سفر في الكتابة، كتابة في السفر
صفحة 1 من اصل 1
سفر في الكتابة، كتابة في السفر
تطرح
المعادلة على الشكل التالي:كاتب يرحل، رحالة يكتب. الأمر سيان.فالرحلة
كتابة ، والكتابة رحلة. يقول الناشر الفرنسي الشهير" فرانسوا
ماسبيرو":"يخيل إلي أن كل كتابة رحلة في الزمان والمكان( الفضاء). وقبل كل
شيء هي رحلة في المساحة اللامتناهية لجغرافية الكلمات"1.
وتطرح التسمية
ذاتها إشكالات عديدة. فالكاتب الرحالة، أو الرحالة الكاتب يوحي بوجود
شخصيتيين داخل الشخصية الواحدة، في حين يشكل كل من الوصفين دلالة على
العملة الواحد ة بوجهين مختلفين. ويستشهد " ماسبيرو " ، مرة أخرى، بمثال
ملموس يؤكد على أن القول بانتماء" نصفي الجبنة الهولندية إلى المادة نفسها
لايفسر الطبيعة العجيبة لطعمها ورائحتها.). كذلك التركيبة السابقة التي
جمعت بين الرحالة والكاتب، والتي تؤكد على الشخصية الواحدة المتكاملة.
المعادلة على الشكل التالي:كاتب يرحل، رحالة يكتب. الأمر سيان.فالرحلة
كتابة ، والكتابة رحلة. يقول الناشر الفرنسي الشهير" فرانسوا
ماسبيرو":"يخيل إلي أن كل كتابة رحلة في الزمان والمكان( الفضاء). وقبل كل
شيء هي رحلة في المساحة اللامتناهية لجغرافية الكلمات"1.
وتطرح التسمية
ذاتها إشكالات عديدة. فالكاتب الرحالة، أو الرحالة الكاتب يوحي بوجود
شخصيتيين داخل الشخصية الواحدة، في حين يشكل كل من الوصفين دلالة على
العملة الواحد ة بوجهين مختلفين. ويستشهد " ماسبيرو " ، مرة أخرى، بمثال
ملموس يؤكد على أن القول بانتماء" نصفي الجبنة الهولندية إلى المادة نفسها
لايفسر الطبيعة العجيبة لطعمها ورائحتها.). كذلك التركيبة السابقة التي
جمعت بين الرحالة والكاتب، والتي تؤكد على الشخصية الواحدة المتكاملة.
الحديث ،إذن، عن الكاتب ، من جانب، وعن الرحالة، من جانب آخر، هو" مجرد حشو" على حد تعبير " ماسبيرو".
لكن
، لابد من الاعتراف، بوجود نوع من الإختلاف ، أوالتمايز، بين الكاتب
الذي يرحل، وبين الرحالة الذي يكتب، بعد إنجازه لرحلة معينة. الأول يرتحل
من أجل الكتابة، والثاني يرتحل،أولا، والكتابة قد تأتي ،أو لاتأتي.الأول
تصدر عنه الكتابة،من حيث كونها ضرورة ملحة، والثاني قد يكتب، لسبب أو لآخر،
دون تتحول هذه الممارسة إلى ضرورة، بالمعنى الأنطولوجي.
، هما
معا يشتركان في المحفز الرحلي، الذي يشكل نسغ الكتابة الدائم ، شعلتها
المقدسة التي لاتنطفئ ويختلفان، كما سيبرز لاحقا، في طبيعة التعامل مع
الكتابة ، بصيغها المختلفة ، وأبعادها المتعددة. ومع ذلك/ فقد يتفوق
الرحالة- في حالةالكتابة- على الكاتب، والكثير من الرحالين بنوا شهرتهم
الأدبية على المتن الرحلي. فالكاتب الشهير" لوكليزيو" يصدر، في كتاباته،عن
مفهوم خاص للرواية التي استند بناؤها السردي ، والدلالي، إلى المكون الرحلي
الذي تحكم في البنية الروائية، ومنحها، من جهة ثانية، أبعادها الإنسانية.
وللتذكير ، فالإرتحال، قد ينسحب على حركة الجسد، وهو يجوب الآفاق،
وقد ينسحب على حركة الذهن ( ذاكرة/ تذكر/ تداعيات/ متخيل..الخ) التي تنتقل
من عالم إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى.فالكثير من الكتاب ارتحلوا دون أن
يغادروا أماكنهم لأسباب عديدة.( صوفية/ مساجين/ رهبان...الخ)، بل إن بعضهم"
لم يجاوز غرفته."،دون أن يتوقف عن الإرتحال في الذاكرة والتاريخ والوجدان.
وسواء
كان الكاتب مرتحلا، أو مرابطافي مكان ما،فإن فعل الحركة الجسدية ، أو
الذهنية، يظل ضرورة لامفر منها للكتابة والكتاب. ألم يرصد " المتنبي" )
ترحاله الأبدي المجسد لقلقه الوجودي اإبداعي في البيت التالي:
على قلق كأن الريح تحتي أوجهها جنوبا أو شمالا
ولعل
هذا ما جعل من القريب بعيدا، ومن البعيد قريبا، أثناء الإرتحال بعيدا عن
الوطن، مما دفع بالكاتب السوداني المغترب " جمال محجوب" إلى التأكيد على
ارتباط الأدب اليوم
بالعولمة.والعيش بالخارج" تجربة هامة للعثور على
القيمة الإنسانية للأدب. إنه أداة للقاء بالعجيب والغريب... وكل ذلك يغذي
الكاتب أثناء مواجهته للمختلف"يؤكد المعنى ذاته كاتب آخر بقوله:" نحن لا
نسافر لكي نفر مما هو أقرب إلينا، بل على العكس من ذلك، نسافر لكي نقترب
مما نسميه الأبعد، ولكي تتحول إلى أقصى الأرض إلى أقصر طريق بين الإنسان
والإنسان."
يطرح سؤال فهذا السياق : هل ما زال للرحلة معنى ، بعد أن حمل
إلينا العالم بأسهل السبل، وأكثرها متعة وإمتاعا؟ الجواب يمكن استخلاصه من
آراء العديد من الكتاب الرحالين الذين أكدوا على دور الرحلة ، في التعريف ،
والتعرف أيضا، على أماكن عديدة. والذهاب إلى الأماكن المشتركة مرات
عديدة، لايمنع- بحكم ارتباطها بالتجربة الإنسانية- من الحكي عنها مرات
ومرات, فنحن لا نسبح في النهر مرتين.والرحلة المكتوبة تقوم على " الصوغ
الذاتي للتجربة". ومن ثم يتساءل عبدالوهاب مدب/ هذا السؤال العميق
رحلة؟ماهي إلا مجرد موضوعة للكتابة؟لحمل الجسد حيا أو ميتا... في كلمات؟)2
الكتابة،إذن،
ارتحال جديد للتعرف، من مواقع مختلفة، على المرئيات، بل إنها تسمح بإعادة
تركيب الصورة المرئية ، بعد أن تم استيعاب مختلف زوايا الرؤية. ولهذا لم
يتردد الرحالة، أثناء الكتابة، في التصحيح والإضافة والترميم للنص المكتوب،
بعد أن كان هذا الأخيرأسير الدهشة والآنبهار والملاحظة العابرة. وبسبب
ذلك ميز القدامىبين الحاج الذي اكتفى بإقامة الشعائر دون تسجيل ، أو كتابة،
تجربة ذاتية محددة. يقول الكاتب الفرنسي" جيل لابوج" جوابا على سؤال
السفر:" لا ألتقي بزهرة الأروكاريا إلا إذا حولتها إلى كلمات، فواصل..
أزمنة مختلفة.. وبفضل ذلك امتلكت زهرتي ، وكانت رائعة".
ولا يتردد
الكاتب ذاته في الآستشهاد بقولة عميقة لكاتب آخر يقول ، في السياق ذاته،"
نحن لانسافرلمجرد السفر ، بل لأننا سافرنا"3. وصيغة الماضي" سافرنا" تعني
دلالة السفر الحقيقية التى حولت الرحلات المتتابعة إلى طروس. وما يفعله
الرحالة- وهو يسير داخل هذه المكتبة المتنقلة- هو إضافة عناوين جديدة،
وإسهام متواصل في تعدد الطبعات للأمكنة المختلفة.هذا الإحساس المزدوج
المجسد في رحلة الجسد،من ناحية، ورحلة الكتابة ، من ناحية ثانية،يعكس
تداخل حالتين متكاملتين:حالة المكتشف- بالكسر- أثناء رحلةالجسد، وحالة
المكتشف- بالفتح- أثناء رحلة الكتابة.وبينهما تنمو مراحل الرحلة المكتوبة،
جدلا وتفسيرا وتأويلا،وتوظيفا لمواد عديدة مكتوبة ومرئية ومسموعة.4
ولما
كان الرحالة ? أثناء رحلته-ليس خالي الوفاض، فإن محمولاته الثقافية
والنفسية، تسمح له بامتلاك مفاتيح القراءة التي تساعده على تلمس مواطئ
القدم .ف"كريستوف كولمبوس" قبل مغادرته" (القرن 15م) درس الإنجبل
وجغرافية " بطليموس".. وكانpalos
في الوقت ذاته، مطلعا على تقسيم العالم
، كما ورد عند " ماركو بولو" ،قبل قرنين، مما مكنه من توقع ما سيصادفه،
في رحلته، من صينيين ومسيحيين نسطوريين ويهود تائهين....."
من هنا كان "
كريستوف كولمبوس"من أكبر المكتشقين، على صعيد الورق، قبل اكتشافه للمكان.
يؤكد ذلك ، مرة أخرى، اندهاشه الكبير ، وبسبب قراءته للأوديسا، من عدم
عثوره على " السيكلوب" بجزيرة " كوبا"، دون أن يصل إلى علمه بأنه قد اكتشف
القارة الأمريكية، نظرا لأن أي كتاب لم يدله على ذلك.
الكاتب والرحالة: مفهومان متحركان
إذا
كانت الرحلة نص الحركة ،بامتياز، مكانا وزمانا وسردا ووصفا ومعجما، فإن
الحركة ذاتها مست مفهوم الرحلة ذاتها،من جهة، ومفهوم الكاتب من جهة ثانية.
إيتيمولوجيا:
تتماهى الرحلة مع العمل والجهد والمعاناة. "فالكلمة الإنجليزية travel
ليست بعيدة عن "Travail( المرجع نفسه. المجلة الأدبية.)، والرحالة العرب
القدامى جعلوا من " الرحلة قطعة من العذاب"، ،أثناء مواجهة الذات والعالم.
تاريخيا:
من الضروري التمييز بين المفاهيم التي أحاطت بمدلول الرحلة حسب الأمم
والثقافات المختلفة.فالرحلة ، في التراث الإسلامي، تأخذ بعد المعرفة وتأمل
صنعة الخالق، والتعارف بين الأمم والشعوب والقبائل. وفي القرآن الكريم،
فضلا عن أدبيات السفر ومتونه المتعددة، محددات عديدة لمفهوم الرحلة
ودلالاتها.5أما بالنسبة للغرب، فإن الرحلة، كما ورد عند الكثير من
الباحثين،ارتبطت ، قبل " هيرودوت"- مؤسس الكتابة الرحلية- بالحرب وتطوراتها
المختلفة.فالإنسان ارتحل ، في هذه المرحلة،بهدف الغزو لسبب أو لآخر. بمجيئ
" هيرودوت"، أصبحت الرحلة، على يديه، أداة للملاحظة ومعرفة العالم."
في ا لقرون الوسطى ، أصبحت الرحلة الغربية أداة لتأكيد العقيدة، والإنتصار للمسيح بكافة السبل، تحت تأثيرسيطرة الكنيسة لأهداف عديدة.
وبالمقابل كانت الرحلة العربية الإسلامية، وسيلة من وسائل التنويروالمعرفة( ابن بطوطة/ابن خلدون/ ابن فضلان..).
وستأخذ
الرحلة الأوروبية ، في عصر النهضة، منحى الكشف ، والإكتشاف، ممتلكة في
الوقت ذاته، أبجدية سردها الخاص، بعد أن طعمت بعوالم جديدة اتجهت ، شرقا،
نحو " الباب العالي" والحجاز، في سياق نهضة علمية وفنية متصاعدة.
في
مرحلة لاحقة ، ستأخذ الرحلة أبعادا جديدة، نبعت من رحم التحولات الإ
قتصادية والإجتماعية والسياسية لأوروبا، وتداخلت ، من ناحية أخرى،
بالإستشراق، أحيانا وبأهداف ملتبسة، أحيانا أخرى.أما بالنسبة للرحلة
العربية الإسلامية، فإنها اتجهت اتجاهين:
1- الأول حافظت فيه على علاقة المسلم بالسماء( الحج أو الركن الخامس من أركان الإسلام).
2- وفي الثاني تنوعت فيه علاقة المسلم بالأرض ،داخليا وخارجيا.(الرحلات المتعددة الأغراض/ المشرق/ الرحلة نحو الغرب).
ولاشك أن هذه التحولات المختلفة للرحلة ، ومدلولاتها، جسدت وقود الكتابة ،
وتحولاتها المتعددة، عبر جدلية الرحالة والمكان المرتحل إليه.
وبالإضافة
إلى هذا وذاك، ستأخذ الكتابة ، في الرحلة، دلالات أخرى ،مثل الكتابة
السينيمائية( السيناريوالمستند إلى الرحلة) واللوحة الزيتية،
و"الروبورتاج"- الإستطلاع- الصحفي، والصور المتحركة...س
أما بالنسبة
للكاتب/ الرحالة، فإنه لم يسلم بدوره من التجدد المستمر، مما يصعب معه
تصنيف فئات المرتحلين.فالفرق واضح بين المكتشف- وهوالذي يؤكد على ماهو
موجود- وبين الرحالة المبدع الذي يؤسس عالمه على كيمياء الواقع، وتفاعلات
المتخيل.
الفرق شاسع أيضا بين السائح المهووس بالصور النمطية( المسكوكة)
"، وبين الرحالة العالم( الجغرافي/ الإثنوغرافي..) المؤمن بالإختلاف
والتنوع من جهة ، والملموس من جهة ثانية.
كيف نصنف" سرفانتيس"- المعاصر
لكريستوف كولومب- المرتحل دوما في فضاءات مختلفة؟ماقولنا في الناسخ الذي
يتقمص شخصية الرحالة ، أثناء تسجيله للرحلة؟هل يمكن الحديث عن رحالة من
الدرجة الأولى، ورحالة من الدرجة الثانية؟ ما قولنا في سرد ابن جزي- كاتب
رحلةابن بطوطة- ونساخ " مونتين"، وماركو بولو، ويحيى الغزال،الذي رويت
رحلته، بعد أربعة قرون، عن طريق "ابن دحية"-القرن13م- وعبد المهيمن الحضرمي
وتنقيحه لرحلة " ابن رشيد السبتي"؟ ماقولنا في نظام "العبرية" الذي تخلل
رحلات " نرفال" و"شاتوبريان"...،أو ما أسماه- في الإستشراق- "إدوارد سعيد"
ب( السلطة الترميمية).؟
إنها مستويات الكتابة للنص الرحلي، في علاقته بالرحالة ، من جهة ، والمتلقي، من جهة ثانية.
الرحلة- كما سبقت الإشارة- والكتابة وجهان لعملة واحدة. والضرب في الأرض، ينطلق من الذات المفردة ليعانق الذات
الانسانية، سواء تعلق الأمر بالكاتب الرحالة، أو بالرحالة الكاتب.
والكتابة،
في الحالتين،تبدأأ و قد تتزامن،بعد توقف حركة الجسد الذي يظل وشمه حاضرا
في المكتوب،عبر تموجات السرد والوصف،ومظاهر انفعال الجسد بالمرئي وغير
المرئي.
هوامش:
*- كل مابين مزدوجتين مقتبس من المرجع أسفله .
- magazine litteraire :432,JUIN2004 1
2.IBID.
3.-ON NE VOYAGE PAS POUR VOYAGER MAIS POUR AVOIR VOYAGE
4 -انظر:عبد الرحيم مؤذن: الرحلة المغربية في القرن 19. (مستويات السرد. دار السويدي.أبو ظبي. الامارات العربية المتحدة.ط1 2006.)
ibid. M.l 5-
16/4/2012-العلم الثقافيلكن
، لابد من الاعتراف، بوجود نوع من الإختلاف ، أوالتمايز، بين الكاتب
الذي يرحل، وبين الرحالة الذي يكتب، بعد إنجازه لرحلة معينة. الأول يرتحل
من أجل الكتابة، والثاني يرتحل،أولا، والكتابة قد تأتي ،أو لاتأتي.الأول
تصدر عنه الكتابة،من حيث كونها ضرورة ملحة، والثاني قد يكتب، لسبب أو لآخر،
دون تتحول هذه الممارسة إلى ضرورة، بالمعنى الأنطولوجي.
، هما
معا يشتركان في المحفز الرحلي، الذي يشكل نسغ الكتابة الدائم ، شعلتها
المقدسة التي لاتنطفئ ويختلفان، كما سيبرز لاحقا، في طبيعة التعامل مع
الكتابة ، بصيغها المختلفة ، وأبعادها المتعددة. ومع ذلك/ فقد يتفوق
الرحالة- في حالةالكتابة- على الكاتب، والكثير من الرحالين بنوا شهرتهم
الأدبية على المتن الرحلي. فالكاتب الشهير" لوكليزيو" يصدر، في كتاباته،عن
مفهوم خاص للرواية التي استند بناؤها السردي ، والدلالي، إلى المكون الرحلي
الذي تحكم في البنية الروائية، ومنحها، من جهة ثانية، أبعادها الإنسانية.
وللتذكير ، فالإرتحال، قد ينسحب على حركة الجسد، وهو يجوب الآفاق،
وقد ينسحب على حركة الذهن ( ذاكرة/ تذكر/ تداعيات/ متخيل..الخ) التي تنتقل
من عالم إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى.فالكثير من الكتاب ارتحلوا دون أن
يغادروا أماكنهم لأسباب عديدة.( صوفية/ مساجين/ رهبان...الخ)، بل إن بعضهم"
لم يجاوز غرفته."،دون أن يتوقف عن الإرتحال في الذاكرة والتاريخ والوجدان.
وسواء
كان الكاتب مرتحلا، أو مرابطافي مكان ما،فإن فعل الحركة الجسدية ، أو
الذهنية، يظل ضرورة لامفر منها للكتابة والكتاب. ألم يرصد " المتنبي" )
ترحاله الأبدي المجسد لقلقه الوجودي اإبداعي في البيت التالي:
على قلق كأن الريح تحتي أوجهها جنوبا أو شمالا
ولعل
هذا ما جعل من القريب بعيدا، ومن البعيد قريبا، أثناء الإرتحال بعيدا عن
الوطن، مما دفع بالكاتب السوداني المغترب " جمال محجوب" إلى التأكيد على
ارتباط الأدب اليوم
بالعولمة.والعيش بالخارج" تجربة هامة للعثور على
القيمة الإنسانية للأدب. إنه أداة للقاء بالعجيب والغريب... وكل ذلك يغذي
الكاتب أثناء مواجهته للمختلف"يؤكد المعنى ذاته كاتب آخر بقوله:" نحن لا
نسافر لكي نفر مما هو أقرب إلينا، بل على العكس من ذلك، نسافر لكي نقترب
مما نسميه الأبعد، ولكي تتحول إلى أقصى الأرض إلى أقصر طريق بين الإنسان
والإنسان."
يطرح سؤال فهذا السياق : هل ما زال للرحلة معنى ، بعد أن حمل
إلينا العالم بأسهل السبل، وأكثرها متعة وإمتاعا؟ الجواب يمكن استخلاصه من
آراء العديد من الكتاب الرحالين الذين أكدوا على دور الرحلة ، في التعريف ،
والتعرف أيضا، على أماكن عديدة. والذهاب إلى الأماكن المشتركة مرات
عديدة، لايمنع- بحكم ارتباطها بالتجربة الإنسانية- من الحكي عنها مرات
ومرات, فنحن لا نسبح في النهر مرتين.والرحلة المكتوبة تقوم على " الصوغ
الذاتي للتجربة". ومن ثم يتساءل عبدالوهاب مدب/ هذا السؤال العميق
رحلة؟ماهي إلا مجرد موضوعة للكتابة؟لحمل الجسد حيا أو ميتا... في كلمات؟)2
الكتابة،إذن،
ارتحال جديد للتعرف، من مواقع مختلفة، على المرئيات، بل إنها تسمح بإعادة
تركيب الصورة المرئية ، بعد أن تم استيعاب مختلف زوايا الرؤية. ولهذا لم
يتردد الرحالة، أثناء الكتابة، في التصحيح والإضافة والترميم للنص المكتوب،
بعد أن كان هذا الأخيرأسير الدهشة والآنبهار والملاحظة العابرة. وبسبب
ذلك ميز القدامىبين الحاج الذي اكتفى بإقامة الشعائر دون تسجيل ، أو كتابة،
تجربة ذاتية محددة. يقول الكاتب الفرنسي" جيل لابوج" جوابا على سؤال
السفر:" لا ألتقي بزهرة الأروكاريا إلا إذا حولتها إلى كلمات، فواصل..
أزمنة مختلفة.. وبفضل ذلك امتلكت زهرتي ، وكانت رائعة".
ولا يتردد
الكاتب ذاته في الآستشهاد بقولة عميقة لكاتب آخر يقول ، في السياق ذاته،"
نحن لانسافرلمجرد السفر ، بل لأننا سافرنا"3. وصيغة الماضي" سافرنا" تعني
دلالة السفر الحقيقية التى حولت الرحلات المتتابعة إلى طروس. وما يفعله
الرحالة- وهو يسير داخل هذه المكتبة المتنقلة- هو إضافة عناوين جديدة،
وإسهام متواصل في تعدد الطبعات للأمكنة المختلفة.هذا الإحساس المزدوج
المجسد في رحلة الجسد،من ناحية، ورحلة الكتابة ، من ناحية ثانية،يعكس
تداخل حالتين متكاملتين:حالة المكتشف- بالكسر- أثناء رحلةالجسد، وحالة
المكتشف- بالفتح- أثناء رحلة الكتابة.وبينهما تنمو مراحل الرحلة المكتوبة،
جدلا وتفسيرا وتأويلا،وتوظيفا لمواد عديدة مكتوبة ومرئية ومسموعة.4
ولما
كان الرحالة ? أثناء رحلته-ليس خالي الوفاض، فإن محمولاته الثقافية
والنفسية، تسمح له بامتلاك مفاتيح القراءة التي تساعده على تلمس مواطئ
القدم .ف"كريستوف كولمبوس" قبل مغادرته" (القرن 15م) درس الإنجبل
وجغرافية " بطليموس".. وكانpalos
في الوقت ذاته، مطلعا على تقسيم العالم
، كما ورد عند " ماركو بولو" ،قبل قرنين، مما مكنه من توقع ما سيصادفه،
في رحلته، من صينيين ومسيحيين نسطوريين ويهود تائهين....."
من هنا كان "
كريستوف كولمبوس"من أكبر المكتشقين، على صعيد الورق، قبل اكتشافه للمكان.
يؤكد ذلك ، مرة أخرى، اندهاشه الكبير ، وبسبب قراءته للأوديسا، من عدم
عثوره على " السيكلوب" بجزيرة " كوبا"، دون أن يصل إلى علمه بأنه قد اكتشف
القارة الأمريكية، نظرا لأن أي كتاب لم يدله على ذلك.
الكاتب والرحالة: مفهومان متحركان
إذا
كانت الرحلة نص الحركة ،بامتياز، مكانا وزمانا وسردا ووصفا ومعجما، فإن
الحركة ذاتها مست مفهوم الرحلة ذاتها،من جهة، ومفهوم الكاتب من جهة ثانية.
إيتيمولوجيا:
تتماهى الرحلة مع العمل والجهد والمعاناة. "فالكلمة الإنجليزية travel
ليست بعيدة عن "Travail( المرجع نفسه. المجلة الأدبية.)، والرحالة العرب
القدامى جعلوا من " الرحلة قطعة من العذاب"، ،أثناء مواجهة الذات والعالم.
تاريخيا:
من الضروري التمييز بين المفاهيم التي أحاطت بمدلول الرحلة حسب الأمم
والثقافات المختلفة.فالرحلة ، في التراث الإسلامي، تأخذ بعد المعرفة وتأمل
صنعة الخالق، والتعارف بين الأمم والشعوب والقبائل. وفي القرآن الكريم،
فضلا عن أدبيات السفر ومتونه المتعددة، محددات عديدة لمفهوم الرحلة
ودلالاتها.5أما بالنسبة للغرب، فإن الرحلة، كما ورد عند الكثير من
الباحثين،ارتبطت ، قبل " هيرودوت"- مؤسس الكتابة الرحلية- بالحرب وتطوراتها
المختلفة.فالإنسان ارتحل ، في هذه المرحلة،بهدف الغزو لسبب أو لآخر. بمجيئ
" هيرودوت"، أصبحت الرحلة، على يديه، أداة للملاحظة ومعرفة العالم."
في ا لقرون الوسطى ، أصبحت الرحلة الغربية أداة لتأكيد العقيدة، والإنتصار للمسيح بكافة السبل، تحت تأثيرسيطرة الكنيسة لأهداف عديدة.
وبالمقابل كانت الرحلة العربية الإسلامية، وسيلة من وسائل التنويروالمعرفة( ابن بطوطة/ابن خلدون/ ابن فضلان..).
وستأخذ
الرحلة الأوروبية ، في عصر النهضة، منحى الكشف ، والإكتشاف، ممتلكة في
الوقت ذاته، أبجدية سردها الخاص، بعد أن طعمت بعوالم جديدة اتجهت ، شرقا،
نحو " الباب العالي" والحجاز، في سياق نهضة علمية وفنية متصاعدة.
في
مرحلة لاحقة ، ستأخذ الرحلة أبعادا جديدة، نبعت من رحم التحولات الإ
قتصادية والإجتماعية والسياسية لأوروبا، وتداخلت ، من ناحية أخرى،
بالإستشراق، أحيانا وبأهداف ملتبسة، أحيانا أخرى.أما بالنسبة للرحلة
العربية الإسلامية، فإنها اتجهت اتجاهين:
1- الأول حافظت فيه على علاقة المسلم بالسماء( الحج أو الركن الخامس من أركان الإسلام).
2- وفي الثاني تنوعت فيه علاقة المسلم بالأرض ،داخليا وخارجيا.(الرحلات المتعددة الأغراض/ المشرق/ الرحلة نحو الغرب).
ولاشك أن هذه التحولات المختلفة للرحلة ، ومدلولاتها، جسدت وقود الكتابة ،
وتحولاتها المتعددة، عبر جدلية الرحالة والمكان المرتحل إليه.
وبالإضافة
إلى هذا وذاك، ستأخذ الكتابة ، في الرحلة، دلالات أخرى ،مثل الكتابة
السينيمائية( السيناريوالمستند إلى الرحلة) واللوحة الزيتية،
و"الروبورتاج"- الإستطلاع- الصحفي، والصور المتحركة...س
أما بالنسبة
للكاتب/ الرحالة، فإنه لم يسلم بدوره من التجدد المستمر، مما يصعب معه
تصنيف فئات المرتحلين.فالفرق واضح بين المكتشف- وهوالذي يؤكد على ماهو
موجود- وبين الرحالة المبدع الذي يؤسس عالمه على كيمياء الواقع، وتفاعلات
المتخيل.
الفرق شاسع أيضا بين السائح المهووس بالصور النمطية( المسكوكة)
"، وبين الرحالة العالم( الجغرافي/ الإثنوغرافي..) المؤمن بالإختلاف
والتنوع من جهة ، والملموس من جهة ثانية.
كيف نصنف" سرفانتيس"- المعاصر
لكريستوف كولومب- المرتحل دوما في فضاءات مختلفة؟ماقولنا في الناسخ الذي
يتقمص شخصية الرحالة ، أثناء تسجيله للرحلة؟هل يمكن الحديث عن رحالة من
الدرجة الأولى، ورحالة من الدرجة الثانية؟ ما قولنا في سرد ابن جزي- كاتب
رحلةابن بطوطة- ونساخ " مونتين"، وماركو بولو، ويحيى الغزال،الذي رويت
رحلته، بعد أربعة قرون، عن طريق "ابن دحية"-القرن13م- وعبد المهيمن الحضرمي
وتنقيحه لرحلة " ابن رشيد السبتي"؟ ماقولنا في نظام "العبرية" الذي تخلل
رحلات " نرفال" و"شاتوبريان"...،أو ما أسماه- في الإستشراق- "إدوارد سعيد"
ب( السلطة الترميمية).؟
إنها مستويات الكتابة للنص الرحلي، في علاقته بالرحالة ، من جهة ، والمتلقي، من جهة ثانية.
الرحلة- كما سبقت الإشارة- والكتابة وجهان لعملة واحدة. والضرب في الأرض، ينطلق من الذات المفردة ليعانق الذات
الانسانية، سواء تعلق الأمر بالكاتب الرحالة، أو بالرحالة الكاتب.
والكتابة،
في الحالتين،تبدأأ و قد تتزامن،بعد توقف حركة الجسد الذي يظل وشمه حاضرا
في المكتوب،عبر تموجات السرد والوصف،ومظاهر انفعال الجسد بالمرئي وغير
المرئي.
هوامش:
*- كل مابين مزدوجتين مقتبس من المرجع أسفله .
- magazine litteraire :432,JUIN2004 1
2.IBID.
3.-ON NE VOYAGE PAS POUR VOYAGER MAIS POUR AVOIR VOYAGE
4 -انظر:عبد الرحيم مؤذن: الرحلة المغربية في القرن 19. (مستويات السرد. دار السويدي.أبو ظبي. الامارات العربية المتحدة.ط1 2006.)
ibid. M.l 5-
عبد الرحيم مؤئن |
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» مؤرخ المملكة
» تأملات جريئة حول مراجعة وإعادة كتابة التاريخ... محاولة لإعادة كتابة تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي
» فتاوى واراء..
» رخصة جمع وقصر الصلوات في السفر
» انطلاق العمل بجواز السفر البيومتري
» تأملات جريئة حول مراجعة وإعادة كتابة التاريخ... محاولة لإعادة كتابة تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي
» فتاوى واراء..
» رخصة جمع وقصر الصلوات في السفر
» انطلاق العمل بجواز السفر البيومتري
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى