ورقة تمهيدية للمناقشة الجماعية : الاتحاد الاشتراكي، الملكية، الاسلاميون، الحكومة.. واليسار /محمد حبيب الطالب
صفحة 1 من اصل 1
ورقة تمهيدية للمناقشة الجماعية : الاتحاد الاشتراكي، الملكية، الاسلاميون، الحكومة.. واليسار /محمد حبيب الطالب
(1)
10/28/2009
حصلت
«الاتحاد الاشتراكي» على الوثيقة التي حررها المناضل محمد حبيب الطالب،
عضو المكتب السياسي السابق لحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»،
ويتحدث فيها عن التنمية وهشاشة المجتمع السياسي والتحالفات والآفاق
الممكنة والمشروع المجتمعي. ونحن إذ ننشرها، فذلك تعميما للفائدة..
أوشكت المرحلة الجارية في «الانتقال الديمقراطي» على الأفول، وأضحت
سيماتها العامة، الإيجابية والسلبية، على قدر من الوضوح والاستقرار. وبات
من الضروري، استعداداً للمرحلة القادمة، القيام بمراجعة نقدية شاملة لما
تمَّ إنجازه، ولما قصرت عليه، استخلاصا لما يمكن استخلاصه للمستقبل.
ليس أهداف هذه الورقة الاستجابة الموسعة والمتكاملة لهذا التطلع. وإنما
الغاية منها، فتح أبواب هذه المناقشة الجماعية، والبدء فيها، والانخراط
الجماعي في كل قضاياها المذكورة، والمتروكة. ولذلك، سنقتصر على الأسئلة
التالية:
- ماهي العوائق الأساسية التي طبعت هذه المرحلة؟
- وماهي أسبابها وتحليلاتها؟
- وماهي الآفاق الممكنة القادمة؟
ربما تجمع هذه الأسئلة الكبرى كافة القضايا المتداولة في الجدل السياسي
الجاري. ومع ذلك، فالورقة الحالية لن تستطيع الإحاطة بها جميعا، ولا
الاستفاضة في كل محتوياتها وجوانبها المختلفة. وإنما سنكتفي بالإشارات
المقتضبة لما نعتبره أساسيا فيها، آملين أن نعيد طرح الموضوع، بعد
المناقشة الجماعية، في مشروع آخر أكثر شمولا وتفصيلا وعمقاً.
أولا: العوائق الأساسية:
بداهة، إن سؤال العوائق، يتضمن في البدء أسئلة أخرى سابقة عليه ومؤسسة له.
ومنها على وجه الخصوص: هل كان اختيارنا لما أسميناه بـ«مرحلة الانتقال
الديمقراطي» وبـ«منهجية التوافق الوطني»، وما ترتب عنهما من تصويت إيجابي
لصالح دستور 96، ثم مشاركة القوى الديمقراطية في حكومة التناوب التوافقي
وبعدها المشاركة في الحكومتين التاليتين... هل كان هذا الخيار صائبا
وضروريا؟
بدون العودة إلى أدبياتنا، وأدبيات القوى الديمقراطية التي تموقعت في هذا
الاختيار، والتي عللت وشرحت معانيه وظروفه وملابساته، فإننا مازلنا على
قناعة تامة بصوابية هذا الاختيار بمفاهيمه المؤطرة وبالخطوات المترتبة عنه.
وذلك في ضوء الحيثيات التالية:
* إن تصورنا للانتقال الديمقراطي، كان ولايزال، تصوراً تاريخيا وجدليا.
تاريخيا، من حيث أنه لا يقتصر على مطلب نزاهة الانتخابات، ولا على تناوب
حكومي منقوص السيادة، إن صح التعبير. ولا على نمو لا يغير في الهياكل
الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية، ولا يؤسس لفوز الديمقراطية واستقرارها.
إن تصورنا، كان ولايزال يبتغي الوصول إلى مؤسسات منتخبة نزيهة وذات
مصداقية، وحكومة قوية وذات سيادة سياسية، ونمو يضمن الديمقراطية
الاجتماعية والحداثة الثقافية. وهي كلها مهام لازالت في جلها أمامنا لا
وراءنا. وجدليا، من حيث أن الانتقال الديمقراطي هو سيرورة مركبة ومتناقضة
لا تنمو مركباتها على وتيرة واحدة، فمنها ما يتقدم، ومنها ما قد يسير ببطء
أو يتراجع، كل بحسب موازين قوى المجتمع كافة، وفي هذا المجال أو ذاك.
ثانيا - إن منهجية التوافق مع المؤسسة الملكية بوجه خاص، هي المنهجية
الأمثل لإنجاز مهام الانتقال الديمقراطي في أفضل الشروط. فلقد دلت التجربة
التاريخية على الصراع بين قوى التقدم والمؤسسة الملكية، في ظل شروط مجتمع
متأخر، لم يقض إلا إلى المآزق الدائمة لكل الوطن. فالحاجة كانت ومازالت
ماسة وقوية لما يمكن أن تضطلع به المؤسسة الملكية ( الدولة) من أدوار
ريادية في سيرورة التقدم المجتمعي.
هذا على صعيد الاختيار الاستراتيجي العام. أما على الصعيد العملي، فيمكن
القول وبدون مبالغة، أن المغرب قد شهد خلال هذه المرحلة حركية إصلاحية
شاملة، غير مسبوقة في الماضي، لم تستثن قطاعاً، ولا تركت قضية، لم تطلها
يد الاصلاح، بهذا القدر أو ذاك. إن المغرب اليوم، هو بلا جدال، غير مغرب
الماضي الراكد في أكثر من جانب والمأزوم سياسيا على الدوام. وخاصة إن
استدرك مكامن العطب التي تعيق انتقاله الديمقراطي الجاري.
وبدون أن نثقل هذه الورقة بما كتب مراراً عن منجزات هذه المرحلة في وثائق
حزبية وفي دراسات ومقالات مختلفة، فإننا سننتقل فوراً إلى العائقين
الرئيسين التاليين:
* هشاشة التنمية البشرية
* وهشاشة المجتمع السياسي.
أ- التنمية البشرية
نلفت النظر، إلى أننا نأخذ «التنمية البشرية» هنا بمنظور أوسع وأشمل من
المؤشرات الرقمية التي تستعملها المؤسسات الدولية في هذا الشأن. فنحن ننظر
من خلالها إلى كل النشاط الذي تقوم به الدولة في كل المجالات الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية والسياسية. وهي في نفس الآن البوصلة التي نسترشد
بها في وضع برنامجنا الإصلاحي المتميز والمستقل، إنسجاما في ذلك مع هويتنا
الاشتراكية.
وهكذا، لقد كان على حكومة التوافق في أولى خطواتها أن تخطط الوقف التدهور
الذي وجدت عليه الاقتصاد الوطني، وأن تضبط في هذا الاتجاه التوازنات
الماكرو-اقتصادية، وأن تقلص المديونية الخارجية التي أنهكت مستحقاتها
موارد الدولة، وأن تنقذ العديد من المؤسسات العمومية من حافة الإفلاس، وأن
تقرر في البيئة التشريعية المناسبة لتشجيع الاستثمار. وتضع في أولوياتها
تحقيق نمو اقتصادي أدنى يستجيب لمتطلبات سوق الشغل... كل هذه الإجراءات
وغيرها أنجزت فيها حكومات الإصلاح المتتالية خطوات هامة، في الوقت الذي لم
تهمل فيه التطرق المباشر للخصاصيات الاجتماعية سواء بتحسين الأجور لبعض
الفئات الاجتماعية، أو بتحسين مداخيلها بطرق غير مباشرة، وسواء بوضع
مشاريع تحفيزية للتشغيل. وبرفع ميزانيات القطاعات الاجتماعية، وبالاهتمام
بالتعليم ومحاربة الأمية، وبإقرار مشروع التغطية الصحية الإلزامية وتقديم
المساعدات الطبية لعديمي الدخل.. وأخيرا وليس آخراً، بالشروع في إنجاز
مخطط إرادي موازي الذي حمل إسم مشروع «التنمية البشرية» والذي استهدف
المناطق الأشد فقراً... وبالرغم من كل الجهود، وبالرغم من أن التنمية
البشرية أضحت هاجسا حاضراً لدى حكومات الاصلاح خلال هذا العقد الأخير، إلا
أن المردودية العامة لازالت هشة وضعيفة، بحيث يتعذر علينا القول: أن
الفروقات الاجتماعية قد أحدث فيها تحول ما يقلص تفاقمها، إن لم يكن العكس
هو الصحيح.
ومع كل التشديد على ضخامة الخصاصات الاجتماعية التي تراكمت مضاعفاتها خلال
الخمسين سنة الماضية، أمام هزالة الموارد وضعف الاقتصاد الوطني المنتج،
ومع وعينا بمواطن الضعف وقصور المعالجات خاصة في ميدان التنمية السياسية
(حالة التراجع الواقعة في الحياة السياسية عامة)، وفي ميدان التنمية
الثقافية (غموض السياسة اللغوية على سبيل المثال)، وفي استمرار اقتصاد
الريع وتضخم آفات الرشوة والفساد بكل أشكاله في كل بنيان المجتمع... فإن
الذي يهمنا في هذه العجالة التأكيد على الاستخلاص التالي: لقد شكلت هشاشة
«التنمية البشرية» العائق الأكيد في تعثر الانتقال الديمقراطي وبُطئه.
ولأن التنمية البشرية تحتاج لأمد طويل بسبب عمق الاختلالات البنيوية
الموروثة، فإن هذا الواقع يمد «القوى اليمينية والتقليدية بهامش واسع
للمناورة الديماغوجية، ويمنحها إمكانيات اجتماعية كبرى لتجديد هيمنتها
وعلاقاتها التقليدية.
ب - هشاشة
«المجتمع السياسي»
بقراءة لتاريخ الصراع السياسي في بلدنا منذ أواسط الستينات، يمكن الوقوف
على الظاهرة التالية: لقد اتجه التطور الشعبي - الجماهيري للقوى التقدمية
في منحنى انحداري انكماشي، رغم أنها استمرت على الدوام ضمير الأمة الحي،
ورغم كل التضحيات الكبرى التي قدمتها، ورغم أنها صاحبة الفضل في كل التقدم
الديمقراطي الذي تحقق.
لقد تفاقمت هذه الظاهرة، والتي توالت مقدماتها كما أسلفنا، في المرحلة
التي تحملت فيها المسؤولية الحكومية، بينما كان الرهان عكس ذلك، يصبو إلى
استعادة الحركة الجماهيرية لنهوضها وزخمها دعما للاصلاح وطموحا نحو الأفضل.
إذن نحن أمام نفس السؤال الإشكالي، سواء عندما كانت القوى التقدمية في
المعارضة أو عندما شاركت في الحكومة. والسؤال كان ولايزال هو التالي:
لماذا يعجز المجتمع المغربي عن تحقيق قفزته الديمقراطية طيلة خمسين سنة
ونيف؟ ورغم أنه تميز بوجود قوة سياسية ديمقراطية، تمتعت بحضور فاعل في
الحياة السياسية مقارنة له (أي المغرب) مع تجارب أخرى معاقة؟
عند طرح المسألة على هذا المستوى، لابد من النظر إلى الأسباب الموضوعية
كأساس، قبل النظر إلى الأسباب الذاتية الخاصة بالقوى الديمقراطية نفسها.
ومع ذلك، فليس من الصحيح إعطاء جواب وحيد ومطلق عن كل التطور التاريخي
للمجتمع المغربي، إذ لابد أن لكل مرحلة إشكالها الخاص الذي ميز انتظام
تفاعل تناقضاتها الموضوعية والذاتية مجتمعة، حتى ولو كان من بينها ما
يكتسي قدراً من الثبات والاستمرارية، كاستمرار الموروث الثقافي التقليدي
كعائق في كل المراحل. ولذلك سنكتفي هنا بذكر العوامل التي تفاعلت في ما
بينها لإعادة إنتاج ظاهرة القصور المجتمعي الحاصل اليوم:
1 - طبيعة التصور الاجتماعي-الديمغرافي المشوه الذي أنتج جملة من الظواهر
السكانية والعمرانية والثقافية. من أبرزها، نمو مدن كبرى «مريفة»،
واستولاء متزايد لفائض سكاني مهمش أو خارج حلبة الانتاج.
2 - تموقع المرحلة الجارية في سياق عولمة متوحشة وذات قطب واحد، قلبت
موازين العلاقات الاجتماعية وأدوار الدولة واختيارات الاقتصاد الوطني في
مجتمع متأخر لم يكن مؤهلا للانخراط فيها من موقع فاعل ومنتج ومستقل.
3 - انشطار المجتمع المغربي عموديا بين ثقافتين، إحداهما ترتكز على موروث
ثقافي ديني وسياسي تقليدي، يطيل العمر الافتراضي للبنيات التقليدية ويعيق
الاندماج في العصر. والثانية، ترتكز على ثقافة حديثة معولمة ومقولبة على
نمط المجتمع الاستهلاكي الفردوي، يزيد في تفكيك وانحلال القوى الاجتماعية
الحديثة والضعيفة أصلا.
4 - انتشار منظومة قيم جديدة، تنبني على إندماج بين القيم الفرداوية
النفعية الاستهلاكية الوافدة وبين القيم المخزنية التقليدية المبنية هي
الأخرى على الاستهلاك البدخي والانتفاع الشخصي، والخلاص الفردوي بكل
الوسائل غير القانونية. ولذلك، انحط الضمير الحي الجمعي، وصار الفساد الذي
يضرب بأطنابه في المجتمع المغربي آفة كل تقدم ممكن.
هذه بعض العوامل في عناوينها العريضة التي تفسر هشاشة المجتمع السياسي،
ودون أن ننسى سياسة القمع الممنهج والإفساد السياسي الذي مارستها الدولة
خلال عقود متتالية. وليس عسيراً أن نفطن إلى كيف أن القوى الديمقراطية
واجهت في هذه المرحلة تحولات مجتمعية لم تكن مهيأة لاستقبالها، ومنها على
وجه الخصوص، تلك التحولات الثقافية القيمية، والتي لم تكن مسلحة
ايديولوجيا لخوض معاركها.
ولا يغير من هذا الواقع المجتمعي الهش ما نراه من تضخم لهيئات المجتمع
المدني، فعدا الاختزال الإفقاري لمفهوم المجتمع المدني كما هو في المصطلح
المعمول به اليوم، فإن المفارقة التالية، بين تضخم الهيئات المدنية غير
الحكومية، وبين التراجع الواضح في الاهتمام بالشأن العام، يُبين في
النهاية أن هذا الذي قبل فيه «المجتمع المدني» لم يرق بعد إلى أن يكون
كذلك!
ثانيا: الآفاق الممكنة:
سنغالط أنفسنا إن نحن اعتبرنا أن تذليل كل حمولات العائقين السابقين من
مهام القوى الديمقراطية لوحدها. ذلك أن الدولة - السلطة في مجتمع متأخر
وفي راهن سياسي هش، تلعب أدواراً مضاعفة لما قامت به في المجتمعات التي
كانت بنيويا مفتوحة على التقدم «المنسجم» و«المنتظم». وهي بهذا المعنى إما
تسرعه أو تؤخره أو تطيل تعقيداته واستعصاءاته.
ووفق هذه الحقيقة التاريخية، فإن التوافق مع المؤسسة الملكية خيار لا بديل
عنه، شريطة ألا يفهم من ذلك ممارسة انتظارية ذيلية، تلقي أو تحجم في
الواقع العملي مسؤولية وأدوار القوى الديمقراطية واستقلاليتها في التعبير
عن مصالح القوى الاجتماعية التي تمثلها، فضلا عن المصلحة الوطنية العليا.
وبالرغم من العوائق المجتمعية القائمة، فلا أحد يستطيع أن يتكهن مسبقا
بالتفاعلات التي من شأنها أن تستنهض الحركة الجماهيرية وتخرجها من عزوفها
الراهن. ولا خيار للقوى الديمقراطية في هذا الوضع المحجوز سوى خيار
الممارسة الجماهيرية، فهي وحدها الكفيلة بالخروج من المأزق الحالي.
وتبرز الحاجة الاستراتيجية لدور المؤسسة الملكية بوجه خاص في القضيتين
التاليتين: تسريع وتيرة الإصلاح السياسي-الدستوري من جهة، والإصلاح الديني
واللغوي من جهة ثانية، لما لهذين القضيتين من ارتباط عضوي بالهوية الوطنية
وبالبعد الحضاري وكل قضايا التنمية المستدامة. ولما للمؤسسة الملكية من
مخزون تاريخي وشعبي يؤهلها في أن تضطلع بدور حاسم فيهما.
ولأننا سنفرد ورقة خاصة بالإصلاح الديني واللغوي، فإننا سنتطرق هنا
للإصلاح السياسي-الدستوري في جانب أساسي منه، ثم سننتقل على التوالي لطرح
مجموعة من القضايا التي تخص إعادة تأهيل القوى اليسارية.
1 - الإصلاح السياسي/الدستوري
من الخطأ الجسيم أن نعتبر تدني نسبة المشاركة في العمليات الانتخابية، أو
ظاهرة العزوف السياسي عامة، مجرد حالة عادية كالتي تقع بين حين وآخر في
البلدان المتقدمة. ذلك لأن السياق التاريخي ليس هو نفس السياق. فنحن
مازلنا في مرحلة الانتقال الديمقراطي الجامع في آن واحد وبشكل مكثف
ومتداخل بين مهام النهضة والتحرر الثقافي، والحداثة وبناء دولة الحق
والقانون في مجتمع ديمقراطي، والمعاصرة المرتكزة على مجتمع المعرفة
والتكنولوجيا الرفيعة. وهي مهام تعاقبت وقضت فيها الأمم الأخرى المتقدمة
مراحل تاريخية مديدة. والأدهى من ذلك، فالعزوف السياسي وعدم المشاركة
واللامبالاة يفسح المجال لدينا، في واقع التأخر المجتمعي، للوبيات المصالح
الشخصية ليعيثوا فساداً في المؤسسات المنتخبة وفي المصالح العامة التي
يؤتمنون عليها، مما يفقد المؤسسات والدولة معا مصداقيتهما. وبدل أن تكون
الانتخابات والمؤسسات وسيلة للارتقاء الديمقراطي، تغدو آلية من آليات
تعطيله. وهذا فرق جوهري ميداني بين الحالتين عندنا ولدى الآخرين.
وبدون العودة إلى المجهودات التي بذلت في هذه المرحلة الانتقالية في
الميدان السياسي عامة، كالمفهوم الجديد للسلطة الذي استهدف إعطاء الأولوية
للتنمية لدى السلطات المحلية بدل الأولوية الأمنية القهرية. وقانون
الأحزاب الذي أرسى قواعد تعامل قانونية واضحة بينها و بين الدولة، كما وضع
علاقاتها الحزبية الداخلية على محك الشفافية، وتقنين إشراك المرأة في
المؤسسات المنتخبة وغيرها من الإصلاحات الأخرى كضمان قدر هام ومتقدم في
نزاهة الانتخابات والحريات العامة على غير العهود السابقة، فإن من عوامل
تزمين تقهقر الحياة السياسية وتفشي ظاهرة العزوف السياسي، السقف الدستوري
الواطي الذي لا يفسح المجال لمباراة برنامجية حزبية كاملة في تسيير شؤون
الدولة. إن الوضع الدستوري الذي عليه الحكومة من حيث صلاحياتُها
ومسؤولياتها على الجهاز الإداري وعلى العديد من المؤسسات، مبتور في النص
والعمل.
نحن إذن بجاحة ماسة إلى دستور جديد، يأخذ العبرة من التجربة الدستورية
الحالية، ويستهدف الرقي بالتوافق الجاري إلى وضع مؤسسي ديمقراطي أكثر
نجاعة وعصرنة. ويأتي في مقدمة هذه التغييرات المطلوبة، منح الحكومة كهيئة
دستورية مستقلة كامل صلاحياتها في أن تحدد «السياسة العامة للدولة
وتديرها» كما ورد في مذكرة الكتلة لسنة 1996 . وكذلك، بمنح مجلس الحكومة
حق اقتراح التعيين في الوظائف المدنية السامية، وحق إعفاء الوزراء من طرف
الوزير الأول.
إن الإشكالية الدستورية بوجه عام، أننا مازلنا بحاجة إلى دور دستوري قوي
للمؤسسة الملكية، ولكننا أيضا بحاجة لدور دستوري قوي لحكومة ذات شخصية
سياسية مستقلة ومتضامنة، ويمكن محاسبتها، شعبيا ومؤسساتيا، على أفعالها
الحقيقية لا المجازية. ونعتقد أن هذه الإشكالية قابلة للحل دستوريا
وسياسيا وعمليا.
إن الطرح الدستوري الذي نقدمه لا يتقيد بموازين القوى التقليدية، كما جرت
العادة في الماضي، ولكنه يتطلع إلى حساب المصلحة الوطنية العليا، والتي
أمست في حاجة إلى توافق جديد يخرج البلاد من مآزقها السياسية المتجددة،
والتي تعوق انتقاله الديمقراطي، وسترتد وبالا في المدى المتوسط أو البعيد
على الأحزاب والنظام والمجتمع جميعاً.
نعم للجهوية المتقدمة، ونعم للاتمركز، ونعم للمفهوم الجديد للسلطة... لكن،
لا هذه ولا تلك يمكنها أن تثمر أغراضها، وأن تنقذ مصداقية المؤسسات
والدولة والأحزاب، إلا في ظل دستور جديد يحقق طفرة حقيقية في حياتنا
السياسية.
2 - المعارضة أو المشاركة:
هل من الجائز مناقشة هذا الموضوع قبل أوانه؟ قد يكون في ذلك بعض الفائدة.
ولكن في غير «كل الضرورة» وبالتالي كل الفائدة. ذلك أن الوقت الضروري
لمناقشة هذا الموضوع، سيكون حتما حين انتهاء الانتخابات التشريعية
القادمة، وحين إفصاحها عن توزيع القوى الانتخابي وعن الوضع السياسي
والدستوري المصاحب لها. أما قبل هذا الأوان، فإن الدعوة للانسحاب الفوري
من الحكومة القائمة، مضرة سياسيا وتشويشية عمليا. لأن لا قضية ساخنة حدث
فيها خلاف حكومي يهم الرأي العام، ولأن بعض الإصلاحات الحساسة لديه بالكاد
وضعت على الطاولة، ومنها إصلاح القضاء ومواجهة تداعيات الأزمة العالمية
على الاقتصاد الوطني والحوار الاجتماعي.. وقضايا أخرى ذات شأن وطني كبير
ومن بينها البرنامج الاستعجالي في ميدان التعليم.
ولذلك، فالنتيجة الوحيدة المترتبة عن هذا الموقف المتسرع والفاقد للجاذبية
لدى الرأي العام، والمشبوه في مصداقيته، لأنه سيبدو وكأنه هروب من
المسؤولية في مناورة انتخابوية لا أكثر ولا أقل، إحداث خصومة قد تصل إلى
قطيعة مع الحلفاء، وبث أجواء سياسية مسمومة لا تتلاءم مع الرغبة في إحداث
توافق دستوري متقدم.
ومع ذلك هناك «بعض الفائدة» في هذه المناقشة من جانب أنها فرصة للتأكيد على رؤيتنا في المبدئين التاليين:
أولا: أننا سنكون بالضرورة مع المشاركة في أية حكومة قادمة شرط أن تكون
منسجمة ومتضامنة وذات برنامج سياسي واضح، ولها صلاحيات فعلية لتنفيذه،
وتعكس ميزان قوى انتخابي حقيقي لصالح قوى التقدم.
ثانيا: وفي الوضعين، المعارضة أو المشاركة، إن فرضت الضرورة السياسية أيا
منهما، فإن مركز الثقل في العمل الحزبي اليساري ينبغي أن يتوجه إلى إصلاح
الأوضاع الذاتية جذريا، وبما يستهدف استنهاض المشاركة الشعبية وإعادة
الارتباط بها. لكي لا تتكرر مآسي كل التجارب الحكومية السالفة... بل
والتجارب النضالية السابقة عامة.
3 - وحدة اليسار
الاشتراكي والتحالفات:
ما من فصيل يساري إلا ويدعو إلى وحدة اليسار الاشتراكي. لكن حقيقة
الممارسة الفعلية، أنها جميعا متشبثة وحريصة على كياناتها المستقلة بشتى
الذرائع والتبريرات: إما لخصوصية تاريخية مازالت تعتقد في جذواها. وإما
لخلافات سياسية لبعضها مع ما سمته «اليسار الحكومي». وإما لحكم مسبق على
فشل أية وحدة اندماجية، وعلى خلفية أن التعددية اليسارية في حد ذاتها
واقعا تاريخيا إيجابيا وضروريا.
وعلى النقيض من هذه الذرائع والتبريرات، وبدون الدخول في تفاصيل تقييماتنا
عن كل فصيل، فإننا ندعو لتصور وحدوي جذري وفوري، يفضي إلى الوحدة
الاندماجية في حزب اشتراكي واحد وموحد... وبناء على الحيثيات التالية:
أولا: إن انتقال مركز الثقل في الصراع السياسي إلى المؤسسيات المنتخبة،
يعري في هذا المجرى الموضوعي للتطور الديمقراطي، ويكشف، عن أزمة الوجود
والمصير التي تعاني منها وتتخبط فيها معظم الفصائل اليسارية. فلا واحدة
منها تستطيع مغالبة مستحقاته الجماهيرية، ولا الوقوف أمام تحدياته وأمام
ترسانة اليمين ونفوذه.
صحيح، أن المؤسسات المنتخبة لا تحظى بعد بثقة الجماهير الشعبية العريضة،
لكن ذلك لا ينفي عنها أنها باتت هي مركز الصراع السياسي والتنافس
الجماهيري الحزبي.
ثانيا: ليس لأي من الفصائل اليسارية الجديدة كيانية تاريخية صلبة قد تعيق
سهولة اندماجها في حزب اشتراكي موحد. فعدا أن بعضها لم تكن دوافعه في
الوجود خلافات سياسية أو ايديولوجية واضحة، وعدا أن أغلبيتها من أصول
اتحادية، فإن حزب التقدم والاشتراكية يبقى هو الاستثناء الوحيد بعتاقته
والذي لايزال له «بعض الموروث التاريخي» في هذا الشأن. ومع ذلك، فالأوضاع
التاريخية لكيانه المستقل قد تغيرت في الملموس وفي القناعة. وكذلك الجيل
الواسع لمنتسبية قد تغير. ولنا في ترشيحاته وممثليه في المؤسسات المنتخبة
ما يغنينا عن التفاصيل.
ثالثا: ليس المهم الخلافات السياسية في حد ذاتها، بل الأكثر أهمية أن يكون
لهذه الخلافات قوة شعبية تستقبلها وتتبنى شعاراتها واختياراتها. أما حينما
يكون المجتمع يعاني من تأخر وإعاقة مديدة في انتقاله الديمقراطي، فإن
التعددية اليسارية تكون مضرة وهدر الطاقات اليسار، بل هي دليل مرض في
المجتمع وفيه. وفي هذه الحال، فإن الوحدة الاندماجية، والعمل على كسب
الأغلبية داخل الحزب الموحَّد، سيكون هو الطريق الأمثل لاستنهاض الحركة
الجماهيرية ولكسب الأغلبية الشعبية مستقبلا.
رابعا: ثمة إمكانية فعلية لوضع أرضية سياسية وايدلوجية وتنظيمية موحَّدة
في قواسم مشتركة، تقبل بها أغلب فصائل اليسار في حالة القيام بمراجعة
نقدية شاملة وجماعية وناظرة للمستقبل بكل تعقيداته وتحدياته. أرضية قادرة
على تجاوز العديد من الخلافات الراهنة، وعلى مد اليسار بقوة جماهيرية أوسع
وأداة حزبية أكثر فعالية ومتانة سياسية.
«الاتحاد الاشتراكي» على الوثيقة التي حررها المناضل محمد حبيب الطالب،
عضو المكتب السياسي السابق لحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»،
ويتحدث فيها عن التنمية وهشاشة المجتمع السياسي والتحالفات والآفاق
الممكنة والمشروع المجتمعي. ونحن إذ ننشرها، فذلك تعميما للفائدة..
أوشكت المرحلة الجارية في «الانتقال الديمقراطي» على الأفول، وأضحت
سيماتها العامة، الإيجابية والسلبية، على قدر من الوضوح والاستقرار. وبات
من الضروري، استعداداً للمرحلة القادمة، القيام بمراجعة نقدية شاملة لما
تمَّ إنجازه، ولما قصرت عليه، استخلاصا لما يمكن استخلاصه للمستقبل.
ليس أهداف هذه الورقة الاستجابة الموسعة والمتكاملة لهذا التطلع. وإنما
الغاية منها، فتح أبواب هذه المناقشة الجماعية، والبدء فيها، والانخراط
الجماعي في كل قضاياها المذكورة، والمتروكة. ولذلك، سنقتصر على الأسئلة
التالية:
- ماهي العوائق الأساسية التي طبعت هذه المرحلة؟
- وماهي أسبابها وتحليلاتها؟
- وماهي الآفاق الممكنة القادمة؟
ربما تجمع هذه الأسئلة الكبرى كافة القضايا المتداولة في الجدل السياسي
الجاري. ومع ذلك، فالورقة الحالية لن تستطيع الإحاطة بها جميعا، ولا
الاستفاضة في كل محتوياتها وجوانبها المختلفة. وإنما سنكتفي بالإشارات
المقتضبة لما نعتبره أساسيا فيها، آملين أن نعيد طرح الموضوع، بعد
المناقشة الجماعية، في مشروع آخر أكثر شمولا وتفصيلا وعمقاً.
أولا: العوائق الأساسية:
بداهة، إن سؤال العوائق، يتضمن في البدء أسئلة أخرى سابقة عليه ومؤسسة له.
ومنها على وجه الخصوص: هل كان اختيارنا لما أسميناه بـ«مرحلة الانتقال
الديمقراطي» وبـ«منهجية التوافق الوطني»، وما ترتب عنهما من تصويت إيجابي
لصالح دستور 96، ثم مشاركة القوى الديمقراطية في حكومة التناوب التوافقي
وبعدها المشاركة في الحكومتين التاليتين... هل كان هذا الخيار صائبا
وضروريا؟
بدون العودة إلى أدبياتنا، وأدبيات القوى الديمقراطية التي تموقعت في هذا
الاختيار، والتي عللت وشرحت معانيه وظروفه وملابساته، فإننا مازلنا على
قناعة تامة بصوابية هذا الاختيار بمفاهيمه المؤطرة وبالخطوات المترتبة عنه.
وذلك في ضوء الحيثيات التالية:
* إن تصورنا للانتقال الديمقراطي، كان ولايزال، تصوراً تاريخيا وجدليا.
تاريخيا، من حيث أنه لا يقتصر على مطلب نزاهة الانتخابات، ولا على تناوب
حكومي منقوص السيادة، إن صح التعبير. ولا على نمو لا يغير في الهياكل
الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية، ولا يؤسس لفوز الديمقراطية واستقرارها.
إن تصورنا، كان ولايزال يبتغي الوصول إلى مؤسسات منتخبة نزيهة وذات
مصداقية، وحكومة قوية وذات سيادة سياسية، ونمو يضمن الديمقراطية
الاجتماعية والحداثة الثقافية. وهي كلها مهام لازالت في جلها أمامنا لا
وراءنا. وجدليا، من حيث أن الانتقال الديمقراطي هو سيرورة مركبة ومتناقضة
لا تنمو مركباتها على وتيرة واحدة، فمنها ما يتقدم، ومنها ما قد يسير ببطء
أو يتراجع، كل بحسب موازين قوى المجتمع كافة، وفي هذا المجال أو ذاك.
ثانيا - إن منهجية التوافق مع المؤسسة الملكية بوجه خاص، هي المنهجية
الأمثل لإنجاز مهام الانتقال الديمقراطي في أفضل الشروط. فلقد دلت التجربة
التاريخية على الصراع بين قوى التقدم والمؤسسة الملكية، في ظل شروط مجتمع
متأخر، لم يقض إلا إلى المآزق الدائمة لكل الوطن. فالحاجة كانت ومازالت
ماسة وقوية لما يمكن أن تضطلع به المؤسسة الملكية ( الدولة) من أدوار
ريادية في سيرورة التقدم المجتمعي.
هذا على صعيد الاختيار الاستراتيجي العام. أما على الصعيد العملي، فيمكن
القول وبدون مبالغة، أن المغرب قد شهد خلال هذه المرحلة حركية إصلاحية
شاملة، غير مسبوقة في الماضي، لم تستثن قطاعاً، ولا تركت قضية، لم تطلها
يد الاصلاح، بهذا القدر أو ذاك. إن المغرب اليوم، هو بلا جدال، غير مغرب
الماضي الراكد في أكثر من جانب والمأزوم سياسيا على الدوام. وخاصة إن
استدرك مكامن العطب التي تعيق انتقاله الديمقراطي الجاري.
وبدون أن نثقل هذه الورقة بما كتب مراراً عن منجزات هذه المرحلة في وثائق
حزبية وفي دراسات ومقالات مختلفة، فإننا سننتقل فوراً إلى العائقين
الرئيسين التاليين:
* هشاشة التنمية البشرية
* وهشاشة المجتمع السياسي.
أ- التنمية البشرية
نلفت النظر، إلى أننا نأخذ «التنمية البشرية» هنا بمنظور أوسع وأشمل من
المؤشرات الرقمية التي تستعملها المؤسسات الدولية في هذا الشأن. فنحن ننظر
من خلالها إلى كل النشاط الذي تقوم به الدولة في كل المجالات الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية والسياسية. وهي في نفس الآن البوصلة التي نسترشد
بها في وضع برنامجنا الإصلاحي المتميز والمستقل، إنسجاما في ذلك مع هويتنا
الاشتراكية.
وهكذا، لقد كان على حكومة التوافق في أولى خطواتها أن تخطط الوقف التدهور
الذي وجدت عليه الاقتصاد الوطني، وأن تضبط في هذا الاتجاه التوازنات
الماكرو-اقتصادية، وأن تقلص المديونية الخارجية التي أنهكت مستحقاتها
موارد الدولة، وأن تنقذ العديد من المؤسسات العمومية من حافة الإفلاس، وأن
تقرر في البيئة التشريعية المناسبة لتشجيع الاستثمار. وتضع في أولوياتها
تحقيق نمو اقتصادي أدنى يستجيب لمتطلبات سوق الشغل... كل هذه الإجراءات
وغيرها أنجزت فيها حكومات الإصلاح المتتالية خطوات هامة، في الوقت الذي لم
تهمل فيه التطرق المباشر للخصاصيات الاجتماعية سواء بتحسين الأجور لبعض
الفئات الاجتماعية، أو بتحسين مداخيلها بطرق غير مباشرة، وسواء بوضع
مشاريع تحفيزية للتشغيل. وبرفع ميزانيات القطاعات الاجتماعية، وبالاهتمام
بالتعليم ومحاربة الأمية، وبإقرار مشروع التغطية الصحية الإلزامية وتقديم
المساعدات الطبية لعديمي الدخل.. وأخيرا وليس آخراً، بالشروع في إنجاز
مخطط إرادي موازي الذي حمل إسم مشروع «التنمية البشرية» والذي استهدف
المناطق الأشد فقراً... وبالرغم من كل الجهود، وبالرغم من أن التنمية
البشرية أضحت هاجسا حاضراً لدى حكومات الاصلاح خلال هذا العقد الأخير، إلا
أن المردودية العامة لازالت هشة وضعيفة، بحيث يتعذر علينا القول: أن
الفروقات الاجتماعية قد أحدث فيها تحول ما يقلص تفاقمها، إن لم يكن العكس
هو الصحيح.
ومع كل التشديد على ضخامة الخصاصات الاجتماعية التي تراكمت مضاعفاتها خلال
الخمسين سنة الماضية، أمام هزالة الموارد وضعف الاقتصاد الوطني المنتج،
ومع وعينا بمواطن الضعف وقصور المعالجات خاصة في ميدان التنمية السياسية
(حالة التراجع الواقعة في الحياة السياسية عامة)، وفي ميدان التنمية
الثقافية (غموض السياسة اللغوية على سبيل المثال)، وفي استمرار اقتصاد
الريع وتضخم آفات الرشوة والفساد بكل أشكاله في كل بنيان المجتمع... فإن
الذي يهمنا في هذه العجالة التأكيد على الاستخلاص التالي: لقد شكلت هشاشة
«التنمية البشرية» العائق الأكيد في تعثر الانتقال الديمقراطي وبُطئه.
ولأن التنمية البشرية تحتاج لأمد طويل بسبب عمق الاختلالات البنيوية
الموروثة، فإن هذا الواقع يمد «القوى اليمينية والتقليدية بهامش واسع
للمناورة الديماغوجية، ويمنحها إمكانيات اجتماعية كبرى لتجديد هيمنتها
وعلاقاتها التقليدية.
ب - هشاشة
«المجتمع السياسي»
بقراءة لتاريخ الصراع السياسي في بلدنا منذ أواسط الستينات، يمكن الوقوف
على الظاهرة التالية: لقد اتجه التطور الشعبي - الجماهيري للقوى التقدمية
في منحنى انحداري انكماشي، رغم أنها استمرت على الدوام ضمير الأمة الحي،
ورغم كل التضحيات الكبرى التي قدمتها، ورغم أنها صاحبة الفضل في كل التقدم
الديمقراطي الذي تحقق.
لقد تفاقمت هذه الظاهرة، والتي توالت مقدماتها كما أسلفنا، في المرحلة
التي تحملت فيها المسؤولية الحكومية، بينما كان الرهان عكس ذلك، يصبو إلى
استعادة الحركة الجماهيرية لنهوضها وزخمها دعما للاصلاح وطموحا نحو الأفضل.
إذن نحن أمام نفس السؤال الإشكالي، سواء عندما كانت القوى التقدمية في
المعارضة أو عندما شاركت في الحكومة. والسؤال كان ولايزال هو التالي:
لماذا يعجز المجتمع المغربي عن تحقيق قفزته الديمقراطية طيلة خمسين سنة
ونيف؟ ورغم أنه تميز بوجود قوة سياسية ديمقراطية، تمتعت بحضور فاعل في
الحياة السياسية مقارنة له (أي المغرب) مع تجارب أخرى معاقة؟
عند طرح المسألة على هذا المستوى، لابد من النظر إلى الأسباب الموضوعية
كأساس، قبل النظر إلى الأسباب الذاتية الخاصة بالقوى الديمقراطية نفسها.
ومع ذلك، فليس من الصحيح إعطاء جواب وحيد ومطلق عن كل التطور التاريخي
للمجتمع المغربي، إذ لابد أن لكل مرحلة إشكالها الخاص الذي ميز انتظام
تفاعل تناقضاتها الموضوعية والذاتية مجتمعة، حتى ولو كان من بينها ما
يكتسي قدراً من الثبات والاستمرارية، كاستمرار الموروث الثقافي التقليدي
كعائق في كل المراحل. ولذلك سنكتفي هنا بذكر العوامل التي تفاعلت في ما
بينها لإعادة إنتاج ظاهرة القصور المجتمعي الحاصل اليوم:
1 - طبيعة التصور الاجتماعي-الديمغرافي المشوه الذي أنتج جملة من الظواهر
السكانية والعمرانية والثقافية. من أبرزها، نمو مدن كبرى «مريفة»،
واستولاء متزايد لفائض سكاني مهمش أو خارج حلبة الانتاج.
2 - تموقع المرحلة الجارية في سياق عولمة متوحشة وذات قطب واحد، قلبت
موازين العلاقات الاجتماعية وأدوار الدولة واختيارات الاقتصاد الوطني في
مجتمع متأخر لم يكن مؤهلا للانخراط فيها من موقع فاعل ومنتج ومستقل.
3 - انشطار المجتمع المغربي عموديا بين ثقافتين، إحداهما ترتكز على موروث
ثقافي ديني وسياسي تقليدي، يطيل العمر الافتراضي للبنيات التقليدية ويعيق
الاندماج في العصر. والثانية، ترتكز على ثقافة حديثة معولمة ومقولبة على
نمط المجتمع الاستهلاكي الفردوي، يزيد في تفكيك وانحلال القوى الاجتماعية
الحديثة والضعيفة أصلا.
4 - انتشار منظومة قيم جديدة، تنبني على إندماج بين القيم الفرداوية
النفعية الاستهلاكية الوافدة وبين القيم المخزنية التقليدية المبنية هي
الأخرى على الاستهلاك البدخي والانتفاع الشخصي، والخلاص الفردوي بكل
الوسائل غير القانونية. ولذلك، انحط الضمير الحي الجمعي، وصار الفساد الذي
يضرب بأطنابه في المجتمع المغربي آفة كل تقدم ممكن.
هذه بعض العوامل في عناوينها العريضة التي تفسر هشاشة المجتمع السياسي،
ودون أن ننسى سياسة القمع الممنهج والإفساد السياسي الذي مارستها الدولة
خلال عقود متتالية. وليس عسيراً أن نفطن إلى كيف أن القوى الديمقراطية
واجهت في هذه المرحلة تحولات مجتمعية لم تكن مهيأة لاستقبالها، ومنها على
وجه الخصوص، تلك التحولات الثقافية القيمية، والتي لم تكن مسلحة
ايديولوجيا لخوض معاركها.
ولا يغير من هذا الواقع المجتمعي الهش ما نراه من تضخم لهيئات المجتمع
المدني، فعدا الاختزال الإفقاري لمفهوم المجتمع المدني كما هو في المصطلح
المعمول به اليوم، فإن المفارقة التالية، بين تضخم الهيئات المدنية غير
الحكومية، وبين التراجع الواضح في الاهتمام بالشأن العام، يُبين في
النهاية أن هذا الذي قبل فيه «المجتمع المدني» لم يرق بعد إلى أن يكون
كذلك!
ثانيا: الآفاق الممكنة:
سنغالط أنفسنا إن نحن اعتبرنا أن تذليل كل حمولات العائقين السابقين من
مهام القوى الديمقراطية لوحدها. ذلك أن الدولة - السلطة في مجتمع متأخر
وفي راهن سياسي هش، تلعب أدواراً مضاعفة لما قامت به في المجتمعات التي
كانت بنيويا مفتوحة على التقدم «المنسجم» و«المنتظم». وهي بهذا المعنى إما
تسرعه أو تؤخره أو تطيل تعقيداته واستعصاءاته.
ووفق هذه الحقيقة التاريخية، فإن التوافق مع المؤسسة الملكية خيار لا بديل
عنه، شريطة ألا يفهم من ذلك ممارسة انتظارية ذيلية، تلقي أو تحجم في
الواقع العملي مسؤولية وأدوار القوى الديمقراطية واستقلاليتها في التعبير
عن مصالح القوى الاجتماعية التي تمثلها، فضلا عن المصلحة الوطنية العليا.
وبالرغم من العوائق المجتمعية القائمة، فلا أحد يستطيع أن يتكهن مسبقا
بالتفاعلات التي من شأنها أن تستنهض الحركة الجماهيرية وتخرجها من عزوفها
الراهن. ولا خيار للقوى الديمقراطية في هذا الوضع المحجوز سوى خيار
الممارسة الجماهيرية، فهي وحدها الكفيلة بالخروج من المأزق الحالي.
وتبرز الحاجة الاستراتيجية لدور المؤسسة الملكية بوجه خاص في القضيتين
التاليتين: تسريع وتيرة الإصلاح السياسي-الدستوري من جهة، والإصلاح الديني
واللغوي من جهة ثانية، لما لهذين القضيتين من ارتباط عضوي بالهوية الوطنية
وبالبعد الحضاري وكل قضايا التنمية المستدامة. ولما للمؤسسة الملكية من
مخزون تاريخي وشعبي يؤهلها في أن تضطلع بدور حاسم فيهما.
ولأننا سنفرد ورقة خاصة بالإصلاح الديني واللغوي، فإننا سنتطرق هنا
للإصلاح السياسي-الدستوري في جانب أساسي منه، ثم سننتقل على التوالي لطرح
مجموعة من القضايا التي تخص إعادة تأهيل القوى اليسارية.
1 - الإصلاح السياسي/الدستوري
من الخطأ الجسيم أن نعتبر تدني نسبة المشاركة في العمليات الانتخابية، أو
ظاهرة العزوف السياسي عامة، مجرد حالة عادية كالتي تقع بين حين وآخر في
البلدان المتقدمة. ذلك لأن السياق التاريخي ليس هو نفس السياق. فنحن
مازلنا في مرحلة الانتقال الديمقراطي الجامع في آن واحد وبشكل مكثف
ومتداخل بين مهام النهضة والتحرر الثقافي، والحداثة وبناء دولة الحق
والقانون في مجتمع ديمقراطي، والمعاصرة المرتكزة على مجتمع المعرفة
والتكنولوجيا الرفيعة. وهي مهام تعاقبت وقضت فيها الأمم الأخرى المتقدمة
مراحل تاريخية مديدة. والأدهى من ذلك، فالعزوف السياسي وعدم المشاركة
واللامبالاة يفسح المجال لدينا، في واقع التأخر المجتمعي، للوبيات المصالح
الشخصية ليعيثوا فساداً في المؤسسات المنتخبة وفي المصالح العامة التي
يؤتمنون عليها، مما يفقد المؤسسات والدولة معا مصداقيتهما. وبدل أن تكون
الانتخابات والمؤسسات وسيلة للارتقاء الديمقراطي، تغدو آلية من آليات
تعطيله. وهذا فرق جوهري ميداني بين الحالتين عندنا ولدى الآخرين.
وبدون العودة إلى المجهودات التي بذلت في هذه المرحلة الانتقالية في
الميدان السياسي عامة، كالمفهوم الجديد للسلطة الذي استهدف إعطاء الأولوية
للتنمية لدى السلطات المحلية بدل الأولوية الأمنية القهرية. وقانون
الأحزاب الذي أرسى قواعد تعامل قانونية واضحة بينها و بين الدولة، كما وضع
علاقاتها الحزبية الداخلية على محك الشفافية، وتقنين إشراك المرأة في
المؤسسات المنتخبة وغيرها من الإصلاحات الأخرى كضمان قدر هام ومتقدم في
نزاهة الانتخابات والحريات العامة على غير العهود السابقة، فإن من عوامل
تزمين تقهقر الحياة السياسية وتفشي ظاهرة العزوف السياسي، السقف الدستوري
الواطي الذي لا يفسح المجال لمباراة برنامجية حزبية كاملة في تسيير شؤون
الدولة. إن الوضع الدستوري الذي عليه الحكومة من حيث صلاحياتُها
ومسؤولياتها على الجهاز الإداري وعلى العديد من المؤسسات، مبتور في النص
والعمل.
نحن إذن بجاحة ماسة إلى دستور جديد، يأخذ العبرة من التجربة الدستورية
الحالية، ويستهدف الرقي بالتوافق الجاري إلى وضع مؤسسي ديمقراطي أكثر
نجاعة وعصرنة. ويأتي في مقدمة هذه التغييرات المطلوبة، منح الحكومة كهيئة
دستورية مستقلة كامل صلاحياتها في أن تحدد «السياسة العامة للدولة
وتديرها» كما ورد في مذكرة الكتلة لسنة 1996 . وكذلك، بمنح مجلس الحكومة
حق اقتراح التعيين في الوظائف المدنية السامية، وحق إعفاء الوزراء من طرف
الوزير الأول.
إن الإشكالية الدستورية بوجه عام، أننا مازلنا بحاجة إلى دور دستوري قوي
للمؤسسة الملكية، ولكننا أيضا بحاجة لدور دستوري قوي لحكومة ذات شخصية
سياسية مستقلة ومتضامنة، ويمكن محاسبتها، شعبيا ومؤسساتيا، على أفعالها
الحقيقية لا المجازية. ونعتقد أن هذه الإشكالية قابلة للحل دستوريا
وسياسيا وعمليا.
إن الطرح الدستوري الذي نقدمه لا يتقيد بموازين القوى التقليدية، كما جرت
العادة في الماضي، ولكنه يتطلع إلى حساب المصلحة الوطنية العليا، والتي
أمست في حاجة إلى توافق جديد يخرج البلاد من مآزقها السياسية المتجددة،
والتي تعوق انتقاله الديمقراطي، وسترتد وبالا في المدى المتوسط أو البعيد
على الأحزاب والنظام والمجتمع جميعاً.
نعم للجهوية المتقدمة، ونعم للاتمركز، ونعم للمفهوم الجديد للسلطة... لكن،
لا هذه ولا تلك يمكنها أن تثمر أغراضها، وأن تنقذ مصداقية المؤسسات
والدولة والأحزاب، إلا في ظل دستور جديد يحقق طفرة حقيقية في حياتنا
السياسية.
2 - المعارضة أو المشاركة:
هل من الجائز مناقشة هذا الموضوع قبل أوانه؟ قد يكون في ذلك بعض الفائدة.
ولكن في غير «كل الضرورة» وبالتالي كل الفائدة. ذلك أن الوقت الضروري
لمناقشة هذا الموضوع، سيكون حتما حين انتهاء الانتخابات التشريعية
القادمة، وحين إفصاحها عن توزيع القوى الانتخابي وعن الوضع السياسي
والدستوري المصاحب لها. أما قبل هذا الأوان، فإن الدعوة للانسحاب الفوري
من الحكومة القائمة، مضرة سياسيا وتشويشية عمليا. لأن لا قضية ساخنة حدث
فيها خلاف حكومي يهم الرأي العام، ولأن بعض الإصلاحات الحساسة لديه بالكاد
وضعت على الطاولة، ومنها إصلاح القضاء ومواجهة تداعيات الأزمة العالمية
على الاقتصاد الوطني والحوار الاجتماعي.. وقضايا أخرى ذات شأن وطني كبير
ومن بينها البرنامج الاستعجالي في ميدان التعليم.
ولذلك، فالنتيجة الوحيدة المترتبة عن هذا الموقف المتسرع والفاقد للجاذبية
لدى الرأي العام، والمشبوه في مصداقيته، لأنه سيبدو وكأنه هروب من
المسؤولية في مناورة انتخابوية لا أكثر ولا أقل، إحداث خصومة قد تصل إلى
قطيعة مع الحلفاء، وبث أجواء سياسية مسمومة لا تتلاءم مع الرغبة في إحداث
توافق دستوري متقدم.
ومع ذلك هناك «بعض الفائدة» في هذه المناقشة من جانب أنها فرصة للتأكيد على رؤيتنا في المبدئين التاليين:
أولا: أننا سنكون بالضرورة مع المشاركة في أية حكومة قادمة شرط أن تكون
منسجمة ومتضامنة وذات برنامج سياسي واضح، ولها صلاحيات فعلية لتنفيذه،
وتعكس ميزان قوى انتخابي حقيقي لصالح قوى التقدم.
ثانيا: وفي الوضعين، المعارضة أو المشاركة، إن فرضت الضرورة السياسية أيا
منهما، فإن مركز الثقل في العمل الحزبي اليساري ينبغي أن يتوجه إلى إصلاح
الأوضاع الذاتية جذريا، وبما يستهدف استنهاض المشاركة الشعبية وإعادة
الارتباط بها. لكي لا تتكرر مآسي كل التجارب الحكومية السالفة... بل
والتجارب النضالية السابقة عامة.
3 - وحدة اليسار
الاشتراكي والتحالفات:
ما من فصيل يساري إلا ويدعو إلى وحدة اليسار الاشتراكي. لكن حقيقة
الممارسة الفعلية، أنها جميعا متشبثة وحريصة على كياناتها المستقلة بشتى
الذرائع والتبريرات: إما لخصوصية تاريخية مازالت تعتقد في جذواها. وإما
لخلافات سياسية لبعضها مع ما سمته «اليسار الحكومي». وإما لحكم مسبق على
فشل أية وحدة اندماجية، وعلى خلفية أن التعددية اليسارية في حد ذاتها
واقعا تاريخيا إيجابيا وضروريا.
وعلى النقيض من هذه الذرائع والتبريرات، وبدون الدخول في تفاصيل تقييماتنا
عن كل فصيل، فإننا ندعو لتصور وحدوي جذري وفوري، يفضي إلى الوحدة
الاندماجية في حزب اشتراكي واحد وموحد... وبناء على الحيثيات التالية:
أولا: إن انتقال مركز الثقل في الصراع السياسي إلى المؤسسيات المنتخبة،
يعري في هذا المجرى الموضوعي للتطور الديمقراطي، ويكشف، عن أزمة الوجود
والمصير التي تعاني منها وتتخبط فيها معظم الفصائل اليسارية. فلا واحدة
منها تستطيع مغالبة مستحقاته الجماهيرية، ولا الوقوف أمام تحدياته وأمام
ترسانة اليمين ونفوذه.
صحيح، أن المؤسسات المنتخبة لا تحظى بعد بثقة الجماهير الشعبية العريضة،
لكن ذلك لا ينفي عنها أنها باتت هي مركز الصراع السياسي والتنافس
الجماهيري الحزبي.
ثانيا: ليس لأي من الفصائل اليسارية الجديدة كيانية تاريخية صلبة قد تعيق
سهولة اندماجها في حزب اشتراكي موحد. فعدا أن بعضها لم تكن دوافعه في
الوجود خلافات سياسية أو ايديولوجية واضحة، وعدا أن أغلبيتها من أصول
اتحادية، فإن حزب التقدم والاشتراكية يبقى هو الاستثناء الوحيد بعتاقته
والذي لايزال له «بعض الموروث التاريخي» في هذا الشأن. ومع ذلك، فالأوضاع
التاريخية لكيانه المستقل قد تغيرت في الملموس وفي القناعة. وكذلك الجيل
الواسع لمنتسبية قد تغير. ولنا في ترشيحاته وممثليه في المؤسسات المنتخبة
ما يغنينا عن التفاصيل.
ثالثا: ليس المهم الخلافات السياسية في حد ذاتها، بل الأكثر أهمية أن يكون
لهذه الخلافات قوة شعبية تستقبلها وتتبنى شعاراتها واختياراتها. أما حينما
يكون المجتمع يعاني من تأخر وإعاقة مديدة في انتقاله الديمقراطي، فإن
التعددية اليسارية تكون مضرة وهدر الطاقات اليسار، بل هي دليل مرض في
المجتمع وفيه. وفي هذه الحال، فإن الوحدة الاندماجية، والعمل على كسب
الأغلبية داخل الحزب الموحَّد، سيكون هو الطريق الأمثل لاستنهاض الحركة
الجماهيرية ولكسب الأغلبية الشعبية مستقبلا.
رابعا: ثمة إمكانية فعلية لوضع أرضية سياسية وايدلوجية وتنظيمية موحَّدة
في قواسم مشتركة، تقبل بها أغلب فصائل اليسار في حالة القيام بمراجعة
نقدية شاملة وجماعية وناظرة للمستقبل بكل تعقيداته وتحدياته. أرضية قادرة
على تجاوز العديد من الخلافات الراهنة، وعلى مد اليسار بقوة جماهيرية أوسع
وأداة حزبية أكثر فعالية ومتانة سياسية.
10/28/2009
بديعة- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 6241
العمر : 39
Localisation : الدارالبيضاء
Emploi : موظفة
تاريخ التسجيل : 03/04/2008
رد: ورقة تمهيدية للمناقشة الجماعية : الاتحاد الاشتراكي، الملكية، الاسلاميون، الحكومة.. واليسار /محمد حبيب الطالب
(2)
3 - التحالفات الأخرى:
أما على مستوى التحالفات، فإن التشويش والاضطراب قد بلغا ذروتهما في الفترة الأخيرة، ولذلك يهمنا أن نؤكد على الموقفين التاليين:
أولا: ما من تغير نوعي يدعونا إلى إعادة النظر في الكتلة الديمقراطية.
فحزب الاستقلال لازال هو حزب الاستقلال في رؤيته ومنهجيته ومبادئه
وسلوكاته. والتغيرات النسبية التي حدثت في قواعده الاجتماعية وأطره
وقياداته هي في حكم ما يجري في مختلف الأحزاب الديمقراطية الأخرى. أما
الظواهر الشخصية الغارقة في النفعية، فهي ظواهر قديمة لا يمكن بعد القياس
عليها لوحدها.
ثم، إن برنامج الكتلة الديمقراطية الذي سطرته في مجموعة من الوثائق مازال
قائما، ولم يستنفد بعد كل أغراضه، لا في المجال السياسي والدستوري ولا في
المجالات الأخرى.
والمشكلة الحقيقية في نظرنا، أن أيا من أحزاب الكتلة مارس تجاه حليفيه
الآخرين سياسة كتلوية فعلية ونشطة ومبادرة. بل كان الحذر والتنافسات
الضيقة العقلية السائدة داخل الكتلة ولاسيما بين الطرفين الرئيسيين فيها:
حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. ولذلك، غابت الكتلة عمليا، وانعدمت
مبادراتها السياسية والجماهيرية، وانطفأ حتى ذاك البصيص المعنوي الذي كانت
تثيره لدى مكوناتها. فكيف يجوز لنا إذن أن نحكم على خيار لم يمارس في
الواقع، بل تمَّ وأده في حينه. بينما تُبين التجربة، أنه عندما كانت
الإرادة السياسية الكتلوية متوفرة عند أولئك القادة التاريخيين وعند
الجميع، أنجزت الكتلة وقدمت الشيء الكثير. فمن كان يصدق، بعد الصراعات
القديمة، أن حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي سيتوصلان إلى تقديم لائحة
مشتركة وموحَّدة في الانتخابات التشريعية لسنة..... !! إن عقلية الوحدة
والتحالفات الاستراتيجية تبدو في المشهد السياسي العام لدى اليسار والقوى
الديمقراطية، وكأنها عقلية مناقضة في الصميم لشخصيتهم السياسية التجزيئية
بالأحرى. وفي هذا الأمر أكثر من دلالة على تدني «النخبة السياسية» في
بلدنا.
إن عملا وحدويا أو تحالفيا من هذا القبيل يتطلب الوعي الصاحي بشروط
المرحلة، والإرادة الوحدوية القوية، والأفق السياسي الواضح، والنفس الطويل
والمثابر، والاستعداد للتنازلات المتبادلة، وبالجملة، فإنه يحتاج إلى
التربية الايديولوجية المناسبة.
ولكي تكون الكتلة في مستوى تحديات الانتقال الديمقراطي، بخصوصياته
التاريخية التي ألمحنا إليها، عليها أن تعي، أن أشكال العمل الفوقية
والوقتية التي تعودت عليها دون غيرها، لم تعد كافية ولا مقنعة في المراحل
القادمة. فما لم تكن قواعد الكتلة مقتنعة بجدواها ومشاركة بفعالية في
توجهاتها وأنشطتها، وما لم يكن الهم الجماهيري حاضرا على الدوام في كل
موقف تتخذه، وفي أشكال العمل التي تنتقيها، فستظل الكتلة معرضة للحسابات
الضيقة، وعلى هامش التطلعات الشعبية، وقاصرة على أن تكون التعبير المجتمعي
المطلوب.
لكن، ألا نتوقع لأحزاب الكتلة تموقعات سياسية قد تكون متعارضة في المرحلة
القادمة؟ قد يحصل ذلك. بل ومن أجل درء هكذا احتمال، والذي سيكون لا محالة
إضعافا إضافيا للقوى الديمقراطية، ينبغي التعجيل باستئناف عمل الكتلة
والقيام بالمراجعات النقدية الضرورية، واستخراج الخلاصات المشتركة منها،
وتقريب التصورات السياسية للمرحلة القادمة. فلا شيء حتمي تفرضه الضرورة
الموضوعية الخالصة وحدها، وإنما للإرادة أيضا مكانتها وفاعليتها.
ثانيا: من أهم القضايا التي مازالت تثير الكثير من الجدل لدينا وفي الساحة
الوطنية والعربية عامة، الموقف الذي ينبغي للاشتراكيين أن يتخذوه من
الحركات المنسوبة إلى الإسلام السياسي. ولأننا سنخصص ورقة لموضوع الإصلاح
الديني، فإننا سنؤجل التشخيص الدقيق لحمولاتها الإيدلوجية المختلفة إلى
ذاك الموقع. وما سنطرحه الآن ليس أكثر من منطلقات أولية يتم نسيانها في
الغالب في خضم التنافس الساخن الجاري. وهذه المنطلقات الأولية هي:
أولا: لنبدأ بالتذكير التالي، إن الحركة الاسلامية ليست بالحركة الواحدة
المتجانسة، لأنها مختلفة المذاهب الطائفية والمشارب الفكرية ومتناقضة
التموقعات السياسية ومناهج العمل وأساليبه، عدا تطبع كل منها بخصوصيات
تجاربها الوطنية ودرجات التطور الديمقراطي بها. وتشمل هذه التعددية البلد
الواحد أيضا.
ولذلك، لا يجوز التعميم وإطلاق نفس الحكم الواحد عليها جميعا. والأمر لا
يختلف في بلدنا عن هذه القاعدة. إذ لدينا حركة عقيدية هي أقرب إلى
«الزاوية» منها إلى حزب سياسي، ومازالت تتموقع سياسيا خارج السيرورة
الديمقراطية. ولدينا حركة سياسية براغماتية مندرجة في العملية الديمقراطية
وتشكل الايديولوجيا لديها رديفا مكملا وتابعا لأولوية العمل السياسي. وهي
تنهل بوجه عام من أدبيات ما يسمى «بالإسلام الوسطي». ولدينا تنظيمات ناشئة
أكثر انفتاحاً وتحرراً ايدلوجيا وسياسيا، وإن كان موقف السلطة منها مازال
متعثراً ومتردداً وغامضا. ولدينا أخيراً، «المجموعات الجهادية» المستنسخة
لفكر القاعدة وأساليبها. وأما هذا الوضع المتعدد الألوان، فإن تعاطينا مع
هذا الفريق أو ذاك يختلف قوميا ووطنيا بحسب إقتراب كل منها من رؤيتنا
السياسية وانفتاح كل منها ايديولوجيا على التقدم الفكري. إن شعار «ليس في
القنافد أملس» شعار مضلل واستعدائي وكارثي على مستوى الممارسة العملية.
ثانيا: ينبغي ألا يغيب عنا، من جهة، أن حركات الإسلام السياسي قابلة،
للتطور في جميع الاتجاهات، كأي حركة اجتماعية سياسية أخرى، تبعا لمستوى
تطور التناقضات الاجتماعية والثقافية والسياسية في البلد المعني. إن الحكم
عليها الإجمالي بالجمود المطلق في نفس مواقعها، حكم غير متبصر وغير واقعي.
قد تكون وتيرة التطور بطيئة، بحكم طبيعة المعتقد الحاملة له، وبحكم التحصن
الدفاعي الذي تمر منه تجاه اكتساح الحداثة آخر معاقلها الدفاعية «الأسرة
على سبيل المثال» وما تعتبره ثوابت أخلاقية بوجه عام، وبحكم حالة الإذلال
القهري الامبريالي-الاستعماري الذي مازالت تعاني منه الأمة العربية
والشعوب الإسلامية دون غيرها... إلا أن كل ذلك لا يستثني الحركات
الاسلامية من سنة الحياة، وقانونها العام في التطور تبعا لتطور المجتمع
ككل.
ومن جهة ثانية، وكيفما كان الدور الذي لعبته السلطات الحاكمة في تشجيع
الحركات الاسلامية لكبح المد اليساري الماركسي والقومي، فهي مع ذلك حركات
اجتماعية شعبية لها جذورها في التربة الوطنية.
إن الإشارة لهذا الجانب، على غير النظرة «المؤامراتية السطحية» قد يفيدنا
أيضا في رؤية الوجه الآخر الخلفي لهذه الظاهرة. فإذا كان من مصادر قوتها
الشعبية، أنها استثمرت الموروث الثقافي الديني في تموقعها الاحتجاجي
المعارض بوجه عام للأنظمة القائمة، ولو بالصيغة الايدلوجية المحافظة، فإن
من مصادر ضعف القوى الحداثية، أنها أهملت هذا الموروث الثقافي كلية، أو
أنها تحاشت الخوض فيه ولا تملك عنه سوى أجوبة شكلية فارغة المضمون، ولذلك
فلم تستطع أن تبيئ وتوطن و«تعرب» حداثتها، كما عجزت من قبل على تبييئ
وتوطين وتعريب ماركسيتها أو اشتراكيتها.
ثالثا: إن مطلب فصل الدين عن السياسة هكذا بإطلاق، مطلب غير واقعي وغير
تاريخي بالمرة. عدا أنه تحريف لمفهوم العَلمانية بحد ذاته والذي لا يطالب
أكثر من فصل الدين عن الدولة و فصل الدولة عن الدين. ليس الدين مجرد علاقة
فردية مع الله، تُختزل في تمارين دائمة لشعائر ثابتة، يقوم به الفرد لضمان
خلاص في الآخرة. بل هو في الواقع التاريخي أكثر من ذلك، إنه - أيضا -
رابطة روحية وثقافية وأخلاقية واجتماعية لمساعي فردية ومجتمعية دنيوية.
ويشتد لحامه (أي الدين) والحاجة إليه، كلما كانت الروابط الاجتماعية
الأخرى ضعيفة أو تمر من حالة أزمة. فهو الملجأ الواقي، والتعويض اللاحم
لضعف تاريخي أو مرحلي للروابط المجتمعية الأخرى. فالارتباط إذن بين الدين
وشؤون الدنيا حميمي ومتغير. ومن ثمة، فالعلمانية في هذه الحال ليست مجرد
إجراء قانوني دستوري، وإنما هي حصيلة لحرث ثقافي تصير معه الثقافة الدينية
السائدة قابلة للتطور ومطابقة لحاجيات العصر، وتكون العلاقات المجتمعية
الأخرى مواكبة وعلى قدر مناسب وداعم لهذا التقدم.
غاية القول، ليس «المرجعية الإسلامية» التي تتشبث بها الحركات الاسلامية
هي موطن الخلاف، فكل الأحزاب الديمقراطية تمتح بهذا القدر أو ذاك من نفس
المرجعية، وإنما الخلاف في التأويلات السياسية والفكرية المستخلصة منها
والموضوعة كخيارات نهائية للمجتمع.
لقد أعطت الحركات الاسلامية الأولية المطلقة للحركية السياسية على حساب
التجديد الفكري والايديولوجي. فكان انخراط بعضها أو جلها في العملية
الديمقراطية مشوها ومبتوراً ومتناقض النتائج، تقدم نسبي سياسي من جهة
ومحافظة اجتماعية وتلفيقية فكرية من جهة ثانية، والأنكى من ذلك، روح
المداهنة الشعبوية لأشد مظاهر الموروث رجعية وتخلفا في سبيل كسب سياسوي
عاجل. ولعل في هذا الانشغال السياسوي الشعبوي ما يفسر كيف بقيت الحركات
الاسلامية تحت القبضة الثقافية لمفكرين إسلاميين تقليدانيين، وبعيدة كل
البعد عن تأثيرات اجتهادات المفكرين الإسلاميين الحداثيين وهم بالأولى
والأحرى.
رابعا: لكل تلك المقدمات السابقة، فإن موقفنا الذي يسعى إلى أن يستوعب كل
الشروط الموضوعية والذاتية، التاريخية والمرحلية، والذي يحاول أن يُكوِّن
صورة متكاملة عن حركات «الاسلام السياسي» في أوضاعها المختلفة ودينامياته
المتناقضة..
إن موقفنا هذا لن يكون بالتالي حكما عليها بالجملة، ولا حكما نمطيا ذا
اتجاه واحد، بل سيتعاطى مع كل حالة خصوصية بالقدر الذي تقترب فيه من
قناعاتنا الحداثية ومن خياراتنا السياسية، سواء بالنقد لما يخالف هذه
القناعات والاختيارات، أو بالتعاون والمساندة لما يتفق معها. أو بالإدانة
الكلية لمن يكون على نقيض الخيار الديمقراطي جذريا.
إن هذا السلوك لا يلغي في النهاية واجبنا الديمقراطي في الدفاع عن حقوق أي
منها إذا ما تعرض لجور أو تظلم أو عسف لا يجيزه القانون ومبادئ حقوق
الإنسان كيفما اختلفنا سياسيا أو فكريا.
وفوق هذا وذاك، أو مع هذا وذاك، فإننا نضع من هواجسنا واهتماماتنا، أن
نجاح الحداثة الفكرية أو الايدلوجية الاشتراكية، لا يستقيم إلا مع وصلهما
الاستيعابي والنقدي مع تراثنا الثقافي الديني، وإلا ظلت الحداثة
والاشتراكية على حالهما دعوة برانية ونخبوية معزولة وعاجزة على الفعل
والقيادة والسيادة.
4 - الايديولوجيا..
بعد انهيار ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي، لم يعد لمفهوم الايديولوجيا
في التداول الفكري إلا طابعا سلبيا محضا، وبما يدل على كل أشكال الوعي
الزائفة والمناقضة للعلم.
نحن لا نتقيد بهذا الاختيار السائد لاحتراسات عديدة، منها، أن الهجوم
المركز على «الايديولوجيا» موجه بالدرجة الأولى لخصي الفكر من غاياته
الإنسانية المثلى. وهو بالتالي يضرب في الصميم الايديولوجيا الاشتراكية،
كفكر وكفلسفة وتصورات اقتصادية واجتماعية وغايات تحررية إنسانية جذرية.
مشجعا في مقابل ذلك نزعة وضعانية برغماتية، وعقلانية أداتية، بلا بعد
تاريخي ولا أفق إنساني تحرري شامل وجذري، ويقصد أن يظل الانسان في النهاية
عبداً ذليلا لمنتوجاته واختراعاته وللنظام الرأسمالي العالمي. وبديهي أننا
لا نعمم هذا الاستنتاج على كل الكتابات النقدية في هذا الشأن. فالمفهوم
الاشتراكي للايديولوجيا لا يسقط كل جوانب الزيف فيها، وإنما يشدد على
مضامينها الاجتماعية وعلى مدى مطابقتها الفعلية لشرط التقدم وللتحرر
الانساني الشامل. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هو التالي: إذا كان في
المجتمعات المتقدمة ما يبرر، أو ما يفسر بالأصح، تراجع الايديولوجيا
لديها، فهل مجتمعاتنا العربية - الاسلامية في نفس الوضع التاريخي، العلمي
والثقافي، والإنتاجي.. بينما هي مجتمعات مستهلكة في كل تلك المجالات، وذات
تراث ثقافي ماضوي مثقل على حاضرها، وتواجه اليوم مهاماً متداخلة ومكثفة
نهضوية وحداثية ومعاصرة(؟) إن جوابنا سيكون بالقطع في أن مجتمعاتنا مازالت
مجتمعات ايديولوجية... وهي في حاجة إلى ايديولوجية مطابقة لمتطلباتها
التاريخية. ودليلنا على ذلك، حتى ولو كان إثباتنا من نوع الإثبات بالسلب،
أن التنظيمات السياسية التي لها تماسك داخلي قوي، وحضور جماهيري يمتد إلى
القعر، هي التنظيمات ذات التماسك لايديولوجي، وإن كانت ايديولوجية
تقليدانية. بينما ضعفت تلك التي تبنت الحداثة في ظل تفكك وانحلال
ايديولوجيتها الاشتراكية، وهي الايديولوجيا الوحيدة المتماسكة والقادرة
على مجابهة التقليد بأفق فكري تاريخي واجتماعي مفتوح على النهضة والتقدم.
إشكاليتنا نحن الاشتراكيين المغاربة، أن الايديولوجيا الاشتراكية لدينا لم
ترسخ أقدامها بعد برصيد نظري غني ومتين. فما أن بدأت تخطو خطواتها الأولى
في المتسع الشعبي، وما أن بدأت تتعمم في أوساط المثقفين، وبالشكل الفقير
والبراني الذي عممت به، حتى تسارع الزمن «لغير مصلحتها» مباغتا أياها
بانقلابات عالمية في مجال السياسة والفكر والعلم، طرحت عليها أسئلة جديدة
لم تألفها من قبل، وهي مازالت تحبو وتتلمس الطريق إلى واقعها الخاص.
ولذلك، لا نجد على امتداد التجربة المغربية إنتاجات نظرية معمقة في
الايديولوجيا الاشتراكية، غير ما كان عاماً وشائعا عنها. إضافة لتحاشي
الفكر السياسي المغربي التقدمي الخوض في الأسس الفلسفية للاشتراكية مكتفيا
منها بالمنهج الاقتصادي مراساً وحيداً له. ولا نجد بالأحرى متابعة لها بعد
الزلازل التي عرفها العالم، وفي ضوء التطورات الكيفية الحاصلة في ميادين
المعرفة المختلفة. كل شيء يجري في الميدان الفكري والثقافي لدينا، وكأن
الاشتراكية لم يعد لها وجود نظري، ولم تعد أفقاً تاريخيا للإنسانية جمعاء،
سوى التصريح بها إسما والانتماء إليها رمزاً. ما نود استخلاصه في النهاية،
أننا بحاجة إلى إرجاع الاعتبار للايديولوجيا في حياتنا الحزبية، وإلى
إغناء وتجديد تفكيرنا الاشتراكي، والانكباب على عملية تثقيف واسعة ودائمة
لأطرنا وقواعدنا الحزبية. وهذا لن يتأتى على أحسن وجه إلا من خلال القيام
بمراجعة جماعية فكرية للتراث الاشتراكي بكل تفرعاته، قديمه وجديده. ومن
خلال إعادة ربط الصلة العضوية بين الحداثة وبين المشروع الاشتراكي، وكذلك
بإيجاد صلات الوصل بين الايديولوجيا الاشتراكية وثراتنا الحضاري التقدمي.
إن هذا المجهود النظري-التثقيفي الذي نطمح له لا يمكن أن يجد البيئة
المناسبة لإنجازه سوى إذا استطعنا أن نشرك المثقفين، ونسترجع معهم أدوارهم
وحضورهم الفاعل في الحياة السياسية عامة، وفي المشروع المجتمعي الاشتراكي
بوجه خاص.
5 - البرنامج المجتمعي النهضوي:
تعتبر هذه القضية من أهم المراجعات التي نصبو إليها. ذلك أن من أسباب
التراجع في التعاطف الشعبي مع حكومات الانتقال الديمقراطي، غياب مثل هذا
البرنامج لدى الأحزاب الديمقراطية والاشتراكية، وبالتالي، انسحابها الشبه
كلي من الميدان المجتمعي، و استغراقها في انتظارية ذيلية للعمل الحكومي.
إن المشاركة في حكومة التوافق، وفي ما بعدها، وفي تلك الشروط المؤسساتية
والدستورية، وتحالفاتها الحزبية العريضة، وبالتجاوزات التي صاحبتها، وفي
أجواء شعبية غير مبالية وقلقة... كل ذلك كان يستوجب على القوى
الديمقراطية، وعلى الاتحاد الاشتراكي أساساً، أن يحافظ على استقلاليته
النسبية تجاه جماهيره وقواعده، بل كان هذا الارتباط فريضة مطلقة فوق أي
تضامن حكومي وفي كافة الظروف والأحوال. والواقع نفسه يبين، أن بين التضامن
الحكومي وبين العمل الجماهيري مسافة، غير متناقضة، وشاسعة، لا يمكن للعمل
الحكومي كيفما كان نمطه، أن يحتاجها لوحده. وأن أشكال العمل الجماهيري
وأساليبه متنوعة بحسب كل ظرف سياسي.
لكن الحقيقة أننا كنا أمام جمود تنظيمي حزبي شبه مطلق، مبعثه هو الآخر، أن
القوى الاشتراكية دخلت المشاركة الحكومية بلا تحليل معمق لاستراتيجية
الانتقال الديمقراطي، ودون تثقيف مسبق لقواعدها وأطرها بما كان ينتظرها من
احتمالات وتحديات وما كان الظرف يستدعي منها من استعدادات تكتيكية ومؤهلات
جماهيرية حماية للتجربة ودعما لها وتقليلا للخسائر الواردة. إن غياب
البرنامج المجتمعي، تحليلا وممارسة، كان من أبرز علائم هذا الجمود. بل قل،
كان قصوراً واضحا في الوعي الاستراتيجي وفي الممارسة النضالية.
ولهذا، يصعب علينا أن نستسيغ تعليق كل المعضلة السياسية في ما آلت إليه
الأوضاع الجماهيرية والحزبية، إما على المشاركة الحكومية، وإما على طبيعة
الدستور الجاري به العمل. بل لا نرى في هذا السلوك الاختزالي سوى شكل من
أشكال «الهروب إلى الأمام» للتغطية على مواطن العجز الذاتي العميقة.
نعم...، لقد كانت هناك دائما برامج قطاعية أو مناطقية، لكن هذه البرامج
على تجزيئيتها وتشتتها وتضارب أولوياتها، وتموضعها على هامش الخط السياسي
المرحلي، وفي بيئة تنظيمية سائبة، وفي غياب المتابعة والتثقيف الجماعي
بها، لم ترق في الممارسة العملية، قط، إلى مركز الاهتمام اليومي للقيادة
أو للقاعدة. ولم تصل قط إلى مستوى المحاسبة والمتابعة الحثيثة والمبدعة.
إنها بكل بساطة أوراق موضوعة على الرف.
إن البرنامج المجتمعي الذي نعنيه هو العصب الحي لعمل كل الهيئات القيادية
والقاعدية. وهو نهج تعبوي، تنظيمي وسياسي وايديولوجي، متماسك ومتكامل
الأهداف. ينطلق من التحليل الموضوعي للتحولات الاجتماعية في كل مرحلة، ومن
مطالب وأهداف وأساليب عمل مع كل فئة أو مكون من المكونات المجتمعية. ويجيب
على الأسئلة المستقطبة التي طرحتها الممارسة المجتمعية على الحزب في كل
مرحلة ولدى كل فئة.
ولأن التراجع في الحياة السياسية العامة هو طابع المرحلة، فإن الهدف
المركزي الذي وضعناه للبرنامج المجتمعي المرحلي، نتوخى منه استنهاض القوى
الشعبية وإعادة ارتباط القوى الاشتراكية بها. وهذا ما جعلنا نسميه
بـ«البرنامج المجتمعي النهضوي». وسنعطي الأولوية لهذا الموضوع الحاسم
بتفاصيله في ورقة خاصة قادمة.
29-10-2009
الاتحاد الاشتراكي
3 - التحالفات الأخرى:
أما على مستوى التحالفات، فإن التشويش والاضطراب قد بلغا ذروتهما في الفترة الأخيرة، ولذلك يهمنا أن نؤكد على الموقفين التاليين:
أولا: ما من تغير نوعي يدعونا إلى إعادة النظر في الكتلة الديمقراطية.
فحزب الاستقلال لازال هو حزب الاستقلال في رؤيته ومنهجيته ومبادئه
وسلوكاته. والتغيرات النسبية التي حدثت في قواعده الاجتماعية وأطره
وقياداته هي في حكم ما يجري في مختلف الأحزاب الديمقراطية الأخرى. أما
الظواهر الشخصية الغارقة في النفعية، فهي ظواهر قديمة لا يمكن بعد القياس
عليها لوحدها.
ثم، إن برنامج الكتلة الديمقراطية الذي سطرته في مجموعة من الوثائق مازال
قائما، ولم يستنفد بعد كل أغراضه، لا في المجال السياسي والدستوري ولا في
المجالات الأخرى.
والمشكلة الحقيقية في نظرنا، أن أيا من أحزاب الكتلة مارس تجاه حليفيه
الآخرين سياسة كتلوية فعلية ونشطة ومبادرة. بل كان الحذر والتنافسات
الضيقة العقلية السائدة داخل الكتلة ولاسيما بين الطرفين الرئيسيين فيها:
حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. ولذلك، غابت الكتلة عمليا، وانعدمت
مبادراتها السياسية والجماهيرية، وانطفأ حتى ذاك البصيص المعنوي الذي كانت
تثيره لدى مكوناتها. فكيف يجوز لنا إذن أن نحكم على خيار لم يمارس في
الواقع، بل تمَّ وأده في حينه. بينما تُبين التجربة، أنه عندما كانت
الإرادة السياسية الكتلوية متوفرة عند أولئك القادة التاريخيين وعند
الجميع، أنجزت الكتلة وقدمت الشيء الكثير. فمن كان يصدق، بعد الصراعات
القديمة، أن حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي سيتوصلان إلى تقديم لائحة
مشتركة وموحَّدة في الانتخابات التشريعية لسنة..... !! إن عقلية الوحدة
والتحالفات الاستراتيجية تبدو في المشهد السياسي العام لدى اليسار والقوى
الديمقراطية، وكأنها عقلية مناقضة في الصميم لشخصيتهم السياسية التجزيئية
بالأحرى. وفي هذا الأمر أكثر من دلالة على تدني «النخبة السياسية» في
بلدنا.
إن عملا وحدويا أو تحالفيا من هذا القبيل يتطلب الوعي الصاحي بشروط
المرحلة، والإرادة الوحدوية القوية، والأفق السياسي الواضح، والنفس الطويل
والمثابر، والاستعداد للتنازلات المتبادلة، وبالجملة، فإنه يحتاج إلى
التربية الايديولوجية المناسبة.
ولكي تكون الكتلة في مستوى تحديات الانتقال الديمقراطي، بخصوصياته
التاريخية التي ألمحنا إليها، عليها أن تعي، أن أشكال العمل الفوقية
والوقتية التي تعودت عليها دون غيرها، لم تعد كافية ولا مقنعة في المراحل
القادمة. فما لم تكن قواعد الكتلة مقتنعة بجدواها ومشاركة بفعالية في
توجهاتها وأنشطتها، وما لم يكن الهم الجماهيري حاضرا على الدوام في كل
موقف تتخذه، وفي أشكال العمل التي تنتقيها، فستظل الكتلة معرضة للحسابات
الضيقة، وعلى هامش التطلعات الشعبية، وقاصرة على أن تكون التعبير المجتمعي
المطلوب.
لكن، ألا نتوقع لأحزاب الكتلة تموقعات سياسية قد تكون متعارضة في المرحلة
القادمة؟ قد يحصل ذلك. بل ومن أجل درء هكذا احتمال، والذي سيكون لا محالة
إضعافا إضافيا للقوى الديمقراطية، ينبغي التعجيل باستئناف عمل الكتلة
والقيام بالمراجعات النقدية الضرورية، واستخراج الخلاصات المشتركة منها،
وتقريب التصورات السياسية للمرحلة القادمة. فلا شيء حتمي تفرضه الضرورة
الموضوعية الخالصة وحدها، وإنما للإرادة أيضا مكانتها وفاعليتها.
ثانيا: من أهم القضايا التي مازالت تثير الكثير من الجدل لدينا وفي الساحة
الوطنية والعربية عامة، الموقف الذي ينبغي للاشتراكيين أن يتخذوه من
الحركات المنسوبة إلى الإسلام السياسي. ولأننا سنخصص ورقة لموضوع الإصلاح
الديني، فإننا سنؤجل التشخيص الدقيق لحمولاتها الإيدلوجية المختلفة إلى
ذاك الموقع. وما سنطرحه الآن ليس أكثر من منطلقات أولية يتم نسيانها في
الغالب في خضم التنافس الساخن الجاري. وهذه المنطلقات الأولية هي:
أولا: لنبدأ بالتذكير التالي، إن الحركة الاسلامية ليست بالحركة الواحدة
المتجانسة، لأنها مختلفة المذاهب الطائفية والمشارب الفكرية ومتناقضة
التموقعات السياسية ومناهج العمل وأساليبه، عدا تطبع كل منها بخصوصيات
تجاربها الوطنية ودرجات التطور الديمقراطي بها. وتشمل هذه التعددية البلد
الواحد أيضا.
ولذلك، لا يجوز التعميم وإطلاق نفس الحكم الواحد عليها جميعا. والأمر لا
يختلف في بلدنا عن هذه القاعدة. إذ لدينا حركة عقيدية هي أقرب إلى
«الزاوية» منها إلى حزب سياسي، ومازالت تتموقع سياسيا خارج السيرورة
الديمقراطية. ولدينا حركة سياسية براغماتية مندرجة في العملية الديمقراطية
وتشكل الايديولوجيا لديها رديفا مكملا وتابعا لأولوية العمل السياسي. وهي
تنهل بوجه عام من أدبيات ما يسمى «بالإسلام الوسطي». ولدينا تنظيمات ناشئة
أكثر انفتاحاً وتحرراً ايدلوجيا وسياسيا، وإن كان موقف السلطة منها مازال
متعثراً ومتردداً وغامضا. ولدينا أخيراً، «المجموعات الجهادية» المستنسخة
لفكر القاعدة وأساليبها. وأما هذا الوضع المتعدد الألوان، فإن تعاطينا مع
هذا الفريق أو ذاك يختلف قوميا ووطنيا بحسب إقتراب كل منها من رؤيتنا
السياسية وانفتاح كل منها ايديولوجيا على التقدم الفكري. إن شعار «ليس في
القنافد أملس» شعار مضلل واستعدائي وكارثي على مستوى الممارسة العملية.
ثانيا: ينبغي ألا يغيب عنا، من جهة، أن حركات الإسلام السياسي قابلة،
للتطور في جميع الاتجاهات، كأي حركة اجتماعية سياسية أخرى، تبعا لمستوى
تطور التناقضات الاجتماعية والثقافية والسياسية في البلد المعني. إن الحكم
عليها الإجمالي بالجمود المطلق في نفس مواقعها، حكم غير متبصر وغير واقعي.
قد تكون وتيرة التطور بطيئة، بحكم طبيعة المعتقد الحاملة له، وبحكم التحصن
الدفاعي الذي تمر منه تجاه اكتساح الحداثة آخر معاقلها الدفاعية «الأسرة
على سبيل المثال» وما تعتبره ثوابت أخلاقية بوجه عام، وبحكم حالة الإذلال
القهري الامبريالي-الاستعماري الذي مازالت تعاني منه الأمة العربية
والشعوب الإسلامية دون غيرها... إلا أن كل ذلك لا يستثني الحركات
الاسلامية من سنة الحياة، وقانونها العام في التطور تبعا لتطور المجتمع
ككل.
ومن جهة ثانية، وكيفما كان الدور الذي لعبته السلطات الحاكمة في تشجيع
الحركات الاسلامية لكبح المد اليساري الماركسي والقومي، فهي مع ذلك حركات
اجتماعية شعبية لها جذورها في التربة الوطنية.
إن الإشارة لهذا الجانب، على غير النظرة «المؤامراتية السطحية» قد يفيدنا
أيضا في رؤية الوجه الآخر الخلفي لهذه الظاهرة. فإذا كان من مصادر قوتها
الشعبية، أنها استثمرت الموروث الثقافي الديني في تموقعها الاحتجاجي
المعارض بوجه عام للأنظمة القائمة، ولو بالصيغة الايدلوجية المحافظة، فإن
من مصادر ضعف القوى الحداثية، أنها أهملت هذا الموروث الثقافي كلية، أو
أنها تحاشت الخوض فيه ولا تملك عنه سوى أجوبة شكلية فارغة المضمون، ولذلك
فلم تستطع أن تبيئ وتوطن و«تعرب» حداثتها، كما عجزت من قبل على تبييئ
وتوطين وتعريب ماركسيتها أو اشتراكيتها.
ثالثا: إن مطلب فصل الدين عن السياسة هكذا بإطلاق، مطلب غير واقعي وغير
تاريخي بالمرة. عدا أنه تحريف لمفهوم العَلمانية بحد ذاته والذي لا يطالب
أكثر من فصل الدين عن الدولة و فصل الدولة عن الدين. ليس الدين مجرد علاقة
فردية مع الله، تُختزل في تمارين دائمة لشعائر ثابتة، يقوم به الفرد لضمان
خلاص في الآخرة. بل هو في الواقع التاريخي أكثر من ذلك، إنه - أيضا -
رابطة روحية وثقافية وأخلاقية واجتماعية لمساعي فردية ومجتمعية دنيوية.
ويشتد لحامه (أي الدين) والحاجة إليه، كلما كانت الروابط الاجتماعية
الأخرى ضعيفة أو تمر من حالة أزمة. فهو الملجأ الواقي، والتعويض اللاحم
لضعف تاريخي أو مرحلي للروابط المجتمعية الأخرى. فالارتباط إذن بين الدين
وشؤون الدنيا حميمي ومتغير. ومن ثمة، فالعلمانية في هذه الحال ليست مجرد
إجراء قانوني دستوري، وإنما هي حصيلة لحرث ثقافي تصير معه الثقافة الدينية
السائدة قابلة للتطور ومطابقة لحاجيات العصر، وتكون العلاقات المجتمعية
الأخرى مواكبة وعلى قدر مناسب وداعم لهذا التقدم.
غاية القول، ليس «المرجعية الإسلامية» التي تتشبث بها الحركات الاسلامية
هي موطن الخلاف، فكل الأحزاب الديمقراطية تمتح بهذا القدر أو ذاك من نفس
المرجعية، وإنما الخلاف في التأويلات السياسية والفكرية المستخلصة منها
والموضوعة كخيارات نهائية للمجتمع.
لقد أعطت الحركات الاسلامية الأولية المطلقة للحركية السياسية على حساب
التجديد الفكري والايديولوجي. فكان انخراط بعضها أو جلها في العملية
الديمقراطية مشوها ومبتوراً ومتناقض النتائج، تقدم نسبي سياسي من جهة
ومحافظة اجتماعية وتلفيقية فكرية من جهة ثانية، والأنكى من ذلك، روح
المداهنة الشعبوية لأشد مظاهر الموروث رجعية وتخلفا في سبيل كسب سياسوي
عاجل. ولعل في هذا الانشغال السياسوي الشعبوي ما يفسر كيف بقيت الحركات
الاسلامية تحت القبضة الثقافية لمفكرين إسلاميين تقليدانيين، وبعيدة كل
البعد عن تأثيرات اجتهادات المفكرين الإسلاميين الحداثيين وهم بالأولى
والأحرى.
رابعا: لكل تلك المقدمات السابقة، فإن موقفنا الذي يسعى إلى أن يستوعب كل
الشروط الموضوعية والذاتية، التاريخية والمرحلية، والذي يحاول أن يُكوِّن
صورة متكاملة عن حركات «الاسلام السياسي» في أوضاعها المختلفة ودينامياته
المتناقضة..
إن موقفنا هذا لن يكون بالتالي حكما عليها بالجملة، ولا حكما نمطيا ذا
اتجاه واحد، بل سيتعاطى مع كل حالة خصوصية بالقدر الذي تقترب فيه من
قناعاتنا الحداثية ومن خياراتنا السياسية، سواء بالنقد لما يخالف هذه
القناعات والاختيارات، أو بالتعاون والمساندة لما يتفق معها. أو بالإدانة
الكلية لمن يكون على نقيض الخيار الديمقراطي جذريا.
إن هذا السلوك لا يلغي في النهاية واجبنا الديمقراطي في الدفاع عن حقوق أي
منها إذا ما تعرض لجور أو تظلم أو عسف لا يجيزه القانون ومبادئ حقوق
الإنسان كيفما اختلفنا سياسيا أو فكريا.
وفوق هذا وذاك، أو مع هذا وذاك، فإننا نضع من هواجسنا واهتماماتنا، أن
نجاح الحداثة الفكرية أو الايدلوجية الاشتراكية، لا يستقيم إلا مع وصلهما
الاستيعابي والنقدي مع تراثنا الثقافي الديني، وإلا ظلت الحداثة
والاشتراكية على حالهما دعوة برانية ونخبوية معزولة وعاجزة على الفعل
والقيادة والسيادة.
4 - الايديولوجيا..
بعد انهيار ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي، لم يعد لمفهوم الايديولوجيا
في التداول الفكري إلا طابعا سلبيا محضا، وبما يدل على كل أشكال الوعي
الزائفة والمناقضة للعلم.
نحن لا نتقيد بهذا الاختيار السائد لاحتراسات عديدة، منها، أن الهجوم
المركز على «الايديولوجيا» موجه بالدرجة الأولى لخصي الفكر من غاياته
الإنسانية المثلى. وهو بالتالي يضرب في الصميم الايديولوجيا الاشتراكية،
كفكر وكفلسفة وتصورات اقتصادية واجتماعية وغايات تحررية إنسانية جذرية.
مشجعا في مقابل ذلك نزعة وضعانية برغماتية، وعقلانية أداتية، بلا بعد
تاريخي ولا أفق إنساني تحرري شامل وجذري، ويقصد أن يظل الانسان في النهاية
عبداً ذليلا لمنتوجاته واختراعاته وللنظام الرأسمالي العالمي. وبديهي أننا
لا نعمم هذا الاستنتاج على كل الكتابات النقدية في هذا الشأن. فالمفهوم
الاشتراكي للايديولوجيا لا يسقط كل جوانب الزيف فيها، وإنما يشدد على
مضامينها الاجتماعية وعلى مدى مطابقتها الفعلية لشرط التقدم وللتحرر
الانساني الشامل. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هو التالي: إذا كان في
المجتمعات المتقدمة ما يبرر، أو ما يفسر بالأصح، تراجع الايديولوجيا
لديها، فهل مجتمعاتنا العربية - الاسلامية في نفس الوضع التاريخي، العلمي
والثقافي، والإنتاجي.. بينما هي مجتمعات مستهلكة في كل تلك المجالات، وذات
تراث ثقافي ماضوي مثقل على حاضرها، وتواجه اليوم مهاماً متداخلة ومكثفة
نهضوية وحداثية ومعاصرة(؟) إن جوابنا سيكون بالقطع في أن مجتمعاتنا مازالت
مجتمعات ايديولوجية... وهي في حاجة إلى ايديولوجية مطابقة لمتطلباتها
التاريخية. ودليلنا على ذلك، حتى ولو كان إثباتنا من نوع الإثبات بالسلب،
أن التنظيمات السياسية التي لها تماسك داخلي قوي، وحضور جماهيري يمتد إلى
القعر، هي التنظيمات ذات التماسك لايديولوجي، وإن كانت ايديولوجية
تقليدانية. بينما ضعفت تلك التي تبنت الحداثة في ظل تفكك وانحلال
ايديولوجيتها الاشتراكية، وهي الايديولوجيا الوحيدة المتماسكة والقادرة
على مجابهة التقليد بأفق فكري تاريخي واجتماعي مفتوح على النهضة والتقدم.
إشكاليتنا نحن الاشتراكيين المغاربة، أن الايديولوجيا الاشتراكية لدينا لم
ترسخ أقدامها بعد برصيد نظري غني ومتين. فما أن بدأت تخطو خطواتها الأولى
في المتسع الشعبي، وما أن بدأت تتعمم في أوساط المثقفين، وبالشكل الفقير
والبراني الذي عممت به، حتى تسارع الزمن «لغير مصلحتها» مباغتا أياها
بانقلابات عالمية في مجال السياسة والفكر والعلم، طرحت عليها أسئلة جديدة
لم تألفها من قبل، وهي مازالت تحبو وتتلمس الطريق إلى واقعها الخاص.
ولذلك، لا نجد على امتداد التجربة المغربية إنتاجات نظرية معمقة في
الايديولوجيا الاشتراكية، غير ما كان عاماً وشائعا عنها. إضافة لتحاشي
الفكر السياسي المغربي التقدمي الخوض في الأسس الفلسفية للاشتراكية مكتفيا
منها بالمنهج الاقتصادي مراساً وحيداً له. ولا نجد بالأحرى متابعة لها بعد
الزلازل التي عرفها العالم، وفي ضوء التطورات الكيفية الحاصلة في ميادين
المعرفة المختلفة. كل شيء يجري في الميدان الفكري والثقافي لدينا، وكأن
الاشتراكية لم يعد لها وجود نظري، ولم تعد أفقاً تاريخيا للإنسانية جمعاء،
سوى التصريح بها إسما والانتماء إليها رمزاً. ما نود استخلاصه في النهاية،
أننا بحاجة إلى إرجاع الاعتبار للايديولوجيا في حياتنا الحزبية، وإلى
إغناء وتجديد تفكيرنا الاشتراكي، والانكباب على عملية تثقيف واسعة ودائمة
لأطرنا وقواعدنا الحزبية. وهذا لن يتأتى على أحسن وجه إلا من خلال القيام
بمراجعة جماعية فكرية للتراث الاشتراكي بكل تفرعاته، قديمه وجديده. ومن
خلال إعادة ربط الصلة العضوية بين الحداثة وبين المشروع الاشتراكي، وكذلك
بإيجاد صلات الوصل بين الايديولوجيا الاشتراكية وثراتنا الحضاري التقدمي.
إن هذا المجهود النظري-التثقيفي الذي نطمح له لا يمكن أن يجد البيئة
المناسبة لإنجازه سوى إذا استطعنا أن نشرك المثقفين، ونسترجع معهم أدوارهم
وحضورهم الفاعل في الحياة السياسية عامة، وفي المشروع المجتمعي الاشتراكي
بوجه خاص.
5 - البرنامج المجتمعي النهضوي:
تعتبر هذه القضية من أهم المراجعات التي نصبو إليها. ذلك أن من أسباب
التراجع في التعاطف الشعبي مع حكومات الانتقال الديمقراطي، غياب مثل هذا
البرنامج لدى الأحزاب الديمقراطية والاشتراكية، وبالتالي، انسحابها الشبه
كلي من الميدان المجتمعي، و استغراقها في انتظارية ذيلية للعمل الحكومي.
إن المشاركة في حكومة التوافق، وفي ما بعدها، وفي تلك الشروط المؤسساتية
والدستورية، وتحالفاتها الحزبية العريضة، وبالتجاوزات التي صاحبتها، وفي
أجواء شعبية غير مبالية وقلقة... كل ذلك كان يستوجب على القوى
الديمقراطية، وعلى الاتحاد الاشتراكي أساساً، أن يحافظ على استقلاليته
النسبية تجاه جماهيره وقواعده، بل كان هذا الارتباط فريضة مطلقة فوق أي
تضامن حكومي وفي كافة الظروف والأحوال. والواقع نفسه يبين، أن بين التضامن
الحكومي وبين العمل الجماهيري مسافة، غير متناقضة، وشاسعة، لا يمكن للعمل
الحكومي كيفما كان نمطه، أن يحتاجها لوحده. وأن أشكال العمل الجماهيري
وأساليبه متنوعة بحسب كل ظرف سياسي.
لكن الحقيقة أننا كنا أمام جمود تنظيمي حزبي شبه مطلق، مبعثه هو الآخر، أن
القوى الاشتراكية دخلت المشاركة الحكومية بلا تحليل معمق لاستراتيجية
الانتقال الديمقراطي، ودون تثقيف مسبق لقواعدها وأطرها بما كان ينتظرها من
احتمالات وتحديات وما كان الظرف يستدعي منها من استعدادات تكتيكية ومؤهلات
جماهيرية حماية للتجربة ودعما لها وتقليلا للخسائر الواردة. إن غياب
البرنامج المجتمعي، تحليلا وممارسة، كان من أبرز علائم هذا الجمود. بل قل،
كان قصوراً واضحا في الوعي الاستراتيجي وفي الممارسة النضالية.
ولهذا، يصعب علينا أن نستسيغ تعليق كل المعضلة السياسية في ما آلت إليه
الأوضاع الجماهيرية والحزبية، إما على المشاركة الحكومية، وإما على طبيعة
الدستور الجاري به العمل. بل لا نرى في هذا السلوك الاختزالي سوى شكل من
أشكال «الهروب إلى الأمام» للتغطية على مواطن العجز الذاتي العميقة.
نعم...، لقد كانت هناك دائما برامج قطاعية أو مناطقية، لكن هذه البرامج
على تجزيئيتها وتشتتها وتضارب أولوياتها، وتموضعها على هامش الخط السياسي
المرحلي، وفي بيئة تنظيمية سائبة، وفي غياب المتابعة والتثقيف الجماعي
بها، لم ترق في الممارسة العملية، قط، إلى مركز الاهتمام اليومي للقيادة
أو للقاعدة. ولم تصل قط إلى مستوى المحاسبة والمتابعة الحثيثة والمبدعة.
إنها بكل بساطة أوراق موضوعة على الرف.
إن البرنامج المجتمعي الذي نعنيه هو العصب الحي لعمل كل الهيئات القيادية
والقاعدية. وهو نهج تعبوي، تنظيمي وسياسي وايديولوجي، متماسك ومتكامل
الأهداف. ينطلق من التحليل الموضوعي للتحولات الاجتماعية في كل مرحلة، ومن
مطالب وأهداف وأساليب عمل مع كل فئة أو مكون من المكونات المجتمعية. ويجيب
على الأسئلة المستقطبة التي طرحتها الممارسة المجتمعية على الحزب في كل
مرحلة ولدى كل فئة.
ولأن التراجع في الحياة السياسية العامة هو طابع المرحلة، فإن الهدف
المركزي الذي وضعناه للبرنامج المجتمعي المرحلي، نتوخى منه استنهاض القوى
الشعبية وإعادة ارتباط القوى الاشتراكية بها. وهذا ما جعلنا نسميه
بـ«البرنامج المجتمعي النهضوي». وسنعطي الأولوية لهذا الموضوع الحاسم
بتفاصيله في ورقة خاصة قادمة.
29-10-2009
الاتحاد الاشتراكي
بديعة- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 6241
العمر : 39
Localisation : الدارالبيضاء
Emploi : موظفة
تاريخ التسجيل : 03/04/2008
مواضيع مماثلة
» ملف عن الشاعر محمد بنطلحة (الاتحاد الاشتراكي الثقافي)
» الشاعر محمد السرغيني /الملحق الثقافي-الاتحاد الاشتراكي
» القصة الكاملة لميلاد «الاتحاد الاشتراكي» من رحم «الاتحاد الوطني»
» ملف حول التبغ..التدخين..(الاتحاد الاشتراكي)
» السحر بالمغرب!!!/ملف-الاتحاد الاشتراكي
» الشاعر محمد السرغيني /الملحق الثقافي-الاتحاد الاشتراكي
» القصة الكاملة لميلاد «الاتحاد الاشتراكي» من رحم «الاتحاد الوطني»
» ملف حول التبغ..التدخين..(الاتحاد الاشتراكي)
» السحر بالمغرب!!!/ملف-الاتحاد الاشتراكي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى