مخطوطة «رسالة في علم الكتابة العربية» لأبي حيان التوحيدي
صفحة 1 من اصل 1
مخطوطة «رسالة في علم الكتابة العربية» لأبي حيان التوحيدي
ضرب في كل فن من الفنون، وعلم من العلوم، بسهام وافدة من العبقرية
والنبوغ والفرادة، فحَصَّل من الصدور من الطُّروس ما لا قيمة لأحد به، إنه
العلامة أبو حيان التوحيدي، فريد عصره، ووحيد دهره، الذي عاش في القرن
الرابع الهجري، وامتد به العمر الى أوائل القرن الخامس، وعلى رغم أنه «عاش
في قرن أصدق ما يوصف به أنه مجال ثورات لا تهدأ، وفتن لا تنام، واضطراب
دائم الغليان، وأحقاد لا تبقي ولا تذر، كما يقول عنه الدكتور مجاهد توفيق
الجندي، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة الأزهر الشريف، في
كتابه الضافي «أبو حيان التوحيدي.. الخطاط الباهر والوراق الماهر»، إلا أن
هذا القرن «كان عصر النضج الثقافي والعلمي، وكان أبو حيان مكتبة جامعة
لأكثر هذه الثقافة، فهو عالم واسع المعرفة، متنوع الثقافة، خبير باللغة
والنحو والأدب والكلام والتصوف والفقه والفلسفة، وربما لم يند عنه إلا
الطب والكيمياء والرياضة».
ومن المعروف أن أبا حيان «كان في الأصل نساخاً ووراقاً، فقد استفاد من
مهنته هذه أعظم فائدة، حيث نسخ بيده الفنانة، وبخطه الجميل الرائع مخطوطات
لا حصر لها، ومنها مؤلفاته الكثيرة التي عُثر منها على بعضها، والكثير
منها ضاع، وتفرق في مكتبات العالم، ولذلك لم يصلنا شيء عن خطه الجميل،
ولعل المستقبل يكشف المخبوء»!
ولأبي حيان جهد علمي وفني في التأطير لعلم الخطوط العربية ومزاياها
ورجالها، وله مخطوطة «في علم الكتابة» تنبئ عن خبرته الطويلة الواسعة في
جودة الخط وحسنه، بل في وضعه لمعايير وأسسه ورسومه وقوانينه».
وهذه المخطوطة أو الرسالة، هي أقدم ما كتب في هذا العلم على الإطلاق،
وصحيح أنه كان مسبوقاً بكثير من الخطاطين، والكتاب في عصور سلف، لكنه كان
أول من جمع وكتب مادة علمية مقننة هي «رسالة في علم الكتابة العبرية»
وفيها يثير أبو حيان مشكلات كمشكلات هذا العصر في الفن وقواعده، أهمها
وحدة الفنون، وما نستخلصه من مبادئ في علم الجمال قالها أو جمعها عن غيره
من المشتغلين في مهنته أو البارعين في فن، ليزيد موضوع علم الجمال العربي
ثروة ووضوحاً» على حد كلام الدكتور مجاهد الجندي.
ويتضح من المخطوطة، ومن بقية مؤلفات التوحيدي أن فكرة الفن والإبداع
كانت أصيلة لديه، ومن الركائز التي جال فيها فكره وحسُّه وريشته وقلمه،
فهو يرى أن الفن مُؤلَّفٌ من شكل ومضمون، من فكر هو الحكمة، وابداع هو
البلاغة، وهو لِرَيِّ العقول الظامئة والنفوس التَوَّاقة للجمال.
ويشير التوحيدي في أكثر من موضع في الرسالة، وفي الهوامل والشوامل إلى
مسألة التذوق الفني الجمالي، فيقول: «ما سبب استحسان الصورة الحسنة؟ ثم
يتساءل: هل هي من آثار طبيعية؟ أم من عوارض النفس أم هي من دواعي العقل أم
من سهام الروح، أم هي خالية من العلل، جارية على الهذر؟».
ويربط أبو حيان فن الخط وطريقته بفن الموسيقى حركة وهَزْمَنَةً أو في
صوغ الصورة المشبهة وغير المشبهة، فهو يتحدث عن كيف يستقيم حسن الخط في
حسن الغناء وحسن الرسم وحسن الرقص، وغير ذلك من الفنون.. ويقول على لسان
غيره من الخطاطين: «الحركات إذا تمثلت بالحروف، والحروف إذا اندفعت
بالحركات كانت الصور الخطية، والحروف الشكلية محفوظة الأعيان بامتلائهما
بهما، محروسة الأبدان بانتسابهما إليهما».
ويؤكد الدكتور مجاهد الجندي أن أبا حيان يعرض لقضية «أواصر الفنون، فهى
جميعاً تنتسب إلى أرومة واحدة، وإن اختلفت باختلاف دور الحاسَّة التي
تتذوقها أو تبدعها. ومن هنا، فإن علم الفن يبقى واحداً – عند أبي حيان –
سواء كان ذلك في صوغ الكلمة شكلاً أم مضموناً أو جرساً أو صوغ اللحن
نَقْرَةً».
وتعد مخطوطة التوحيدي في علم الكتابة من الآثار الفريدة في اللغة
العربية أثبت فيها سعة اطلاعه ومعرفته بالخطوط وأنواعها ودقائق صنعة الخط،
والمخطوطة محفوظة في مكتبة فيينا كما ذكر بروكلمان، وتوجد منها نسخة مصورة
في مكتبة جامعة القاهرة برقم «24090».
على أن رسالة أبي حيان منشورة ضمن مجموعة «رسائل أبي حيان التوحيدي»
التي عنى بنشرها وتحقيقها الدكتور إبراهيم كيلاني، وصدرت عن دار طلاس في
دمشق، لكن عمل الدكتور كيلاني كان إلى النشر أقرب منه إلى التحقيق، بحسب
كلام الدكتور مجاهد الجندي.
افتتح أبو حيان مخطوطته بقوله :«كنت - أطال اللهب بقاءك وأدام سرورك –
يوماً من الأيام عند بعض الرؤساء، وجرى الكلام في نعت الخط وشرح أقسامه
وتفصيل فنونه ووصف مذاهب أصحابه من أهل العراق وغيرهم، وكان هذا الرئيس ذا
خط معجز منه، وكان عديم المُساجل عليه، فانبريت بكلام كنت وَعَيْتُ جُلَّه
من البربري أبي محمد...».
وانتهت الرسالة بما يلي: «قال الشيخ أبو حيان: هذا ما انتهى القول في
الخط وصفاته، والقلم وحالاته، فإن زدنا على ذلك ثقل ومَل، وأرجو أن تُعيره
من رضاك ما يكون لي سبباً قوياً في المكانة من قبلك، والقبول في نفسك
والسلام، تمت الرسالة والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
الطاهرين وصحبه الأكرمين، وسلامه على يد الفقير إلى الوهاب الغني إبراهيم
بن الحسن البواب البغدادي، في أواخر شهر رمضان المعظم، سنة ثمان وعشرين
وسبعمئة، رب اختم بالخير».
السبت, 06 مارس 2010 الحياة - صلاح حسن رشيد
والنبوغ والفرادة، فحَصَّل من الصدور من الطُّروس ما لا قيمة لأحد به، إنه
العلامة أبو حيان التوحيدي، فريد عصره، ووحيد دهره، الذي عاش في القرن
الرابع الهجري، وامتد به العمر الى أوائل القرن الخامس، وعلى رغم أنه «عاش
في قرن أصدق ما يوصف به أنه مجال ثورات لا تهدأ، وفتن لا تنام، واضطراب
دائم الغليان، وأحقاد لا تبقي ولا تذر، كما يقول عنه الدكتور مجاهد توفيق
الجندي، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة الأزهر الشريف، في
كتابه الضافي «أبو حيان التوحيدي.. الخطاط الباهر والوراق الماهر»، إلا أن
هذا القرن «كان عصر النضج الثقافي والعلمي، وكان أبو حيان مكتبة جامعة
لأكثر هذه الثقافة، فهو عالم واسع المعرفة، متنوع الثقافة، خبير باللغة
والنحو والأدب والكلام والتصوف والفقه والفلسفة، وربما لم يند عنه إلا
الطب والكيمياء والرياضة».
ومن المعروف أن أبا حيان «كان في الأصل نساخاً ووراقاً، فقد استفاد من
مهنته هذه أعظم فائدة، حيث نسخ بيده الفنانة، وبخطه الجميل الرائع مخطوطات
لا حصر لها، ومنها مؤلفاته الكثيرة التي عُثر منها على بعضها، والكثير
منها ضاع، وتفرق في مكتبات العالم، ولذلك لم يصلنا شيء عن خطه الجميل،
ولعل المستقبل يكشف المخبوء»!
ولأبي حيان جهد علمي وفني في التأطير لعلم الخطوط العربية ومزاياها
ورجالها، وله مخطوطة «في علم الكتابة» تنبئ عن خبرته الطويلة الواسعة في
جودة الخط وحسنه، بل في وضعه لمعايير وأسسه ورسومه وقوانينه».
وهذه المخطوطة أو الرسالة، هي أقدم ما كتب في هذا العلم على الإطلاق،
وصحيح أنه كان مسبوقاً بكثير من الخطاطين، والكتاب في عصور سلف، لكنه كان
أول من جمع وكتب مادة علمية مقننة هي «رسالة في علم الكتابة العبرية»
وفيها يثير أبو حيان مشكلات كمشكلات هذا العصر في الفن وقواعده، أهمها
وحدة الفنون، وما نستخلصه من مبادئ في علم الجمال قالها أو جمعها عن غيره
من المشتغلين في مهنته أو البارعين في فن، ليزيد موضوع علم الجمال العربي
ثروة ووضوحاً» على حد كلام الدكتور مجاهد الجندي.
ويتضح من المخطوطة، ومن بقية مؤلفات التوحيدي أن فكرة الفن والإبداع
كانت أصيلة لديه، ومن الركائز التي جال فيها فكره وحسُّه وريشته وقلمه،
فهو يرى أن الفن مُؤلَّفٌ من شكل ومضمون، من فكر هو الحكمة، وابداع هو
البلاغة، وهو لِرَيِّ العقول الظامئة والنفوس التَوَّاقة للجمال.
ويشير التوحيدي في أكثر من موضع في الرسالة، وفي الهوامل والشوامل إلى
مسألة التذوق الفني الجمالي، فيقول: «ما سبب استحسان الصورة الحسنة؟ ثم
يتساءل: هل هي من آثار طبيعية؟ أم من عوارض النفس أم هي من دواعي العقل أم
من سهام الروح، أم هي خالية من العلل، جارية على الهذر؟».
ويربط أبو حيان فن الخط وطريقته بفن الموسيقى حركة وهَزْمَنَةً أو في
صوغ الصورة المشبهة وغير المشبهة، فهو يتحدث عن كيف يستقيم حسن الخط في
حسن الغناء وحسن الرسم وحسن الرقص، وغير ذلك من الفنون.. ويقول على لسان
غيره من الخطاطين: «الحركات إذا تمثلت بالحروف، والحروف إذا اندفعت
بالحركات كانت الصور الخطية، والحروف الشكلية محفوظة الأعيان بامتلائهما
بهما، محروسة الأبدان بانتسابهما إليهما».
ويؤكد الدكتور مجاهد الجندي أن أبا حيان يعرض لقضية «أواصر الفنون، فهى
جميعاً تنتسب إلى أرومة واحدة، وإن اختلفت باختلاف دور الحاسَّة التي
تتذوقها أو تبدعها. ومن هنا، فإن علم الفن يبقى واحداً – عند أبي حيان –
سواء كان ذلك في صوغ الكلمة شكلاً أم مضموناً أو جرساً أو صوغ اللحن
نَقْرَةً».
وتعد مخطوطة التوحيدي في علم الكتابة من الآثار الفريدة في اللغة
العربية أثبت فيها سعة اطلاعه ومعرفته بالخطوط وأنواعها ودقائق صنعة الخط،
والمخطوطة محفوظة في مكتبة فيينا كما ذكر بروكلمان، وتوجد منها نسخة مصورة
في مكتبة جامعة القاهرة برقم «24090».
على أن رسالة أبي حيان منشورة ضمن مجموعة «رسائل أبي حيان التوحيدي»
التي عنى بنشرها وتحقيقها الدكتور إبراهيم كيلاني، وصدرت عن دار طلاس في
دمشق، لكن عمل الدكتور كيلاني كان إلى النشر أقرب منه إلى التحقيق، بحسب
كلام الدكتور مجاهد الجندي.
افتتح أبو حيان مخطوطته بقوله :«كنت - أطال اللهب بقاءك وأدام سرورك –
يوماً من الأيام عند بعض الرؤساء، وجرى الكلام في نعت الخط وشرح أقسامه
وتفصيل فنونه ووصف مذاهب أصحابه من أهل العراق وغيرهم، وكان هذا الرئيس ذا
خط معجز منه، وكان عديم المُساجل عليه، فانبريت بكلام كنت وَعَيْتُ جُلَّه
من البربري أبي محمد...».
وانتهت الرسالة بما يلي: «قال الشيخ أبو حيان: هذا ما انتهى القول في
الخط وصفاته، والقلم وحالاته، فإن زدنا على ذلك ثقل ومَل، وأرجو أن تُعيره
من رضاك ما يكون لي سبباً قوياً في المكانة من قبلك، والقبول في نفسك
والسلام، تمت الرسالة والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
الطاهرين وصحبه الأكرمين، وسلامه على يد الفقير إلى الوهاب الغني إبراهيم
بن الحسن البواب البغدادي، في أواخر شهر رمضان المعظم، سنة ثمان وعشرين
وسبعمئة، رب اختم بالخير».
السبت, 06 مارس 2010 الحياة - صلاح حسن رشيد
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» الكتابة على الصور باللغة العربية
» نصوص شعرية نادرة لأبي القاسم الشابي
» الكتابة والعوالم الافتراضية
» سفر في الكتابة، كتابة في السفر
» تعرف الكتابة على الملابس قبل شرائها !
» نصوص شعرية نادرة لأبي القاسم الشابي
» الكتابة والعوالم الافتراضية
» سفر في الكتابة، كتابة في السفر
» تعرف الكتابة على الملابس قبل شرائها !
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى