محكيات من سيرة بوحمارة كما نشرها كتاب غربيون معاصرون له
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
محكيات من سيرة بوحمارة كما نشرها كتاب غربيون معاصرون له
مع مطلع يوم
الخميس 9 شتنبر 1909، الموافق للثالث والعشرين من شهر شعبان من عام 1327،
تم إعدام الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني، المشهور في مغرب مطلع
القرن العشرين بكنية «بوحمارة» وبلقب «الروكَي».
اضطر يومها السلطان المولى عبد الحفيظ إلى إصدار أوامره المطاعة بإعدام
«الفَتَّان» في مشور بلاطه العامر بفاس. طيلة سبع سنوات، وبينما جموع
المغاربة تتابع أصداء ما يقوم به الروكَي عبر الروايات الشفوية، أو عبر ما
يردده «البرَّاحون» أو ما يتسلل إلى علمها من مضمون الإرساليات المخزنية
حول «فتنة بوحمارة»، اكتشف الرأي العام الأوروبي وجود الرجل وعلم ببعض
أخباره عن طريق الصحافة والمجلات الأوروبية، وتابع أخباره بشغف لم يكن
يعادله سوى حجم أطماع حكومات القارة العتيقة الرامية إلى احتلال المغرب.
وتتضمن السلسلة هذه مجموعة من هذه المقالات الغربية التي صاغها صحفيون و
كتاب عاصروا الروكَي بوحمارة.
إعداد: سعيد عاهد
الاتحاد الاشتاكي
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الروكَي يزعم أنه مكلف برسالة إلهية
لوبوتي جورنال - 23 نونبر 1902 بالإضافة للصورة المرسومة التي أفردتها له في ملحقها المصور، والتي تعتبر أول تشخيص للقائم، خصصت أسبوعية «لوبوتي جورنال» الفرنسية، ضمن عددها الصادر في 23 نونبر 1902، مقالا لبوحمارة، ملقبة إياه «عمر زرهون» وكاتبة أن رجاله هُزِموا من طرف الجيش المخزني. يقول المقال الذي انتقت له الجريدة عنوان «قلاقل في المغرب: المطالب بالعرش عمر زرهون»: «غدا الشغب في المغرب، إذا صح هذا التعبير، واقعا مُستوطنا بالبلاد. هكذا، ينتفض هذا المشاغب أو ذاك، مرة في هذه المنطقة من الإمبراطورية ومرة في منطقة أخرى، ليحشد حفنة من الأتباع ويعلن الجهاد وينطلق في المغامرة. وفي كثير من الأحيان، يكفي إقدام المخزن على مجهود بسيط كي تتبدد سحابة أعدائه العابرة. «مؤخرا، تكرر الشيء ذاته من جديد، ووقعت مغامرة إضافية لا تختلف عن سابقاتها. ومع ذلك، فمن السذاجة الادعاء بأنها لم تولد الخوف في طنجة طوال أسابيع. «كان المدعو عمر، سليل مدينة زرهون التي استعار اسمها لقبا له، يدعو بالانتفاضة ضد السلطان، في أوساط غياثة، القبيلة البربرية القوية والمستقرة في الجبال. الرجل يتمتع بمظهر رجل دين مقدس، ويتنقل بين الناس بتواضع على ظهر أتان، ومن ثمة صارت كنية «بوحمارة» لصيقة به. وأثناء كل تنقلاته، يتقدمه من يحمل سجادة صلاته التي يستعملها للخطبة قصد تهييج الشعب والدعوة للثورة. كما يسير خلفه دائما خادم وحيد، راكبا جوادا أبيض. «كان عمر يدرك جيدا تشبع الجمهور المنصت له بالفكر الخرافي، ولذا كان يقوم، قبل بداية خطبه، بإنجاز ألعاب سحرية تسلب ألباب الحاضرين. وبعد ذلك فقط، ينتقل إلى الدعوة للجهاد، بل إنه بدأ يزعم أنه الأخ الأكبر للسلطان ليطالب بالعرش. «ولما استطاع بوحمارة حشد عدد لا يستهان به من الأنصار، أصبح التهديد بانفجار الأوضاع جديا، وهو المعطى الذي ولّد اهتمام الحكومة الفرنسية، وكيف لها غير ذلك وجاليتنا في الجزائر قريبة من ساحة الأحداث؟ «مع بزوغ فجر يوم 13 نونبر الجاري، شن عمر هجوما على الجيش المغربي وبلغ إلى حد التوغل في معسكره. لكن وصول إمدادات لجنود السلطان جعلهم يسترجعون السيطرة على الأوضاع، ويطردون المنتفضين، ملاحقين إياهم وملحقين بهم خسائر جسيمة. وللأسف، تمكن القائم من الفرار بجلده مع زمرة من أتباعه.» دورية لجنة إفريقيا الفرنسية - دجنبر 1902 في عددها الصادر في شهر دجنبر 1902, نشرت «دورية لجنة إفريقيا الفرنسية», مقالا تحت عنوان «مُطَالِب بالعرش في تازا»، تمت صياغته بأسلوب متفائل أكثر من اللازم حول «اندحار» بوحمارة، وبلغة لا يُطَابق منطوقها مجريات الأحداث على أرض الواقع. يقول صاحب المقال: «تأخر رحيل السلطان من فاس، بسبب إنذار جدي، لكنه يبدو أن هذا الإنذار لن يخلف نتائج خطيرة نظرا لرد الفعل المخزني السريع والحازم. «لقد استطاع أحد الشرفاء المنحدرين من سلالة مولاي إدريس، مؤسس مدينة فاس، ويسمى مولاي مْحَمد، تعبئة العديد من الأنصار، مدعيا بأنه مكلف برسالة إلهية مفادها تنصيب أحد إخوان السلطان ـ مولاي عمرـ على العرش. «بهر الرجل أتباعه بسبب قدراته السحرية وتدينه وتواضعه، فولج تازا، المدينة الواقعة على مسافة يومين شرق فاس، لتتم فيها بيعة مولاي عمر. لقد طرد بوحمارة ـ وهي الكنية التي اشتهر بها نظرا لتنقله الدائم على ظهر أتان ـ عامل المدينة ورجال المخزن من المنطقة، وهو مسانَد من طرف قبيلة غياثة، إحدى أكثر قبائل المغرب إثارة للقلاقل. «أصبحت صلاة الجمعة تقام باسم مولاي عمر، وارتفع عدد أنصار بوحمارة بشكل سريع. بل بدأ الجميع يترقب لحظة توجهه إلى فاس، واستيلائه عليها، وخلع مولاي عبد العزيز عن العرش، وطرده إلى عاصمته الجنوبية (مراكش). «لكن المخزن أقام حَرْكة من ألفي رجل أرسلها لمواجهة المنتفض، بقيادة مولاي الكبير، أخ السلطان. كان النصر في المعركة لصالح الجيش الشريف، فلاذ الفتَّان بالفرار. كما قطعت رؤوس العديد من المنتفضين وبُعثت إلى فاس كي تعلق على أبوابها. وتم إرسال قوات مخزنية إضافية إلى المنطقة قصد بتر بقايا فتيل الفتنة منها، ويبدو الآن أنه تم تجاوز كل خطر بصفة نهائية. ولولا ذلك، لولا اقتناع السلطان المطلق باجتثاث الانتفاضة، لما غادر عاصمة ملكه فاس». يحمل هذا المقال بالطبع في ثناياه عدة معطيات تاريخية غير صحيحة، وعلى رأسها زعم صاحبه القضاء على بوحمارة ومن معه في خريف عام 1902، بينما ستستمر منازعة المطالب بالعرش حول الملك إلى حدود سنة 1909، بالإضافة إلى القول بأن القائم كان يسعى إلى تنصيب مولاي عمر سلطانا للمغرب، بينما كان بوحمارة يطالب بالعرش لنفسه، مستعيرا اسم مولاي مْحَمد، الابن الأكبر للمولى الحسن، الذي كان قد حبس بعد وفاة والده وبيعة أخيه مولاي عبد العزيز، رغم صغر سنه، وهي البيعة التي لعب فيها الحاجب باحماد دورا محوريا. 1-7-2010 | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
راية العصيان الديني ترفرف في المغرب
نشرت مجلة «القضايا الديبلوماسية والكولونيالية، ضمن محتويات عددها المؤرخ في فاتح يناير1903، مقالا حول الأوضاع بالمغرب بعد شق بوحمارة عصا الطاعة ضد المخزن حمل عنوان «راية العصيان الديني»، وهو مقال أكثر إلماما نسبيا من المقالين اللذين نشرناهما في عدد أمس بوقائع وأحداث تلك الحقبة: «تتطلب الأوضاع السياسية في المملكة الشريفة أن نوليها كامل اهتمامنا. فمنذ مطلع شهر نونبر1902 رفع أحد الشرفاء - أي أحد المنحدرين من الدوحة النبوية - راية العصيان الديني، في المنطقة المحيطة بمدينة تازا الصغيرة، الواقعة على الطريق الرابطة بين وهران وتلمسان وبين فاس، على بعد حوالي مائة كيلومتر من العاصمة المغربية الشمالية (وهي المسافة الفاصلة تقريبا بين مدينتي كومبيين وباريس). ولقد نال المُطالب بالعرش، في المنطقة تلك، نصرة قبيلة غياثة الأمازيغية. «ظلت هذه القبيلة، ومعها القبائل المجاورة لها، مسالمة نظرا لخضوعها لتأثير مولاي إسماعيل، عم السلطان وراعي جامع مولاي إدريس الشهير، وهو المسجد الذي انتُهكِت حرمته بعد لجوء قاتل مواطن إنجليزي إليه. ولسوء الحظ، قضى مولاي إسماعيل نحبه قبل ستة أشهر مضت، كما أن مشروع عقد قران السلطان الحاكم على إحدى بنات عمه المتوفى، وهو ما كان سيمكنه من بسط نفوذه على القبيلة القوية، مشروع لم يكتب له الاكتمال. «هكذا، وبدعم من قبيلة غياثة وبربرها الغاضبين، تمكن الطامع في العرش من طرد قائد تازا وخدام المخزن بها، وإعلان خلع السلطان. وفي الحقيقة، فإن رجال المخزن هؤلاء لم يكونوا يتمتعون بأي نفوذ في المدينة. «بمجرد وقوع الواقعة، أرسل المخزن حَرْكَة مكونة من ألفي رجل، تحت قيادة مولاي الكبير، أخ السلطان، مهمتها إلقاء القبض على محمد الروكَي, وهذا هو اسم المنتفض الذي يلقبه آخرون عمر الزرهوني، والذي يحمل كذلك كنية بوحمارة نظرا لامتطائه الدائم ظهر أتان. في يوم 4 نونبر حصلت المواجهة بين الجيشين، لتستمر طيلة ست ساعات سيجبر بعدها أخ السلطان على الفرار. «غادر السلطان فاس متوجها نحو راس الما، المنتجع الذي يبعد على العاصمة العلمية بحوالي ساعتين. ظل هناك طيلة ثمانية أيام، متابعا أخبار الفتنة ومترددا في الرحيل أبعد. بدا أن رقعة الانتفاضة تتسع، فتخوف السلطان من أن تشمل قبائل بربرية أخرى فتقطع عليه الطريق نحو الرباط. لهذا، شد الرحال إلى مكناس التي ولجها يوم 18 نونبر، وأرسل وزير شؤونه الخارجية، عبد الكريم بن سليمان، إلى فاس ليتابع منها تطور الأحداث عن كثب. وفي مكناس، سعى السلطان إلى تجنيد قوات جديدة بسرعة، بهدف بعثها لمحاربة غياثة. و كان مستشاروه يلحون عليه في عدم التوجه إلى الرباط، فعاد إلى فاس التي دخلها موكبه بدون مظاهر احتفال، وسط لا مبالاة السكان. «أخذت مْحلة السلطان برمتها وجهة تازا لمواجهة بني ورياغل وغياثة، وكانت تضم حوالي عشرة آلاف رجل، تحت قيادة أخ وزير الحرب، المنبهي. الحملة هذه عرفت اندحارا جديدا، ليفر جنود السلطان مشتتين إلى فاس، تاركين المدافع والبنادق والذخيرة والخيول والحمير. لقد اندلعت المعركة يوم 24 نونبر، في نقطة تحمل اسم باب حاما، وفي اليوم الموالي حل بوحمارة بالحجيرة، على واد إيناون. أما سلطته حاليا, فتمتد إلى جنوب الريف وأحواز تازا، بل إنها تصل إلى سيدي علال، على بعد كيلومترات معدودة من فاس». | ||
2/7/2010 |
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مستشارو المولى عبد العزيز البريطانيون يغضبون المغاربة
عادت أسبوعية «لوبوتي جورنال»، في عددها المؤرخ في 18 يناير 1903، إلى «الفتنة المغربية»، عبر مقال جديد عنونته بـ «الحرب الأهلية في المغرب» وأرفقته بلوحة تشخيصية تضمنها الملحق المصور للعدد. جاء في المقال: «تتطلب الأحداث الجارية حاليا في المغرب ألا يظل الفرنسيون مكتوفي الأيدي. ورغم أن الأوضاع هناك لم تعد مقلقة بالدرجة التي كانت عليها قبل أيام، فإن الوضع في شمال إفريقيا ما زال يتميز بالقلاقل، إذ هزم أتباع الفتان بوحمارة جيش السلطان عبد العزيز، الذي لم يتجاوز بعد سنته الثانية بعد العشرين، وتعرضت جميع مدن شرق الإمبراطورية للغزو، وكل قراه للنهب من الريف إلى تازا، كما سقط عدد لا يحصى من القتلى. ولابد من التذكير مرة أخرى بمسؤولية إنجلترا في هذه الأحداث الدموية، فهي التي أغضبت الشعب المغربي بسبب أطماعها المغالية وغياب الحصافة لدى موظفيها وتجارها. أجل، لقد ثار الحس الوطني ضد تصرفات هؤلاء الأجانب. «وغني عن البيان أنه، لما دقت ساعة الخطر، افتقد السلطان أصدقاءه الأوفياء والمترفعين، الذين كلفه حضورهم أموالا طائلة، والذين كان يعول عليهم كثيرا. وبالفعل، وهي فضيحة حقيقية، فقد شاهدنا بأم أعيننا المؤتمن على أسراره ومفضله ومستشاره الحميم، مراسل جريدة إنجليزية مشهورة، يختفي بسرعة البرق بمجرد ظهور الأعراض الأولى للخطر. لقد هرب (والتر هاريس) متسلحا بالحذر الذي هو أول مكونات البسالة، وأثناء فراره المتسرع أنهك حصانا حتى الموت، كما أنه لم يتوقف، متعبا، إلا بعد أن أصبحت مسافة ستين فرسخا تفصل الانتفاضة عن شخصه الثمين. « كان عبدالعزيز يأمل تدخلا فعالا وسريعا لإنجلترا لصالحه، ليكتشف خطأه بعجلة. فعلا، تقدير السلطان للأمر تميز بقدر من السذاجة. «بسرعة ودقة، حددت الدول العظمى المعنية، التي تتبوأ فرنسا صدارتها بشكل طبيعي، الأوضاع القائمة وما تفرضه عليها من التزامات. لقد أقرت وأعلنت أن الأحداث الجارية تعتبر، في حد ذاتها وحتى إشعار آخر، شأنا مغربيا داخليا: إنها حرب أهلية وصراع حول العرش. وبناء عليه، فلا يحق لأي طرف ثالث التدخل بمحض إرادته وتلقائيا في مجرياتها. وبالمقابل، فإنه من حق وواجب الدول المعنية تتبع تطورات الأزمة عن كثب قصد اتخاذ كل الإجراءات الضرورية، لضمان أمن مواطنيها والحفاظ على مصالحها في الوقت المناسب.» من جهتها، وبعد مقالها المنشور في دجنبر 1902، عادت «دورية لجنة إفريقيا الفرنسية»، في عددها الصادر في نهاية يناير 1903، إلى موضوع الأوضاع في المغرب، محللة - من وجهة نظرها - الأسباب والظروف التي ولدت فتنة بوحمارة، وادعاءه بكونه مولاي مْحمد، ومبايعة عدة قبائل له، وذلك من خلال مقالين. ورد في أول المقالين: «فجأة، وخلال شهر دجنبر الماضي، سلكت الأحداث في المغرب منحى جد خطير، لدرجة ساد معها الاعتقاد بأن «المسألة المغربية» ستطرح على جدول أعمال الدول العظمى. لقد وجدت الانتفاضة، التي سبق لنا الإعلان عن اندلاعها، في غضب القبائل المجاورة لفاس حضنا قوى عضدها بشكل أصبح يمثل تهديدا للسلطان المولى عبد العزيز. «وليس ثمة مجال للشك في كون أسباب نجاح الانتفاضة وانتشارها تكمن في سخط الأهالي على الإصلاحات المتسرعة للسلطان الشاب. أجل، إن المهتمين يتابعون منذ مدة الإرادة القوية للمولى عبد العزيز للقيام بعدة إصلاحات في شتى المجالات، خاصة بعد تخلصه من وصاية الصدر الأعظم القوي والذكي باحماد. وفي فرنسا، تتم متابعة هذه الإرادة بقلق.» | ||
3/7/2010 |
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
سليل الشرفاء شغوفا بالتصوير الفوتوغرافي والدراجات الهوائية والأزياء الأوروبية
بعد تعرضها، في مستهل مقالها الصادر في نهاية يناير 1903، لغضب القبائل من الإصلاحات المتسرعة للسلطان المولى عبد العزيز ، واصلت «دورية لجنة إفريقيا الفرنسية» عرضها للأوضاع في مغرب القلاقل ذاك: «بفعل أفكاره الشخصية، وربما بفعل التربية التي تلقاها من والدته (رقية التي كانت تتكلم وتكتب الفرنسية والعربية والتركية)، كان المولى عبد العزيز معجبا بأفكار أوروبا وتطوراتها، وكان يسعى إلى استنباتها في المغرب، دون الانتباه إلى كونها قد تجسد تهديدا للإطار العتيق الذي كان يريد استيرادها إلى رحمه. كان السلطان يقدم على ذلك بسبب النصائح الطائشة من طرف مستشارين بريطانيين يبدو أنهم قاموا لديه بدور الأصدقاء والمستشارين الحميمين، وقاموا في ذات الآن بمهمة موظفين مدافعين عن السياسة البريطانية. لقد ترددت أسماؤهم بوتيرة متنامية خلال الأحداث الأخيرة، كما أن مسؤولياتهم أكدتها الوقائع إلى درجة إقرارهم، هم أنفسهم، بها. ولذا، فلا بأس من ذكر اسمي المستشارين الأكثر تأثيرا من بينهم، ويتعلق الأمر أولا بـ «القائد» ماك لين، الضابط السابق في صفوف الجيش البريطاني، الذي حل بالمغرب لممارسة التجارة فوجد الفرصة سانحة للقيام بدور سياسي بالبلد، وأصبح قائدا لحرس السلطان. أما المستشار الثاني، فهو والتر هاريس، مراسل «التايمز»، وهو رجل ذكي ودؤوب يتمتع بمعرفة دقيقة بتفاصيل الأوضاع بالمغرب، أصبح مؤرخ السلطان عبد العزيز، وينشر مقالات طويلة يصوغها بأسلوب جيد تمدح السلطان صديق الانجليز والمناصر، بفضلهم، للسلوكات العصرية. وكان المغاربة يكتشفون، كل يوم، سليل الشرفاء شغوفا بالتصوير الفوتوغرافي والدراجات الهوائية والسيارات والأزياء الأوروبية، ويباغتون به وهو يفتح أبواب القصر لممثلي بريطانيا. وتمثل كل هذه المعطيات مصدرا لانتقادات غير ذات أهمية كبيرة، لكنها جوهرية لدى المسلمين. وستتحول دهشتهم إلى استنكار فعلي حين ستصل الأمور إلى درجة غض الطرف عن تقاليد مقدسة، من قبيل إعدام مغربي لجأ إلى ضريح مولاي إدريس، مولى فاس، بعد أن أُشبع ضربا، بسبب هجومه على رجل مسيحي (...). «في رحم كل هذا الغضب وهذا الالتباس، بدا بوحمارة، زعيم الانتفاضة الذي كان يقدم نفسه مبشرا بقدوم المهدي المنتظر، ممثلا ومجسدا للتقاليد والإيمان الإسلاميين. ولقد تزايد عدد المتحلقين حوله والمناصرين له، لتتعزز صفوفهم بحشود المناوئين للنظام الجديد الذي أقره المولى عبد العزيز، بل إن هذا الأخير كاد يفقد عرشه في فاس، بعد هزيمة جيوشه أمام المنتفضين، وبعد الفرار المتسرع للمستشارين البريطانيين الذين قادوه إلى هذه الوضعية». أما المقال الثاني المنشور ضمن نفس عدد «دورية لجنة إفريقيا الفرنسية» تحت عنوان «انتفاضة بوحمارة»، فيقول: «أصبحت الأوضاع في المغرب تنذر بالخطر خلال شهر دجنبر الماضي، وانتشرت الانتفاضة، التي أشرنا إليها في العدد السابق، مثل النار في الهشيم، لتهدد ـ طوال أيام ـ سلطة السلطان. هكذا، وبينما كانت مْحلة المولى عبد العزيز منشغلة بإضرام النار في بعض الدواوير، وفي نهب مخازن حبوب قبائل زمور وكَروان، توصل المخزن بأخبار سيئة من منطقة تازا. «كان مولاي الكبير، أخ السلطان، قد ألحق هزيمة بالمنتفضين يوم 3 نونبر الماضي، وفرض على بوحمارة الهروب واللجوء إلى غياثة. لكنه، وبشكل مفاجئ، وضع حدا للمحادثات التي كانت جارية لتسليم الفتَّان، وانطلق في استخلاص الضرائب النقدية والعينية من قبيلة الحياينة، التي ناصرت أخيرا جيش المخزن، رغم ترددها في البداية، وحاربت إلى جانبه. كانت قيمة الضرائب جد مرتفعة، وفي نفس الآن كان جند السلطان يتميزون بعدم الانضباط في صفوفهم، ولهذا، وحين هاجم هؤلاء الجند قبيلة غياثة (29 نونبر)، انضم إلى هذه الأخيرة رجال الحياينة وحاربوا إلى جانبها الجيش النظامي. عمت الفوضى، حينذاك، صفوف جنود المخزن، ليسقط العديد منهم قتلى ويستولي المنتفضون على أسلحتهم وذخيرتهم. وبمجرد أن علم المولى عبد العزيز بما حدث، رحل عن مكناس بسرعة، دون أن تنهي مْحـلته مـهمتها التـــأديبية ضد قبـــائل زمور، ليــــحل بفــــاس يوم 9 دجنبر.» | ||
5/7/2010 |
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
بوحمارة يبشر بقرب ظهور المهدي «مول الساعة»
بعد عرضها، في
مقالها الصادر في نهاية يناير 1903، لحركة مولاي الكبير، أخ السلطان،
وهزيمتها أمام المنتفضين في نونبر 1902، واصلت «دورية لجنة إفريقيا
الفرنسية» بسطها لحال المغرب والمخزن والروكَي:
«هكذا، وبفعل ما لحق بأخ السلطان من فشل ذريع ومتعدد، تنامت قوة بوحمارة
وتعزز نفوذه. وتجدر الإشارة إلى أن الشخصية الحقيقية للفتَّان تظل ملغزة،
ويبدو كذلك أنه يقدم نفسه على أساس كونه مبشرا بقدوم المهدي. وحسب أحد
المعتقدات التقليدية المغربية، فسيظهر مثل هذا المبشر في شرق البلاد، ثم
سيدخل فاس بدون مقاومة، وفي مسجد المدينة الكبير، سيخطب حول المهدي (مول
الساعة)، ليعثر هذا الأخير على سيفه في أحد أعمدة المسجد المرمرية.
وبواسطة هذا السيف، سيفتح مبعوث الإسلام الأرض برمتها. لقد أراد ولد يوسف
الزرهوني تقمص دور المبشر بالمهدي المنتظر، وهو في الواقع سليل لعائلة
مولاي إدريس، مولى فاس، ينتمي لوسط متواضع، وسبق له السفر إلى الجزائر
وتونس قبل العودة إلى المغرب.
«بفضل إتقانه للشعوذة والإيحاء، انتشر تأثير بوحمارة بسرعة في أحواز تازا،
ولما أعلن نفسه مبشرا بقدوم المهدي، انضمت إليه غياثة والقبائل الأخرى.
وانتقى المطالب بالعرش كنية «بوحمارة»، بهدف الحفاظ على السرية والألغاز
المحيطة بشخصه وهويته. وبسبب الشبه، اعتقد العديد من المغاربة بأن الرجل
ليس سوى مولاي مْحمد، الأخ الأكبر للسلطان الذي نحّته والدة المولى عبد
العزيز عن العرش بعد موت مولاي الحسن، وذلك عبر كتمان سر الوفاة طيلة
يومين. وكان مولاي مْحمد قد انتفض ضد هذا القرار، لكنه هُزِم وسُجِن في
زنزانة بمكناس من طرف أخيه الصغير.
«بمجرد الولوج إلى تازا، في 25 أكتوبر، عين بوحمارة الوزراء واستنسخ تنظيم
البلاط الشريف، بل إنه كان يستعمل المظلة الحمراء المفضلة لدى السلاطين.
وبالإضافة إلى هذا، فإنه كان يحكم منطقة تمتد إلى حدود مائة كيلومتر حول
تازا. ويفيد العديدون بأنه كان يفعل ذلك بشكل جيد.
«بمجرد حلوله بفاس، لم يتردد المولى عبد العزيز في إرسال جيش كبير لمحاربة
خصمه، خاصة وأن نفوذ هذا الأخير ازداد بفعل التزمت الإسلامي والغضب
المتولد من سعي السلطان إلى جلب المزيد من جديد المبتكرات الأوروبية.
«يوم 23 دجنبر، في باب حاما، واجهت جيوش السلطان المكونة من عشرة آلاف
جندي مناصري بوحمارة، لتُمنى بهزيمة فظيعة. لقد أحاط خيالة الطامع في
العرش بالجيش الإمبراطوري من كل جهة وهزموه، فلم يجد الجند بديلا عن
الفرار إلى فاس في فوضى عارمة، تاركين وراءهم المدافع والخيام والذخيرة
والخيول والحمير. أياما قليلة بعد الحدث، تمحورت الأحاديث حول محاصرة
المولى عبد العزيز في فاس وقرب سقوطه، وهو ما أكده خبر نشرته «التايمز»
اللندنية بعد توصلها به من طرف مراسلها والتر هاريس، الموجود حينها بطنجة.
أجل، لقد ترك الصحفي والصديق الحميم للسلطان فاس، بمجرد علمه باندحار
الجيش المخزني، وقطع المسافة الفاصلة بينها وبين طنجة بدون توقف.
«يبدو إذن بأن الرياح تهب لفائدة شراع الانتفاضة، بل إن إفادات عديدة تؤكد
تقدمها نحو مناطق مغربية أخرى. وحسب إفادات أخرى، فالجالية الأوروبية
المقيمة بفاس مهددة بأخطار مهولة».
6-7-2010
مقالها الصادر في نهاية يناير 1903، لحركة مولاي الكبير، أخ السلطان،
وهزيمتها أمام المنتفضين في نونبر 1902، واصلت «دورية لجنة إفريقيا
الفرنسية» بسطها لحال المغرب والمخزن والروكَي:
«هكذا، وبفعل ما لحق بأخ السلطان من فشل ذريع ومتعدد، تنامت قوة بوحمارة
وتعزز نفوذه. وتجدر الإشارة إلى أن الشخصية الحقيقية للفتَّان تظل ملغزة،
ويبدو كذلك أنه يقدم نفسه على أساس كونه مبشرا بقدوم المهدي. وحسب أحد
المعتقدات التقليدية المغربية، فسيظهر مثل هذا المبشر في شرق البلاد، ثم
سيدخل فاس بدون مقاومة، وفي مسجد المدينة الكبير، سيخطب حول المهدي (مول
الساعة)، ليعثر هذا الأخير على سيفه في أحد أعمدة المسجد المرمرية.
وبواسطة هذا السيف، سيفتح مبعوث الإسلام الأرض برمتها. لقد أراد ولد يوسف
الزرهوني تقمص دور المبشر بالمهدي المنتظر، وهو في الواقع سليل لعائلة
مولاي إدريس، مولى فاس، ينتمي لوسط متواضع، وسبق له السفر إلى الجزائر
وتونس قبل العودة إلى المغرب.
«بفضل إتقانه للشعوذة والإيحاء، انتشر تأثير بوحمارة بسرعة في أحواز تازا،
ولما أعلن نفسه مبشرا بقدوم المهدي، انضمت إليه غياثة والقبائل الأخرى.
وانتقى المطالب بالعرش كنية «بوحمارة»، بهدف الحفاظ على السرية والألغاز
المحيطة بشخصه وهويته. وبسبب الشبه، اعتقد العديد من المغاربة بأن الرجل
ليس سوى مولاي مْحمد، الأخ الأكبر للسلطان الذي نحّته والدة المولى عبد
العزيز عن العرش بعد موت مولاي الحسن، وذلك عبر كتمان سر الوفاة طيلة
يومين. وكان مولاي مْحمد قد انتفض ضد هذا القرار، لكنه هُزِم وسُجِن في
زنزانة بمكناس من طرف أخيه الصغير.
«بمجرد الولوج إلى تازا، في 25 أكتوبر، عين بوحمارة الوزراء واستنسخ تنظيم
البلاط الشريف، بل إنه كان يستعمل المظلة الحمراء المفضلة لدى السلاطين.
وبالإضافة إلى هذا، فإنه كان يحكم منطقة تمتد إلى حدود مائة كيلومتر حول
تازا. ويفيد العديدون بأنه كان يفعل ذلك بشكل جيد.
«بمجرد حلوله بفاس، لم يتردد المولى عبد العزيز في إرسال جيش كبير لمحاربة
خصمه، خاصة وأن نفوذ هذا الأخير ازداد بفعل التزمت الإسلامي والغضب
المتولد من سعي السلطان إلى جلب المزيد من جديد المبتكرات الأوروبية.
«يوم 23 دجنبر، في باب حاما، واجهت جيوش السلطان المكونة من عشرة آلاف
جندي مناصري بوحمارة، لتُمنى بهزيمة فظيعة. لقد أحاط خيالة الطامع في
العرش بالجيش الإمبراطوري من كل جهة وهزموه، فلم يجد الجند بديلا عن
الفرار إلى فاس في فوضى عارمة، تاركين وراءهم المدافع والخيام والذخيرة
والخيول والحمير. أياما قليلة بعد الحدث، تمحورت الأحاديث حول محاصرة
المولى عبد العزيز في فاس وقرب سقوطه، وهو ما أكده خبر نشرته «التايمز»
اللندنية بعد توصلها به من طرف مراسلها والتر هاريس، الموجود حينها بطنجة.
أجل، لقد ترك الصحفي والصديق الحميم للسلطان فاس، بمجرد علمه باندحار
الجيش المخزني، وقطع المسافة الفاصلة بينها وبين طنجة بدون توقف.
«يبدو إذن بأن الرياح تهب لفائدة شراع الانتفاضة، بل إن إفادات عديدة تؤكد
تقدمها نحو مناطق مغربية أخرى. وحسب إفادات أخرى، فالجالية الأوروبية
المقيمة بفاس مهددة بأخطار مهولة».
6-7-2010
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الحارس الشخصي لبوحمارة 1902 يحكي عن قدرات صاحبه الخارقة
في سنة 1905، نشر أوغست مولييراس، المستكشف الكولونيالي الفرنسي، المقيم في الجزائر والمهتم بالقضايا والتطورات الجارية على الساحة المغربية، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وإثنوغرافيا، نشر إحدى دراساته العديدة حول المغرب، وهي بالضبط دراسة حول قبيلة من قبائل شرق البلاد. يحمل الكتاب هذا عنوان: «زكَارة، قبيلة زناتية غير مسلمة بالمغرب»، وهو يضم عدة صفحات مخصصة لبوحمارة، ووثائق عديدة حوله وحول حَرْكته، ومنها مقالات «دورية لجنة إفريقيا الفرنسية» ومجلة «القضايا الديبلوماسية والكولونيالية» التي سبق التعرض لها. في أحد فصول هذا الكتاب، يروي أوغست مولييراس بداية العلاقة بين أفراد القبيلة المذكورة وبين بوحمارة، وهو فصل يتضمن تفاصيل عن «قدرات الجيلالي الزرهوني» السحرية، قدرات وظَّفها لحشد الأنصار وإقناعهم بمساندته في مطالبته بالعرش. «مُحمَّاد ولد علي، وهو زكراوي من أولاد موسى، ينحدر من دوار أولاد رباح (...)، حضر بدايات حركة المطالب بالعرش المغربي. ذَهب مُحمَّاد هذا لقضاء بعض الأيام في أهل إسُّونن وبني مَحسن وأهل الزاوية، وهي قرى (...) مجاورة لبعضها البعض، واقعة قرب تازا ومنتمية لقبيلة غياثة الكبيرة. كان صاحبنا قد حلَّ هناك في أواسط فصل الربيع من عام 1902، حين علم بوفود طالْب يمتطي ظهر حمارة إسبانية ضخمة إلى المنطقة، وهي الميزة التي جعلت الوافد يُلقَّب بـ «بوحمارة». لا أحد كان، حينذاك، يعرف هوية صاحب الأتان الحقيقية، بل إن لا أحد كان يعير أدنى اهتمام للموضوع أو يسعى لرفع الحجاب عنه. وبالمقابل، كانت الأفعال السحرية الخارقة المؤداة من طرفه بحذاقة ومهارة استثنائيتين تشد انتباه الجميع. هكذا، وبدون أدنى مجهود، وكأن الأمر يتعلق بلعبة سهلة، كان المشعوذ البارع يُحول أوراق الأشجار إلى قطع نقدية ذهبية، كما كان يملك ديكَالِيتْرًا لا ينضب من الشعير، ديكاليتر يمتح منه خمسون، ستون، ثمانون أو مائة فارس حاجة خيولهم، دون أن يَنقصَ وزنه». وحسب أوغست مولييراس، المستند إلى شهادة محماد ولد علي، فإن بوحمارة استطاع استقطاب المترددين من أهل زكارة والقبائل الأخرى لفائدة مطلبه بالعرش عبر «معجزات» إضافية: «كان بقدرته تغيير سحنته ولونه كلما شاء ذلك وكما شاء. هكذا، كان وجهه الشاحب والمنزوف يصبح فجأة قرمزيا، بل إنه كان، بعد ذلك، يستعير كل السحنات المعروفة». ويضيف مولييراس، بأن بوحمارة كان يخطب في زواره الكثيرين مؤكدا: «- لا تحضروا لي مؤونة، ولا أموالا. إن بركتي تكفي كل حاجياتي». «وكانت أقواله صحيحة! وكيف لا، وسريات القبائل تجد لديه ما يكفي من الشعير لإطعام خيولها التي يفوق عددها المئات، دون أن ينضب مخزون كيس شعيره؟ «وكيف لا، وقد كان يمنح لكل عابر سبيل ونذل ومتسول قطعا نقدية من فئة مائة قرش، قطع نقدية كان يغرفها من زعبولة لا تنضب هي الأخرى؟» وأكثر من كل هذا، وحسب نفس المؤلف، فالجيلالي الزرهوني كان «يكشف اللصوص بمجرد التمعن في وجوههم»، بل إنه كان «يتمتع بتبريد الرصاص، التبريد الذي يجعل طلقات الرصاص لا تصيبه بأدنى أذى». وكان من بين أوائل الملتحقين ببوحمارة والمناصرين له والمستعدين «للموت دفاعا عنه»، حسب مولييراس دائما، أربعة وعشرون فارسا من قبيلة غياثة. وقد انضاف لهم صاحبنا محمَّاد ولد علي الذي برر اختياره هذا قائلا: «- في انتظار أيام أفضل، سأقبض يوميا الأربعة دورو التي يؤديها هذا الرجل لحرسه الجدد»! ها بو حمارة إذن يتوفر على حرسٍ يضم خمسة وعشرين فارسا. وبينما هو يستعرض حرسه هؤلاء، حدث ما يلي، حسب مولييراس: «حل عند غياثة فيلق من الكَوم يضم ما بين سبعمائة وثمانمائة رجل منحدر من قبيلة آيت يوسي، يقودهم قائد القبيلة. كانت الأوامر قد صدرت لهم من طرف مولاي عبد العزيز قصد قطع رأس الفتَّان وإحضاره إلى السلطان. «بمجرد رؤيته الفيلق ذي النية السيئة ضده، أمر (بوحمارة) حرسه الخمسة والعشرين بعدم التدخل. جرد سيفه من غمده وأشهره، ثم شق طريقه وسط صفوف أعدائه إلى أن صار وجها لوجه مع القائد المذكور. انتهت المبارزة القوية بين الرجلين بانتصار بَيِّن للفتَّان، ولهذا، توصل سلطان فاس بالرأس المقطوعة لقائد آيت يوسي داخل كيس بعد يومين من هذه الأحداث، بدل رأس المطالب بالعرش. أما فرسان القائد الثمانمائة، فقد أطلقوا النار على بعضهم البعض، بعد أن توغل بوحمارة بشجاعة داخل صفوفهم. وبعد برهة وجيزة، أطلق الكَوم سيقانهم للريح فارين ومخلفين مائتي قتيل من بينهم. «أكثر من ثلاثة ألف فرد من قبيلة غياثة تابعوا المعركة هذه من أعلى قمم التلال المشرفة على ساحة الوغى، دون أن يساهموا فيها. وحين لمحوا بوحمارة مغادرا قلب المعركة وهو يحمل رأس القائد بيده من دون أن يصاب بأدنى جرح، حينذاك صاحوا جميعا: «- الله ينصر السلطان مولاي مْحمد!» | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
أعيان القبائل يتبادلون السلاهم للتحالف ضد المخزن
في شهر دجنبر
من سنة 1903، نشر الفرنسي أوجين أوبان تفاصيل الرحلة التي قام بها للمغرب
خلال سنتي 1902 و1903، والتي زار خلالها عدة مدن مغربية, محللا أوضاع
البلاد سياسيا حينذاك. وقد خصص الكاتب، المتوفى عام 1931، الفصل الثامن من
كتابه الصادر تحت عنوان «مغرب اليوم» للمطالب بالعرش.
يكتب أوبان في هذا الفصل الذي حمل عنوانا مختزلا هو «بوحمارة» والذي انتهت صياغته في فاس يوم 10 فبراير 1903:
«في شهر مارس الماضي، وصل مولاي عبدالعزيز إلى فاس وافدا إليها من مراكش
والرباط. مثل استقرار السلطان في دار المخزن بالمدينة أول امتحان له إزاء
العاصمة الحقيقية للإمبراطورية ومجموع المغرب الشمالي، منذ انطلاق حكمه
الفردي وتوجهاته الإصلاحية. لم يكن الاختبار يسيرا فالحوز، أي المغرب
الجنوبي، منطقة هادئة تشكل سهولها الفسيحة القاعدة الرئيسية لبلاد المخزن،
بينما ساكنة الغرب الجبلية أكثر شراسة. لقد ظلت فاس تصنف، منذ القدم،
كمدينة معارضة، وباستثناء أحوازها الغربية فجهتها منغرسة، إلى هذا الحد أو
ذاك، في بلاد السيبة.
«بدأ الناس يتحدثون، في فاس، خلال الصيف الماضي، عن شريف يجول الأسواق
المحيطة بواد إيناون، شرق العاصمة، لمصالحة القبائل بعضها مع بعض. وعرفت
الفترة ذاتها تردد أخبار حول اتفاق أعيان البربر وجبالة على رفض إصلاح
الحكومة الضريبي، وإقدامهم على تبادل السلاهم. وإذا كان هذا العُرف
الأمازيغي مؤشرا على عقد تحالفات قبلية، فإنه جسد إشارة مقلقة بالنسبة
للمخزن، خاصة وهذا الأخير ضعيف أصلا ولا يستمد عوامل صموده إلا من
انقسامات القبائل. لم تولد هذه الأعراض المنذرة بالخطر الاهتمام في
البداية، غير أن الفتنة انتشرت.
«ها هي فخدة من قبيلة آيت يوسي المستقرة في الجبل بناحية صفرو، على بعد
ساعات من فاس فقط، تنهب قصبة القائد! وها قبيلتا كَروان وزمور ترفعان، في
المنطقة الوعرة الواقعة على الحدود الغربية لسهل سايس، راية العصيان أيضا
وتخربان وتسلبان سوق مكناس! عدم الاستقرار كان سمة الوضع إذن، مع توسعه
وزحفه، رويدا رويدا، على ضواحي فاس.
«ومع ذلك، لم تكن الحالة وليدة تواطؤ جلي المعالم بين مختلف هذه الحركات
لأن القبائل مستقلة عن بعضها البعض، مثلما هي مستقلة عن المخزن. وحين يحصل
تقارب بينها، فالسر يكمن في إبرام تحالفات محلية بينها، لا يسندها، في
الغالب، أدنى توافق حول مصلحة مشتركة. ولما تتضاءل قوة المخزن، بفعل
استفحال الشقاق داخله ومعارضة الرأي العام للسلطة المركزية، فإن الفوضى،
التي هي أساس الحياة المغربية، تحل محل التنظيم المزعزع للدولة. هكذا، يعم
الشغب البلاد تلقائيا، لكن من دون أن يتوفر حملة رايته على فكرة عامة
موحدة ومؤطرة أو تخطيط مسبق، مع تفاوت ملحوظ في اللجوء للعنف حسب القبائل
وحسب تقاليد الخنوع أو العصيان المميزة لكل واحدة منها. لسنا إذن أمام
ثورة أو حرب أهلية، الأمر يتعلق فقط بتطور طبيعي للسياسة الداخلية في
المغرب، مثلما هو الأمر في جمهوريات أمريكا الجنوبية الصغيرة، حيث الثورات
ملازمة للحياة البرلمانية.»
من سنة 1903، نشر الفرنسي أوجين أوبان تفاصيل الرحلة التي قام بها للمغرب
خلال سنتي 1902 و1903، والتي زار خلالها عدة مدن مغربية, محللا أوضاع
البلاد سياسيا حينذاك. وقد خصص الكاتب، المتوفى عام 1931، الفصل الثامن من
كتابه الصادر تحت عنوان «مغرب اليوم» للمطالب بالعرش.
يكتب أوبان في هذا الفصل الذي حمل عنوانا مختزلا هو «بوحمارة» والذي انتهت صياغته في فاس يوم 10 فبراير 1903:
«في شهر مارس الماضي، وصل مولاي عبدالعزيز إلى فاس وافدا إليها من مراكش
والرباط. مثل استقرار السلطان في دار المخزن بالمدينة أول امتحان له إزاء
العاصمة الحقيقية للإمبراطورية ومجموع المغرب الشمالي، منذ انطلاق حكمه
الفردي وتوجهاته الإصلاحية. لم يكن الاختبار يسيرا فالحوز، أي المغرب
الجنوبي، منطقة هادئة تشكل سهولها الفسيحة القاعدة الرئيسية لبلاد المخزن،
بينما ساكنة الغرب الجبلية أكثر شراسة. لقد ظلت فاس تصنف، منذ القدم،
كمدينة معارضة، وباستثناء أحوازها الغربية فجهتها منغرسة، إلى هذا الحد أو
ذاك، في بلاد السيبة.
«بدأ الناس يتحدثون، في فاس، خلال الصيف الماضي، عن شريف يجول الأسواق
المحيطة بواد إيناون، شرق العاصمة، لمصالحة القبائل بعضها مع بعض. وعرفت
الفترة ذاتها تردد أخبار حول اتفاق أعيان البربر وجبالة على رفض إصلاح
الحكومة الضريبي، وإقدامهم على تبادل السلاهم. وإذا كان هذا العُرف
الأمازيغي مؤشرا على عقد تحالفات قبلية، فإنه جسد إشارة مقلقة بالنسبة
للمخزن، خاصة وهذا الأخير ضعيف أصلا ولا يستمد عوامل صموده إلا من
انقسامات القبائل. لم تولد هذه الأعراض المنذرة بالخطر الاهتمام في
البداية، غير أن الفتنة انتشرت.
«ها هي فخدة من قبيلة آيت يوسي المستقرة في الجبل بناحية صفرو، على بعد
ساعات من فاس فقط، تنهب قصبة القائد! وها قبيلتا كَروان وزمور ترفعان، في
المنطقة الوعرة الواقعة على الحدود الغربية لسهل سايس، راية العصيان أيضا
وتخربان وتسلبان سوق مكناس! عدم الاستقرار كان سمة الوضع إذن، مع توسعه
وزحفه، رويدا رويدا، على ضواحي فاس.
«ومع ذلك، لم تكن الحالة وليدة تواطؤ جلي المعالم بين مختلف هذه الحركات
لأن القبائل مستقلة عن بعضها البعض، مثلما هي مستقلة عن المخزن. وحين يحصل
تقارب بينها، فالسر يكمن في إبرام تحالفات محلية بينها، لا يسندها، في
الغالب، أدنى توافق حول مصلحة مشتركة. ولما تتضاءل قوة المخزن، بفعل
استفحال الشقاق داخله ومعارضة الرأي العام للسلطة المركزية، فإن الفوضى،
التي هي أساس الحياة المغربية، تحل محل التنظيم المزعزع للدولة. هكذا، يعم
الشغب البلاد تلقائيا، لكن من دون أن يتوفر حملة رايته على فكرة عامة
موحدة ومؤطرة أو تخطيط مسبق، مع تفاوت ملحوظ في اللجوء للعنف حسب القبائل
وحسب تقاليد الخنوع أو العصيان المميزة لكل واحدة منها. لسنا إذن أمام
ثورة أو حرب أهلية، الأمر يتعلق فقط بتطور طبيعي للسياسة الداخلية في
المغرب، مثلما هو الأمر في جمهوريات أمريكا الجنوبية الصغيرة، حيث الثورات
ملازمة للحياة البرلمانية.»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الصلاة في تازا تُقام باسم بوحمارة والمخزن يبعث مْحلة إلى المنطقة لـ«أكلها»
في شهر دجنبر
من سنة 1903، نشر الفرنسي أوجين أوبان تفاصيل الرحلة التي قام بها للمغرب
خلال سنتي 1902 و1903، والتي زار خلالها عدة مدن مغربية, محللا أوضاع
البلاد سياسيا حينذاك. وقد خصص الكاتب، المتوفى عام 1931، الفصل الثامن من
كتابه الصادر تحت عنوان «مغرب اليوم» للمطالب بالعرش.
في حلقة اليوم، نواصل قراءة ما كتبه أوبان في هذا الفصل الذي حمل عنوانا
مختزلا هو «بوحمارة» والذي انتهت صياغته في فاس يوم 10 فبراير 1903:
«وبينما الفتنة تزحف، لم يكن المخزن يتوفر سوى على عدد محدود من الجند
لمواجهتها: ألفا رجل على أكبر تقدير، وهم يكفون لحراسته حين يكون الوضع
عاديا. أما بقية الجيش النظامي، فقد شدت الرحال، منقسمة لوحدات صغيرة، إلى
مختلف بقاع الإمبراطورية، لمواجهة الانتفاضات القائمة هنا وهناك. لم يكن
ثمة بديل، لحظتها، عن حشد الجيش برمته، مع مطالبة قبائل بلاد المخزن
بإرسال فيالق إضافية عبر إعلان الحَرْكة. تأخر العساكر المطلوبون في
الالتحاق بالجيش، نظرا لعدم حماس القبائل الخاضعة للمخزن للأمر، وبصعوبة
استطاع الحكم المركزي تجنيد حوالي خمسة عشر ألف رجل.
«كان نهب مكناس، وهي مدينة إمبراطورية، يستلزم إرسال أول بعثة تأديبية
لها، لكنه تم الاكتفاء ببعث «قايد مية» واحد إلى أهل وادي نهر إيناون،
ومعه عشرون فارسا، مع تكليفه بإلقاء القبض على المنتفض. بسرعة فائقة، عاد
هؤلاء الجنود القلائل ناجين بجلدهم، ليخبروا فاس, التي لم يهتم سكانها
كثيرا بالمعلومة الجديدة، أن الصلاة في مدينة تازا تُقام باسم شخص يحمل
لقب بوحمارة، وأن الرجل مدعوم من طرف جزء من قبيلة غياثة. ومن المعلوم أن
إقامة الصلاة باسم فرد بعينه تعتبر، في التشريع الإسلامي، أبرز عربون على
تمتعه بالسيادة. وقد عين بوحمارة أحد المنحدرين من غياثة قائدا على
المدينة، بينما حُبس قائد المخزن في بيته، مقايضا سلامته بإسداء نصائح
لخلفه حول تسيير المنطقة .
«في شهر أكتوبر، أرسل المخزن ثانية مئات الفرسان إلى تازا قصد مباغتة
بوحمارة واعتقاله. لم يكن المنتفض يتوفر، آنذاك، على عدد كبير من الأنصار،
ولم تكن تدعمه سوى بعض مكونات قبيلة غياثة. ورغم هذا، أُجبر الفرسان على
الانسحاب مرة أخرى، ليقرر المخزن بعث مْحلة مؤلفة من ألفي وخمسمائة رجل
إلى نواحي واد إيناون، تحت قيادة أحد إخوان السلطان، مولاي الكبير. حطت
المْحلة الرحال في ثْْليّثة الحياينة، على الحدود الفاصلة بين هذه القبيلة
والتسول، لتنطلق فعليا العمليات العسكرية ضد بوحمارة.
«الحرب في المغرب ذات طبيعة جد خاصة، ولإخماد انتفاضات القبائل، يلجأ
المخزن لبعث مْحلة إلى المنطقة المعنية لـ»أكلها»، وبينما يعمل الجيش على
إفلاس الناحية، منظما خرجات هجومية غير مؤذية لفرسانه بين الفينة والأخرى،
يستدعي المخزن شرفاء يحظون بتأثير محلي فعلي ليفاوضوا نظراءهم الممثلين
للقبائل، قصد الفصل بين الأطراف. وبعد إبرام اتفاق تقريبا، وفرض شروط
الاستسلام أو دفع مقابل للقبائل، علما بأن المنطقة أفلست برمتها، تقوم
المحلة بعملية حاسمة. أجل، إنها تُقدم على تنظيم «صُوكَة»، أي عملية
هجومية، تسمح لها بمفاجأة بعض الدواوير وقطع رؤوس عدد من الفلاحين غير
المبالين. وبما أن هذه الغنائم تمثل دليلا على انتصار المخزن، فإنه يتم
عرضها في مختلف المدن الإمبراطورية. وبعدها، تنسحب المحلة وضمير رجالها
مرتاح لأنهم أدوا مهمتهم على أحسن وجه.
«وإذا كانت المْحلات الشريفة لا تواجه صعوبات كبيرة في أغلب الأحيان, فإن
مْحلة مولاي الكبير شكلت استثناء، إذ أجبرت على التوقف وعدم مواصلة التقدم
نحو تازا. هكذا اكتفت المْحلة بنهب قبائل بلاد المخزن المستقرة بنواحي
معسكرها، كما نظمت صُوكَة سريعة حصدت إثرها بضعة رؤوس، فارضة على بوحمارة
التراجع قليلا.»
من سنة 1903، نشر الفرنسي أوجين أوبان تفاصيل الرحلة التي قام بها للمغرب
خلال سنتي 1902 و1903، والتي زار خلالها عدة مدن مغربية, محللا أوضاع
البلاد سياسيا حينذاك. وقد خصص الكاتب، المتوفى عام 1931، الفصل الثامن من
كتابه الصادر تحت عنوان «مغرب اليوم» للمطالب بالعرش.
في حلقة اليوم، نواصل قراءة ما كتبه أوبان في هذا الفصل الذي حمل عنوانا
مختزلا هو «بوحمارة» والذي انتهت صياغته في فاس يوم 10 فبراير 1903:
«وبينما الفتنة تزحف، لم يكن المخزن يتوفر سوى على عدد محدود من الجند
لمواجهتها: ألفا رجل على أكبر تقدير، وهم يكفون لحراسته حين يكون الوضع
عاديا. أما بقية الجيش النظامي، فقد شدت الرحال، منقسمة لوحدات صغيرة، إلى
مختلف بقاع الإمبراطورية، لمواجهة الانتفاضات القائمة هنا وهناك. لم يكن
ثمة بديل، لحظتها، عن حشد الجيش برمته، مع مطالبة قبائل بلاد المخزن
بإرسال فيالق إضافية عبر إعلان الحَرْكة. تأخر العساكر المطلوبون في
الالتحاق بالجيش، نظرا لعدم حماس القبائل الخاضعة للمخزن للأمر، وبصعوبة
استطاع الحكم المركزي تجنيد حوالي خمسة عشر ألف رجل.
«كان نهب مكناس، وهي مدينة إمبراطورية، يستلزم إرسال أول بعثة تأديبية
لها، لكنه تم الاكتفاء ببعث «قايد مية» واحد إلى أهل وادي نهر إيناون،
ومعه عشرون فارسا، مع تكليفه بإلقاء القبض على المنتفض. بسرعة فائقة، عاد
هؤلاء الجنود القلائل ناجين بجلدهم، ليخبروا فاس, التي لم يهتم سكانها
كثيرا بالمعلومة الجديدة، أن الصلاة في مدينة تازا تُقام باسم شخص يحمل
لقب بوحمارة، وأن الرجل مدعوم من طرف جزء من قبيلة غياثة. ومن المعلوم أن
إقامة الصلاة باسم فرد بعينه تعتبر، في التشريع الإسلامي، أبرز عربون على
تمتعه بالسيادة. وقد عين بوحمارة أحد المنحدرين من غياثة قائدا على
المدينة، بينما حُبس قائد المخزن في بيته، مقايضا سلامته بإسداء نصائح
لخلفه حول تسيير المنطقة .
«في شهر أكتوبر، أرسل المخزن ثانية مئات الفرسان إلى تازا قصد مباغتة
بوحمارة واعتقاله. لم يكن المنتفض يتوفر، آنذاك، على عدد كبير من الأنصار،
ولم تكن تدعمه سوى بعض مكونات قبيلة غياثة. ورغم هذا، أُجبر الفرسان على
الانسحاب مرة أخرى، ليقرر المخزن بعث مْحلة مؤلفة من ألفي وخمسمائة رجل
إلى نواحي واد إيناون، تحت قيادة أحد إخوان السلطان، مولاي الكبير. حطت
المْحلة الرحال في ثْْليّثة الحياينة، على الحدود الفاصلة بين هذه القبيلة
والتسول، لتنطلق فعليا العمليات العسكرية ضد بوحمارة.
«الحرب في المغرب ذات طبيعة جد خاصة، ولإخماد انتفاضات القبائل، يلجأ
المخزن لبعث مْحلة إلى المنطقة المعنية لـ»أكلها»، وبينما يعمل الجيش على
إفلاس الناحية، منظما خرجات هجومية غير مؤذية لفرسانه بين الفينة والأخرى،
يستدعي المخزن شرفاء يحظون بتأثير محلي فعلي ليفاوضوا نظراءهم الممثلين
للقبائل، قصد الفصل بين الأطراف. وبعد إبرام اتفاق تقريبا، وفرض شروط
الاستسلام أو دفع مقابل للقبائل، علما بأن المنطقة أفلست برمتها، تقوم
المحلة بعملية حاسمة. أجل، إنها تُقدم على تنظيم «صُوكَة»، أي عملية
هجومية، تسمح لها بمفاجأة بعض الدواوير وقطع رؤوس عدد من الفلاحين غير
المبالين. وبما أن هذه الغنائم تمثل دليلا على انتصار المخزن، فإنه يتم
عرضها في مختلف المدن الإمبراطورية. وبعدها، تنسحب المحلة وضمير رجالها
مرتاح لأنهم أدوا مهمتهم على أحسن وجه.
«وإذا كانت المْحلات الشريفة لا تواجه صعوبات كبيرة في أغلب الأحيان, فإن
مْحلة مولاي الكبير شكلت استثناء، إذ أجبرت على التوقف وعدم مواصلة التقدم
نحو تازا. هكذا اكتفت المْحلة بنهب قبائل بلاد المخزن المستقرة بنواحي
معسكرها، كما نظمت صُوكَة سريعة حصدت إثرها بضعة رؤوس، فارضة على بوحمارة
التراجع قليلا.»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
كَروان وزمور يقبلون الهدنة مع المخزن ويؤدون طقس «المزاوكَة»
في حلقة اليوم، نواصل قراءة ما كتبه أوبان 10 فبراير 1903 عن بوحمارة ومحاولات المخزن للقضاء على انتفاضته: «ضاق السلطان ذرعا، منذ مدة، من الإقامة بفاس، وعصيان أقاليم الشمال ومعارضة الفاسيين. كان مولاي عبد العزيز يصبو إلى العودة جنوبا وإلى حياة مراكش الأكثر حرية. ولهذا السبب، تم اعتبار نجاح مولاي الكبير المتواضع بمثابة إخماد نهائي لانتفاضة قبائل واد إيناون، فاتُّخذ قرار رحيل المخزن إلى الرباط في منتصف شهر نونبر، على أن ترافقه كتيبة عسكرية مهمتها معاقبة كَروان وزمور. ورغم مروره قرب مكناس، لم يتوقف السلطان في المدينة، مكتفيا بزيارة أوليائها وضريح سلفه مولاي إسماعيل. وعقب ذلك، ولجت المْحلة أراضي قبيلة كَروان، فوجدت أنها حشدت عددا كبيرا من الرجال. «بما أن الهدف الأساسي للحرب مغربيا يكمن في ترهيب الخصم، لفرض التفاوض عليه من موقع قوة، فالأهم يتجسد، في غمارها، في تأليب أكبر عدد من الجنود. ولهذا، فكلما ضمت جيوش القبائل كمًّا لا يعد من المحاربين شعر المخزن بالضعف والهوان، أما حين يكون تعداد عساكر السلطة المركزية أوفر، فإنها ترغم القبائل على الخنوع. فرض عدد محاربي كَروان الكبير على المْحلة التوقف، والاكتفاء بتقليب بعض مطمورات القمح والشعير، وتنظيم صوكَات محتشمة. بعدها، وبدون إصرار، توجه الموكب إلى تلال زمور، وهو عاقد العزم على الوصول إلى هضبة تفوديت الوعرة، حيث اعتادت القبيلة ترك نسائها وقطعانها في لحظات الشدة. «زمور قبيلة بربرية قوية، يتراوح عدد فرسانها بين أربعة وخمسة آلاف فارس، وهي تشكل أكبر مصدر للإزعاج، من بين كل قبائل بلاد السيبة، بالنسبة للمخزن. وبالفعل، فزمور تشغل، ومعها زعاير، المنطقة الجبلية التي تعتبر امتدادا لآخر ملتقيات قمم الأطلس المتوسط في اتجاه البحر، كما أن عصيانها الدائم يُجبر المخزن على تجنب أراضيها، وسلك طريق أطول تمر عبر الرباط، من أجل ربط التواصل بين مملكتي فاس ومراكش. تنقسم زمور إلى مكونين أساسيين: آيت زكري وآيت جبل الدوم، وهما يتشعبان كذلك إلى ما لا يحصى من الفروع. وباستثناء وحدتين صغيرتين مُعربتين، فالقبيلة برمتها تتكلم لهجة بربرية، وإذا كانت تتقبل تعيين قيادها من طرف السلطان، فإنها تسلب منهم كل تدبير فعلي لشؤونها، ولا تعترف بغير السلطة الدينية لشرفاء وزان الذين تخدمهم جل ساكنتها. ولا تدفع القبيلة، على مستوى آخر، ضرائب للمخزن، بل إن هذا الأخير هو الذي يضطر لأداء أموال لها مقابل التزامها الهدوء. ومع ذلك، ولما يميل أهل زمور إلى طاعة السلطان، فإنهم يرسلون إليه الهْدية بمناسبة الأعياد الدينية، بل ويدفعون رجالهم إلى المساهمة أحيانا في حملاته العسكرية في أحواز فاس. «هؤلاء إذن هم الخصوم الخطيرون الذين على المْحلة مواجهتهم، ولذا، وبعد «صوكَتين» أو ثلاث «صوكَات» غير ناجعة، أسرع المخزن إلى طلب تدخل الشرفاء، ليفرض أحدهم، وهو من وزان، على زمور قبول هدنة. أما كَروان، المتأرجحون بين الطاعة والعصيان، فرضَوْا بـ «ملأ البلاد»، أي العودة إلى قراهم، مع ضمان حق عبور أراضيهم للغير، واعدين كذلك بإعادة ما نهبوه من سكان مكناس والقبائل المجاورة. واحتراما لمظاهر هيبة المخزن، لم ترفض كَروان وزمور الامتثال لطقس المزاوكَة. «يتجسد الطقس المذكور، أثناء استقرار المخزن في إحدى المدن الإمبراطورية، في لجوء مبعوثي القبيلة المعنية إلى أحد المساجد بها. أما في حالة وجود المخزن في معسكر خارجي، فيكتفي المبعوثون بعبور المْحلة، ليتوقفوا جنب المدافع المصطفة أمام أفراكَ السلطان، ثم يرددون عبارة معروفة تقول: «الشكوى عليك يا مولاي عبد العزيز!»، وأثناء ترديدها، يقطعون عراقيب ثيران أحضروها معهم. لحظتها، يخرج مشاوري بأبهة من الخيمة الإمبراطورية، حاملا عكازه وسائلا: «سيدنا كَال ليكم مالكم». وعقب تقديم المبعوثين لطلباتهم باقتضاب، تنطلق المفاوضات النهائية بين الطرفين، تحت إشراف كاتب أو وزير حسب الوضعية، على أساس ما سبق الاتفاق عليه مع الشرفاء. ويضطر الشرفاء هؤلاء للتدخل من جديد في اللحظات الأخيرة، ذلك أن المخزن يتظاهر دائما برفض الاتفاق، قبل أن يعلن، في آخر المطاف، موافقته احتراما للوسطاء الأجلاء.» | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
بوحمارة مهندس و»الحلايقية» يحكون معجزاته
نتابع في حلقة اليوم كذلك، قراءة ما كتبه أوبان في 10 فبراير 1903 عن بوحمارة ومحاولات المخزن للقضاء على انتفاضته، وذلك ضمن الفصل الذي خصصه للروكَي كتابه : «ومن جهة أخرى، بدأت معالم هوية بوحمارة تتضح: إنه بربري معرب، يسمى الجيلالي بن ادريس الزرهوني اليوسفي، يبلغ من العمر حوالي أربعين سنة، وينحدر من قرية أولاد يوسف في منطقة زرهون. ولقد سبق له أن درس في سلك الطلبة المهندسين، ليصير بعد ذلك كاتبا لمولاي عمر، أخ السلطان الحالي. وإبان قيام الجيلالي بوظيفته هذه في بيت الشريف الشاب، كان سي المهدي المنبهي، الذي سيحتل بسرعة مكانة مرموقة في صفوف ا لمخزن، بفضل حظوته لدى مولاي عبدالعزيز، يشغل منصب قايد المية المتواضع. تورط الجيلالي بن ادريس في مؤامرة، في حقبة تحمل مولاي عمر لمسؤولية خليفة فاس، بتزامن مع رحلة مولاي الحسن إلى تافيلالت، ليُرمى به في السجن الذي لم يغادره إلا قبل سنتين. وبعد زيارة للجزائر وتونس، عاد الضحية الغامض لسياسة المخزن إلى المغرب، تائقا إلى صفة ول، وحاملا كنية بوحمارة، للحصول على قوت يومه. هكذا جال القبائل، منجزا ألعابا سحرية، وهي ألعاب تعتبر، في المغرب، معجزات، وتمنح بسهولة لصاحبها سمعة ملؤها التقديس، مما أدى به إلى تقديم نفسه كشريف. ونظرا لنجاحه الكبير في توجهه الجديد، نضجت لدى الجيلالي بن ادريس فكرة التأثير في مجريات الأحداث، مستغلا الظروف القائمة ورد الفعل المحتوم ضد إصلاحات المخزن المتسرعة، ليجد لدى غياثة استعدادا مسبقا للانخراط في السيبة. قدم الجيلالي نفسه للعامة على أساس كونه مولاي مْحمد بن الحسن، الأخ الأكبر للسلطان الشاب الحاكم، مطالبا بالعرش، أما في حضرة زعماء القبائل، فكان يكشف هويته الحقيقية، زاعما أنه سينسحب بتلقائية بعد وصوله إلى فاس، ويترك الحكم للشريف المختار. إن الفشل المتراكم والمتتالي لمولاي الكبير، هو الذي جعل الجيلالي بن ادريس يرتقي إلى وضع الروكَي. «يحمل كل رجل يسعى في المغرب إلى عزل السلطان وإقامة حكومة جديدة، دون انتماء حقيقي للسلالة الملكية، لقب الروكَي. وفي الحقيقة، فالمغرب عرف كثيرا من أمثال هذا الطامع في العرش، علما أن السلالات التي حكمته، سواء كانت شريفة أو غير شريفة، أُسست على يد منتفضين ناجحين. ويذكر أنه، في بحر عام 1862 ، في ظل حكم سيدي محمد، انتفض رجل من فخدة الروكَا المنتمية لقبيلة سفيان في الغرب، يدعى الجيلالي الروكَي، وحشد بعض الأنصار، وبعد قتل قائد قبيلته توجه إلى فاس. لم يجد السلطان أدنى صعوبة في القضاء على منافسه الفاشل، إذ تسلم فيلق العسكر المبعوث لمواجهته جثته في زاوية زرهون، حيث كان قد لجأ قبل قضاء سكان المنطقة عليه. لم تستمر تلك الروكَي الانتفاضة أكثر من ثمانية وأربعين يوما، ومنذ ذاك، أصبح لقب الروكَي ملازما لكل منتفض من ذات الطينة، مع إصرار المخزن على إلصاق هذه الكنية المزعجة ضده لتمريغ سمعته في التراب. «لم تنتظر المخيلة الشعبية الانتصارات المرموقة للروكَي الجديد كي تهبه هالة القدرة على تحقيق المعجزات والنبوءات والأحلام، وكلها أوهام تستسيغها الحياة الرتيبة في الأقطار المغاربية. ومنذ أول ظهور له، استطاع بوحمارة، بفعل معجزاته، استقطاب اهتمام الرأي العام المغربي إلى حدود طنجة، حيث كانت الأحاديث تتناول بإعجاب إنجازاته العجائبية. أما في الزوايا، فالشخصيات الدينية المرموقة كانت تتطلع إليه، وتتنبأ بمستقبله، مع إبداء نقد مضمر للسلطان المصلح. بعد نهاية الخريف، وأنا مسافر عبر الأطلس، لم يكن سكان القصبات يتركون الفرصة تمر دون سؤال مرافقينا المغاربة، بنوع من التهكم اللطيف، إن كان مولاي عبد العزيز لا يظل سلطانا إلى حد الآن، وإن كان لازال يقاوم المطالب بالعرش. كما صادفنا، في دواوير الغرب، حلايقية متواضعين يحكون معجزات الروكَي ، ويرددون قولة منسوبة إليه، راجين تحققها: «حين سأحل على قنطرة سبو، سأرى النيران متصاعدة من ملاح فاس». وقبل فترة قريبة، ضُبط مخزني من مراكش متحدثا عن تغيير السلطان، فتعرض لضرب مبرح بأمر من قائد الجيش، مع حك فمه بالفلفل الأحمر. «هكذا إذن، قرر المخزن الرجوع إلى فاس التي دخلها يوم 10 دجنبر. ولتأكيد الطابع المؤقت لعودته الإجبارية، نُصب الـ «أفراكَ» في تل دار المهراز، المشرف على فاس الجديد من الجهة الجنوبية الشرقية، بينما استقر السلطان في القصر، مع غياب الاحتفالات المعتادة. ووجب انتظار عدة أيام، والمساعي الملحة للشرفاء والأعيان المتسولين من العاهل تمديد إقامته في عاصمته الشمالية، ليأمر مولاي عبد العزيز بإطلاق طلقات المدافع المألوفة، ويتلقى رسميا تهاني الفاسيين ويقوم بالزيارة الإلزامية لضريح مولاي إدريس.» | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
المغرب بمخزنيين اثنين، وبوحمارة على مشارف فاس
نتابع في حلقة
اليوم كذلك، قراءة ما كتبه أوبان في 10 فبراير 1903 عن بوحمارة ومحاولات
المخزن للقضاء على انتفاضته، وذلك ضمن الفصل الذي خصصه للروكَي كتابه :
«بسرعة، تم جمع عدة فيالق وإرسالها إلى وادي نهر إيناون لمساندة مْحلة
مولاي الكبير، وذلك تحت قيادة شريفين من العائلة المالكة، مولاي محمد
ومولاي عبد السلام لمراني، إضافة إلى أخ وزير الحرب بنفسه، سي العباس
المنبهي. ورغم استقلالية المحلات الأربعة عن بعضها البعض، فقد كان عليها
تنسيق عملياتها، علما أن عدد جنودها الإجمالي بلغ خمسة عشر ألف رجل. ومع
وصول الجيش الشريف إلى ساحة العمليات، على بعد حوالي مائة كيلومتر من
العاصمة، انطلق، كما تقضي بذلك العادة، في القيام بصوكَات متكاسلة. ونظرا
لاستفحال الخلافات بين قادته، الشريفان من جهة وغير الشريف من جهة ثانية،
فقد فوجئ الجنود، مساء 22 دجنبر، أي في نهاية رمضان، وهم يعودون إلى
المخيم لتناول وجبة الإفطار، بفرسان غياثة مسيطرين على الموقع المهجور،
بدون مقاومة تقريبا. وفي المعكسر، وجد خيالة القبيلة المنتفضة الأكل جاهزا،
والخيام منصوبة، ومدافعا، وبنادق، ودخيرة، وإماء زنجيات لكبار الرؤساء،
ونسوة بيضا بسيطات غنمهن المحاربون العاديون. أجل، فجأة وكما لو أن الأمر
نتيجة تعزيم، اختفى الخمسة عشر ألف مجند مخزني. مر يومان، فشرع الفارون في
الوصول إلى فاس، حيث خلقت حالتهم هلعا مروعا، فهم يرتدون مجرد أسمال
ومجردون من السلاح. وبالفعل، لم يكتف الحياينة الحقودون بمساعدة غياثة سريا
خلال احتلالها المعكسر، بل طاردوا المنهزمين ونهبوهم. هذه الواقعة فتحت
طريق فاس أمام الروكَي ، بشكل يسمح له، شرط التحرك بسرعة، بإخضاع العاصمة
الأولى للإمبراطورية والمخزن لسلطته، بل والسلطان نفسه.
«لكن الوقائع ستتكفل بسرعة بإبراز إحدى السمات المميزة للحروب المغربية،
حيث لا تتمثل غاية المواجهات العكسرية إطلاقا في تحقيق هدف استراتيجي، بل
في التأثير على مسار المفاوضات فقط. ومن ثمة، وبدل المضي قدما نحو فاس، عاد
الروكَي إلى تازا حيث احتفل بـ»العيد الصغير» في أبهة إمبراطورية، وفي
الوقت ذاته، وسعيا إلى تمتين علاقاته مع قبيلة غياثة، عقد قرانه على فتاة
منها منحدرة من فخدة أهل الطاهر القوية. والأمر هذا مقضي، راسل الروكَي
جميع القبائل الشرقية داعيا إياها إلى الانضمام إليه، ثم نظم مخزنا، وأقام
مْحلة مستغلا ما غنمه من المعسكر الشريف، فكان أن وجد المغرب نفسه
بحكومتين، واحدة شرعية وأخرى ثورية. يتوفر بوحمارة اليوم فعلا على أتباع
كثيرين، كما أن جميع قبائل واد إيناون، منتمية لجبالة كانت أو للبربر، تنزع
إلى اعتناق دعوته، رغم حفاظها على علاقات احتياطية مع المخزن. ومع ذلك،
فمشاركة جنود هذه القبائل في حملات المطالب بالعرش تميزت بعدم الاستمرارية،
لتبقى قوته الضاربة الفعلية مكونة من أنصاره الأوائل، غياثة. ويشاع كذلك
أن قبائل شرق المغرب مستعدة لدعم بوحمارة، كما أن بعض قبائل جبالة، رغم
تحفظها المعروف، وجدت الفرصة سانحة لتصفية حسابات قديمة، فهاجمت قبائل بلاد
المخزن المجاورة لها، مما خلق تخوفات حول انضمامها النهائي لصفوف
المنتفضين. أما الحياينة، المستقرين في السهل، فقد نفذ صبرهم جراء تزويدهم
طرفي النزاع، طوال ثلاثة أشهر، بالرؤوس المقطوعة والماشية المسلوبة،
فألحوا على الطامع في العرش كي تتقدم مْحلته وتعسكر خارج حدود أراضيهم.
ولذا، لم يجد بوحمارة بديلا عن الاستقرار في خميس الكَور، على بعد ست ساعات
من فاس، بل إنه انتقل إلى ثْلَيّْثَة النخلة، التي لا تفصلها عن المدينة
سوى أربع ساعات. وبفعل مجمل هذه العوامل، وجد الروكَي نفسه على مرمى حجر من
العاصمة، شهرا بعد انتصاره الكبير، وكان أول احتكاك بين جيشيهما، في حالة
غلبة المعارضين، سيرهن مآل شمال الإمبراطورية جميعه.
«من جهته، لم يظل المخزن مكتوف الأيدي، إذ بمجرد انقشاع سحابة ذهوله،
استجمع أتباعه، أي حوالي عشرة ألف رجل، ممن لجأوا إلى داخل أسوار حي
بوجلود. أما ثلث الجند السابقين، فقد انتهزوا الفرصة للفرار، بينما التحق
كل رجال الغرب تقريبا بقبائلهم، لتبقى الفيالق البربرية، ومعها فيالق
الحوز، وفية ومجندة بمفردها. وعلى مستوى آخر، حول تنامي أعداد الفارين من
الجندية، نواحي فاس إلى مناطق غير آمنة، كما انتاب الخوف الجالية الأوروبية
المحدودة المقيمة بالمدينة، فرحلت عنها مثل سربة عصافير. وفي الحقبة
ذاتها، اعتبرت البعثتان البروتستانتيان في العاصمة، البعثة الإنجليزية
والأمريكية، الظرف غير ملائم لمواصلة التبشير، بينما هجر ثلاثة ألمانيين
أعمالهم وإيطاليان معمل السلاح. وبفعل هذا، لم يستمر مستقرا بالعاصمة غير
فرنسيين وإنجليزيين لا يتجاوز عددهم اثني عشر فردا، ربما بسبب انتفاعهم
أكثر من الآخرين، أو بسبب إلمامهم أفضل بشؤون المغرب.»
اليوم كذلك، قراءة ما كتبه أوبان في 10 فبراير 1903 عن بوحمارة ومحاولات
المخزن للقضاء على انتفاضته، وذلك ضمن الفصل الذي خصصه للروكَي كتابه :
«بسرعة، تم جمع عدة فيالق وإرسالها إلى وادي نهر إيناون لمساندة مْحلة
مولاي الكبير، وذلك تحت قيادة شريفين من العائلة المالكة، مولاي محمد
ومولاي عبد السلام لمراني، إضافة إلى أخ وزير الحرب بنفسه، سي العباس
المنبهي. ورغم استقلالية المحلات الأربعة عن بعضها البعض، فقد كان عليها
تنسيق عملياتها، علما أن عدد جنودها الإجمالي بلغ خمسة عشر ألف رجل. ومع
وصول الجيش الشريف إلى ساحة العمليات، على بعد حوالي مائة كيلومتر من
العاصمة، انطلق، كما تقضي بذلك العادة، في القيام بصوكَات متكاسلة. ونظرا
لاستفحال الخلافات بين قادته، الشريفان من جهة وغير الشريف من جهة ثانية،
فقد فوجئ الجنود، مساء 22 دجنبر، أي في نهاية رمضان، وهم يعودون إلى
المخيم لتناول وجبة الإفطار، بفرسان غياثة مسيطرين على الموقع المهجور،
بدون مقاومة تقريبا. وفي المعكسر، وجد خيالة القبيلة المنتفضة الأكل جاهزا،
والخيام منصوبة، ومدافعا، وبنادق، ودخيرة، وإماء زنجيات لكبار الرؤساء،
ونسوة بيضا بسيطات غنمهن المحاربون العاديون. أجل، فجأة وكما لو أن الأمر
نتيجة تعزيم، اختفى الخمسة عشر ألف مجند مخزني. مر يومان، فشرع الفارون في
الوصول إلى فاس، حيث خلقت حالتهم هلعا مروعا، فهم يرتدون مجرد أسمال
ومجردون من السلاح. وبالفعل، لم يكتف الحياينة الحقودون بمساعدة غياثة سريا
خلال احتلالها المعكسر، بل طاردوا المنهزمين ونهبوهم. هذه الواقعة فتحت
طريق فاس أمام الروكَي ، بشكل يسمح له، شرط التحرك بسرعة، بإخضاع العاصمة
الأولى للإمبراطورية والمخزن لسلطته، بل والسلطان نفسه.
«لكن الوقائع ستتكفل بسرعة بإبراز إحدى السمات المميزة للحروب المغربية،
حيث لا تتمثل غاية المواجهات العكسرية إطلاقا في تحقيق هدف استراتيجي، بل
في التأثير على مسار المفاوضات فقط. ومن ثمة، وبدل المضي قدما نحو فاس، عاد
الروكَي إلى تازا حيث احتفل بـ»العيد الصغير» في أبهة إمبراطورية، وفي
الوقت ذاته، وسعيا إلى تمتين علاقاته مع قبيلة غياثة، عقد قرانه على فتاة
منها منحدرة من فخدة أهل الطاهر القوية. والأمر هذا مقضي، راسل الروكَي
جميع القبائل الشرقية داعيا إياها إلى الانضمام إليه، ثم نظم مخزنا، وأقام
مْحلة مستغلا ما غنمه من المعسكر الشريف، فكان أن وجد المغرب نفسه
بحكومتين، واحدة شرعية وأخرى ثورية. يتوفر بوحمارة اليوم فعلا على أتباع
كثيرين، كما أن جميع قبائل واد إيناون، منتمية لجبالة كانت أو للبربر، تنزع
إلى اعتناق دعوته، رغم حفاظها على علاقات احتياطية مع المخزن. ومع ذلك،
فمشاركة جنود هذه القبائل في حملات المطالب بالعرش تميزت بعدم الاستمرارية،
لتبقى قوته الضاربة الفعلية مكونة من أنصاره الأوائل، غياثة. ويشاع كذلك
أن قبائل شرق المغرب مستعدة لدعم بوحمارة، كما أن بعض قبائل جبالة، رغم
تحفظها المعروف، وجدت الفرصة سانحة لتصفية حسابات قديمة، فهاجمت قبائل بلاد
المخزن المجاورة لها، مما خلق تخوفات حول انضمامها النهائي لصفوف
المنتفضين. أما الحياينة، المستقرين في السهل، فقد نفذ صبرهم جراء تزويدهم
طرفي النزاع، طوال ثلاثة أشهر، بالرؤوس المقطوعة والماشية المسلوبة،
فألحوا على الطامع في العرش كي تتقدم مْحلته وتعسكر خارج حدود أراضيهم.
ولذا، لم يجد بوحمارة بديلا عن الاستقرار في خميس الكَور، على بعد ست ساعات
من فاس، بل إنه انتقل إلى ثْلَيّْثَة النخلة، التي لا تفصلها عن المدينة
سوى أربع ساعات. وبفعل مجمل هذه العوامل، وجد الروكَي نفسه على مرمى حجر من
العاصمة، شهرا بعد انتصاره الكبير، وكان أول احتكاك بين جيشيهما، في حالة
غلبة المعارضين، سيرهن مآل شمال الإمبراطورية جميعه.
«من جهته، لم يظل المخزن مكتوف الأيدي، إذ بمجرد انقشاع سحابة ذهوله،
استجمع أتباعه، أي حوالي عشرة ألف رجل، ممن لجأوا إلى داخل أسوار حي
بوجلود. أما ثلث الجند السابقين، فقد انتهزوا الفرصة للفرار، بينما التحق
كل رجال الغرب تقريبا بقبائلهم، لتبقى الفيالق البربرية، ومعها فيالق
الحوز، وفية ومجندة بمفردها. وعلى مستوى آخر، حول تنامي أعداد الفارين من
الجندية، نواحي فاس إلى مناطق غير آمنة، كما انتاب الخوف الجالية الأوروبية
المحدودة المقيمة بالمدينة، فرحلت عنها مثل سربة عصافير. وفي الحقبة
ذاتها، اعتبرت البعثتان البروتستانتيان في العاصمة، البعثة الإنجليزية
والأمريكية، الظرف غير ملائم لمواصلة التبشير، بينما هجر ثلاثة ألمانيين
أعمالهم وإيطاليان معمل السلاح. وبفعل هذا، لم يستمر مستقرا بالعاصمة غير
فرنسيين وإنجليزيين لا يتجاوز عددهم اثني عشر فردا، ربما بسبب انتفاعهم
أكثر من الآخرين، أو بسبب إلمامهم أفضل بشؤون المغرب.»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
القبائل تقايض المخزن العزيزي وبوحمارة في نفس الوقت
نتابع في حلقة
اليوم كذلك، قراءة الفصل الذي خصصه أوبان ضمن كتابه لبوحمارة وانتفاضته
ومطالبته بالعرش ومحاولات المخزن للقضاء عليه، والذي ختمه في 10 فبراير
1903:
«سعيا وراء القضاء على ظاهرة الفرار من الجيش، أقدم المخزن على اتخاذ
قرارات بطولية، فرفع رواتب الجنود بنسبة جد عالية: 1,25 بسيطة للمشاة
و2,50 للخيالة، ليُعاد تشكيل مْحلتين. عسكرت المْحلة الأولى في نقطة
متقدمة في المْطافي، على روابي أولاد الحاج الواقعة شرق فاس، في الضفة
الأخرى من سبو، لترصد مجموع وادي نهر إيناون، وذلك تحت قيادة القائد عمر
اليوسي. ولدعم المْحلة الأولى، نصبت الثانية معسكرها في قنطرة سبو، على
بعد نصف ساعة من فاس، وآلت قيادة المْحلة هذه لوزير الحرب، سي المهدي
المنبهي، الذي كان يداوم على زيارتها كل صباح وسط مظاهر الأبهة، ويقضي
فيها اليوم بين المأكولات الفاخرة والموسيقيين والإماء الزنجيات وفق ما
يستلزمه مركزه. وفي الصفوف الخلفية، في دار المهراز بالضبط، مكثت مْحلة
أفراكَ بجنودها القلائل، وهي في وضع احتياطي لمواجهة كل الاحتمالات وضمان
الرحيل بسلام إذا اقتضت الظروف ذلك.
«وبغض النظر عن الإجراءات العسكرية، كان من الواجب اللجوء إلى المفاوضات،
وهي أهم مكون للحروب المغربية. لقد ظل مبعوثو القبائل البربرية المجاورة
لفاس يصلون المدينة يوميا، لتتم مقايضة خضوعهم بالمال أو البنادق. ومن
جانبها، كانت قبائل وادي نهر إيناون، التي انخرطت في خندق بوحمارة بعد
انتصاره تجنبا للتعرض للنهب من طرف رجاله، تبعث، سريا، ممثلين عنها إلى
المخزن لتستفيد هي الأخرى من السخاء الحكومي. وكانت هذه القبائل، في نفس
الآن، تدفع بوحمارة إلى التقدم نحو فاس، كي يخلي عسكره أراضيها. هكذا،
ولما نجح القائد اليوسي في إرسال صوكَة من مْحلته المعاندة، بهدف استعراض
حضورها وإفزاع العدو وطمأنة الفاسيين، وجد الروكَي نفسه مضطرا للدنو أكثر
من فاس بسبب ضغط القبائل عليه.
«طوال خمسة أسابيع، هيمنت على الحياة في فاس أخبار الصوكَات المحتشمة
للمخزن، والتقدم اللاإرادي لبوحمارة. وخلال الأيام المقررة لخروج
الصوكَات، كان فرسان مسلحون يعبرون بسرعة أزقة فاس البالي الضيقة،
للالتحاق بجسر سبو. وكل مساء، كانت الجموع تحتشد في الطريق المؤدية إلى
النهر خارج باب فتوح، بينما النساء يصعدن إلى شرفات المنازل، والعديد من
السكان يحتلون مرتفعات المدينة، ليروي لهم الفرسان الأوائل العائدون من
ساحة الحرب حصيلة اليوم. لقد منيت الصوكَة بالفشل، ولاستدراك الأمر، تم
الهجوم على دوارين أو ثلاثة دواوير، وقطع رأسين أو ثلاثة رؤوس، على الرغم
من عجز الجيش عن مهاجمة المنتفضين، واكتفائه بنهب قبائل خاضعة للمخزن:
أولاد الحاج أو بني سعدن.
«وقد أكد أقوالَ المنتصرين دخانٌ متموج أصهب، انبعث شرقا في رحم الجو
الصحو، لتنام فاس بعد صلاة العشاء قريرة العين بفعل شعورها بالثقة
والحماية، لكن الغد سيحمل معه خبر عملية بوحمارة الهجومية التي رد بها على
صوكَة المخزن، ليعم المدينة إحساس بالقلق العميق، وبذلك الاضطراب الإنساني
الذي يسمه المغاربة بالتشويش، أُقيمت الحراسة في الحصنين الخارجيين وحول
الأسوار وأمام الأبواب، وظلت نداءات العسس تتعالى طوال الليل، كما صدرت
التعليمات للمقدمين كي يسهروا على ضمان المراقبة الليلية في الحومات
التابعة لهم، فوجدوا الفرصة سانحة لابتزاز السكان ماليا. وفي الوقت نفسه،
شهدت فاس إطلاق النار من الصباح حتى المساء، وهي ظاهرة لم تكن حدتها تخف
إلا مع حلول الليل، ولم يكن للإقدام عليها أدنى مبرر، غير إنذار العدو
الخارجي المفترض بوجود رجال مسلحين متأهبين للدفاع عن المدينة، وتنبيه
لصوص الداخل إلى أنهم لن يفلتوا بجلدهم في حالة السرقة الإقدام على
السرقة.»
اليوم كذلك، قراءة الفصل الذي خصصه أوبان ضمن كتابه لبوحمارة وانتفاضته
ومطالبته بالعرش ومحاولات المخزن للقضاء عليه، والذي ختمه في 10 فبراير
1903:
«سعيا وراء القضاء على ظاهرة الفرار من الجيش، أقدم المخزن على اتخاذ
قرارات بطولية، فرفع رواتب الجنود بنسبة جد عالية: 1,25 بسيطة للمشاة
و2,50 للخيالة، ليُعاد تشكيل مْحلتين. عسكرت المْحلة الأولى في نقطة
متقدمة في المْطافي، على روابي أولاد الحاج الواقعة شرق فاس، في الضفة
الأخرى من سبو، لترصد مجموع وادي نهر إيناون، وذلك تحت قيادة القائد عمر
اليوسي. ولدعم المْحلة الأولى، نصبت الثانية معسكرها في قنطرة سبو، على
بعد نصف ساعة من فاس، وآلت قيادة المْحلة هذه لوزير الحرب، سي المهدي
المنبهي، الذي كان يداوم على زيارتها كل صباح وسط مظاهر الأبهة، ويقضي
فيها اليوم بين المأكولات الفاخرة والموسيقيين والإماء الزنجيات وفق ما
يستلزمه مركزه. وفي الصفوف الخلفية، في دار المهراز بالضبط، مكثت مْحلة
أفراكَ بجنودها القلائل، وهي في وضع احتياطي لمواجهة كل الاحتمالات وضمان
الرحيل بسلام إذا اقتضت الظروف ذلك.
«وبغض النظر عن الإجراءات العسكرية، كان من الواجب اللجوء إلى المفاوضات،
وهي أهم مكون للحروب المغربية. لقد ظل مبعوثو القبائل البربرية المجاورة
لفاس يصلون المدينة يوميا، لتتم مقايضة خضوعهم بالمال أو البنادق. ومن
جانبها، كانت قبائل وادي نهر إيناون، التي انخرطت في خندق بوحمارة بعد
انتصاره تجنبا للتعرض للنهب من طرف رجاله، تبعث، سريا، ممثلين عنها إلى
المخزن لتستفيد هي الأخرى من السخاء الحكومي. وكانت هذه القبائل، في نفس
الآن، تدفع بوحمارة إلى التقدم نحو فاس، كي يخلي عسكره أراضيها. هكذا،
ولما نجح القائد اليوسي في إرسال صوكَة من مْحلته المعاندة، بهدف استعراض
حضورها وإفزاع العدو وطمأنة الفاسيين، وجد الروكَي نفسه مضطرا للدنو أكثر
من فاس بسبب ضغط القبائل عليه.
«طوال خمسة أسابيع، هيمنت على الحياة في فاس أخبار الصوكَات المحتشمة
للمخزن، والتقدم اللاإرادي لبوحمارة. وخلال الأيام المقررة لخروج
الصوكَات، كان فرسان مسلحون يعبرون بسرعة أزقة فاس البالي الضيقة،
للالتحاق بجسر سبو. وكل مساء، كانت الجموع تحتشد في الطريق المؤدية إلى
النهر خارج باب فتوح، بينما النساء يصعدن إلى شرفات المنازل، والعديد من
السكان يحتلون مرتفعات المدينة، ليروي لهم الفرسان الأوائل العائدون من
ساحة الحرب حصيلة اليوم. لقد منيت الصوكَة بالفشل، ولاستدراك الأمر، تم
الهجوم على دوارين أو ثلاثة دواوير، وقطع رأسين أو ثلاثة رؤوس، على الرغم
من عجز الجيش عن مهاجمة المنتفضين، واكتفائه بنهب قبائل خاضعة للمخزن:
أولاد الحاج أو بني سعدن.
«وقد أكد أقوالَ المنتصرين دخانٌ متموج أصهب، انبعث شرقا في رحم الجو
الصحو، لتنام فاس بعد صلاة العشاء قريرة العين بفعل شعورها بالثقة
والحماية، لكن الغد سيحمل معه خبر عملية بوحمارة الهجومية التي رد بها على
صوكَة المخزن، ليعم المدينة إحساس بالقلق العميق، وبذلك الاضطراب الإنساني
الذي يسمه المغاربة بالتشويش، أُقيمت الحراسة في الحصنين الخارجيين وحول
الأسوار وأمام الأبواب، وظلت نداءات العسس تتعالى طوال الليل، كما صدرت
التعليمات للمقدمين كي يسهروا على ضمان المراقبة الليلية في الحومات
التابعة لهم، فوجدوا الفرصة سانحة لابتزاز السكان ماليا. وفي الوقت نفسه،
شهدت فاس إطلاق النار من الصباح حتى المساء، وهي ظاهرة لم تكن حدتها تخف
إلا مع حلول الليل، ولم يكن للإقدام عليها أدنى مبرر، غير إنذار العدو
الخارجي المفترض بوجود رجال مسلحين متأهبين للدفاع عن المدينة، وتنبيه
لصوص الداخل إلى أنهم لن يفلتوا بجلدهم في حالة السرقة الإقدام على
السرقة.»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
خمسة دوروات مقابل الرأس المقطوعة وعشرة مقابل كل أسير
نتابع في حلقة اليوم كذلك، قراءة الفصل الذي خصصه أوبان ضمن كتابه لبوحمارة وانتفاضته ومطالبته بالعرش ومحاولات المخزن للقضاء عليه، والذي ختمه في 10 فبراير 1903: «وفي ظل صخب من هذا المثيل، كان من الطبيعي أن تنتشر الأقاويل المتضاربة. هكذا، ورغم ارتباكهم الدفين، استمر رجال المخزن يفتعلون هدوءا محتقرا، بينما الفاسيون، وهم معارضون بطبعهم، يبالغون في ما تحبل به المرحلة من أخطار، بل إن مقياس درجة معارضتهم صار هو درجة تشاؤمهم. وقد نتج عن عدد الجنود الكبير، ارتفاع طبيعي للأسعار، انضافت له زيادة أخرى جراء الكم الهائل من الأخبار السيئة التي كان يروجها مضاربون لا ذمة لهم. وبينما أضحت السيولة النقدية نادرة، عرفت قيمة الصرف زيادة 5% بالنسبة لكمبيالات طنجة. وقد غدا الملاح، بالطبع، فضاء إضفاء أوفر قدر من المبالغة على الإشاعات بامتياز، كما جعلت الأخطار المحدقة اليهود يعتكفون في حيهم الخاص ولا يبارحونه، علما أن خوفهم من التعرض للنهب أنعش مخيلتهم حتى أمسوا يقدمون مخاوفهم المضببة على أساس كونها أخبارا مؤكدة. ومن جهة ثانية، شكل ملاح فاس مصدرا لكل المعلومات الغريبة التي حصلت عليها الصحافة الغربية، والتي نشرتها الجرائد الإسبانية بدون تردد. ومع هذا، لم تشهد فاس، طوال أسابيع الأزمة الطويلة، أدنى اضطراب، ويعود الفضل في هذا لحصافة وحذر عامل المدينة. «حوالي نهاية شهر يناير، برزت مؤشرات جدية تفيد وشوك تحول حاسم في مجريات الأوضاع، إذ اتخذ المخزن عدة مبادرات. تمثلت أول مبادرة في إرسال شريفين من الأسرة الملكية، بحرا، إلى طنجة ليقوما بتعبئة الريف ضد المطالب بالعرش وتهديد قاعدته الخلفية. أما المبادرة الثانية فتجسدت في استدعاء شرفاء وزان إلى فاس، والتماس تدخلهم دينيا لدى القبائل المنتفضة التي يحظون داخلها بقوة تأثير فعلية وواسعة. وكانت المبادرة الثالثة عبارة عن فتح مفاوضات مفيدة مع بعض القبائل، وهي المفاوضات التي أدت إلى استقطاب بني ورياغل مقابل إتاوات مالية محترمة. ونظرا لمجمل هذه التحولات، صارت الثقة سيدة الموقف في صفوف المخزن، الثقة في نصر وشيك وفي إلقاء القبض على الروكَي. وبالمقابل، ظل أهل فاس غير مطمئنين، ذريعتهم في ذلك القيمة العسكرية لجند السلطة المركزية. وقد زاد الطين بلة ذات ليلة، وعم الهلع العاصمة، إقدام عامل فاس البالي على تشديد الحراسة على أبواب المدينة، بمبرر منع الفارين من ولوجها في حالة اندحارهم أمام العدو. «احتضن يوم 29 يناير الصوكَة المهيأة بجدية. كانت مْحلة المخزن تبعد عن مْحلة بوحمارة بخمسة وعشرين كيلومترا، وبفضل بني ورياغل الذين أوهموا الروكَي بالأمن والأمان، انتقل عسكر المنتفض، المكون من ألفي جندي من المشاة وسبعمائة فارس، إلى السهل. وهناك، انقضت عليهم، وهم في غفلة من أمرهم، أربع سربات من الخيالة تضم ثلاثمائة فارس من فرق الحوز، ومن فرسان القائد الكَداري والقائد اليوسي، بالإضافة لفرسان من قبيلة زمور التي أضحت الآن في خندق المخزن بعد محاربتها له سابقا. كان إطلاق الرصاص من البنادق كافيا لمباغتة المْحلة و»كسرها»، مما دفع الجنود المهاجمين إلى بدء عمليات نهب معسكر العدو. حينها، انقض عليهم جيش الطامع في العرش فصدهم خارج المعسكر، لكن الجيش المخزني سيتدخل بكل ثقله وجنوده تحت قيادة سي المهدي المنبهي وقائد المشور، سي إدريس بن يعيش، وعامل فاس البالي، سي عبدالرحمان بن عبد الصدوق. لقد تمكن سي المهدي، الذي أبان عن إقدام وطاقة كبيرين أثناء المواجهة، من وضع حد لتراجع الخيالة ودفع الرجال عن آخرهم للتقدم، مما فرض على أتباع بوحمارة إخلاء المكان والهروب نهائيا، مع التشتت في جميع الاتجاهات كعادتهم. وإثر ما حدث، وجدت فاس نفسها متخلصة من التشويش المتكرر، ومعها المخزن. لقد قُضي الأمر بسرعة، ولم تخلف المواجهة ضحايا كثيرين، إذ فُصِلت أربعون رأسا عن جثتها فقط، ومنها سبع عشرة رأس لأولاد الحاج المناصرين للمخزن، كما سجن خمسون أسيرا. ونظرا لجسامة الواقعة، عرفت التعويضات ارتفاعا مهما حيث بلغ مقابل الرأس المقطوعة خمسة دوروات والسجين عشرة دوروات. إن ما سبق لي حكايته أعلاه حول معارك 29 يناير مستمد من رواية شفوية لأحد أهم الفاعلين فيها. «والساعة تدنو من الرابعة زوالا، بدأت أخبار تحقيق المخزن لانتصار حاسم تتسرب إلى المدينة، مرفوقة بنبأ إلقاء القبض على الروكَي نفسه تنفيذا للوعد الذي ضربه بني ورياغل، لتشرع حشود الناس في عبور الأبواب والتجمهر على طول الطريق المؤدية من باب فتوح إلى جسر سبو. اصطفت الطوابير المتراصة طوال هذا السبيل، كما انتشرت في أرجاء المقبرة المخصصة لفقهاء وعلماء وأولياء مدينة فاس وحقول الزيتون المحيطة بها، مبدية اهتماما جد رصين وملتزمة بعدم خلق ضوضاء أو جلبة. أما المتسولون، فقد توجهوا فرادى وجماعات للوقوف في نقطة محددة. وفي ذات الآن، كان درقاوي مسن يحقق أرباحا محترمة بفضل تطورات الوضع، وهو مسلح بعكاز أخضر اللون تعلوه كرة مذهبة. تقدم أعيان المدينة تباعا إلى الواجهة، على متن بغالهم، لاستقاء المعطيات من الوافدين من وادي نهر إيناون، علما أن جميع شرفات فاس امتلأت عن آخرها من طرف السكان المتطلعين شرقا، بينما بدأت الشمس تغيب خلف قمة تغات وارتفع صوت المؤذن معلنا عن حلول موعد صلاة المغرب. صارت الأخبار الواردة أكثر دقة رويدا رويدا: أجل، لقد فُك الحصار على فاس، لكن الانتصار العسكري غير ساحق بسبب عدم وفاء بني ورياغل بكل الالتزامات التي نالوا مقابلها أموالا طائلة، مثلما لم تطل المنتفضين التصفية، بل إنهم أفلتوا بجلدهم وهم الآن يعبرون السهل لبلوغ جبالهم الآمنة. ومع ذلك، وإعمالا لمبدأ معاملة طرفي النزاع بالمثل، تجند الحياينة لنهب رجال بوحمارة الفارين، كما سبق وفعلوا مع الهاربين من جند المخزن. | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
فاس تقيم «النزاهات» احتفاء باندحار بوحمارة المزعوم
نتابع في حلقة اليوم كذلك، قراءة الفصل الذي خصصه أوبان ضمن كتابه
لبوحمارة وانتفاضته ومطالبته بالعرش ومحاولات المخزن للقضاء عليه، والذي
ختمه في 10 فبراير 1903:
«جلس الكثير من الناس القرفصاء أمام الباب (باب المحروق)، متأملين المشهد
(الرؤوس المبتورة المعلقة) بفضول مسالم ومعلقين أحيانا على قيمة الرؤوس.
حظي رأس شاب برضا الحاضرين الذين اعتبروه غنيمة مهمة، بينما استقبلوا رأس
شيخ بابتسامات ساخرة. وكانت السلطة ممثلة من طرف خليفة المدينة الذي كان
يرأس الطقس ممتطيا بغلته، وهو تاجر ثري يدعى الحاج ادريس بن عبدالجليل،
ويملك متجرا في أورليونفيل، كما أنه قضى فترة طويلة من حياته في الجزائر
ويعرف بضع كلمات باللغة الفرنسية.
«ورغم سعة خيبة الأمل التي خلفها عدم أسر الروكَي، مع ما سيخلقه ذلك من
استمرار عصيان قبائل واد إيناون، فإن المخزن قرر الاحتفال بحدث 29 يناير
واعتباره نصرا كاسحا. ولذا، استيقظت المدينة صباح يوم 31 على إيقاعات
الطبلات والمزامير، وطلقات المدافع، مع استمرار إطلاق البنادق للنار
لإعلان الفرح هذه المرة وليس للتعبير عن الخوف كما وقع سالفا. وبشكل مطابق
لتقاليدهم، كان اليهود، الفرحون بالخلاص، سباقين إلى تزيين الملاح
بالأعلام، مع إرسال بعثة ممثلة لهم إلى دار المخزن لتهنئته، بعثة رافقها
الموسيقيون وأنشدت طوال الطريق: «هاذي فرحة بْسيدنا، هاذي في خاطر
سيدنا!». شيئا فشيئا، لكن بابتهاج أقل، تعاقبت وفود جميع «حناطي» ومهن
المدينة، تحت رئاسة مقدميها، صاعدة «الطلعة» التي تقود إلى فاس الجديد.
ومع ظلمة مساء اليوم نفسه، أبهر السلطان المصلح عاصمته عبر إطلاق الشهب
الصناعية.
«دامت الاحتفالات سبعة أيام بقرار من الحكومة، لكن وفق ترتيب مسبق. هكذا،
دعا العامل، صباح فاتح فبراير، شرفاء وأعيان وعلماء فاس لـ»نزاهة» عند
السلطان، مصدرا تعليماته لهم بوضع ثياب بيضاء للتعبير عن حبورهم، فأكلوا
هنيئا وشربوا مريئا واستمتعوا بالموسيقى في القصر.
«وبينما ملأت الأعلام الأسواق، زين التجار حوانيتهم بالزرابي أو بأنسجة
متآكلة مقصبة بخيوط الحرير والذهب. طوال الأسبوع إذن، احتضنت مختلف أحياء
المدينة «النزاهة» تلو الأخرى، ورغم أن أغلبيتها ظلت متواضعة وغير ملحوظة،
فقد كان بالإمكان الانتباه لها حين يوصد أصحابها أبواب الأزقة، حاظرين
بذلك عبور أحيائهم خلال النهار. وفي يوم الاحتفالات الأخير، وضع الحاج
ابراهيم السوسي، وهو فاسي قح، منزله رهن إشارة حنطة الطحَّانين لإقامة
نزاهتهم الخاصة فيها. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الحاج من أهم التجار
المغاربة العاملين في سان ـ لوي بالسينغال، حيث حصل على الجنسية الفرنسية.
حضرتُ هذه «النزاهة» بدعوة من رب البيت، فوجدت العديد من الطحانين،
بأزيائهم الفاخرة، يتغذون والموسيقى تشنف أسماعهم، ومعها خرير المياه
المتدفقة، محققين بذلك الارتباط بين فرحهم الذاتي ونشوة المخزن. وأنا في
البيت، لاحظتُ وجود الدرقاوي الذي سبقت له الاستفادة، قبل أسبوع، من
انفعال الناس في طريق جسر سبو. كان صاحبنا يتنقل بين المدعوين، ملتقطا
فتات السعادة العامة.»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
يهود فاس يحنطون الرؤوس المقطوعة لتعليقها في باب المحروق
نصل مع حلقة
اليوم إلى نهاية الفصل الذي خصصه أوبان ضمن كتابه لبوحمارة وانتفاضته
ومطالبته بالعرش ومحاولات المخزن للقضاء عليه، وهو الفصل الذي اختتم
تحريره في 10 فبراير 1903:
«في الغد، وصلت فاس غنيمة الحرب، أي الأربعون رأسا المقطوعة، في «شواريات»
تحملها دواب، متبوعة بالأسرى الذين اجتازوا المدينة صائحين: «الله ينصر
مولاي عبدالعزيز! الله ينعل بوحمارة!». ينحدر بعض المقبوض عليهم من غياثة،
لكن أغلبيتهم الساحقة تنتمي للحياينة، وقد اقتيدوا جميعا إلى سجن المدينة
على التو. ولو تحققت الإرادة السماوية ووعد بني ورياغل بأسر الروكَي، لكان
ولوجه فاس أكثر لمعانا، ولتعرض لـ»الطوفة» على متن حمار، والمخازنية
يبرحونه ضربا بالعصي، ومعهم كل الماجنين من العامة.
«بمجرد الكشف عن الرؤوس المبتورة تم تمليحها، وفق العادة، من طرف يهود
استدعاهم شيخ الملاح خصيصا لأداء هذه المهمة، لتعلق لاحقا في قضبان باب
المحروق، الفضاء المعهود لمثل هذه العروض. وما أن حل المساء حتى وفد ستة
يهود بلباس أسود، وصعدوا الباب لنزع الرؤوس المعلقة به سالفا، والتي يدل
تعفنها على أن المخزن لم يحقق انتصارا عسكريا منذ مدة طويلة. بعد هذا،
وببطء ومنهجية، أثبتوا الرؤوس الجديدة محل القديمة في فجوات الحجارة.
«هذا، وبسبب خيبة الأمل المتولدة عن عدم اكتمال انتصار 29 يناير، قرر
المخزن إقامة مْحلة أخرى وتكليفها بمطاردة بوحمارة للقبض عليه، حتى لو
تطلب الأمر اقتحام تازا نفسها. وقد تحمل وزير الحرب عواقب غيظ المخزن،
فتلقى الأمر بقيادة المْحلة، وبالبقاء ضمنها وعدم الظهور أمام السلطان إلا
بعد إخضاع القبائل المنتفضة واعتقال الروگي. كان هذا القرار بمثابة إبعاد
له عن دار المخزن لمدة غير محدودة، وهو وضع غير مريح بالنسبة لوزير يتمتع
بحظوة خاصة. سافر سي المهدي المنبهي يوم فاتح فبراير، على رأس ثمانية ألف
جندي، وهم يمثلون تقريبا مجموع رجال المخزن حاليا، إذ لم يمكث في المْطافي
ومحلة الـ»أفراكَ» سوى بضع مئات من العساكر، على سبيل الاحتياط. أخذ وزير
الحرب حريمه وإماءه الزنجيات معه، وكانت هذه أفضل وسيلة لتوفير حياة رغيدة
له خلال الحملة العسكرية، ولضمان أمن ذويه في حالة وقوع مشاكل في فاس. لم
تحقق مْحلة سي المهدي إنجازا يذكر منذ عشرة أيام، وهي تعسكر حاليا على بعد
ثماني ساعات من العاصمة، في أربعاء تيسة، على حدود قبيلة الحياينة، دون أن
تَجرُؤَ على التوغل فوق أراضي هؤلاء العصاة الأبديين الذين يُفاوضون
الجميع، مع خيانة ونهب رجال المخزن ورجال بوحمارة على حد سواء.
«أما الروگي، فقد عاد إلى جبال غياثة، وحسب ما يُروى، فهو مصاب في كتفه
ويتلقى العلاجات الضرورية. إنه مستقر لدى فخدة أهل الطاهر، التي تنحدر
منها زوجته، وينعم بحمايتها لأن شرفها، أو ما يسمى
بـ»المزراكَ»، يفرض عليها عدم تسليم الشخص الذي أصبح من ذويها، إثر زواجه
بإحدى بناتها. وفي الآن نفسه، فإن أنصاره تشتتوا، كما أن القبائل التابعة
له مرتبطة فيما بين بعضها البعض بـ»الرفود»، أو اتفاقيات المرور. وفي جميع
الأحوال، فلا مؤشر يدل على رغبتها في فك الارتباط مع الطامع في العرش، إذ
لم تبعث أية قبيلة منها وفدا لتقديم «الذبيحة» للمخزن بعد حدث 29 يناير،
وهي المرة الأولى، حسب الذاكرة المغربية، التي ينتج خلالها جو مُغِم من
هذا القبيل عن انتصار عسكري.»
اليوم إلى نهاية الفصل الذي خصصه أوبان ضمن كتابه لبوحمارة وانتفاضته
ومطالبته بالعرش ومحاولات المخزن للقضاء عليه، وهو الفصل الذي اختتم
تحريره في 10 فبراير 1903:
«في الغد، وصلت فاس غنيمة الحرب، أي الأربعون رأسا المقطوعة، في «شواريات»
تحملها دواب، متبوعة بالأسرى الذين اجتازوا المدينة صائحين: «الله ينصر
مولاي عبدالعزيز! الله ينعل بوحمارة!». ينحدر بعض المقبوض عليهم من غياثة،
لكن أغلبيتهم الساحقة تنتمي للحياينة، وقد اقتيدوا جميعا إلى سجن المدينة
على التو. ولو تحققت الإرادة السماوية ووعد بني ورياغل بأسر الروكَي، لكان
ولوجه فاس أكثر لمعانا، ولتعرض لـ»الطوفة» على متن حمار، والمخازنية
يبرحونه ضربا بالعصي، ومعهم كل الماجنين من العامة.
«بمجرد الكشف عن الرؤوس المبتورة تم تمليحها، وفق العادة، من طرف يهود
استدعاهم شيخ الملاح خصيصا لأداء هذه المهمة، لتعلق لاحقا في قضبان باب
المحروق، الفضاء المعهود لمثل هذه العروض. وما أن حل المساء حتى وفد ستة
يهود بلباس أسود، وصعدوا الباب لنزع الرؤوس المعلقة به سالفا، والتي يدل
تعفنها على أن المخزن لم يحقق انتصارا عسكريا منذ مدة طويلة. بعد هذا،
وببطء ومنهجية، أثبتوا الرؤوس الجديدة محل القديمة في فجوات الحجارة.
«هذا، وبسبب خيبة الأمل المتولدة عن عدم اكتمال انتصار 29 يناير، قرر
المخزن إقامة مْحلة أخرى وتكليفها بمطاردة بوحمارة للقبض عليه، حتى لو
تطلب الأمر اقتحام تازا نفسها. وقد تحمل وزير الحرب عواقب غيظ المخزن،
فتلقى الأمر بقيادة المْحلة، وبالبقاء ضمنها وعدم الظهور أمام السلطان إلا
بعد إخضاع القبائل المنتفضة واعتقال الروگي. كان هذا القرار بمثابة إبعاد
له عن دار المخزن لمدة غير محدودة، وهو وضع غير مريح بالنسبة لوزير يتمتع
بحظوة خاصة. سافر سي المهدي المنبهي يوم فاتح فبراير، على رأس ثمانية ألف
جندي، وهم يمثلون تقريبا مجموع رجال المخزن حاليا، إذ لم يمكث في المْطافي
ومحلة الـ»أفراكَ» سوى بضع مئات من العساكر، على سبيل الاحتياط. أخذ وزير
الحرب حريمه وإماءه الزنجيات معه، وكانت هذه أفضل وسيلة لتوفير حياة رغيدة
له خلال الحملة العسكرية، ولضمان أمن ذويه في حالة وقوع مشاكل في فاس. لم
تحقق مْحلة سي المهدي إنجازا يذكر منذ عشرة أيام، وهي تعسكر حاليا على بعد
ثماني ساعات من العاصمة، في أربعاء تيسة، على حدود قبيلة الحياينة، دون أن
تَجرُؤَ على التوغل فوق أراضي هؤلاء العصاة الأبديين الذين يُفاوضون
الجميع، مع خيانة ونهب رجال المخزن ورجال بوحمارة على حد سواء.
«أما الروگي، فقد عاد إلى جبال غياثة، وحسب ما يُروى، فهو مصاب في كتفه
ويتلقى العلاجات الضرورية. إنه مستقر لدى فخدة أهل الطاهر، التي تنحدر
منها زوجته، وينعم بحمايتها لأن شرفها، أو ما يسمى
بـ»المزراكَ»، يفرض عليها عدم تسليم الشخص الذي أصبح من ذويها، إثر زواجه
بإحدى بناتها. وفي الآن نفسه، فإن أنصاره تشتتوا، كما أن القبائل التابعة
له مرتبطة فيما بين بعضها البعض بـ»الرفود»، أو اتفاقيات المرور. وفي جميع
الأحوال، فلا مؤشر يدل على رغبتها في فك الارتباط مع الطامع في العرش، إذ
لم تبعث أية قبيلة منها وفدا لتقديم «الذبيحة» للمخزن بعد حدث 29 يناير،
وهي المرة الأولى، حسب الذاكرة المغربية، التي ينتج خلالها جو مُغِم من
هذا القبيل عن انتصار عسكري.»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
هل فعلا رُحِّل المولى عبد العزيز إلى لندن من طرف حوريتين بريطانيتين؟
إذا كان
الفرنسي أوغست مولييراس قد انتهى من صياغة كتابه «زكارة، قبيلة زناتية غير
مسلمة بالمغرب» في مارس 1905 ، الكتاب الذي أشرنا له في حلقة سالفة،
فإنَّه ضَمَّن صفحات مؤلفه نص مقال نشره في أعداد يومية Echo d›Oran (صدى
وهران), المؤرخة في 28 فبراير وفاتح، 2 و 3 مارس 1903، تحت عنوان «وقائع
من المغرب».
قبيل تقديم مؤلفه للمطبعة، خطَّ أوغست مولييراس الفقرات التالية لتبرير إعادة نشر مقال 1903:
«في تلك الحقبة (بداية حرَكة بوحمارة)، كان رُسُل المشاغب المغربي يجوبون
عمالة وجدة، جبالة والريف، وكانت أسطورة مبهرة تُلَمِّع بداية حكم المنافس
السعيد للمولى عبد العزيز. كانت القصائد العربية والبربرية تنتقل من دوار
إلى دوار، ومن مدينة إلى مدينة، وكانت أبياتها تلج كل كَفْر. كانت تنتقل
بين الناس لتعبر الحدود المغربية ـ الجزائرية وتصل إلى داخل المعسكرات
الفرنسية. كانت القصائد تلك تجسد رسائل متقدة وغير قابلة للحجز، تُثير
وتهز المشاعر وتبهج السكان الجزائريين الأصليين الذين كان قلبهم يخفق
دائما بقوة كلما تعلق الأمر بقضايا الإسلام المقدسة.
«كانت الحرَكة تلك خارقة وغير منتظرة، لدرجة التأثير على نصف إمبراطورية
بفِعل رجل يدَّعي تحقيق المعجزات ـ مشعوذ. ماذا! بوحمارة سيكرر إذن، بعد
مرور حوالي ألف سنة، نفس ملحمة أبو يزيد الرهيبة والدامية. لقد كان أبو
يزيد زناتيا كذلك، وكان مولى مهولا يحشد الشعوب. كان أبو يزيد يركب دائما،
كذلك، ظهر حمار رمادي اللون، وهذا ما جعله يحمل، بشكل طبيعي ومثله مثل
الآخر، كنية «أبو حمار».
«كم تُكرر الوقائع نفسها في عالمنا السفلي: من الأسطورة اغترف زعيم تازا
الجديد قوته، والأسطورة ستتكفل كذلك باندحاره. واليوم، وقد تخلى عنه
المغنون والشعراء، وفقد لهجة الآلهة السحرية التي سندت صعود نجمه، فإن
هانيبال الزناتي المعاصر يقبع في معسكره الفتاك وسط عمالة وجدة، في قلب
زناتة المتعذرة القهر. وهو يحاول، من هناك، الصمود إلى النهاية، مواجها
أعاصير الشرق والغرب، من دون رفع عينيه إلى سماء ربيع سنة 1905 الجارية،
ومن دون التساؤل إن كان نجمه قد بدأ يتهاوى.
«لكن، لنعد إلى بدايات المغامرة المجنونة للرجل الجريء والمجهول الهوية
الذي زعم، في تازا، بأنه الأخ الأكبر للسلطان، الأمير مولاي مْحمد المصاب
بالعور(...) . خلال تلك الفترة، كان غليان غير قابل للوصف يخترق ساكنة
الشمال الشرقي المغربي المدمنة على الحرب، وكان الجميع متأكدا حتى النخاع
بأن الأمير الشريف قد فر من سجنه بمكناس وحلَّ بتازا لرفع راية الإسلام.
كانوا متيقنين، بشكل لا يرقى إليه الشك، بأن السلطان الحقيقي، المولى عبد
العزيز، قد خُدع ورُحِّل إلى لندن من طرف حوريتين بريطانيتين. كانوا
متشبعين بفكرة كون الذي يحكم بفاس الآن ليس سوى الإنجليزي ماك لين، ضابط
الصف السابق في الجيش البريطاني والمستشار السابق المفضل لدى المولى عبد
العزيز. لقد كانوا يلقبون ماك لين بـ»الكْرُوني» (الكولونيل) ويعتقدون
بأنه استغل شبهه بابن رُقية (والدة المولى عبد العزيز) ليأخذ مكانه. في
رحم هذه الظروف السائدة تخلَّقت الأسطورة التالية التي سبق ونشرت مضمونها
في أعداد يومية Echo d›Oran الصادرة أيام 28 فبراير وفاتح، 2 و 3 مارس
1903، وهي الأسطورة التي كانت تُحَمِّس وتُهيِّج المتزمتين وتنتشر مثل
النار في الهشيم».
الفرنسي أوغست مولييراس قد انتهى من صياغة كتابه «زكارة، قبيلة زناتية غير
مسلمة بالمغرب» في مارس 1905 ، الكتاب الذي أشرنا له في حلقة سالفة،
فإنَّه ضَمَّن صفحات مؤلفه نص مقال نشره في أعداد يومية Echo d›Oran (صدى
وهران), المؤرخة في 28 فبراير وفاتح، 2 و 3 مارس 1903، تحت عنوان «وقائع
من المغرب».
قبيل تقديم مؤلفه للمطبعة، خطَّ أوغست مولييراس الفقرات التالية لتبرير إعادة نشر مقال 1903:
«في تلك الحقبة (بداية حرَكة بوحمارة)، كان رُسُل المشاغب المغربي يجوبون
عمالة وجدة، جبالة والريف، وكانت أسطورة مبهرة تُلَمِّع بداية حكم المنافس
السعيد للمولى عبد العزيز. كانت القصائد العربية والبربرية تنتقل من دوار
إلى دوار، ومن مدينة إلى مدينة، وكانت أبياتها تلج كل كَفْر. كانت تنتقل
بين الناس لتعبر الحدود المغربية ـ الجزائرية وتصل إلى داخل المعسكرات
الفرنسية. كانت القصائد تلك تجسد رسائل متقدة وغير قابلة للحجز، تُثير
وتهز المشاعر وتبهج السكان الجزائريين الأصليين الذين كان قلبهم يخفق
دائما بقوة كلما تعلق الأمر بقضايا الإسلام المقدسة.
«كانت الحرَكة تلك خارقة وغير منتظرة، لدرجة التأثير على نصف إمبراطورية
بفِعل رجل يدَّعي تحقيق المعجزات ـ مشعوذ. ماذا! بوحمارة سيكرر إذن، بعد
مرور حوالي ألف سنة، نفس ملحمة أبو يزيد الرهيبة والدامية. لقد كان أبو
يزيد زناتيا كذلك، وكان مولى مهولا يحشد الشعوب. كان أبو يزيد يركب دائما،
كذلك، ظهر حمار رمادي اللون، وهذا ما جعله يحمل، بشكل طبيعي ومثله مثل
الآخر، كنية «أبو حمار».
«كم تُكرر الوقائع نفسها في عالمنا السفلي: من الأسطورة اغترف زعيم تازا
الجديد قوته، والأسطورة ستتكفل كذلك باندحاره. واليوم، وقد تخلى عنه
المغنون والشعراء، وفقد لهجة الآلهة السحرية التي سندت صعود نجمه، فإن
هانيبال الزناتي المعاصر يقبع في معسكره الفتاك وسط عمالة وجدة، في قلب
زناتة المتعذرة القهر. وهو يحاول، من هناك، الصمود إلى النهاية، مواجها
أعاصير الشرق والغرب، من دون رفع عينيه إلى سماء ربيع سنة 1905 الجارية،
ومن دون التساؤل إن كان نجمه قد بدأ يتهاوى.
«لكن، لنعد إلى بدايات المغامرة المجنونة للرجل الجريء والمجهول الهوية
الذي زعم، في تازا، بأنه الأخ الأكبر للسلطان، الأمير مولاي مْحمد المصاب
بالعور(...) . خلال تلك الفترة، كان غليان غير قابل للوصف يخترق ساكنة
الشمال الشرقي المغربي المدمنة على الحرب، وكان الجميع متأكدا حتى النخاع
بأن الأمير الشريف قد فر من سجنه بمكناس وحلَّ بتازا لرفع راية الإسلام.
كانوا متيقنين، بشكل لا يرقى إليه الشك، بأن السلطان الحقيقي، المولى عبد
العزيز، قد خُدع ورُحِّل إلى لندن من طرف حوريتين بريطانيتين. كانوا
متشبعين بفكرة كون الذي يحكم بفاس الآن ليس سوى الإنجليزي ماك لين، ضابط
الصف السابق في الجيش البريطاني والمستشار السابق المفضل لدى المولى عبد
العزيز. لقد كانوا يلقبون ماك لين بـ»الكْرُوني» (الكولونيل) ويعتقدون
بأنه استغل شبهه بابن رُقية (والدة المولى عبد العزيز) ليأخذ مكانه. في
رحم هذه الظروف السائدة تخلَّقت الأسطورة التالية التي سبق ونشرت مضمونها
في أعداد يومية Echo d›Oran الصادرة أيام 28 فبراير وفاتح، 2 و 3 مارس
1903، وهي الأسطورة التي كانت تُحَمِّس وتُهيِّج المتزمتين وتنتشر مثل
النار في الهشيم».
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الحريمُ والحاجِبُ
يقول أوغست
مولييراس خلال سرده لـ «الأسطورة»، وهو العنوان الذي انتقاه لسلسلة
مقالاته حول بوحمارة المنشورة في أعداد يومية Echo d›Oranالصادرة أيام 28
فبراير وفاتح، 2 و 3 مارس 1903:
«حوالي نهاية الصيف الماضي (1902 )، قام سي أحمد الزياني، القائد القوي
لقبيلة زيان البربرية المستقرة شمال واد أم الربيع، بإهداء أجمل بناته
للسلطان الشاب مولاي عبد العزيز. كانت الفتاة جوهرة حقيقية، لاتليق سوى
بسليل الدوحة النبوية، وقد تم نقلها إلى أحد قصور السلطان في فاس. وذات
صباح، بعد مرور عدة أيام، توصل سي أحمد، الذي كان قد عاد مطمئنا إلى بيته،
من ابنته، التي كانت تعرف صدفة القراءة والكتابة، برسالة مختصرة تخبره
ضمنها بغياب السلطان من القصر وبحلول إنجليزي كافر مكانه.»
شد القائد الرحال إلى مراكش بسرعة، وهناك قابل مولاي مْحمد، أخ السلطان
الأكبر، ليخبره بأن أخاه ليس في فاس، وبأن كافرا حل محله! على التو،
استدعى مولاي مْحمد بسرية، يضيف مولييراس، أحد الوزراء الذي كان موجودا
آنذاك في مراكش. «لم يحضر الوزير الموعد إلا ليلا، ليفلت من عيون الجواسيس
الذين يوظفهم السلطان لرصد حركات وسكنات مسؤولي المملكة الكبار. وبالفعل،
فالبلاط لن ينظر بعين الرضا لهذه الزيارة إذا وصله خبرها، خاصة أن الأمير
شخصية خطيرة وأنه لم يعلن صراحة التنازل عن حقوقه في العرش. ولمزيد من
الحيطة والحذر، ارتدى كاتب الدولة الشريفي ملابس متسول قذرة ليساعده تنكره
على الوصول إلى بيت الأسير الملكي بدون صعوبة.
«بعد تقبيل يدي مولاي مْحمد مرارا وتكرارا، شرع الوزير في الكلام قائلا:
- الله يبارك أيام مولاي! مولاي طلب حضور عبده فجاء العبد.
بصوت مرتفع، وضع قائد زيان الخشن حدا لطقوس الوافد الجديد المتملقة:
- الأمر لا يتعلق بهذا! بل بمعرفة مكان السلطان.
أجابه الوزير:
- أين تريده أن يكون باستثناء فاس، حيث ظل يستقبلني يوميا مؤخرا؟
- وابنتي، أين هي؟
- لقد أعطيتها للسلطان، ومن المفروض أنها بجانبه الآن.
«رد القائد وهو يسلم كتاب بنته إلى رجل الدولة:
- تناول، خذ، اقرأ وتأمل هذه الرسالة.
- يا ربي! ياربي! صرخ سيادته في أوج صدمته.
«كان الأمير السجين قد نهض. شاحبا كان ومرتعشا. الخبر السعيد حول استرجاعه
الحرية قريبا وشغور العرش أيقظ غرائزه العنيفة كرجل حرب. مكث يمشي بخطوات
متقطعة داخل الغرفة الضيقة والطويلة، المضاءة بشمعدانين برونزيين ثقيلين،
صارخا كلمات غير مترابطة:
- عبد العزيز!... الإنجليزي الكافر!... رسالة!... حصان!... الجهاد!...
«الأمير والوزير والقائد موجودون الآن، جميعهم، داخل المسكن المتداعي لأحد
الشيوخ: عراف مراكش البارع، العارف المعصوم بالغيب، الذي يفك الألغاز
الأكثر تعقيدا في بلاد الألغاز هذه. متمتعا بنسمات الحرية التي هبت عليه
أخيرا، بفضل الأحداث الجليلة الجديدة وتواطؤ عبدة الشمس المشرقة، تصرف أخ
السلطان كسيد إزاء الوزير، آمرا إياه:
- اسأل هذا الرجل! أنت تعرف ما عليك سؤاله عنه!
«بعد ذلك, أضاف بصوت خفيض:
- من الضروري أن أبقى في الظل، فساعتي لم تدق بعد.
«بعد انتهاء الوزير من تقديم شروحه، بانت علامات الحيرة والتأمل على الشيخ
المسن جليا. إنه مرتبك لأول مرة في حياته، بسبب غرابة المشكلة المطروحة
عليه وعجزه عن حلها هنا، بعيدا من فاس. أغضب صمت الشيخ المطبق الأمير
المتلهف فصاح:
- ماذا نفعل هنا إذا، وهذا العجوز يلوذ بالصمت؟
«أجاب الشيخ الوقور الذي سبق واكتشف هوية الأمير:
«- مولاي مْحمد، لا أحد يستطيع فك هذا اللغز سوى والدة مولاي عبد العزيز.
«لم يتسرب أي خبر عن عملية فرار (مولاي مْحمد)، لا داخل مدينة مراكش ولا
خارج أسوارها، رغم أن الجميع لاحظ عبور قافلة الوزير ورجاله التلال
والأودية تحت الشمس المحرقة. وكما جرت العادة بذلك، تم تقديم الضيافة
التقليدية للمسؤول المخزني، لكن لا أحد، من بين فلاحي الدواوير والقرى
البسطاء، خمَّن بأن الرجل الراقد والملفوف بالحياك، والشاخر في خيمة
الوزير، لم يكن سوى الأخ الأكبر للسلطان، ذلك الأمير الذي سيخصه القدر،
مثلما يتلاعب بنا جميعا، بدور بارز وخطير.»
مولييراس خلال سرده لـ «الأسطورة»، وهو العنوان الذي انتقاه لسلسلة
مقالاته حول بوحمارة المنشورة في أعداد يومية Echo d›Oranالصادرة أيام 28
فبراير وفاتح، 2 و 3 مارس 1903:
«حوالي نهاية الصيف الماضي (1902 )، قام سي أحمد الزياني، القائد القوي
لقبيلة زيان البربرية المستقرة شمال واد أم الربيع، بإهداء أجمل بناته
للسلطان الشاب مولاي عبد العزيز. كانت الفتاة جوهرة حقيقية، لاتليق سوى
بسليل الدوحة النبوية، وقد تم نقلها إلى أحد قصور السلطان في فاس. وذات
صباح، بعد مرور عدة أيام، توصل سي أحمد، الذي كان قد عاد مطمئنا إلى بيته،
من ابنته، التي كانت تعرف صدفة القراءة والكتابة، برسالة مختصرة تخبره
ضمنها بغياب السلطان من القصر وبحلول إنجليزي كافر مكانه.»
شد القائد الرحال إلى مراكش بسرعة، وهناك قابل مولاي مْحمد، أخ السلطان
الأكبر، ليخبره بأن أخاه ليس في فاس، وبأن كافرا حل محله! على التو،
استدعى مولاي مْحمد بسرية، يضيف مولييراس، أحد الوزراء الذي كان موجودا
آنذاك في مراكش. «لم يحضر الوزير الموعد إلا ليلا، ليفلت من عيون الجواسيس
الذين يوظفهم السلطان لرصد حركات وسكنات مسؤولي المملكة الكبار. وبالفعل،
فالبلاط لن ينظر بعين الرضا لهذه الزيارة إذا وصله خبرها، خاصة أن الأمير
شخصية خطيرة وأنه لم يعلن صراحة التنازل عن حقوقه في العرش. ولمزيد من
الحيطة والحذر، ارتدى كاتب الدولة الشريفي ملابس متسول قذرة ليساعده تنكره
على الوصول إلى بيت الأسير الملكي بدون صعوبة.
«بعد تقبيل يدي مولاي مْحمد مرارا وتكرارا، شرع الوزير في الكلام قائلا:
- الله يبارك أيام مولاي! مولاي طلب حضور عبده فجاء العبد.
بصوت مرتفع، وضع قائد زيان الخشن حدا لطقوس الوافد الجديد المتملقة:
- الأمر لا يتعلق بهذا! بل بمعرفة مكان السلطان.
أجابه الوزير:
- أين تريده أن يكون باستثناء فاس، حيث ظل يستقبلني يوميا مؤخرا؟
- وابنتي، أين هي؟
- لقد أعطيتها للسلطان، ومن المفروض أنها بجانبه الآن.
«رد القائد وهو يسلم كتاب بنته إلى رجل الدولة:
- تناول، خذ، اقرأ وتأمل هذه الرسالة.
- يا ربي! ياربي! صرخ سيادته في أوج صدمته.
«كان الأمير السجين قد نهض. شاحبا كان ومرتعشا. الخبر السعيد حول استرجاعه
الحرية قريبا وشغور العرش أيقظ غرائزه العنيفة كرجل حرب. مكث يمشي بخطوات
متقطعة داخل الغرفة الضيقة والطويلة، المضاءة بشمعدانين برونزيين ثقيلين،
صارخا كلمات غير مترابطة:
- عبد العزيز!... الإنجليزي الكافر!... رسالة!... حصان!... الجهاد!...
«الأمير والوزير والقائد موجودون الآن، جميعهم، داخل المسكن المتداعي لأحد
الشيوخ: عراف مراكش البارع، العارف المعصوم بالغيب، الذي يفك الألغاز
الأكثر تعقيدا في بلاد الألغاز هذه. متمتعا بنسمات الحرية التي هبت عليه
أخيرا، بفضل الأحداث الجليلة الجديدة وتواطؤ عبدة الشمس المشرقة، تصرف أخ
السلطان كسيد إزاء الوزير، آمرا إياه:
- اسأل هذا الرجل! أنت تعرف ما عليك سؤاله عنه!
«بعد ذلك, أضاف بصوت خفيض:
- من الضروري أن أبقى في الظل، فساعتي لم تدق بعد.
«بعد انتهاء الوزير من تقديم شروحه، بانت علامات الحيرة والتأمل على الشيخ
المسن جليا. إنه مرتبك لأول مرة في حياته، بسبب غرابة المشكلة المطروحة
عليه وعجزه عن حلها هنا، بعيدا من فاس. أغضب صمت الشيخ المطبق الأمير
المتلهف فصاح:
- ماذا نفعل هنا إذا، وهذا العجوز يلوذ بالصمت؟
«أجاب الشيخ الوقور الذي سبق واكتشف هوية الأمير:
«- مولاي مْحمد، لا أحد يستطيع فك هذا اللغز سوى والدة مولاي عبد العزيز.
«لم يتسرب أي خبر عن عملية فرار (مولاي مْحمد)، لا داخل مدينة مراكش ولا
خارج أسوارها، رغم أن الجميع لاحظ عبور قافلة الوزير ورجاله التلال
والأودية تحت الشمس المحرقة. وكما جرت العادة بذلك، تم تقديم الضيافة
التقليدية للمسؤول المخزني، لكن لا أحد، من بين فلاحي الدواوير والقرى
البسطاء، خمَّن بأن الرجل الراقد والملفوف بالحياك، والشاخر في خيمة
الوزير، لم يكن سوى الأخ الأكبر للسلطان، ذلك الأمير الذي سيخصه القدر،
مثلما يتلاعب بنا جميعا، بدور بارز وخطير.»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
«الكروني» ماك لين يحكم المغرب باسم المولى عبد العزيز؟!
نواصل في هذه
الحلقة متابعة ما كتبه أوغست مولييراس خلال سرده لـ «الأسطورة»، وهو
العنوان الذي انتقاه لسلسلة مقالاته حول بوحمارة المنشورة في أعداد يومية
Echo d›Oranالصادرة أيام 28 فبراير وفاتح، 2 و 3 مارس 1903:
«حين الوصول إلى فاس (وصول مولاي مْحمد وصهر المولى عبد العزيز وأحد وزراء
هذا الأخير وافدين من مراكش)، تم إخفاء مولاي مْحمد في منزل آمن، ليجهد
الوزير نفسه بالبحث عن وسيلة للاتصال برُقية، السلطانة-الأم.
«النفوذ إلى الحريم بالمغرب ليس مستحيلا كما يحلو لنا ترديد ذلك نحن
الأوروبيين، إذ ثمة سُبُل يعرفها أهل البلد، تسمح بوصول الرسائل إلى
الموجودات داخله.
«ولكونها متعودة على تبليغها رسائل من كل الأنواع، لم تفاجأ رُقية بمثول
الساحرة العجوز، مبعوثة الوزير، بين يديها. أما المطلوب منها، أي زيارة
ابنها والتأكد من هويته وتقديم شهادتها بعد ذلك، فهو أمر سهل المنال لن
تنتج عنه أدنى عواقب.
- امكثي هنا، قالت للعجوز الطاعنة في السن بعد أن أخذتها إلى غرفة فارغة في
السراي، سأعود بعد قليل.
«وصلت السلطانة إلى مدخل الجناح الخاص بالسلطان. إنه عبارة عن غرفة خفيضة
ومظلمة، ذات نوافذ صغيرة مسيجة بقضبان لا تكاد تعلو على سطح الأرض. وعلى
كوات السجن هذا، أدت الظلال المبللة للدّرْدار والنّيْس إلى نمو النبات
المتسلق واللّبْلاب.
«في قلب الحجرة، يجلس رجل القرفصاء فوق زرابي مزركشة مكومة وفق الطريقة
العربية، وأغطية الرأس تحجب جبينه. إنه ينتظر زيارة الملكة-الأم.
«دخلت الغرفة بلا تكلف، وهي متيقنة أن ابنها الحبيب، عبد العزيز، سيأتي
بنفسه، كما يفعل دائما، إلى عتبة الباب لتقبيل أعلى كتفها.
«لكن هذا الطفل الذي وهبته الكثير من الحب، هذا الطفل الذي يدين لقدراتها
الاستثنائية كأم وحبيبة وزوجة بتربعه على آخر عرش مسلم فعلا في شمال
إفريقيا، هذا الطفل لا يحرك ساكنا ولا يستقبلها بالحفاوة اللطيفة التي
عودها عليها في الماضي، لما كانت تقابله للحديث عن شؤون السياسة المغربية
المعقدة.
«دنت من الرجل مرتعشة لتسأله:
- يا مولاي، يا بني، هل أنت مريض؟
«مدت يديها المتوسلتين أماما، كأنها تبحث عن اليدين المخبأتين تحت الأنسجة
الموصلية البيضاء للذي لازالت تعتقده ابنها. لحظتها، وبصوت لا يمت بصلة
لصوت عبد العزيز، نطق الرجل بضع كلمات:
- لا، لست مريضا يا أمي. إنني في صحة جيدة بفضل الله.
- ليس هو!... ليس هو!... كررت رُقية لنفسها، بعد أن تأقلمت عيناها مع ظلمة
الغرفة.»
وحسب رواية الكاتب دائما، وبعد تأكد للا رُقية بأن بريطانيّا قد سطا على
مكان ابنها وحلَّ محلَّه، تم احتجازها لتصفيتها بعد ذلك مباشرة، بواسطة وضع
السم «في الشاي المعطر بالعنبر الذي كانت تحب احتساءه جرعة جرعة»، كما أن
الساحرة التي قامت بدور الوسيطة أخبرت مولاي مْحمد بما علمت، مؤكدة ترحيل
مولاي عبدالعزيز إلى لندن واحتلال إنجليزي يشبهه كثيرا العرش مكانه.
ويعلق مولييراس في أحد الهوامش على هذا الأمر الأخير مسجلا: «لعبت أسطورة
البريطاني هذه، والتي مفادها أنه كولونيل في الأصل استولى على عرش عبد
العزيز بهذه الطريقة العجيبة، دورا مهما في نجاح المطالب بالعرش. وهكذا،
أصبح أنصار السلطان يُلقّبون، إلى حدود اللحظة، بـ»اصحاب الكرونيٍ». ويبدو
أن «الكروني» (الكولونيل) المعني رجل يدعى ماك لين، وهو شخص جد معروف في
البلاط الشريفي.»
بعد ذلك، يضيف مولييراس «وبسبب تواضعه أو بفضل نباهته العميقة، قرر الأمير
الأعور، الأخ الأكبر للسلطان، الابن الشرعي لآخر الملوك، الذي نحّّته رُقية
المتوفاة الآن عن العرش لتنصيب ابنها فوقه، عدم امتطاء صهوة أي جواد. إنه
لا يريد ركوب غير ظهر حمارة، مفسرا لأنصاره من قبيلة غياثة، وكذلك لممثلي
قبائل الأطلس الأمازيغية، أنه لا يحارب أخاه السلطان ولا يطمع في العرش،
وشارحا لهم أنه أعلن الجهاد ضد المسيحيين ...، الإنجليز...، الذين اغتصبوا
حكم البلاد:
- أخي اختطف، سُرق من طرف البريطانيين، وهم اليوم سادة الحكومة المغربية!
«تلك هي الكلمات التي استمر مولاي مْحمد في ترديدها بلا كلل أو ملل، كلمات
كانت تنتشر بسرعة فائقة من شمال الإمبراطورية إلى جنوبها، بينما استمر
يهزم، في المعركة تلو الأخرى، جيش أخيه، أو جنود الذي اغتصب الحكم باسم
أخيه، وهو على رأس جيوشه، ممتطيا ظهر حمارة ومرتديا لباسا صوفيا متواضعا».
الحلقة متابعة ما كتبه أوغست مولييراس خلال سرده لـ «الأسطورة»، وهو
العنوان الذي انتقاه لسلسلة مقالاته حول بوحمارة المنشورة في أعداد يومية
Echo d›Oranالصادرة أيام 28 فبراير وفاتح، 2 و 3 مارس 1903:
«حين الوصول إلى فاس (وصول مولاي مْحمد وصهر المولى عبد العزيز وأحد وزراء
هذا الأخير وافدين من مراكش)، تم إخفاء مولاي مْحمد في منزل آمن، ليجهد
الوزير نفسه بالبحث عن وسيلة للاتصال برُقية، السلطانة-الأم.
«النفوذ إلى الحريم بالمغرب ليس مستحيلا كما يحلو لنا ترديد ذلك نحن
الأوروبيين، إذ ثمة سُبُل يعرفها أهل البلد، تسمح بوصول الرسائل إلى
الموجودات داخله.
«ولكونها متعودة على تبليغها رسائل من كل الأنواع، لم تفاجأ رُقية بمثول
الساحرة العجوز، مبعوثة الوزير، بين يديها. أما المطلوب منها، أي زيارة
ابنها والتأكد من هويته وتقديم شهادتها بعد ذلك، فهو أمر سهل المنال لن
تنتج عنه أدنى عواقب.
- امكثي هنا، قالت للعجوز الطاعنة في السن بعد أن أخذتها إلى غرفة فارغة في
السراي، سأعود بعد قليل.
«وصلت السلطانة إلى مدخل الجناح الخاص بالسلطان. إنه عبارة عن غرفة خفيضة
ومظلمة، ذات نوافذ صغيرة مسيجة بقضبان لا تكاد تعلو على سطح الأرض. وعلى
كوات السجن هذا، أدت الظلال المبللة للدّرْدار والنّيْس إلى نمو النبات
المتسلق واللّبْلاب.
«في قلب الحجرة، يجلس رجل القرفصاء فوق زرابي مزركشة مكومة وفق الطريقة
العربية، وأغطية الرأس تحجب جبينه. إنه ينتظر زيارة الملكة-الأم.
«دخلت الغرفة بلا تكلف، وهي متيقنة أن ابنها الحبيب، عبد العزيز، سيأتي
بنفسه، كما يفعل دائما، إلى عتبة الباب لتقبيل أعلى كتفها.
«لكن هذا الطفل الذي وهبته الكثير من الحب، هذا الطفل الذي يدين لقدراتها
الاستثنائية كأم وحبيبة وزوجة بتربعه على آخر عرش مسلم فعلا في شمال
إفريقيا، هذا الطفل لا يحرك ساكنا ولا يستقبلها بالحفاوة اللطيفة التي
عودها عليها في الماضي، لما كانت تقابله للحديث عن شؤون السياسة المغربية
المعقدة.
«دنت من الرجل مرتعشة لتسأله:
- يا مولاي، يا بني، هل أنت مريض؟
«مدت يديها المتوسلتين أماما، كأنها تبحث عن اليدين المخبأتين تحت الأنسجة
الموصلية البيضاء للذي لازالت تعتقده ابنها. لحظتها، وبصوت لا يمت بصلة
لصوت عبد العزيز، نطق الرجل بضع كلمات:
- لا، لست مريضا يا أمي. إنني في صحة جيدة بفضل الله.
- ليس هو!... ليس هو!... كررت رُقية لنفسها، بعد أن تأقلمت عيناها مع ظلمة
الغرفة.»
وحسب رواية الكاتب دائما، وبعد تأكد للا رُقية بأن بريطانيّا قد سطا على
مكان ابنها وحلَّ محلَّه، تم احتجازها لتصفيتها بعد ذلك مباشرة، بواسطة وضع
السم «في الشاي المعطر بالعنبر الذي كانت تحب احتساءه جرعة جرعة»، كما أن
الساحرة التي قامت بدور الوسيطة أخبرت مولاي مْحمد بما علمت، مؤكدة ترحيل
مولاي عبدالعزيز إلى لندن واحتلال إنجليزي يشبهه كثيرا العرش مكانه.
ويعلق مولييراس في أحد الهوامش على هذا الأمر الأخير مسجلا: «لعبت أسطورة
البريطاني هذه، والتي مفادها أنه كولونيل في الأصل استولى على عرش عبد
العزيز بهذه الطريقة العجيبة، دورا مهما في نجاح المطالب بالعرش. وهكذا،
أصبح أنصار السلطان يُلقّبون، إلى حدود اللحظة، بـ»اصحاب الكرونيٍ». ويبدو
أن «الكروني» (الكولونيل) المعني رجل يدعى ماك لين، وهو شخص جد معروف في
البلاط الشريفي.»
بعد ذلك، يضيف مولييراس «وبسبب تواضعه أو بفضل نباهته العميقة، قرر الأمير
الأعور، الأخ الأكبر للسلطان، الابن الشرعي لآخر الملوك، الذي نحّّته رُقية
المتوفاة الآن عن العرش لتنصيب ابنها فوقه، عدم امتطاء صهوة أي جواد. إنه
لا يريد ركوب غير ظهر حمارة، مفسرا لأنصاره من قبيلة غياثة، وكذلك لممثلي
قبائل الأطلس الأمازيغية، أنه لا يحارب أخاه السلطان ولا يطمع في العرش،
وشارحا لهم أنه أعلن الجهاد ضد المسيحيين ...، الإنجليز...، الذين اغتصبوا
حكم البلاد:
- أخي اختطف، سُرق من طرف البريطانيين، وهم اليوم سادة الحكومة المغربية!
«تلك هي الكلمات التي استمر مولاي مْحمد في ترديدها بلا كلل أو ملل، كلمات
كانت تنتشر بسرعة فائقة من شمال الإمبراطورية إلى جنوبها، بينما استمر
يهزم، في المعركة تلو الأخرى، جيش أخيه، أو جنود الذي اغتصب الحكم باسم
أخيه، وهو على رأس جيوشه، ممتطيا ظهر حمارة ومرتديا لباسا صوفيا متواضعا».
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
بوحمارة للقياد والشيوخ والأولياء: عبد العزيز باع المسلمين بالكفرة!
كما أشرنا إلى
ذلك في حلقة أمس، نشر أوغست مولييراس في كتابه «زكارة، قبيلة زناتية غير
مسلمة بالمغرب»، نسخة من الرسائل التي كان يوجهها القائم إلى قياد وشيوخ
وأولياء المنطقة الشمالية الشرقية من المغرب في بحر عام 1903. وتقول
الرسالة الخالية في أصلها من علامات التنقيط:
«الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله
«خدام الأعتاب الشريفة كافة قبيلة قلعية، وفقكم الله ورعاكم وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
«وبعد، فقد علمتم ما تظاهر به الفاسد الفتان الذي استعان بالكفر على ما
سول له الشيطان، وصار يسعى في تسويد صحائف الرعية، ويتسبب في حل نظام
القبائل بأوهام الطمع الغير المفيدة، وأثار بذلك مخالفة السنة والجماعة،
والخروج عن الإيمان والطاعة لقوله صلى الله عليه وسلم «من فارق الجماعة
قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».
«ولا يخفاكم صاحب هذه الأفعال الرديئة، عبد العزيز الذي باع المسلمين
بالكفرة، الذي بدل نعمة الله كفرا فخسر وطرد من دنيا وآخرة. في مثله قال
مولانا في كتابه الذي قمع فيه المعاندين والفجار»ألم ترى إلى الذين بدلوا
نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار». ويكفي في البعد منهم قوله تعالى
«ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار». فالشريعة فيه وأتباعه بالكفر
لحكمتهم بشهادة قوله «ومن يتولهم، فإنه منهم». وقال أيضا في حقه صاحب
التنزيل «ومن يتبدل الكفر بالإيمان، فقد ضل سواء السبيل».
«فحيث اتضح هذا للمسلمين، وجب عليهم أن يقتلوه لقوله عليه «من بدل دينه
فاقتلوه». بسبب تدليساته وتلبيساته استهوى ذوي العقول الخفاف، وصار يورطهم
في مواقع العقوق والخلاف، ويغريهم بالطمع على الانحلال والانحراف. ولولا
لطف الله بوجودنا والحمد لله، لعم الهلاك والعقوبة للجميع، واستوى في
المؤاخذة به العاصي والمطيع.
«فبعدما رددنا وجهتنا السعيدة للجهة التي ولد فيها تلك المعصية، قابلنا
بمخذول جيشه الردى. نشرنا عليهم جيشنا الأسعد المؤيد بتأييد سرمدي، فصاروا
بأيدينا جميعا أسرى، وصار رؤساء سوئهم في أمورهم حيارى، فبددناهم واحتوينا
على ذخائرهم حتى صاروا عبرة لمن اعتبر. وكل من تسبب في هلاك الرعية لا
يبقى له بحول الله بين الرعية أثر.
«وها نحن نجمع القبائل في نصرة الدين ليتميز الطيب من الخبيث، لعلمنا بأن
ذوي النهي والعقول منهم لم يرضوا منه هذا الحديث، فاقتضى نظرنا السديد
جميع القبائل، لتحصيل الفساد المذكور ليتحقق لنا من يبادر من القبائل بعمل
مشكور، وعليه فنأمركم أن تقدموا، في جد واجتهاد، بجمع الحركة على المعتاد،
وأقدموا بها في آثار الكتاب، عن عجل مع أجوادكم، بلا تراخ ولا امطال. وها
نحن وجهنا لكم البركة للأنجد الشريف الأسعد السيد المهدي بن الحاج محمد
البقال، ليجمع الأحراك منكم على التوالي ويتوجه بها لحضرتنا السعيدة،
لتغتنموا الفضل مع المسلمين في هذه المزية، وتجاهدون على الشريعة
المحمدية، فاسمعوا له وأطيعوا في هذا الملة، وكونوا عند الظن بكم بإصلاح
دينكم، كما كانت الأمم الماضية.
«أصلحكم الله وأعانكم والسلام.»
ذلك في حلقة أمس، نشر أوغست مولييراس في كتابه «زكارة، قبيلة زناتية غير
مسلمة بالمغرب»، نسخة من الرسائل التي كان يوجهها القائم إلى قياد وشيوخ
وأولياء المنطقة الشمالية الشرقية من المغرب في بحر عام 1903. وتقول
الرسالة الخالية في أصلها من علامات التنقيط:
«الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله
«خدام الأعتاب الشريفة كافة قبيلة قلعية، وفقكم الله ورعاكم وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
«وبعد، فقد علمتم ما تظاهر به الفاسد الفتان الذي استعان بالكفر على ما
سول له الشيطان، وصار يسعى في تسويد صحائف الرعية، ويتسبب في حل نظام
القبائل بأوهام الطمع الغير المفيدة، وأثار بذلك مخالفة السنة والجماعة،
والخروج عن الإيمان والطاعة لقوله صلى الله عليه وسلم «من فارق الجماعة
قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».
«ولا يخفاكم صاحب هذه الأفعال الرديئة، عبد العزيز الذي باع المسلمين
بالكفرة، الذي بدل نعمة الله كفرا فخسر وطرد من دنيا وآخرة. في مثله قال
مولانا في كتابه الذي قمع فيه المعاندين والفجار»ألم ترى إلى الذين بدلوا
نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار». ويكفي في البعد منهم قوله تعالى
«ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار». فالشريعة فيه وأتباعه بالكفر
لحكمتهم بشهادة قوله «ومن يتولهم، فإنه منهم». وقال أيضا في حقه صاحب
التنزيل «ومن يتبدل الكفر بالإيمان، فقد ضل سواء السبيل».
«فحيث اتضح هذا للمسلمين، وجب عليهم أن يقتلوه لقوله عليه «من بدل دينه
فاقتلوه». بسبب تدليساته وتلبيساته استهوى ذوي العقول الخفاف، وصار يورطهم
في مواقع العقوق والخلاف، ويغريهم بالطمع على الانحلال والانحراف. ولولا
لطف الله بوجودنا والحمد لله، لعم الهلاك والعقوبة للجميع، واستوى في
المؤاخذة به العاصي والمطيع.
«فبعدما رددنا وجهتنا السعيدة للجهة التي ولد فيها تلك المعصية، قابلنا
بمخذول جيشه الردى. نشرنا عليهم جيشنا الأسعد المؤيد بتأييد سرمدي، فصاروا
بأيدينا جميعا أسرى، وصار رؤساء سوئهم في أمورهم حيارى، فبددناهم واحتوينا
على ذخائرهم حتى صاروا عبرة لمن اعتبر. وكل من تسبب في هلاك الرعية لا
يبقى له بحول الله بين الرعية أثر.
«وها نحن نجمع القبائل في نصرة الدين ليتميز الطيب من الخبيث، لعلمنا بأن
ذوي النهي والعقول منهم لم يرضوا منه هذا الحديث، فاقتضى نظرنا السديد
جميع القبائل، لتحصيل الفساد المذكور ليتحقق لنا من يبادر من القبائل بعمل
مشكور، وعليه فنأمركم أن تقدموا، في جد واجتهاد، بجمع الحركة على المعتاد،
وأقدموا بها في آثار الكتاب، عن عجل مع أجوادكم، بلا تراخ ولا امطال. وها
نحن وجهنا لكم البركة للأنجد الشريف الأسعد السيد المهدي بن الحاج محمد
البقال، ليجمع الأحراك منكم على التوالي ويتوجه بها لحضرتنا السعيدة،
لتغتنموا الفضل مع المسلمين في هذه المزية، وتجاهدون على الشريعة
المحمدية، فاسمعوا له وأطيعوا في هذا الملة، وكونوا عند الظن بكم بإصلاح
دينكم، كما كانت الأمم الماضية.
«أصلحكم الله وأعانكم والسلام.»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
بوحمارة: لا أريد العرش، أريد فقط طرد الإنجليز الذين سرقوا مولانا السلطان!
نختتم في هذه الحلقة ما كتبه أوغست مولييراس خلال سرده لـ «الأسطورة»، وهو العنوان الذي انتقاه لسلسلة مقالاته حول بوحمارة المنشورة في أعداد يومية Echo d›Oranالصادرة أيام 28 فبراير وفاتح، 2 و 3 مارس 1903: «اليوم موعد السوق الأسبوعي، والحشود المسلحة متحلقة حول البراح الذي ما انفك يصرخ: - لا إله إلا الله! تعالوا معشر المؤمنين لسماع قراءة رسائل سيدنا السلطان! «الرسائل الإمبراطورية مستنسخة من بعضها البعض، ولا تمل من ترديد نفس الأسطوانة»، قصة السلطان المغيب من طرف إنجلترا، «الذي يظل، مع ذلك، العاهل الشرعي للمغرب.» ويواصل الكاتب الحكي موضحا: «ولا تتغير خلاصة الرسائل هي الأخرى أبدا، إذ تكرر: - ليسمحوا لي برؤية أخي. وسواء كان في فاس أو مراكش أو أي مكان آخر، فليترك المسلمين يرونه، وحينها سنكون أول من يقدم له الولاء. إن الإنجليزي الذي يحكم بدلا منه يختبئ في قصره بفاس، حيث يحظر علي الجميع رؤيته، باستثناء حاشيته المكونة من المرتدين الذين باعوا أنفسهم لبريطانيا منذ زمن بعيد. لا تبايعوني سلطانا... رغبتي الوحيدة هي طرد الإنجليز الملاعين الذين سرقوا مولانا وسيدنا السلطان. «يؤمن كل الذين لا يُبصرون من الأشياء إلا جانبا واحدا بوجود البركات والمعجزات على أرض الواقع. أما الساكنة المغربية، المنغمسة في عتمة التصوف الديني، فإنها تضفي أقصى درجات الإيمان على الأفعال الخارقة والعصية عن التفسير، مضيفة لهذا الإيمان ما تفرض الديانة الاعتقاد به، بدون تحليل ولا تفسير. «هؤلاء السكان يترقبون الآن الاختبار الخارق الذي يوشك المطالب بالعرش على اجتيازه في ضريح مولاي إدريس بزرهون. إنه امتحان خطير وصعب، وإذا حدثت المعجزة، فلن يجد السلطان الحقيقي ـ أو الذي يتقمص دوره ـ حلاّ آخر غير الفرار إذا أراد الإفلات من غضب الأغلبية الساحقة من رعايا الإمبراطورية. «كل العيون متوجهة إلى ضريح مؤسس الدولة الإدريسية: عيون الأمازيغيين والعرب والزنوج واليهود، عيون العلماء والجهلة. تبدو أنظارهم جميعا متطلعة إلى نفس الفضاء، وهم في الحقيقة يبصرون مولاي مْحمد متسلقا بعناء المنحدرات الخضراء للجبل المقدس. - أنظروا إليه! إنه لم يتوقف أمام النصب التذكاري لرشيد الوفي، العبد الذي تم عتقه، والوزير القوي لمولاي إدريس. لا، إن الأمير الأعور لا يفكر سوى في الوصول إلى الضريح المقدس الذي لا تفتح أبوابه لغير الملوك وكبار العلماء الأجلاء. ها هو يلجه رفقة الصدر الأعظم و «حْفيظ» الضريح، وها هم يسجدون جميعا أمام القبر المزركش برسومات خضراء اللون، قبر عاهل توفي منذ ألف ومائة وعشر سنوات قبل الآن. «خلف الرجال الثلاثة، أُغلقت أبواب الضريح الضخمة بواسطة الأقفال من طرف الحارس، وهي عملية حضرها الأعيان وحشود الجماهير. المفاتيح الآن في جيب الحارس، ومزاليج الأبواب منغرسة عميقا في الجدران لدرجة يستحيل الوصول معها إليها بالنسبة لنزلاء الضريح الثلاثة. يستحيل فتح الأبواب إذن من الداخل إلا بإرادة إلهية، بعد أن تتم الاستجابة للتضرع الملح للولي المتوفى. وإذا حدث ذلك، فالأبواب ستشرع تلقائيا، وتفسح مجال الخروج للذي اصطفاه الله ومولاي إدريس عاهلا على المسلمين. «أما إذا ظلت الأبواب موصدة، واضطر الحارس إلى فتحها بواسطة المفاتيح المتوفرة لديه للإفراج عن المتواجدين داخل الضريح، بعد ساعات من الانتظار، فهذا يعني أن المعجزة لم تحدث، وأن الله ومولاي إدريس يرفضان تربع رجل لا يتمتع بالعناية السماوية على عرش المغرب. «هي ذي المعجزة المنتظرة والمأمولة. وهي قابلة للتحقق تقريبا بشكل لا شك فيه، لأنه ثمة توافقات مع القوى السماوية يستطيع الإنسان إنجازها شرط ألا يكون بليدا، ومولاي مْحمد جد ذكي. فعلا وبكل صدق، فهو لا يعدم الحظوظ، بل إنه يتوفر على حظوظ كبيرة ليشرع أمامه باب الضريح الشهير من طرف الراحل الجليل، مولاي إدريس، نفسه. «وماذا بعد؟ «إنه السؤال الذي يؤرقكم أيها القراء الأعزاء، لكنه سؤال لا نستطيع الجواب عنه إلا عبر فرضيات لا تحصى ولا تعد، ذلك أن التكهن بالمستقبل شأن لا يقدر عليه سوى الأنبياء، علما أن آخرهم، الرسول الذي يعتبره المسلمون مؤسس ديانتهم، قد قال بأنه لا نبي بعده، وربما لا نبية كذلك.» | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
صحفية فرنسية تحاور بو حمارة وتصفه بالسلطان
سنة 1906، بعد
أن فقد بوحمارة مساندة كثير من القبائل له، خاصة بعد انتشار أخبار اتصالاته
ومناوراته مع الإسبان والفرنسيين، تراجع المطالب بعرش المغرب إلى قصبة
سلوان ليجعلها مقرا لحكمه. وبينما القوى الأجنبية تستعد لعقد مؤتمر
الخزيرات، قررت صحفية فرنسية تحقيق سبق صحفي بزيارة القلعة وإجراء حوار مع
الروكَي. الصحفية هذه تدعى كاميي دي غاست، كانت تعمل متعاونة مع مجلة «جو
سي تو»، وعلى صفحاتها نشرت تفاصيل زيارتها للجيلالي الزرهوني وحوارها معه.
احتل المقال حيزا مهما من المجلة (ست صفحات)، وتم تزيينه بما لا يقل عن
ثماني صور، وانتُقيَ له عنوان مثير هو: «ما قاله لي الروكَي «!
جاء في مقدمة المقال: «السيدة دي غاست التي قامت برحلات مفيدة إلى المغرب،
تسلحت خلالها بكثير من الشجاعة، قبلت، مشكورة، تخصيص سبق ذكرياتها الشخصية
مع الروكَي لقرائنا. وثمة تفصيل غريب لابد من الإشارة إليه: لقد تعرف
الروكَي على التي ستقوم بزيارته عبر صفحات مجلتنا «جو سي تو»، المجلة التي
سبق ونشرت مشاهدات الكاتبة خلال السباق البرمائي بين مدينتي الجزائر
وتولون».
«وأنا في الخزيرات في بحر عام 1906، تكتب الصحفية، خطرت بذهني فكرة لقاء
المطالب بعرش المغرب، خاصة وأنه قد بزغ من جديد على سطح الأحداث السياسية.
إلى حدود الفترة الأخيرة، كان يقال إنه منعزل في الريف، بل إن جيوش المولى
عبد العزيز كفت عن ملاحقته. لكن رويدا رويدا، بدأت الأخبار تتأكد: إن
الروكَي، بمعية مْحلة مهمة، حاضر بقوة في قصبة سلوان العتيقة، الواقعة على
بعد 25 كيلومترا من مليلية. وهو يحكم فعليا القبائل المجاورة بفرض الضرائب
عليها وتجنيد رجالها للحرب. إنه بكل اختصار يمارس مهام واختصاصات السلطان.
«بدا لي أنه من الأهمية بمكان التعرف على الجيلالي الزرهوني، هذا الرجل
الذي انطلق من زرهون، قريته المتواضعة، كأحد الخيالة البسطاء للسلطان مولاي
الحسن، ليعرف المحن على يد المخزن الذي رماه في السجن. استطاع الجيلالي
الفرار من سجنه بعد أن زور أمرا سلطانيا بالإفراج عنه بمهارة كبيرة. فر إذن
إلى الجزائر، وإلى تلمسان بالضبط، وهناك تابع دروسا في الأدب والدين
الإسلاميين. ومن هناك رحل إلى تونس حيث عاش باسم مستعار هو محمد لحفوسي، ثم
عاد إلى المغرب في الفترة ذاتها التي كان خلالها السلطان الشاب عبد العزيز
يمنح لشعبه فرجة مؤلمة ملؤها البلاهة والأخطاء.
«اللحظة كانت مواتية، إذن، للانتفاض، وهي المهمة التي ألهبها الزرهوني
بتوقده، بفكره الحاذق ومعرفته الدقيقة بالبشر. هكذا، كان الناس يرونه في
أسواق أحواز تازا، ممتطيا ظهر حمارة بيضاء، ومن هنا بزغت كنية بوحمارة التي
اشتهر بها. كان يخطب فيهم بطلاقة لسان استثنائية، يسخر من المخزن ويؤنب
السلطان.
«كانت خطب الروكَي النارية تلهب الحشود المتحلقة حوله وتهيجها. وكان الرجل
ذو الحمارة يصدح بأن الساعة قد دقت كي يرفع القناع، زاعما بأن اسمه مولاي
مْحمد وبأنه ابن السلطان مولاي الحسن. ثم يضيف بأن العرش انتزع منه، معلنا
مطالبته باسترجاعه. كان بوحمارة، المتضلع في علوم القرآن، يملك كذلك قدرات
استثنائية لتنفيذ ألعاب سحرية، وهو ما كان يؤديه أمام الحاضرين ببراعة،
مبهرا إياهم.
سنة 1906، بعد أن فقد بوحمارة مساندة كثير من القبائل له، خاصة بعد انتشار
أخبار اتصالاته ومناوراته مع الإسبان والفرنسيين، تراجع المطالب بعرش
المغرب إلى قصبة سلوان ليجعلها مقرا لحكمه. وبينما القوى الأجنبية تستعد
لعقد مؤتمر الخزيرات، قررت صحفية فرنسية تحقيق سبق صحفي بزيارة القلعة
وإجراء حوار مع الروكَي. الصحفية هذه تدعى كاميي دي غاست، كانت تعمل
متعاونة مع مجلة «جو سي تو»، وعلى صفحاتها نشرت تفاصيل زيارتها للجيلالي
الزرهوني وحوارها معه. احتل المقال حيزا مهما من المجلة (ست صفحات)، وتم
تزيينه بما لا يقل عن ثماني صور، وانتُقيَ له عنوان مثير هو: «ما قاله لي
الروكَي «!
جاء في مقدمة المقال: «السيدة دي غاست التي قامت برحلات مفيدة إلى المغرب،
تسلحت خلالها بكثير من الشجاعة، قبلت، مشكورة، تخصيص سبق ذكرياتها الشخصية
مع الروكَي لقرائنا. وثمة تفصيل غريب لابد من الإشارة إليه: لقد تعرف
الروكَي على التي ستقوم بزيارته عبر صفحات مجلتنا «جو سي تو»، المجلة التي
سبق ونشرت مشاهدات الكاتبة خلال السباق البرمائي بين مدينتي الجزائر
وتولون».
«وأنا في الخزيرات في بحر عام 1906، تكتب الصحفية، خطرت بذهني فكرة لقاء
المطالب بعرش المغرب، خاصة وأنه قد بزغ من جديد على سطح الأحداث السياسية.
إلى حدود الفترة الأخيرة، كان يقال إنه منعزل في الريف، بل إن جيوش المولى
عبد العزيز كفت عن ملاحقته. لكن رويدا رويدا، بدأت الأخبار تتأكد: إن
الروكَي، بمعية مْحلة مهمة، حاضر بقوة في قصبة سلوان العتيقة، الواقعة على
بعد 25 كيلومترا من مليلية. وهو يحكم فعليا القبائل المجاورة بفرض الضرائب
عليها وتجنيد رجالها للحرب. إنه بكل اختصار يمارس مهام واختصاصات السلطان.
«بدا لي أنه من الأهمية بمكان التعرف على الجيلالي الزرهوني، هذا الرجل
الذي انطلق من زرهون، قريته المتواضعة، كأحد الخيالة البسطاء للسلطان مولاي
الحسن، ليعرف المحن على يد المخزن الذي رماه في السجن. استطاع الجيلالي
الفرار من سجنه بعد أن زور أمرا سلطانيا بالإفراج عنه بمهارة كبيرة. فر إذن
إلى الجزائر، وإلى تلمسان بالضبط، وهناك تابع دروسا في الأدب والدين
الإسلاميين. ومن هناك رحل إلى تونس حيث عاش باسم مستعار هو محمد لحفوسي، ثم
عاد إلى المغرب في الفترة ذاتها التي كان خلالها السلطان الشاب عبد العزيز
يمنح لشعبه فرجة مؤلمة ملؤها البلاهة والأخطاء.
«اللحظة كانت مواتية، إذن، للانتفاض، وهي المهمة التي ألهبها الزرهوني
بتوقده، بفكره الحاذق ومعرفته الدقيقة بالبشر. هكذا، كان الناس يرونه في
أسواق أحواز تازا، ممتطيا ظهر حمارة بيضاء، ومن هنا بزغت كنية بوحمارة التي
اشتهر بها. كان يخطب فيهم بطلاقة لسان استثنائية، يسخر من المخزن ويؤنب
السلطان.
«كانت خطب الروكَي النارية تلهب الحشود المتحلقة حوله وتهيجها. وكان الرجل
ذو الحمارة يصدح بأن الساعة قد دقت كي يرفع القناع، زاعما بأن اسمه مولاي
مْحمد وبأنه ابن السلطان مولاي الحسن. ثم يضيف بأن العرش انتزع منه، معلنا
مطالبته باسترجاعه. كان بوحمارة، المتضلع في علوم القرآن، يملك كذلك قدرات
استثنائية لتنفيذ ألعاب سحرية، وهو ما كان يؤديه أمام الحاضرين ببراعة،
مبهرا إياهم.»
أن فقد بوحمارة مساندة كثير من القبائل له، خاصة بعد انتشار أخبار اتصالاته
ومناوراته مع الإسبان والفرنسيين، تراجع المطالب بعرش المغرب إلى قصبة
سلوان ليجعلها مقرا لحكمه. وبينما القوى الأجنبية تستعد لعقد مؤتمر
الخزيرات، قررت صحفية فرنسية تحقيق سبق صحفي بزيارة القلعة وإجراء حوار مع
الروكَي. الصحفية هذه تدعى كاميي دي غاست، كانت تعمل متعاونة مع مجلة «جو
سي تو»، وعلى صفحاتها نشرت تفاصيل زيارتها للجيلالي الزرهوني وحوارها معه.
احتل المقال حيزا مهما من المجلة (ست صفحات)، وتم تزيينه بما لا يقل عن
ثماني صور، وانتُقيَ له عنوان مثير هو: «ما قاله لي الروكَي «!
جاء في مقدمة المقال: «السيدة دي غاست التي قامت برحلات مفيدة إلى المغرب،
تسلحت خلالها بكثير من الشجاعة، قبلت، مشكورة، تخصيص سبق ذكرياتها الشخصية
مع الروكَي لقرائنا. وثمة تفصيل غريب لابد من الإشارة إليه: لقد تعرف
الروكَي على التي ستقوم بزيارته عبر صفحات مجلتنا «جو سي تو»، المجلة التي
سبق ونشرت مشاهدات الكاتبة خلال السباق البرمائي بين مدينتي الجزائر
وتولون».
«وأنا في الخزيرات في بحر عام 1906، تكتب الصحفية، خطرت بذهني فكرة لقاء
المطالب بعرش المغرب، خاصة وأنه قد بزغ من جديد على سطح الأحداث السياسية.
إلى حدود الفترة الأخيرة، كان يقال إنه منعزل في الريف، بل إن جيوش المولى
عبد العزيز كفت عن ملاحقته. لكن رويدا رويدا، بدأت الأخبار تتأكد: إن
الروكَي، بمعية مْحلة مهمة، حاضر بقوة في قصبة سلوان العتيقة، الواقعة على
بعد 25 كيلومترا من مليلية. وهو يحكم فعليا القبائل المجاورة بفرض الضرائب
عليها وتجنيد رجالها للحرب. إنه بكل اختصار يمارس مهام واختصاصات السلطان.
«بدا لي أنه من الأهمية بمكان التعرف على الجيلالي الزرهوني، هذا الرجل
الذي انطلق من زرهون، قريته المتواضعة، كأحد الخيالة البسطاء للسلطان مولاي
الحسن، ليعرف المحن على يد المخزن الذي رماه في السجن. استطاع الجيلالي
الفرار من سجنه بعد أن زور أمرا سلطانيا بالإفراج عنه بمهارة كبيرة. فر إذن
إلى الجزائر، وإلى تلمسان بالضبط، وهناك تابع دروسا في الأدب والدين
الإسلاميين. ومن هناك رحل إلى تونس حيث عاش باسم مستعار هو محمد لحفوسي، ثم
عاد إلى المغرب في الفترة ذاتها التي كان خلالها السلطان الشاب عبد العزيز
يمنح لشعبه فرجة مؤلمة ملؤها البلاهة والأخطاء.
«اللحظة كانت مواتية، إذن، للانتفاض، وهي المهمة التي ألهبها الزرهوني
بتوقده، بفكره الحاذق ومعرفته الدقيقة بالبشر. هكذا، كان الناس يرونه في
أسواق أحواز تازا، ممتطيا ظهر حمارة بيضاء، ومن هنا بزغت كنية بوحمارة التي
اشتهر بها. كان يخطب فيهم بطلاقة لسان استثنائية، يسخر من المخزن ويؤنب
السلطان.
«كانت خطب الروكَي النارية تلهب الحشود المتحلقة حوله وتهيجها. وكان الرجل
ذو الحمارة يصدح بأن الساعة قد دقت كي يرفع القناع، زاعما بأن اسمه مولاي
مْحمد وبأنه ابن السلطان مولاي الحسن. ثم يضيف بأن العرش انتزع منه، معلنا
مطالبته باسترجاعه. كان بوحمارة، المتضلع في علوم القرآن، يملك كذلك قدرات
استثنائية لتنفيذ ألعاب سحرية، وهو ما كان يؤديه أمام الحاضرين ببراعة،
مبهرا إياهم.
سنة 1906، بعد أن فقد بوحمارة مساندة كثير من القبائل له، خاصة بعد انتشار
أخبار اتصالاته ومناوراته مع الإسبان والفرنسيين، تراجع المطالب بعرش
المغرب إلى قصبة سلوان ليجعلها مقرا لحكمه. وبينما القوى الأجنبية تستعد
لعقد مؤتمر الخزيرات، قررت صحفية فرنسية تحقيق سبق صحفي بزيارة القلعة
وإجراء حوار مع الروكَي. الصحفية هذه تدعى كاميي دي غاست، كانت تعمل
متعاونة مع مجلة «جو سي تو»، وعلى صفحاتها نشرت تفاصيل زيارتها للجيلالي
الزرهوني وحوارها معه. احتل المقال حيزا مهما من المجلة (ست صفحات)، وتم
تزيينه بما لا يقل عن ثماني صور، وانتُقيَ له عنوان مثير هو: «ما قاله لي
الروكَي «!
جاء في مقدمة المقال: «السيدة دي غاست التي قامت برحلات مفيدة إلى المغرب،
تسلحت خلالها بكثير من الشجاعة، قبلت، مشكورة، تخصيص سبق ذكرياتها الشخصية
مع الروكَي لقرائنا. وثمة تفصيل غريب لابد من الإشارة إليه: لقد تعرف
الروكَي على التي ستقوم بزيارته عبر صفحات مجلتنا «جو سي تو»، المجلة التي
سبق ونشرت مشاهدات الكاتبة خلال السباق البرمائي بين مدينتي الجزائر
وتولون».
«وأنا في الخزيرات في بحر عام 1906، تكتب الصحفية، خطرت بذهني فكرة لقاء
المطالب بعرش المغرب، خاصة وأنه قد بزغ من جديد على سطح الأحداث السياسية.
إلى حدود الفترة الأخيرة، كان يقال إنه منعزل في الريف، بل إن جيوش المولى
عبد العزيز كفت عن ملاحقته. لكن رويدا رويدا، بدأت الأخبار تتأكد: إن
الروكَي، بمعية مْحلة مهمة، حاضر بقوة في قصبة سلوان العتيقة، الواقعة على
بعد 25 كيلومترا من مليلية. وهو يحكم فعليا القبائل المجاورة بفرض الضرائب
عليها وتجنيد رجالها للحرب. إنه بكل اختصار يمارس مهام واختصاصات السلطان.
«بدا لي أنه من الأهمية بمكان التعرف على الجيلالي الزرهوني، هذا الرجل
الذي انطلق من زرهون، قريته المتواضعة، كأحد الخيالة البسطاء للسلطان مولاي
الحسن، ليعرف المحن على يد المخزن الذي رماه في السجن. استطاع الجيلالي
الفرار من سجنه بعد أن زور أمرا سلطانيا بالإفراج عنه بمهارة كبيرة. فر إذن
إلى الجزائر، وإلى تلمسان بالضبط، وهناك تابع دروسا في الأدب والدين
الإسلاميين. ومن هناك رحل إلى تونس حيث عاش باسم مستعار هو محمد لحفوسي، ثم
عاد إلى المغرب في الفترة ذاتها التي كان خلالها السلطان الشاب عبد العزيز
يمنح لشعبه فرجة مؤلمة ملؤها البلاهة والأخطاء.
«اللحظة كانت مواتية، إذن، للانتفاض، وهي المهمة التي ألهبها الزرهوني
بتوقده، بفكره الحاذق ومعرفته الدقيقة بالبشر. هكذا، كان الناس يرونه في
أسواق أحواز تازا، ممتطيا ظهر حمارة بيضاء، ومن هنا بزغت كنية بوحمارة التي
اشتهر بها. كان يخطب فيهم بطلاقة لسان استثنائية، يسخر من المخزن ويؤنب
السلطان.
«كانت خطب الروكَي النارية تلهب الحشود المتحلقة حوله وتهيجها. وكان الرجل
ذو الحمارة يصدح بأن الساعة قد دقت كي يرفع القناع، زاعما بأن اسمه مولاي
مْحمد وبأنه ابن السلطان مولاي الحسن. ثم يضيف بأن العرش انتزع منه، معلنا
مطالبته باسترجاعه. كان بوحمارة، المتضلع في علوم القرآن، يملك كذلك قدرات
استثنائية لتنفيذ ألعاب سحرية، وهو ما كان يؤديه أمام الحاضرين ببراعة،
مبهرا إياهم.»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
بارجة «التريكي» المخزنية تقصف رجال بوحمارة «العالم بالغيب»!
كاميي دي غاست، صحفية كانت تعمل متعاونة مع مجلة «جو سي تو»، وعلى صفحاتها نشرت تفاصيل زيارتها للجيلالي الزرهوني في قلعة سلوان والحوار الذي أجرته معه سنة 1906 . احتل المقال حيزا مهما من المجلة (ست صفحات)، وتم تزيينه بما لا يقل عن ثماني صور، وانتُقيَ له عنوان مثير هو: «ما قاله لي الروكَي «!. هنا الجزء الثاني من المقال.
«في كثير من الأحيان، يترك بوحمارة ألاعبيه السحرية جانبا ليلجأ إلى الخداع. هكذا مثلا، توقف عن الكلام أثناء إحدى خطبه، رفع عينيه إلى السماء واسترق السمع إلى أصوات كان يصله صداها بمفرده، قبل إصدار أمره:
- اذهبوا لإحضار الرجل الذي ترجل ليشرب من النهر في طريق تازا، والذي يستريح الآن تحت ظلال شجرة خروب.
«على التو توجهت مجموعة من الفرسان إلى المكان المحدد ليعود الرجال مرفوقين بفلاح مسكين. سأل بوحمارة الرجل، بل أكد له:
- إنك رقاص وأنت تحمل رسالة من المخزن!
«أنكر المسكين التهمة الموجهة إليه، فأمر بوحمارة بتفتيشه، لكن التفتيش لم يكشف عن شيء. وفجأة، سقطت أرضا قطعة خبز من ملابسه. حينذاك طلب «العارف بالغيب» بتقسيم القطعة، ليكتشف رجاله داخلها رسالة تحمل الخاتم المخزني. وبما أن إيمان سكان الجبل راسخ مثل إيمان العجائز، فلا أحد بينهم تجرأ على الإيماء بإمكانية كون رجل شجرة الخروب مجرد عميل، والرسالة مجرد وثيقة مزورة!
«هي ذي الوسيلة التي شكل بها الزرهوني بوحمارة أولى فيالق جيشه، ليستولي على تازا ويهزم جيش السلطان. لكنه لم يستفد من انتصاره ووضع حدا لتقدمه، تاركا بذلك الفرصة للعدو لاسترجاع أنفاسه وطرده خارج تازا. وبعد ذلك، تعرض للهجوم الشهير على وجدة الذي اضطره للانسحاب منها.
«راسلت المطالب بالعرش، طالبة منه تسليمي وثيقة مرور حتى أستطيع الوصول إلى سلوان لمقابلته فيها. لقد كان يسعى خلال تلك الحقبة إلى تنظيم المناطق الواقعة تحت نفوذه والحصول عن دعم فرنسا. وصلني جوابه بقبول الطلب، مؤكدا بأنني سأحظى بالحفاوة اللازمة التي يوفرها السلاطين. حللت بمليلية يوم 26 مارس 1906، وعلى بعد بضعة كيلومترات منها، وجدت مائتي فارس بعثهم الطامع في العرش لاستقبالي ومرافقتي إلى سلوان. أحضر لي أحدهم جوادا أسود رائعا أرسله لي بوحمارة لأمتطي صهوته خلال الطريق، لكن الحصان هذا كان يبدو جفولا. هيئة الفرسان أنوفة، وهم متدثرون ببرانس صوفية فاقعة البياض، وواضعون طرابيش مُقرّنة تفسح المجال لبروز ضفيرتي شعر على الأصداغ.
«ها نحن في المحمدية، الحصن الذي يخفق فوقه علم الروكَي: راية خضراء تحمل نجمة حمراء وأربعة أهلة بيضاء. استقبلني قائد الحصن بحفاوة ودعاني إلى الإقامة في خيمته الشخصية الفاخرة.
«في الغد، وبمجرد الانتهاء من وجبة أكل، عمت جلبة غريبة المكان، أخذ القائد منظاره، بعد إخباره بما يحدث، ليتأمل الأفق ويعلن، بفتور جلي، وصول بارجة «التريكي» للشاطئ. هنيهة بعد ذلك، ترجل الرجال كلهم، لأكون شاهدة على فرجة الاستعداد للمعركة، فرجة نادرة تتجاوز كل ما يستطيع تصوره الخيال، حتى ولو كان مغرقا في الرومانسية. كانت البارجة المغربية تتقدم، ولقد رأيتها بوضوح بواسطة منظاري الصغير تشق عباب البحر، بيضاء اللون ومزينة بعلمها الأحمر في الخلف، قبل أن تتوقف فجأة. صاح أحدهم بقربي: «انتبهوا»، ولحظتها لمحت، في الأفق، وميضا، ليتلو ذلك صدى خفيت لانفجار، قبل أن تمر قذيفة المدفع أمام أعيننا مدوية وتنفجر على مسافة ثلاثين مترا منا، خارج الحصن. ولأن القذيفة الثانية كانت أكثر دقة، فقد شعر القائد بالقلق وأمرنا باللجوء إلى الخندق الشرقي الواقي.
«استمر قصف «التريكي» للقلعة لتنفجر إحدى قذائفه على بعد مترين فقط من خيمتي، بينما تهاوت اثنتان في الماء قرب الشاطئ، وتشظت سادسة في الهواء فوق رؤوسنا، مهشمة أعلى الأسوار، واخترقت القذيفة الموالية سقف الفضاء الذي احتضن وجبة غذائنا، لتسقط الأخيرتان في حقول زراعية.
«أخبرنا القائد بنهاية الهجوم، فصعدنا مجددا إلى المنحدر لنرى البارجة تغادر الساحل، متوجهة إلى أعالي البحار. وإذا كان الحصن قد عجز عن الرد، فلأن مدى مدفعيته لا يتجاوز ستة كيلومترات، أما سبب دقة قذائف البارجة المخزنية فيكمن في كون قائدها من جنسية ألمانية! هكذا إذن، وفي عز القرن العشرين، تعرضت باريسية إلى قصف مدافع جلالته الشريفة في قلعة تابعة للروكَي!
«في كثير من الأحيان، يترك بوحمارة ألاعبيه السحرية جانبا ليلجأ إلى الخداع. هكذا مثلا، توقف عن الكلام أثناء إحدى خطبه، رفع عينيه إلى السماء واسترق السمع إلى أصوات كان يصله صداها بمفرده، قبل إصدار أمره:
- اذهبوا لإحضار الرجل الذي ترجل ليشرب من النهر في طريق تازا، والذي يستريح الآن تحت ظلال شجرة خروب.
«على التو توجهت مجموعة من الفرسان إلى المكان المحدد ليعود الرجال مرفوقين بفلاح مسكين. سأل بوحمارة الرجل، بل أكد له:
- إنك رقاص وأنت تحمل رسالة من المخزن!
«أنكر المسكين التهمة الموجهة إليه، فأمر بوحمارة بتفتيشه، لكن التفتيش لم يكشف عن شيء. وفجأة، سقطت أرضا قطعة خبز من ملابسه. حينذاك طلب «العارف بالغيب» بتقسيم القطعة، ليكتشف رجاله داخلها رسالة تحمل الخاتم المخزني. وبما أن إيمان سكان الجبل راسخ مثل إيمان العجائز، فلا أحد بينهم تجرأ على الإيماء بإمكانية كون رجل شجرة الخروب مجرد عميل، والرسالة مجرد وثيقة مزورة!
«هي ذي الوسيلة التي شكل بها الزرهوني بوحمارة أولى فيالق جيشه، ليستولي على تازا ويهزم جيش السلطان. لكنه لم يستفد من انتصاره ووضع حدا لتقدمه، تاركا بذلك الفرصة للعدو لاسترجاع أنفاسه وطرده خارج تازا. وبعد ذلك، تعرض للهجوم الشهير على وجدة الذي اضطره للانسحاب منها.
«راسلت المطالب بالعرش، طالبة منه تسليمي وثيقة مرور حتى أستطيع الوصول إلى سلوان لمقابلته فيها. لقد كان يسعى خلال تلك الحقبة إلى تنظيم المناطق الواقعة تحت نفوذه والحصول عن دعم فرنسا. وصلني جوابه بقبول الطلب، مؤكدا بأنني سأحظى بالحفاوة اللازمة التي يوفرها السلاطين. حللت بمليلية يوم 26 مارس 1906، وعلى بعد بضعة كيلومترات منها، وجدت مائتي فارس بعثهم الطامع في العرش لاستقبالي ومرافقتي إلى سلوان. أحضر لي أحدهم جوادا أسود رائعا أرسله لي بوحمارة لأمتطي صهوته خلال الطريق، لكن الحصان هذا كان يبدو جفولا. هيئة الفرسان أنوفة، وهم متدثرون ببرانس صوفية فاقعة البياض، وواضعون طرابيش مُقرّنة تفسح المجال لبروز ضفيرتي شعر على الأصداغ.
«ها نحن في المحمدية، الحصن الذي يخفق فوقه علم الروكَي: راية خضراء تحمل نجمة حمراء وأربعة أهلة بيضاء. استقبلني قائد الحصن بحفاوة ودعاني إلى الإقامة في خيمته الشخصية الفاخرة.
«في الغد، وبمجرد الانتهاء من وجبة أكل، عمت جلبة غريبة المكان، أخذ القائد منظاره، بعد إخباره بما يحدث، ليتأمل الأفق ويعلن، بفتور جلي، وصول بارجة «التريكي» للشاطئ. هنيهة بعد ذلك، ترجل الرجال كلهم، لأكون شاهدة على فرجة الاستعداد للمعركة، فرجة نادرة تتجاوز كل ما يستطيع تصوره الخيال، حتى ولو كان مغرقا في الرومانسية. كانت البارجة المغربية تتقدم، ولقد رأيتها بوضوح بواسطة منظاري الصغير تشق عباب البحر، بيضاء اللون ومزينة بعلمها الأحمر في الخلف، قبل أن تتوقف فجأة. صاح أحدهم بقربي: «انتبهوا»، ولحظتها لمحت، في الأفق، وميضا، ليتلو ذلك صدى خفيت لانفجار، قبل أن تمر قذيفة المدفع أمام أعيننا مدوية وتنفجر على مسافة ثلاثين مترا منا، خارج الحصن. ولأن القذيفة الثانية كانت أكثر دقة، فقد شعر القائد بالقلق وأمرنا باللجوء إلى الخندق الشرقي الواقي.
«استمر قصف «التريكي» للقلعة لتنفجر إحدى قذائفه على بعد مترين فقط من خيمتي، بينما تهاوت اثنتان في الماء قرب الشاطئ، وتشظت سادسة في الهواء فوق رؤوسنا، مهشمة أعلى الأسوار، واخترقت القذيفة الموالية سقف الفضاء الذي احتضن وجبة غذائنا، لتسقط الأخيرتان في حقول زراعية.
«أخبرنا القائد بنهاية الهجوم، فصعدنا مجددا إلى المنحدر لنرى البارجة تغادر الساحل، متوجهة إلى أعالي البحار. وإذا كان الحصن قد عجز عن الرد، فلأن مدى مدفعيته لا يتجاوز ستة كيلومترات، أما سبب دقة قذائف البارجة المخزنية فيكمن في كون قائدها من جنسية ألمانية! هكذا إذن، وفي عز القرن العشرين، تعرضت باريسية إلى قصف مدافع جلالته الشريفة في قلعة تابعة للروكَي!
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
بتر أيادي وأقدام أنصار بوحمارة، والسكاكين توسع أفواههم إلى الأذنين!
بينما أصبح اتجاه رياح المواجهة في صالح المخزن الحفيظي الذي بدأ يراكم الانتصار تلو الانتصار في حربه ضد بوحمارة، وجدت النسخة المصورة من أسبوعية «لوبوتي جورنال» الفرنسية ضالتها في «خرق حقوق سجناء الحرب» من طرف السلطان مولاي عبدالحفيظ ومخزنه المركزي. وهو ما يتبين من مقالها المنشور يوم 5 شتنبر1909، تحت عنوان «قسوة السلطان مولاي حفيظ»، علما أنه غاب عن محرري الجريدة أن الروكَي نفسه كان قد اعتقل قبل صدور العدد المذكور (22 غشت). جاء في المقال، بعد مدخل يفسر العنوان قائلا «بأمر منه (أي السلطان) يتعرض أنصار الروكَي السجناء لأشكال فظيعة من التعذيب»: «ارتجف العالم المتحضر رعبا حين اكتشف أصناف التعذيب التي أمر السلطان مولاي حفيظ بإلحاقها بأتباع الروكَي، الذين تم اعتقالهم خلال المواجهات الأخيرة بعد هزيمة القائم بوحمارة على يد المْحلة الشريفة. «لقد تعرض السجناء، الذين نُقلوا إلى فاس، للتنكيل والتعذيب بأمر من السلطان. هكذا، بُترت يد أو قدم البعض منهم لتُوضع جدعة العضو المقطوع في سطل قطران فائر. أما البعض الآخر، فتكلفت السكاكين بتوسيع فمه إلى الأذنين قبل انتزاع فكه الأسفل من مكانه. «لقد أثارت هذه الأصناف من التعذيب الوحشي السخط في أوربا، وخاصة في فرنسا، حيث هزت هذه الفظاعات مشاعر الرأي العام. «إننا نتوفر على بعثة عسكرية في المغرب، مهمتها تدريب قوات السلطان، ولم يعد مقبولا اليوم، بعد قسوة من هذا القبيل، استمرار بعثتنا في مساعدة عاهل غير إنساني. «ليس ممكنا لفرنسا، التي مهدت لانتصار سلطان المغرب، أن تتركه يتصرف في هذا الانتصار مثلما يتصرف فيه الآن.» | ||
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رأيتُ بوحمارة سجينا في قفص مثل حيوان... قبل إعدامه
وفي عدديه المؤرخين بتاريخ 12 شتنبر و3 أكتوبر من نفس السنة، سيولي الملحق
المصور للأسبوعية اهتماما خاصا لاعتقال الروكَي واقتياده إلى فاس داخل قفص
وإعدامه داخل البلاط. وإذا كان كل مقال قد أُرفق بلوحة لتجسيده، فإن قصة
عدد 12 شتنبر الخبرية تحمل عنوان « الروكَي السجين يُقاد داخل قفص إلى فاس،
مثل حيوان مفترس»، وهي عبارة عن شهادة شخص عاين الحدث، لكن الأسبوعية تركت
هويته وصفته مجهولتين.
نقرأ في المقال:
«وعقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة، شاع خبر وصول الموكب. ها هو يتقدم
بخطى بطيئة، مع تموج حامله الشنيع: جمل. إن «باخرة الصحراء» تأتي بحمولة
غريبة وعجيبة...: قفص من الحديد ذو قضبان سميكة، لا يسمح ارتفاعه بوقوف رجل
داخله. ومع ذلك، فهناك رجل داخل القفص، وهو مغلول بشدة... رجل مقرفص، بوجه
لفحته الشمس، وعينين مشعتين بالطاقة، ولحية سوداء كثيفة. هذا الرجل الذي
يهتز محدثا جلبة السلاسل، هذا الرجل ليس سوى الروكَي، عدو السلطان الذي لا
يقهر والذي سقط، أخيرا، في شراك الأسر.
«إنه هنا، وهو هادئ وفاتر ولا مبال، يتأمل بأنفة ملؤها الاحتقار هذا الحشد
الوضيع والجبان الذي كان سيهتف بحياته لو انتصر، والذي يصيح ساخرا منه الآن
بعد هزيمته.
«يدنو الموكب.
«من على أريكة استراحته، يتأمل السلطان خصمه هنيهة، لكن هذا الأخير لا يخفض
عينيه. وبصوت مخنوق، يوجه الأول للثاني بضعة كلمات تنم عن الغضب، قبل
إصدار أمر مقتضب. بعد إشارة من أحد القياد، يتقدم بعض الخدم ليُنيخوا الجمل
في رمشة عين. هُشمت السلاسل التي كانت تشد القفص للدابة، وحمل ستة رجال
القفص ليلجوا به القصر.
«من الثقب المعتم حيث اختفت، أومضت القضبان للمرة الأخيرة... ثم لا شيء.
«إن الروكَي المهزوم سجين مرتين.»
أما في مقالها المنشور في عدد 3 أكتوبر 1909، الذي يحمل عنوان «الروكَي
يُعدم بأمر من السلطان مولاي حفيظ»، والذي يقول مدخله: «يمتلك مولاي حفيظ
طرقا مميزة لأخذ تنبيهات أوربا بعين الاعتبار»، فقد كتبت المجلة:
«يعلم الجميع أن الهيئة الدبلوماسية قامت، بمبادرة من فرنسا، بالاحتجاج ضد
التعذيب الذي طال أنصار الروكَي، وهو التعذيب الذي سبقت الإشارة إلى فظاعته
على صفحات مجلتنا.
«انتقل قنصل فرنسا إذن إلى قصر السلطان ليحيطه علما بتأنيب الدبلوماسية
الأوربية، فوعده مولاي حفيظ بالالتزام بكل المطالب، بما في ذلك ترك الروكَي
على قيد الحياة. لكن، وبمجرد مغادرة قنصل فرنسا للبلاط، انفجر غضب السلطان
نتيجة ما تعرض له من مهانة، فأمر فورا بإعدام عدوه رميا بالرصاص، في ساحة
القصر وأمام الحريم...»
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» كتاب يكشف جوانب من سيرة صاحب «الأطلال»
» «كارلا.. حياة سرية» كتاب يثير جدلا في فرنسا (عارضة الأزياء توقع الرئيس)
» ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
» سيرة جان بول سارتر
» الدكتور سليمان العلي يلقي الضوء حول سيرة البطل يوسف بن تاشفين
» «كارلا.. حياة سرية» كتاب يثير جدلا في فرنسا (عارضة الأزياء توقع الرئيس)
» ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
» سيرة جان بول سارتر
» الدكتور سليمان العلي يلقي الضوء حول سيرة البطل يوسف بن تاشفين
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى