بين الحرية الفردية والتحرش بالدين/مصطفى بن حمزة
صفحة 1 من اصل 1
بين الحرية الفردية والتحرش بالدين/مصطفى بن حمزة
إن الذي أصبح يضبط الموقف الغربي من سلوكات الأفراد هو ما يعبر عنه
بـ«احترام النظام العام»، وهو مبدأ واسع ومطاط يمكن أن تشحن به كل المطالب
والحاجات الاجتماعية التي تؤدي إلى تحقيق مصلحة المجتمع. ومن خلال تسميته،
يتبين أن الأولوية للمجتمع ما دام النظام نظاما عاما.
ويرتبط بوجوب المحافظة على النظام العام، قانونيا، مبدأ آخر هو وجوب
احترام الذوق العام، وهو اعتبار اجتماعي وأخلاقي تعبر عنه فئات متعددة من
أفراد المجتمع المدني، في تمهيد واضح لتدخل القانون مستقبلا من أجل منع كل
مظهر يفسر بأنه استعلاء على المجتمع وخروج عن ذوقه واختياراته العامة، فمن
ثم لا يسمح بارتداء اللباس العادي في الشواطئ المعدة للسباحة، كما لا يسمح
بدخول حفلات المسرح أو الموسيقى الكلاسيكية المقامة على مسارح الأوبرا لمن
لا يضع ربطة عنق، كما لا يسمح بدخول الحفلات الرسمية والصالونات
الدبلوماسية من غير اصطحاب قرينة إن كان ذلك مشترطا في الدعوة أو من غير
ارتداء لباس خاص يتدخل الذوق العام في تحديد لونه وتفصيلته. ولهذا السبب،
وجدت في دول كثيرة، ومنها الصين، جمعيات الضغط التي تناهض عادة التجول
بملابس النوم لتدعو إلى الانسجام مع المجتمع في ذوقه العام.
وفي جميع هذه الحالات، لا تكون دعوى ممارسة الحرية الفردية مبررا
كافيا للخروج عن سلطة المجتمع واختياراته. وبهذا، يتبين نفاق المنظمات
والجمعيات التي تمضي في نسق احترام النظام العام والذوق المجتمعي في
بلادها، لكنها تدعم محاولات الانتفاض على المجتمع في دول أخرى.
وحين نحاول معرفة مقدار المساحة التي تمارس عليها الحرية الفردية في
نفس المجتمعات التي تسوّق الحرية الفردية وتقايض عليها وتتخذها مبررا
لخلخلة قيم مجتمعات رخوة مصابة بسهولة الاستهواء، فإننا نلاحظ أن تلك
المساحة تضيق تدريجيا، وقد يكون موضوع منع حجاب المرأة المسلمة في بعض
البلاد الغربية شاهدا على هذا التوجه، وهو منع لم يفد فيه الدفع الحقوقي
بحق ممارسة الحريتين الفردية والدينية، كما يمكن أن نجد له شاهدا آخر في
منع الأذان على الصوامع في الدول الأوربية بخلاف ما تستفيد منه أبراج
الكنائس من رفع صلصلة الأجراس لمدة أطول مما يستغرقه الأذان بكثير.
إنه ليس بالإمكان الاستمرار في استعراض كثير من الشواهد على زيف دعوى
ممارسة الحرية الفردية في الغرب بإطلاق، خصوصا بعد أن أباحت أحداث 11
شتنبر أن تتجه الدول إلى التضييق على الحريات الفردية.
وأخيرا، فإذا كنا نلوم من يتطاول على قيم مجتمعنا ويستخف بها، فإنه
لا يجوز أن نعفي مجتمعنا أيضا من مسؤولية التقصير في التعريف بحقيقة
الإسلام وما له من نزوع إنساني جماعي راق يشدد على وجوب احترام شعور
الآخرين. والواقع أن مجتمعنا كان، في حالاته العادية وعبر تاريخه الطويل،
يجد أنه من العيب الكبير أن يتجاهل المرء وجود الآخرين فيأكل أمام الناس،
مثلا، وهم ينظرون إليه حتى حينما يكون الأكل مباحا، لتقدير أن من الناظرين
من قد يشتهي ذلك الطعام وهو لا يتوفر على ثمن شرائه، وكانت المرأة في
البؤرة من هذا التوقع لاحتمال أن يكون بها وحم، وقد نشأ هذا السلوك من
تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجود عينين تأكلان وعينين تنظران،
ومن قوله عليه السلام: «المؤمن لا يأكل وحده».
وقد تعارف الناس في المجتمع الإسلامي المفعم بالروح الجماعية على أن
يلغي الرجل حفلا يقيمه ببيته إذا صادف ذلك وفاة أحد جيرانه، والأمثلة من
هذا النوع كثيرة في المجتمعات الإسلامية.
وهذه ثقافة اجتماعية طبعت كل سلوكات الإنسان المسلم مهما كان مستواه
الثقافي والاجتماعي، وهو أيضا ما وجه فلسفة العمران، فكانت البيوت تحتفظ
بجماليتها في داخلها ولا يبدو على خارجها ما يمكن أن يمثل إثارة للفقراء،
وكان من آثار هذا التوجه احترام شعور الآخرين حتى في حال الاختلاف معهم،
أخذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أبي جهل وكان في حياته عدو
الإسلام الأكبر، وقال عليه السلام: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء»
(صحيح الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الشتم) مراعاة لشعور
قرابة أبي جهل.
إن الفرق بين هذه التربية، التي يتلقاها الإنسان المسلم في المحاضن
التي تجعل قيم الإسلام عمادها، وبين موقف من يأكل في الساحات العمومية
والناس صائمون، ليتحرش بدينهم والتزامهم، هو فرق واضح جلي، وهو ذات الفرق
بين إنسانية الإسلام واحترامه الغير وبين ثقافة تنضح أنانية واستعلاء،
فتدفع صاحبها إلى أن يركب أسهل المراكب ليعبر بها عن حريته الهابطة، وهي
حرية لا يمتنع أن تدفع بصاحبها إلى أن يتخلص مما في بطنه في نفس المشهد
وبنفس الصورة إذا صار هذا السلوك أيضا عنوانا للحرية الفردية.
إن من المؤسف حقا أن تصير الاستجابة لداعي الأكل ولشهوة الطعام
عنوانا للحرية بمعناها الإنساني الكبير، وهذا يناقض ما تعارف عليه الناس
في كل بقاع العالم من أن يكون الامتناع عن الطعام والإضراب عن تناوله
والتضحية بشهوة الأكل هي الأسلوب الذي يعبر به أصحاب القضايا الكبيرة عن
مطالبهم ويستلفتون به الأنظار إليها.
أما تناول الطعام حين يتم في مشهد عمومي، فإنه لا يمكن أن يعبر عن
سمو موقف أو تضحية من أجل الفكرة، لأنه لا يمتنع أن يجد المفطر، وهو
يتناول طعامه، إلى جانبه طفلا يأكل لأنه لا يعي معنى الصيام، أو يجد شخصا
فاقد العقل يأكل أيضا لأنه معفى من التكليف، أو يجد كائنات أخرى تأكل إلى
جانبه من غير أن يكون أحد هؤلاء الآكلين أشرف من غيره.
إن الحرية قيمة إنسانية جميلة لا يجوز أن تشخص في فعل يمثل في الإنسان ضعفا بشريا وانصياعا لإكراه معوي.
كما لا يجوز وضعها في مقابل الدين لأن الدين كان دائما هو الأصل
والمنشأ في الحرية. وعقيدة التوحيد فيه هي بالذات عقيدة التحرير من الخضوع
لما سوى الله. والأنبياء هم المحررون الأوائل الذين أخرج الله بهم الناس
من عبودية البشر وقوى الطبيعة والأوهام إلى فضاء الحرية والطلاقة، فكان
موسى عليه السلام محررا بارزا انتشل شعبه من قهر فرعون وظلمه وغشمه ورفعه
إلى مستوى الحرية والمسؤولية والإمامة بناء على مراد الله وانطلاقا من
أمره سبحانه، وهذا المراد هو الذي عبر عنه الله تعالى بقوله: «ونريد أن
نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم
في الأرض ونـُريَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون» (القصص 5)،
وكان محمد صلى الله عليه وسلم محرر الناس الأكبر الذي فك عنهم قبضة
الأسياد الأبديين، وثبت الأخوة الإنسانية، وقرن قيمة الإنسان بتقواه
وصلاحه وإيجابيته وقدرته على التحليق في سماء الفضيلة والارتفاع عن مستوى
الزواحف التي تسحب أجسامها على بطونها إلى أن تموت.
المساء
بـ«احترام النظام العام»، وهو مبدأ واسع ومطاط يمكن أن تشحن به كل المطالب
والحاجات الاجتماعية التي تؤدي إلى تحقيق مصلحة المجتمع. ومن خلال تسميته،
يتبين أن الأولوية للمجتمع ما دام النظام نظاما عاما.
ويرتبط بوجوب المحافظة على النظام العام، قانونيا، مبدأ آخر هو وجوب
احترام الذوق العام، وهو اعتبار اجتماعي وأخلاقي تعبر عنه فئات متعددة من
أفراد المجتمع المدني، في تمهيد واضح لتدخل القانون مستقبلا من أجل منع كل
مظهر يفسر بأنه استعلاء على المجتمع وخروج عن ذوقه واختياراته العامة، فمن
ثم لا يسمح بارتداء اللباس العادي في الشواطئ المعدة للسباحة، كما لا يسمح
بدخول حفلات المسرح أو الموسيقى الكلاسيكية المقامة على مسارح الأوبرا لمن
لا يضع ربطة عنق، كما لا يسمح بدخول الحفلات الرسمية والصالونات
الدبلوماسية من غير اصطحاب قرينة إن كان ذلك مشترطا في الدعوة أو من غير
ارتداء لباس خاص يتدخل الذوق العام في تحديد لونه وتفصيلته. ولهذا السبب،
وجدت في دول كثيرة، ومنها الصين، جمعيات الضغط التي تناهض عادة التجول
بملابس النوم لتدعو إلى الانسجام مع المجتمع في ذوقه العام.
وفي جميع هذه الحالات، لا تكون دعوى ممارسة الحرية الفردية مبررا
كافيا للخروج عن سلطة المجتمع واختياراته. وبهذا، يتبين نفاق المنظمات
والجمعيات التي تمضي في نسق احترام النظام العام والذوق المجتمعي في
بلادها، لكنها تدعم محاولات الانتفاض على المجتمع في دول أخرى.
وحين نحاول معرفة مقدار المساحة التي تمارس عليها الحرية الفردية في
نفس المجتمعات التي تسوّق الحرية الفردية وتقايض عليها وتتخذها مبررا
لخلخلة قيم مجتمعات رخوة مصابة بسهولة الاستهواء، فإننا نلاحظ أن تلك
المساحة تضيق تدريجيا، وقد يكون موضوع منع حجاب المرأة المسلمة في بعض
البلاد الغربية شاهدا على هذا التوجه، وهو منع لم يفد فيه الدفع الحقوقي
بحق ممارسة الحريتين الفردية والدينية، كما يمكن أن نجد له شاهدا آخر في
منع الأذان على الصوامع في الدول الأوربية بخلاف ما تستفيد منه أبراج
الكنائس من رفع صلصلة الأجراس لمدة أطول مما يستغرقه الأذان بكثير.
إنه ليس بالإمكان الاستمرار في استعراض كثير من الشواهد على زيف دعوى
ممارسة الحرية الفردية في الغرب بإطلاق، خصوصا بعد أن أباحت أحداث 11
شتنبر أن تتجه الدول إلى التضييق على الحريات الفردية.
وأخيرا، فإذا كنا نلوم من يتطاول على قيم مجتمعنا ويستخف بها، فإنه
لا يجوز أن نعفي مجتمعنا أيضا من مسؤولية التقصير في التعريف بحقيقة
الإسلام وما له من نزوع إنساني جماعي راق يشدد على وجوب احترام شعور
الآخرين. والواقع أن مجتمعنا كان، في حالاته العادية وعبر تاريخه الطويل،
يجد أنه من العيب الكبير أن يتجاهل المرء وجود الآخرين فيأكل أمام الناس،
مثلا، وهم ينظرون إليه حتى حينما يكون الأكل مباحا، لتقدير أن من الناظرين
من قد يشتهي ذلك الطعام وهو لا يتوفر على ثمن شرائه، وكانت المرأة في
البؤرة من هذا التوقع لاحتمال أن يكون بها وحم، وقد نشأ هذا السلوك من
تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجود عينين تأكلان وعينين تنظران،
ومن قوله عليه السلام: «المؤمن لا يأكل وحده».
وقد تعارف الناس في المجتمع الإسلامي المفعم بالروح الجماعية على أن
يلغي الرجل حفلا يقيمه ببيته إذا صادف ذلك وفاة أحد جيرانه، والأمثلة من
هذا النوع كثيرة في المجتمعات الإسلامية.
وهذه ثقافة اجتماعية طبعت كل سلوكات الإنسان المسلم مهما كان مستواه
الثقافي والاجتماعي، وهو أيضا ما وجه فلسفة العمران، فكانت البيوت تحتفظ
بجماليتها في داخلها ولا يبدو على خارجها ما يمكن أن يمثل إثارة للفقراء،
وكان من آثار هذا التوجه احترام شعور الآخرين حتى في حال الاختلاف معهم،
أخذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أبي جهل وكان في حياته عدو
الإسلام الأكبر، وقال عليه السلام: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء»
(صحيح الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الشتم) مراعاة لشعور
قرابة أبي جهل.
إن الفرق بين هذه التربية، التي يتلقاها الإنسان المسلم في المحاضن
التي تجعل قيم الإسلام عمادها، وبين موقف من يأكل في الساحات العمومية
والناس صائمون، ليتحرش بدينهم والتزامهم، هو فرق واضح جلي، وهو ذات الفرق
بين إنسانية الإسلام واحترامه الغير وبين ثقافة تنضح أنانية واستعلاء،
فتدفع صاحبها إلى أن يركب أسهل المراكب ليعبر بها عن حريته الهابطة، وهي
حرية لا يمتنع أن تدفع بصاحبها إلى أن يتخلص مما في بطنه في نفس المشهد
وبنفس الصورة إذا صار هذا السلوك أيضا عنوانا للحرية الفردية.
إن من المؤسف حقا أن تصير الاستجابة لداعي الأكل ولشهوة الطعام
عنوانا للحرية بمعناها الإنساني الكبير، وهذا يناقض ما تعارف عليه الناس
في كل بقاع العالم من أن يكون الامتناع عن الطعام والإضراب عن تناوله
والتضحية بشهوة الأكل هي الأسلوب الذي يعبر به أصحاب القضايا الكبيرة عن
مطالبهم ويستلفتون به الأنظار إليها.
أما تناول الطعام حين يتم في مشهد عمومي، فإنه لا يمكن أن يعبر عن
سمو موقف أو تضحية من أجل الفكرة، لأنه لا يمتنع أن يجد المفطر، وهو
يتناول طعامه، إلى جانبه طفلا يأكل لأنه لا يعي معنى الصيام، أو يجد شخصا
فاقد العقل يأكل أيضا لأنه معفى من التكليف، أو يجد كائنات أخرى تأكل إلى
جانبه من غير أن يكون أحد هؤلاء الآكلين أشرف من غيره.
إن الحرية قيمة إنسانية جميلة لا يجوز أن تشخص في فعل يمثل في الإنسان ضعفا بشريا وانصياعا لإكراه معوي.
كما لا يجوز وضعها في مقابل الدين لأن الدين كان دائما هو الأصل
والمنشأ في الحرية. وعقيدة التوحيد فيه هي بالذات عقيدة التحرير من الخضوع
لما سوى الله. والأنبياء هم المحررون الأوائل الذين أخرج الله بهم الناس
من عبودية البشر وقوى الطبيعة والأوهام إلى فضاء الحرية والطلاقة، فكان
موسى عليه السلام محررا بارزا انتشل شعبه من قهر فرعون وظلمه وغشمه ورفعه
إلى مستوى الحرية والمسؤولية والإمامة بناء على مراد الله وانطلاقا من
أمره سبحانه، وهذا المراد هو الذي عبر عنه الله تعالى بقوله: «ونريد أن
نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم
في الأرض ونـُريَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون» (القصص 5)،
وكان محمد صلى الله عليه وسلم محرر الناس الأكبر الذي فك عنهم قبضة
الأسياد الأبديين، وثبت الأخوة الإنسانية، وقرن قيمة الإنسان بتقواه
وصلاحه وإيجابيته وقدرته على التحليق في سماء الفضيلة والارتفاع عن مستوى
الزواحف التي تسحب أجسامها على بطونها إلى أن تموت.
المساء
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» الحرية.. حق أصيل في الدين الإسلامي.. لكل إنسان
» حمزة بن عبدالمطلب
» هنيئا حمزة
» هنيئا حمزة بوهالي..
» الحرية لسبتة ومليلية
» حمزة بن عبدالمطلب
» هنيئا حمزة
» هنيئا حمزة بوهالي..
» الحرية لسبتة ومليلية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى