في الحاجة إلى البلاغة قراءة في كتاب 'البلاغة والسرد' لمحمد مشبال
صفحة 1 من اصل 1
في الحاجة إلى البلاغة قراءة في كتاب 'البلاغة والسرد' لمحمد مشبال
يأتي كتاب محمد مشبال 'البلاغة والسرد، جدل التصوير والحجاج في أخبار
الجاحظ' الصادر حديثا عن منشورات كلية آداب تطوان ( 2010)، في سياق فكري
وأدبي متعدد المسارات، فقد صدر في خضم النقاش الدائر حول ما أصبح يصطلح
عليه بأزمة المناهج المتمثلة في حالة الريب التي بدأت الاتجاهات النقدية
الجديدة تستشعرها تجاه المناهج النقدية، حيث تتهم هذه الأخيرة من لدن بعض
الدارسين بإقصاء النص وإيلاء أهمية قصوى للنظر في نفسها على حساب النص،
الأمر الذي ولد نقدا أدبيا يعنى بالنظرية أكثر مما يعنى بالنص في حد ذاته،
كما يقول هؤلاء، وهي الدعوى التي عبر عنها تودوروف في كتابه 'الأدب في
خطر' الذي ولد تلقيا إيجابيا عند الباحث محمد مشبال إذ حرص على الإشارة
إليه في مقدمة كتابه، وما فتئ ينوه به في كثير من المحاضرات التي ألقاها
في مناسبات مختلفة.
ويأتي هذا الكتاب أيضا في سياق عودة البلاغة إلى
مجال الدراسات والنقد الأدبيين، وهي العودة المظفرة التي دشنها بيرلمان
ورولان بارت وبول ريكور وأوليفي روبول وشارل مايير في مجال البلاغة العامة
وستيفان أولمان وبيرسي لوبوك وواين بوت في مجال بلاغة السرد. أما في
العالم العربي فإن عودة البلاغة سجلت مع كتاب 'فن القول' لأمين الخولي في
منتصف القرن العشرين لتتبع بدراسات مهمة أنجزها كل من جابر عصفور وشكري
عياد ونصر حامد أبو زيد وحمادي صمود ومحمد العمري ومحمد مفتاح وغيرهم في
مجال البلاغة العامة وبلاغة الشعر، وظهور اتجاهات بلاغية جديدة في بلاغة
السرد دشنها الباحث المغربي محمد أنقار في كتابه 'بناء الصورة في الرواية
الاستعمارية'، وأثراها باحثون آخرون كعبد اللطيف الزكري وشرف الدين
ماجدولين ومحمد المسعودي وعبد الرحيم الإدريسي ومصطفى الورياغلي وغيرهم.
ويعتبر
محمد مشبال من الباحثين الأوائل الذين ساهموا إلى جانب محمد أنقار في
إغناء البحث في مجال بلاغة السرد في كتاباته الأولى، حيث عني في كتبه
ومقالاته المبكرة بإقامة المقارنة بين بلاغة الشعر وبلاغة السرد ليؤلف في
ما بعد كتابا كاملا هو كتاب 'بلاغة النادرة'، طبق فيه بعض الخلاصات التي
انتبه إليها حينها. ويأتي كتاب 'البلاغة والسرد' ليضيف تراكما إلى هذه
الأبحاث ويزيد من تعميق النظر إلى هذه البلاغة التي ما زال مجال البحث
فيها مفتوحا على آفاق غاية في الرحابة. إن هذا الكتاب هو امتداد للبحث في
مجال بلاغة السرد بوصفه مظهرا من مظاهر عودة البلاغة إلى واجهة الدراسة
والنقد الأدبيين، ومن حيث هو تجديد للقول في مجال لم يحظ بالعناية اللازمة
في العالم العربي وباعتباره امتدادا لما بدأه الدكتور محمد أنقار. وهو
يسعى إلى إضافة جديد يراهن الباحث عليه بقوة وهو أن لا نحصر عمل البلاغة
في كشف الطاقات الجمالية التي يختزنها النص من خلال معيار الصورة ( وهو
الحصر الذي يرى محمد مشبال أن محمد أنقار قد وقع فيه). إن الباحث من خلال
هذا الكتاب يسعى إلى فتح مجال بلاغة السرد لتشمل جانبي التصوير والحجاج في
النص بالإضافة إلى العلاقة التي تنتج عن الجدل بينهما.
لكن الحديث عن
البلاغة دائما محفوف بالمخاطر، على اعتبار أنه يثير من الإشكاليات أكثر
مما يقدم من إجابات، وكذلك الشأن بالنسبة إلى كتاب محمد مشبال الأخير، وهي
ميزة تحسب له، فموضوع 'البلاغة والسرد' يطرح إشكالات عديدة قد تنأى بحملها
المجلدات الضخمة، وهذا أمر نبه إليه الكاتب في المقدمة. ومن الإشكالات
التي تطرح في هذا السياق: كيف يمكن أن تكون أخبار الجاحظ بعد كل ما كتب عن
هذا الكاتب الإشكالي موضوعا لدراسة بلاغية؟ هل يمكن للبلاغة فعلا أن تقارب
السرد؟ وإن كان لها ذلك، فهل ستكتفي بجانب الحجاج كما يراد للبلاغة عندما
تقارب النصوص النثرية، أم يجب أن تتناول جانب التصوير؟ عن أية بلاغة نتحدث
إذن؟ ألا يعدو أن يكون الأمر مجرد توسيع وهمي لمفهوم البلاغة كي تطال
حدودا لم تكن في يوم من الأيام ضمن دائرة البلاغة المحددة بدقة؟ أسئلة
كثيرة تطرح كان الكتاب على موعد معها محاولا تقديم إجابات عنها، لكنها لم
تغن القارئ عن طرح إشكالات جديدة أخرى.
بين البلاغة والمنهج:
يذهب
محمد مشبال إلى أن منظوره للبلاغة 'يقر بأن ثمة تلازما بين التصوير
والحجاج، ليس في أدب الجاحظ فقط ولكن في مطلق النصوص الأدبية، كما يقر
أيضا بأن موضوع البلاغة درس العلاقة التي تنشأ بين النص والمتلقي سواء
علاقة نفعية أو جمالية' ( 'البلاغة والسرد'، ص6)، وهذا يعني أن البلاغة
عنده هي المجال المعرفي الذي يعنى بدراسة مظاهر التصوير والحجاج في النص
والتقاطعات القائمة بينها وكذا العلاقة التي تنشأ بين النص والمتلقي. وهذا
التعريف يتفق - من حيث موقع الحجاج والتخييل من البلاغة - مع ما يذهب إليه
محمد العمري الذي يعتبر أن البلاغة هي 'علم الخطاب الاحتمالي الهادف إلى
التأثير أو الإقناع أو هما معا، إيهاما وتصديقا' ( 'البلاغة الجديدة بين
التخييل والتداول'، افريقيا الشرق 2005، ص6). لكن هذا الاتفاق عند هذه
النقطة لا يمنع وجود اختلاف بين التصورين ( سبق أن عبر عنه محمد مشبال في
حوار نشر له في جريدة 'القدس العربي' بتاريخ 01/10/2009)، على اعتبار أن
محمد مشبال يرى أن البلاغة 'نموذج فكري لا يسعى إلى الضبط والتقنين، بقدر
ما يسعى إلى وضع حدود عامة ومبادئ كلية يسترشد بها البلاغي في عمله' (
'البلاغة والأصول'، افريقيا الشرق، 2007، ص 10). وهذا يعني أن البلاغة عند
الباحث تشكل مقاربة منفتحة غير مغلقة ونهائية لتحليل النص، هذه المقاربة
تنطلق من مبادئ عامة مفادها الابتعاد عن هاجس صياغة بلاغات منمذجة تسعى
إلى إقامة هياكل مغلقة ونهائية يتحول النقد معها إلى نوع من محاكمة النص
وقياس مدى مطابقته هذه الهياكل، والعمل في مقابل ذلك على بناء استراتيجية
مساءلة النص من مبدأ الخصوصية النوعية للجنس الأدبي الذي ينتمي إليه من
جهة وفسح المجال أمام النص ليملي أسئلته الخاصة من جهة أخرى. فأشكال
التلاحم بين التصويري والتداولي إشكالية تعالجها البلاغة في إطار كل نص
على حدة تأخذ فيها بعين الاعتبار المكونات الدالة على الكلي والثابت
بالإضافة إلى السمات المؤشرة على الجزئي والمتغير. 'إن عمل البلاغي ينبغي
ألا يقتصر على صياغة مبادئ كلية قابلة لكي تعمم على مختلف أنواع الخطاب،
بل إنه مطالب أيضا برصد خصوصيات النص أو الخطاب التعبيرية لأجل صياغة
مبادئ بلاغية نوعية. ولا شك في أن مثل هذا العمل ينطوي على رغبة في اختراق
مبدأ التعميم وتحويل البلاغة من التفسير النسقي المجرد إلى مواكبة مختلف
البلاغات التي تفرزها النصوص أو الأنواع' ( مجلة 'بلاغات'، العدد الأول،
شتاء 2009، ص 15).
وفهم البلاغة على هذا النحو، الذي يجعلها تبحث في
أشكال الجدل بين التصوير والحجاج لتكون نوعا من المقاربة التي لا تعنى
بالتقنين والضبط بقدر ما تشكل مبادئ في فهم النص وتأويله، يجد أصوله عند
الباحث في الممارسة البلاغية العربية القديمة في مراحلها الأولى، فهو يرى
أن البلاغة العربية القديمة 'التي اهتمت أساسا بالأسلوب أو الصور البلاغية
التي ترجمت حضور البعد الجمالي في البلاغة، لم تكن تعرف هذا الفصل بين
الأسلوب والحجاج بقدر ما كانت تنطلق من مبدأ التلازم بينهما' ( مجلة
'بلاغات' ص14). وقد سعى الباحث إلى تأصيل هذه المقاربة في كتابه 'البلاغة
والأصول' من خلال نموذج ابن جني.
إن من يتتبع مجمل ما كتبه محمد
مشبال قد يلاحظ أنه يجعل البلاغة في مقابل المنهج النقدي، لكن هذا التقابل
لا يعني الانفصام التام أو القطيعة النهائية، لأن الباحث نفسه يقول: 'لا
نتورع في هذا السبيل عن استخدام كل الوسائل المنهجية المتاحة مهما تباينت
منابعها ومراميها، ما دام الهدف من دراسة الأدب في نهاية الأمر تعميق
المعرفة بالإنسان كما قال تودوروف' ( 'البلاغة والسرد'، ص 6)، ويضيف أنه
'لأجل ذلك تجاورت في هذا الكتاب مناهج ونظريات ومفهومات شتى' ( 'البلاغة
والسرد'، ص6). وانطلاقا من هذا لا نتصور أن الباحث يرفض المنهج النقدي
مطلقا، فهو نفسه يقر بأن مقاربته البلاغية تستفيد من جميع المناهج، وهو
أيضا يعرف البلاغة في مناسبة أخرى بأنها 'منهج لفهم النص وتفسيره وتقييمه
من منطلق الأثر الذي أحدثه في المتلقي' ( 'البلاغة والأصول'، ص9)، لكن
الفرق الذي يلح عليه في أثناء المقارنة بين البلاغة والمنهج النقدي أن هذا
الأخير ينطلق من معطيات مسبقة تتحول في كثير من الأحيان إلى أحكام مضمرة
يبحث في النصوص عن تبريراتها، في حين أن البلاغة تنطلق من إشكاليات متغيرة
لا مجال فيها لإصدار الأحكام قبل التعامل المباشر مع النص، وأن المناهج
وبعض المقاربات البلاغية الأخرى تسعى إلى التقنين والضبط والنمذجة أكثر من
سعيها إلى دراسة النص والوعي بسماته الجمالية والحجاجية النوعية.
في البلاغة السردية: الخبر بين التصوير والحجاج
تعد
إشكالية علاقة البلاغة بالسرد من مظاهر توسيع دائرة البلاغة العربية لتشمل
مستويات أدبية كانت بعيدة عنها، وفي هذا الصدد يقول: 'ولعل أهم فكرة حاول
الكتاب مناقشتها وتطويرها من صلب نصوص الجاحظ، هي علاقة البلاغة بالسرد،
وهي علاقة فرضتها طبيعة هذه النصوص الوثيقة الصلة بالبلاغة التي وسع
الجاحظ دنياها لتشمل الحياة والخطاب أو العالم واللغة' ( 'البلاغة
والسرد'، ص6). وينطلق محمد مشبال من تصور نظري - هو أحد الدعامات التي
تعتبر مشتركة مع محمد أنقار- مفاده ضرورة اجتراح مقاربة نقدية تولي
الاهتمام ببلاغة السرد وفق الخصوصيات النوعية لنصوص السرد بعيدا عن أي
إسقاط نابع من السلطة التي مارستها بلاغة الشعر على الدرس البلاغي بعامة.
لذلك تعد إشكالية إجناس النص مركزية بالنسبة إلى هذه المقاربة، لأنها تعمل
على توجيه عمل البلاغي في قراءته النص. وعملية إجناس النص تتم وفق استقراء
يقوم به الباحث يستقصي فيه المكونات والسمات التي تجعل كل نص ينتمي إلى
هذا الجنس أو ذاك. ومن هذا المنطلق اعتبر الباحث أن 'الخبر جنس سردي يتسم
تارة بالهزل والفكاهة وتارة بالغرابة الطبيعية وهو نص واقعي بسيط يتوجه
إلى المتلقي برسالة تثقيفية وخلقية' ( 'البلاغة والسرد'، ص10). ويلاحظ أن
هذا التحديد الإجناسي قد ضم الجانب التصويري الذي عبر عنه بسمات الهزل
والفكاهة والغرابة والواقعية والبساطة إلى جانب الحجاج الذي عبر عنه
بالوظيفة التواصلية التي يؤديها النص.
وهذا الاختيار الإجناسي الذي
خلص إليه الباحث جعله يلجأ إلى مفهوم التمثيل بوصفه 'صيغة بلاغية تجمع بين
التصوير والإقناع' و' لعل ما سمي في البلاغة العربية بالتمثيل أن يكون أدل
الوجوه البلاغية على تداخل التصوير والحجاج الذي نسعى إلى الكشف عنه في
أخبار الجاحظ، فبنيته القائمة على التخييل الذي تجسده جملة السمات
كالتصوير الحسي والمشابهة والسردية والوصف والمبالغة، لا تنفي عنه ما
يضطلع به من وظائف تواصلية حجاجية ومعرفية وخلقية' ( 'البلاغة والسرد'، ص
16). ولا شك في أن اعتماد مفهوم التمثيل للقبض على مظاهر وأشكال الجدل بين
التصوير والحجاج يطرح أكثر من إشكالية، أفلا يعد التمثيل مقولة من مقولات
بلاغة الشعر التي قد يفضي استعمالها إلى نوع من السقوط في هيمنة هذه
البلاغة وفي فخ محاكمة السرد بالشعر؟ ألا يعد هذا نوعا من المقولات
الجاهزة التي قد يكون توظيفها نوعا من الإسقاط؟ إذا كنا سنوظف التمثيل على
النحو المذكور أفلا نوظف أيضا البلاغة السردية وفق التصور الذي حدده بول
ريكور في كتابه 'الزمن والسرد' عندما اعتبر الحبكة استعارة تعمل على تأليف
عناصر متباينة من العالم؟
يرى الباحث - وانطلاقا من تتبع هذا المفهوم
عند الجرجاني والقرطاجني - أن 'ثمة تناظرا بين بلاغة التمثيل باعتباره
عنصرا جزئيا وبين النص باعتباره تمثيلا سرديا ممتدا؛ فالعلاقة بين المعنى
الخلقي والحكمي والمعرفي وبين الحكاية التي تساق على سبيل الحجة، هي
العلاقة نفسها التي وقف عليها عبد القاهر الجرجاني في تأمله لتداخل وظائف
التواصل والوظيفة الجمالية في نسيج التمثيل' ( 'البلاغة والسرد'، ص 22).
إن التمثيل كما يراه محمد مشبال هو نوع من المقابل الحكائي لمعنى سابق
نابع من الأخلاق أو المعرفة أو الحكمة، وهذا التمثيل يتداخل فيه بعد النص
التصويري مع بعده الحجاجي، على اعتبار أن سارد الخبر يريد أن يثبت ذاك
المعنى السابق من خلال التمثيل له بواسطة الحكاية الخبرية. وهنا تطرح
إشكالية أن التمثيل في الشعر يكون فعلا لتوضيح أو تعليل معنى شعري عبر عنه
بيت سابق، وهذا ما يجعل المعنى سابقا على الملفوظ التمثيلي، أما في
الحكاية فإن هذا المعنى لا يكون مصرحا به ومعلنا عنه دائما، بل إن الحكاية
تنتج سلسلة من المعاني المنفتحة على التأويل لأنها تضم أحداثا وشخصيات
وأمكنة متعددة، لذلك فإن الحكاية سابقة على المعنى. لكن ما يجعل هذا
الاختيار مبررا في مقاربة الباحث ومنسجما مع مبادئها أننا هنا نتعامل مع
الخبر، ومع أخبار الجاحظ بالضبط، وهو حكاية بسيطة في مكوناتها، وكانت في
الغالب تساق للتدليل على معنى معين عبر الجاحظ عنه صراحة أو تلميحا.
والعودة إلى التمثيل اختيار أملته نصوص الجاحظ نظرا إلى مقصديتها المباشرة
الواضحة، الأمر الذي جعل محمد مشبال يقترح نمطين من القراءة يمكن في
ضوئهما تلقي أخبار الجاحظ، النمط الأول هو افتراض أن أخبار الجاحظ هي
إجابة عن سؤال مضمر في ذهن السارد، ( 'البلاغة والسرد'، ص 27) وهنا يكون
دور المتلقي الاكتفاء بوضع السؤال دون المشاركة في تنشيط الجواب، أما
القراءة الثانية فإنها تفترض أن أنواعا معينة من أخبار الجاحظ تتطلب إقامة
حوار بين النص والمتلقي بواسطة العلامات الموجهة نحو متلق قادر على الفهم
والتأويل ( 'البلاغة والسرد'، ص 28).
ولا شك في أن الباحث عندما كان
يعتمد التمثيل معيارا لقراءة نصوص الجاحظ للكشف عن بعديها التصويري
والحجاجي كان يستحضر الحكاية المثلية ممثلة في 'كليلة ودمنة' التي تمكن ـ
هي الأخرى ـ قراءتها في ضوء هذا المعيار. لكن إذا كانت بعض النصوص السردية
العربية القديمة قابلة لأن تقارب وفق هذا التصور، فإن ذلك لا يمكن تعميمه
على السرد عموما، بل هو اختيار أملته بعض النصوص السردية العربية القديمة
نظرا إلى بنيتها الحكائية البسيطة ووضوح مقصديتها، بل إن هذه النصوص نفسها
تخرج في بعض الأحيان عن مقولة التمثيل نظرا لانفتاح صيرورتها السردية على
التأويل، وهذا ما جعل الباحث يقترح نمط القراءة الثاني لأنه يسعف في تأويل
الأخبار التي تتمرد على طابعها التمثيلي.
وأيا كان الأمر، ما يجعل
التمثيل ـ بالنسبة إليّ - قابلا لأن تقرأ في ضوئه بعض نصوص الجاحظ أنه
مقولة ذهنية يمكن أن تحضر في أنواع مختلفة من الخطاب، سواء أكان شعرا أم
سردا أم أنواعا أخرى، وتتحكم في بنيته. الأمر نفسه يمكن أن يقال عن
الاستعارة. إنها لا تنتمي إلى جنس أدبي معين وليست خاصة بأي منه، هي مقولة
ذهنية ينتج وفقها الكلام. والسؤال الذي يطرح في تبني هذا المعيار أو ذاك
في دراسة بلاغة النص السردي ليس حقيقة أصل انتمائه إلى جنس الشعر أم
السرد، بل مقدار مساهمته في بناء الحبكة وتعليل أي فهم وتأويل للنص. إن ما
يعتبر نوعا من الإسقاط ومحاكمة للسرد ببلاغة الشعر هو أن يحلل النص السردي
من خلال عدد الاستعارات والأمثال الواردة فيه، أو أن يختزل إلى جمل وفقرات
كما نفعل مع القصائد التي كانت تختصر في أمدح بيت وأهجاه. أما أن ينظر إلى
الحبكة بوصفها استعارة تؤلف بين عناصر متباينة من العالم، ووفقها يتم بناء
المعنى وتفسيره وتأويله كما فعل بول ريكور في دراسته بلاغة الرواية،
والتمثيل بوصفه الآلية البلاغية المتحكمة في جدل التصوير والحجاج في نصوص
أخبار الجاحظ والمسؤولة عن تنظيم حبكته لإنتاج المعنى وتفسيره وتأويله،
فإن هذا يدخل في صميم بلاغة السرد، لأن مدار البلاغة السردية كما يقول عبد
الرحيم جيران هو تأويل العالم، وهذا التأويل قائم على الخبرة بالنصوص،
وتجربة فهم العالم عبر هذه الخبرة ( مجلة 'الكلمة' الالكترونية، عدد 19،
تموز / يوليو 2008).
إن استعمال الباحث لمفهوم التمثيل قد ساعده على
اكتشاف الخيط الناظم الذي يربط بين أخبار الجاحظ ويتحكم في إنتاجها،
ويتجلى هذا الخيط في مستويين، الأول مزاوجة هذه الأخبار بين آليتي التصوير
والحجاج بغية إيصال مقاصد واضحة تتمثل في بناء الأخلاق في المجتمع
والتدليل على أن المعرفة العقلية سبيل إلى الإيمان والتمييز بين الإنسان
والحيوان وتثقيف القارئ، ولم تخل هذه المقاصد من متعة الهزل والسخرية التي
تتحول عند الجاحظ إلى وسيلة نافعة تخدم هذا المقاصد الجادة. أما المستوى
الثاني وهو الأعمق والذي يشكل أحد الخلاصات المهمة التي تنبه إليها الكاتب
في تحليله لأخبار الجاحظ هو أنها تقوم على 'تمثيل مفهومات البلاغة وإعادة
تشكيلها على نحو تخييلي' ( 'البلاغة والسرد'، ص 65) بمعنى أن السرد عند
الجاحظ يتحول بواسطة التمثيل إلى خطاب واصف للبلاغة من جهة، وفعالية هذه
البلاغة في نقد المجتمع وتوجيه السلوك في ضوء قواعدها ونسقها الخاص من جهة
أخرى. 'فالبلاغة عند الجاحظ ليست مجرد قواعد لبناء التخاطب، ولكنها قواعد
لبناء حياة الناس في المجتمع' ( 'البلاغة والسرد'، ص 65). إن التزيد
والتخاذل والعي والسلاطة مفاهيم بلاغية دارت حولها كثير من نصوص أخبار
الجاحظ، وهي مفاهيم نابعة من صميم الممارسة البلاغية لكنها كانت أيضا
معايير للحكم على السلوك الإنساني في المجتمع، وهذا يعكس نوعا من التناظر
بين البلاغي والإنساني في تصور البلاغيين العرب القدامى. كانت البلاغة
عندهم إذن وسيلة لفهم المجتمع ونقده. وهذه الفكرة تعد ـ في تصور محمد
مشبال ومشروعه البلاغي - أحد المفاتيح التي يركز عليها في صياغة بلاغة
تعيد ربط الأدب بالحياة، وذلك باستلهام هذه النماذج البلاغية القديمة التي
لم يكن النقد والبلاغة فيها ينفصلان عن الحياة والعالم في أفق التأسيس
لمقاربة بلاغية معاصرة تكون فيها بلاغة النص هي نفسها بلاغة الحياة.
القدس العربي
محسن الزكري-باحث من المغرب
18-5-2010
الجاحظ' الصادر حديثا عن منشورات كلية آداب تطوان ( 2010)، في سياق فكري
وأدبي متعدد المسارات، فقد صدر في خضم النقاش الدائر حول ما أصبح يصطلح
عليه بأزمة المناهج المتمثلة في حالة الريب التي بدأت الاتجاهات النقدية
الجديدة تستشعرها تجاه المناهج النقدية، حيث تتهم هذه الأخيرة من لدن بعض
الدارسين بإقصاء النص وإيلاء أهمية قصوى للنظر في نفسها على حساب النص،
الأمر الذي ولد نقدا أدبيا يعنى بالنظرية أكثر مما يعنى بالنص في حد ذاته،
كما يقول هؤلاء، وهي الدعوى التي عبر عنها تودوروف في كتابه 'الأدب في
خطر' الذي ولد تلقيا إيجابيا عند الباحث محمد مشبال إذ حرص على الإشارة
إليه في مقدمة كتابه، وما فتئ ينوه به في كثير من المحاضرات التي ألقاها
في مناسبات مختلفة.
ويأتي هذا الكتاب أيضا في سياق عودة البلاغة إلى
مجال الدراسات والنقد الأدبيين، وهي العودة المظفرة التي دشنها بيرلمان
ورولان بارت وبول ريكور وأوليفي روبول وشارل مايير في مجال البلاغة العامة
وستيفان أولمان وبيرسي لوبوك وواين بوت في مجال بلاغة السرد. أما في
العالم العربي فإن عودة البلاغة سجلت مع كتاب 'فن القول' لأمين الخولي في
منتصف القرن العشرين لتتبع بدراسات مهمة أنجزها كل من جابر عصفور وشكري
عياد ونصر حامد أبو زيد وحمادي صمود ومحمد العمري ومحمد مفتاح وغيرهم في
مجال البلاغة العامة وبلاغة الشعر، وظهور اتجاهات بلاغية جديدة في بلاغة
السرد دشنها الباحث المغربي محمد أنقار في كتابه 'بناء الصورة في الرواية
الاستعمارية'، وأثراها باحثون آخرون كعبد اللطيف الزكري وشرف الدين
ماجدولين ومحمد المسعودي وعبد الرحيم الإدريسي ومصطفى الورياغلي وغيرهم.
ويعتبر
محمد مشبال من الباحثين الأوائل الذين ساهموا إلى جانب محمد أنقار في
إغناء البحث في مجال بلاغة السرد في كتاباته الأولى، حيث عني في كتبه
ومقالاته المبكرة بإقامة المقارنة بين بلاغة الشعر وبلاغة السرد ليؤلف في
ما بعد كتابا كاملا هو كتاب 'بلاغة النادرة'، طبق فيه بعض الخلاصات التي
انتبه إليها حينها. ويأتي كتاب 'البلاغة والسرد' ليضيف تراكما إلى هذه
الأبحاث ويزيد من تعميق النظر إلى هذه البلاغة التي ما زال مجال البحث
فيها مفتوحا على آفاق غاية في الرحابة. إن هذا الكتاب هو امتداد للبحث في
مجال بلاغة السرد بوصفه مظهرا من مظاهر عودة البلاغة إلى واجهة الدراسة
والنقد الأدبيين، ومن حيث هو تجديد للقول في مجال لم يحظ بالعناية اللازمة
في العالم العربي وباعتباره امتدادا لما بدأه الدكتور محمد أنقار. وهو
يسعى إلى إضافة جديد يراهن الباحث عليه بقوة وهو أن لا نحصر عمل البلاغة
في كشف الطاقات الجمالية التي يختزنها النص من خلال معيار الصورة ( وهو
الحصر الذي يرى محمد مشبال أن محمد أنقار قد وقع فيه). إن الباحث من خلال
هذا الكتاب يسعى إلى فتح مجال بلاغة السرد لتشمل جانبي التصوير والحجاج في
النص بالإضافة إلى العلاقة التي تنتج عن الجدل بينهما.
لكن الحديث عن
البلاغة دائما محفوف بالمخاطر، على اعتبار أنه يثير من الإشكاليات أكثر
مما يقدم من إجابات، وكذلك الشأن بالنسبة إلى كتاب محمد مشبال الأخير، وهي
ميزة تحسب له، فموضوع 'البلاغة والسرد' يطرح إشكالات عديدة قد تنأى بحملها
المجلدات الضخمة، وهذا أمر نبه إليه الكاتب في المقدمة. ومن الإشكالات
التي تطرح في هذا السياق: كيف يمكن أن تكون أخبار الجاحظ بعد كل ما كتب عن
هذا الكاتب الإشكالي موضوعا لدراسة بلاغية؟ هل يمكن للبلاغة فعلا أن تقارب
السرد؟ وإن كان لها ذلك، فهل ستكتفي بجانب الحجاج كما يراد للبلاغة عندما
تقارب النصوص النثرية، أم يجب أن تتناول جانب التصوير؟ عن أية بلاغة نتحدث
إذن؟ ألا يعدو أن يكون الأمر مجرد توسيع وهمي لمفهوم البلاغة كي تطال
حدودا لم تكن في يوم من الأيام ضمن دائرة البلاغة المحددة بدقة؟ أسئلة
كثيرة تطرح كان الكتاب على موعد معها محاولا تقديم إجابات عنها، لكنها لم
تغن القارئ عن طرح إشكالات جديدة أخرى.
بين البلاغة والمنهج:
يذهب
محمد مشبال إلى أن منظوره للبلاغة 'يقر بأن ثمة تلازما بين التصوير
والحجاج، ليس في أدب الجاحظ فقط ولكن في مطلق النصوص الأدبية، كما يقر
أيضا بأن موضوع البلاغة درس العلاقة التي تنشأ بين النص والمتلقي سواء
علاقة نفعية أو جمالية' ( 'البلاغة والسرد'، ص6)، وهذا يعني أن البلاغة
عنده هي المجال المعرفي الذي يعنى بدراسة مظاهر التصوير والحجاج في النص
والتقاطعات القائمة بينها وكذا العلاقة التي تنشأ بين النص والمتلقي. وهذا
التعريف يتفق - من حيث موقع الحجاج والتخييل من البلاغة - مع ما يذهب إليه
محمد العمري الذي يعتبر أن البلاغة هي 'علم الخطاب الاحتمالي الهادف إلى
التأثير أو الإقناع أو هما معا، إيهاما وتصديقا' ( 'البلاغة الجديدة بين
التخييل والتداول'، افريقيا الشرق 2005، ص6). لكن هذا الاتفاق عند هذه
النقطة لا يمنع وجود اختلاف بين التصورين ( سبق أن عبر عنه محمد مشبال في
حوار نشر له في جريدة 'القدس العربي' بتاريخ 01/10/2009)، على اعتبار أن
محمد مشبال يرى أن البلاغة 'نموذج فكري لا يسعى إلى الضبط والتقنين، بقدر
ما يسعى إلى وضع حدود عامة ومبادئ كلية يسترشد بها البلاغي في عمله' (
'البلاغة والأصول'، افريقيا الشرق، 2007، ص 10). وهذا يعني أن البلاغة عند
الباحث تشكل مقاربة منفتحة غير مغلقة ونهائية لتحليل النص، هذه المقاربة
تنطلق من مبادئ عامة مفادها الابتعاد عن هاجس صياغة بلاغات منمذجة تسعى
إلى إقامة هياكل مغلقة ونهائية يتحول النقد معها إلى نوع من محاكمة النص
وقياس مدى مطابقته هذه الهياكل، والعمل في مقابل ذلك على بناء استراتيجية
مساءلة النص من مبدأ الخصوصية النوعية للجنس الأدبي الذي ينتمي إليه من
جهة وفسح المجال أمام النص ليملي أسئلته الخاصة من جهة أخرى. فأشكال
التلاحم بين التصويري والتداولي إشكالية تعالجها البلاغة في إطار كل نص
على حدة تأخذ فيها بعين الاعتبار المكونات الدالة على الكلي والثابت
بالإضافة إلى السمات المؤشرة على الجزئي والمتغير. 'إن عمل البلاغي ينبغي
ألا يقتصر على صياغة مبادئ كلية قابلة لكي تعمم على مختلف أنواع الخطاب،
بل إنه مطالب أيضا برصد خصوصيات النص أو الخطاب التعبيرية لأجل صياغة
مبادئ بلاغية نوعية. ولا شك في أن مثل هذا العمل ينطوي على رغبة في اختراق
مبدأ التعميم وتحويل البلاغة من التفسير النسقي المجرد إلى مواكبة مختلف
البلاغات التي تفرزها النصوص أو الأنواع' ( مجلة 'بلاغات'، العدد الأول،
شتاء 2009، ص 15).
وفهم البلاغة على هذا النحو، الذي يجعلها تبحث في
أشكال الجدل بين التصوير والحجاج لتكون نوعا من المقاربة التي لا تعنى
بالتقنين والضبط بقدر ما تشكل مبادئ في فهم النص وتأويله، يجد أصوله عند
الباحث في الممارسة البلاغية العربية القديمة في مراحلها الأولى، فهو يرى
أن البلاغة العربية القديمة 'التي اهتمت أساسا بالأسلوب أو الصور البلاغية
التي ترجمت حضور البعد الجمالي في البلاغة، لم تكن تعرف هذا الفصل بين
الأسلوب والحجاج بقدر ما كانت تنطلق من مبدأ التلازم بينهما' ( مجلة
'بلاغات' ص14). وقد سعى الباحث إلى تأصيل هذه المقاربة في كتابه 'البلاغة
والأصول' من خلال نموذج ابن جني.
إن من يتتبع مجمل ما كتبه محمد
مشبال قد يلاحظ أنه يجعل البلاغة في مقابل المنهج النقدي، لكن هذا التقابل
لا يعني الانفصام التام أو القطيعة النهائية، لأن الباحث نفسه يقول: 'لا
نتورع في هذا السبيل عن استخدام كل الوسائل المنهجية المتاحة مهما تباينت
منابعها ومراميها، ما دام الهدف من دراسة الأدب في نهاية الأمر تعميق
المعرفة بالإنسان كما قال تودوروف' ( 'البلاغة والسرد'، ص 6)، ويضيف أنه
'لأجل ذلك تجاورت في هذا الكتاب مناهج ونظريات ومفهومات شتى' ( 'البلاغة
والسرد'، ص6). وانطلاقا من هذا لا نتصور أن الباحث يرفض المنهج النقدي
مطلقا، فهو نفسه يقر بأن مقاربته البلاغية تستفيد من جميع المناهج، وهو
أيضا يعرف البلاغة في مناسبة أخرى بأنها 'منهج لفهم النص وتفسيره وتقييمه
من منطلق الأثر الذي أحدثه في المتلقي' ( 'البلاغة والأصول'، ص9)، لكن
الفرق الذي يلح عليه في أثناء المقارنة بين البلاغة والمنهج النقدي أن هذا
الأخير ينطلق من معطيات مسبقة تتحول في كثير من الأحيان إلى أحكام مضمرة
يبحث في النصوص عن تبريراتها، في حين أن البلاغة تنطلق من إشكاليات متغيرة
لا مجال فيها لإصدار الأحكام قبل التعامل المباشر مع النص، وأن المناهج
وبعض المقاربات البلاغية الأخرى تسعى إلى التقنين والضبط والنمذجة أكثر من
سعيها إلى دراسة النص والوعي بسماته الجمالية والحجاجية النوعية.
في البلاغة السردية: الخبر بين التصوير والحجاج
تعد
إشكالية علاقة البلاغة بالسرد من مظاهر توسيع دائرة البلاغة العربية لتشمل
مستويات أدبية كانت بعيدة عنها، وفي هذا الصدد يقول: 'ولعل أهم فكرة حاول
الكتاب مناقشتها وتطويرها من صلب نصوص الجاحظ، هي علاقة البلاغة بالسرد،
وهي علاقة فرضتها طبيعة هذه النصوص الوثيقة الصلة بالبلاغة التي وسع
الجاحظ دنياها لتشمل الحياة والخطاب أو العالم واللغة' ( 'البلاغة
والسرد'، ص6). وينطلق محمد مشبال من تصور نظري - هو أحد الدعامات التي
تعتبر مشتركة مع محمد أنقار- مفاده ضرورة اجتراح مقاربة نقدية تولي
الاهتمام ببلاغة السرد وفق الخصوصيات النوعية لنصوص السرد بعيدا عن أي
إسقاط نابع من السلطة التي مارستها بلاغة الشعر على الدرس البلاغي بعامة.
لذلك تعد إشكالية إجناس النص مركزية بالنسبة إلى هذه المقاربة، لأنها تعمل
على توجيه عمل البلاغي في قراءته النص. وعملية إجناس النص تتم وفق استقراء
يقوم به الباحث يستقصي فيه المكونات والسمات التي تجعل كل نص ينتمي إلى
هذا الجنس أو ذاك. ومن هذا المنطلق اعتبر الباحث أن 'الخبر جنس سردي يتسم
تارة بالهزل والفكاهة وتارة بالغرابة الطبيعية وهو نص واقعي بسيط يتوجه
إلى المتلقي برسالة تثقيفية وخلقية' ( 'البلاغة والسرد'، ص10). ويلاحظ أن
هذا التحديد الإجناسي قد ضم الجانب التصويري الذي عبر عنه بسمات الهزل
والفكاهة والغرابة والواقعية والبساطة إلى جانب الحجاج الذي عبر عنه
بالوظيفة التواصلية التي يؤديها النص.
وهذا الاختيار الإجناسي الذي
خلص إليه الباحث جعله يلجأ إلى مفهوم التمثيل بوصفه 'صيغة بلاغية تجمع بين
التصوير والإقناع' و' لعل ما سمي في البلاغة العربية بالتمثيل أن يكون أدل
الوجوه البلاغية على تداخل التصوير والحجاج الذي نسعى إلى الكشف عنه في
أخبار الجاحظ، فبنيته القائمة على التخييل الذي تجسده جملة السمات
كالتصوير الحسي والمشابهة والسردية والوصف والمبالغة، لا تنفي عنه ما
يضطلع به من وظائف تواصلية حجاجية ومعرفية وخلقية' ( 'البلاغة والسرد'، ص
16). ولا شك في أن اعتماد مفهوم التمثيل للقبض على مظاهر وأشكال الجدل بين
التصوير والحجاج يطرح أكثر من إشكالية، أفلا يعد التمثيل مقولة من مقولات
بلاغة الشعر التي قد يفضي استعمالها إلى نوع من السقوط في هيمنة هذه
البلاغة وفي فخ محاكمة السرد بالشعر؟ ألا يعد هذا نوعا من المقولات
الجاهزة التي قد يكون توظيفها نوعا من الإسقاط؟ إذا كنا سنوظف التمثيل على
النحو المذكور أفلا نوظف أيضا البلاغة السردية وفق التصور الذي حدده بول
ريكور في كتابه 'الزمن والسرد' عندما اعتبر الحبكة استعارة تعمل على تأليف
عناصر متباينة من العالم؟
يرى الباحث - وانطلاقا من تتبع هذا المفهوم
عند الجرجاني والقرطاجني - أن 'ثمة تناظرا بين بلاغة التمثيل باعتباره
عنصرا جزئيا وبين النص باعتباره تمثيلا سرديا ممتدا؛ فالعلاقة بين المعنى
الخلقي والحكمي والمعرفي وبين الحكاية التي تساق على سبيل الحجة، هي
العلاقة نفسها التي وقف عليها عبد القاهر الجرجاني في تأمله لتداخل وظائف
التواصل والوظيفة الجمالية في نسيج التمثيل' ( 'البلاغة والسرد'، ص 22).
إن التمثيل كما يراه محمد مشبال هو نوع من المقابل الحكائي لمعنى سابق
نابع من الأخلاق أو المعرفة أو الحكمة، وهذا التمثيل يتداخل فيه بعد النص
التصويري مع بعده الحجاجي، على اعتبار أن سارد الخبر يريد أن يثبت ذاك
المعنى السابق من خلال التمثيل له بواسطة الحكاية الخبرية. وهنا تطرح
إشكالية أن التمثيل في الشعر يكون فعلا لتوضيح أو تعليل معنى شعري عبر عنه
بيت سابق، وهذا ما يجعل المعنى سابقا على الملفوظ التمثيلي، أما في
الحكاية فإن هذا المعنى لا يكون مصرحا به ومعلنا عنه دائما، بل إن الحكاية
تنتج سلسلة من المعاني المنفتحة على التأويل لأنها تضم أحداثا وشخصيات
وأمكنة متعددة، لذلك فإن الحكاية سابقة على المعنى. لكن ما يجعل هذا
الاختيار مبررا في مقاربة الباحث ومنسجما مع مبادئها أننا هنا نتعامل مع
الخبر، ومع أخبار الجاحظ بالضبط، وهو حكاية بسيطة في مكوناتها، وكانت في
الغالب تساق للتدليل على معنى معين عبر الجاحظ عنه صراحة أو تلميحا.
والعودة إلى التمثيل اختيار أملته نصوص الجاحظ نظرا إلى مقصديتها المباشرة
الواضحة، الأمر الذي جعل محمد مشبال يقترح نمطين من القراءة يمكن في
ضوئهما تلقي أخبار الجاحظ، النمط الأول هو افتراض أن أخبار الجاحظ هي
إجابة عن سؤال مضمر في ذهن السارد، ( 'البلاغة والسرد'، ص 27) وهنا يكون
دور المتلقي الاكتفاء بوضع السؤال دون المشاركة في تنشيط الجواب، أما
القراءة الثانية فإنها تفترض أن أنواعا معينة من أخبار الجاحظ تتطلب إقامة
حوار بين النص والمتلقي بواسطة العلامات الموجهة نحو متلق قادر على الفهم
والتأويل ( 'البلاغة والسرد'، ص 28).
ولا شك في أن الباحث عندما كان
يعتمد التمثيل معيارا لقراءة نصوص الجاحظ للكشف عن بعديها التصويري
والحجاجي كان يستحضر الحكاية المثلية ممثلة في 'كليلة ودمنة' التي تمكن ـ
هي الأخرى ـ قراءتها في ضوء هذا المعيار. لكن إذا كانت بعض النصوص السردية
العربية القديمة قابلة لأن تقارب وفق هذا التصور، فإن ذلك لا يمكن تعميمه
على السرد عموما، بل هو اختيار أملته بعض النصوص السردية العربية القديمة
نظرا إلى بنيتها الحكائية البسيطة ووضوح مقصديتها، بل إن هذه النصوص نفسها
تخرج في بعض الأحيان عن مقولة التمثيل نظرا لانفتاح صيرورتها السردية على
التأويل، وهذا ما جعل الباحث يقترح نمط القراءة الثاني لأنه يسعف في تأويل
الأخبار التي تتمرد على طابعها التمثيلي.
وأيا كان الأمر، ما يجعل
التمثيل ـ بالنسبة إليّ - قابلا لأن تقرأ في ضوئه بعض نصوص الجاحظ أنه
مقولة ذهنية يمكن أن تحضر في أنواع مختلفة من الخطاب، سواء أكان شعرا أم
سردا أم أنواعا أخرى، وتتحكم في بنيته. الأمر نفسه يمكن أن يقال عن
الاستعارة. إنها لا تنتمي إلى جنس أدبي معين وليست خاصة بأي منه، هي مقولة
ذهنية ينتج وفقها الكلام. والسؤال الذي يطرح في تبني هذا المعيار أو ذاك
في دراسة بلاغة النص السردي ليس حقيقة أصل انتمائه إلى جنس الشعر أم
السرد، بل مقدار مساهمته في بناء الحبكة وتعليل أي فهم وتأويل للنص. إن ما
يعتبر نوعا من الإسقاط ومحاكمة للسرد ببلاغة الشعر هو أن يحلل النص السردي
من خلال عدد الاستعارات والأمثال الواردة فيه، أو أن يختزل إلى جمل وفقرات
كما نفعل مع القصائد التي كانت تختصر في أمدح بيت وأهجاه. أما أن ينظر إلى
الحبكة بوصفها استعارة تؤلف بين عناصر متباينة من العالم، ووفقها يتم بناء
المعنى وتفسيره وتأويله كما فعل بول ريكور في دراسته بلاغة الرواية،
والتمثيل بوصفه الآلية البلاغية المتحكمة في جدل التصوير والحجاج في نصوص
أخبار الجاحظ والمسؤولة عن تنظيم حبكته لإنتاج المعنى وتفسيره وتأويله،
فإن هذا يدخل في صميم بلاغة السرد، لأن مدار البلاغة السردية كما يقول عبد
الرحيم جيران هو تأويل العالم، وهذا التأويل قائم على الخبرة بالنصوص،
وتجربة فهم العالم عبر هذه الخبرة ( مجلة 'الكلمة' الالكترونية، عدد 19،
تموز / يوليو 2008).
إن استعمال الباحث لمفهوم التمثيل قد ساعده على
اكتشاف الخيط الناظم الذي يربط بين أخبار الجاحظ ويتحكم في إنتاجها،
ويتجلى هذا الخيط في مستويين، الأول مزاوجة هذه الأخبار بين آليتي التصوير
والحجاج بغية إيصال مقاصد واضحة تتمثل في بناء الأخلاق في المجتمع
والتدليل على أن المعرفة العقلية سبيل إلى الإيمان والتمييز بين الإنسان
والحيوان وتثقيف القارئ، ولم تخل هذه المقاصد من متعة الهزل والسخرية التي
تتحول عند الجاحظ إلى وسيلة نافعة تخدم هذا المقاصد الجادة. أما المستوى
الثاني وهو الأعمق والذي يشكل أحد الخلاصات المهمة التي تنبه إليها الكاتب
في تحليله لأخبار الجاحظ هو أنها تقوم على 'تمثيل مفهومات البلاغة وإعادة
تشكيلها على نحو تخييلي' ( 'البلاغة والسرد'، ص 65) بمعنى أن السرد عند
الجاحظ يتحول بواسطة التمثيل إلى خطاب واصف للبلاغة من جهة، وفعالية هذه
البلاغة في نقد المجتمع وتوجيه السلوك في ضوء قواعدها ونسقها الخاص من جهة
أخرى. 'فالبلاغة عند الجاحظ ليست مجرد قواعد لبناء التخاطب، ولكنها قواعد
لبناء حياة الناس في المجتمع' ( 'البلاغة والسرد'، ص 65). إن التزيد
والتخاذل والعي والسلاطة مفاهيم بلاغية دارت حولها كثير من نصوص أخبار
الجاحظ، وهي مفاهيم نابعة من صميم الممارسة البلاغية لكنها كانت أيضا
معايير للحكم على السلوك الإنساني في المجتمع، وهذا يعكس نوعا من التناظر
بين البلاغي والإنساني في تصور البلاغيين العرب القدامى. كانت البلاغة
عندهم إذن وسيلة لفهم المجتمع ونقده. وهذه الفكرة تعد ـ في تصور محمد
مشبال ومشروعه البلاغي - أحد المفاتيح التي يركز عليها في صياغة بلاغة
تعيد ربط الأدب بالحياة، وذلك باستلهام هذه النماذج البلاغية القديمة التي
لم يكن النقد والبلاغة فيها ينفصلان عن الحياة والعالم في أفق التأسيس
لمقاربة بلاغية معاصرة تكون فيها بلاغة النص هي نفسها بلاغة الحياة.
القدس العربي
محسن الزكري-باحث من المغرب
18-5-2010
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» التخييـل في مواجهـة الفقــدان قراءة في رواية: 'حيوات متجاورة' لمحمد برادة: شرف الدين ماجدولين
» الأدبية في أدب الغرب الإسلامي قراءة في كتاب «مديح الصدى» لأحمد زنيبر
» عتبات الرواية أم عتماتها؟ قراءة في "أبنية الفراغ" لمحمد عز الدين التازي
» التخييـل في مواجهـة الفقدان قراءة في رواية: "حيوات متجاورة" لمحمد برادة
» قراءة في كتاب : القصة القصيرة جدا بالمغرب/ صبيحة شبر
» الأدبية في أدب الغرب الإسلامي قراءة في كتاب «مديح الصدى» لأحمد زنيبر
» عتبات الرواية أم عتماتها؟ قراءة في "أبنية الفراغ" لمحمد عز الدين التازي
» التخييـل في مواجهـة الفقدان قراءة في رواية: "حيوات متجاورة" لمحمد برادة
» قراءة في كتاب : القصة القصيرة جدا بالمغرب/ صبيحة شبر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى