ووسطها هم من ذوي
البشرة الفاتحة ، ثم غالبية سكان الجنوب والسواحل من ذوي البشرة السمراء
وشكل المحيط الهندي .
هكذا بنى الأستاذ مطر نظريته حول أصل العرب .
والحق أنه لا وجود في التاريخ لعرب عاربة وعرب مستعربة ، ولا ذكر لهذا
التقسيم في المصادر القديمة المكتوبة كالسجلات الملكية الآشورية ،
والكتابات اليمنية ، والتوراة اليهودية ، والمؤلفات اليونانية والرومانية
والبيزنطية والسريانية . وهو لم يذكر في الشعر الجاهلي والقرآن الكريم ،
ولا في أحاديث الرسول محمد ( ص ) ، ولم يتحدث به أحد من الخلفاء الراشدين
، ولا حين تنازعت القبائل ( العدنانية ) و( القحطانية ) قبل ظهور الإسلام
، ولا حين تهاجى شعراء المشركين وشعراء الأنصار ، ولكنه ظهر بعد ظهور
الإسلام بمدة طويلة حين نشأت الحاجة إلى تفسير بعض الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية ، ومنها ما يتعلق بالأقوام الخالية وبتاريخ العرب قبل
الإسلام وأنسابهم في خضم الصراعات السياسية التي نشبت بين العرب المسلمين
. والصحيح أن سكان الجزيرة عرب في كثرتهم الكاثرة ، بعضهم كان يقطن اليمن
وحضرموت وظفار وبعضهم انتشر في أنحاء الجزيرة الأخرى ، وقد يصح أن نسميهم
عرب الجنوب وعرب الشمال ، ولكن لا يصح أبداً أن نسميهم بالعرب العاربة
والعرب المستعربة . والغريب أن الأستاذ مطر أخذ بهذا التقسيم المصطنع برغم
أنه يعده ضرباً من ( الحكايات الشعبية ) . فهو يرى أن هذه الحكايات لابد
لها من أصل ، ولكنني أظن أنه فعل ذلك لأن به حاجة إليه لترميم صدوع نظريته
. ومع ذلك سنناقش ما جاء به في هذه النظرية .
العرب البائدة :
العرب البائدة حسب الأخباريين هم : عاد وعبيل وطسم وعمليق وجاسم وحضرموت
والسلف وأميم والعوذ وثمود وجديس ووبار وجرهم الأولى . وعلى الرغم من
تفاوت الأخباريين والنسابين في ذكر أسماء هذه الأقوام فإن كثرتها تدل على
كثرتهم . فعددهم ، كما يقدر بعض المؤرخين ، ثلاثة عشر قوماً . ومع أن
تقسيم العرب إلى بائدة وباقية لا ذكر له في المصادر القديمة المكتوبة قبل
ظهور الإسلام ، فإن عدم ذكره لا ينفي وجود أقوام بادت فعلاً ، أو تشتت ،
أو ذابت في غيرها ، أو نزحت من مواطنها وسميت بأسماء أخرى في مواطنها
الجديدة ، ولم يبق منها سوى ذكريات غامضة تناقلها الرواة والأخباريون
وحاكوا حولها الأساطير على مر القرون . فورود ذكر بعضها ( مثل : عاد وثمود
وطسم وجديس ووبار وعبيل وعمليق ) في المؤلفات الكلاسيكية ، وفي التوراة ،
وفي الشعر الجاهلي ، والقرآن الكريم ، يعني أنها كانت موجودة ، وعدم ذكر
بعضها لا يعني عدم وجودها في الماضي ، أو وجود بعضها في الأقل . وبناء
عليه لا يستبعد ، وهذه وجهة نظر شخصية ، أن بعضها كان ممن هاجر إلى العراق
والشام وعرف في ما بعد باسم آخر ، فأسماء مثل الأكديين والعموريين
والكنعانيين والفنيقيين .. إلخ هي أسماء طارئة على الأقوام التي سميت بها
وليست أسماء أصلية .
إذن فوجود أقوام عُدّت ( بائدة ) بالمعنى
الحضاري في الجزيرة العربية يبدو حقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها ، ولكن
الأستاذ مطر اجتهد فرأى أن هؤلاء ليسوا ( ساميين ) وليسوا ( عرباً ) بل هم
من ( جنس المحيط الهندي ) . وهذا يعني أن الجزيرة كانت خالية إلا من هؤلاء
، وهو افتراض عجيب ، أثبتت التنقيبات المتأخرة في عمان ، في الأقل ، ضعفه
وضلاله .
ترى كيف عرف الأستاذ مطر أن الجزيرة كانت خالية إلا من هؤلاء
، وأن هؤلاء كانوا من جنس المحيط الهندي حصراً ؟ ومن قال ذلك ؟ إنه يستخدم
هنا جملة عامة غامضة يقول فيها ( تخمن البحوث ) أنهم كانوا كذلك ! فهو إذن
يعتمد على ( التخمين ) ليضع افتراضه في مصاف الحقائق التاريخية . ولكنه لا
يقول لنا أية بحوث إنثربولوجية تلك التي أطلقت هذا الزعم فاعتمد عليها ،
فهو لا يحدد هنا ولا يوثق ، بل يتجاوز الأمر ليستدل على وجود تلك الأقوام
، في ذلك الماضي البعيد ، بما يراه اليوم في سواحل الخليج العربي وعمان من
ذوي البشرة السمراء الداكنة ، ويحاول أن يقنعنا بأن هؤلاء هم أحفاد أولئك
، متناسياً كل الموجات التي توافدت على هذه السواحل عبر آلاف السنين بسبب
حركة التجارة ، وكل العمالة الوافدة التي أغرقتها بتدفقاتها خلال النصف
الثاني من القرن العشرين !
ولكي يتفادى الأستاذ مطر أي سؤال عما ترك
هؤلاء من آثار حضارية أو كتابية تدل على وجودهم وطبيعة ثقافتهم ، بعد أن
بادوا ، فإنه يخبرنا بأنهم ظلوا يعيشون في العصر الحجري حتى الألف السابق
للميلاد ، أي حتى قدوم الساميين إلى الجزيرة كما يقول . وهو يحدد هذا
التاريخ حتى لا يحتج عليه أحد بعدم وجود آثار مادية أو كتابية تدل على
وجودهم في الجزيرة وسواحلها قبل العرب أجمعين ؟
إنني لا أنفي احتمال
وجود أفراد من ذلك الجنس على تلك السواحل منذ القدم ، ولكنني أستبعد أن
يكونوا أكثر من أقلية صغيرة مشتتة جاءت بها حركة التجارة بين بلاد
الرافدين والهند على مدى ثلاثة آلاف عام ، وأتوقع أن عددهم قد زاد حين
نشطت حركة التجارة بين سواحل الخليج العربي واليمن والبحر الأبيض المتوسط
خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد ، ولكنهم ليسوا من سكان
الجزيرة الأصليين في أية حال . إنهم جالية وافدة لا أكثر ولا أقل ، شأنها
شأن الجالية الرافدينية المحتمل وجودها هناك . فهم ليسوا العرب البائدة
كما يرى الأستاذ مطر ، بل هم وافدون كما يطلق على أمثالهم في الخليج اليوم
.
وثمة حقيقة أخرى تؤكد ذلك ولم يلتفت إليها الأستاذ مطر على ما يبدو
، وهي أن الإشارات الواردة عن العرب البائدة في المؤلفات اليونانية
والرومانية ، وفي التوراة ، وفي الشعر الجاهلي والقرآن الكريم ، تبين أنهم
لم يكونوا كلهم من سكان السواحل ، فبعضهم كان يستوطن الحجاز ، وبعضهم كان
يستوطن اليمن وحضرموت ، وبعضهم كان في الأحقاف ، وبعضهم في اليمامة ،
وبعضهم في عمان ، أي أنهم كانوا منتشرين في شتى أرجاء الجزيرة وليس في
سواحلها الشرقية والجنوبية فحسب ، فهم هم مواطنوها الأصليون وليسوا أولئك
الذين وفدوا على تلك السواحل من الهند أو غيرها بفعل حركة التجارة بين
الهند والجزيرة العربية وبلاد الرافدين .
وبعد هذا كله علي أن أذكر
أن تنقيبات أجراها ( عام 1992 ) فريق من رجال الآثار البريطانيين
والاميركيين بالاشتراك مع باحثين عمانيين يقودهم رانولف فاينز ، كشفت عن
بقايا مدينة في صحراء الربع الخالي جنوبي سلطنة عمان . وقد أعلن هذا
الفريق أن هذه المدينة هي ( وبار ) التي ذكرها بطليموس من المؤلفين
الكلاسيكيين ( وذكرها الأعشى من شعراء الجاهلية في إحدى قصائده ) . وقدر
عمرها بين ( 2800 ق. م. 300 م. ) . أما هذه التنقيبات فجرت استنادا إلى
صور التقطها رادار وضع على المكوك الفضائي الأميركي 'تشالنجر' يصاحبه قمر
صناعي لرسم الخرائط كشف وجود هذه المدينة مطمورة تحت الرمال . وأظهرت
الصور آثار نبع قديم للماء جف منذ عهد بعيد جداً ، فقرر فاينز الحفر في
الموقع الذي حددته ، وحين أزيحت الرمال في هذا الموقع انكشفت عن بقايا
مدينة ذات أسوار وأبراج ، عثر فيها على جدران عريضة ، وقواعد لأبراج حراسة
، وعدة أعمدة ، ولقى أثرية منزلية ، وتبين أن المنطقة التي كشف عنها ،
تربض على جرف كلسي فوق بحيرة من المياه الجوفية . وذهب بعضهم إلى أن هذه
المدينة هي إرم ذات العماد التي ذكرت في القرآن الكريم ، وهذا احتمال لا
يجوز إهماله ، لأن قوم عاد كانوا يقطنون هذه المنطقة ( الأحقاف ) وكانوا
من الأقوام الكبيرة ، بعضهم باد فعلاً بفعل الكارثة التي حلت بهم ، وبعضهم
نزح إلى شمال غربي الجزيرة .
وسواء كانت هذه المدينة هي وبار ، أم إرم ذات العماد ، أم غيرهما ، فإن اكتشافها يدل على ما يأتي :
_ إن وجود أقوام جزرية بادت حقيقة تاريخية ، وإن الجزيرة العربية لم تكن
خالية من السكان الأصليين ( الساميين ) كما يتوهم الأستاذ مطر أو سواه .
_ إن التصحر المطّرد الذي أصاب الجزيرة حقيقة أخرى والدليل على ذلك ( وبار
) التي وجدت مطمورة تحت رمال صحراء الربع الخالي ، وأن الكوارث الطبيعية
التي حلت بسكان الجزيرة حقيقة ثالثة ، وهذه الحقيقة وتلك كانتا تدفعان
هؤلاء السكان إلى النزوح منها والبحث عن أوطان أخرى من حقبة إلى أخرى .
_ إن تاريخ الحضارة في الجزيرة العربية يعود إلى أقدم العصور ، وأن سكان
الجزيرة لم يكونوا يعيشون في العصر الحجري حتى ( الألف السابق الميلاد )
كما ذهب الظن بالأستاذ مطر ، فتاريخ وبار يعود إلى ( 2800 ق. م. ) وآثارها
تدل على أن أهلها كانوا قد غادروا العصر الحجري منذ زمن بعيد .
_ إن
هناك الكثير من الحقائق التي تتعلق بتاريخ الجزيرة وسكانها ما يزال
مطموراً ولم تكشف التنقيبات إلا عن القليل جداً منه . ولذا لا يجوز
الإسراف في بناء الفرضيات واستخلاص استنتاجات قاطعة منها في هذا الشأن ،
على نحو ما فعل الأستاذ مطر .
العرب العاربة :
ولكن الأستاذ مطر
الذي أخلى الجزيرة العربية من سكانها الأصليين ، وجعل من العرب البائدة
مجرد أناس من جنس المحيط الهندي ، لم يفعل ذلك إلا ليملأها في ما بعد بعرب
عاربة وعرب مستعربة يستوردهم من خارجها !
فهو يرى أن العرب العاربة
جماعات سامية ( عراقية _ كنعانية ) جاءت من الهلال الخصيب إلى سواحل
الخليج العرب ( عن طريق البحر ) خلال ألفي عام من ظهور الحضارة في العراق
والشام ، أي قبل الألف الأول للميلاد ، وأنهم نقلوا إليها الثقافة السامية
، واللغة السامية ، وأسسوا أول حضارة فيها هي الحضارة السبئية .
إن
وجود جاليات عراقية ( مجرد جاليات ) لها قواعد بحرية ومستوطنات في سواحل
الخليج العربي في الحقبة التي يشير إليها الأستاذ مطر أمر محتمل جداً ، بل
أكيد . فالتجار العراقيون كانوا على صلة وثيقة بدلمون ( البحرين ) ومكان (
عمان ) وملوخا ( الهند ، أو جنوب الجزيرة عامة ، أو بلاد النوبة ، أو
الحبشة حسب الآشوريين ) منذ العهد السومري ، وتوثقت هذه الصلة في العهد
الأكدي بعد تجريد كل من سرجون الأكدي وحفيده نرام _ سين حملة عسكرية عليها
، واستمر الأمر على ذلك في العهود اللاحقة حتى بعد سقوط الدولة الكلدية (
539 ق. م. ) ولكن من التعسف أن يحشر الأستاذ مطر اسم الكنعانيين
والفنيقيين في هذه المسألة .
أصبح عليه في القرون اللاحقة . فقد ذكر هيرودتس ( 484 425 ق. م. ) خبر (
نهر عظيم ) في بلاد العرب سماه ( كورس ) يصب في البحر الأحمر وقال إن
ملكهم عمل على نقل المياه من هذا النهر إلى الصحراء على مسيرة اثني عشر
يوماً من ضفته ، وربما قصد هيرودوتس بذلك وادي الحمض . وبعد أربعة قرون أو
نحوها ذكر ديودروس الصقلي ( 80 ق. م. _ 40 م ) أن بلاد العرب التي تقع في
الشمال من العربية السعيدة ( أي اليمن ) وتمتد حتى سورية ( يتخللها كثير
من الأنهار ويهطل عليها مطر غزير في الصيف فيكون لسكانها بذلك موسمان
زراعيان في السنة الواحدة ) . أما بطليموس ، وهو من رجال القرن الثاني
الميلادي ، فذكر اسم ( نهر عظيم ) آخر من أنهار الجزيرة سماه ( لار ) وذكر
أنه ينبع من منطقة قرب نجران ، ويرى المختصون أن المقصود به وادي الدواسر .
ويبدو أن الجزيرة أصبحت أكثر تصحراً في العصر الجاهلي فاضطرت بعض قبائلها
إلى النزوح من مواطنها نحو العراق والشام وسواحل الخليج العربي . ومع ذلك
يعرف المطلعون اطلاعاً واسعاً على شعر هذا العصر ، وعلى مؤلفات البلدانيين
العرب ، أن القبائل العربية لم تكن قبائل جوالة ، كما يتوهم المتوهمون ،
بل كانت لها مستوطنات ودارات ثابتة عند عيون المياه وتجمعاتها وآبارها ،
وكان لكثير منها مدن ( يسمونها قرى ) تقطن فيها وعلى أطرافها . ولو أخذنا
الحجاز مثلاً وبدأنا من نجران على تخوم اليمن واتجهنا شمالاً نحو بادية
الشام ، لوجدنا سلسلة من المدن والواحات منها : نجران ، وجرش ، وتبالة ،
والطائف ، ومكة ، ويثرب ، ومية ، وخيبر ، والعلا ، وتيماء ، وتبوك ،
وصولاً إلى دومة الجندل . وعدا هذه المدن كان ثمة عيون مياه كثيرة
ومستوطنات ثابتة وحِرار ( جمع حرّة ) ودارات على امتداد الحجاز وجباله
ووديانه . وهذا لا يقتصر على الحجاز وحده ، بل يشمل هضبة نجد واليمامة
وسواحل الخليج العربي . وقد بلغ عدد دارات الجزيرة حسب الفيروز أبادي نحو
( 110 ) دارات ، وهي ليست كل الدارات بل ما تمكن هذا الرجل من إحصائه .
والواقع أنه ما من قبيلة ( أو بطن من بطونها أو فخذ من أفخاذها ) إلا وكان
لها ( أو له ) موطن مستقر عند مورد مائي ثابت يغزر حيناً ويشح حيناً آخر
بحسب الأمطار ومدى غزارتها في المواسم . ولذا يندر أن كانت القبائل تتنازع
من أجل المياه ، وأشهر النزاعات التي نشبت لهذا السبب هو النزاع بين قبيلة
طيء ( القحطانية ) وقبيلة أسد ( العدنانية ) حول جبلي أجأ وسلمى ( جبل
شمّر اليوم ) في شمالي نجد . ولكن غالباً ما كان تقلب المناخ وشح المياه
وتكاثر السكان ما يدفع القبائل للنزوح . فقبيلة إياد ( العدنانية ) مثلاً
كانت تقيم في تهامة ، ولما شحت مياهها وكثر أبناؤها نزحت بطون منها نحو
سواحل الخليج العربي ، ونزحت أخرى نحو العراق . ونزح بعض الأزد من اليمن
إلى تهامة فنزلوا عند عين يقال لها ( غسان ) ثم شح ماؤها فنزحوا إلى الشام
، وهؤلاء هم من عرفوا في ما بعد بالغساسنة . وكان رعاة قبيلة بكر بن وائل
يشتون في الجزبرة العربية ويصيفون في بوادي العراق ، بل أن بعضهم ( بني
شيبان وبني يشكر) نزح إليه واستوطنه . ويمكننا أن نقيس ما كان يحدث من
هجرات في الماضي البعيد بما كان يحدث في العصر الجاهلي . فما حدث في هذا
العصر يعطينا صورة واضحة مشابهة لما كان يحدث قبله ، وهو أيضاً ما كان
يحدث حتى عهد قريب ، حين نزحت بطون من قبائل شمر وعنزة وغيرهما إلى بوادي
العراق والشام .
هذا كله يعني أن الجزيرة العربية ، بعكس بادية الشام
، كانت تتمتع بكل مقومات الوطن الأصلي القادر على استيعاب أعداد كبيرة من
البشر ، ولكن التصحر المطّرد وشح المياه ، في مقابل تكاثر السكان ، هو ما
كان يدفع بأقوامها إلى النزوح . وهذه حقيقة ليس في وسع الأستاذ مطر ، ولا
الأستاذ فراس السواح ، إلغاؤها باجتهاد متحيز .
أصل العرب :
لا
يكتفي الأستاذ مطر بجعل بادية الشام وطناً أصلياً للأقوام ( السامية ) بل
يجعلها وطناً أصلياً للعرب أنفسهم ، ويتبنى في ذلك تقسيماً أسطورياً حول
أصل العرب وضعه الأخباريون والنسابون بعد ظهور الإسلام بمدة طويلة . فقد
قسم هؤلاء العربَ إلى قسمين : عرب بائدة وعرب باقية ، ثم قسموا العرب
الباقية إلى قسمين : عرب عاربة وعرب مستعربة . فأخذ الأستاذ مطر بهذا
التقسيم وكيفه على هواه ، واتخذه هيكلاً لبناء نظريته حول أصل العرب . فقد
وافق على وجود أقوام ( بادت ) بالمعنى الحضاري في الجزيرة العربية ، ولكنه
رأى أن هؤلاء لم يكونوا ( ساميين ) ولا ( عرباً ) بل من أصول هندية
وبلوشية وفارسية ( وفاته أن يضيف إليهم ذوي الأصول الإفريقية ! ) وأطلق
عليهم تسمية ( جنس المحيط الهندي ) . ثم قرر أن ( العرب العاربة ) هم
جماعات سامية ( عراقية كنعانية ) قدمت إلى الجزيرة من الهلال الخصيب عن
طريق البحر ، وأسست لها ( قواعد بحرية ومستعمرات تجارية عديدة في البحرين
وقطر وعمان وحتى اليمن ) . بل هو تحدث عن وجود كنعاني في قطر ، ووجود
فنيقي في سواحل عمان والفجيرة وخور فكان ، وأشار أيضاً إلى دور ( عراقي
كنعاني ) في نقل ما سماه ( الثقافة السامية ) واللغة السامية ( الأكدية
والكنعانية ) إلى الجزيرة وتأسيس أول حضارة نشأت فيها ، وهي في رأيه (
الحضارة السبئية ) في اليمن ويؤرخها بحدود الألف الأول قبل الميلاد .
أما ( العرب المستعربة ) فهم ، كما يعتقد الأستاذ مطر ، آراميون هاجروا من
( الشمال العراقي- السوري إلى الجزيرة بعد شيوع استخدام الجمل في التنقلات
، وأسسوا هناك أولى معاقل الاستيطان مثل يثرب ومكة ) . ثم أنهى كلامه عن
العرب بما يفيد أن فرضية هجرة ( الساميين ) من الشمال إلى الجزيرة تفسر
لنا الفرق الواضح بين جنسين : غالبية سكان شمال الجزيرة ووسطها هم من ذوي
البشرة الفاتحة ، ثم غالبية سكان الجنوب والسواحل من ذوي البشرة السمراء
وشكل المحيط الهندي .
هكذا بنى الأستاذ مطر نظريته حول أصل العرب .
والحق أنه لا وجود في التاريخ لعرب عاربة وعرب مستعربة ، ولا ذكر لهذا
التقسيم في المصادر القديمة المكتوبة كالسجلات الملكية الآشورية ،
والكتابات اليمنية ، والتوراة اليهودية ، والمؤلفات اليونانية والرومانية
والبيزنطية والسريانية . وهو لم يذكر في الشعر الجاهلي والقرآن الكريم ،
ولا في أحاديث الرسول محمد ( ص ) ، ولم يتحدث به أحد من الخلفاء الراشدين
، ولا حين تنازعت القبائل ( العدنانية ) و( القحطانية ) قبل ظهور الإسلام
، ولا حين تهاجى شعراء المشركين وشعراء الأنصار ، ولكنه ظهر بعد ظهور
الإسلام بمدة طويلة حين نشأت الحاجة إلى تفسير بعض الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية ، ومنها ما يتعلق بالأقوام الخالية وبتاريخ العرب قبل
الإسلام وأنسابهم في خضم الصراعات السياسية التي نشبت بين العرب المسلمين
. والصحيح أن سكان الجزيرة عرب في كثرتهم الكاثرة ، بعضهم كان يقطن اليمن
وحضرموت وظفار وبعضهم انتشر في أنحاء الجزيرة الأخرى ، وقد يصح أن نسميهم
عرب الجنوب وعرب الشمال ، ولكن لا يصح أبداً أن نسميهم بالعرب العاربة
والعرب المستعربة . والغريب أن الأستاذ مطر أخذ بهذا التقسيم المصطنع برغم
أنه يعده ضرباً من ( الحكايات الشعبية ) . فهو يرى أن هذه الحكايات لابد
لها من أصل ، ولكنني أظن أنه فعل ذلك لأن به حاجة إليه لترميم صدوع نظريته
. ومع ذلك سنناقش ما جاء به في هذه النظرية .
العرب البائدة :
العرب البائدة حسب الأخباريين هم : عاد وعبيل وطسم وعمليق وجاسم وحضرموت
والسلف وأميم والعوذ وثمود وجديس ووبار وجرهم الأولى . وعلى الرغم من
تفاوت الأخباريين والنسابين في ذكر أسماء هذه الأقوام فإن كثرتها تدل على
كثرتهم . فعددهم ، كما يقدر بعض المؤرخين ، ثلاثة عشر قوماً . ومع أن
تقسيم العرب إلى بائدة وباقية لا ذكر له في المصادر القديمة المكتوبة قبل
ظهور الإسلام ، فإن عدم ذكره لا ينفي وجود أقوام بادت فعلاً ، أو تشتت ،
أو ذابت في غيرها ، أو نزحت من مواطنها وسميت بأسماء أخرى في مواطنها
الجديدة ، ولم يبق منها سوى ذكريات غامضة تناقلها الرواة والأخباريون
وحاكوا حولها الأساطير على مر القرون . فورود ذكر بعضها ( مثل : عاد وثمود
وطسم وجديس ووبار وعبيل وعمليق ) في المؤلفات الكلاسيكية ، وفي التوراة ،
وفي الشعر الجاهلي ، والقرآن الكريم ، يعني أنها كانت موجودة ، وعدم ذكر
بعضها لا يعني عدم وجودها في الماضي ، أو وجود بعضها في الأقل . وبناء
عليه لا يستبعد ، وهذه وجهة نظر شخصية ، أن بعضها كان ممن هاجر إلى العراق
والشام وعرف في ما بعد باسم آخر ، فأسماء مثل الأكديين والعموريين
والكنعانيين والفنيقيين .. إلخ هي أسماء طارئة على الأقوام التي سميت بها
وليست أسماء أصلية .
إذن فوجود أقوام عُدّت ( بائدة ) بالمعنى
الحضاري في الجزيرة العربية يبدو حقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها ، ولكن
الأستاذ مطر اجتهد فرأى أن هؤلاء ليسوا ( ساميين ) وليسوا ( عرباً ) بل هم
من ( جنس المحيط الهندي ) . وهذا يعني أن الجزيرة كانت خالية إلا من هؤلاء
، وهو افتراض عجيب ، أثبتت التنقيبات المتأخرة في عمان ، في الأقل ، ضعفه
وضلاله .
ترى كيف عرف الأستاذ مطر أن الجزيرة كانت خالية إلا من هؤلاء
، وأن هؤلاء كانوا من جنس المحيط الهندي حصراً ؟ ومن قال ذلك ؟ إنه يستخدم
هنا جملة عامة غامضة يقول فيها ( تخمن البحوث ) أنهم كانوا كذلك ! فهو إذن
يعتمد على ( التخمين ) ليضع افتراضه في مصاف الحقائق التاريخية . ولكنه لا
يقول لنا أية بحوث إنثربولوجية تلك التي أطلقت هذا الزعم فاعتمد عليها ،
فهو لا يحدد هنا ولا يوثق ، بل يتجاوز الأمر ليستدل على وجود تلك الأقوام
، في ذلك الماضي البعيد ، بما يراه اليوم في سواحل الخليج العربي وعمان من
ذوي البشرة السمراء الداكنة ، ويحاول أن يقنعنا بأن هؤلاء هم أحفاد أولئك
، متناسياً كل الموجات التي توافدت على هذه السواحل عبر آلاف السنين بسبب
حركة التجارة ، وكل العمالة الوافدة التي أغرقتها بتدفقاتها خلال النصف
الثاني من القرن العشرين !
ولكي يتفادى الأستاذ مطر أي سؤال عما ترك
هؤلاء من آثار حضارية أو كتابية تدل على وجودهم وطبيعة ثقافتهم ، بعد أن
بادوا ، فإنه يخبرنا بأنهم ظلوا يعيشون في العصر الحجري حتى الألف السابق
للميلاد ، أي حتى قدوم الساميين إلى الجزيرة كما يقول . وهو يحدد هذا
التاريخ حتى لا يحتج عليه أحد بعدم وجود آثار مادية أو كتابية تدل على
وجودهم في الجزيرة وسواحلها قبل العرب أجمعين ؟
إنني لا أنفي احتمال
وجود أفراد من ذلك الجنس على تلك السواحل منذ القدم ، ولكنني أستبعد أن
يكونوا أكثر من أقلية صغيرة مشتتة جاءت بها حركة التجارة بين بلاد
الرافدين والهند على مدى ثلاثة آلاف عام ، وأتوقع أن عددهم قد زاد حين
نشطت حركة التجارة بين سواحل الخليج العربي واليمن والبحر الأبيض المتوسط
خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد ، ولكنهم ليسوا من سكان
الجزيرة الأصليين في أية حال . إنهم جالية وافدة لا أكثر ولا أقل ، شأنها
شأن الجالية الرافدينية المحتمل وجودها هناك . فهم ليسوا العرب البائدة
كما يرى الأستاذ مطر ، بل هم وافدون كما يطلق على أمثالهم في الخليج اليوم
.
وثمة حقيقة أخرى تؤكد ذلك ولم يلتفت إليها الأستاذ مطر على ما يبدو
، وهي أن الإشارات الواردة عن العرب البائدة في المؤلفات اليونانية
والرومانية ، وفي التوراة ، وفي الشعر الجاهلي والقرآن الكريم ، تبين أنهم
لم يكونوا كلهم من سكان السواحل ، فبعضهم كان يستوطن الحجاز ، وبعضهم كان
يستوطن اليمن وحضرموت ، وبعضهم كان في الأحقاف ، وبعضهم في اليمامة ،
وبعضهم في عمان ، أي أنهم كانوا منتشرين في شتى أرجاء الجزيرة وليس في
سواحلها الشرقية والجنوبية فحسب ، فهم هم مواطنوها الأصليون وليسوا أولئك
الذين وفدوا على تلك السواحل من الهند أو غيرها بفعل حركة التجارة بين
الهند والجزيرة العربية وبلاد الرافدين .
وبعد هذا كله علي أن أذكر
أن تنقيبات أجراها ( عام 1992 ) فريق من رجال الآثار البريطانيين
والاميركيين بالاشتراك مع باحثين عمانيين يقودهم رانولف فاينز ، كشفت عن
بقايا مدينة في صحراء الربع الخالي جنوبي سلطنة عمان . وقد أعلن هذا
الفريق أن هذه المدينة هي ( وبار ) التي ذكرها بطليموس من المؤلفين
الكلاسيكيين ( وذكرها الأعشى من شعراء الجاهلية في إحدى قصائده ) . وقدر
عمرها بين ( 2800 ق. م. 300 م. ) . أما هذه التنقيبات فجرت استنادا إلى
صور التقطها رادار وضع على المكوك الفضائي الأميركي 'تشالنجر' يصاحبه قمر
صناعي لرسم الخرائط كشف وجود هذه المدينة مطمورة تحت الرمال . وأظهرت
الصور آثار نبع قديم للماء جف منذ عهد بعيد جداً ، فقرر فاينز الحفر في
الموقع الذي حددته ، وحين أزيحت الرمال في هذا الموقع انكشفت عن بقايا
مدينة ذات أسوار وأبراج ، عثر فيها على جدران عريضة ، وقواعد لأبراج حراسة
، وعدة أعمدة ، ولقى أثرية منزلية ، وتبين أن المنطقة التي كشف عنها ،
تربض على جرف كلسي فوق بحيرة من المياه الجوفية . وذهب بعضهم إلى أن هذه
المدينة هي إرم ذات العماد التي ذكرت في القرآن الكريم ، وهذا احتمال لا
يجوز إهماله ، لأن قوم عاد كانوا يقطنون هذه المنطقة ( الأحقاف ) وكانوا
من الأقوام الكبيرة ، بعضهم باد فعلاً بفعل الكارثة التي حلت بهم ، وبعضهم
نزح إلى شمال غربي الجزيرة .
وسواء كانت هذه المدينة هي وبار ، أم إرم ذات العماد ، أم غيرهما ، فإن اكتشافها يدل على ما يأتي :
_ إن وجود أقوام جزرية بادت حقيقة تاريخية ، وإن الجزيرة العربية لم تكن
خالية من السكان الأصليين ( الساميين ) كما يتوهم الأستاذ مطر أو سواه .
_ إن التصحر المطّرد الذي أصاب الجزيرة حقيقة أخرى والدليل على ذلك ( وبار
) التي وجدت مطمورة تحت رمال صحراء الربع الخالي ، وأن الكوارث الطبيعية
التي حلت بسكان الجزيرة حقيقة ثالثة ، وهذه الحقيقة وتلك كانتا تدفعان
هؤلاء السكان إلى النزوح منها والبحث عن أوطان أخرى من حقبة إلى أخرى .
_ إن تاريخ الحضارة في الجزيرة العربية يعود إلى أقدم العصور ، وأن سكان
الجزيرة لم يكونوا يعيشون في العصر الحجري حتى ( الألف السابق الميلاد )
كما ذهب الظن بالأستاذ مطر ، فتاريخ وبار يعود إلى ( 2800 ق. م. ) وآثارها
تدل على أن أهلها كانوا قد غادروا العصر الحجري منذ زمن بعيد .
_ إن
هناك الكثير من الحقائق التي تتعلق بتاريخ الجزيرة وسكانها ما يزال
مطموراً ولم تكشف التنقيبات إلا عن القليل جداً منه . ولذا لا يجوز
الإسراف في بناء الفرضيات واستخلاص استنتاجات قاطعة منها في هذا الشأن ،
على نحو ما فعل الأستاذ مطر .
العرب العاربة :
ولكن الأستاذ مطر
الذي أخلى الجزيرة العربية من سكانها الأصليين ، وجعل من العرب البائدة
مجرد أناس من جنس المحيط الهندي ، لم يفعل ذلك إلا ليملأها في ما بعد بعرب
عاربة وعرب مستعربة يستوردهم من خارجها !
فهو يرى أن العرب العاربة
جماعات سامية ( عراقية _ كنعانية ) جاءت من الهلال الخصيب إلى سواحل
الخليج العرب ( عن طريق البحر ) خلال ألفي عام من ظهور الحضارة في العراق
والشام ، أي قبل الألف الأول للميلاد ، وأنهم نقلوا إليها الثقافة السامية
، واللغة السامية ، وأسسوا أول حضارة فيها هي الحضارة السبئية .
إن
وجود جاليات عراقية ( مجرد جاليات ) لها قواعد بحرية ومستوطنات في سواحل
الخليج العربي في الحقبة التي يشير إليها الأستاذ مطر أمر محتمل جداً ، بل
أكيد . فالتجار العراقيون كانوا على صلة وثيقة بدلمون ( البحرين ) ومكان (
عمان ) وملوخا ( الهند ، أو جنوب الجزيرة عامة ، أو بلاد النوبة ، أو
الحبشة حسب الآشوريين ) منذ العهد السومري ، وتوثقت هذه الصلة في العهد
الأكدي بعد تجريد كل من سرجون الأكدي وحفيده نرام _ سين حملة عسكرية عليها
، واستمر الأمر على ذلك في العهود اللاحقة حتى بعد سقوط الدولة الكلدية (
539 ق. م. ) ولكن من التعسف أن يحشر الأستاذ مطر اسم الكنعانيين
والفنيقيين في هذه المسألة .
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: الساميون والعرب، أصلهم من العراق والشام أم من الجزيرة العربية؟! / سليم مطر
فمن المستبعد تماماً أن تصل إلى هناك ( عن طريق البحر ، كما يقول ) جماعات
كنعانية أو فنيقية في تلك الحقبة المبكرة من التاريخ ، لأن هذا الأمر
يتطلب ، فضلاً عن المعرفة بالمسالك المائية والمرافيء الساحلية ، رحلة
طويلة جداً وشاقة جداً تستغرق ثلاث سنوات في الأقل ، فهي تستوجب الدوران
حول القارة الإفريقية وجنوب الجزيرة العربية بأكمله وصولاً إلى عمان
وسواحل الخليج العربي . والواقع ، كما يحدثنا التاريخ ، أن الفنيقيين لم
يبدأوا باكتشاف سواحل إفريقيا الشمالية وتأسيس مواطيء لأقدامهم في السواحل
التونسية ، ثم السواحل الجزائرية ، إلا في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد
، وهم لم يؤسسوا قرطاج إلا في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد ( نحو 812
ق. م. ) في عهد الملك بغماليون ، وهم لم يجرؤوا حتى أواخر الألف الثاني
قبل الميلاد على الذهاب بعيداً في استكشاف شواطيء الأطلسي ، فالشواطيء
الأطلسية في شمال المملكة المغربية هي أبعد ما ذهبوا إليه ، فكيف يمكنهم
أن يخطوا خطوة جبارة كهذه التي يتحدث بها الأستاذ مطر ؟ ثم أن التاريخ لم
يحدثنا عن رحلة ( أو رحلات ) كنعانية أو فنيقية مثل هذه قط ، بل حدثنا عن
نشاط بحري مصري ، تجاري وعسكري ، في البحر الأحمر منذ عهد الملكة حتشسبوت
. وحدثنا عن حملة عسكرية من 400 سفينة جردها رمسيس الثاني ( 1290 1224 ق.
م. ) ووصل بها حتى نهر الجانج في الهند . ولم يرد اسم الكنعانيين أو
الفنيقيين في نشاط بحري من هذا النوع إلا في زمن متأخر جداً ، عندما أمر
الفرعون نيخو ( 609 593 ق. م. ) بإرسال بعثة مصرية ( فيها فنيقيون )
للدوران حول القارة الإفريقية عبر البحر الأحمر ، وعادت البعثة بعد ثلاث
سنوات إلى الشواطيء المصرية في البحر الأبيض المتوسط ، أي أنها لم تذهب
إلى عمان وسواحل الخليج .
إن الاحتمال الوحيد الذي يمكن أن يصل فيه
كنعانيون أو فنيقيون إلى سواحل الخليج العربي هو البر ، وليس في تلك
الحقبة المبكرة من التاريخ بل خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل
الميلاد . والطريق الوحيد الذي كان يمكن أن يسلكوه هو الطريق البري الممتد
من سواحل البحر الأبيض المتوسط إلى جرها ( الجرعاء ) والذي نشطت حركة
التجارة عليه بفضل الكلديين الفارين بعد سقوط مملكتهم في بابل ( 539 ق. م.
) . ولم ينشأ طريق بري آخر بين بلاد الشام وسواحل الخليج العربي إلا في
عهد مملكة تدمر ، وكان هذا الطريق يسير بمحاذاة نهر الفرات حتى يصل مدينة
( فورات ) في مملكة ميسان جنوبي العراق ، ومنها إلى الخليج العربي .
ومهما يكن الحديث عن وصول كنعانيين وفنيقيين إلى سواحل الخليج ، فإننا لا
يمكن أن نتحدث إلا عن أفراد قلائل ، أو جماعة صغيرة جاءت في زمن متأخر ولم
يكن لها وزن في التركيب السكاني ، وليس عن قواعد بحرية ومستوطنات ذات دور
وتأثير .
السبئيون :
أما السبئيون فحديثهم حديث آخر . فقد اختزل
بهم الأستاذ مطر تاريخ اليمن كله وأقوام اليمن كلها ( من معينيين
وقتبانيين وحضارمة وأوسانيين وحميريين ) وهذا تجاوز على حقائق تاريخية
كثيرة ، منها أن المعينيين سبقوا السبئيين إلى تأسيس دولتهم وخطوطهم
التجارية بعدة قرون ، وأنهم هم من ابتكر الخط المسند وهم أول من كتب به في
أوائل القرن السابع للميلاد ، وقد عثر على نماذج من هذه الكتابات في مناطق
متباعدة من العالم القديم . ومنها أن اليمن شهد نشوء دول بعدد الأقوام
التي ذكرناها ، وكلها عاصر الدولة السبئية ونازعها . ولكن الأستاذ مطر لم
يعط السبئيين هذا الدور إلا لوجود اجتهادات حول أصلهم في كتابات بعض
المختصين بتاريخ اليمن ، يعتقد أنها تساعد في بناء نظريته ، لأنها تنسبهم
إلى الشمال .
إن أول ذكر واضح وصريح ودال للسبئيين ورد في سجلات بعض
الملوك الآشوريين : تغلات بلاصر الثالث ( 745 727 ق. م. ) وسرجون الثاني (
721 705 ق. م. ) وسنحاريب ( 704 681 ق. م. ) . وجاء ذكرهم بمناسبة دفعهم
الجزية وتقديمهم الهدايا لهؤلاء الملوك . ويرى بعض المؤرخين أن الذين
كانوا يفعلون ذلك هم زعماء جالية تجارية سبئية كانت تقطن في الشمال الغربي
من الجزيرة العربية ، وليس ملوك اليمن السبئيين ، ربما باستثناء واحد منهم
هو ( كرب إيلو ) ، في حين يرى مؤرخون آخرون ، كتوينبي مثلاً ، أن المعنيين
هم أولئك الملوك أنفسهم .
ولكن ما يهمنا هنا هو أصل السبئيين .
فالأستاذ مطر يعتقد أنهم آراميون هاجروا إلى الجزيرة العربية مما يسميه
بعبارة غامضة ( الشمال العراقي السوري ) وأسسوا في اليمن أول حضارة نشأت
في الجزيرة العربية . والواقع أن هناك اجتهادات لبعض الباحثين المعنيين
يتاريخ اليمن تفيد بأن السبئيين جاءوا إلى اليمن من خارجها . ويبدو أن هذه
الاجتهادات قد بنيت أصلاً على كتابة سبئية ذكر فيها أن المكرب ( سمه علي )
قدم إلى معبود سبأ ( المقة ) البخور والمرّ لأنه ( قادهم من البرية إلى
أرض تفيض عسلاً ولبناً ) . وبناء على هذه الكتابة ، أو لسبب آخر ، رأى
مونتغمري أن أصل السبئيين يعود إلى منطقة ( العرب الصحراوية ) وأنهم
هاجروا إلى اليمن في وقت غير معروف . أما أولبرايت فيرى أنهم استقروا في
اليمن في حدود القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، بينما يرى أوليري ( أن من
الممكن ) أن تكون مملكة السبئيين قد ظهرت أولاً في ( عرب الشمال ) ثم
تحركوا نحو الجنوب تحت ضغط الهجمات الآشورية على المناطق الشمالية من
جزيرة العرب حوالي القرن الثامن قبل الميلاد ، وهذا ما ذهب إليه فرانتز
هومل أيضاً .
ويفهم مما تقدم ثلاثة أمور في الأقل أولها : أن هؤلاء
العلماء تحدثوا بشأن هجرة السبئيين من الشمال إلى الجنوب عن ( احتمالات )
قابلة للنقاش وليس عن حقائق قطعية مؤكدة ، فلم يجزم أي منهم بشيء كما جزم
الأستاذ مطر . وثانيها : أن السبئيين نزحوا من ( العربية الصحراوية ) حسب
مونتغمري ، وأنهم من ( عرب الشمال ) حسب أوليري وهومل ، ولم يقل أي من
هؤلاء أنهم ( آراميون ) جاؤوا من الشمال العراقي السوري ، كما قال الأستاذ
مطر . وثالثها : أن وجود المعينيين في اليمن أسبق من وجود السبئيين ، فمن
المتفق عليه أن المعينيين أسسوا دولتهم في اليمن في حدود ( 1500 ق. م. )
وهم أول من أسس دولة في اليمن ، ومن اخترع الكتابة بالخط المسند ، وليس
السبئيين .
ولنسأل الأستاذ مطر الآن : إذا كان السبئيون آراميين ،
فلماذا لم ينزحوا كبني عمومتهم إلى عمق بلاد الشام ، أو إلى بلاد الرافدين
، بدلاً من التوغل في الجزيرة العربية واجتياز الحجاز كله للوصول إلى
اليمن ؟ أليس العراق والشام أقرب إليهم ؟ ثم لماذا لم يستوطنوا الحجاز إذا
كان خالياً من السكان كما يفترض هو نفسه ؟ وإذا كانت حجته في نزوح
السبئيين المفترض هي ( ضغط الهجمات الآشورية ) كحجة أوليري وهومل ، فهي
حجة مردودة ، لأن من كان يعاني من ضغط الهجمات هم الآشوريون أنفسهم وليس
غيرهم . فالقبائل البدوية هي التي كانت تهيمن على طرق التجارة وتتحكم بها
وتغير على القوافل وتقطع الطرق ، وكان هذا مما يضني الآشوريين ، ومن بعدهم
الكلديين ، ويضطرهم إلى تجريد حملات عسكرية سنوية ، أو شبه سنوية ، لتأمين
هذه الطرق وحمايتها بحاميات عسكرية . وإذا سلمنا جدلاً بأن السبئيين عانوا
من ضغط الهجمات الآشورية ، فأي الأقوام لم يعان من ضغط هذه الهجمات في تلك
الحقبة ؟ ولكن أيها ترك موطنه ورحل بسببها ؟!
إن هجرة السبئيين (
وأقوام اليمن الأخرى ) إلى هذا البلد فرضية ضعيفة أصلاً ، في رأيي ، فهي
تقوم على تصورات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة ، وهي لا تستند إلى
آثار مادية أو كتابية ، أو إلى أي دليل ملموس . والأقرب إلى المنطق هو أن
هذه الأقوام ، ومنهم السبئيون ، هم سكان البلد الأصليون ، وليسوا مهاجرين
. ذلك لأن بلداً معتدل المناخ ، وفير المياه ، تكثر فيه الوديان والسهول
والنباتات والحيوانات والمراعي والمروج لا يمكن أن يخلو من البشر وتظهر
فيه فجأة مجموعات كبيرة ومنتشرة من البشر ، تنشيء المدن ، وتنظم الري ،
وتقيم السدود ، وتؤسس الممالك ، وتخترع لنفسها نوعاً خاصاً من الكتابة ،
وتضع نظاماً دقيقاً ومتكاملاً لتجارتها الدولية ، خلال حقبة قصيرة من
الزمن لا تتجاوز عدة قرون . فهذا لا يكون إلا نتيجة تطور طبيعي طويل الأمد
. وكل ما في الأمر أن اليمن كانت بعيدة عن مراكز الحضارة القديمة ، وظلت
شبه معزولة عن غيرها ، فتباطأ تطورها ، وتأخر ظهور الحضارة وتأسيس الممالك
والدول فيها .
والواقع أن المعنيين بتاريخ اليمن القديم لم يتحدثوا
بوضوح عن أصول الأقوام اليمنية ، واكتفوا بافتراض أنها أقوام مهاجرة ،
وركزوا في حديثهم عن ذلك على هجرة السبئيين المفترضة ، وتصوروا أنهم من
جاؤوا من شمال غربي الجزيرة العربية كما ذكرنا ، لأن السجلات الملكية
الآشورية ، والتوراة اليهودية ، وبعض المؤلفات الكلاسيكية ، تحدثت عن وجود
سبئيين هناك ، وفاتهم أن هؤلاء كانوا مجرد جالية تجارية تمثل مملكة سبأ في
الجنوب ، ولم تقم هناك ( في الشمال ) أية مملكة سبئية . فوجود جاليات
تجارية يمنية في تلك المنطقة كان قائماً منذ العهود الأولى لنشأة الدولة
المعينية . وقد كانت للمعينيين هناك مستعمرتان تجاريتان هما ديدان ( العلا
) وحجر ( مدائن صالح ) . وكان يشرف على تنظيم أمور الجالية المعينية رئيس
يدعى ( كبير ) ، وكان هذا الكبير يمثل الملوك المعينيين ويأتمر بأوامرهم ،
وقل الشيء نفسه عن وجود السبئيين في المنطقة . فهم نافسوا المعينيين في
تجارتهم في باديء الأمر ، ثم حلوا محلهم وأصبحت لهم جاليتهم هناك ، أما
وطنهم الأصلي فهو اليمن نفسها .
ومن يدرس تاريخ اليمن بعناية لابد له
أن يلاحظ أن هذا البلد كان مصدراً من مصادر الهجرات إلى خارج الجزيرة
العربية ، وليس العكس ، منذ أن مكنت التجارة أبناءه من اكتشاف العالم
البعيد عنهم . وقد كانت التجارة والحروب الداخلية والكوارث الطبيعية أهم
أسباب هجراتهم المتوالية إلى خارج بلادهم . فاللحيانيون الذين أسسوا مملكة
في الشمال هم يمنيون ، وقل مثل ذلك عن المعينيين الذين انتشرت كتاباتهم في
شتى أصقاع العالم القديم ، من العراق حتى مصر ومن العلا وحجر حتى جزيرة
ديلوس في بحر إيجة ، وعن السبئيين الذين ذكرتهم السجلات الملكية الآشورية
والتوراة اليهودية . وقد استمرت هجرات اليمنيين من بلادهم إلى الشمال (
داخل الجزيرة وخارجها ) حتى ظهور الإسلام ، وكانوا في الإسلام من أوائل
المهاجرين والفاتحين .
العرب المستعربة :
إذا كان الأستاذ مطر
يتكيء على آراء بعض العلماء ، بعد أن يكيفها لخدمة رأيه ، حول وطن
السبئيين الأول ، ويحدد لهجرتهم إلى اليمن تاريخ الألف الأول قبل الميلاد
، فيعدهم من العرب العاربة ، فإنه يعتمد على خياله فقط حول هجرة من يسميهم
العرب المستعربة إلى الجزيرة العربية . فهو يقطع من دون سند أو دليل بأنهم
آراميون هاجروا مما يسميه هذه المرة ( الشمال العراقي الشامي ) ولا يحدد
أي تاريخ واضح لهجرتهم ، ويقول عنهم بلا تردد : إن ( الجرأة ) بلغت بهم حد
( أنهم راحوا يغوصون جنوباً في صحارى الجزيرة العربية نحو سواحل الخليج
وواحات الحجاز ليؤسسوا أولى معاقل الاستيطان مثل يثرب ومكة ) .
وهنا
نعيد سؤالنا السابق بصيغة أخرى : إذا كان هؤلاء آراميين ، فلماذا ( يجرؤون
) على اقتحام الجزيرة ( الصحراوية ) وعلى مقربة منهم الشام والعراق بما
فيهما من خيرات كثيرة ؟ لماذا يصدون عن مناطق ماؤها وفير ومطرها غزير
ويقصدون الحجاز بشحة مائه وقلة مطره ؟ وما الذي يدفعهم إلى اختراق صحراء
نجد لاستيطان الخليج العربي ؟ ومتى وقع هذا على سبيل الاحتمال ؟
الأستاذ مطر لا يحدد هنا تاريخاً ، بل يحيلنا إلى جفاف أصاب بادية الشام
خلال الحقبة الممتدة بين القرنين السادس عشر والثاني عشر قبل الميلاد ،
ويفترض أنه هو الذي كان وراء نزوحهم إلى الجزيرة العربية . ولكن الجفاف
الذي أصاب الجزيرة في هذه الحقبة كان أقسى بكثير مما هو في البادية ،
فلماذا ينزح إليها هؤلاء الآراميون؟ أليس نزوحهم إليها يخالف المنطق
المعقول ؟ إن المنطقي هو أنهم جزريون نزحوا من الجزيرة إلى بادية الشام
وليس العكس . وإذا كان هؤلاء ممن عاشوا في المناطق الهامشية من سورية
وفلسطين ، كما يقول الأستاذ مطر ، فلماذا لم يجتاحوا ، كغيرهم ، المراكز
المتحضرة والمناطق الخصيبة القريبة منهم بدلاً من هذا التوغل المتخيل في
الجزيرة العربية ؟
ثمة إشارات عديدة في الشعر الجاهلي ، وآيات قرآنية
عديدة ، ومفردات لغوية كثيرة تتعلق بإرم وتصاريفها ودلالاتها ، لا يستنتج
المرء منها إلا أن الآراميين كانوا قوماً من أقوام الجزيرة العربية ثم
نزحوا منها نحو الشام ، ولكن وجودهم السابق في الجزيرة والمصير الذي آلوا
إليه بقي في الذاكرة العربية الجمعية ، فعدوا من العرب البائدة بوصفهم من
قوم عاد . وإلى مثل هذا ذهب الباحث فاضل الربيعي في كتابه : إرم ذات
العماد . بل هذا ما يؤيده التاريخ المكتوب أصلاً . فهو يخبرنا بأن
الآراميين قصدوا ، في هذه الحقبة بالذات ، المناطق الخصيبة من بلاد الشام
فأسسوا إمارات صغيرة على ضفاف الفرات الأعلى وفروعه ( الخابور ، البليخ ،
الساجور ) وفي سنجرلي وحران وحماه ودمشق وجبل الشيخ ( في سورية ) والبقاع
( في لبنان ) ، واتجه قسم منهم نحو العراق من أقصى شماله الغربي ( في
الجزيرة ) حتى جنوبه ، ودخلوا في صراعات دامية مع الدولتين الآشورية
والبابلية ، وكانت الحملات العسكرية الآشورية السنوية هي السبب في عدم
تمكنهم من إنشاء دولة كبيرة ذات شأن في سورية . وهذا كله تاريخي ، وكله
منطقي ، ولكن ليس من التاريخ ، ولا من المنطق ، أن يقال : إن ( الجرأة )
بلغت بهؤلاء الآراميين حد ( أنهم راحوا يغوصون جنوباً في صحارى الجزيرة
العربية نحو سواحل الخليج العربي والحجاز ) . فالهجرة تكون عادة من
المناطق المجدبة والفقيرة إلى المناطق الخصيبة وليس العكس . والمسألة هنا
ليست مسألة ( جرأة ) كما صورها لنا خيال الأستاذ مطر ، بل مسألة حقائق
تاريخية ومنطق معقول . وأخيراً ما الدليل على أنهم نزحوا إلى الجزيرة ؟
وماذا تركوا فيها من آثار تدل على هذا النزوح ؟ ولماذا لم يكتبوا ، أو
ينشروا الكتابة ، في الحجاز وسواحل الخليج كما فعل السبئيون في اليمن على
حد قول الأستاذ مطر ؟ ولماذا ظلوا يجهلون الكتابة حتى القرون الميلادية
الأولى ؟
وهكذا يظهر مما تقدم أن فرضيات الأستاذ مطر حول العرب
البائدة ، والعرب العاربة ، والعرب المستعربة فرضيات خيالية ، يرفضها
المنطق ، وتنقضها الحقائق التاريخية . فمصدر الهجرات هو الجزيرة العربية
وليس بادية الشام ، ولم تكن بادية الشام سوى محطة من محطات الهجرة إلى
المناطق الخصيبة في الشام والعراق .
العرب في المدونات التاريخية :
يبدو أن أول ذكر للعرب في المدونات التاريخية جاء في السجلات الملكية
الآشورية ، وأول من ذُكِر منهم ملك ( زعيم قبيلة ) يدعى جندب ( جندبو )
جهز حلفاً مضاداً للآشوريين بألف جمل ، فذكره الملك شلمانصر الثالث في ما
دون عن معركة قرقر ( 853 ق. م. ) في سجلاته . ثم تتالى ذكر شخصيات عربية
أخرى في سجلات الملوك الآشوريين اللاحقين . فتغلات بلاصر الثالث ( 745 727
ق. م. ) ذكر زبيبة ( زبيبي ) ملكة بلاد العرب ( ماتو أريبي ) التي تلقى
منها أتاوة ضخمة تدل على عظمة ثرائها . وذكر سرجون الثاني ( 722 705 ق. م.
) ما تلقى من شمس ( سمسي ) ملكة بلاد العرب . ويخبرنا الملك سنحاريب ( 705
681 ق. م. ) أنه قاد حملة عسكرية على تلخونو ملكة بلاد العرب ( في وسط
الصحراء ) وعلى خزعل ( خزائلو ) ملك العرب ، واستلب أصنام مملكته ، وأخذ
ابنته توبة ( تبوءة ) رهينة عنده . أما آسرحدون فيخبرنا أنه تسلم من خزعل
أتاوة كبيرة فأعاد إليه أصنام مملكته التي استلبها أبوه سنحاريب ، ونصب
توبة ( تبوءة ) التي تربت في كنف أبيه أميرة على العرب ( أريبي ) . وقد
صور الآشوريون العرب في آثارهم وهم يركبون جمالهم ويلبسون ملابسهم المميزة
، وأقدم صورة لهم هي تلك التي عثر عليها في قصر تغلات بلاصر الثالث في
كالح ( كالخو ) وقد ظهر فيها عربي على جمل وفي أثره فارس آشوري .
وليس
هذا كل ما جاء عن العرب في السجلات الملكية الآشورية ، ولكننا نكتفي بما
ذكرنا لأنه يفي بالغرض . ويذكر جورج رو ( المصدر المفضل لدى الأستاذ مطر )
أن العرب كانوا آنذاك في بادية الشام بأعداد غفيرة . ويقول هاري ساكز إن
آشور كانت على اتصال بعرب الصحراء منذ عهد تغلات بلاصر الثالث في أقل
تقدير . وكان الآشوريون يبسطون نفوذهم تدريجياً في الصحراء . وقد استمر
آسرحدون في هذه السياسة ، إذ زاد السيطرة الآشورية من خلال التدخل بين
الزعامات العربية المتنافسة وتقريب من يرضى منهم بالسيادة الآشورية .
وليست السجلات الآشورية وحدها ذكرت العرب ، بل ذكرتهم أيضاً التوراة
اليهودية ، ثم المصادر اليونانية والرومانية ، فالبيزنطية والسريانية .
غير أن هذا لا يعني أنهم وجدوا على الأرض عندما ذكرتهم هذه المصادر أول
مرة في عهد الملك الآشوري شلمانصر الثالث ، بل يعني أنهم صاروا يذكرون
عندما كثر عدد النازحين منهم إلى بادية الشام وأصبحوا إحدى القوى المؤثرة
في حسابات القوى والممالك الإقليمية ابتداء من القرن التاسع قبل الميلاد
في الأقل .
ويلاحظ مما ذكر عن العرب في السجلات الملكية الآشورية ،
بوصفها أقدم المدونات التي ذكرتهم ، أن نزوحهم من الجزيرة إلى بادية الشام
قد تزايد ، وتأثيرهم تنامى ، خلال القرون الثلاثة الأخيرة من عمر الدولة
الآشورية . وكانوا عدة قبائل متنافسة ، يتزعم بعضها رجال وبعضها نساء (
وهذه ظاهرة لافتة للنظر ) . وهم لم يكونوا بدواً أو رعاة كلهم ، بل كانت
لبعضهم مستوطنات وحصون في الأطراف الشمالية من الجزيرة ، وكان بعض هؤلاء
على ثراء بناء على ما كانوا يدفعونه للآشوريين من أتاوات باهظة . ولكن
الأهم من ذلك أنهم كانوا يذكرون بوصفهم قوماً غير الأقوام الأخرى . فقد
ميزتهم تلك السجلات ، وكذلك المصادر الأخرى ، عن الآراميين والأحلاميين
والكلديين والسبئيين حيثما ذكروا معهم ، بغض النظر عما بينهم جميعاً من
أصول عرقية ولغوية مشتركة ، وعما نشأ بينهم من تحالفات أو ما نشب من
نزاعات . فهم عرب ( A-ri-bi ) ، ويتصل ذكرهم بالصحراء فهي بلاد العرب (
ماتو أريبي ) وبالجمال فهي وسيلة النقل المميزة عنهم ، وبالخيام التي يفخر
الملوك الآشوريون بحرقها . وكانت لهم أسماؤهم المميزة عن أسماء أبناء
الأقوام الأخرى ، ولهم زعماؤهم ، ودورهم في صراعات القوى والممالك
الإقليمية وأحلافها وحروبها ونزاعاتها . وليس ثمة إشارة واحدة تصفهم بأنهم
آراميون أو تحيلهم إلى الآراميين .
الغريب أن الأستاذ مطر يصر على أن
المقصود بـ ( بلاد العرب ) أو ( أرض العرب ) التي ترد في النصوص الآشورية
هو بادية الشام وليس الجزيرة العربية ، مع أن هذه النصوص تشير إلى الصحراء
وعمق الصحراء بوضوح . يقول سرجون الثاني في سجلاته ( بناء على نبوءة صادقة
من إلهي آشور سرت وقهرت ( ... ) العرب الذين يعيشون بعيداً في الصحراء ،
والذين لا يعرفون البحار ولا الرؤساء ، ولم يدفعوا جزية لملك ) . وواضح من
هذا النص أن المقصود هنا بالصحراء هو جزيرة العرب وليس البادية الشام .
ويقول فراس السواح في كتابه ( الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم / ص
290 ) ( إن الكلمة الآشورية ( أريبي ) هي نسبة إلى العرب ، وأن هؤلاء هم
شعب كبير متنوع في تقسيماته ومتوزع في مختلف أنحاء الجزيرة العربية ) .
وتوينبي الذي يستشهد به الأستاذ مطر حول تاريخ تدجين الجمل ، يحيل ما ورد
في النصوص الآشورية إلى الجزيرة العربية وليس إلى بادية الشام ، في الصفحة
التي تسبق الصفحة التي يحيلنا إليها الأستاذ مطر من كتاب : تاريخ البشرية
(1 /203 ) .
ومما ينبغي التذكير به أن خروج بعض القبائل العربية من
الجزيرة في تلك الحقبة قد بدأ بالتواجد في أطرافها الشمالية الغربية ،
وخاصة مثلث ( تيماء دومة الجندل بطرا ) وواحاته وما حولها ، ثم امتد غرباً
نحو فلسطين وسيناء ، وشمالاً وشرقاً في بوادي العراق والشام ، إلى أن
وجدوا فرصتهم الكبيرة بعد سقوط الدولة الآشورية ( 612 ق. م. ) ثم سقوط
الدولة الكلدية ( 539 ق. م. ) ، فانتشروا غربي الفرات ، ثم عبروه ، بحيث
أصبحت المنطقة الشمالية الغربية من العراق ، المحصورة بين دجلة والفرات ،
تعرف باسم (عربايا) بعد قرن واحد من سقوط الدولة الآشورية . وقد وردت هذه
التسمية ، كما ذكرنا من قبل ، في كتابة بهستون بوصف ( عربايا ) من أقاليم
الإمبرطورية الفارسية الإخمينية في نهاية القرن السادس قبل الميلاد ، وصار
للعرب يومها دور في الصراع بين الفرس واليونانيين . ومن هنا جاء ذكرهم في
مسرحيتي برومثيوس والفرس لأسخيلوس ( 525 456 ق. م. ) .
ويبدو أن موجات
نزوحهم من الجزيرة قد ازدادت خلال هذه الحقبة فاندفعت موجة منهم غرباً
واستولت على مملكة الأنباط في بطرا ، وأسست هناك مملكة عربية حكمها عشرة
ملوك عرب أولهم حارثة الأول ( 169 120 ق. م. ) وآخرهم رب إيل الثاني ( 70
106 م ) . واندفعت موجة أخرى شرقاً وأسست بين دجلة والفرات مملكة عربية
أخرى هي مملكة الحضر ( 85 _ 241 م ) وعرفت باسم عربايا أيضاً . وقد سقطت
الأولى على أيدي الرومان عام ( 106 م ) وسقطت الثانية على أيدي الفرس عام
( 241 م ) . ولم تكد تسقط هاتان المملكتان حتى نشأت مملكتان عربيتان
أخريان هما : مملكة المناذرة في العراق ، ومملكة الغساسنة في الشام .
وقد كان سكان هذه الممالك الأربع خليطاً من عرب الجنوب المسمون بـ (
القحطانيين ) وعرب الشمال المسمون بـ ( العدنانيين ) . والدليل على ذلك
أسماؤهم الشخصية وأسماء معبوداتهم التي وجدت في مدافنهم ومعابدهم . ومع أن
ملوك هذه الممالك كانوا من عرب الجنوب ( القحطانيين ) صاروا يلقبون أنفسهم
بلقب ( ملك العرب ) دون تمييز بين جنوبيين وشماليين ، ودون ذكر أسماء
القبائل جنوبية كانت أم شمالية . ولم تظهر أسماء القبائل العربية (
عدنانية وقحطانية ) في المدونات إلا حين نشب صراع عسير طويل الأمد من أجل
الهيمنة على الخطوط التجارية بين مملكة المناذرة في الشمال من جهة ،
والمملكة الحميرية ثم مملكة كندة في الجنوب من جهة أخرى . فقد تطلب هذا
الصراع إخضاع القبائل عرب الشمال المعدية ( العدنانية ) بالقوة ، وفرض
الأتاوات الباهظة عليها ، وارتهان العشرات من أبنائها وتجنيدهم في الحروب
، وتعيين أبناء الملوك رؤساء عليها . وعندئذ أصبحت أسماء القبائل (
عدنانية وقحطانية ) متداولة ، وصار بعضها يظهر في نقوش هذه الممالك
وكتاباتها ، غير أن هذا لا يعني أن هذه القبائل لم تكن موجودة قبل هذه
الحقبة بكثير .
وبعد ، فليس مهماً أن نعرف من أين جاءت كلمة ( عرب )
ومم اشتقت وكيف ، فكل ذلك يخضع للتخمين والتأويل ، شأنها في ذلك شأن
تسميات الأقوام القديمة الأخرى ، ولكن منذ أن استخدمت هذه الكلمة
ومشتقاتها في الكتابات الآشورية وغيرها عني بها قوم مختلفون عن الأقوام
الأخرى المعروفة في تلك الحقبة ، قوم يتصل ذكرهم بالصحراء وبالجمال
والخيام . وقد تحمل الكلمة معنى البداوة في عرف معاصريهم ، أو تعني شيئاً
آخر عرقياً أو غير عرقي ، ولكنها تعنيهم هم ، تعني العرب ولا تعني
الآراميين أو فرعاً من فروعهم . وللأستاذ مطر تحياتي .
القدس العربي
2009/10/05
كنعانية أو فنيقية في تلك الحقبة المبكرة من التاريخ ، لأن هذا الأمر
يتطلب ، فضلاً عن المعرفة بالمسالك المائية والمرافيء الساحلية ، رحلة
طويلة جداً وشاقة جداً تستغرق ثلاث سنوات في الأقل ، فهي تستوجب الدوران
حول القارة الإفريقية وجنوب الجزيرة العربية بأكمله وصولاً إلى عمان
وسواحل الخليج العربي . والواقع ، كما يحدثنا التاريخ ، أن الفنيقيين لم
يبدأوا باكتشاف سواحل إفريقيا الشمالية وتأسيس مواطيء لأقدامهم في السواحل
التونسية ، ثم السواحل الجزائرية ، إلا في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد
، وهم لم يؤسسوا قرطاج إلا في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد ( نحو 812
ق. م. ) في عهد الملك بغماليون ، وهم لم يجرؤوا حتى أواخر الألف الثاني
قبل الميلاد على الذهاب بعيداً في استكشاف شواطيء الأطلسي ، فالشواطيء
الأطلسية في شمال المملكة المغربية هي أبعد ما ذهبوا إليه ، فكيف يمكنهم
أن يخطوا خطوة جبارة كهذه التي يتحدث بها الأستاذ مطر ؟ ثم أن التاريخ لم
يحدثنا عن رحلة ( أو رحلات ) كنعانية أو فنيقية مثل هذه قط ، بل حدثنا عن
نشاط بحري مصري ، تجاري وعسكري ، في البحر الأحمر منذ عهد الملكة حتشسبوت
. وحدثنا عن حملة عسكرية من 400 سفينة جردها رمسيس الثاني ( 1290 1224 ق.
م. ) ووصل بها حتى نهر الجانج في الهند . ولم يرد اسم الكنعانيين أو
الفنيقيين في نشاط بحري من هذا النوع إلا في زمن متأخر جداً ، عندما أمر
الفرعون نيخو ( 609 593 ق. م. ) بإرسال بعثة مصرية ( فيها فنيقيون )
للدوران حول القارة الإفريقية عبر البحر الأحمر ، وعادت البعثة بعد ثلاث
سنوات إلى الشواطيء المصرية في البحر الأبيض المتوسط ، أي أنها لم تذهب
إلى عمان وسواحل الخليج .
إن الاحتمال الوحيد الذي يمكن أن يصل فيه
كنعانيون أو فنيقيون إلى سواحل الخليج العربي هو البر ، وليس في تلك
الحقبة المبكرة من التاريخ بل خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل
الميلاد . والطريق الوحيد الذي كان يمكن أن يسلكوه هو الطريق البري الممتد
من سواحل البحر الأبيض المتوسط إلى جرها ( الجرعاء ) والذي نشطت حركة
التجارة عليه بفضل الكلديين الفارين بعد سقوط مملكتهم في بابل ( 539 ق. م.
) . ولم ينشأ طريق بري آخر بين بلاد الشام وسواحل الخليج العربي إلا في
عهد مملكة تدمر ، وكان هذا الطريق يسير بمحاذاة نهر الفرات حتى يصل مدينة
( فورات ) في مملكة ميسان جنوبي العراق ، ومنها إلى الخليج العربي .
ومهما يكن الحديث عن وصول كنعانيين وفنيقيين إلى سواحل الخليج ، فإننا لا
يمكن أن نتحدث إلا عن أفراد قلائل ، أو جماعة صغيرة جاءت في زمن متأخر ولم
يكن لها وزن في التركيب السكاني ، وليس عن قواعد بحرية ومستوطنات ذات دور
وتأثير .
السبئيون :
أما السبئيون فحديثهم حديث آخر . فقد اختزل
بهم الأستاذ مطر تاريخ اليمن كله وأقوام اليمن كلها ( من معينيين
وقتبانيين وحضارمة وأوسانيين وحميريين ) وهذا تجاوز على حقائق تاريخية
كثيرة ، منها أن المعينيين سبقوا السبئيين إلى تأسيس دولتهم وخطوطهم
التجارية بعدة قرون ، وأنهم هم من ابتكر الخط المسند وهم أول من كتب به في
أوائل القرن السابع للميلاد ، وقد عثر على نماذج من هذه الكتابات في مناطق
متباعدة من العالم القديم . ومنها أن اليمن شهد نشوء دول بعدد الأقوام
التي ذكرناها ، وكلها عاصر الدولة السبئية ونازعها . ولكن الأستاذ مطر لم
يعط السبئيين هذا الدور إلا لوجود اجتهادات حول أصلهم في كتابات بعض
المختصين بتاريخ اليمن ، يعتقد أنها تساعد في بناء نظريته ، لأنها تنسبهم
إلى الشمال .
إن أول ذكر واضح وصريح ودال للسبئيين ورد في سجلات بعض
الملوك الآشوريين : تغلات بلاصر الثالث ( 745 727 ق. م. ) وسرجون الثاني (
721 705 ق. م. ) وسنحاريب ( 704 681 ق. م. ) . وجاء ذكرهم بمناسبة دفعهم
الجزية وتقديمهم الهدايا لهؤلاء الملوك . ويرى بعض المؤرخين أن الذين
كانوا يفعلون ذلك هم زعماء جالية تجارية سبئية كانت تقطن في الشمال الغربي
من الجزيرة العربية ، وليس ملوك اليمن السبئيين ، ربما باستثناء واحد منهم
هو ( كرب إيلو ) ، في حين يرى مؤرخون آخرون ، كتوينبي مثلاً ، أن المعنيين
هم أولئك الملوك أنفسهم .
ولكن ما يهمنا هنا هو أصل السبئيين .
فالأستاذ مطر يعتقد أنهم آراميون هاجروا إلى الجزيرة العربية مما يسميه
بعبارة غامضة ( الشمال العراقي السوري ) وأسسوا في اليمن أول حضارة نشأت
في الجزيرة العربية . والواقع أن هناك اجتهادات لبعض الباحثين المعنيين
يتاريخ اليمن تفيد بأن السبئيين جاءوا إلى اليمن من خارجها . ويبدو أن هذه
الاجتهادات قد بنيت أصلاً على كتابة سبئية ذكر فيها أن المكرب ( سمه علي )
قدم إلى معبود سبأ ( المقة ) البخور والمرّ لأنه ( قادهم من البرية إلى
أرض تفيض عسلاً ولبناً ) . وبناء على هذه الكتابة ، أو لسبب آخر ، رأى
مونتغمري أن أصل السبئيين يعود إلى منطقة ( العرب الصحراوية ) وأنهم
هاجروا إلى اليمن في وقت غير معروف . أما أولبرايت فيرى أنهم استقروا في
اليمن في حدود القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، بينما يرى أوليري ( أن من
الممكن ) أن تكون مملكة السبئيين قد ظهرت أولاً في ( عرب الشمال ) ثم
تحركوا نحو الجنوب تحت ضغط الهجمات الآشورية على المناطق الشمالية من
جزيرة العرب حوالي القرن الثامن قبل الميلاد ، وهذا ما ذهب إليه فرانتز
هومل أيضاً .
ويفهم مما تقدم ثلاثة أمور في الأقل أولها : أن هؤلاء
العلماء تحدثوا بشأن هجرة السبئيين من الشمال إلى الجنوب عن ( احتمالات )
قابلة للنقاش وليس عن حقائق قطعية مؤكدة ، فلم يجزم أي منهم بشيء كما جزم
الأستاذ مطر . وثانيها : أن السبئيين نزحوا من ( العربية الصحراوية ) حسب
مونتغمري ، وأنهم من ( عرب الشمال ) حسب أوليري وهومل ، ولم يقل أي من
هؤلاء أنهم ( آراميون ) جاؤوا من الشمال العراقي السوري ، كما قال الأستاذ
مطر . وثالثها : أن وجود المعينيين في اليمن أسبق من وجود السبئيين ، فمن
المتفق عليه أن المعينيين أسسوا دولتهم في اليمن في حدود ( 1500 ق. م. )
وهم أول من أسس دولة في اليمن ، ومن اخترع الكتابة بالخط المسند ، وليس
السبئيين .
ولنسأل الأستاذ مطر الآن : إذا كان السبئيون آراميين ،
فلماذا لم ينزحوا كبني عمومتهم إلى عمق بلاد الشام ، أو إلى بلاد الرافدين
، بدلاً من التوغل في الجزيرة العربية واجتياز الحجاز كله للوصول إلى
اليمن ؟ أليس العراق والشام أقرب إليهم ؟ ثم لماذا لم يستوطنوا الحجاز إذا
كان خالياً من السكان كما يفترض هو نفسه ؟ وإذا كانت حجته في نزوح
السبئيين المفترض هي ( ضغط الهجمات الآشورية ) كحجة أوليري وهومل ، فهي
حجة مردودة ، لأن من كان يعاني من ضغط الهجمات هم الآشوريون أنفسهم وليس
غيرهم . فالقبائل البدوية هي التي كانت تهيمن على طرق التجارة وتتحكم بها
وتغير على القوافل وتقطع الطرق ، وكان هذا مما يضني الآشوريين ، ومن بعدهم
الكلديين ، ويضطرهم إلى تجريد حملات عسكرية سنوية ، أو شبه سنوية ، لتأمين
هذه الطرق وحمايتها بحاميات عسكرية . وإذا سلمنا جدلاً بأن السبئيين عانوا
من ضغط الهجمات الآشورية ، فأي الأقوام لم يعان من ضغط هذه الهجمات في تلك
الحقبة ؟ ولكن أيها ترك موطنه ورحل بسببها ؟!
إن هجرة السبئيين (
وأقوام اليمن الأخرى ) إلى هذا البلد فرضية ضعيفة أصلاً ، في رأيي ، فهي
تقوم على تصورات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة ، وهي لا تستند إلى
آثار مادية أو كتابية ، أو إلى أي دليل ملموس . والأقرب إلى المنطق هو أن
هذه الأقوام ، ومنهم السبئيون ، هم سكان البلد الأصليون ، وليسوا مهاجرين
. ذلك لأن بلداً معتدل المناخ ، وفير المياه ، تكثر فيه الوديان والسهول
والنباتات والحيوانات والمراعي والمروج لا يمكن أن يخلو من البشر وتظهر
فيه فجأة مجموعات كبيرة ومنتشرة من البشر ، تنشيء المدن ، وتنظم الري ،
وتقيم السدود ، وتؤسس الممالك ، وتخترع لنفسها نوعاً خاصاً من الكتابة ،
وتضع نظاماً دقيقاً ومتكاملاً لتجارتها الدولية ، خلال حقبة قصيرة من
الزمن لا تتجاوز عدة قرون . فهذا لا يكون إلا نتيجة تطور طبيعي طويل الأمد
. وكل ما في الأمر أن اليمن كانت بعيدة عن مراكز الحضارة القديمة ، وظلت
شبه معزولة عن غيرها ، فتباطأ تطورها ، وتأخر ظهور الحضارة وتأسيس الممالك
والدول فيها .
والواقع أن المعنيين بتاريخ اليمن القديم لم يتحدثوا
بوضوح عن أصول الأقوام اليمنية ، واكتفوا بافتراض أنها أقوام مهاجرة ،
وركزوا في حديثهم عن ذلك على هجرة السبئيين المفترضة ، وتصوروا أنهم من
جاؤوا من شمال غربي الجزيرة العربية كما ذكرنا ، لأن السجلات الملكية
الآشورية ، والتوراة اليهودية ، وبعض المؤلفات الكلاسيكية ، تحدثت عن وجود
سبئيين هناك ، وفاتهم أن هؤلاء كانوا مجرد جالية تجارية تمثل مملكة سبأ في
الجنوب ، ولم تقم هناك ( في الشمال ) أية مملكة سبئية . فوجود جاليات
تجارية يمنية في تلك المنطقة كان قائماً منذ العهود الأولى لنشأة الدولة
المعينية . وقد كانت للمعينيين هناك مستعمرتان تجاريتان هما ديدان ( العلا
) وحجر ( مدائن صالح ) . وكان يشرف على تنظيم أمور الجالية المعينية رئيس
يدعى ( كبير ) ، وكان هذا الكبير يمثل الملوك المعينيين ويأتمر بأوامرهم ،
وقل الشيء نفسه عن وجود السبئيين في المنطقة . فهم نافسوا المعينيين في
تجارتهم في باديء الأمر ، ثم حلوا محلهم وأصبحت لهم جاليتهم هناك ، أما
وطنهم الأصلي فهو اليمن نفسها .
ومن يدرس تاريخ اليمن بعناية لابد له
أن يلاحظ أن هذا البلد كان مصدراً من مصادر الهجرات إلى خارج الجزيرة
العربية ، وليس العكس ، منذ أن مكنت التجارة أبناءه من اكتشاف العالم
البعيد عنهم . وقد كانت التجارة والحروب الداخلية والكوارث الطبيعية أهم
أسباب هجراتهم المتوالية إلى خارج بلادهم . فاللحيانيون الذين أسسوا مملكة
في الشمال هم يمنيون ، وقل مثل ذلك عن المعينيين الذين انتشرت كتاباتهم في
شتى أصقاع العالم القديم ، من العراق حتى مصر ومن العلا وحجر حتى جزيرة
ديلوس في بحر إيجة ، وعن السبئيين الذين ذكرتهم السجلات الملكية الآشورية
والتوراة اليهودية . وقد استمرت هجرات اليمنيين من بلادهم إلى الشمال (
داخل الجزيرة وخارجها ) حتى ظهور الإسلام ، وكانوا في الإسلام من أوائل
المهاجرين والفاتحين .
العرب المستعربة :
إذا كان الأستاذ مطر
يتكيء على آراء بعض العلماء ، بعد أن يكيفها لخدمة رأيه ، حول وطن
السبئيين الأول ، ويحدد لهجرتهم إلى اليمن تاريخ الألف الأول قبل الميلاد
، فيعدهم من العرب العاربة ، فإنه يعتمد على خياله فقط حول هجرة من يسميهم
العرب المستعربة إلى الجزيرة العربية . فهو يقطع من دون سند أو دليل بأنهم
آراميون هاجروا مما يسميه هذه المرة ( الشمال العراقي الشامي ) ولا يحدد
أي تاريخ واضح لهجرتهم ، ويقول عنهم بلا تردد : إن ( الجرأة ) بلغت بهم حد
( أنهم راحوا يغوصون جنوباً في صحارى الجزيرة العربية نحو سواحل الخليج
وواحات الحجاز ليؤسسوا أولى معاقل الاستيطان مثل يثرب ومكة ) .
وهنا
نعيد سؤالنا السابق بصيغة أخرى : إذا كان هؤلاء آراميين ، فلماذا ( يجرؤون
) على اقتحام الجزيرة ( الصحراوية ) وعلى مقربة منهم الشام والعراق بما
فيهما من خيرات كثيرة ؟ لماذا يصدون عن مناطق ماؤها وفير ومطرها غزير
ويقصدون الحجاز بشحة مائه وقلة مطره ؟ وما الذي يدفعهم إلى اختراق صحراء
نجد لاستيطان الخليج العربي ؟ ومتى وقع هذا على سبيل الاحتمال ؟
الأستاذ مطر لا يحدد هنا تاريخاً ، بل يحيلنا إلى جفاف أصاب بادية الشام
خلال الحقبة الممتدة بين القرنين السادس عشر والثاني عشر قبل الميلاد ،
ويفترض أنه هو الذي كان وراء نزوحهم إلى الجزيرة العربية . ولكن الجفاف
الذي أصاب الجزيرة في هذه الحقبة كان أقسى بكثير مما هو في البادية ،
فلماذا ينزح إليها هؤلاء الآراميون؟ أليس نزوحهم إليها يخالف المنطق
المعقول ؟ إن المنطقي هو أنهم جزريون نزحوا من الجزيرة إلى بادية الشام
وليس العكس . وإذا كان هؤلاء ممن عاشوا في المناطق الهامشية من سورية
وفلسطين ، كما يقول الأستاذ مطر ، فلماذا لم يجتاحوا ، كغيرهم ، المراكز
المتحضرة والمناطق الخصيبة القريبة منهم بدلاً من هذا التوغل المتخيل في
الجزيرة العربية ؟
ثمة إشارات عديدة في الشعر الجاهلي ، وآيات قرآنية
عديدة ، ومفردات لغوية كثيرة تتعلق بإرم وتصاريفها ودلالاتها ، لا يستنتج
المرء منها إلا أن الآراميين كانوا قوماً من أقوام الجزيرة العربية ثم
نزحوا منها نحو الشام ، ولكن وجودهم السابق في الجزيرة والمصير الذي آلوا
إليه بقي في الذاكرة العربية الجمعية ، فعدوا من العرب البائدة بوصفهم من
قوم عاد . وإلى مثل هذا ذهب الباحث فاضل الربيعي في كتابه : إرم ذات
العماد . بل هذا ما يؤيده التاريخ المكتوب أصلاً . فهو يخبرنا بأن
الآراميين قصدوا ، في هذه الحقبة بالذات ، المناطق الخصيبة من بلاد الشام
فأسسوا إمارات صغيرة على ضفاف الفرات الأعلى وفروعه ( الخابور ، البليخ ،
الساجور ) وفي سنجرلي وحران وحماه ودمشق وجبل الشيخ ( في سورية ) والبقاع
( في لبنان ) ، واتجه قسم منهم نحو العراق من أقصى شماله الغربي ( في
الجزيرة ) حتى جنوبه ، ودخلوا في صراعات دامية مع الدولتين الآشورية
والبابلية ، وكانت الحملات العسكرية الآشورية السنوية هي السبب في عدم
تمكنهم من إنشاء دولة كبيرة ذات شأن في سورية . وهذا كله تاريخي ، وكله
منطقي ، ولكن ليس من التاريخ ، ولا من المنطق ، أن يقال : إن ( الجرأة )
بلغت بهؤلاء الآراميين حد ( أنهم راحوا يغوصون جنوباً في صحارى الجزيرة
العربية نحو سواحل الخليج العربي والحجاز ) . فالهجرة تكون عادة من
المناطق المجدبة والفقيرة إلى المناطق الخصيبة وليس العكس . والمسألة هنا
ليست مسألة ( جرأة ) كما صورها لنا خيال الأستاذ مطر ، بل مسألة حقائق
تاريخية ومنطق معقول . وأخيراً ما الدليل على أنهم نزحوا إلى الجزيرة ؟
وماذا تركوا فيها من آثار تدل على هذا النزوح ؟ ولماذا لم يكتبوا ، أو
ينشروا الكتابة ، في الحجاز وسواحل الخليج كما فعل السبئيون في اليمن على
حد قول الأستاذ مطر ؟ ولماذا ظلوا يجهلون الكتابة حتى القرون الميلادية
الأولى ؟
وهكذا يظهر مما تقدم أن فرضيات الأستاذ مطر حول العرب
البائدة ، والعرب العاربة ، والعرب المستعربة فرضيات خيالية ، يرفضها
المنطق ، وتنقضها الحقائق التاريخية . فمصدر الهجرات هو الجزيرة العربية
وليس بادية الشام ، ولم تكن بادية الشام سوى محطة من محطات الهجرة إلى
المناطق الخصيبة في الشام والعراق .
العرب في المدونات التاريخية :
يبدو أن أول ذكر للعرب في المدونات التاريخية جاء في السجلات الملكية
الآشورية ، وأول من ذُكِر منهم ملك ( زعيم قبيلة ) يدعى جندب ( جندبو )
جهز حلفاً مضاداً للآشوريين بألف جمل ، فذكره الملك شلمانصر الثالث في ما
دون عن معركة قرقر ( 853 ق. م. ) في سجلاته . ثم تتالى ذكر شخصيات عربية
أخرى في سجلات الملوك الآشوريين اللاحقين . فتغلات بلاصر الثالث ( 745 727
ق. م. ) ذكر زبيبة ( زبيبي ) ملكة بلاد العرب ( ماتو أريبي ) التي تلقى
منها أتاوة ضخمة تدل على عظمة ثرائها . وذكر سرجون الثاني ( 722 705 ق. م.
) ما تلقى من شمس ( سمسي ) ملكة بلاد العرب . ويخبرنا الملك سنحاريب ( 705
681 ق. م. ) أنه قاد حملة عسكرية على تلخونو ملكة بلاد العرب ( في وسط
الصحراء ) وعلى خزعل ( خزائلو ) ملك العرب ، واستلب أصنام مملكته ، وأخذ
ابنته توبة ( تبوءة ) رهينة عنده . أما آسرحدون فيخبرنا أنه تسلم من خزعل
أتاوة كبيرة فأعاد إليه أصنام مملكته التي استلبها أبوه سنحاريب ، ونصب
توبة ( تبوءة ) التي تربت في كنف أبيه أميرة على العرب ( أريبي ) . وقد
صور الآشوريون العرب في آثارهم وهم يركبون جمالهم ويلبسون ملابسهم المميزة
، وأقدم صورة لهم هي تلك التي عثر عليها في قصر تغلات بلاصر الثالث في
كالح ( كالخو ) وقد ظهر فيها عربي على جمل وفي أثره فارس آشوري .
وليس
هذا كل ما جاء عن العرب في السجلات الملكية الآشورية ، ولكننا نكتفي بما
ذكرنا لأنه يفي بالغرض . ويذكر جورج رو ( المصدر المفضل لدى الأستاذ مطر )
أن العرب كانوا آنذاك في بادية الشام بأعداد غفيرة . ويقول هاري ساكز إن
آشور كانت على اتصال بعرب الصحراء منذ عهد تغلات بلاصر الثالث في أقل
تقدير . وكان الآشوريون يبسطون نفوذهم تدريجياً في الصحراء . وقد استمر
آسرحدون في هذه السياسة ، إذ زاد السيطرة الآشورية من خلال التدخل بين
الزعامات العربية المتنافسة وتقريب من يرضى منهم بالسيادة الآشورية .
وليست السجلات الآشورية وحدها ذكرت العرب ، بل ذكرتهم أيضاً التوراة
اليهودية ، ثم المصادر اليونانية والرومانية ، فالبيزنطية والسريانية .
غير أن هذا لا يعني أنهم وجدوا على الأرض عندما ذكرتهم هذه المصادر أول
مرة في عهد الملك الآشوري شلمانصر الثالث ، بل يعني أنهم صاروا يذكرون
عندما كثر عدد النازحين منهم إلى بادية الشام وأصبحوا إحدى القوى المؤثرة
في حسابات القوى والممالك الإقليمية ابتداء من القرن التاسع قبل الميلاد
في الأقل .
ويلاحظ مما ذكر عن العرب في السجلات الملكية الآشورية ،
بوصفها أقدم المدونات التي ذكرتهم ، أن نزوحهم من الجزيرة إلى بادية الشام
قد تزايد ، وتأثيرهم تنامى ، خلال القرون الثلاثة الأخيرة من عمر الدولة
الآشورية . وكانوا عدة قبائل متنافسة ، يتزعم بعضها رجال وبعضها نساء (
وهذه ظاهرة لافتة للنظر ) . وهم لم يكونوا بدواً أو رعاة كلهم ، بل كانت
لبعضهم مستوطنات وحصون في الأطراف الشمالية من الجزيرة ، وكان بعض هؤلاء
على ثراء بناء على ما كانوا يدفعونه للآشوريين من أتاوات باهظة . ولكن
الأهم من ذلك أنهم كانوا يذكرون بوصفهم قوماً غير الأقوام الأخرى . فقد
ميزتهم تلك السجلات ، وكذلك المصادر الأخرى ، عن الآراميين والأحلاميين
والكلديين والسبئيين حيثما ذكروا معهم ، بغض النظر عما بينهم جميعاً من
أصول عرقية ولغوية مشتركة ، وعما نشأ بينهم من تحالفات أو ما نشب من
نزاعات . فهم عرب ( A-ri-bi ) ، ويتصل ذكرهم بالصحراء فهي بلاد العرب (
ماتو أريبي ) وبالجمال فهي وسيلة النقل المميزة عنهم ، وبالخيام التي يفخر
الملوك الآشوريون بحرقها . وكانت لهم أسماؤهم المميزة عن أسماء أبناء
الأقوام الأخرى ، ولهم زعماؤهم ، ودورهم في صراعات القوى والممالك
الإقليمية وأحلافها وحروبها ونزاعاتها . وليس ثمة إشارة واحدة تصفهم بأنهم
آراميون أو تحيلهم إلى الآراميين .
الغريب أن الأستاذ مطر يصر على أن
المقصود بـ ( بلاد العرب ) أو ( أرض العرب ) التي ترد في النصوص الآشورية
هو بادية الشام وليس الجزيرة العربية ، مع أن هذه النصوص تشير إلى الصحراء
وعمق الصحراء بوضوح . يقول سرجون الثاني في سجلاته ( بناء على نبوءة صادقة
من إلهي آشور سرت وقهرت ( ... ) العرب الذين يعيشون بعيداً في الصحراء ،
والذين لا يعرفون البحار ولا الرؤساء ، ولم يدفعوا جزية لملك ) . وواضح من
هذا النص أن المقصود هنا بالصحراء هو جزيرة العرب وليس البادية الشام .
ويقول فراس السواح في كتابه ( الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم / ص
290 ) ( إن الكلمة الآشورية ( أريبي ) هي نسبة إلى العرب ، وأن هؤلاء هم
شعب كبير متنوع في تقسيماته ومتوزع في مختلف أنحاء الجزيرة العربية ) .
وتوينبي الذي يستشهد به الأستاذ مطر حول تاريخ تدجين الجمل ، يحيل ما ورد
في النصوص الآشورية إلى الجزيرة العربية وليس إلى بادية الشام ، في الصفحة
التي تسبق الصفحة التي يحيلنا إليها الأستاذ مطر من كتاب : تاريخ البشرية
(1 /203 ) .
ومما ينبغي التذكير به أن خروج بعض القبائل العربية من
الجزيرة في تلك الحقبة قد بدأ بالتواجد في أطرافها الشمالية الغربية ،
وخاصة مثلث ( تيماء دومة الجندل بطرا ) وواحاته وما حولها ، ثم امتد غرباً
نحو فلسطين وسيناء ، وشمالاً وشرقاً في بوادي العراق والشام ، إلى أن
وجدوا فرصتهم الكبيرة بعد سقوط الدولة الآشورية ( 612 ق. م. ) ثم سقوط
الدولة الكلدية ( 539 ق. م. ) ، فانتشروا غربي الفرات ، ثم عبروه ، بحيث
أصبحت المنطقة الشمالية الغربية من العراق ، المحصورة بين دجلة والفرات ،
تعرف باسم (عربايا) بعد قرن واحد من سقوط الدولة الآشورية . وقد وردت هذه
التسمية ، كما ذكرنا من قبل ، في كتابة بهستون بوصف ( عربايا ) من أقاليم
الإمبرطورية الفارسية الإخمينية في نهاية القرن السادس قبل الميلاد ، وصار
للعرب يومها دور في الصراع بين الفرس واليونانيين . ومن هنا جاء ذكرهم في
مسرحيتي برومثيوس والفرس لأسخيلوس ( 525 456 ق. م. ) .
ويبدو أن موجات
نزوحهم من الجزيرة قد ازدادت خلال هذه الحقبة فاندفعت موجة منهم غرباً
واستولت على مملكة الأنباط في بطرا ، وأسست هناك مملكة عربية حكمها عشرة
ملوك عرب أولهم حارثة الأول ( 169 120 ق. م. ) وآخرهم رب إيل الثاني ( 70
106 م ) . واندفعت موجة أخرى شرقاً وأسست بين دجلة والفرات مملكة عربية
أخرى هي مملكة الحضر ( 85 _ 241 م ) وعرفت باسم عربايا أيضاً . وقد سقطت
الأولى على أيدي الرومان عام ( 106 م ) وسقطت الثانية على أيدي الفرس عام
( 241 م ) . ولم تكد تسقط هاتان المملكتان حتى نشأت مملكتان عربيتان
أخريان هما : مملكة المناذرة في العراق ، ومملكة الغساسنة في الشام .
وقد كان سكان هذه الممالك الأربع خليطاً من عرب الجنوب المسمون بـ (
القحطانيين ) وعرب الشمال المسمون بـ ( العدنانيين ) . والدليل على ذلك
أسماؤهم الشخصية وأسماء معبوداتهم التي وجدت في مدافنهم ومعابدهم . ومع أن
ملوك هذه الممالك كانوا من عرب الجنوب ( القحطانيين ) صاروا يلقبون أنفسهم
بلقب ( ملك العرب ) دون تمييز بين جنوبيين وشماليين ، ودون ذكر أسماء
القبائل جنوبية كانت أم شمالية . ولم تظهر أسماء القبائل العربية (
عدنانية وقحطانية ) في المدونات إلا حين نشب صراع عسير طويل الأمد من أجل
الهيمنة على الخطوط التجارية بين مملكة المناذرة في الشمال من جهة ،
والمملكة الحميرية ثم مملكة كندة في الجنوب من جهة أخرى . فقد تطلب هذا
الصراع إخضاع القبائل عرب الشمال المعدية ( العدنانية ) بالقوة ، وفرض
الأتاوات الباهظة عليها ، وارتهان العشرات من أبنائها وتجنيدهم في الحروب
، وتعيين أبناء الملوك رؤساء عليها . وعندئذ أصبحت أسماء القبائل (
عدنانية وقحطانية ) متداولة ، وصار بعضها يظهر في نقوش هذه الممالك
وكتاباتها ، غير أن هذا لا يعني أن هذه القبائل لم تكن موجودة قبل هذه
الحقبة بكثير .
وبعد ، فليس مهماً أن نعرف من أين جاءت كلمة ( عرب )
ومم اشتقت وكيف ، فكل ذلك يخضع للتخمين والتأويل ، شأنها في ذلك شأن
تسميات الأقوام القديمة الأخرى ، ولكن منذ أن استخدمت هذه الكلمة
ومشتقاتها في الكتابات الآشورية وغيرها عني بها قوم مختلفون عن الأقوام
الأخرى المعروفة في تلك الحقبة ، قوم يتصل ذكرهم بالصحراء وبالجمال
والخيام . وقد تحمل الكلمة معنى البداوة في عرف معاصريهم ، أو تعني شيئاً
آخر عرقياً أو غير عرقي ، ولكنها تعنيهم هم ، تعني العرب ولا تعني
الآراميين أو فرعاً من فروعهم . وللأستاذ مطر تحياتي .
القدس العربي
2009/10/05
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى