تشكُّل الهوية العربية - د. محمد عابد الجابري
صفحة 1 من اصل 1
تشكُّل الهوية العربية - د. محمد عابد الجابري
عندما نتحدث عن
«الأمة العربية»، كما تقوم اليوم في وجدان شعوب العالم العربي، فنحن نتحدث
عن كيان نشأ وتطور مع الإسلام وانتشاره. لقد بدأ هذا الكيان في التشكل
«دستورياً» مع «الصحيفة» المعروفة بـ»صحيفة النبي»، وهي عبارة عن ميثاق
«قومي» أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مع سكان «المدينة» من
عرب ويهود. كان هذا الميثاق «قوميّاً» بالفعل لأنه أكد في أحد بنوده أن
المهاجرين والأنصار واليهود هم جميعاً «أمة واحدة»، متضامنون متعاونون ضد
أي اعتداء خارجي. فها هنا «وحدة قومية» بين المتساكنين في يثرب/ المدينة:
وهم المهاجرون القادمون من مكة، والأنصار (الأوس والخزرج) واليهود، من
سكانها الأصليين.
في إطار هذه «الوحدة القومية» أو «الهوية الجامعة» حافظت صحيفة النبي لكل
قبيلة من قبائل يثرب اليهودية منها والعربية، وللمهاجرين من قريش، على
أعرافهم، خصوصاً في المسألة الأساسية التي تهم المجتمع البدوي، مسألة
«الجنايات» وخاصة «القتل»، سواء كان خطأ أو عمداً. وبذلك أقرت نوعاً من
الهدنة الاجتماعية بين «الهويات الصغرى» وفتحت الباب للإخاء والتعاون (في
إطار هوية كبرى)، حتى قبل أن تكتمل الشريعة المحمدية.
أخذ هذا الكيان الجامع في التوسع مع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم حتى
شمل، أو كاد، مجموع جزيرة العرب. ثم تابع الخلفاء الراشدون من بعده تأسيس
دولة الإسلام التي كانت في الوقت نفسه دولة العرب. وقد برز «المظهر
العربي»، واضحاً، في كيان هذه الدولة على عهد الأمويين. وهذا شيء تبرزه
كتب التاريخ والأدبيات العربية عموماً.
كانت الدولة الأموية دولة عربية، بمعنى أن السلطة فيها كانت موزعة على
القبائل العربية الحاكمة وحدها، في حين كان الأقوام الذين دخلوا في
الإسلام مبعدين بصورة أو بأخرى عن ممارسة السلطة السياسية. والواقع أن
استئثار بني أمية بالحكم إنما هو نتيجة حتمية لمسلسل التطور الذي شهده
مجتمع مكة قبل الإسلام، والمجتمع الإسلامي على عهد الرسول صلى الله عليه
وسلم والخلفاء الراشدين.
لقد كان بنو أمية قبيل الإسلام يشكلون، هم وبنو مخزوم، القوة ذات النفوذ
المالي والعددي «العسكري» في مكة قبل البعثة النبوية، وحين قام الرسول صلى
الله عليه وسلم بالدعوة كان أكثر الناس عداوة له هم الملأ من قريش،
وبكيفية خاصة زعماء بني أمية وبني مخزوم. وعندما هاجر النبي صلى الله عليه
وسلم إلى المدينة ودخل مع قريش في صراعات كانت غزوة بدر الكبرى منعطفاً
تاريخياً في هذا الصراع. لقد انهزم فيها بنو مخزوم، وقتل جل زعمائهم،
وانحل الحلف الذي كان بينهم وبين بني أمية فانفرد هؤلاء بالزعامة، وتولى
أبو سفيان، التاجر الماهر والمساوم المفاوض، قيادة قريش لإنهاء الصراع مع
الدعوة المحمدية. وهكذا تم فتح مكة بصورة سلمية ونادى المنادي بأمر
الرسول: «من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».
ما أريد التأكيد عليه من خلال هذه التفاصيل المعروفة هو أن دخول بني أمية
في الإسلام كان شبه جماعي في إطار نوع من التفاوض. ومن أجل أن يدعم الرسول
صلى الله عليه وسلم هذا الإسلام المتفاوض عليه عاملَ أبا سفيان وجماعته،
وكلهم كانوا أغنياء أقوياء، عاملهم معاملة «المؤلفة قلوبهم»، فخصهم بحصص
كبيرة من الغنائم، الشيء الذي أثار امتعاض كثير من الأنصار، لكن النبي صلى
الله عليه وسلم أقنعهم بأن المسألة ليست مسألة تفضيل للقرشيين على الأنصار
بل هي مســألة تدعيم إســلام هــؤلاء المسلــمين الــــجدد وكسبــهم إلى
جانب قضية الإســلام.
ولنضف إلى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد تزوج بنت أبي سفيان
قبل إسلام هذا الأخير. كما أنه استعمل معاوية كاتباً له، واستعمل أناساً
آخرين من شخصيات بني أمية عمالا له على بعض النواحي. ولم يتغير وضع بني
أمية خلال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، بل بالعكس قوي نفوذهم، خصوصاً في
الشام ومصر التي كانوا ولاة عليها، مما نشأ عنه وضع سياسي خاص، يتلخص في
وجود نفوذ قوي لبني أمية في الشام، وهو نفوذ برز أثره واضحاً وملموساً في
الصراع بين علي ومعاوية. وهكذا لم يتغير وضع بني أمية في الجاهلية عنه في
الإسلام، بل إن الإسلام على عهد الرسول والخلفاء الراشدين «قد حدَّد
أنيابهم»، كما يقول المقريزي في عبارة مشهورة له.
وإذن، فالدولة الأموية منظوراً إليها من زاوية التطورات الاجتماعية
السياسية التاريخية، هي دولة قوم من العرب دخلوا الإسلام وأبلوا فيه
البلاء الحسن خلال الفتوحات التي تمت في زمنهم، فاتخذت هوية دولة الإسلام
في عهدهم طابعاً عربيّاً ضيقاً، أعني دولة أكبر قبيلة عربية في عصرها.
وعندما قامت الدولة العباسية، في أعقاب ثورة شعبية منظمة ومحكمة، حاولت أن
تكون دولة «الجميع»، فأقامت نوعاً من اقتسام النفوذ: فالخليفة عربي، وقواد
الجيش عرب أو تحت إمرة خليفة عربي، والجنود والكُتاب وأعضاء الحاشية
الآخرون كانوا من الموالي، من الفرس والخراسانيين أولا، ثم من الأتراك
فيما بعد. وفي خضم الاحتكاك والتدافع بين هذه الفئات، التي تشكَّل منها
كيان الدولة العباسية، برزت هويتان: واحدة عبرت عن نفسها أنثربولوجيّاً
فيما أطلق عليه «الحركة الشعوبية»، بينما عبرت الأخرى عن مضمونها دينيّاً
في ما سماه المستشرقون بـ»الانقلاب السُّني» زمن المتوكل.
وكانت الدولة العباسية قد تحولت بعد وقت قصير من قيامها (وبالضبط على عهد
هارون الرشيد) إلى ما يشبه «الإمبراطورية». وكما هو الشأن في
الإمبراطوريات عموماً فالهوية الجامعة التي ترتكز عليها الدولة القومية
تترك مكانها للهويات الصغرى التي تتنازع أو تتآلف حسب الظروف والمصالح.
وفي هذا الإطار أصبح «الأنا العربي الإسلامي» يتحدد عبر «الآخر/الأعجمي»،
عدو العرب والمسلمين، ويتمثل خاصة في الإمبراطورية البيزنطية التي هدتها
حملات الدولة العباسية، الشيء الذي أفقد التمييز بين «عرب» و»مسلمين»
فحواه على صعيد الهوية. وحتى في النقاشات التي دارت، خلال المعارك الأدبية
والإيديولوجية، ضد «الشعوبية»، كان الوعي سائداً وواضحاً بأن ما تستهدفه
الحركة الشعوبية هو تقويض سلطة العرب وصولا إلى القضاء على الإسلام.
وبعبارة أخرى فالذين هاجموا العرب والمسلمين (أعني المانوية ومن في
معناهم) إنما هاجموهم بوصفهم حاملي دين مكنهم من إقامة إمبراطورية على
أنقاض الإمبراطورية الكسروية، التي كان أولئك المهاجمون يحلمون بأن يكونوا
هم الوارثون لها.
وقد ظل الأمر على هذه الحال طوال العصر العباسي: كان العربي هو المسلم،
والمسلم هو العربي. لم تكن الهوية تتحدد بالنسب بل كانت تتحدد حضاريّاً
بالانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية، وسياسيّاً واجتماعيّاً ودينيّاً
بالانتماء إلى إحدى الهويات الصغرى: عرقية، مذهبية دينية، طائفية...
الاتحاد الاشتراكي
6-4-2010
«الأمة العربية»، كما تقوم اليوم في وجدان شعوب العالم العربي، فنحن نتحدث
عن كيان نشأ وتطور مع الإسلام وانتشاره. لقد بدأ هذا الكيان في التشكل
«دستورياً» مع «الصحيفة» المعروفة بـ»صحيفة النبي»، وهي عبارة عن ميثاق
«قومي» أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مع سكان «المدينة» من
عرب ويهود. كان هذا الميثاق «قوميّاً» بالفعل لأنه أكد في أحد بنوده أن
المهاجرين والأنصار واليهود هم جميعاً «أمة واحدة»، متضامنون متعاونون ضد
أي اعتداء خارجي. فها هنا «وحدة قومية» بين المتساكنين في يثرب/ المدينة:
وهم المهاجرون القادمون من مكة، والأنصار (الأوس والخزرج) واليهود، من
سكانها الأصليين.
في إطار هذه «الوحدة القومية» أو «الهوية الجامعة» حافظت صحيفة النبي لكل
قبيلة من قبائل يثرب اليهودية منها والعربية، وللمهاجرين من قريش، على
أعرافهم، خصوصاً في المسألة الأساسية التي تهم المجتمع البدوي، مسألة
«الجنايات» وخاصة «القتل»، سواء كان خطأ أو عمداً. وبذلك أقرت نوعاً من
الهدنة الاجتماعية بين «الهويات الصغرى» وفتحت الباب للإخاء والتعاون (في
إطار هوية كبرى)، حتى قبل أن تكتمل الشريعة المحمدية.
أخذ هذا الكيان الجامع في التوسع مع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم حتى
شمل، أو كاد، مجموع جزيرة العرب. ثم تابع الخلفاء الراشدون من بعده تأسيس
دولة الإسلام التي كانت في الوقت نفسه دولة العرب. وقد برز «المظهر
العربي»، واضحاً، في كيان هذه الدولة على عهد الأمويين. وهذا شيء تبرزه
كتب التاريخ والأدبيات العربية عموماً.
كانت الدولة الأموية دولة عربية، بمعنى أن السلطة فيها كانت موزعة على
القبائل العربية الحاكمة وحدها، في حين كان الأقوام الذين دخلوا في
الإسلام مبعدين بصورة أو بأخرى عن ممارسة السلطة السياسية. والواقع أن
استئثار بني أمية بالحكم إنما هو نتيجة حتمية لمسلسل التطور الذي شهده
مجتمع مكة قبل الإسلام، والمجتمع الإسلامي على عهد الرسول صلى الله عليه
وسلم والخلفاء الراشدين.
لقد كان بنو أمية قبيل الإسلام يشكلون، هم وبنو مخزوم، القوة ذات النفوذ
المالي والعددي «العسكري» في مكة قبل البعثة النبوية، وحين قام الرسول صلى
الله عليه وسلم بالدعوة كان أكثر الناس عداوة له هم الملأ من قريش،
وبكيفية خاصة زعماء بني أمية وبني مخزوم. وعندما هاجر النبي صلى الله عليه
وسلم إلى المدينة ودخل مع قريش في صراعات كانت غزوة بدر الكبرى منعطفاً
تاريخياً في هذا الصراع. لقد انهزم فيها بنو مخزوم، وقتل جل زعمائهم،
وانحل الحلف الذي كان بينهم وبين بني أمية فانفرد هؤلاء بالزعامة، وتولى
أبو سفيان، التاجر الماهر والمساوم المفاوض، قيادة قريش لإنهاء الصراع مع
الدعوة المحمدية. وهكذا تم فتح مكة بصورة سلمية ونادى المنادي بأمر
الرسول: «من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».
ما أريد التأكيد عليه من خلال هذه التفاصيل المعروفة هو أن دخول بني أمية
في الإسلام كان شبه جماعي في إطار نوع من التفاوض. ومن أجل أن يدعم الرسول
صلى الله عليه وسلم هذا الإسلام المتفاوض عليه عاملَ أبا سفيان وجماعته،
وكلهم كانوا أغنياء أقوياء، عاملهم معاملة «المؤلفة قلوبهم»، فخصهم بحصص
كبيرة من الغنائم، الشيء الذي أثار امتعاض كثير من الأنصار، لكن النبي صلى
الله عليه وسلم أقنعهم بأن المسألة ليست مسألة تفضيل للقرشيين على الأنصار
بل هي مســألة تدعيم إســلام هــؤلاء المسلــمين الــــجدد وكسبــهم إلى
جانب قضية الإســلام.
ولنضف إلى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد تزوج بنت أبي سفيان
قبل إسلام هذا الأخير. كما أنه استعمل معاوية كاتباً له، واستعمل أناساً
آخرين من شخصيات بني أمية عمالا له على بعض النواحي. ولم يتغير وضع بني
أمية خلال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، بل بالعكس قوي نفوذهم، خصوصاً في
الشام ومصر التي كانوا ولاة عليها، مما نشأ عنه وضع سياسي خاص، يتلخص في
وجود نفوذ قوي لبني أمية في الشام، وهو نفوذ برز أثره واضحاً وملموساً في
الصراع بين علي ومعاوية. وهكذا لم يتغير وضع بني أمية في الجاهلية عنه في
الإسلام، بل إن الإسلام على عهد الرسول والخلفاء الراشدين «قد حدَّد
أنيابهم»، كما يقول المقريزي في عبارة مشهورة له.
وإذن، فالدولة الأموية منظوراً إليها من زاوية التطورات الاجتماعية
السياسية التاريخية، هي دولة قوم من العرب دخلوا الإسلام وأبلوا فيه
البلاء الحسن خلال الفتوحات التي تمت في زمنهم، فاتخذت هوية دولة الإسلام
في عهدهم طابعاً عربيّاً ضيقاً، أعني دولة أكبر قبيلة عربية في عصرها.
وعندما قامت الدولة العباسية، في أعقاب ثورة شعبية منظمة ومحكمة، حاولت أن
تكون دولة «الجميع»، فأقامت نوعاً من اقتسام النفوذ: فالخليفة عربي، وقواد
الجيش عرب أو تحت إمرة خليفة عربي، والجنود والكُتاب وأعضاء الحاشية
الآخرون كانوا من الموالي، من الفرس والخراسانيين أولا، ثم من الأتراك
فيما بعد. وفي خضم الاحتكاك والتدافع بين هذه الفئات، التي تشكَّل منها
كيان الدولة العباسية، برزت هويتان: واحدة عبرت عن نفسها أنثربولوجيّاً
فيما أطلق عليه «الحركة الشعوبية»، بينما عبرت الأخرى عن مضمونها دينيّاً
في ما سماه المستشرقون بـ»الانقلاب السُّني» زمن المتوكل.
وكانت الدولة العباسية قد تحولت بعد وقت قصير من قيامها (وبالضبط على عهد
هارون الرشيد) إلى ما يشبه «الإمبراطورية». وكما هو الشأن في
الإمبراطوريات عموماً فالهوية الجامعة التي ترتكز عليها الدولة القومية
تترك مكانها للهويات الصغرى التي تتنازع أو تتآلف حسب الظروف والمصالح.
وفي هذا الإطار أصبح «الأنا العربي الإسلامي» يتحدد عبر «الآخر/الأعجمي»،
عدو العرب والمسلمين، ويتمثل خاصة في الإمبراطورية البيزنطية التي هدتها
حملات الدولة العباسية، الشيء الذي أفقد التمييز بين «عرب» و»مسلمين»
فحواه على صعيد الهوية. وحتى في النقاشات التي دارت، خلال المعارك الأدبية
والإيديولوجية، ضد «الشعوبية»، كان الوعي سائداً وواضحاً بأن ما تستهدفه
الحركة الشعوبية هو تقويض سلطة العرب وصولا إلى القضاء على الإسلام.
وبعبارة أخرى فالذين هاجموا العرب والمسلمين (أعني المانوية ومن في
معناهم) إنما هاجموهم بوصفهم حاملي دين مكنهم من إقامة إمبراطورية على
أنقاض الإمبراطورية الكسروية، التي كان أولئك المهاجمون يحلمون بأن يكونوا
هم الوارثون لها.
وقد ظل الأمر على هذه الحال طوال العصر العباسي: كان العربي هو المسلم،
والمسلم هو العربي. لم تكن الهوية تتحدد بالنسب بل كانت تتحدد حضاريّاً
بالانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية، وسياسيّاً واجتماعيّاً ودينيّاً
بالانتماء إلى إحدى الهويات الصغرى: عرقية، مذهبية دينية، طائفية...
الاتحاد الاشتراكي
6-4-2010
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
هوية ثقافية جامعة... وهويات قومية خاصة / د. محمد عابد الجابري
بعد
أن رسمنا في المقال السابق الخطوط العريضة لتَشكُّل الهوية العربية في عهد
النبوة وعصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والعصر العباسي الأول،
نواصل اليوم النظر في تطوراتها اللاحقة التي عرفتها خلال عصور
«الإمبراطوريات» الثلاث: الإمبراطورية العباسية في عصورها الأخيرة، وعصر
الإمبراطورية العثمانية، وعصر الإمبريالية الأوروبية. لنبدأ بالعباسية:
1- لم يختلف الأمر كثيراً على مستوى «حال الهوية العربية» خلال العصور
الأخيرة للخلافة العباسية، التي بقيت ذات طابع إمبراطوري، على الرغم من
قيام الدول المستقلة هنا وهناك، مشرقاً ومغرباً (الدولة الصفارية، الدولة
السامانية، الدولة الغزوينية، الدولة البويهية، الدولة الحمدانية من جهة،
ثم الدولة الطولونية والدولة الإخشيدية والدولة الفاطمية ودولة الأغالبة
ودولة الأدارسة والدولة الأموية في الأندلس من جهة أخرى).
كان الوضع زمن هذه الدول أشبه بالوضع في «العالم العربي» المعاصر: «هوية
جامعة» تبرز وتخْفُتُ حسب اشتداد أو ضعف التهديدات والتحديات الخارجية،
وهويات خاصة «قُطرية» لم يرتفع أي منها إلى مستوى الدولة القومية الجامعة.
لقد بقيت «الدول المستقلة» عن الخلافة العباسية -استقلالا تاماً أو شبه
تام- تستمد شرعيتها الدينية من الحفاظ على نوع ما من العلاقة مع
«الخليفة». ذلك لأن الناس في ذلك الوقت، والفقهاء خاصة، قد ترسخ في
أذهانهم أن دولة الإسلام لابد أن تكون واحدة. وعلى رغم فتوى بعض الفقهاء
بجواز قيام دول مستقلة عن الخلافة عندما يكون هناك بحر يفصل بين دار
الخلافة (عاصمتها) وتلك الدولة (حال الأندلس، ثم حالها هي والمغرب عندما
أصبحت تابعة له)، فإن الشعور بوحدة «الهوية الجامعة» بقي حيّاً عبر
المراسلات والوفود والهدايا: يبرز ويشتد حين يواجه أحد الطرفين خطراً
خارجيّاً، أو يسود في أحدهما طموح إلى التوسع والتحول إلى مركز.
ولعل أهم ما كان يميز هذه «الهوية الجامعة» هو «الوحدة الثقافية»، في
مقابل «التمزق السياسي». وكما أبرزنا في دراسة سابقة (تكوين العقل العربي)
فإن العصر العباسي الأول، الذي كان استمراراً باهتاً للعصر الأموي على
مستوى الفتح الموجه إلى الخارج سياسيّاً ودينيّاً، سرعان ما بدأ يطغى عليه
«فتح مضاد» موجه إلى الداخل، اكتسى طابعاً ثقافيّاً (التدوين والترجمة
و»حرب الكتب»)، فتحٌ قام به هذه المرة «الموروث القديم» بكل أبعاده
الثقافية والإيديولوجية، مما أثار ردود فعل مماثلة، ليس من «العلماء
العرب» وحدهم -وقد كانوا قليلي العدد- بل أيضاً، وبصفة أعمق وأوسع، من
«علماء الإسلام» من أصول غير عربية، وقد كانوا أكثر عدداً وأوسع تأثيراً.
وهذا ما أبرزه ابن خلدون في مقدمته التي عقد فيها فصلا بعنوان: «فصل في أن
حمَلَة العلم في الإسلام أكثرهم العجم»، قال فيه: «من الغريب الواقع أن
حَمَلَة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية ولا
من العلوم العقلية، إلا في القليل النادر؛ وإن كان منهم العربي في نسبته
فهو عجَمي في لغته ومَرْباه ومشيَخته، مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها
عربي». ويعلل ابن خلدون ذلك بكون «الملة (الإسلامية) في أولها لم يكن فيها
عِلم ولا صناعة، لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة،
التي هي أوامر الله ونواهيه، كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا
مأخذها من الكتاب والسُّنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ
«عرب» لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا دُفعوا إليه ولا دعتهم
إليه حاجة». ويضرب ابن خلدون لذلك أمثلة يذكر فيها بالخصوص: «صاحب صناعة
النحو سيبويه، والفارسي من بعده، والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم
وإنما رُبُّوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمرْبَى ومخالطة العرب
وصيَّروه قوانين وفَنّاً لمن بعدهم، وكذا حمَلَة الحديث، الذين حفظوه عن
أهل الإسلام، أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمَرْبَى، وكان علماء أصول
الفقه كلهم عجماً كما يُعْرَفُ، وكذا حمَلة علم الكلام، وكذا أكثر
المفسرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم... وأما العلوم العقلية
أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر
العلمُ كله صناعةً، فاختصت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها،
فلم يحملها إلا المعرَّبون من العجم شأن الصنائع»...
ويحرص ابن خلدون على تفسير هذه الظاهرة بالتأكيد على أن العلوم تختص بها
الحواضر والأمصار، لكونها مظهراً من مظاهر حضارة المدن. ولهذا «لم يزل ذلك
في الأمصار ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخراسان وما وراء
النهر» (آسيا الوسطى وبلاد القوقاز وبكيفية خاصة سمرقند، وبخارى وخوارزم،
ومرو، وترمذ؛ (وقد برز فيها أعلام في الثقافة العربية الإسلامية أمثال
الخوارزمي، والفارابي، والبخاري، والترمذي، وابن سينا، والجرجاني،
والسجستاني، والبيروني... الخ). ويضيف ابن خلدون قائلا: «فلما خربت تلك
الأمصار وذهبت منها الحضارة، التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع، ذهب
العلم من العجم جملة، لما شملهم من البداوة، واختص العلم بالأمصار
الموفورة الحضارة».
ومن الملاحظ هنا أن ابن خلدون قد سكت تماماً عن الغرب الإسلامي (المغرب
العربي والأندلس) مع أنه كان هو نفسه نتاجاً له. ويمكن تفسير ذلك بكون هذه
الناحية كانت قد دخلت في عهده مرحلة التفكك والانهيار: فالأندلس كانت آيلة
للسقوط، كما أن المغرب العربي قد دخل مرحلة التمزق والتراجع مع أواخر عهد
المرينيين بالمغرب... ولم يبق إلا مصر، التي رحل إليها صاحب المقدمة في
زمن المماليك البرجية وأقام بها (من سنة 1382م- حتى وفاته 1406م)، وقد
وجدها كما يقول: «لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم، وإيوان
الإسلام، وينبوع العلم والصنائع». ثم يضيف: «وبقي بعض الحضارة في ما وراء
النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها، فلهم بذلك حصة من العلوم
والصنائع لا تنكر: قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا
إلى هذه البلاد (مصر) وهو سعد الدين التفتازاني (712-(791هـ. وأما غيره من
العجم فلم نرَ لهم من بعد الإمام ابن الخطيب (فخر الدين الرازي 543-606هـ)
ونصير الدين الطوسي (597-672هـ) كلاماً يعول على نهايته في الإصابة».
وهكذا فمنذ العصر العباسي الأول إلى هذا العصر، عصر ابن خلدون (732-808هـ/
1332-1406م)، كانت «الهوية العربية الجامعة» هوية ثقافية: لغتها العربية
ومضمونها تراث عربي إسلامي: جل حامليه من غير العرب. أما بعد هذا العصر،
عصر ابن خلدون، فقد تركت اللغة العربية مكانتها الثقافية للغة الفارسية
شرق العراق. وكان هذا التحول قد حدث تدريجيّاً منذ ابن سينا والغزالي
اللذين كانا من كبار علماء الإسلام الذين دشنوا التأليف بالفارسية بحروف
عربية. ثم تعمم هذا التحول ليؤدي إلى قطيعة نهائية على مستوى الهوية، إذ
لم تعد هناك «هوية جامعة» واحدة، بل هويتان: هوية عربية إسلامية جامعة من
المحيط إلى الخليج من جهة وهويات أخرى، شرق الخليج، لقوميات متعددة لم يكن
يجمعها سوى التدين بالإسلام. وسيتعمم هذا الوضع مع قيام الإمبراطورية
العثمانية.
13-4-2010
الاتحاد الاشتراكي
أن رسمنا في المقال السابق الخطوط العريضة لتَشكُّل الهوية العربية في عهد
النبوة وعصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والعصر العباسي الأول،
نواصل اليوم النظر في تطوراتها اللاحقة التي عرفتها خلال عصور
«الإمبراطوريات» الثلاث: الإمبراطورية العباسية في عصورها الأخيرة، وعصر
الإمبراطورية العثمانية، وعصر الإمبريالية الأوروبية. لنبدأ بالعباسية:
1- لم يختلف الأمر كثيراً على مستوى «حال الهوية العربية» خلال العصور
الأخيرة للخلافة العباسية، التي بقيت ذات طابع إمبراطوري، على الرغم من
قيام الدول المستقلة هنا وهناك، مشرقاً ومغرباً (الدولة الصفارية، الدولة
السامانية، الدولة الغزوينية، الدولة البويهية، الدولة الحمدانية من جهة،
ثم الدولة الطولونية والدولة الإخشيدية والدولة الفاطمية ودولة الأغالبة
ودولة الأدارسة والدولة الأموية في الأندلس من جهة أخرى).
كان الوضع زمن هذه الدول أشبه بالوضع في «العالم العربي» المعاصر: «هوية
جامعة» تبرز وتخْفُتُ حسب اشتداد أو ضعف التهديدات والتحديات الخارجية،
وهويات خاصة «قُطرية» لم يرتفع أي منها إلى مستوى الدولة القومية الجامعة.
لقد بقيت «الدول المستقلة» عن الخلافة العباسية -استقلالا تاماً أو شبه
تام- تستمد شرعيتها الدينية من الحفاظ على نوع ما من العلاقة مع
«الخليفة». ذلك لأن الناس في ذلك الوقت، والفقهاء خاصة، قد ترسخ في
أذهانهم أن دولة الإسلام لابد أن تكون واحدة. وعلى رغم فتوى بعض الفقهاء
بجواز قيام دول مستقلة عن الخلافة عندما يكون هناك بحر يفصل بين دار
الخلافة (عاصمتها) وتلك الدولة (حال الأندلس، ثم حالها هي والمغرب عندما
أصبحت تابعة له)، فإن الشعور بوحدة «الهوية الجامعة» بقي حيّاً عبر
المراسلات والوفود والهدايا: يبرز ويشتد حين يواجه أحد الطرفين خطراً
خارجيّاً، أو يسود في أحدهما طموح إلى التوسع والتحول إلى مركز.
ولعل أهم ما كان يميز هذه «الهوية الجامعة» هو «الوحدة الثقافية»، في
مقابل «التمزق السياسي». وكما أبرزنا في دراسة سابقة (تكوين العقل العربي)
فإن العصر العباسي الأول، الذي كان استمراراً باهتاً للعصر الأموي على
مستوى الفتح الموجه إلى الخارج سياسيّاً ودينيّاً، سرعان ما بدأ يطغى عليه
«فتح مضاد» موجه إلى الداخل، اكتسى طابعاً ثقافيّاً (التدوين والترجمة
و»حرب الكتب»)، فتحٌ قام به هذه المرة «الموروث القديم» بكل أبعاده
الثقافية والإيديولوجية، مما أثار ردود فعل مماثلة، ليس من «العلماء
العرب» وحدهم -وقد كانوا قليلي العدد- بل أيضاً، وبصفة أعمق وأوسع، من
«علماء الإسلام» من أصول غير عربية، وقد كانوا أكثر عدداً وأوسع تأثيراً.
وهذا ما أبرزه ابن خلدون في مقدمته التي عقد فيها فصلا بعنوان: «فصل في أن
حمَلَة العلم في الإسلام أكثرهم العجم»، قال فيه: «من الغريب الواقع أن
حَمَلَة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية ولا
من العلوم العقلية، إلا في القليل النادر؛ وإن كان منهم العربي في نسبته
فهو عجَمي في لغته ومَرْباه ومشيَخته، مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها
عربي». ويعلل ابن خلدون ذلك بكون «الملة (الإسلامية) في أولها لم يكن فيها
عِلم ولا صناعة، لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة،
التي هي أوامر الله ونواهيه، كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا
مأخذها من الكتاب والسُّنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ
«عرب» لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا دُفعوا إليه ولا دعتهم
إليه حاجة». ويضرب ابن خلدون لذلك أمثلة يذكر فيها بالخصوص: «صاحب صناعة
النحو سيبويه، والفارسي من بعده، والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم
وإنما رُبُّوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمرْبَى ومخالطة العرب
وصيَّروه قوانين وفَنّاً لمن بعدهم، وكذا حمَلَة الحديث، الذين حفظوه عن
أهل الإسلام، أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمَرْبَى، وكان علماء أصول
الفقه كلهم عجماً كما يُعْرَفُ، وكذا حمَلة علم الكلام، وكذا أكثر
المفسرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم... وأما العلوم العقلية
أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر
العلمُ كله صناعةً، فاختصت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها،
فلم يحملها إلا المعرَّبون من العجم شأن الصنائع»...
ويحرص ابن خلدون على تفسير هذه الظاهرة بالتأكيد على أن العلوم تختص بها
الحواضر والأمصار، لكونها مظهراً من مظاهر حضارة المدن. ولهذا «لم يزل ذلك
في الأمصار ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخراسان وما وراء
النهر» (آسيا الوسطى وبلاد القوقاز وبكيفية خاصة سمرقند، وبخارى وخوارزم،
ومرو، وترمذ؛ (وقد برز فيها أعلام في الثقافة العربية الإسلامية أمثال
الخوارزمي، والفارابي، والبخاري، والترمذي، وابن سينا، والجرجاني،
والسجستاني، والبيروني... الخ). ويضيف ابن خلدون قائلا: «فلما خربت تلك
الأمصار وذهبت منها الحضارة، التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع، ذهب
العلم من العجم جملة، لما شملهم من البداوة، واختص العلم بالأمصار
الموفورة الحضارة».
ومن الملاحظ هنا أن ابن خلدون قد سكت تماماً عن الغرب الإسلامي (المغرب
العربي والأندلس) مع أنه كان هو نفسه نتاجاً له. ويمكن تفسير ذلك بكون هذه
الناحية كانت قد دخلت في عهده مرحلة التفكك والانهيار: فالأندلس كانت آيلة
للسقوط، كما أن المغرب العربي قد دخل مرحلة التمزق والتراجع مع أواخر عهد
المرينيين بالمغرب... ولم يبق إلا مصر، التي رحل إليها صاحب المقدمة في
زمن المماليك البرجية وأقام بها (من سنة 1382م- حتى وفاته 1406م)، وقد
وجدها كما يقول: «لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم، وإيوان
الإسلام، وينبوع العلم والصنائع». ثم يضيف: «وبقي بعض الحضارة في ما وراء
النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها، فلهم بذلك حصة من العلوم
والصنائع لا تنكر: قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا
إلى هذه البلاد (مصر) وهو سعد الدين التفتازاني (712-(791هـ. وأما غيره من
العجم فلم نرَ لهم من بعد الإمام ابن الخطيب (فخر الدين الرازي 543-606هـ)
ونصير الدين الطوسي (597-672هـ) كلاماً يعول على نهايته في الإصابة».
وهكذا فمنذ العصر العباسي الأول إلى هذا العصر، عصر ابن خلدون (732-808هـ/
1332-1406م)، كانت «الهوية العربية الجامعة» هوية ثقافية: لغتها العربية
ومضمونها تراث عربي إسلامي: جل حامليه من غير العرب. أما بعد هذا العصر،
عصر ابن خلدون، فقد تركت اللغة العربية مكانتها الثقافية للغة الفارسية
شرق العراق. وكان هذا التحول قد حدث تدريجيّاً منذ ابن سينا والغزالي
اللذين كانا من كبار علماء الإسلام الذين دشنوا التأليف بالفارسية بحروف
عربية. ثم تعمم هذا التحول ليؤدي إلى قطيعة نهائية على مستوى الهوية، إذ
لم تعد هناك «هوية جامعة» واحدة، بل هويتان: هوية عربية إسلامية جامعة من
المحيط إلى الخليج من جهة وهويات أخرى، شرق الخليج، لقوميات متعددة لم يكن
يجمعها سوى التدين بالإسلام. وسيتعمم هذا الوضع مع قيام الإمبراطورية
العثمانية.
13-4-2010
الاتحاد الاشتراكي
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
الهوية «الأقوامية»... ومسألة «العروبة»/ د. محمد عابد الجابري
لم
يختلف وضع الهوية العربية كثيراً على عهد الخلافة العثمانية عنه زمن
العباسيين. فالهوية الجامعة على مستوى الإمبراطورية بقيت هي الثقافة
العربية الإسلامية التي لم يتغير وضعها كثيراً بعد سقوط الدولة العباسية.
نعم، لقد افتقد العثمانيون «النسب» العربي الذي كان يستمد منه الخليفة
العباسي بعض شرعيته، كما أنهم احتفظوا بلغتهم فلم يتعربوا، لا على مستوى
أجهزة الدولة ولا مستوى الثقافة، وبالمقابل لم يحاولوا فرض لغتهم على
الشعوب العربية. لقد كانوا يستمدون شرعيتهم من رماحهم: لا الرماح الموجهة
إلى الممالك الإسلامية التي كان يتشكل منهما ما عرف بـ»دار الإسلام»، بل
الرماح المتجهة صوب «الكفار» في أوروبا. وقد نجح الأتراك العثمانيون في
تثبيت شرعية إمبراطوريتهم من خلال استئناف «الفتح الإسلامي» في ذلك
الاتجاه، خصوصاً بعد تمكنهم من القسطنطينية -عاصمة الإمبراطورية
البيزنطية- سنة 1453، بعد أن كانت قد استعصت على الأمويين والعباسيين.
وهذا ما منحهم في نظر فقهاء الإسلام مكانة خاصة.
وبما أن الأتراك العثمانيين لم يكونوا يحملون معهم موروثاً إسلاميّاً
خاصّاً، وبما أنهم كانوا يجهلون اللغة العربية، فقد وقع في عهدهم نوع من
الانفصال -ولا أقول القطيعة- بين طرفي الزوج الإيديولوجي الذي «سيولد» في
أواخر عصرهم: أقصد زوج «العروبة والإسلام». لقد كان الخليفة العباسي يستند
في شرعيته القومية إلى كونه عربي النسب، وفي شرعيته الدينية إلى كونه من
سلالة العباس بن عبدالمطلب عم النبي محمد عليه الصلاة والسلام. أما في
العهد العثماني فقد استحدثت مؤسسة دينية خاصة هي «مؤسسة شيخ الإسلام»،
أقول «مؤسسة» لأن لقب «شيخ الإسلام» قد ظهر من قبلهم وناله كبار علماء
الدين ولكن دون أن يكون له أي دور مؤسسي في الدولة، وإنما هو لقب معنوي
يعبر عن اعتراف العامة وكثير من الخاصة بكون حامله متبحراً في علوم الدين.
أما في الإمبراطورية العثمانية فقد كان منصب «شيخ الإسلام» أحد الأركان
الأساسية في نظام الحكم المكون من السلطان -الخليفة- والصدر الأعظم
-الوزير الأول-، وشيخ الإسلام -المشرف على الأوقاف والقضاء والتعليم وصاحب
النفوذ الواسع الذي قد يمتد إلى عزل السلطان-، ثم قاضي العسكر والدفتردار
-ناظر المالية- ... الخ. هذا على مستوى رئاسة الدولة - أو»الباب العالي
نسبة إلى مقرها في إسطنبول-، أما على المستوى الاجتماعي/الثقافي فقد
اعتمدت هذه الإمبراطورية نظام الولايات والأقليات والملل -غير المسلمين.
لم تكن هناك في الإمبراطورية العثمانية هوية جامعة بالمعنى الذي عرفته
الإمبراطورية العباسية. وإذا كان الإسلام هو القاسم المشترك الأكبر،
وباسمه كانت «الفتوحات في دار الحرب» -القارة الأوروبية- وكان «الحكم
والتحكم في دار الإسلام»، فإن نظام الولايات والأقليات والملل قد جعل
«الهويات الخاصة»، قومية كانت أو طائفية أو دينية «ملية»، هي التي تحدد
شخصية الأفراد والجماعات. كانت الإمبراطورية العثمانية أشبه بخيمة: ضيقة
في القمة واسعة عريضة في القاعدة، خيمة يشدها عماد في الوسط، هو السلطان
وممثلوه في الولايات، وأوتاد في الأطراف تربطها بأرض الإمبراطورية، مع
فجوات تختلف ضيقاً واتساعاً. بقي الحال كذلك -تقريباً طوال الخلافة
العثمانية- إلى أن قام عصر القوميات في أوروبا... حينذاك أخذ الجوار مع
أوروبا، وداخل القارة الأوربية نفسها، يفعل فعله في ذلك العالم متعدد
الجنسيات والقوميات والطوائف والأديان. لقد أخذ شكل جديد من الشعور
بـ»الهوية الأقوامية» ينتشر في أحشاء خيمة «الباب العالي»: شعور الأتراك
بقوميتهم الطورانية، وشعور عرب المشرق بوقوعهم خارج هذه القومية، وبالتالي
خارج دولتها... الخ. أما بلدان المغرب، وإلى حد ما مصر، فقد بقيت
علاقاتها، في الجملة، سواء مع دار الخلافة في بغداد أو في الأستانة
-إسطنبول- كما كانت من قبل، علاقة انفصال مع نوع من الاتصال...
والواقع أن الحضارة العربية الإسلامية لم تشهد التغاير أو التمايز أو
الانشطار داخل «الهوية العربية الإسلامية» إلا عندما تأثرت النخبة العصرية
في تركيا، خلال القرن التاسع عشر، بالحركات القومية في أوروبا، وقام فيها
تيار ينادي بتسويد القومية التركية الطورانية على مختلف القوميات المنضوية
تحت الخلافة العثمانية، فكان رد فعل النخبة العصرية العربية في سوريا
ولبنان -وخاصة المسيحية منها-، أن طرحت شعار المطالبة بالاستقلال عن
الترك، الشيء الذي يعني الخروج عن الخلافة العثمانية التي كانت تمثل
الإسلام السياسي الموروث. ومن هنا ظهرت فكرة العروبة والقومية العربية -في
بلاد الشام خاصة- لا كطرف ينازع الإسلام أو ينافسه بل كتعبير سياسي عن
الرغبة في التحرر من هيمنة القومية التركية الطورانية التي كانت تطمح إلى
الاستئثار بالسلطة.
وتزامن انتصار دول أوربية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي كان
الصراع على المستعمرات من أهم أسبابها، تزامن مع دخول الإمبراطورية
العثمانية وضعية «الرجل المريض» -وكانت في الصف المنهزم في تلك الحرب-
وانتهى أمرها باستيلاء أتاتورك على السلطة في تركيا، فألغى الخلافة وأقام
دولة علمانية في أوائل العشرينيات، وبذلك تحول مجرى الأحداث، وأصبح
«الآخر» لـ»العرب» ابتداء من الثلاثينيات من القرن العشرين هو الاستعمار
الأوروبي الذي أدى التنافس بين أقطابه إلى تكريس نوع جديد من التقسيم
والتجزئة داخل العالم العربي؛ وقد اكتست التجزئة مظهراً مأساويّاً في
المشرق بصفة خاصة.
ومن هنا أخذت الهوية العربية تتحدَّد، ليس فقط برفض الاستعمار الأوروبي
فحسب بل أيضاً بالتنديد بالتجزئة التي فرضها أو كرسها وبعدم الاعتراف
بـ»إسرائيل» التي غرسها في فلسطين، ثم بالابتعاد عن الأحلاف العسكرية التي
تنشئها القوى الاستعمارية الإمبريالية وفي مقدمتها حلف بغداد CENTO الذي
أنشأته بريطانيا عام 1955، ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية. وكان
ذلك الحلف يضم ثلاث دول إسلامية كبرى هي باكستان وإيران وتركيا، ودولة
عربية واحدة هي العراق، وذلك في إطار استراتيجية الحزام العسكري الذي كانت
تقيمه الولايات المتحدة والدول الغربية ضد الاتحاد السوفييتي»...
هكذا وقع الفصل مرة أخرى بين القومية العربية و»الإسلام السياسي» الذي كان
يضم هذه المرة حكومات -باكستان وإيران وعراق نوري السعيد...- فضلت مهادنة
الدول الاستعمارية والسير في صف الليبرالية الإمبريالية ضداً على الاتحاد
السوفييتي والكتلة الشيوعية من جهة، وابتعاداً عن حركات التحرير في العالم
الثالث وضمنه العالم العربي من جهة أخرى. وهكذا وقف بعض تلك الحكومات
موقفاً سلبيّاً من القضية العربية، قضية فلسطين وقضية التحرر العربي عامة.
وفي خضم هذا الصراع ظهر منظرون وإيديولوجيون حاولوا، تحت ضغط هذه
الملابسات، وربما بدوافع أخرى أيضاً، التنظير للقومية العربية مع السكوت
عن الإسلام واستبعاده صراحة أو ضمناً. فكان من الطبيعي أن يقوم رد فعل
مضاد يعتبر «الإسلام» كمقوم أساسي وأولي للهوية وليس «العروبة»...
الاتحاد الاشتراكي
15-4-2010
يختلف وضع الهوية العربية كثيراً على عهد الخلافة العثمانية عنه زمن
العباسيين. فالهوية الجامعة على مستوى الإمبراطورية بقيت هي الثقافة
العربية الإسلامية التي لم يتغير وضعها كثيراً بعد سقوط الدولة العباسية.
نعم، لقد افتقد العثمانيون «النسب» العربي الذي كان يستمد منه الخليفة
العباسي بعض شرعيته، كما أنهم احتفظوا بلغتهم فلم يتعربوا، لا على مستوى
أجهزة الدولة ولا مستوى الثقافة، وبالمقابل لم يحاولوا فرض لغتهم على
الشعوب العربية. لقد كانوا يستمدون شرعيتهم من رماحهم: لا الرماح الموجهة
إلى الممالك الإسلامية التي كان يتشكل منهما ما عرف بـ»دار الإسلام»، بل
الرماح المتجهة صوب «الكفار» في أوروبا. وقد نجح الأتراك العثمانيون في
تثبيت شرعية إمبراطوريتهم من خلال استئناف «الفتح الإسلامي» في ذلك
الاتجاه، خصوصاً بعد تمكنهم من القسطنطينية -عاصمة الإمبراطورية
البيزنطية- سنة 1453، بعد أن كانت قد استعصت على الأمويين والعباسيين.
وهذا ما منحهم في نظر فقهاء الإسلام مكانة خاصة.
وبما أن الأتراك العثمانيين لم يكونوا يحملون معهم موروثاً إسلاميّاً
خاصّاً، وبما أنهم كانوا يجهلون اللغة العربية، فقد وقع في عهدهم نوع من
الانفصال -ولا أقول القطيعة- بين طرفي الزوج الإيديولوجي الذي «سيولد» في
أواخر عصرهم: أقصد زوج «العروبة والإسلام». لقد كان الخليفة العباسي يستند
في شرعيته القومية إلى كونه عربي النسب، وفي شرعيته الدينية إلى كونه من
سلالة العباس بن عبدالمطلب عم النبي محمد عليه الصلاة والسلام. أما في
العهد العثماني فقد استحدثت مؤسسة دينية خاصة هي «مؤسسة شيخ الإسلام»،
أقول «مؤسسة» لأن لقب «شيخ الإسلام» قد ظهر من قبلهم وناله كبار علماء
الدين ولكن دون أن يكون له أي دور مؤسسي في الدولة، وإنما هو لقب معنوي
يعبر عن اعتراف العامة وكثير من الخاصة بكون حامله متبحراً في علوم الدين.
أما في الإمبراطورية العثمانية فقد كان منصب «شيخ الإسلام» أحد الأركان
الأساسية في نظام الحكم المكون من السلطان -الخليفة- والصدر الأعظم
-الوزير الأول-، وشيخ الإسلام -المشرف على الأوقاف والقضاء والتعليم وصاحب
النفوذ الواسع الذي قد يمتد إلى عزل السلطان-، ثم قاضي العسكر والدفتردار
-ناظر المالية- ... الخ. هذا على مستوى رئاسة الدولة - أو»الباب العالي
نسبة إلى مقرها في إسطنبول-، أما على المستوى الاجتماعي/الثقافي فقد
اعتمدت هذه الإمبراطورية نظام الولايات والأقليات والملل -غير المسلمين.
لم تكن هناك في الإمبراطورية العثمانية هوية جامعة بالمعنى الذي عرفته
الإمبراطورية العباسية. وإذا كان الإسلام هو القاسم المشترك الأكبر،
وباسمه كانت «الفتوحات في دار الحرب» -القارة الأوروبية- وكان «الحكم
والتحكم في دار الإسلام»، فإن نظام الولايات والأقليات والملل قد جعل
«الهويات الخاصة»، قومية كانت أو طائفية أو دينية «ملية»، هي التي تحدد
شخصية الأفراد والجماعات. كانت الإمبراطورية العثمانية أشبه بخيمة: ضيقة
في القمة واسعة عريضة في القاعدة، خيمة يشدها عماد في الوسط، هو السلطان
وممثلوه في الولايات، وأوتاد في الأطراف تربطها بأرض الإمبراطورية، مع
فجوات تختلف ضيقاً واتساعاً. بقي الحال كذلك -تقريباً طوال الخلافة
العثمانية- إلى أن قام عصر القوميات في أوروبا... حينذاك أخذ الجوار مع
أوروبا، وداخل القارة الأوربية نفسها، يفعل فعله في ذلك العالم متعدد
الجنسيات والقوميات والطوائف والأديان. لقد أخذ شكل جديد من الشعور
بـ»الهوية الأقوامية» ينتشر في أحشاء خيمة «الباب العالي»: شعور الأتراك
بقوميتهم الطورانية، وشعور عرب المشرق بوقوعهم خارج هذه القومية، وبالتالي
خارج دولتها... الخ. أما بلدان المغرب، وإلى حد ما مصر، فقد بقيت
علاقاتها، في الجملة، سواء مع دار الخلافة في بغداد أو في الأستانة
-إسطنبول- كما كانت من قبل، علاقة انفصال مع نوع من الاتصال...
والواقع أن الحضارة العربية الإسلامية لم تشهد التغاير أو التمايز أو
الانشطار داخل «الهوية العربية الإسلامية» إلا عندما تأثرت النخبة العصرية
في تركيا، خلال القرن التاسع عشر، بالحركات القومية في أوروبا، وقام فيها
تيار ينادي بتسويد القومية التركية الطورانية على مختلف القوميات المنضوية
تحت الخلافة العثمانية، فكان رد فعل النخبة العصرية العربية في سوريا
ولبنان -وخاصة المسيحية منها-، أن طرحت شعار المطالبة بالاستقلال عن
الترك، الشيء الذي يعني الخروج عن الخلافة العثمانية التي كانت تمثل
الإسلام السياسي الموروث. ومن هنا ظهرت فكرة العروبة والقومية العربية -في
بلاد الشام خاصة- لا كطرف ينازع الإسلام أو ينافسه بل كتعبير سياسي عن
الرغبة في التحرر من هيمنة القومية التركية الطورانية التي كانت تطمح إلى
الاستئثار بالسلطة.
وتزامن انتصار دول أوربية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي كان
الصراع على المستعمرات من أهم أسبابها، تزامن مع دخول الإمبراطورية
العثمانية وضعية «الرجل المريض» -وكانت في الصف المنهزم في تلك الحرب-
وانتهى أمرها باستيلاء أتاتورك على السلطة في تركيا، فألغى الخلافة وأقام
دولة علمانية في أوائل العشرينيات، وبذلك تحول مجرى الأحداث، وأصبح
«الآخر» لـ»العرب» ابتداء من الثلاثينيات من القرن العشرين هو الاستعمار
الأوروبي الذي أدى التنافس بين أقطابه إلى تكريس نوع جديد من التقسيم
والتجزئة داخل العالم العربي؛ وقد اكتست التجزئة مظهراً مأساويّاً في
المشرق بصفة خاصة.
ومن هنا أخذت الهوية العربية تتحدَّد، ليس فقط برفض الاستعمار الأوروبي
فحسب بل أيضاً بالتنديد بالتجزئة التي فرضها أو كرسها وبعدم الاعتراف
بـ»إسرائيل» التي غرسها في فلسطين، ثم بالابتعاد عن الأحلاف العسكرية التي
تنشئها القوى الاستعمارية الإمبريالية وفي مقدمتها حلف بغداد CENTO الذي
أنشأته بريطانيا عام 1955، ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية. وكان
ذلك الحلف يضم ثلاث دول إسلامية كبرى هي باكستان وإيران وتركيا، ودولة
عربية واحدة هي العراق، وذلك في إطار استراتيجية الحزام العسكري الذي كانت
تقيمه الولايات المتحدة والدول الغربية ضد الاتحاد السوفييتي»...
هكذا وقع الفصل مرة أخرى بين القومية العربية و»الإسلام السياسي» الذي كان
يضم هذه المرة حكومات -باكستان وإيران وعراق نوري السعيد...- فضلت مهادنة
الدول الاستعمارية والسير في صف الليبرالية الإمبريالية ضداً على الاتحاد
السوفييتي والكتلة الشيوعية من جهة، وابتعاداً عن حركات التحرير في العالم
الثالث وضمنه العالم العربي من جهة أخرى. وهكذا وقف بعض تلك الحكومات
موقفاً سلبيّاً من القضية العربية، قضية فلسطين وقضية التحرر العربي عامة.
وفي خضم هذا الصراع ظهر منظرون وإيديولوجيون حاولوا، تحت ضغط هذه
الملابسات، وربما بدوافع أخرى أيضاً، التنظير للقومية العربية مع السكوت
عن الإسلام واستبعاده صراحة أو ضمناً. فكان من الطبيعي أن يقوم رد فعل
مضاد يعتبر «الإسلام» كمقوم أساسي وأولي للهوية وليس «العروبة»...
الاتحاد الاشتراكي
15-4-2010
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
آخر مقال للراحل الكبير محمد عابد الجابري : المغرب... وهويات الفاتحين العرب!
في إطار محاولة الكشف عن جذور الهوية الوطنية بالمغرب، أبرزنا في المقال السابق (+) ـ في جذور الهوية المغربية بتاريخ 20 أبريل ـ عنصرين اثنين: أولهما كون خصوصية المغرب الأقصى في مجال تشكل الوعي بالهوية ترقى إلى قرون عديدة قبل الإسلام، وقد برزت هذه الخصوصية منذ الاحتلال الروماني الذي اعترف للمغرب الأقصى بوضع خاص حين أطلق عليه اسم «موريتانيا الطنجية»، نسبة إلى طنجة: المدينة التي تطل على الأراضي المغربية الأخرى، شرقاً وجنوباً، ولا تزال إلى اليوم تلقب بـ«طنجة العالية عروس الشمال». لقد كانت هذه المدينة التاريخية، ولا تزال، منذ الفينيقيين والرومان إلى الفتح الإسلامي إلى ما قبل استقلال المغرب عام 1956، «بوابة المغرب» إلى الخارج: فمنها كان فتح الأندلس، وبالارتباط معها كان دخول الأمير الأموي، (عبدالرحمن الداخل الهارب من وجه العباسيين)، إلى الأندلس ليؤسس فيها دولة أموية، قبل أن تصبح تابعة للمغرب منذ عهد المرابطين الذي تلا عهد الأدارسة، فأصبحت الأندلس من منظور المغاربة، إحدى «العَدْوَتين» (الضفتين) لا يفصلها عن طنجة غير مضيق جبل طارق، كما هو الشأن في عدْوَتي فاس على ضفتي نهرها: عدوة الأندلس التي حَلَّ بها القادمون من الأندلس، وعدوَة القرويين التي نزل بها الوافدون من القيروان، تماماً كما هو الشأن أيضاً في عدْوَتي الرباط وسلا اللتين يصل بينهما نهر أبي رقراق... هذه المعطيات الجغرافية/التاريخية التي لمسناها لمساً، كانت ولا تزال ذات أهمية كبرى على صعيد تشكل الوعي بالهوية الوطنية في المغرب، أمس واليوم، فعليها تتأسس فكرة «الوطن». الركن الأساسي والضروري في مفهوم «الأمة» بالمعنى الذي حددناه في المقال السابق: «جماعة بشرية تتعرف على نفسها بارتباطها ببقعة من الأرض (وطن) على مدى التاريخ ويجمعها الشعور بكونها تشكل مجموعة سياسية واحدة» (أمة وليس مجرد قبيلة أو طائفة). ذلك عن العنصر الأول الذي أبرزناه في المقال السابق وألممنا هنا بأهم معطياته بالنسبة لموضوعنا. أما العنصر الثاني الذي كنا أبرزناه كذلك، فهو التجاء إدريس الأول إلى وليلي، عاصمة «موريتانيا الطنجية» (المغرب) في عهد الرومان، وتأسيسه لدولة الأدارسة في المغرب عام 172 هـ. وكان ذلك بعد الفتح الإسلامي الذي لم يستقر، إلا بعد أكثر من قرن، مع عقبة بن نافع عام61هـ، وبعد مقاومة عنيفة من ملوك الأمازيغ وقبائلهم، كانت في الأعم الأغلب رد فعل على تجاوزات وتعسفات الولاة الأمويين. لقد استبعدنا في المقال السابق أن يكون للشيعة أي دور في قيام هذه الدولة التي ينسب تأسيسها إلى واحد من ذرية علي بن أبي طالب، والتي استقل بها المغرب نهائيّاً عن الخلافة العباسية (واستمر مستقلا عن عصور الخلافة التالية، الفاطميون والعثمانيون). وكان السؤال الذي فرض نفسه علينا في آخر المطاف هو: «كيف تحددت خصوصية «الهوية الوطنية» في المغرب منذ قيام هذه الدولة»؟ سؤال تثوي تحته عدة أسئلة: ما الذي جعل إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، يلجأ إلى المغرب بالذات دون أن تكون له فيه «حاضنة» من الشيعة؟ ثم لماذا قصد مدينة وليلي لينزل عند زعيم قبيلة أوربة: إسحاق بن محمد بن عبدالحميد. ومن هو هذا الرجل. وما الذي كان يربط بينه وبين إدريس؟ للجواب عن هذه الأسئلة يجب أن نرجع إلى الوراء قليلا لنستحضر ظروف فتح الأندلس ونجاح طارق بن زياد في فتحها، ثم علينا أن نستحضر أيضاً نجاح الأمير الأموي «عبدالرحمن الداخل» في تأسيس دولة أموية في الأندلس بعد أن نجا من قبضة العباسيين وأفلت من ملاحقتهم. إن استحضار تجربة هذين الوافدين على المغرب، اللذين ساهما في وضع اللبنات الأولى لتاريخه العربي الإسلامي، ضروري لفهم ظروف وملابسات نجاح إدريس الأول في تأسيس أول دولة إسلامية بالمغرب مستقلة! وغني عن البيان القول إننا لا نريد كتابة تاريخ المغرب في تلك الفترة ـ وليس ذلك من اختصاصنا ولا من مشاغلنا ـ كل ما نريده هو إبراز معطيات يمر بها كثير من المؤرخين ومن يقرأ لهم «مر الكرام»، تحت زحمة أحداث التاريخ وتعدد أغراضهم من كتابته. 1) أما بخصوص طارق بن زياد وفتحه الأندلس فسنقتصر على الإشارة إلى اختلاف المؤرخين والباحثين في أصله لكون اسمه واسم أبيه واسم جده من الأسماء العربية (طارق، زياد، عبدالله). فابن عذاري يقول عنه «هو طارق بن زياد بن عبدالله بن لغو بن ورقجوم...»، وهذا يعني أن أباه «زياد» وجده «عبدالله» قد تعربا في وقت مبكر، أما جدوده الأعلون فأسماؤهم «أمازيغية» ترقى به إلى قبيلة نفزة. يقال ولد سنة 50 هـ. وبما أن الجميع يتحدث عنه بوصفه «مولى» لموسى بن نصير، الذي كلفه الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بفتح الأندلس، فلابد أن يكون طارق بن زياد (غير عربي) لأن «الموالي» غير، و«العرب» غير. هذا بينما ينسبه بعض المؤرخين، ومنهم ابن خلدون، إلى قبيلة «ليث»، فقد سماه «طارق بن زياد الليثي»، نسبة إلى قبيلة «ليث»، وهي قبيلة عربية معروفة. أما فتح طارق للأندلس فتجمع الروايات على أهمية الدور الذي قام به حاكم طنجة يليان (لعله جوليان، والإسبان ينطقون الجيم ياء)، ممثل لذريق (رودريك، رودريغو) ملك القوط بإسبانيا. يقول ابن خلدون في تاريخه: «وكان يليان ينقم على لذريق ملك القوط لفعله بابنته في داره كما زعموا، على عادتهم في بنات بطارقتهم، فغضب لذلك وأجاز إلى لذريق فأخذ ابنته منه. ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلهم على غرة فيهم أمكنت طارقاً، فانتهزها لوقته، وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو ثلاثمائة من العرب، معهم من البربر زهاء عشرة آلاف فصيّرهم عسكراً، ونزل بهم جبل الفتح فسمي به» (جبل طارق). وما نريد إبرازه من خلال هذه المعطيات هو أن فتح الأندلس كان يدين إلى حد كبير لظروف محلية سهلت لطارق بن زياد مهمته، بل ربما كانت هذه المعطيات المحلية التي ذكرناها هي التي جعلت القائد طارق بن زياد يقترح على مولاه موسى بن نصير فتح الأندلس، بناء على تحريض من «يليان» المذكور! 2) وستلعب الظروف المحلية في المغرب الدور نفسه بالنسبة لعبدالرحمن الداخل (وقد نصب له الإسبان مؤخراً تمثالا تعبيراً عن مصالحتهم مع تاريخ بلدهم الإسلامي واعتزازاً بالأندلس الإسلامية وبدورها التاريخي). هرب عبدالرحمن بن معاوية حفيد هشام بن عبدالملك (الخليفة الأموي)، من ملاحقة العباسيين، إلى أخواله الأمازيغ، إذ كانت أمه أمازيغية تدعى «داح».. هرب لاجئاً إلى المغرب وفي الوقت نفسه طامعاً في تأسيس إمارة، يرافقه مولاه «بدر». وبعد تنقلات في بلدان الأمازيغ، انطلاقاً من طرابلس، قصد منطقة سبتة، وأرسل مولاه «بدر» للاتصال في هذا الشأن بالعرب والأمازيغ في الأندلس، فنجح مسعاه وأرسلوا إليه جماعة لنقله إلى الأندلس سنة 138هـ ... ولن تمضي سوى ثلاثة عقود حتى يكرر إدريس بن عبدالله المسار نفسه في ظروف مشابهة ولكن ذات خصوصية... وللمقال صلة. الثلاثاء 27 أبريل 2010 (+) الاتحاد الاماراتية، 20 ابريل 2010 | ||
-الاتحاد الاشتراكي5/5/2010 | ||
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» قراءة...بعض من الاشراقات السوسيو ـ تربوية في مشروع محمد عابد الجابري / محمد لمباشري
» محمد عابد الجابري
» محمد عابد الجابري في ذمة الله
» محمد عابد الجابري بقلمه
» معارك محمد عابد الجابري الفكرية والسياسية
» محمد عابد الجابري
» محمد عابد الجابري في ذمة الله
» محمد عابد الجابري بقلمه
» معارك محمد عابد الجابري الفكرية والسياسية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى