ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية
التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية.
واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان،
يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة
«التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على
المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة
في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني
محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899.
وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام
1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية
أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش
أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال
الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7
أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة
الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح
الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن
أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها
مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب
شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه
القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا،
والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان،
وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي
الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار
التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة
للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل
قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت
في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل
بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية.
فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى
لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا
تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش
الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
عبد الرحيم حزل - بيان اليوم
التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية.
واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان،
يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة
«التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على
المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة
في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني
محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899.
وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام
1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية
أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش
أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال
الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7
أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة
الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح
الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن
أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها
مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب
شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه
القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا،
والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان،
وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي
الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار
التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة
للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل
قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت
في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل
بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية.
فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى
لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا
تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش
الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
عبد الرحيم حزل - بيان اليوم
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 1 -
تلعب الصدفة دوراً محتوماً في
حياة البحاَّر. تلك الصدفة هي التي حملتني، في شهر شتنبر 1899، إلى مدينة
طنجة، وقت أن كان القبطان الألماني ميسنير يبحث عن ضابط جديد يعهد إليه
بقيادة السفينة البخارية التابعة للحكومة المغربية، والمعروفة باسم
«التركي». وقد كنت يومئذ أحدَ ضابطين اثنين يعملان لدى شركة «ڤويرمان»،
التي كانت لا تزال، في ذلك الوقت، تشارك في التجارة المغربية. وحاول
ميْسنير أن يستبقي أحدنا للعمَل ضابطاً لدى شركة ڤويرمان، فلمَّا لم يفلح
في الأمر، أرسل برفقتنا أحدَ ميكانيكيَّيْه الاثنين إلى مدينة هامبورغ،
ليأتيه بضابط جديد لهذا الغرض. فظل ذلك الميكانيكي، خلال رحلتنا تلك،
يصوِّر لي الحياة في المغرب وعلى متن سفينة «التركي»، مفيضاً في زخرفتها
وتنميقها، حتى لقد بلغ بي إلى تقديم استقالتي من عملي في مدينة هامبورغ،
ووجدتني أعود أدراجي إلى مدينة طنجة، في منتصف شهر نونبر، مؤمِّلاً الدخول
في خدمة الحكومة المغربية.
وشاءت الصدفة كذلك أن تصل إلى سواحل مدينة
طنجة، في ذلك الوقت عينه، فرقاطةٌ تم صنعها في إيطاليا لفائدة المغرب، وأن
يُوَلَّى قيادتَها السيد ميسنير. وهكذا شاء الحظ أن يقع عليَّ الاختيار،
بعد شهر من ذلك، للعمل قائداً على سفينة «التركي».
كانت الحكومة
المغربية تمتلك في ذلك الوقت ثلاثَ سفن، هي كل أسطولها؛ وهي السفينة
المسمَّاة «التركي»، والفرقاطة المسمَّاة «البشير»، التي استلمها المغرب في
وقت قريب، والفرقاطة المسمَّاة «الحسَني». وكان القباطنة والضبَّاط
العاملون على متن هذه السفن ثلاثِها من الأوروپيين. وكانوا جميعاً من جنسية
ألمانية، في ما عدا القبطان السويدي قائدِ سفينة «الحسني». وسوف يتم، في
بحر السنتين المواليتين، بيْع سفينتين اثنتين من جملة هذه السفن الثلاث؛
تانك هما «البشير» و»الحسَني». فقد باعت الحكومة المغربية السفينةَ الأولى،
لأنها أصبحت لا تجد فيم تسخِّرها، وباعت السفينةَ الثانية بسببٍ مما أصبحت
عليه من بلى وتقادم.
وبذا، لم يتبقَّ بحوزة المغرب غير سفينة «التركي»!
تم
إنشاء هذه السفينة سنة 1892، من طرف مشغل ««ڤيزير»، في مدينة بريم، لفائدة
شركة «كروپ» في مدينة إيسن. وقد سخِّرت هذه السفينة، في بادئ الأمر، في
نقل القطع الثقيلة من المدفعية التي كان السلطان مولاي الحسن يطلب إرسالها
إلى المناطق الساحلية. فتعيَّن على سفينة «التركي» اختراق الجروف الرملية
في مدينتي العرائش وتطوان، هي التي لم يكن مسحوبها من الماء يتعدى ثمانية
أقدام وعليها حمولة تصل إلى 500 طن. ولقد حالت وفاة السلطان مولاي الحسن
دون تسليم أكثر من بطاريتيْن إلى مدينة الرباط. فقد ألغت تلك الوفاة كل
تفكير في أمر الدفاع عن السواحل.
بقيت سفينة «التركي» نفسها في حوزة
الحكومة المغربية، لأن مصاريفها قد اعتُبرتْ في تكلفة المدافع. وسرعان ما
تم تزويدها بعشرين من البحارة، لكنهم بقوا يأتمرون بأوامر أربعة ضباط ألمان
على السطح وفي الآلات. وقد عزز هذا الطاقم بسبعة من الرماة ظلوا على متن
تلك السفينة ليقوموا على تحميل مدفعي «كروپ» الصغيرين البالييْن. وهذا
الطاقم هو الذي وجدته على متن السفينة، يوم عُهِدَ إليَّ بالعمل عليها.
بقي
المغرب ينعم بالهدوء والنظام، طالما ظل الصدر الأعظم باحماد يدير شؤون
البلاد، عوضاً عن السلطان مولاي عبد العزيز، الذي كان لا يزال، بعْدُ،
قاصراً. لكن ما كاد السلطان يبلغ سـن الرشد، ويتولَّى عرش البلاد في سنة
1899، حتى قام تمرُّد بوحمارة، بسبب العجز التام الذي كان يتصف به هذا
السلطان؛ عجز ساهم بنصيب كبير في انهيار أوضاع البلاد.
شرعت
في تدوين تجاربي اليومية مع بداية تمرد بوحمارة، وها أنذا أنشرها، الآن،
والمغرب يخوض صراعاً مستميتاً من أجل الاستقلال. وإني وإن لم أكن بالجاهل
بعيوب المغاربة، فإنني قد وجدت لديهم، خلال هذه السنوات التسع الأخيرة، من
عظيم الحفاوة، سواء في أنحاء البلاد أو عند أهلها، ما تعلمت منه أن أحبهم.
كان
وصولي إلى مدينة طنجة يوم 20 نونبر 1899 . وكانت السفينة التي يتعين عليَّ
أن أتولى قيادتَها خارجةً في رحلة في البحر الأبيض المتوسط. فهذا ترك لي
متسعاً من الوقت، اغتنمتُه في التعرف عن كثَب، على البلد وسكانه. غير أن
الانطباع الأول الذي تكوَّن لديَّ من تلك الجولة لم يكن بالانطباع الحسن.
فقد رأيت أزقة المدينة ضيقة، قد أُهمِلت، وغطاها ما تراكم عليها من مياه
الأمطار التي تهاطلت على المدينة في الأيام التي قبل. فأصبح يكاد يكون من
المتعذَّر اجتيازها. ووجدت البيوت متسخة، قلما تفتح أبوابها للضيف. وتجوب
المدينةَ حشودٌ من المتسكعين؛ فيها حشد عظيم من المتسوِّلين القذِرين،
المصاب معظمهم بأمراض خطيرة، أو بعجز. وإذا علم القارئ أنني قدِمت من موطني
بنيَّة المكوث لسنوات في هذا البلد، أدرِك مدى اليأس والإحباط اللذين
بعثتهما في نفسي تلك الحالة التي وجدت عليها مدينة طنجة.
غير أني لم
ألبث أن أخذت أتعوَّد شيئاً فشيئاً بنظري على المدينة. فإلى جوار القبح
والبشاعة صرت أكتشف الجمالَ. الجمال في التنوُّع اللوني في سكان هذه
المدينة؛ بين سود حالكي السواد، وبيض فاقعي البياض، في ثياب معظمها من
الأسمال، لكنها ثياب مثيرة للعين دائماً، وجمال حياة السوق؛ متألقة
الألوان، وجمال ضواحي المدينة، التي هي بين صخرة جرداء وبساتين دائمة
الخضرة وعرائش وحقول؛ فتنة دائمة للناظرين. لكن أكثر ما أثارني إنما هم
السكان المحبُّون؛ يتلقلون القادِم الجديد إليهم بالحفاوة والترحاب. فهذا
كله ساهم في جعلي أتصالح بسرعة وقدري.
إن أول ما أثار انتباهي في مدينة
طنجة خلوُّها من رجال الشرطة. فقد كان كل واحد من السكان يفعل حقاً ما يحلو
له. وحتى لترى من الناس من يطلق النار وسط المدينة على الطيور والفئران.
وكان من مألوف الأوروپيين في مدينة طنجة أن يبالغوا بالضجيج والضوضاء في ما
يقيمون من احتفالات، لكن من دون أن يبلغوا إلى الأخلال بالنظام، الذي يسهر
عليه حراس الليل، أو بالقانون الذي يرعاه رجال الأمن. ومع ذلك فقد كان
عامة السكان يتمتعون بالأمن على أشخاصهم. فلم تكن تسمع في المدينة من يتحدث
عن جرائم أو أعمال سرِقة، على غرار ما هو مألوف في كبرىات المدن
الأوروپية. وكان سكان مدينة طنجة يقرأون في الصحف الأوروپية عن أحداث
الجرائم في تلك البلاد، فيحمدون الله على ما ينعمون به في طنجة من الأمن
العميم على أشخاصهم وأموالهم، برغم خلو المدينة من رجال السرطة. بل إن
أصدقائي الجدد، في ذلك الوقت نفسه، أكَّدوا لي أن هذه الحرية وهذا الأمن
هما اللذان يضفيان على الحياة في المغرب ما هي عليه من سحر وجاذبية. وهو
أمر تأكدت لي صحَّته بتوالي السنين.
وما هي إلا أيام حتى عادت سفينة
«سداة التركي» إلى الميناء، يرفف فوقها علم «أحمر قان» فأحسسْتُني، حينئذ،
كأنني في بيتي وبين أهلي. وسرعان ما توليَّت عملي. وأصبح طاقم السفينة،
المتكوِّن كله من الأهالي، تحت إمرتي. ولقد كان لهم جميعاً في نفسي الأثر
الحسن. وقد كان معظم البحارة والسائقين يعملون، منذ سنوات، على ظهر تلك
السفينة، فهذا أكسبهم الحنكة والخبرة بالعمل. فكانوا ينجزون المهام
الضرورية في خفة ونشاط، لا يبدون تذمراً ولا استياءً. ولو أحسن المرء لهم
المعاملة وأظهر لهم لين الجانب لأمكنه أن يسخِّرهم في ما شاء. لكن من سوء
الحظ أن اندسَّ بينهم، بفعل سياسة الحماية القائمة في المغرب، بعض الخاملين
العاجزين. ولم يكن في مقدورنا أن نتخلَّص منهم، برغم ما كان يبدر منهم من
طيش ووقاحة، إذ كان اندساسهم بيننا بتأثير بعض دواليب السلطة. فلزِمَ
الإدارة أن تتواءم وإياهم. ويُحتمَل أن يكون الرماة السبعة الذين أُرسِلوا
إلى السفينة ليقوموا على مدافع «كروپ» الصغيرة، من أولئك «المحميين»؛ لكن
وجودهم كان من التكتُّم حتى لا نكاد نلحظه. وكان بين طاقم السفينة تلميذان
عربيان «درَسا»، لعشر سنوات، البحريةَ الإيطالية، من دون أن يحوزا أقل
معرفة في هذه المهنة. فكانا شديدي تكتم. كانا يتقاضيان راتباً متواضعاً من
الحكومة، ولم يكونا، في المقابل، يفعلان شيئاً على الإطلاق. وكان معظم
العاملين على ظهر السفينة يتكلمون العربية، كما كانوا يرطنون، فضلاً عن
ذلك، بقليل من الإسپانية والأنجليزية. وكان على ظهر السفينة كذلك ترجمان من
الأهالي يتكلم الأنجليزية، لتيسير التَّفاهم بين أفراد الطاقم.
كانت
أول رحلة أقوم بها، وأنا بعْدُ تحت إمرة سلَفي القبطان ميسنير، رحلة آية في
المتعة. فقد كان السلطان قبل سنتين من ذلك، قضى، بكل عنف وشراسة، على
أعمال القرصنة التي كانت تقوم بها قبائل الريف. وأُرسِلَ القايد بوشتى،
حينئذ، في حملة على تلك القبائل، فأعمل فيها السيف قتلاً والنار حرقاً، كما
عمد إلى تدمير القرى، واعتقال القادرين من رجالها على حمل السلاح، وأسْر
النساء والأطفال. وتعيَّن على سفينة «التركي» أن تقوم، من على الساحل، بدعم
تلك العمليات. كما كان يتعيَّن عليها أن تحمل إلى مدينة الرباط قوارب
القراصنة الذين يتم أسرهم، وأن تزوِّد، بطريق البحر، الجيشَ الخارج في تلك
الحملة بالمؤن، وأن تتدخل كذلك في بعض الأحيان، في عمليات التدمير بواسطة
المدفعين المثبَّتين على ظهرها. وكان يلزم سفينة «التركي»، في الأخير، إذا
فرغت من أعمال التدمير، أن تحمل إلى السجن في مدينة مازغان (الجديدة)
القراصنةَ الثلاثمائة الذين تم أسرهم ووضعهم في الأغلال. ولقد أريدَ لنا،
كذلك، أن نحمل بعض رؤوس القتلى التي تم حفظها في الملح، على متْن السفينة،
غير أن القبطان احتج بشدة، على تلك الحمولة، فكان الرضوخ لمطلبه. لقد كانت
أساليب الحكومة غاية في الشراسة والقسوة حقاً، لكن ربما لم تكن لتفلِح في
القضاء على أعمال القرصنة لو أنها اعتمدت أساليب أكثر رحمة. فالقرصنة مهنة
زاولتْها قبائل الريف طيلة قرون من الزمان، وكانت هذه القبائل تعتبرها
بمثابة امتياز من الامتيازات.
ولم يكد يمضي وقت يسير حتى نفَقَ الكثير
من هؤلاء القراصنة المودَعون في سجن الصويرة كما تنفق الدواب، بفعل ما كان
ينزل بهم من سوء المعاملة. وحتى الـ 160 الذين نجوا منهم، ما عادوا سوى
هياكل عظمية تبعث على الرثاء. ولذلك لم تعترض الحكومة على أمر ترحيل هؤلاء
البؤساء إلى بْلاداتهم الأصلية. ولقد تعيَّن أن تحملهم سفينة «التركي» من
مدينة الصويرة إلى منطقة الريف. وعلى ذلك كانت مغادرتنا لمدينة الصويرة في
مستهل شهر دجنبر 1899 .
فلما وصلنا إلى مدينة الصويرة بلغنا أنه سيكون
علينا أن نحمل، فضلاً عن أولئك القراصنة، 150 صندوقاً من البارود، إلى
مدينة طنجة. وقد كانت هذه الكمية من البارود معبأة في صناديق بلغ منها
التلف كل مبلغ. وقد بقيت، طيلة أيام كثيرة، على متن قوارب صغيرة، مهيئة
للنقل، لايقيها المطرَ غيرُ شراع رقيق من أشرعة السفن. وعلى عكس الخوف الذي
كان يتملك الأوروپيين لمرأى هذه الكمية من البارود، كان عمال الميناء
يجلسون آمنين، فوق تلك الصناديق، يدخنون غلايينهم وسجائرهم. لكن ذلك الخوف
من الأوروپيين لم يكن قائماً على أساس، لأن هذا البارود، كما لاحظنا بعد
ذلك، خلال رحلتنا إلى مدينة طنجة، لاينفجر إلا بجهد جهيد. ولقد تم صنعه في
المغرب، ليُستعمَل في رشقات التحية التي تطلِقها بطاريات الموانئ. وعندما
كنا نلقي ببعض الحفينات منه في النار، لم يكن ينفجر إلا بعد مضي حين من
الوقت، فإذا انفجر أصد صفيراً وأحدث زمجرة غريبة. وبذلك تبددت المخاوف التي
كانت تتملكنا في البداية، من هذه الحمولة من الأكياس التالفة المنخلِعة.
وبعد
أن تم تحميل هذه الحمولة، تم، كذلك، نقل القراصنة على ظهر السفينة. وقد
كان أولئك الشياطين المساكين في حالة تبعث على الشفقة. فقد كان بعضهم من
الضعف بحيث لم يعودوا يقوون على المشي، مما حتم على رفاقهم أن يحملوهم على
ظهورهم. وكان كل لباسهم جلابة، كانت، من قبل، بيضاء، وهي الآن، قد أصفرَّت
من جراء الاستعمال. لكن لم يكن يبدو عليهم أنهم تابوا عن القرصنة، فقد حدث،
أثناء رحلتنا تلك، أن مرت بنا سفينة شراعية إسپانية، فسَمع أحد التقنيين
الاثنين، على ظهر سفينة «السيد التركي»، وقد كان يفهم اللغة العربية،
أحدَهم يقول لصاحبه : «انظر! كم سيكون هذاً مفيداً لنا!».
وعندما وصلنا
إلى مدينة طنجة، بأولئك البؤساء، صعِدت إلى ظهر السفينة حشود كبيرة من
أهْليهم وأقربائهم، وكان مشهد اللقاء آية في الإيلام. فقد كان المساجين
المساكين يضحكون ويبكون من الفرح. وكان بعضهم يبكي حقاً من الألم، بعد ما
مر بهم من صنوف الشدائد.
ولقد اقتدناهم من مدينة طنجة إلى بْلادهم الأم، حيث أنزلناهم على الشاطئ في خليج باديس، قبالة الحصن الإسپاني الصغير.
وإن
من يرَ الساحل الريفي يدركْ أنه أرض مثالية لممارسة القرصنة. فهو يتكون من
جروف وعرة، شديدة التحدر، وناتئة، وكثيرة الشقوق، وماحلة، ترتفع عمودياً
في البحر، بعلو مآت الأمتار. وتتخلل هذا البحر من الصخور بعضُ الخلجان
الصغيرة والحفر. وهي توفِّر للقراصنة مخابئ ليس لها مثيل، يشنون منها
هجوماتهم، في الأيام العاصفة، على السفن الشراعية الصغيرة، التي لاتتسع
لغير قلة من الرجال، مما يجعلهم عاجزين عن المناورة.
وإن من رأى
الحاميات وعمليات المتاجرة والتهريب التي تجري في الجزيرتين الصغيرتين
اللتين تحتلهما إسپانيا (باديس والحسيمة)، ليدرِك أن من المستحيل أن يتم
القضاء، من ها هنا، على أعمال القرصنة. وقد كان القراصنة يتخذون هذه الجزر
الصغيرة، المتكونة من صخور لاتكاد تزيد مساحتها على 50 متراً ارتفاعاً،
ولايكاد قطرها يزيد على نفس ذلك الحجم، كانوا يتَّخذونها، منذ القِدَم،
مخابئ لغنائمهم الإجرامية، ولم تكن تلك الجزر تتسع إلا لحامية صغيرة جداً،
لايمكنها أن تبلغ إلى شيء ضد الريفيين.
وعلى الرغم من دقة الشريط المائي
الذي يفصل هذه الجزر عن القارة؛ إذْ لايزيد على 50 متراً عرضاً، فإن
الإسپانيين يكادون لايكون لهم، طيلة عقود من الزمان، أي اتصال مع السكان
الأهالي من قاطني الضفة الأخرى، ولم يكن ذلك من الإسپانيين لعدم رغبتهم
فيه، وإنما للممانعة التي كانوا يجدونها من القراصنة.
وعليه، فقد أصبح
السلطان، بفعل ضغط القوى الأجنبية عليه، منشغلاً بالبحث في قطْع دابر
القرصنة. ولقد أفلح في ذلك بكل نجاعة، بحيث أصبحنا قلما نسمع من يتحدث عن
القرصنة في منطقة الريف. وفي المرات القليلة جداً، التي كانت تتعرض فيها
السفن الإسپانية للنهب، كان الخطأ في ذلك، يعود، في معظم الأحيان، إلى
الإسپانيين أنفسِهم. فقد كانت معظم عمليات النهب تلك، تقع على مهربين
إسپانيين يحاولون الاحتيال على الريفيين، فيكون رد هؤلاء عليهم بنهب سفنهم.
بعد
هذه الرحلة القصيرة، تولد لديَّ يقين أنني سأتفاهم جيداً جيداً مع
المغاربة العاملين تتحت إمرتي. حقاً إنهم لم يكونوا بقدر فعالية البحارة
الأوروپيين، وخاصة الألمان، إلا أنهم يعوضون ما هم فيه من نقص الكفاءة،
بشدة الاستعداد. وقد كانت العلاقة بين الرؤساء والمرؤوسين يغلب عليها
الطابع الأبوي. كما كان شأنها من قبل على سفننا الشراعية. وكان الرجال
يأتون للعمل على متن السفينة وليس لهم من معرفة بأمر البحر. فيقع علينا أن
نصرف، في البداية، وقتاً طويلاً في تعويدهم على الانضباط والطاعة، لكن متى
رسخنا في أذهانهم هذه القيم، صاروا عارفين للجميل على الدوام. وقد كان سلفي
السيد ميسنر والميكانيكي الأول، العامل على متن السفينة منذ سنين، يعاملون
رجالهم بعدل ولطف، فقد تعلما إم بهذه الكيفية يمكن أن نحصل منهم على
فائدة. لقد كانوا يشكلون نواة صلبة من الرجال الحازمين، الذين يطيعونهم
بأقل إشارة ، والذين يطيعونهم بأمر من القبطان.
لم يكن الفريق يجد عملاً
ذا بال يقوم به، لأن السفينة كانت قد زوِّدت من الرجال بما يفوق حجمهما.
ففي الصباحات كان يلزم البدء بتنظيف سطح السفينة، ثم إسناد إلى كل واحد
مهمته. وقد كانت هذه المهمة تتمثل، عموماً، ومثلما هو الأمر على معظم
البواخر، في رفع العلم، وتنظيف الصدإ وصبغها. ونادراً ما كان يعرض لهم عمل
بحري حقيقي. فإذا اتُّفق ذلك العمل، لزم إنجازه على خير وجه، من طرف الضباط
الأوروپيين أنفسهم. فأثناء مقامنا في طنجة كان نصف الطاقم ففي عطالة دائمة
على البر. وفي البحر كانوا تتولون دورهم في الحراسة، وقليلاً ما يتفق لهم
عمل يشغلهم، في ما عدا تنظيف الجسر. وكانوا يقتصرون على المساعدة على شحن
البضائع وإفراغها. ويُفترض بطاقم السطح إذا كان في البحر أن يتولى قيادة
السفينة. غير أن الرجال لم تكن لهم معرفة بالأحرف العربية، وهم أجهل
بالأحرف الأوروپية، لذلك كان يتعين على الضابط القائد أن يشير بأصبعه إلى
الاتجاه الذي ينبغي سلوكه؛ مكان الرجل الذي عند الحاجز يشير إليه لها
بالطريقة نفسها. وقد كان من شأن ذلك أن يخلق بسهولة سوء تفاهمات. كذلك كان
يتحتم على الأوروپي أن يكون شديد التيقظ على الدوام.
وبطبيعة الحال،
فالمغاربة ليسوا أكثر منا، نحن الأوروپيين، ملائكية؛ وقد كانوا يثيرن
الكثير من الغضب لدى رؤسائهم، خاصة بسبب ميلهم إلى التهرب من العمل. وقد
كان من الصعب تعويدهم على النظافة، فبينما يأنفون من تنظيف سطح السفينة،
تسود قذارة عظيمة في أحيائهم عندما لا يكون يراقبها أحد. فقد كان الواحد
منهم معتاداً على أن يلقي على الأرض بكل القذارات، ولم يكن أحد بينهم
يتصور تنظيفاً كبيراً في المحلات. وهذه كانت من الأدلة على مزاجهم
الصبياني والعنيد. فكل واحد منهم يرى نفسه أعلى شأناً من أن يراعي راحة
الآخرين. وربما كانوا لا يكادون ينتبهون إلى القذارة التي تغص بها مساكنهم،
إذ لم يتعودوا على شيء في بيوتهم، وكان عليهم علينا، نحن الأوروپيين، أن
نجهد لتلقينهم الحد الأدنى من النظافة.
كانوا جميعاً لا يكاد يرتدي
الواحد منهم شبيهاً زي صاحبه، وإنما كانوا يشتركون جميعاً في اللون الأحمر.
وكانوا يحبون كثيراً أن يستردوا منا ثيابنا المستعملة؛ من أقمصة، وجزمات،
وخاصة السراويل. فكانوا ما أن يستلموها حتى يسارعوا إلى ارتدائها - لكن في
ما عدا ذلك كانوا يرتدون اللباس الوطني. وتكون ثيابهم عموماً مغطاة
بالقذارة. وما كانوا يتخيرون لباسهم إلا إذا هموا بالنزول إلى البر؛ فهم
يرتدون الجلباب، وربما زادوا إليه، أحياناً، عمامة، وبلغة صفراء، ولباساً
موحداً حسْ عادة البلد (قوامعه سروال عريض إلى الركبتين، وقميص قصير عليه
زخارف كثيرة). ويجعلون فوق اللباس معطفاً غامق اللون بقب وكمين قصيرين. وهم
يكونون دائماً نظيفي الأبدان أو ليس بينهم، على الأقل، من هو مصاب
بالهوام.
وكان المطبخان منفصلين عن بعضهما. فينما يكون الطباخ الألماني
يعد للأوروپيين (القبطان والضباط وميكانيكيين) الطعامَ في المطبخ القديم
الذي على المركب يتولى واحد من أبناء جلدتهم الطعام للأهالي. وهذا الطباخ
الأسود المسمى الحاج فراجي، قد جيء به إلى المغرب وهو طفل بصفة العبد، ثم
تم تحريره بعدئذ. ويجدر بالقول إنه كان الأسود الوحيد على ظهر السفينة. وقد
كان يقيم في مطبخ ضيق على الجسر. مطبخ يكون، في معظم الأحيان، لا يشبه
شيئاً، بل إنما يكون، وهذا أسوأ، تنبعث منه رائحة الثوم والزيت. والرجل
يكابد مشاق جمة في إتمام العمل المتراكم عليه، وإرضاء رغبات نزلائه. وقد
كان لا يكاد يمر يوم من غير أن تحدث مشاحنات بسبب الوجبات : إما أن الرجال
لا يرضون عن الطبخ، أو لأنهم لا يتوصلون إلى الاتفاق على الوجبات، أو لأن
بينهم من يجد الطعام وافراً جداً، أو يجده غير كاف. فكانت مشكلة الطعام
هذه، هي مثار الشجارات، لأن الرجال، مثلنا نحن الأوروپيين، كانوا يتولون
بأنفسهم إعداد طعامهم. ومن أسف أن أذواقهم كانت شديدة الاختلاف. غير أن
العجوز لم يكن ليضيق بتلك الشجارات. فهو لا يفارقه انشراحه قطو فكان ينهي
تلك الخصامات بكلمة يضحك لها الجميع، فكان يعد الطعام حسبما يروق له. وكنت
أحياناً، أذا وقفت على السطح يأتيني بالشاي، ثم لم ألبث أن أضربت عنه
نهائياً، بعد أن وجدته في مرات كثيرة، تفوح منه رائحة الثوم. فلم يسؤه
رفضي. وقد كان يفوق الآخرين في مظهره الخارجي قذارة؛ وحتى ليذهب بي
الاعتقاد إلى أنه لو دفِع إلى حائط ليظل به ملتصقاً. وقد كان الإقبال على
مطبخه كبيراً، لم تكن تنقص منه تشكيات بعض البخلاء، وما كان الرجال يخشون
شيئاً. فقد كانوا يطعمون خاصة، الكثير من اللحم والخضار. وكانوا يعيدون
أطباقهم ونهي مغطاة بالزيا، ويؤدون ما لا يزيد عن 20 بسيطة عن الشهر، أي ما
يساوي حوالي 14 مارك.
لم يكونوا في عمومهم بالملتزمين بممارستهم
الدينية. لكن كان بينهم، مع ذلك، من كانوا يلتزمون بأوقات الصلاة التي
يحددها القرآن، ولا يهملونها. فكان هؤلاء الأشخاص التقاة يبدون مواضبين، في
الساعة فوق السطح، وقد حملوا معهم حصراً يتخذونها للصلاة؛ فهم يبسطونها
على كوى المركب الكبيرة، أو على طرفها الذي في المقدمة، ويؤدون الصلاة
المفروضة، وقد توجهوا إلى القبلة، وجعلوا يأتون بكثير من الركعات والسجدات،
ويقبلون أرضية السطح، ويشبكون الأيدي. فإذا كان الجو غائماً، يلزمني
أحياناً، أن أبين لهم وجهة مكة بالبوصل. وفي المساء، يأتي رجل إلى مقدم
السفينة، ويأخذ، مثل المؤذن في المساجد، في دعوة المؤمنين على السفينة،
بصوته الزاعق إلى صلاة المساء. فإذا اقترب شهر الصيام، رمضان، وهو الوقت
الذي نقترب منه الآن، ذبت في القوم حمية دينية عارمة. فإذا الرجال من ذوي
الأذهان المتحررة، قد صاروا هم أيضاً، تقاة ورعين، فإذا أذِّن لصلاة
المساء، اصطف الرجال فوق الجسر، في صلاة جماعية. فكأني بهم يؤدون حركات
للرشاقة، ذات إيقاع ونظام. إننا، نحن الأوروپيين، نحترم، المصلين، ولا
نزعجم قط، برغم ما في ذلك من ضياع لوقت العمل. إن علينا أن نذعن لعادات
وتقاليد البلد الذي نقيم فيه بصفة الضيوف، برغم ما نلاقي في ذلك أحياناً من
مشاق.
23-07-2012
تلعب الصدفة دوراً محتوماً في
حياة البحاَّر. تلك الصدفة هي التي حملتني، في شهر شتنبر 1899، إلى مدينة
طنجة، وقت أن كان القبطان الألماني ميسنير يبحث عن ضابط جديد يعهد إليه
بقيادة السفينة البخارية التابعة للحكومة المغربية، والمعروفة باسم
«التركي». وقد كنت يومئذ أحدَ ضابطين اثنين يعملان لدى شركة «ڤويرمان»،
التي كانت لا تزال، في ذلك الوقت، تشارك في التجارة المغربية. وحاول
ميْسنير أن يستبقي أحدنا للعمَل ضابطاً لدى شركة ڤويرمان، فلمَّا لم يفلح
في الأمر، أرسل برفقتنا أحدَ ميكانيكيَّيْه الاثنين إلى مدينة هامبورغ،
ليأتيه بضابط جديد لهذا الغرض. فظل ذلك الميكانيكي، خلال رحلتنا تلك،
يصوِّر لي الحياة في المغرب وعلى متن سفينة «التركي»، مفيضاً في زخرفتها
وتنميقها، حتى لقد بلغ بي إلى تقديم استقالتي من عملي في مدينة هامبورغ،
ووجدتني أعود أدراجي إلى مدينة طنجة، في منتصف شهر نونبر، مؤمِّلاً الدخول
في خدمة الحكومة المغربية.
وشاءت الصدفة كذلك أن تصل إلى سواحل مدينة
طنجة، في ذلك الوقت عينه، فرقاطةٌ تم صنعها في إيطاليا لفائدة المغرب، وأن
يُوَلَّى قيادتَها السيد ميسنير. وهكذا شاء الحظ أن يقع عليَّ الاختيار،
بعد شهر من ذلك، للعمل قائداً على سفينة «التركي».
كانت الحكومة
المغربية تمتلك في ذلك الوقت ثلاثَ سفن، هي كل أسطولها؛ وهي السفينة
المسمَّاة «التركي»، والفرقاطة المسمَّاة «البشير»، التي استلمها المغرب في
وقت قريب، والفرقاطة المسمَّاة «الحسَني». وكان القباطنة والضبَّاط
العاملون على متن هذه السفن ثلاثِها من الأوروپيين. وكانوا جميعاً من جنسية
ألمانية، في ما عدا القبطان السويدي قائدِ سفينة «الحسني». وسوف يتم، في
بحر السنتين المواليتين، بيْع سفينتين اثنتين من جملة هذه السفن الثلاث؛
تانك هما «البشير» و»الحسَني». فقد باعت الحكومة المغربية السفينةَ الأولى،
لأنها أصبحت لا تجد فيم تسخِّرها، وباعت السفينةَ الثانية بسببٍ مما أصبحت
عليه من بلى وتقادم.
وبذا، لم يتبقَّ بحوزة المغرب غير سفينة «التركي»!
تم
إنشاء هذه السفينة سنة 1892، من طرف مشغل ««ڤيزير»، في مدينة بريم، لفائدة
شركة «كروپ» في مدينة إيسن. وقد سخِّرت هذه السفينة، في بادئ الأمر، في
نقل القطع الثقيلة من المدفعية التي كان السلطان مولاي الحسن يطلب إرسالها
إلى المناطق الساحلية. فتعيَّن على سفينة «التركي» اختراق الجروف الرملية
في مدينتي العرائش وتطوان، هي التي لم يكن مسحوبها من الماء يتعدى ثمانية
أقدام وعليها حمولة تصل إلى 500 طن. ولقد حالت وفاة السلطان مولاي الحسن
دون تسليم أكثر من بطاريتيْن إلى مدينة الرباط. فقد ألغت تلك الوفاة كل
تفكير في أمر الدفاع عن السواحل.
بقيت سفينة «التركي» نفسها في حوزة
الحكومة المغربية، لأن مصاريفها قد اعتُبرتْ في تكلفة المدافع. وسرعان ما
تم تزويدها بعشرين من البحارة، لكنهم بقوا يأتمرون بأوامر أربعة ضباط ألمان
على السطح وفي الآلات. وقد عزز هذا الطاقم بسبعة من الرماة ظلوا على متن
تلك السفينة ليقوموا على تحميل مدفعي «كروپ» الصغيرين البالييْن. وهذا
الطاقم هو الذي وجدته على متن السفينة، يوم عُهِدَ إليَّ بالعمل عليها.
بقي
المغرب ينعم بالهدوء والنظام، طالما ظل الصدر الأعظم باحماد يدير شؤون
البلاد، عوضاً عن السلطان مولاي عبد العزيز، الذي كان لا يزال، بعْدُ،
قاصراً. لكن ما كاد السلطان يبلغ سـن الرشد، ويتولَّى عرش البلاد في سنة
1899، حتى قام تمرُّد بوحمارة، بسبب العجز التام الذي كان يتصف به هذا
السلطان؛ عجز ساهم بنصيب كبير في انهيار أوضاع البلاد.
شرعت
في تدوين تجاربي اليومية مع بداية تمرد بوحمارة، وها أنذا أنشرها، الآن،
والمغرب يخوض صراعاً مستميتاً من أجل الاستقلال. وإني وإن لم أكن بالجاهل
بعيوب المغاربة، فإنني قد وجدت لديهم، خلال هذه السنوات التسع الأخيرة، من
عظيم الحفاوة، سواء في أنحاء البلاد أو عند أهلها، ما تعلمت منه أن أحبهم.
كان
وصولي إلى مدينة طنجة يوم 20 نونبر 1899 . وكانت السفينة التي يتعين عليَّ
أن أتولى قيادتَها خارجةً في رحلة في البحر الأبيض المتوسط. فهذا ترك لي
متسعاً من الوقت، اغتنمتُه في التعرف عن كثَب، على البلد وسكانه. غير أن
الانطباع الأول الذي تكوَّن لديَّ من تلك الجولة لم يكن بالانطباع الحسن.
فقد رأيت أزقة المدينة ضيقة، قد أُهمِلت، وغطاها ما تراكم عليها من مياه
الأمطار التي تهاطلت على المدينة في الأيام التي قبل. فأصبح يكاد يكون من
المتعذَّر اجتيازها. ووجدت البيوت متسخة، قلما تفتح أبوابها للضيف. وتجوب
المدينةَ حشودٌ من المتسكعين؛ فيها حشد عظيم من المتسوِّلين القذِرين،
المصاب معظمهم بأمراض خطيرة، أو بعجز. وإذا علم القارئ أنني قدِمت من موطني
بنيَّة المكوث لسنوات في هذا البلد، أدرِك مدى اليأس والإحباط اللذين
بعثتهما في نفسي تلك الحالة التي وجدت عليها مدينة طنجة.
غير أني لم
ألبث أن أخذت أتعوَّد شيئاً فشيئاً بنظري على المدينة. فإلى جوار القبح
والبشاعة صرت أكتشف الجمالَ. الجمال في التنوُّع اللوني في سكان هذه
المدينة؛ بين سود حالكي السواد، وبيض فاقعي البياض، في ثياب معظمها من
الأسمال، لكنها ثياب مثيرة للعين دائماً، وجمال حياة السوق؛ متألقة
الألوان، وجمال ضواحي المدينة، التي هي بين صخرة جرداء وبساتين دائمة
الخضرة وعرائش وحقول؛ فتنة دائمة للناظرين. لكن أكثر ما أثارني إنما هم
السكان المحبُّون؛ يتلقلون القادِم الجديد إليهم بالحفاوة والترحاب. فهذا
كله ساهم في جعلي أتصالح بسرعة وقدري.
إن أول ما أثار انتباهي في مدينة
طنجة خلوُّها من رجال الشرطة. فقد كان كل واحد من السكان يفعل حقاً ما يحلو
له. وحتى لترى من الناس من يطلق النار وسط المدينة على الطيور والفئران.
وكان من مألوف الأوروپيين في مدينة طنجة أن يبالغوا بالضجيج والضوضاء في ما
يقيمون من احتفالات، لكن من دون أن يبلغوا إلى الأخلال بالنظام، الذي يسهر
عليه حراس الليل، أو بالقانون الذي يرعاه رجال الأمن. ومع ذلك فقد كان
عامة السكان يتمتعون بالأمن على أشخاصهم. فلم تكن تسمع في المدينة من يتحدث
عن جرائم أو أعمال سرِقة، على غرار ما هو مألوف في كبرىات المدن
الأوروپية. وكان سكان مدينة طنجة يقرأون في الصحف الأوروپية عن أحداث
الجرائم في تلك البلاد، فيحمدون الله على ما ينعمون به في طنجة من الأمن
العميم على أشخاصهم وأموالهم، برغم خلو المدينة من رجال السرطة. بل إن
أصدقائي الجدد، في ذلك الوقت نفسه، أكَّدوا لي أن هذه الحرية وهذا الأمن
هما اللذان يضفيان على الحياة في المغرب ما هي عليه من سحر وجاذبية. وهو
أمر تأكدت لي صحَّته بتوالي السنين.
وما هي إلا أيام حتى عادت سفينة
«سداة التركي» إلى الميناء، يرفف فوقها علم «أحمر قان» فأحسسْتُني، حينئذ،
كأنني في بيتي وبين أهلي. وسرعان ما توليَّت عملي. وأصبح طاقم السفينة،
المتكوِّن كله من الأهالي، تحت إمرتي. ولقد كان لهم جميعاً في نفسي الأثر
الحسن. وقد كان معظم البحارة والسائقين يعملون، منذ سنوات، على ظهر تلك
السفينة، فهذا أكسبهم الحنكة والخبرة بالعمل. فكانوا ينجزون المهام
الضرورية في خفة ونشاط، لا يبدون تذمراً ولا استياءً. ولو أحسن المرء لهم
المعاملة وأظهر لهم لين الجانب لأمكنه أن يسخِّرهم في ما شاء. لكن من سوء
الحظ أن اندسَّ بينهم، بفعل سياسة الحماية القائمة في المغرب، بعض الخاملين
العاجزين. ولم يكن في مقدورنا أن نتخلَّص منهم، برغم ما كان يبدر منهم من
طيش ووقاحة، إذ كان اندساسهم بيننا بتأثير بعض دواليب السلطة. فلزِمَ
الإدارة أن تتواءم وإياهم. ويُحتمَل أن يكون الرماة السبعة الذين أُرسِلوا
إلى السفينة ليقوموا على مدافع «كروپ» الصغيرة، من أولئك «المحميين»؛ لكن
وجودهم كان من التكتُّم حتى لا نكاد نلحظه. وكان بين طاقم السفينة تلميذان
عربيان «درَسا»، لعشر سنوات، البحريةَ الإيطالية، من دون أن يحوزا أقل
معرفة في هذه المهنة. فكانا شديدي تكتم. كانا يتقاضيان راتباً متواضعاً من
الحكومة، ولم يكونا، في المقابل، يفعلان شيئاً على الإطلاق. وكان معظم
العاملين على ظهر السفينة يتكلمون العربية، كما كانوا يرطنون، فضلاً عن
ذلك، بقليل من الإسپانية والأنجليزية. وكان على ظهر السفينة كذلك ترجمان من
الأهالي يتكلم الأنجليزية، لتيسير التَّفاهم بين أفراد الطاقم.
كانت
أول رحلة أقوم بها، وأنا بعْدُ تحت إمرة سلَفي القبطان ميسنير، رحلة آية في
المتعة. فقد كان السلطان قبل سنتين من ذلك، قضى، بكل عنف وشراسة، على
أعمال القرصنة التي كانت تقوم بها قبائل الريف. وأُرسِلَ القايد بوشتى،
حينئذ، في حملة على تلك القبائل، فأعمل فيها السيف قتلاً والنار حرقاً، كما
عمد إلى تدمير القرى، واعتقال القادرين من رجالها على حمل السلاح، وأسْر
النساء والأطفال. وتعيَّن على سفينة «التركي» أن تقوم، من على الساحل، بدعم
تلك العمليات. كما كان يتعيَّن عليها أن تحمل إلى مدينة الرباط قوارب
القراصنة الذين يتم أسرهم، وأن تزوِّد، بطريق البحر، الجيشَ الخارج في تلك
الحملة بالمؤن، وأن تتدخل كذلك في بعض الأحيان، في عمليات التدمير بواسطة
المدفعين المثبَّتين على ظهرها. وكان يلزم سفينة «التركي»، في الأخير، إذا
فرغت من أعمال التدمير، أن تحمل إلى السجن في مدينة مازغان (الجديدة)
القراصنةَ الثلاثمائة الذين تم أسرهم ووضعهم في الأغلال. ولقد أريدَ لنا،
كذلك، أن نحمل بعض رؤوس القتلى التي تم حفظها في الملح، على متْن السفينة،
غير أن القبطان احتج بشدة، على تلك الحمولة، فكان الرضوخ لمطلبه. لقد كانت
أساليب الحكومة غاية في الشراسة والقسوة حقاً، لكن ربما لم تكن لتفلِح في
القضاء على أعمال القرصنة لو أنها اعتمدت أساليب أكثر رحمة. فالقرصنة مهنة
زاولتْها قبائل الريف طيلة قرون من الزمان، وكانت هذه القبائل تعتبرها
بمثابة امتياز من الامتيازات.
ولم يكد يمضي وقت يسير حتى نفَقَ الكثير
من هؤلاء القراصنة المودَعون في سجن الصويرة كما تنفق الدواب، بفعل ما كان
ينزل بهم من سوء المعاملة. وحتى الـ 160 الذين نجوا منهم، ما عادوا سوى
هياكل عظمية تبعث على الرثاء. ولذلك لم تعترض الحكومة على أمر ترحيل هؤلاء
البؤساء إلى بْلاداتهم الأصلية. ولقد تعيَّن أن تحملهم سفينة «التركي» من
مدينة الصويرة إلى منطقة الريف. وعلى ذلك كانت مغادرتنا لمدينة الصويرة في
مستهل شهر دجنبر 1899 .
فلما وصلنا إلى مدينة الصويرة بلغنا أنه سيكون
علينا أن نحمل، فضلاً عن أولئك القراصنة، 150 صندوقاً من البارود، إلى
مدينة طنجة. وقد كانت هذه الكمية من البارود معبأة في صناديق بلغ منها
التلف كل مبلغ. وقد بقيت، طيلة أيام كثيرة، على متن قوارب صغيرة، مهيئة
للنقل، لايقيها المطرَ غيرُ شراع رقيق من أشرعة السفن. وعلى عكس الخوف الذي
كان يتملك الأوروپيين لمرأى هذه الكمية من البارود، كان عمال الميناء
يجلسون آمنين، فوق تلك الصناديق، يدخنون غلايينهم وسجائرهم. لكن ذلك الخوف
من الأوروپيين لم يكن قائماً على أساس، لأن هذا البارود، كما لاحظنا بعد
ذلك، خلال رحلتنا إلى مدينة طنجة، لاينفجر إلا بجهد جهيد. ولقد تم صنعه في
المغرب، ليُستعمَل في رشقات التحية التي تطلِقها بطاريات الموانئ. وعندما
كنا نلقي ببعض الحفينات منه في النار، لم يكن ينفجر إلا بعد مضي حين من
الوقت، فإذا انفجر أصد صفيراً وأحدث زمجرة غريبة. وبذلك تبددت المخاوف التي
كانت تتملكنا في البداية، من هذه الحمولة من الأكياس التالفة المنخلِعة.
وبعد
أن تم تحميل هذه الحمولة، تم، كذلك، نقل القراصنة على ظهر السفينة. وقد
كان أولئك الشياطين المساكين في حالة تبعث على الشفقة. فقد كان بعضهم من
الضعف بحيث لم يعودوا يقوون على المشي، مما حتم على رفاقهم أن يحملوهم على
ظهورهم. وكان كل لباسهم جلابة، كانت، من قبل، بيضاء، وهي الآن، قد أصفرَّت
من جراء الاستعمال. لكن لم يكن يبدو عليهم أنهم تابوا عن القرصنة، فقد حدث،
أثناء رحلتنا تلك، أن مرت بنا سفينة شراعية إسپانية، فسَمع أحد التقنيين
الاثنين، على ظهر سفينة «السيد التركي»، وقد كان يفهم اللغة العربية،
أحدَهم يقول لصاحبه : «انظر! كم سيكون هذاً مفيداً لنا!».
وعندما وصلنا
إلى مدينة طنجة، بأولئك البؤساء، صعِدت إلى ظهر السفينة حشود كبيرة من
أهْليهم وأقربائهم، وكان مشهد اللقاء آية في الإيلام. فقد كان المساجين
المساكين يضحكون ويبكون من الفرح. وكان بعضهم يبكي حقاً من الألم، بعد ما
مر بهم من صنوف الشدائد.
ولقد اقتدناهم من مدينة طنجة إلى بْلادهم الأم، حيث أنزلناهم على الشاطئ في خليج باديس، قبالة الحصن الإسپاني الصغير.
وإن
من يرَ الساحل الريفي يدركْ أنه أرض مثالية لممارسة القرصنة. فهو يتكون من
جروف وعرة، شديدة التحدر، وناتئة، وكثيرة الشقوق، وماحلة، ترتفع عمودياً
في البحر، بعلو مآت الأمتار. وتتخلل هذا البحر من الصخور بعضُ الخلجان
الصغيرة والحفر. وهي توفِّر للقراصنة مخابئ ليس لها مثيل، يشنون منها
هجوماتهم، في الأيام العاصفة، على السفن الشراعية الصغيرة، التي لاتتسع
لغير قلة من الرجال، مما يجعلهم عاجزين عن المناورة.
وإن من رأى
الحاميات وعمليات المتاجرة والتهريب التي تجري في الجزيرتين الصغيرتين
اللتين تحتلهما إسپانيا (باديس والحسيمة)، ليدرِك أن من المستحيل أن يتم
القضاء، من ها هنا، على أعمال القرصنة. وقد كان القراصنة يتخذون هذه الجزر
الصغيرة، المتكونة من صخور لاتكاد تزيد مساحتها على 50 متراً ارتفاعاً،
ولايكاد قطرها يزيد على نفس ذلك الحجم، كانوا يتَّخذونها، منذ القِدَم،
مخابئ لغنائمهم الإجرامية، ولم تكن تلك الجزر تتسع إلا لحامية صغيرة جداً،
لايمكنها أن تبلغ إلى شيء ضد الريفيين.
وعلى الرغم من دقة الشريط المائي
الذي يفصل هذه الجزر عن القارة؛ إذْ لايزيد على 50 متراً عرضاً، فإن
الإسپانيين يكادون لايكون لهم، طيلة عقود من الزمان، أي اتصال مع السكان
الأهالي من قاطني الضفة الأخرى، ولم يكن ذلك من الإسپانيين لعدم رغبتهم
فيه، وإنما للممانعة التي كانوا يجدونها من القراصنة.
وعليه، فقد أصبح
السلطان، بفعل ضغط القوى الأجنبية عليه، منشغلاً بالبحث في قطْع دابر
القرصنة. ولقد أفلح في ذلك بكل نجاعة، بحيث أصبحنا قلما نسمع من يتحدث عن
القرصنة في منطقة الريف. وفي المرات القليلة جداً، التي كانت تتعرض فيها
السفن الإسپانية للنهب، كان الخطأ في ذلك، يعود، في معظم الأحيان، إلى
الإسپانيين أنفسِهم. فقد كانت معظم عمليات النهب تلك، تقع على مهربين
إسپانيين يحاولون الاحتيال على الريفيين، فيكون رد هؤلاء عليهم بنهب سفنهم.
بعد
هذه الرحلة القصيرة، تولد لديَّ يقين أنني سأتفاهم جيداً جيداً مع
المغاربة العاملين تتحت إمرتي. حقاً إنهم لم يكونوا بقدر فعالية البحارة
الأوروپيين، وخاصة الألمان، إلا أنهم يعوضون ما هم فيه من نقص الكفاءة،
بشدة الاستعداد. وقد كانت العلاقة بين الرؤساء والمرؤوسين يغلب عليها
الطابع الأبوي. كما كان شأنها من قبل على سفننا الشراعية. وكان الرجال
يأتون للعمل على متن السفينة وليس لهم من معرفة بأمر البحر. فيقع علينا أن
نصرف، في البداية، وقتاً طويلاً في تعويدهم على الانضباط والطاعة، لكن متى
رسخنا في أذهانهم هذه القيم، صاروا عارفين للجميل على الدوام. وقد كان سلفي
السيد ميسنر والميكانيكي الأول، العامل على متن السفينة منذ سنين، يعاملون
رجالهم بعدل ولطف، فقد تعلما إم بهذه الكيفية يمكن أن نحصل منهم على
فائدة. لقد كانوا يشكلون نواة صلبة من الرجال الحازمين، الذين يطيعونهم
بأقل إشارة ، والذين يطيعونهم بأمر من القبطان.
لم يكن الفريق يجد عملاً
ذا بال يقوم به، لأن السفينة كانت قد زوِّدت من الرجال بما يفوق حجمهما.
ففي الصباحات كان يلزم البدء بتنظيف سطح السفينة، ثم إسناد إلى كل واحد
مهمته. وقد كانت هذه المهمة تتمثل، عموماً، ومثلما هو الأمر على معظم
البواخر، في رفع العلم، وتنظيف الصدإ وصبغها. ونادراً ما كان يعرض لهم عمل
بحري حقيقي. فإذا اتُّفق ذلك العمل، لزم إنجازه على خير وجه، من طرف الضباط
الأوروپيين أنفسهم. فأثناء مقامنا في طنجة كان نصف الطاقم ففي عطالة دائمة
على البر. وفي البحر كانوا تتولون دورهم في الحراسة، وقليلاً ما يتفق لهم
عمل يشغلهم، في ما عدا تنظيف الجسر. وكانوا يقتصرون على المساعدة على شحن
البضائع وإفراغها. ويُفترض بطاقم السطح إذا كان في البحر أن يتولى قيادة
السفينة. غير أن الرجال لم تكن لهم معرفة بالأحرف العربية، وهم أجهل
بالأحرف الأوروپية، لذلك كان يتعين على الضابط القائد أن يشير بأصبعه إلى
الاتجاه الذي ينبغي سلوكه؛ مكان الرجل الذي عند الحاجز يشير إليه لها
بالطريقة نفسها. وقد كان من شأن ذلك أن يخلق بسهولة سوء تفاهمات. كذلك كان
يتحتم على الأوروپي أن يكون شديد التيقظ على الدوام.
وبطبيعة الحال،
فالمغاربة ليسوا أكثر منا، نحن الأوروپيين، ملائكية؛ وقد كانوا يثيرن
الكثير من الغضب لدى رؤسائهم، خاصة بسبب ميلهم إلى التهرب من العمل. وقد
كان من الصعب تعويدهم على النظافة، فبينما يأنفون من تنظيف سطح السفينة،
تسود قذارة عظيمة في أحيائهم عندما لا يكون يراقبها أحد. فقد كان الواحد
منهم معتاداً على أن يلقي على الأرض بكل القذارات، ولم يكن أحد بينهم
يتصور تنظيفاً كبيراً في المحلات. وهذه كانت من الأدلة على مزاجهم
الصبياني والعنيد. فكل واحد منهم يرى نفسه أعلى شأناً من أن يراعي راحة
الآخرين. وربما كانوا لا يكادون ينتبهون إلى القذارة التي تغص بها مساكنهم،
إذ لم يتعودوا على شيء في بيوتهم، وكان عليهم علينا، نحن الأوروپيين، أن
نجهد لتلقينهم الحد الأدنى من النظافة.
كانوا جميعاً لا يكاد يرتدي
الواحد منهم شبيهاً زي صاحبه، وإنما كانوا يشتركون جميعاً في اللون الأحمر.
وكانوا يحبون كثيراً أن يستردوا منا ثيابنا المستعملة؛ من أقمصة، وجزمات،
وخاصة السراويل. فكانوا ما أن يستلموها حتى يسارعوا إلى ارتدائها - لكن في
ما عدا ذلك كانوا يرتدون اللباس الوطني. وتكون ثيابهم عموماً مغطاة
بالقذارة. وما كانوا يتخيرون لباسهم إلا إذا هموا بالنزول إلى البر؛ فهم
يرتدون الجلباب، وربما زادوا إليه، أحياناً، عمامة، وبلغة صفراء، ولباساً
موحداً حسْ عادة البلد (قوامعه سروال عريض إلى الركبتين، وقميص قصير عليه
زخارف كثيرة). ويجعلون فوق اللباس معطفاً غامق اللون بقب وكمين قصيرين. وهم
يكونون دائماً نظيفي الأبدان أو ليس بينهم، على الأقل، من هو مصاب
بالهوام.
وكان المطبخان منفصلين عن بعضهما. فينما يكون الطباخ الألماني
يعد للأوروپيين (القبطان والضباط وميكانيكيين) الطعامَ في المطبخ القديم
الذي على المركب يتولى واحد من أبناء جلدتهم الطعام للأهالي. وهذا الطباخ
الأسود المسمى الحاج فراجي، قد جيء به إلى المغرب وهو طفل بصفة العبد، ثم
تم تحريره بعدئذ. ويجدر بالقول إنه كان الأسود الوحيد على ظهر السفينة. وقد
كان يقيم في مطبخ ضيق على الجسر. مطبخ يكون، في معظم الأحيان، لا يشبه
شيئاً، بل إنما يكون، وهذا أسوأ، تنبعث منه رائحة الثوم والزيت. والرجل
يكابد مشاق جمة في إتمام العمل المتراكم عليه، وإرضاء رغبات نزلائه. وقد
كان لا يكاد يمر يوم من غير أن تحدث مشاحنات بسبب الوجبات : إما أن الرجال
لا يرضون عن الطبخ، أو لأنهم لا يتوصلون إلى الاتفاق على الوجبات، أو لأن
بينهم من يجد الطعام وافراً جداً، أو يجده غير كاف. فكانت مشكلة الطعام
هذه، هي مثار الشجارات، لأن الرجال، مثلنا نحن الأوروپيين، كانوا يتولون
بأنفسهم إعداد طعامهم. ومن أسف أن أذواقهم كانت شديدة الاختلاف. غير أن
العجوز لم يكن ليضيق بتلك الشجارات. فهو لا يفارقه انشراحه قطو فكان ينهي
تلك الخصامات بكلمة يضحك لها الجميع، فكان يعد الطعام حسبما يروق له. وكنت
أحياناً، أذا وقفت على السطح يأتيني بالشاي، ثم لم ألبث أن أضربت عنه
نهائياً، بعد أن وجدته في مرات كثيرة، تفوح منه رائحة الثوم. فلم يسؤه
رفضي. وقد كان يفوق الآخرين في مظهره الخارجي قذارة؛ وحتى ليذهب بي
الاعتقاد إلى أنه لو دفِع إلى حائط ليظل به ملتصقاً. وقد كان الإقبال على
مطبخه كبيراً، لم تكن تنقص منه تشكيات بعض البخلاء، وما كان الرجال يخشون
شيئاً. فقد كانوا يطعمون خاصة، الكثير من اللحم والخضار. وكانوا يعيدون
أطباقهم ونهي مغطاة بالزيا، ويؤدون ما لا يزيد عن 20 بسيطة عن الشهر، أي ما
يساوي حوالي 14 مارك.
لم يكونوا في عمومهم بالملتزمين بممارستهم
الدينية. لكن كان بينهم، مع ذلك، من كانوا يلتزمون بأوقات الصلاة التي
يحددها القرآن، ولا يهملونها. فكان هؤلاء الأشخاص التقاة يبدون مواضبين، في
الساعة فوق السطح، وقد حملوا معهم حصراً يتخذونها للصلاة؛ فهم يبسطونها
على كوى المركب الكبيرة، أو على طرفها الذي في المقدمة، ويؤدون الصلاة
المفروضة، وقد توجهوا إلى القبلة، وجعلوا يأتون بكثير من الركعات والسجدات،
ويقبلون أرضية السطح، ويشبكون الأيدي. فإذا كان الجو غائماً، يلزمني
أحياناً، أن أبين لهم وجهة مكة بالبوصل. وفي المساء، يأتي رجل إلى مقدم
السفينة، ويأخذ، مثل المؤذن في المساجد، في دعوة المؤمنين على السفينة،
بصوته الزاعق إلى صلاة المساء. فإذا اقترب شهر الصيام، رمضان، وهو الوقت
الذي نقترب منه الآن، ذبت في القوم حمية دينية عارمة. فإذا الرجال من ذوي
الأذهان المتحررة، قد صاروا هم أيضاً، تقاة ورعين، فإذا أذِّن لصلاة
المساء، اصطف الرجال فوق الجسر، في صلاة جماعية. فكأني بهم يؤدون حركات
للرشاقة، ذات إيقاع ونظام. إننا، نحن الأوروپيين، نحترم، المصلين، ولا
نزعجم قط، برغم ما في ذلك من ضياع لوقت العمل. إن علينا أن نذعن لعادات
وتقاليد البلد الذي نقيم فيه بصفة الضيوف، برغم ما نلاقي في ذلك أحياناً من
مشاق.
23-07-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 2 -
لزمنا
في صيف عام 1900، أن ننقل من مدينة الجديدة إلى عجرود جنوداً موجَّهين
إلى محلة وجدة. وقد أخبرونا أن علينا نقل 1500 رجل في رحلة واحدة على متن
السفينة الصغيرة ! فاحتججت على الأمر لدى القائد، فكان رده، بواسطة
ترجمانه، أن في إمكاني أن أكوِّمهم كيفما اتفق، فما هم غير دهماء من القراء
والمعتوهين! ومن حسن الحظ أنه لم يكد يمضي وقت يسر حتى فرَّ أكثرهم، ولم
يتبقَّ من الـ 1500 غير 600، وبذلك أمكننا أن ننقلهم على متن السفينة. ولم
تكن بالحمولة المريحة، فالرجال كانوا قليلي نظافة، وكانت تنبعث منهم روائح
كريهة. ولكم سعدنا أن أنزلنا أولئك المقاتلين في المكان الذي كانوا
يقصدونه. وقد كانت السفينة بعدهم في حالة مريعة ، لكن المضخة البخارية
القوية أتت على تلك القذارة.
وفي خريف العام نفسه تلقيت الأمر بالعودة
إلى مدينة الصويرة لحمل المؤونة إلى مدينة طرفاية. وقد مر، يومئذ، نحو عام،
على وفاة الصدر الأعظم باحماد، الذي ظل، حتى وفاته، يتحكم في زمام الأمور
في المغرب بيد من حديد. وأصبح يحكم البلادَ يومذاك السلطان الشاب مولاي عبد
العزيز، الذي لم يكن قد أتمَّ بعدُ، العشرين، وقد كان غراً عديم الخبرة
والتجربة. فسرعان ما اختل النظام الذي ظل سائداً أرجاء المغرب على عهد
سلفه. وقد كنتُ، إلى ذلك الحين، قليل الاهتمام بشؤون السياسة، لكن كان
يرغِّبني فيها ما صرت أسمع منذئذ من حديث الناس عن السقوط الوشيك للبلاد.
وقد كان السلطان يقيم في مدينة مراكش. وكان وحكومته عاجزين، وكان رعاياه
أنفسهم، يؤكدون أن ما يجري في العاصمة كان شيئاً من قبيل الغرابات. وبدأتْ
تصل الأصداء المقلقة عن تقدم الفرنسيين. وقيل إنهم بدأوا يزحفون على
تافيلالت. وقد كان خرج أربعة فرنسيين من السينغال في حراسة من بعض الأهالي،
يقصدون المغرب لتحديد نطاق المصالح الفرنسية، فتم أسرهم، فيما كانوا يهمون
باختراق التراب المغربي. ولقد تم قتل مرافقيهم. وكان ذلك الحادث مثارَ
الكثير من الجدال. ولقد تم في المقام الأول، تدارس مسألة التقسيم، وهو
مشروع لم يجد الإقبال، رغم أنه قد أصبح من العسير القيام بالأعمال بفعل ما
أصبح يسود المغربَ من انعدام الأمن. وأخذت الآراء تتباين في شأن مستقبل
البلاد. ففيما كان البعض يعتقد أن الأحوال ستظل على ما هي عليه كان آخرون
يعتقدون بحتمية وقوع انهيار شامل في المستقبل القريب. لكن الجميع كانوا
متفقين على أمر واحد : أن القوى الأجنبية لن تقبل بأن تكون الهيمنة في
المغرب لفرنسا، وأنها ستضع مع الزمن، حداً لأطماعها التوسعية في المغرب.
وقد كان يُستنتَج من كل ذلك أن الأحوال كانت سيئة في المغرب. ومع ذلك فقد
بقي المغاربة على معاملتهم الودية للأوروپيين.
كان فصل الشتاء يقترب،
وهذا ينذر بأن ميناء الصويرة سيصير خطيراً في الأوقات الماطرة. فكنت أحرص
على الانتهاء من عملي فيه بأسرع ما في الإمكان، لكي أستطيع العودة إلى
الشمال. فلما أشعرت الأمين الأعلى، بعد وصولي، قال لي بهدوء شديد إن
السفينة قد عملت كثيراً في تلك الآونة الأخيرة، وأننا لا بد مجهدون. وعليه،
فقد كان يلزمنا، أولاً، أن نخلد إلى الراحة، ونستعيد قوانا، استعداداً
للرحلة المقبلة. لم يكن في الأمر ما يدعو إلى الاستعجال، فالمغربي لا يتعجل
قط. فـ»العجلة من الشيطان»، يقول المثل العربي. وإذا كان الأوروپي لا
يمتلك الهدوء اللازم في مثل تلك الظروف. ومن حسن حظي أني كنت هادئاً
وصبوراً معاً.
وعليه، فقد لبثنا منتظرين طيلة أسابيع، إذ لم يكن قد تم
بعْدُ، إعداد الحمولة التي يتعيَّن علينا نقلها. ولم يكن كل محتوى تلك
الحمولة من المؤن الموجهة إلى الحامية الصغيرة المرابطة في طرفاية، بل
اشتملت تلك الحمولة، كذلك، على كمية كبيرة من الأموال كانت موجَّهة إلى
الأمير الصحراوي الشيخ ماء العينين. وقد كان هذا الأخير رئيساً جليل القدر،
لم تكن منطقته بالبعيدة جداً عن طرفاية، وهو يشكل أقرب جوار للمغرب مع
الجنوب. وقد كان سلاطين المغرب يطرون الشيخ ماء العينين لكبير نفوذه. وكان
الشيخ يقوم على رأس كل سنتين برحلة، على حساب المغرب، إلى بلاطي مراكش
وفاس، وكان يعود إلى موطنه محملاً بوافر الهدايا. وقد كانت هذه الرحلة
تستغرق وقتاً طويلاً، إذ كان الشيخ لايسافر إلا براً، مما يجعل سفره يستغرق
أحياناً، ستة شهور. كما أن زيارته للبلاط المغربي كانت تستغرق شهراً على
أقل تقدير، بما يعني أنه لايقضي غير خمسة شهور من كل عام في منطقته. وقد
كان السلاطين من جانبهم يفيدون من علاقتهم بالشيخ في حذق ومهارة. ولذلك فقد
أصبحوا أصدقاء للأمراء المتنفذين على حدود مملكتهم. فقد كانوا يعتمدون على
مساعداتهم في حماية مملكتهم من الهجومات الخارجية وفي القضاء على الفتن
والتمردات.
كانت الهدايا المقدمة إلى الشيخ ماء العينين تتكوَّن ، في
عمومها، من المواد التي تغلها الأرض، وهي تتكون، في معظمها، من الشعير
الذي يُتَّخَذ في الصحراء طعاماً للماشية، كما يُتَّخذ منه الخبز. كما كان
الشيخ يتلقى، فضلاً عن ذلك، بعض الحلاوي المغربية، وبعض الأدوات والزرابي.
وكان يم تعليب هذه الهدايا، وتُجعَل على ظهور الدواب.
ولا مراء في أن
الشيخ أخبر، في زيارته الأخيرة، السلطانَ وهو يستقبله في قصره، بنيته في
بناء قصر جديد له هو الآخر في واحته. ولذلك قدِّمت له، في هذه المرة، جميع
أنواع مواد البناء : من أخشاب، وألواح الزجاج، وجبص وجير، إلخ، وبعد أسابيع
كثيرة أمضاها في ضيافة السلطان، تم إرسال كل تلك المواد إليه على متن
سفينة «التركي».
استقل السفينة معنا، حوالي 100 رجل من رجال الشيخ، وهم
الذين رافقوا الشيخ في رحلته في المغرب، فكانوا يتولوَّن، على ظهر السفينة،
حراسة تلك الهدايا.
كان رجال الشيخ ماء العينين، شأنهم شأن سائر أبناء
الصحراء، الذين يعيشون في مدينة طرفاية، كل لباسهم من الأُزر الزرق، يلفون
بها أجسادهم، على نحو غريب، وكأنما هم يشتركون في نفس الخوف من الماء.
وتبدو جلودهم، هم الآخرين، ضاربةَ اللون إلى الزرقة.
كان أولئك «الرجال
الزرق» يمارسون حياتهم على متن السفينة، في صورة أشبه بالمغاربة. فهم،
كذلك، مسلمون، فكانوا يطيعون الفروض نفسها، ما تعلق بالوضوء قبل الصلاة.
ومن المعروف أن في الصحراء يندر الماء كثيراً. فلكي لا يخلوا الوضوء الذي
يأمر به القرآن، يتناولون حجراً صغيراً أملس أشبه ما يكون بقطعة صابون؛
فيمررونه على أذرعهم، وأعناقهم ورقابهم. وضوء رمزي؛ ولا يبدو أن الله
يرفضه. وقد كان هؤلاء القذرون من شدة خشيتهم للماء، أن كانوا يقتصرون على
ذلك الوضوء الجاف، وقد توفر لهم ما يكفي من الماء، وجعِل رهن تصرفهم. لقد
كانوا كارهين للنظافة، إذ كان بحارتي إذا أكرهوهم على التغوط رأساً في
البحر، بدل أن يلوثوا السطح كله، كانوا يقابلونه بغضب شديد، ويثورون عليهم،
ما اضطُر الضابط الأول أن يظل يتنقل إلى نهاية تلك الرحلة بمسدس معبإ لا
يفارقه. غير أنه لم يكد يستعمل ذلك السلاح. فالرجال الزرق إذا ترثكوا
لقذارتهم في سلام، لا تراهم إلا هادئين جداً، وفي قرارة أنفسهم مسالمين،
برغم المظهر المقلق الذي يسبغه عليهم اللثام يخفي جباههم وأفواههم. لقد
كانوا شديدي إهمال للنظافة، حتى إنهم لا يتورعون أن يقبلوا على الأكل في
الآنية النحاسية التي يكونون قد بالوا وتغوطوا فيها.
وقد أنزلناهم في كاپ جوبي.
كان
الجير معبأً في «سيرونات». وهي أكياس تُتَّخذ من الخيط. ثم شرع بعض
العمَّال في إنزاله إلى البر، يحملونه فوق ظهورهم. ثم اتفق أن ابتلت تلك
الأكياس بفعل ما نالها من رشاش البحر، وبلغ الماء إلى الجير، فإذا هو قد
أخذ يحرق ظهور الرجال، فأخذوا يُسقِطونه في الماء، صارخين من الألم. وعلى
هذا النحو ذاب الجير كله. وأشك في أنه سينفع الشيخَ في شيء مما إراده به،
وهو على حالته تلك. وكانت ألواح الخشب بطول 14 قدماً، فتم تقطيعها، حتى
يتسنى حملها على ظهور الجمال، بحيث ما عاد ذلك الخشب صالحاً لغير الحرق،
ولم يعد ممكناً أن تُشيَّد منه غير حجرات للكلاب!
ولقد بقينا نعمل في
فصل الشتاء في تحميل المؤن إلى مدينة طرفاية وعَرابينِ الصداقة إلى الشيخ
ماء العينين. وفي شهور الصيف نحمل التموينات إلى المحلة المرابطة على ساحل
البحر الأبيض المتوسط. وحده تمرد بوحمارة الذي انفجر بعدئذ، أعاق رحلتَنا
المعتادة إلى مدينة طرفاية، وجعل على كواهلنا الكثير من العمل في المناطق
المتمردة.
وأود، قبل مغادرتي لمدينة طرفاية، أن أذكر لكم رجلاً يعتبَر
مثالاً واضحاً عن قلة الاهتمام الذي يوليه المغاربة للتكوين الثقافي
والعقلي. وأريد بكلامي هذا، رجلاً يُدعى سيدي الحسين. فلقد درس سيدي
الحسين، ورفيقين اثنين له، في ألمانيا، طيلة سنوات، وتلقى تكويناً في
الهندسة. وبدلاً من أن يُعهَد إليه بمنصب يناسب معارفه، إذا هو يُرسَل إلى
مدينة طرفاية، ليعمل هناك ترجماناً. ولم أفهم، أبداً ماذا عسى هذا الرجل أن
يفعل في تلك المنطقة. فقد كان لبواخر الحكومة ترجماناتها الخاصون بها. ولو
اتفق أن رمت الأقدار بسفينة من السفن إلى هذه المنطقة، فلن يكون لسيدي
الحسين من فائدة إلا أن تكون تلك السفينة ألمانية. وكان الرجل المسكين
يتلقى أجراً قوامه 15 دورو في الشهر، ويكون، بذلك، قد حُكِم عليه بأن يظل
متبطلاً لايفعل شيئاً في تلك المنطقة الأشد فراغاً وإمحالاً من بلاده. فكان
الرجل يتعايش مع مصيره، بتلك القدرية التي جُبِل عليها المسلمون، ويحيا
تلك الحياة التعيسة التي لم تبذِّل من بشاشته أو تفسد مزاجه الأميل إلى
الدعابة. ولقد كان يبذل ما في وسعه لأجل أن يجعل إقامتنا في تلك المنطقة
إقامة سائغة. وكان ذلك شغله الوحيد طوال السنة.
تلقيت الأمر، في خريف
عام 1901، أثناء رحلة عودتي من الصويرة باتجاه مدينة طنجة، بالتعريج على
مدينة الجديدة لأنقل من هناك حمولة إلى مدينة العرائش. وقد كنت خلال إقامتي
السابقة في مدينة الجديدة رأيت سفينة بخارية أنجليزية تُنزِل في قارب محلي
صندوقاً كبيراً. ولقد بقي ذلك الصندوق رابضاً هناك. وكنت كثيراً ما أراه.
وعندما وصلت إلى مدينة الجديدة علِمت أن ذلك الصندوق، فضلاً عن نقَّالة
بخارية، هي الحمولة التي عليَّ أن أنقلها إلى مدينة العرائش. وقد كان ذلك
الصندوق الكبير يحتوي على درَّاسة تزن 5000 كيوغرام، فيما تزن النقالة
البخارية 4000 كيلوغرام. وحملنا على متن السفنة، كذلك، عدداً من الصناديق
الصغيرة. وجميع هذه البضائع طلبها ماك لين؛ وهو ضابط أنجليزي في خدمة
السلطان. وهي تتألف من معدات كهربائية، ومغاطس من الرخام، وبيانات، وآلات
تصوير، إلخ.
كانت هذه الحمولة أول دليل ملموس لدي على التأثير الذي كان
يقع على السلطان الغر عديم التجربة من مستشاريه الدهاة الماكرين. فبدلاً من
يعتنوا بإعداده ليجعلوا منه سلطاناً محنكاً وعصرياً، وهو أمر لم يكن
بالمتعذر، لأن كل من عاشر مولاي عبد العزيز يشهد له بالذكاء والتعطش إلى
المعرفة والتعلم، بدلاً من ذلك كانوا يجعلونه يصرف وقته في اللعب بمجسَّم
آلة من الآلات العصرية. وكان المكلفون، من بين مستخدمي السلطان، باقتناء
هذه الأشياء يفيدون من ذلك أكبرَ الفوائد، وإذا هم قد أصبحوا من ذوي الثراء
الفاحش. وكان الوزراء غير مهتمين بغير مصالحهم ومصالح أقربائهم، غير آبهين
لمصير البلاد. وكانت المحسوبية أمراً متفشياً في المغرب، فكان أسوأ
الأوغاد يبلغون إلى أعلى المناصب إذا كانوا ممن يجيدون التملق لكبار موظفي
الدولة، أو كانوا من أقربائهم. ومن أمثلة ما نقول الوزير الجبار السابق
المنبهي الذي كان مجرد سائس، وسرعان ما ارتقى إلى منصب وزير الحربية، وقد
كان له صديق كان يعمل مجرد سائس، وسرعان ما سما به إلى منصب عامل لمدينة
الصويرة. وقد كان هذا العامل يرفع من مداخيله بما كان يفرض من الضرائب على
الدعارة. فقد كان يأخذ عن الفتيات الجميلات 5 دوروات في الأسبوع، وعن الأقل
جمالاً منهن دورو ونصفاً. وبذلك كان يحصِّل مدخولاً يصل إلى حوالي 500
دورو في الشهر الواحد. وقد كان السجن على عهده ممتلئاً في معظم الأحيان،
كما كانت الدية عن المعتقلين الجدد مبلغاً لا يُستهان به.
لم يكن الشعب
بالغافل عن هذا السير السيء للأمور في المغرب. وسرعان ما أخذ يغمغم بذلك.
فقد أخذ يلوم السلطان بإنفاقه للبمالغ الطائلة على لهوه بتلك الآلة
العصرية، وبكرهه للمؤمنين، وبعدم انشغاله بصالح البلاد. لكن كان أعظم
الشرور في نظر الشعب، أن السلطان كان يقبِل على التصوُّر، وتمثيل الإنسان
أمر يمنعه القرآن منعاً باتاً، وكون السلطان نفسه يقبل على التصوير، يحمل
على نعته بالمسيحي.
والمرجَّح أن السطان لم يُبلَّغ بما كان من نقمة
الشعب عليه، وإلا لكان ذلك قد حمله ذلك، بما كان يتصف به من الذكاء، على
التحول عن سيرته تلك.
ولقد حملْنا تلك اللعبة إلى مدينة العرائش،
وأنزلناها على رصيف المرسى. ولايزال ذلك الصندوق والدرَّاسة جاثمين هناك
إلى يومنا هذا! فقد كانت حمولة ثقيلة جداً، بما يتعذر نقلها إلى مدينة فاس.
ولقد تم وضع القاطرة على عجلات تجرها البغال والثيران إلى داخل البلاد.
بيد أن الموكب لم يمض بعيداً في طريقه، إذ كثير التوقف بسبب من مصالح
الجمارك.
وعلاوة على ذلك كان يوم يشهد موت بعض ثيران الجر. ولم تكن
ميتاتها بالطبيعية، وإنما كانت ميتات عنيفة. فقد كان السائقون يقتلونها،
ويَطعَمون لحمها، ويبيعون منه ما يفيض عن حاجتهم. وكانوا، بعدئذ، يطلبون
تزويدهم بثيران جديدة. وشيئاً فشيئاً أخذ نقل تلك اللعبة يصبح مكلفاً جداً،
بحيث تم التخلي عنه، وتم ترك تلك الآلة على بعد ساعات من المسير من مدينة
العرائش. ثم جاءت قبائل تلك الناحية، فاستولت على كل ما يمكن تفكيكه وحمله
من أجزاء النقالة البخارية؛ كالصنابير الصفر، وأنابيب النحاس، وأبواب
المواقد، إلخ. بينما تم نقل الصناديق المحتوية على الأشياء الصغيرة إلى
مدينة فاس، ولا تزال ترقد هناك، قد أُهمِل جلها، وتُرِك عرضة للتلف.
وأما سفينتنا فلم تعد يجدي فيها شيئاً عمليات التنظيف التي كانت تخضع لها في
مدينة العرائش. وأصبحت في حاجة ماسة إلى الترميم. غير أن كل طلباتنا إلى
المخزن في هذا الشأن بقيت من غير مفعول. ولذلك طلبْت إلى الوزير الألماني،
البارون مينتسينغن، أن يتدخل لدى البلاط الألماني، من أجل الالتفات إلى تلك
السفينة، لإرسالها إلى أوروپا لإخضاعها للترميم اللاَّزم. فكان جواب
الوزير أن الترميم يقع على الحكومة المغربية وحدها، ولذلك فهو لايعنيه من
قريب ولا من بعيد. ولقد أوضحْت له أن في بقاء السفينة على حالها تهديداً
لأرواح جميع المواطنين الألمان العاملين على متنها. ولذلك قبِل، في نهاية
الأمر، أن يتكفل بترميم سفينة «التركي». ولأجل ذلك كان خروجنا إلى جبل
طارق، ولقد استغرقت أعمال الترميم أربعة أشهر كاملة، بسبب بطء العمل في
المشغل البحري لجبل طارق.
ولقد ازداد امتعاض المغاربة من السلطان لما
كان مستمراً فيه من اقتناء شتى أنواع اللعب النادرة. بل لقد بلغ منه الأمر
أن كان يجيز للنساء من حريمه أن يركبن الدراجات الهوائية. وكان آخر تجاوزات
السلطان ما بدر منه حين مقتل الراهب الأنجليزي كووپر في شتاء 1903-1902.
فلقد اقتص مولاي عبد العزيز للأنجليزيين من القاتل على وجه السرعة. وطفح،
بذلك، الكيل. فقد سرت الشائعات في أوساط الشعب أن السلطان أمر بالبحث عن
القاتل، ولو داخل أكبر مكان مقدس في مدينة فاس؛ ذلك هو مسجد مولاي ادريس،
وهو مكان يحظى فيه جميع المؤمنين بالحماية، حتى أكثرهم إجراماً.
ولقداعتُبِر اقتحام ذلك المكان عملاً شنيعاً حتى من السطان نفسه. ولقد
علِمت، بعدئذ، أن هذه الصيغة من الحكاية لم تكن موافقة للحقيقة، غير أن
الشعب صدَّقها. فقد كان يعتبر السلطان مسيحياً قادراً على كل شيء.
وفي
تلك الأجواء اندلع تمرد بوحمارة. ولقد اجتمع لديَّ بعض التواريخ في شأن
شخصية المدعو بوحمارة وأصله، من دون أن يكون في مقدوري أن أتثبَّت من صحة
هذه وتلك، لأن الأهالي قليلاً ما يتفقون في تقدير الزمن، وكذلك يكون شأنهم
في تقدير المسافات والأرقام. ويكاد لايوجد بين المغاربة من يعرف السن الذي
كان فيه بوحمارة.
الاسم الحقيقي لبوحمارة هو الجيلالي بن عبد السلام
الزرهوني (نسـبة إلى زرهون). كان مـولده في قبيلة أولاد يـوسـف، في جبال
زرهون، وهناك تلقى تعليمه. ودخل، في شبابه، في خدمة مولاي علي الكومي؛ رئيس
موسيقيِّي السلطان. ثم أصبح مخزنياً لدى مولاي محمد، في زمن كان فيه هذا
الأخير خليفةً لوالده؛ السلطان مولاي الحسن. ثم كان تعرضه للحبس من أبي
محمد؛ الخليفة السابق على مدينة طنجة. وأُطلِق سراحه، بعدئذ، فالتحق بالعمل
لدى المنبهي. وعلى أَثَر وفاة باحماد تم تسريح الجيلالي الزرهوني من جديد،
مما ملأ قلبه غلاً ومرارة. وفي ذلك الوقت كان السلطان الشاب مولاي عبد
العزيز يقيم في بلاطه مدينة مراكش.
ويُحكى أن الجيلالي الزرهوني تقدم
إلى الجمارك في مدينة الجديدة برسالة مزورة يزعم أنها من السطان، بها أمرٌ
بتسليم حاملها 400 دورو. حتى إذا تسلَّم ذلك المبلغ، فرَّ إلى تلمسان في
الجزائر. لكن تلك السرقة لم تمنعه من العودة إلى فاس، والتوجه منها إلى
وهران، مروراً بمدينة طنجة.
وفي شتاء عام 1902، خرج الزرهوني (بوحمارة)
متوجهاً إلى مدينة فاس؛ حيث كان السلطان قد نفَّذ، في تلك الأثناء، حكم
الإعدام في قاتل الراهب الإسپاني. ولم يخطر ببال أحد أن الزرهوني كانت له،
قبلئذ، مشاريع طموحة، والأمر الوحيد المؤكد أنه كان يغذي حقداً دفيناً على
السلطان ومستشاريه الخُرْق. ولقد بلغ به ذلك الحقد إلى الإتيان بمشروع
مغامر للاستيلاء على العرش. ولقد مس الشعب في نقطة حساسة؛ مشاعره الدينية.
ثم صار الزرهوني يتنقل ممتطياً حمارته «كانيسة»، ملقياً الخطابات عن صداقة
السلطان للأجانب، وعن قدرة القوى المسيحية في البلاط المغربي، وعجز
الموظفين. ولكي يزيد من الأهمية لنفسه، فقد زعم للشعب أنه هو مولاي محمد،
شقيق السلطان، وأنه إنما جاء لوضع حد للحالة المحزنة التي أصبحت عليها
البلاد. ولكي يخفي اسمه الأصلي، تكنَّى باسم بوحمارة، لأنه كان يستعمل هذا
الحيوان مطية له. ولايزال يعيش بنفس الاسم في التقاليد الشعبية. ولقد
اجتمعت له حشود من الأتباع، مؤمنين به إيماناً أعمى. وهكذا بدأ ذلك التمرد
الرهيب، الذي أدى، بالإضافة إلى دسائس الفرنسيين، إلى نسف البلاد.
24-07-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 3 -
في مارس 1900 تم إرسالنا إلى مدينة الصويرة، لنزوِّد من هناك الحاميةَ الصغيرة في مدينة طرفاية والصويرة من أحدث مدن المغرب.
وقد تم تشييدها على النمط العربي بطبيعة الحال، لكن بشوارع أكثر اتساعاً بالمقارنة مع الشوارع في المدن المغربية.
وتتقاطع
شوارع المدينة عند ساحات كبيرة، ولا يكاد عدد الأوروبيين الذين يعيشون في
مدينة الصويرة يزيد على العشرين، قد اجتمعت فيهم جميع الجنسيات، وبينهم
أربعة ألمان، وكان نائب القنصل، السيد ده مور، يخص بني جلدتنا بفائق
العناية، وكنا نجد، على الدوام، ضيافة عظيمة في بيته، ذي الطراز الألماني
الأًصيل، هو المشيد على الطراز المغربي، فبفضله وزوجته، الجميلة والجذابة،
وجدنا مقامنا، مهما استطال، في مدينة الصويرة، دون ذلك الطول.
بعد أن
نقلْنا على متن سفينتنا الحمولةَ الموجَّهة إلى كاپ جوبي، انطلقنا باتجاه
مدينة أكادير، لننقل من هناك حمولة إضافية قوامها 500 كيس من الشعير،
والمياه بين الصويرة وكاپ جوبي قليلة الارتياد من السفن أو معدومته، إلا من
السفن التابعة إلى الحكومة المغربية، إذ لا وجود في هذه الناحية لميناء
مفتوح على التجارة الخارجية، ولم يكن وجود للمبراق في المغرب، ولذلك لم
يخبر أحد بوصولنا، مما حتَّم علينا أن نظل ننتظر تلك الحمولة أربعاً وعشرين
ساعة.
وقد أمضينا ذلك النهار الحر في زيارة البر، والجميع يعرف أن جبال الأطلس تلتقي مع المحيط الأطلسي قرب مدينة أكادير.
فالجبال
تنحدر باتجاه البحر، في انحرافات هينة، وهذه السفوح بالغة الخصوبة، وأما
مدينة أكادير نفسها، فهي مدينة مهدَّمة ومهجورة، لم يعد يسكنها غير بعض
الأسر الفقيرة، قد آوت إلى بعض الخرابات، ويحتمي من تقلبات الجو في ما
تبقىَّ من منازل، معظمها بغير سقوف، متخذة في ذلك، الأخشاب ومختلف المواد،
والمنزل الوحيد اللائق في وسط هذا الخراب، هو مسكن خليفة القايد.
وأما القايد جلُّولي نفسه، فيعيش في محلة كبيرة، فوق قمة جبل، على ارتفاع 1000 قدم فوق سطح البحر.
عندما
نزلنا إلى البر حيانا الخليفة بود ودعانا إلى كأس شاي. وقدم لنا من
الدواب، للذهاب إلى القصبة وزيارة القايد الغلولي، الذي علِم بوصولنا فأرسل
إلينا برفقة من عدد كبير من الجنود المدججين بالسلاح، فصرنا مدة نصف ساعة
نتسلق بمشقة وعناء طريقاً محجرة، صعبة المرور، إلى أن بلغنا القمة.
كانت الرؤية إلى الساحل الآبد والوعر لسوس رائعة، والسفوح والأودية مكسوة وروداً.
القايد
في الخمسين من عمره، رجلٌ مهيب، أسود البشرة، قد خط لحيته شعر رمادي عند
الصدغين، تلقانا بود غامر عند باب قصبته، وصار يقودنا بنفسه في الحصن
الحصين إلى مسكنه، وهو بيت من طابق واحد، خال من أي زخارف خارجية.
ارتقينا
سلماً مظلماً وعراً، كانت «الغرفة الاستعراضية» خالية من أي ديكور، ما عدا
زربية فرشت على الأرض، لأن في المغرب يندر أن تجد على الجدران صوراً أو
سواها من التزيينات.
وفي الغرفة ثلاث كراس قد أعِدََّت لأجلنا، فيما
اقتعد القايد وأعوانه والبحارة الذين قدموا وإيانا الأرض متربعين، جرياً
على العادة، ثم قدم لنا وجبة على الطريقة العربية الأصيلة.
فقد جاءنا
العبيد بقصعة خشبية، عليها غطاء من السلال، قد وضعت فيها بتنسيق صحون
بالزبدة، والعسل، والزيت والخبز. ثم جيء لنا بطابق هائل من فضة في نحو متر،
به لوز، وجوز وتمر، ووضعت كل تلك الملاذ أمامنا، نحن الأوروبيين، على
الأرض، ودعينا لتناولها على الطريقة العربية.
وقال لنا القايد، بلسان الترجمان، إن العسل الأبيض، الذي قدم لنا هو طعام لا يقدم، في العادة، لغير الأصدقاء الأعزاء.
ولقد
كان بالفعل لذيذاً! ثم جيء إلينا بطبق كبير بلحم الخروف والكرنب، وكجري
العادة، لم يكن ثمة سكاكين، ولا شوكات، ولا ملاعق، فكنا نأكل باستعمال
أصابعنا، على الطريقة العربية، ثم أدير علينا الشاي والفواكه، وفي ختام تلك
الوجبة، رش علينا من ماء الزهر والعنبر.
ربما كان الأكل بالأصابع أمراً
قليل الشهوة للأوروبيين، وأما العربي المميز فإنه يغسل أطراف أصابعه قبل
الأكل وبعده، ولا يكتفي بذلك، وإنما هو يغسلها بين الطبق والآخر بماء يصب
عليه من إبريق فوق طست.
كنا نجلس في تلك الغرفة الطويلة، في ثلاث
مجموعات : القايد وموظفيه بقرب نافذة عالية، ونحن الأوروبيين في الوسط،
والبحارة في طرف الغرفة.
فكان الطعام يقدّم إلينا أولاً، ثم تُنقل الأطباق المبدوءة نفسها إلى الموظفين، وما تبقى يقدم إلى رجالي.
فلما
شبعنا خرجنا إلى الفناء أمام البيت، وهناك قدم إلينا القايد الهدايا
الترحيبية: ديكان روميان، وثماني دجاجات وبضع خنازير برية جميلة، فشكرناه
كثيراً، وانصرفنا، وجعلنا ننزل الجبل من جديد، في غير ما رفقة عسكرية.
ولقد
حظيت بالضيافة نفسها في سائر مناطق المغرب التي كان يندر أن يرتادها
الأوروبيون، فكنا، في ذلك الوقت، حيثما حللنا نتلقى الهديا الترحيبية،
المونة.
وصرنا نأسف، بعد ذلك، لتلك العادة قد صارت إلى اختفاء تدريجي.
وفي اليوم الموالي خرجنا متوجهين إلى كاپ جوبي.
وكاپ
جوبي، الذي يسميه المغاربة بطرفاية، هي آخر نقطة إلى الجنوب من المغرب،
إنها موقع صحراوي، تلتقي فيه الصحراء مع البحر، ويقع رصيف الميناء أمام
الساحل، إلى الناحية الجنوبية الشرقية، ولقد نشأ عن ذلك، بين الرصيف
والقارة، خليج من مياه هادئة، لكن شديدة الضحالة.
واتفق قبل بضعة أعوام
أن وقع اختيار شركة إنجليزية على هذا المكان لتنشئ فيه مركزاً تجارياً،
وأخذت تجذب إليها، شيئاً فشيئاً، التجارةَ المتجهة من سوس إلى مدينة
الصويرة، وحيث إن جبال سوس الضاربة في الجنوب لا تكاد تبعد بغير 30 متراً
عن مدينة طرفاية، لكنها تبعد، على العكس، بأزيد من 300 كيلومتر إلى
الشمال، فقد كان للمخطَّط الإنجليزي مؤهلات للنجاح.
ولقد شرعت الشركة في إنشاء منزل منيع في أقصى الجنوب الشرقي من الريف، على هيأة حصن، كما أنشأت، قبالته، على الشاطئ، بناية جميلة.
ولقد
تم البناء على نحو متين، ولا يزال البناءان قائمين إلى يومنا هذا، غير أن
الموقف العدائي للقبائل الصحراوية من هذه المقاولة الجديدة، أحال كل تجارة
تقوم بها أمراً مستحيلاً، وقد يكون الإنجليز اغتبطوا عندما لوَّح السلطان
بسيادته على الأرض التي احتلُّوها، واشترى منهم ملكهم بمبلغ لا يُستهان به.
ولقد
رحل الإنجليز عن المنطقة، وجعل السلطان عليها حامية صغيرة لا يتعدى عدد
رجالها الأربعين، كان كل شأنهم أن يرابطوا عن الحدود المغربية من ناحية
الجنوب، وكان يتم استبدالهم على رأس كل عامين، إذْ لم يكن في مقدور حتى
الإنسان المغربي أن يتحمَّل البقاء طويلاً في هذه المنطقة. فلا يمكن تصور
وجود منطقة أكثر من هذه بؤساً وإيحاشاً؛ فليس يكتنفها غير الرمل، والرمل ثم
الرمل! وإنه ليعسر علينا أن نفهم أين تجد بعض الخراف البائسة التي يمتلكها
الأهالي والعدد اللا يُحصى من الغزلان غذاءَها في هذا القفر.
ولم يكن
يظهر في هذا المجال الرتيب غير المنزلين اللذين أنشأها الإنجليز، لكن على
الرغم من هذا الفراغ، كان الناس يعيشون في هذا الطرف من الصحراء، ولا يخطر
ببالهم أن يتركوه!
كان يتعيَّن جلب جميع المواد الغذائية للحامية، بما
فيها الماء وخشب التدفئة، ولذلك يكون وصول سفينتنا دائماً، عيداً صغيراً
للحامية، فبالإضافة إلى المواد الغذائية الطرية، كنا نحمل إليهم رسائل
الأهل وأخبار البلاد، وكان الجنود المغاربة يسكنون على الطريقة العربية.
فلا
وجود في مساكنهم لأي أثر للنظافة التي كانت تطبع هذه المساكن على عهد
الإنجليز. ولم يعد البيتان يحتفظان بلونها الأصفر البراق في غير النواحي
منهما التي يطالها رذاذ البحر، أو النواحي التي لا تطولها أيدي البشر.
ومن النوافذ الست لأحد هذين المنزلين تتراءى آثار سوداء مصدرها ما يُلقى من الفتحات من الأزبال والقاذورات.
وقد
أُلْقيت كما اتفق، في ساحة مفتوحة تمتد إلى داخل الأراضي، خليط من القطع
الخشبية، والأكياس الفارغة، وكل شيء. وكان تقوم هنا، رافعتان لتفريغ حمولات
السفن، وقد كانتا من البلى بحيث كنت أخشى على الدوام، أن تنهارا تحت ثقل
الحمولة فوقها. فكان لسان حالهم: «لن يحدث ذلك إلا بمشيئة الله!».
ويستمرون
في العمل بهما كما اتفق، ولم يكن الداخل بأفضل من الخارج، فقد كانت حواجز
من الخشب تقسِّم قاعات جميلة وكبيرة إلى حجرات صغيرة، كان يسكنها بعض
الرجال رفقة بعض الإماء الزنجيات، أو أزواجهم الشرعيات.
وقد كانت
القذارة نفسها، والفوضى نفسها تعم المكان، وقد بلغ بالناس استخفافهم
بالنظافة، أنهم كانوا لا يتورعون عن غسل أقدامهم في الخزان الذي منه يؤخذ
الماء بالبراميل!
وكان البيت نفسه في الحالة نفسها من التردي، وكانت
الريح والرمل قد مسحا الأسوار القديمة المحيطة بالفناء، والبالغ علوها خمسة
أمتار، حتى لم يعد يُرى منه في بعض الأنحاء غير الزاوية العلوية، وبات
بإمكان المرء أن يتخطاه بخطوة واحدة.
وإلى جوار هاتين البنايتين كان الكثير من أبناء الصحراء يعيشون تحت الخيام.
وكانوا
يكاد أن يكون كل عيشهم على العمل لفائدة الحامية. وقد كان لهم بعض
المومسات الكريهات، في حوالي الستين من عمرهن، وكان لباس الرجال والنساء
أزرقَ غامقاً، بحيث يبدو الجسد كله في لون أزرق، وحيث إنهم لم يكونوا
يغتسلون أبداً، فإن ذلك قد يحمل على الاعتقاد أن لون جلدهم أزرق. وحتى
وجوههم كانت زرقاء، لأنهم يحيطون جباههم وأفواههم، في العادة، بطرف من
ثيابهم.
كان جنود السلطان على الأقل هم الذين يلمس أجسادَهم الماء
والصابون من حين إلى حين، ولقد أدركت فضل الرسول على أتباعه عندما أمر
بالوضوء قبل كل صلاة، إذ لو لم يكن هؤلاء الجنود مجبرين، من الناحية
الأخلاقية، على الاغتسال عندما يقومون إلى الصلاة، لكانوا قد تلفوا من
الأوساخ والأدران.
ولقد سمحت لي الحكومة المغربية، منذ أن بدأت في
مزاولة نشاطي، بأن ترافقني زوجتي في أسفاري، ولقد نزلت وإياها مدينة
طرفاية، فكانت مثار فضول السكان الصحراويين.
فقد كانت تلك أول مرة يرى
فيها معظمهم امرأة مسيحية، وفضلاً عن ذلك امرأة طويلة القامة، ألمانية
وشقراء. ولقد اندهشوا أيما اندهاش لشعرها الأشقر، والورود في قماش قبعتها.
ولقد
اقتعدنا الرمل، فتحلقوا من حولنا في نصف دائرة، فكانوا يمدون أيديهم
فيلمسون شعر زوجتي البراق، ليتأكدوا من أنه شعر حقيقي، كما كانوا يتشممون
الورود على القبعة، التي يبدو أنها سلبتهم ألبابهم.
كما أثار استغرابهم
ما كنا نحمل في أصابعنا من الخواتم الذهبية، غير أن فضولهم لم يكن يضايقنا،
وإنما كان بالأحرى، فضولاً خجولاً، ينم عن خوف شديد، فكانوا ينسحبون
بسرعة، عندما يلاحظون أنهم أصبحوا لحوحين مزعجين.
وبعد أن فرغنا من
تحميل السفينة، وعدنا أدراجنا إلى مدينة الصويرة، كان بين المسافرين بعض
العبيد الذين كان لا يزال يجري فيهم البيع والشراء في مدينة طرفاية! وقد
كان معظمهم من الشباب السود، استُقدِموا من بلاد السودان.
تلقيت الأمر،
في خريف عام 1901، أثناء رحلة عودتي من الصويرة باتجاه مدينة طنجة،
بالتعريج على مدينة الجديدة لأنقل من هناك حمولة إلى مدينة العرائش، وقد
كنت خلال إقامتي السابقة في مدينة الجديدة رأيت سفينة بخارية إنجليزية
تُنزِل في قارب محلي صندوقاً كبيراً.
ولقد بقي ذلك الصندوق رابضاً هناك،
وكنت كثيراً ما أراه. وعندما وصلت إلى مدينة الجديدة علِمت أن ذلك
الصندوق، فضلاً عن نقَّالة بخارية، هي الحمولة التي عليَّ أن أنقلها إلى
مدينة العرائش.
وقد كان ذلك الصندوق الكبير يحتوي على درَّاسة تزن 5000
كيوغرام، فيما تزن النقالة البخارية 4000 كيلوغرام، وحملنا على متن
السفينة، كذلك، عدداً من الصناديق الصغيرة، وجميع هذه البضائع طلبها ماك
لين؛ وهو ضابط إنجليزي في خدمة السلطان، وهي تتألف من معدات كهربائية،
ومغناطيس من الرخام، وبيانات، وآلات تصوير، إلخ.
كانت هذه الحمولة أول
دليل ملموس لدي على التأثير الذي كان يقع على السلطان الغر عديم التجربة من
مستشاريه الدهاة الماكرين، فبدلاً من يعتنوا بإعداده ليجعلوا منه سلطاناً
محنكاً وعصرياً، وهو أمر لم يكن بالمتعذر، لأن كل من عاشر مولاي عبد العزيز
يشهد له بالذكاء والتعطش إلى المعرفة والتعلم، بدلاً من ذلك كانوا يجعلونه
يصرف وقته في اللعب بمجسَّم آلة من الآلات العصرية. وكان المكلفون، من بين
مستخدمي السلطان، باقتناء هذه الأشياء يفيدون من ذلك أكبرَ الفوائد، وإذا
هم قد أصبحوا من ذوي الثراء الفاحش. وكان الوزراء غير مهتمين بغير مصالحهم
ومصالح أقربائهم، غير آبهين لمصير البلاد.
وكانت المحسوبية أمراً
متفشياً في المغرب، فكان أسوأ الأوغاد يبلغون إلى أعلى المناصب إذا كانوا
ممن يجيدون التملق لكبار موظفي الدولة، أو كانوا من أقربائهم، ومن أمثلة ما
نقول الوزير الجبار السابق المنبهي الذي كان مجرد سائس، وسرعان ما ارتقى
إلى منصب وزير الحربية، وقد كان له صديق كان يعمل مجرد سائس، وسرعان ما سما
به إلى منصب عامل لمدينة الصويرة.
وقد كان هذا العامل يرفع من مداخيله بما كان يفرض من الضرائب على الدعارة.
فقد
كان يأخذ عن الفتيات الجميلات 5 دوروات في الأسبوع، وعن الأقل جمالاً منهن
دورو ونصفاً، وبذلك كان يحصِّل مدخولاً يصل إلى حوالي 500 دورو في الشهر
الواحد.
وقد كان السجن على عهده ممتلئاً في معظم الأحيان، كما كانت الدية عن المعتقلين الجدد مبلغاً لا يُستهان به.
لم
يكن الشعب بالغافل عن هذا السير السيئ للأمور في المغرب، وسرعان ما أخذ
يغمغم بذلك، فقد أخذ يلوم السلطان بإنفاقه للمبالغ الطائلة على لهوه بتلك
الآلة العصرية، وبكرهه للمؤمنين، وبعدم انشغاله بصالح البلاد.
لكن كان
أعظم الشرور في نظر الشعب، أن السلطان كان يقبِل على التصوُّر، وتمثيل
الإنسان أمر يمنعه القرآن منعاً باتاً، وكون السلطان نفسه يقبل على
التصوير، يحمل على نعته بالمسيحي.
والمرجَّح أن السلطان لم يُبلَّغ بما
كان من نقمة الشعب عليه، وإلا لكان ذلك قد حمله ذلك، بما كان يتصف به من
الذكاء، على التحول عن سيرته تلك.
ولقد حملْنا تلك اللعبة إلى مدينة العرائش، وأنزلناها على رصيف المرسى.
ولا
يزال ذلك الصندوق والدرَّاسة جاثمين هناك إلى يومنا هذا! فقد كانت حمولة
ثقيلة جداً، بما يتعذر نقلها إلى مدينة فاس. ولقد تم وضع القاطرة على عجلات
تجرها البغال والثيران إلى داخل البلاد. بيد أن الموكب لم يمض بعيداً في
طريقه، إذ كثير التوقف بسبب من مصالح الجمارك.
وعلاوة على ذلك كان يوم يشهد موت بعض ثيران الجر، ولم تكن ميتاتها بالطبيعية، وإنما كانت ميتات عنيفة.
فقد
كان السائقون يقتلونها، ويَطعَمون لحمها، ويبيعون منه ما يفيض عن حاجتهم،
وكانوا، بعدئذ، يطلبون تزويدهم بثيران جديدة. وشيئاً فشيئاً أخذ نقل تلك
اللعبة يصبح مكلفاً جداً، بحيث تم التخلي عنه، وتم ترك تلك الآلة على بعد
ساعات من المسير من مدينة العرائش.
ثم جاءت قبائل تلك الناحية، فاستولت
على كل ما يمكن تفكيكه وحمله من أجزاء النقالة البخارية؛ كالصنابير الصفر،
وأنابيب النحاس، وأبواب المواقد، إلخ. بينما تم نقل الصناديق المحتوية على
الأشياء الصغيرة إلى مدينة فاس، ولا تزال ترقد هناك، قد أُهمِل جلها،
وتُرِك عرضة للتلف.
وأما سفينتنا فلم تعد يجدي فيها شيئاً عمليات
التنظيف التي كانت تخضع لها في مدينة العرائش. وأصبحت في حاجة ماسة إلى
الترميم. غير أن كل طلباتنا إلى المخزن في هذا الشأن بقيت من غير مفعول.
ولذلك طلبْت إلى الوزير الألماني، البارون مينتسينغن، أن يتدخل لدى البلاط
الألماني، من أجل الالتفات إلى تلك السفينة، لإرسالها إلى أوروپا لإخضاعها
للترميم اللاَّزم.
فكان جواب الوزير أن الترميم يقع على الحكومة المغربية وحدها، ولذلك فهو لا يعنيه من قريب ولا من بعيد.
ولقد
أوضحْت له أن في بقاء السفينة على حالها تهديداً لأرواح جميع المواطنين
الألمان العاملين على متنها، ولذلك قبِل، في نهاية الأمر، أن يتكفل بترميم
سفينة «التركي».
ولأجل ذلك كان خروجنا إلى جبل طارق، ولقد استغرقت أعمال الترميم أربعة أشهر كاملة، بسبب بطء العمل في المشغل البحري لجبل طارق.
ولقد
ازداد امتعاض المغاربة من السلطان لما كان مستمراً فيه من اقتناء شتى
أنواع اللعب النادرة. بل لقد بلغ منه الأمر أن كان يجيز للنساء من حريمه أن
يركبن الدراجات الهوائية. وكان آخر تجاوزات السلطان ما بدر منه حين مقتل
الراهب الإنجليزي كووپر في شتاء 1903-1902. فلقد اقتص مولاي عبد العزيز
للإنجليزيين من القاتل على وجه السرعة، وطفح، بذلك، الكيل.
فقد سرت
الشائعات في أوساط الشعب أن السلطان أمر بالبحث عن القاتل، ولو داخل أكبر
مكان مقدس في مدينة فاس؛ ذلك هو مسجد مولاي إدريس، وهو مكان يحظى فيه جميع
المؤمنين بالحماية، حتى أكثرهم إجراماً.
ولقد اعتُبِر اقتحام ذلك المكان
عملاً شنيعاً حتى من السلطان نفسه، ولقد علِمت، بعدئذ، أن هذه الصيغة من
الحكاية لم تكن موافقة للحقيقة، غير أن الشعب صدَّقها، فقد كان يعتبر
السلطان مسيحياً قادراً على كل شيء.
وفي تلك الأجواء اندلع تمرد
بوحمارة، ولقد اجتمع لديَّ بعض التواريخ في شأن شخصية المدعو بوحمارة
وأصله، من دون أن يكون في مقدوري أن أتثبَّت من صحة هذه وتلك، لأن الأهالي
قليلاً ما يتفقون في تقدير الزمن، وكذلك يكون شأنهم في تقدير المسافات
والأرقام، ويكاد لا يوجد بين المغاربة من يعرف السن الذي كان فيه بوحمارة.
الاسم
الحقيقي لبوحمارة هو الجيلالي بن عبد السلام الزرهوني (نسـبة إلى زرهون،
(كان مـولده في قبيلة أولاد يـوسـف، في جبال زرهون، وهناك تلقى تعليمه
ودخل، في شبابه، في خدمة مولاي علي الكومي؛ رئيس موسيقيِّي السلطان، ثم
أصبح مخزنياً لدى مولاي محمد، في زمن كان فيه هذا الأخير خليفةً لوالده؛
السلطان مولاي الحسن، ثم كان تعرضه للحبس من أبي محمد؛ الخليفة السابق على
مدينة طنجة، وأُطلِق سراحه، بعدئذ، فالتحق بالعمل لدى المنبهي. وعلى أَثَر
وفاة باحماد تم تسريح الجيلالي الزرهوني من جديد، مما ملأ قلبه غلاً
ومرارة.
وفي ذلك الوقت كان السلطان الشاب مولاي عبد العزيز يقيم في بلاطه بمدينة مراكش.
ويُحكى
أن الجيلالي الزرهوني تقدم إلى الجمارك في مدينة الجديدة برسالة مزورة
يزعم أنها من السلطان، بها أمرٌ بتسليم حاملها 400 دورو، حتى إذا تسلَّم
ذلك المبلغ، فرَّ إلى تلمسان في الجزائر، لكن تلك السرقة لم تمنعه من
العودة إلى فاس، والتوجه منها إلى وهران، مروراً بمدينة طنجة.
وفي شتاء
عام1902، خرج الزرهوني (بوحمارة) متوجهاً إلى مدينة فاس؛ حيث كان السلطان
قد نفَّذ، في تلك الأثناء، حكم الإعدام في قاتل الراهب الإسباني.
ولم
يخطر ببال أحد أن الزرهوني كانت له، قبلئذ، مشاريع طموحة، والأمر الوحيد
المؤكد أنه كان يغذي حقداً دفيناً على السلطان ومستشاريه الخُرْق.
ولقد
بلغ به ذلك الحقد إلى الإتيان بمشروع مغامر للاستيلاء على العرش، ولقد مس
الشعب في نقطة حساسة؛ مشاعره الدينية، ثم صار الزرهوني يتنقل ممتطياً
حمارته «كانيسة»، ملقياً الخطابات عن صداقة السلطان للأجانب، وعن قدرة
القوى المسيحية في البلاط المغربي، وعجز الموظفين.
ولكي يزيد من الأهمية
لنفسه، فقد زعم للشعب أنه هو مولاي محمد، شقيق السلطان، وأنه إنما جاء
لوضع حد للحالة المحزنة التي أصبحت عليها البلاد، ولكي يخفي اسمه الأصلي،
تكنَّى باسم بوحمارة، لأنه كان يستعمل هذا الحيوان مطية له. ولا يزال يعيش
بنفس الاسم في التقاليد الشعبية.
ولقد اجتمعت له حشود من الأتباع،
مؤمنين به إيماناً أعمى. وهكذا بدأ ذلك التمرد الرهيب، الذي أدى، بالإضافة
إلى دسائس الفرنسيين، إلى نسف البلاد.
25-07-2012
في مارس 1900 تم إرسالنا إلى مدينة الصويرة، لنزوِّد من هناك الحاميةَ الصغيرة في مدينة طرفاية والصويرة من أحدث مدن المغرب.
وقد تم تشييدها على النمط العربي بطبيعة الحال، لكن بشوارع أكثر اتساعاً بالمقارنة مع الشوارع في المدن المغربية.
وتتقاطع
شوارع المدينة عند ساحات كبيرة، ولا يكاد عدد الأوروبيين الذين يعيشون في
مدينة الصويرة يزيد على العشرين، قد اجتمعت فيهم جميع الجنسيات، وبينهم
أربعة ألمان، وكان نائب القنصل، السيد ده مور، يخص بني جلدتنا بفائق
العناية، وكنا نجد، على الدوام، ضيافة عظيمة في بيته، ذي الطراز الألماني
الأًصيل، هو المشيد على الطراز المغربي، فبفضله وزوجته، الجميلة والجذابة،
وجدنا مقامنا، مهما استطال، في مدينة الصويرة، دون ذلك الطول.
بعد أن
نقلْنا على متن سفينتنا الحمولةَ الموجَّهة إلى كاپ جوبي، انطلقنا باتجاه
مدينة أكادير، لننقل من هناك حمولة إضافية قوامها 500 كيس من الشعير،
والمياه بين الصويرة وكاپ جوبي قليلة الارتياد من السفن أو معدومته، إلا من
السفن التابعة إلى الحكومة المغربية، إذ لا وجود في هذه الناحية لميناء
مفتوح على التجارة الخارجية، ولم يكن وجود للمبراق في المغرب، ولذلك لم
يخبر أحد بوصولنا، مما حتَّم علينا أن نظل ننتظر تلك الحمولة أربعاً وعشرين
ساعة.
وقد أمضينا ذلك النهار الحر في زيارة البر، والجميع يعرف أن جبال الأطلس تلتقي مع المحيط الأطلسي قرب مدينة أكادير.
فالجبال
تنحدر باتجاه البحر، في انحرافات هينة، وهذه السفوح بالغة الخصوبة، وأما
مدينة أكادير نفسها، فهي مدينة مهدَّمة ومهجورة، لم يعد يسكنها غير بعض
الأسر الفقيرة، قد آوت إلى بعض الخرابات، ويحتمي من تقلبات الجو في ما
تبقىَّ من منازل، معظمها بغير سقوف، متخذة في ذلك، الأخشاب ومختلف المواد،
والمنزل الوحيد اللائق في وسط هذا الخراب، هو مسكن خليفة القايد.
وأما القايد جلُّولي نفسه، فيعيش في محلة كبيرة، فوق قمة جبل، على ارتفاع 1000 قدم فوق سطح البحر.
عندما
نزلنا إلى البر حيانا الخليفة بود ودعانا إلى كأس شاي. وقدم لنا من
الدواب، للذهاب إلى القصبة وزيارة القايد الغلولي، الذي علِم بوصولنا فأرسل
إلينا برفقة من عدد كبير من الجنود المدججين بالسلاح، فصرنا مدة نصف ساعة
نتسلق بمشقة وعناء طريقاً محجرة، صعبة المرور، إلى أن بلغنا القمة.
كانت الرؤية إلى الساحل الآبد والوعر لسوس رائعة، والسفوح والأودية مكسوة وروداً.
القايد
في الخمسين من عمره، رجلٌ مهيب، أسود البشرة، قد خط لحيته شعر رمادي عند
الصدغين، تلقانا بود غامر عند باب قصبته، وصار يقودنا بنفسه في الحصن
الحصين إلى مسكنه، وهو بيت من طابق واحد، خال من أي زخارف خارجية.
ارتقينا
سلماً مظلماً وعراً، كانت «الغرفة الاستعراضية» خالية من أي ديكور، ما عدا
زربية فرشت على الأرض، لأن في المغرب يندر أن تجد على الجدران صوراً أو
سواها من التزيينات.
وفي الغرفة ثلاث كراس قد أعِدََّت لأجلنا، فيما
اقتعد القايد وأعوانه والبحارة الذين قدموا وإيانا الأرض متربعين، جرياً
على العادة، ثم قدم لنا وجبة على الطريقة العربية الأصيلة.
فقد جاءنا
العبيد بقصعة خشبية، عليها غطاء من السلال، قد وضعت فيها بتنسيق صحون
بالزبدة، والعسل، والزيت والخبز. ثم جيء لنا بطابق هائل من فضة في نحو متر،
به لوز، وجوز وتمر، ووضعت كل تلك الملاذ أمامنا، نحن الأوروبيين، على
الأرض، ودعينا لتناولها على الطريقة العربية.
وقال لنا القايد، بلسان الترجمان، إن العسل الأبيض، الذي قدم لنا هو طعام لا يقدم، في العادة، لغير الأصدقاء الأعزاء.
ولقد
كان بالفعل لذيذاً! ثم جيء إلينا بطبق كبير بلحم الخروف والكرنب، وكجري
العادة، لم يكن ثمة سكاكين، ولا شوكات، ولا ملاعق، فكنا نأكل باستعمال
أصابعنا، على الطريقة العربية، ثم أدير علينا الشاي والفواكه، وفي ختام تلك
الوجبة، رش علينا من ماء الزهر والعنبر.
ربما كان الأكل بالأصابع أمراً
قليل الشهوة للأوروبيين، وأما العربي المميز فإنه يغسل أطراف أصابعه قبل
الأكل وبعده، ولا يكتفي بذلك، وإنما هو يغسلها بين الطبق والآخر بماء يصب
عليه من إبريق فوق طست.
كنا نجلس في تلك الغرفة الطويلة، في ثلاث
مجموعات : القايد وموظفيه بقرب نافذة عالية، ونحن الأوروبيين في الوسط،
والبحارة في طرف الغرفة.
فكان الطعام يقدّم إلينا أولاً، ثم تُنقل الأطباق المبدوءة نفسها إلى الموظفين، وما تبقى يقدم إلى رجالي.
فلما
شبعنا خرجنا إلى الفناء أمام البيت، وهناك قدم إلينا القايد الهدايا
الترحيبية: ديكان روميان، وثماني دجاجات وبضع خنازير برية جميلة، فشكرناه
كثيراً، وانصرفنا، وجعلنا ننزل الجبل من جديد، في غير ما رفقة عسكرية.
ولقد
حظيت بالضيافة نفسها في سائر مناطق المغرب التي كان يندر أن يرتادها
الأوروبيون، فكنا، في ذلك الوقت، حيثما حللنا نتلقى الهديا الترحيبية،
المونة.
وصرنا نأسف، بعد ذلك، لتلك العادة قد صارت إلى اختفاء تدريجي.
وفي اليوم الموالي خرجنا متوجهين إلى كاپ جوبي.
وكاپ
جوبي، الذي يسميه المغاربة بطرفاية، هي آخر نقطة إلى الجنوب من المغرب،
إنها موقع صحراوي، تلتقي فيه الصحراء مع البحر، ويقع رصيف الميناء أمام
الساحل، إلى الناحية الجنوبية الشرقية، ولقد نشأ عن ذلك، بين الرصيف
والقارة، خليج من مياه هادئة، لكن شديدة الضحالة.
واتفق قبل بضعة أعوام
أن وقع اختيار شركة إنجليزية على هذا المكان لتنشئ فيه مركزاً تجارياً،
وأخذت تجذب إليها، شيئاً فشيئاً، التجارةَ المتجهة من سوس إلى مدينة
الصويرة، وحيث إن جبال سوس الضاربة في الجنوب لا تكاد تبعد بغير 30 متراً
عن مدينة طرفاية، لكنها تبعد، على العكس، بأزيد من 300 كيلومتر إلى
الشمال، فقد كان للمخطَّط الإنجليزي مؤهلات للنجاح.
ولقد شرعت الشركة في إنشاء منزل منيع في أقصى الجنوب الشرقي من الريف، على هيأة حصن، كما أنشأت، قبالته، على الشاطئ، بناية جميلة.
ولقد
تم البناء على نحو متين، ولا يزال البناءان قائمين إلى يومنا هذا، غير أن
الموقف العدائي للقبائل الصحراوية من هذه المقاولة الجديدة، أحال كل تجارة
تقوم بها أمراً مستحيلاً، وقد يكون الإنجليز اغتبطوا عندما لوَّح السلطان
بسيادته على الأرض التي احتلُّوها، واشترى منهم ملكهم بمبلغ لا يُستهان به.
ولقد
رحل الإنجليز عن المنطقة، وجعل السلطان عليها حامية صغيرة لا يتعدى عدد
رجالها الأربعين، كان كل شأنهم أن يرابطوا عن الحدود المغربية من ناحية
الجنوب، وكان يتم استبدالهم على رأس كل عامين، إذْ لم يكن في مقدور حتى
الإنسان المغربي أن يتحمَّل البقاء طويلاً في هذه المنطقة. فلا يمكن تصور
وجود منطقة أكثر من هذه بؤساً وإيحاشاً؛ فليس يكتنفها غير الرمل، والرمل ثم
الرمل! وإنه ليعسر علينا أن نفهم أين تجد بعض الخراف البائسة التي يمتلكها
الأهالي والعدد اللا يُحصى من الغزلان غذاءَها في هذا القفر.
ولم يكن
يظهر في هذا المجال الرتيب غير المنزلين اللذين أنشأها الإنجليز، لكن على
الرغم من هذا الفراغ، كان الناس يعيشون في هذا الطرف من الصحراء، ولا يخطر
ببالهم أن يتركوه!
كان يتعيَّن جلب جميع المواد الغذائية للحامية، بما
فيها الماء وخشب التدفئة، ولذلك يكون وصول سفينتنا دائماً، عيداً صغيراً
للحامية، فبالإضافة إلى المواد الغذائية الطرية، كنا نحمل إليهم رسائل
الأهل وأخبار البلاد، وكان الجنود المغاربة يسكنون على الطريقة العربية.
فلا
وجود في مساكنهم لأي أثر للنظافة التي كانت تطبع هذه المساكن على عهد
الإنجليز. ولم يعد البيتان يحتفظان بلونها الأصفر البراق في غير النواحي
منهما التي يطالها رذاذ البحر، أو النواحي التي لا تطولها أيدي البشر.
ومن النوافذ الست لأحد هذين المنزلين تتراءى آثار سوداء مصدرها ما يُلقى من الفتحات من الأزبال والقاذورات.
وقد
أُلْقيت كما اتفق، في ساحة مفتوحة تمتد إلى داخل الأراضي، خليط من القطع
الخشبية، والأكياس الفارغة، وكل شيء. وكان تقوم هنا، رافعتان لتفريغ حمولات
السفن، وقد كانتا من البلى بحيث كنت أخشى على الدوام، أن تنهارا تحت ثقل
الحمولة فوقها. فكان لسان حالهم: «لن يحدث ذلك إلا بمشيئة الله!».
ويستمرون
في العمل بهما كما اتفق، ولم يكن الداخل بأفضل من الخارج، فقد كانت حواجز
من الخشب تقسِّم قاعات جميلة وكبيرة إلى حجرات صغيرة، كان يسكنها بعض
الرجال رفقة بعض الإماء الزنجيات، أو أزواجهم الشرعيات.
وقد كانت
القذارة نفسها، والفوضى نفسها تعم المكان، وقد بلغ بالناس استخفافهم
بالنظافة، أنهم كانوا لا يتورعون عن غسل أقدامهم في الخزان الذي منه يؤخذ
الماء بالبراميل!
وكان البيت نفسه في الحالة نفسها من التردي، وكانت
الريح والرمل قد مسحا الأسوار القديمة المحيطة بالفناء، والبالغ علوها خمسة
أمتار، حتى لم يعد يُرى منه في بعض الأنحاء غير الزاوية العلوية، وبات
بإمكان المرء أن يتخطاه بخطوة واحدة.
وإلى جوار هاتين البنايتين كان الكثير من أبناء الصحراء يعيشون تحت الخيام.
وكانوا
يكاد أن يكون كل عيشهم على العمل لفائدة الحامية. وقد كان لهم بعض
المومسات الكريهات، في حوالي الستين من عمرهن، وكان لباس الرجال والنساء
أزرقَ غامقاً، بحيث يبدو الجسد كله في لون أزرق، وحيث إنهم لم يكونوا
يغتسلون أبداً، فإن ذلك قد يحمل على الاعتقاد أن لون جلدهم أزرق. وحتى
وجوههم كانت زرقاء، لأنهم يحيطون جباههم وأفواههم، في العادة، بطرف من
ثيابهم.
كان جنود السلطان على الأقل هم الذين يلمس أجسادَهم الماء
والصابون من حين إلى حين، ولقد أدركت فضل الرسول على أتباعه عندما أمر
بالوضوء قبل كل صلاة، إذ لو لم يكن هؤلاء الجنود مجبرين، من الناحية
الأخلاقية، على الاغتسال عندما يقومون إلى الصلاة، لكانوا قد تلفوا من
الأوساخ والأدران.
ولقد سمحت لي الحكومة المغربية، منذ أن بدأت في
مزاولة نشاطي، بأن ترافقني زوجتي في أسفاري، ولقد نزلت وإياها مدينة
طرفاية، فكانت مثار فضول السكان الصحراويين.
فقد كانت تلك أول مرة يرى
فيها معظمهم امرأة مسيحية، وفضلاً عن ذلك امرأة طويلة القامة، ألمانية
وشقراء. ولقد اندهشوا أيما اندهاش لشعرها الأشقر، والورود في قماش قبعتها.
ولقد
اقتعدنا الرمل، فتحلقوا من حولنا في نصف دائرة، فكانوا يمدون أيديهم
فيلمسون شعر زوجتي البراق، ليتأكدوا من أنه شعر حقيقي، كما كانوا يتشممون
الورود على القبعة، التي يبدو أنها سلبتهم ألبابهم.
كما أثار استغرابهم
ما كنا نحمل في أصابعنا من الخواتم الذهبية، غير أن فضولهم لم يكن يضايقنا،
وإنما كان بالأحرى، فضولاً خجولاً، ينم عن خوف شديد، فكانوا ينسحبون
بسرعة، عندما يلاحظون أنهم أصبحوا لحوحين مزعجين.
وبعد أن فرغنا من
تحميل السفينة، وعدنا أدراجنا إلى مدينة الصويرة، كان بين المسافرين بعض
العبيد الذين كان لا يزال يجري فيهم البيع والشراء في مدينة طرفاية! وقد
كان معظمهم من الشباب السود، استُقدِموا من بلاد السودان.
تلقيت الأمر،
في خريف عام 1901، أثناء رحلة عودتي من الصويرة باتجاه مدينة طنجة،
بالتعريج على مدينة الجديدة لأنقل من هناك حمولة إلى مدينة العرائش، وقد
كنت خلال إقامتي السابقة في مدينة الجديدة رأيت سفينة بخارية إنجليزية
تُنزِل في قارب محلي صندوقاً كبيراً.
ولقد بقي ذلك الصندوق رابضاً هناك،
وكنت كثيراً ما أراه. وعندما وصلت إلى مدينة الجديدة علِمت أن ذلك
الصندوق، فضلاً عن نقَّالة بخارية، هي الحمولة التي عليَّ أن أنقلها إلى
مدينة العرائش.
وقد كان ذلك الصندوق الكبير يحتوي على درَّاسة تزن 5000
كيوغرام، فيما تزن النقالة البخارية 4000 كيلوغرام، وحملنا على متن
السفينة، كذلك، عدداً من الصناديق الصغيرة، وجميع هذه البضائع طلبها ماك
لين؛ وهو ضابط إنجليزي في خدمة السلطان، وهي تتألف من معدات كهربائية،
ومغناطيس من الرخام، وبيانات، وآلات تصوير، إلخ.
كانت هذه الحمولة أول
دليل ملموس لدي على التأثير الذي كان يقع على السلطان الغر عديم التجربة من
مستشاريه الدهاة الماكرين، فبدلاً من يعتنوا بإعداده ليجعلوا منه سلطاناً
محنكاً وعصرياً، وهو أمر لم يكن بالمتعذر، لأن كل من عاشر مولاي عبد العزيز
يشهد له بالذكاء والتعطش إلى المعرفة والتعلم، بدلاً من ذلك كانوا يجعلونه
يصرف وقته في اللعب بمجسَّم آلة من الآلات العصرية. وكان المكلفون، من بين
مستخدمي السلطان، باقتناء هذه الأشياء يفيدون من ذلك أكبرَ الفوائد، وإذا
هم قد أصبحوا من ذوي الثراء الفاحش. وكان الوزراء غير مهتمين بغير مصالحهم
ومصالح أقربائهم، غير آبهين لمصير البلاد.
وكانت المحسوبية أمراً
متفشياً في المغرب، فكان أسوأ الأوغاد يبلغون إلى أعلى المناصب إذا كانوا
ممن يجيدون التملق لكبار موظفي الدولة، أو كانوا من أقربائهم، ومن أمثلة ما
نقول الوزير الجبار السابق المنبهي الذي كان مجرد سائس، وسرعان ما ارتقى
إلى منصب وزير الحربية، وقد كان له صديق كان يعمل مجرد سائس، وسرعان ما سما
به إلى منصب عامل لمدينة الصويرة.
وقد كان هذا العامل يرفع من مداخيله بما كان يفرض من الضرائب على الدعارة.
فقد
كان يأخذ عن الفتيات الجميلات 5 دوروات في الأسبوع، وعن الأقل جمالاً منهن
دورو ونصفاً، وبذلك كان يحصِّل مدخولاً يصل إلى حوالي 500 دورو في الشهر
الواحد.
وقد كان السجن على عهده ممتلئاً في معظم الأحيان، كما كانت الدية عن المعتقلين الجدد مبلغاً لا يُستهان به.
لم
يكن الشعب بالغافل عن هذا السير السيئ للأمور في المغرب، وسرعان ما أخذ
يغمغم بذلك، فقد أخذ يلوم السلطان بإنفاقه للمبالغ الطائلة على لهوه بتلك
الآلة العصرية، وبكرهه للمؤمنين، وبعدم انشغاله بصالح البلاد.
لكن كان
أعظم الشرور في نظر الشعب، أن السلطان كان يقبِل على التصوُّر، وتمثيل
الإنسان أمر يمنعه القرآن منعاً باتاً، وكون السلطان نفسه يقبل على
التصوير، يحمل على نعته بالمسيحي.
والمرجَّح أن السلطان لم يُبلَّغ بما
كان من نقمة الشعب عليه، وإلا لكان ذلك قد حمله ذلك، بما كان يتصف به من
الذكاء، على التحول عن سيرته تلك.
ولقد حملْنا تلك اللعبة إلى مدينة العرائش، وأنزلناها على رصيف المرسى.
ولا
يزال ذلك الصندوق والدرَّاسة جاثمين هناك إلى يومنا هذا! فقد كانت حمولة
ثقيلة جداً، بما يتعذر نقلها إلى مدينة فاس. ولقد تم وضع القاطرة على عجلات
تجرها البغال والثيران إلى داخل البلاد. بيد أن الموكب لم يمض بعيداً في
طريقه، إذ كثير التوقف بسبب من مصالح الجمارك.
وعلاوة على ذلك كان يوم يشهد موت بعض ثيران الجر، ولم تكن ميتاتها بالطبيعية، وإنما كانت ميتات عنيفة.
فقد
كان السائقون يقتلونها، ويَطعَمون لحمها، ويبيعون منه ما يفيض عن حاجتهم،
وكانوا، بعدئذ، يطلبون تزويدهم بثيران جديدة. وشيئاً فشيئاً أخذ نقل تلك
اللعبة يصبح مكلفاً جداً، بحيث تم التخلي عنه، وتم ترك تلك الآلة على بعد
ساعات من المسير من مدينة العرائش.
ثم جاءت قبائل تلك الناحية، فاستولت
على كل ما يمكن تفكيكه وحمله من أجزاء النقالة البخارية؛ كالصنابير الصفر،
وأنابيب النحاس، وأبواب المواقد، إلخ. بينما تم نقل الصناديق المحتوية على
الأشياء الصغيرة إلى مدينة فاس، ولا تزال ترقد هناك، قد أُهمِل جلها،
وتُرِك عرضة للتلف.
وأما سفينتنا فلم تعد يجدي فيها شيئاً عمليات
التنظيف التي كانت تخضع لها في مدينة العرائش. وأصبحت في حاجة ماسة إلى
الترميم. غير أن كل طلباتنا إلى المخزن في هذا الشأن بقيت من غير مفعول.
ولذلك طلبْت إلى الوزير الألماني، البارون مينتسينغن، أن يتدخل لدى البلاط
الألماني، من أجل الالتفات إلى تلك السفينة، لإرسالها إلى أوروپا لإخضاعها
للترميم اللاَّزم.
فكان جواب الوزير أن الترميم يقع على الحكومة المغربية وحدها، ولذلك فهو لا يعنيه من قريب ولا من بعيد.
ولقد
أوضحْت له أن في بقاء السفينة على حالها تهديداً لأرواح جميع المواطنين
الألمان العاملين على متنها، ولذلك قبِل، في نهاية الأمر، أن يتكفل بترميم
سفينة «التركي».
ولأجل ذلك كان خروجنا إلى جبل طارق، ولقد استغرقت أعمال الترميم أربعة أشهر كاملة، بسبب بطء العمل في المشغل البحري لجبل طارق.
ولقد
ازداد امتعاض المغاربة من السلطان لما كان مستمراً فيه من اقتناء شتى
أنواع اللعب النادرة. بل لقد بلغ منه الأمر أن كان يجيز للنساء من حريمه أن
يركبن الدراجات الهوائية. وكان آخر تجاوزات السلطان ما بدر منه حين مقتل
الراهب الإنجليزي كووپر في شتاء 1903-1902. فلقد اقتص مولاي عبد العزيز
للإنجليزيين من القاتل على وجه السرعة، وطفح، بذلك، الكيل.
فقد سرت
الشائعات في أوساط الشعب أن السلطان أمر بالبحث عن القاتل، ولو داخل أكبر
مكان مقدس في مدينة فاس؛ ذلك هو مسجد مولاي إدريس، وهو مكان يحظى فيه جميع
المؤمنين بالحماية، حتى أكثرهم إجراماً.
ولقد اعتُبِر اقتحام ذلك المكان
عملاً شنيعاً حتى من السلطان نفسه، ولقد علِمت، بعدئذ، أن هذه الصيغة من
الحكاية لم تكن موافقة للحقيقة، غير أن الشعب صدَّقها، فقد كان يعتبر
السلطان مسيحياً قادراً على كل شيء.
وفي تلك الأجواء اندلع تمرد
بوحمارة، ولقد اجتمع لديَّ بعض التواريخ في شأن شخصية المدعو بوحمارة
وأصله، من دون أن يكون في مقدوري أن أتثبَّت من صحة هذه وتلك، لأن الأهالي
قليلاً ما يتفقون في تقدير الزمن، وكذلك يكون شأنهم في تقدير المسافات
والأرقام، ويكاد لا يوجد بين المغاربة من يعرف السن الذي كان فيه بوحمارة.
الاسم
الحقيقي لبوحمارة هو الجيلالي بن عبد السلام الزرهوني (نسـبة إلى زرهون،
(كان مـولده في قبيلة أولاد يـوسـف، في جبال زرهون، وهناك تلقى تعليمه
ودخل، في شبابه، في خدمة مولاي علي الكومي؛ رئيس موسيقيِّي السلطان، ثم
أصبح مخزنياً لدى مولاي محمد، في زمن كان فيه هذا الأخير خليفةً لوالده؛
السلطان مولاي الحسن، ثم كان تعرضه للحبس من أبي محمد؛ الخليفة السابق على
مدينة طنجة، وأُطلِق سراحه، بعدئذ، فالتحق بالعمل لدى المنبهي. وعلى أَثَر
وفاة باحماد تم تسريح الجيلالي الزرهوني من جديد، مما ملأ قلبه غلاً
ومرارة.
وفي ذلك الوقت كان السلطان الشاب مولاي عبد العزيز يقيم في بلاطه بمدينة مراكش.
ويُحكى
أن الجيلالي الزرهوني تقدم إلى الجمارك في مدينة الجديدة برسالة مزورة
يزعم أنها من السلطان، بها أمرٌ بتسليم حاملها 400 دورو، حتى إذا تسلَّم
ذلك المبلغ، فرَّ إلى تلمسان في الجزائر، لكن تلك السرقة لم تمنعه من
العودة إلى فاس، والتوجه منها إلى وهران، مروراً بمدينة طنجة.
وفي شتاء
عام1902، خرج الزرهوني (بوحمارة) متوجهاً إلى مدينة فاس؛ حيث كان السلطان
قد نفَّذ، في تلك الأثناء، حكم الإعدام في قاتل الراهب الإسباني.
ولم
يخطر ببال أحد أن الزرهوني كانت له، قبلئذ، مشاريع طموحة، والأمر الوحيد
المؤكد أنه كان يغذي حقداً دفيناً على السلطان ومستشاريه الخُرْق.
ولقد
بلغ به ذلك الحقد إلى الإتيان بمشروع مغامر للاستيلاء على العرش، ولقد مس
الشعب في نقطة حساسة؛ مشاعره الدينية، ثم صار الزرهوني يتنقل ممتطياً
حمارته «كانيسة»، ملقياً الخطابات عن صداقة السلطان للأجانب، وعن قدرة
القوى المسيحية في البلاط المغربي، وعجز الموظفين.
ولكي يزيد من الأهمية
لنفسه، فقد زعم للشعب أنه هو مولاي محمد، شقيق السلطان، وأنه إنما جاء
لوضع حد للحالة المحزنة التي أصبحت عليها البلاد، ولكي يخفي اسمه الأصلي،
تكنَّى باسم بوحمارة، لأنه كان يستعمل هذا الحيوان مطية له. ولا يزال يعيش
بنفس الاسم في التقاليد الشعبية.
ولقد اجتمعت له حشود من الأتباع،
مؤمنين به إيماناً أعمى. وهكذا بدأ ذلك التمرد الرهيب، الذي أدى، بالإضافة
إلى دسائس الفرنسيين، إلى نسف البلاد.
25-07-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 4 -
ظل السلطان، حتى بداية 1903،
عاجزاً، برغم الجهود اليائسة، عن القضاء على تمرُّد بوحمارة. وإن كان
الروغي، كذلك، لم يحقق، هو الآخر كبيرَ تقدم.
وكان الصراع بين الطرفيْن
يبدو كأنه حرب على الطريقة المغربية: فقد كان أحد الطرفين يحاول أن يضر
أكبر ما في الإمكان بالطرف الآخر، بأن يحرق وينهب له، من دون أن يجرؤ على
أن يوجِّه إليه ضربة حاسمة.
وكانت القبائل تساند، في معظم الأحيان، من
يبدو لها هو الأقوى، وقد كان يتفق أن تنقلب قبائل عن بكرة أبيها، إلى جانب
الطرف الخصم، متى بدا لها أن النصر يميل إلى جانبه.
وفي الأخير توجه بوحمارة إلى تاسة، في نواحي مليلية، لمحاولة إخضاع المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد.
وقد كانت ترابط في فرخانة وفي وجدة الكثير من المحلات المتجنِّدة للدفاع عن السلطان، مما حتَّم عليه أن يمدها بالعون.
ثم بدأت عمليات نقل الجنود باتجاه المناطق المهدَّدة، فقد نزل مولاي عرفة، عم السلطان، إلى فاس في 200 جندي و10 مطايا.
ولقد ركب سفينة «التركي» إلى مدينة مليلية في 7 فبراير، وكانت رحلة مضطربة شديدة الاضطراب، بفعل العواصف.
وكان
الأمير ابن عرفة رجلاً عجوزاً قد تجاوز الستين، ضعيف الجسم، ولذلك عانى
كثيراً من دوار البحر، وبقي الجو على حاله، لم يتحسن، مما اضطرنا إلى
التوقف بصورة مؤقتة في ساحل رأس ثلث مداري، في جويْن، تُعْرف عند الأهالي
باسم «مرسى البراق».
وقد كان هذا الرأس، يومئذ، بيدي السلطان، ولذلك رغِب الأمير في النزول فيه، والتوجه منه، بطريق البر، إلى قصبة فرخانة.
ولقد نزل الرجل العجوز ورجاله هنا، وبعد بضعة أيام،
تحسنت حالة الجو، وبذلك أمكننا أن نواصل طريقنا باتجاه مدينة ملوية، فلما
بلغتها، سرت والترجمان بومغيث، براً لزيارة عامل قصبة فرخانة، ولأعرف، في
نفس الوقت، إلى أين آلت الحرب.
ولقد ركبنا عربة إلى هناك، واستغرقت ذلك
منا نصف ساعة، حتى الحدود الإسپانية، ومن هناك سرنا مدة عشر دقائق راجلين،
فلم يكن مسموحاً للعرَبات باجتياز الحدود، والدخول إلى التراب المغربي.
وتوجد
قصبة فرخانة إلى الجنوب الغربي من مدينة مليلية، في واد صغير، تحيطها جبال
شاهقة، ولقد شيِّدت قصبة فرخانة على نمط تشييد قصبة السعيدية، والقصبة
الأولى كالقصبة الثانية، لايكنها أن تصمد طويلاًَ لحرب عصرية.
كان
القايد البشير يستعد لتناول الفطور، حين أخبِر بوصولنا ، فدعانا من فوره
إلى مشاركته ظعامه. وقد كان يتلف من ستة أنواع من الفطائر المقلية في
الزيت.
والقايد البشير من القادة الأكبر سناً والأشد نشاطاً في جيش
السلطان، إنه رجل طويل ومهيب، شديد نصوع البشرة بالنسبة لعربي، لأسارير
حادة، ولحية كبيرة سوداء ضاربة عند الصدغين إلى الرمادي.
وقد كانت له
رؤية إلى الوضع شديدة التفاؤل، لأن القبائل التي في المنطقة الساحلية بين
مليلية والحدود، كانت تبدو، إلى ذلك الحين، لا تزال تابعة للسلطان، وكان
الروغي لا يزال بعيداً. وكان يتوقع الكثير من مولاي عرفة، الذي كان قد وصل
بالفعل، عبر الطريق، وتخلص من العناء الذي وجده في رحلته البحرية.
فلما
ودعته، دس في يدي علبة صغيرة، قائلاً إنها هدية من الأمير لأجل الرحلة،
وتملكني الفضول لمعرفة ما تحتويه، ففتحتها، ووجدت بها 50 بسيطة عربية في
شكل قطع نقدية، كان خمسها مزيفاً، فدفعت بالهدية الأميرية إلى الترجمان،
ورضيت بأن أكون، بذلك، قد أدخلت السرور على شخص ما.
وعند عودتنا إلى
مدينة طنجة، وجدنا ثاني أعمام السلطان، مولاي الأمراني وقد اصطحب معه حريمه
واستقل السفينة في 14 فبراير رفقتهن وحوالي 200 من الجنود ولقد جملناهم،
كذلك، إلى مدينة مليلية.
لم يبد على الإسپان أي رغبة في السماح للجنود
المغاربة باجتياز أراضيهم بأسلحتهم وذخيرتهم، فلزِم أن ننزل كل شيء في
الساحل المغربي، على بعد ألفي ميل بحري جنوبي مليلية، وذلك ما كان، من غير
عراقيل وفي طقس جميل.
تلقينا الأمر بمواصلة طريقنا مباشرة، باتجاه
عجرود، وبالتوجه إلى قصبة السعيدية لنحمل من هناك 100 بندقية. إنها بنادق
من نوعية «شاسپو»، فئة 1873، ومعها 6 صناديق من الذخيرة.
وقد كانت 300
من تلك البنادق في حالة من الصدإ، يستحيل معها استعمالها. ولقد سعيْنا
لحصول على ترخيص بنقل تلك الحمولة عبر التراب الإسپاني، إذ لم يكن إنزالها
على الساحل بالأمر السائغ، بحكم كثرتها. غير أننا لقينا، من جديد، مصاعبَ
جمة من الإسپانين، ولم نجد بداً من المكوث عند الساحل المغربي.
وبعد تلك الرحلة لبثنا متبطلين مؤقتاً ولقد بقينا على تلك الحال طيلة شهر مارس، في مدينة طنجة.
وأثناء ذلك توجه مولاي عرفة من قصبة فرخانة إلى مدينة وجدة.
وقد كان بوحمارة يتقدم في بطء، لكن بانتظام، باتجاه الساحل الشمالي الشرقي.
وكانت
شعبيته لاتني في ازدياد ولقد أرغم مولاي عرفة على التنازل عن مدينة وجدة،
في أواخر شهر مارس، والفرار إلى مناطق الاحتلال الفرنسي وبعدئذ عاد إلى
قصبة فرخانة ولما أصبحت ساءت عليه الأوضاع، توجه إلى مدينة مليلية.
ولقد
أخذت القبائل المحيطة بمليلية في الانضمام شيئا فشيئاً إلى بوحمارة،
وأصبحت تهدد جدياً قصبةَ فرخانة، بحيث اضطر القايد البشير إلى طلب النجدة،
ومن سوء الحظ أن نداءاته ظلت بلا مجيب فلم يُرسَل بسفينة سيد التركي إلى
مليلية إلا في 3 أبريل، ولم تكن تحمل التعزيزات المطلوبة، بل كان كل ما
حملتْ مدفعين لحماية القصبة. وفي نفس اليوم، أرسل بوحمارة أحد خلفائه إلى
عامل مليلية، يطالبه بالاعتراف به، هو الروغي، سلطاناً، وبطرد موظفي مولاي
عبد العزيز من مدينة مليلية ومن فرخانة وبطبيعة الحال، فلم يكن للعامل أن
يستجيب إلى هذا الطلب، فكان رده على مبعوثي بوحمارة أنه إلى ذلك الحين لا
يزال الإسپانيون يعترفون بمولاي عبد العزيز سلطاناً للمغرب، وأنه ينبغي
احترام موظَّفيه.
ورغم أننا نستشف من جواب الإسپانيين هذا، أنهم
لايزالون منحازين إلى جانب مولاي عبد العزيز، فإن السلطات الإسپانية لم
ترخِّص لنا بإنزال ذيْنك المدفعين.
وكان الشأن نفسه حتى من السلطات في
التراب المغربي، إذ خشيَتْ أن يتم الاستيلاء على المدفعيْن، فور إنزالهما،
من القبائل المناصِرة لبوحمارة ولذلك بقي المدفعان جاثمين على ظهر السفينة.
صارت
الوضعية في فرخانة تزداد مع الوقت إقلاقاً، وأصبحت الطريق من مليلية إلى
فاس، حينئذ، محفوفة بالمخاطر. وقد كان الجنود المائة يكفون بالكاد لتأمين
الدفاع. وما عاد جنود الروغي يبعدون بغير بضع ساعات من فرخانة. ولقد أعطى
الروغي أمره بمهاجمة المدينة. وكان المتمردون يستعملون مدافع قديمة، لايزال
بعضها معبئاً بالحجارة. ولقد أمكنهم، بالتدريج، أن يُحدِثوا بها خرقاً في
أسوار المدينة. وفي 14 أبريل تمكن المتمردون من تفجير ركن من القصبة، بحيث
لم يعد في وسع الحامية السلطانية إلا أن تنسحب إلى مدنية مليلية، وتترك
فرخانة للأعداء. ولم يقدر الجنود على حمل غير أسلحتهم. ووقع كل متاعهم
وأغراضهم بين أيدي المتمردين.
ومباشرة بعد سقوط القصبة، تم إرسالنا إلى
مليلية لنزودها بالخيام ليأوي إليها الجنود. لكن ذلك المجهود من الحكومة
المغربية كان من غير طائل، لأن الإسپان كانوا قد سبقوها إلى مد الجنود
المغاربة بما يتسع لهم من الخيام العسكرية. وقد كان للقايد البشير ومولاي
الأمراني مكان مشترك يستقبلان فيه من يزورهما في المدينة. وعندما قمت
بزيارتهما، وجدت القايد قد أخذ منه الضنى كل مأخذ. فلقد نالته الأحداث في
مقتل.
ولقد كرَّر بوحمارة، حينئذ، طلبه بطرد كل من ينتمي إلى السلطان من
المدينة. وهدَّد، في حالة ما أذا لم تتم الاستجابة إلى طلبه، بأن يمنع عن
الإسپانيين جميع المؤن التي تأتي إليهم من المغرب، وبأن يوقف تجارة مليلة
كلها. وحيث إنه كان قد أصبح حينئذ، متحكماً في خلفية البلاد، وحيث إنه لم
يعد في الإمكان الحيلولة بينه وبين تنفيذ ما يهدِّد يه، مما كان سيؤدى إلى
ارتفاع مهول في أسعار المواد الغذائية ويتسبب في خسارات كبرى للتجارة في
مدينة مليلية، فقد وجد الإسپانيون أنفسهم مجبرين على طرد ضيوفهم، رجال
السلطان.
وتم إغلاق الجمرك المغربي. وتم نقل عمال الجمرك، والقايد،
والجنود، والدواب المركوبة، والأسلحة والأمتعة على ظهر سفينة «التركي»
وسفينة بخارية فرنسية أخرى، باتجاه مدينة طنجة. وكانت تلك نهاية محتومة
لهيمنة مولاي عبد العزيز على مدينة مليلية.
لم يقتصر الأمر في تلك
الفترة على تمرد بوحمارة، وما كان يخلق من مصاعب للمخزن، بل انضاف إليه
تمرد الريسوني، الذي ظهر، هو الآخر، في صورة مثيرة للقلق. وتلك من خاصيات
الضعف الذي كانت تعاني منه الحكومة المغربية، في عجزها عن نشر الهدوء
والأمن في الشمال الشرقي من المملكة، على مقربة من مدينة طنجة.
والمدعو
الريسوني (أو الريسولي)، الذي أصبح ذائع الصيت، رجل كأنما خُلِق للصوصية
وقطع الطرق. وقد كان سبق له في سنوات تسعينيات القرن التاسع عشر أن عاش
الحياة الحرة للمهرِّب في الشمال الشرقي من المغرب، إلى أن أمكن لعامل
مدينة طنجة النشيط عبد الرحمان ولد الصدوق، أن يلقي القبض عليه، ويرسله إلى
سجن مدينة الصويرة. ولم يكن في الإمكان قتله بسبب ما اقترف من الجرائم،
بحكم انحداره من أسرة جليلة القدر، كان الأهالي يعتبرونها فوق العقاب. ولقد
مكث الريسوني في السجن مدة سنتين تقريباً، ثم أُخليَ سبيله. ولقد كان ذلك
خطأً جسيماً. فلقد تدخَّل العجوز الطريس، الذي ينحدر، هو نفسه، من نفس بلاد
الريسوني؛ تطوان، لدى السلطان لصالحه. وهو خطأ سيندم عنه الطريس بعدئذ،
شديد الندم.
استقل الريسولي في عام 1901 سفين «التركي» متوجهاً من مدينة
الصويرة إلى مدينة طنجة. ولقد مكث يومين كاملين رفقتي. ولم يترك لديَّ
الانطباع، يومئذ، بأنه رئيس لقطَّاع الطرق. فلقد كان ذا وجه صبوح. وكان
يُعرف بالاستقامة. ذا سحنة صافية. وشعر رأسه ولحيته بالغ السواد. وكان ذا
هيأة طويلة ونحيلة. وقد كان البحارة يعتبرونه شريفاً من الشرفاء، فكانوا
يخشونه أيما خشية، ولو لم يكن بعضهم قد حدثني عن الإنجازات الإجرامية لهذا
اللص، لما كان ليخطر ببالي أنني كنت إزاء رجل من هذه الطينة.
فلما بلغنا
مدينة طنجة، توجه الريسوني إلى الجبال. ولم يكد يمضي وقت يسير حتى أصبح
اسمه على كل لسان. فقد كانت عصابته في تنام وازدياد، وكانت نجاحاته تزيده
جرأة فوق جرأة. حتى لقد انتهى الأمر بجميع قبائل مثلث طنجة - تطوان -
العرائش تقريباً، إلى الانضمام إلى صفوفه. مما استحالت معه طرق القوافل
كلها إلى مسارات خطِرة، ينعدم فيها الأمن.
وفي الأيام الأخيرة من شهر
أبريل من عام 1903، قام الريسوني بمحاصرة مدينة أرْصيلا، وهي مدينة صغيرة
تقوم وسطاً بين رأس سپارطيل والعرائش. ولقد أثار هناك من الذعر حداً بلغ
إلى إرسال سفينة شراعية صغيرة إلى مدينة طنجة لطلب العون والنجدة. ولقد كان
اليهود أكثر المستهدَفين في مدينة أصيلة بتعديات الريسوني. ولقد أرسلوا
يتوسلون إلى أبناء جلدتهم من الطنجيين يلتمسون منهـم التعجيل بإرسال
المساعدة.
بيد أن السلطات المغربية بقيت جامدة، لم تحرك ساكناً. ووحدها
ضغوط اليهود مكنت من التسريع بالأمور. وكان العائق الأول أن الجنود
الموجهين لتحرير مدينة أصيلة رفضوا أن يبدأوا في المسير إلا أن يقبضوا
مؤخرات رواتبهم. ولقد أعطاهم اليهود تقدمات من تلك المؤخرات. ومن سوء الحظ
أن ساءت أحوال المناخ، مما حال دون تحرير المدينة المهددة من طريق البحر.
لم
يتسن لنا أن ننطلق إلى مدينة أصيلة إلا في 2 ماي، محملين من المؤن والعتاد
الحربي. وفي نفس الوقت وصلـت الجـيوش مـن طريق البر. وفي حوالي الزوال
اقتربوا من المدينة. فكنا نستدل على تقدمهم من الدخان الذي كان يعلو من
القرى التي كانوا ينهبونهـا في طـريقهـم، ويحولونها إلى رماد. وسرعان ما
رأيناهـم يخـترقون السـهول، ويقتحـمون المدينة. ولقـد ذهلـت مديـنة أصيـلة
لذلك. وبرغم كل جـهودي، فإنني لم أر أثراً للعدو. فمن المحتمل أن يكون فر
قبل وصولِنا ووصول الجنود.
في تلك الأثناء وصلتنا أصداء مقلِقة من مدينة
تطوان. فقد أصبحت المدينة واقعة تحت تهديدات الريسوني، ورفاقه من أنجرة
وبن إيدر. ولقد سبق لي أن قلت إن مدينة تطوان هي مسقط رأس الوزير الطريس،
ولذلك فقد خُصَّت بمساعدات سخية في تلك الأوقات العصيبة. ولقد سلمنا الحبوب
والأموال والذخيرة في 10 ماي، إلى الجنود المرابطين في المدينة، فكان
الرجال يخرجون من القوارب الصغيرة مسلحين تسليحاً قوياً، مما يوحي بخطورة
الوضع في المدينة. ولقد تعزز لدي هذا الانطباع بمجيء مولاي عرفة من نمور
إلى تطوان لمساعدة حامية المدينة بجنوده، ثم لم يلبث أن اندس في السفينة،
للالتجاء إلى مدينة طنجة. ولقد بداً عليلاً، قد اشتد عليه المرض. وانسحب
متعللاً بأسباب صحية. ثم كانت وفاته بعد ذلك بقليل. وفي طريق مغادرتنا إلى
مدينة طنجة، إذ رأينا تصاعد الدخان من نواحي المدينة، وسمعنا طلقات رصاص
متفرقة. ويبدو أن المتمردين بدأوا هجومهم على المدينة. ولقد حملنا من طنجة،
في اليوم الموالي، حوالي 200 من الرجال للاستبدال. ولقد حكوا لنا عن معركة
وحشية، تم فيها القضاء على المتمردين بعد أن دمروا كل شيء في المدينة،
وأتلفوا البساتين الجميلة حول المدينة. وقد كان هذا القول، كذلك، من
المبالغات التي انشرت كبير الانتشار في المغرب. والحال أنني أمكنني فور
ذلك، أن أقف على الواقع بنفسي، فكانت المناطق الخضراء لاتزال على تألقها،
إلا من أشجار البرتقال التي تعرضت للإحراق.
تواصلت إمداداتنا لمدينة
تطوان. وكانت تلك الإمدادات تتكون، في معظمها، من العتاد الحربي، والأموال،
والذخيرة والمؤن. كما كنا نحمل إلى المدينة، في كل رحلة تقريباً، ما بين
100 و200 من الرجال ودوابهم. ولقد أوكِلتْ قيادة الجنود إلى القايد
البشير، الذي تم طرده من فرخانة، وإلى رفيقه السابق في النكبة مولاي
الأمراني. ولقد أمكن بوصولهما، في منتصف شهر ماي، أن يستتب الهدوء والأمن
داخل المدينة وفي نواحيها القريبة.
وعلى الرغم من أن تطوان معدودة بين
مراسي المغرب، فهي لا تقوم على البحر مباشرة، بل تبعد عنه بحوالي 10
كيلومترات. ومرسى مارتيل، الذي تمر من خلاله التجارة البحرية، يقع على بعد
30 كيلومتراً إلى الجنوب من المستعمرة الإسپانية سبتة. وتجارة السفن مع
البر تجرى ههنا على نحو ما هي في سائر المدن الساحلية المغربية، بواسطة
القوارب التي تعود إلى الحكومة، والتي يمكنها الإبحار في مصب الوادي.
المنطقة
التي بين تطوان ومارتيل أرض منبسطة تماماً. وفي خلفيتها تنتصب الجبال
مشكلة ما يشبه نصف دائرة. وعندد سفوحها يمتد سهل شديد الخصوبة، لكن لا يعرف
نشاطاً فلاحياً ذا بال، بسبب إهمال السكان.
ومدينة تطوان، التي تُرى
أسوارها البيضاء واضحة للعيان من الشاطئ، هي من أجمل الأماكن في المغرب.
والمدينة تقوم فوق ربوة هينة السفوح، تقوم في سفوحها بساتين خصبة ممرعة،
تتخللها بيوت صغيرة بيضاء. وتحف بها من جوانب ثلاثة جبال عالية. تصعد في
البداية بهدوء، وتنتهي في الأعلى بجرُف وعرة وقرعاء.
وكثيراً ما سنحت لي
الفرصة لزيارة هذه المدينة، فكنت أغتنمها اغتناماً سعد بها كثيراً. ويكون
رفيقي دائماً الترجمان الحاج محمد بومغيث. فكنا نركب جوادين ضامرين عجوزين،
يبدو أنهما لا يعرفان غير السير، فنمضي ساعات غير قليلة نقطع خلالها مسافة
10 كيلومترات، للوصول إلى تطوان.
وفي كل مرة أزور المدينة، تأخذ بجماع
نفسي. فما اقتربت منها إلا ازدادت جمالاً في ناظري. على جانبي الطريق تمتد
بساتين من ورود بيوت صغيرة، إلى أن نبلغ باب المدينة، ثم ندخلها. ونسير
نسلك دروباً ضيقة، إلى أن نأتي إلى السوق، وهو ساحة فسيحة تقوم وسط
المدينة. وهناك نعيد دوابنا إلى أصحابها، لكي تقوى على حملنا حين الرجوع.
وثم أمر يسستثيرني كلما نزلت بهذه المدينة، فهي وإن تتكن غنية، وبين
ساكنتها موظفون سامون لدى السلطان، إلا أنها توجد في حال سيئة حقاً.
فطرقاتها تفتقر إلى النظافة، وهي ضيقة تعمها الفوضى، وقليلة جداً، وبينها
السيئة التبليط. البيوت متنافرة الأشكال، من غير أن تصبغ بالجير. بل إنك
لترى القصور المغربية الأكثر تميزاً، تلك القصور التي تذكرنا، من وجوه عدة،
بقصر الحـمراء في غرناطة، بهيئتها الموريسكية الغنية، تلوح، في مظهرها
الخارجي، قبيحة وسخة. ويمثل الحي، الملاح اليهودي استثناء صارخاً.
لكن
لا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلى أن اليهود لا يمكنهم أن يسكنوا في غير
الملاح. فإن لهم، ههنا، كما في سائر المدن الساحلية، في ما خلا الرباط
وسلا، أن يشتروا ويبتنوا لهم مساكن حيثما شاءوا من المدينة، وفي خارج
القصبة.
وفي المدينة حي صناعي خاص، قد جعِل للصناعة البيتية بطبيعة
الحال. وقد جعِل لكل حرفة زقاقها الخاص بها. فمن الأزقة ما هو مخصص لصناعة
البلغ وحدها، ومنها المقتصر بها على صناعة الجلد، تليها المخصصة للدباغة،
والحدادة، وصناعة البنادق، وسواها. ويؤوي كل صانع إلى دكان صغير، ذي باب
وحيدة تطل على الزقاق، مفتوحة على الدوام. ومن هناك يمكننا رؤيتهم وهم
يعملون. ومعظم هذه الأزقة مغطى بأشجار العنب، لتقيها أشعة الشمس، فهذا مما
يشعر المتجول فيها بالمتعة والنداوة. ومن عجيب أن هذا الحي، وما يعج به من
حرف، يكون، هادئاً، فيجتذبي إليه اجتذاباً.
ولا ينبغي أن تفوتنا
الإشارة، كذلك، إلى القصبة، التي، كشأنها في سائر المدن المغربية المشيدة
فوق هضاب، تقوم شامخة تعلو على ما سواها. وإن كثيراً من تلك الحوائط
البيضاء المتينة يلوح للمرء من أسفل، منذراً متوعداً، بيد أنه إنذار ليس له
من أساس، قليس للقصبة من دور عسكري. وعدا ذلك، فالحوائط ليست بالمتينة
جداً، في ما عدا بعض المدافع البالية قد نصبت إلى بعض الكوى، والتي أصبح
معظمها غير قابل للاستعمال. ولو أريدَ تعبئة لقم تلك المدافع، فإن مخاطرها
على الرماة ستكون أكثر منها على العدو.
وقد كنت في كل زيارة لي إلى هذه
الناحية، أذهب لزيارة القايد البشير ومولاي الأمراني. إن كلاً منهما يسكن
بيتاً من أجمل البيوت. وقد كنت أتبادل والقايد البشير الحديث في شأن الوضع
السياسي، فكانت تصدر عنه بعض الأحكام التي أستنتج منها عدم رضاه عن السلطان
ومستشاريه. في منتصف شهر ماي من عام 1903، تناهى إلى علمنا أن مراسل
صحيفة «التايمز»، هاريس، قد تعرض للاختطاف من لدن الريسولي، وأن هذا الأخير
أطلق سراحه، مقابل الإفراج عن جميع أتباعه. وكان الناس يتهامسون أنهم
شاهدوا هاريس والريسوني متدثِّرين بغطاء. وقد كان البشير يأسف لهذا الحادث
لما يخشى من أن يُغري المتمردين باختطاف المسيحيين، لتحرير رفاقهم السجناء،
وهذا مما سيمدُّ من عمر التمرد. كما كان يشغله أن المتمردين كانوا أفضل
تسليحاً من جنود السلطان. ذلك أنه تم القبض على أحد الرجال من قبيلة أنجرة
فوجِدتْ معه بندقية عصرية، من قبيل ما يستعمله المشاة الألمان، من نوعية
88، وقد أراني إياها القايد. وأما جنود السلطان فلم يكونوا يملكون غير
بنادق قديمة من نوعية شاسپو تعود إلى سنة 1873، كان معظمها في حالة سيئة.
وعلمت بهذه المناسبة، أن البنادق العصرية التي كان يستعملها المتمردون كانت
تمر إليهم بطريق التهريب من الإسپان.
يقدر عدد الجنود الذين قمنا
بحملهم، في مجموعات كبيرة نسبياً، من طنجة إلى تطوان، بما بين 12000 و
15000 رجل. ولولا أنهم صعدوا إلى السفينة بصفة الجنود، لكان من الصعب
علينا أن نعرف أنهم كذلك. فلم يكن لهم «زي» يميزهم، غير الطربوش الأحمر
المذبب المعتاد لدى الجنود المغاربة. وفيما عدا ذلك، كانوا يلبسون حسبما
يشتهون، أو حسبما تسعفهم إمكانياتهم. ولم نصادف غير مجموعة واحدة ارتقت
السفينة في أزياء حقيقية. فقد كان أفرادها يرتدون بذلاً حمراء، غير ملائمة،
ذات ثنيات صفراء وأزرار مذهبة، وسراوييل زرقاء واسعة تنتهي عند ركبهم.
وكان هؤلاء الرجال، كسائر الجنود المغاربة، يجعلون على الدوام، فوق ثيابهم
جلباباً بيضاء حائلة، فلا ترى أزياؤهم. ولا نميز لدى هؤلاء الجنود من قادة،
فكأن الرؤساء ليس لهم من سلطان عليهم، إذ كان يقع على بحارتي حفظ النظام
على متن السفينة. فكنا كلما ركبوا وإيانا نجردهم من أسلحتهم، ونجعلها في
صناديق خاصة أو في الرزم. وكانوا سرعان ما ياتخذون أماكنهم على ظهر
السفينة. فندرك على الفور أننا بإزاء شعب رحال، حيثما جُعل شعر كأنه في
بيته. وكانوا إذ هم على السطح، يتجمعون في مجموعات صغيرة بين الصناديق
والرزم، المكومة، أ، بجوار جيادهم. وكانوا يمدون حصراً يتمددون عليها، أو
يجلسون متربعين. ثم يأخذون في تسخين الماء لإعداد الشاي على مجامير صغيرة
يحملونها وإياهم. فقد كان الشاي والزيتون والخبز تكاد تكون هي طعامهم
الوحيد طوال الرحلة. والذين على الجسر يتقون الشمس والمطر بأن يجعلوا عليهم
ثياباً بالية، أو خياماً وأقمشة، يصير بها الجسر أشبه ما يكون بمخيم.
كان
الرؤساء يطالبون بأماكن جيدة، فنهيئها لهم على السطح الخلفي. وقد أسمح،
أحياناً، لبعض الموظفين الكبار بالجلوس في مقصورتي. وأما من سواهم فيكون
عليهم أن يبحثوا عن مكان فوق الجسر. وكذلك كان الرؤساء سريعاً ما يتخذوا
هناك أماكنهم، فيجعلون من يخدمهم من الرجال، غير عابئين بشيء. فلم يكن
يتميزهم شيءٌ عن رجالهم، إلا سنهم المتقدمة وجلابة أكثر نظافة، وكذا
بخناجير صغيرة معقوفة في أغماد من فضة، يعلقونها إلى أعناقهم بخيوط طويلة
من الحرير.
كان أولئك المقاتلون رجالاً من شتى الأعمار، أصغرهم لا
يكادون يبلغون الرابعة عشرة، وأكبرهم في الخمسين، ومن شتى ألوان البشرة.
ويبدو أن المسؤولين لم يولوا وقت تجنيدهم من اهتمام إلى القوة الجسمانية،
لأن كثيرين بينهم كانوا في حالة مزرية. ومع أن الجنود لم يكن لهم أي علم
بالنظام، فلم يكن من الصعب اقتيادهم، وقليلاً ما كانت تحدث مشاجرات لرفضهم
الإذعان لقانون السفينة. وقد كانوا في عمومهم قذرين جداً، وكانوا مبتلين
بالهوام. فكنت كثيراً ما أرى رجلاً قد انزوى في ركن، وجعل يفلي القمل، أو
أرى أحدهم قد جعل رأسه بين ركبتي صاحبه، ليفيله له.
وكان يُدفع إلينا في
بعض الأحيان، إذ نحن في تطوان أو طنجة، بسجناء الحرب. فيكونون مكبلين
بحلقة حدديدية تُثبت في العراقيب وبين القدمين يُجعل قضيب حديدي بطول حوالي
30 ستنتمترا. فبذلك لا يكون وسع أولئك التعساء أن يقوموا بغير خطوات
دائرية صغيرة. وبين أولئك السحناء الذين يُقال لنا، دائماً، إنهم متمردون،
كنا نرى تعساء مساكين؛ فكنت أشك في أن الرؤساء إنما يقبضون على رجال
مسالمين تماماً لمجرد التباهي أمام السلطة، ولكي يثبتوا حماستهم للسلطان.
وعموماً، فإن أولئك المساكين يكونون ملفوفين في جلابيب، بعد أن يكون الجنود
المرافقون لهم قد جرّدوهم من كل ثياب، وما معهم من متاع.
اضطُرَّت هذه
الاضطرابات أعداداً كبيرة من التطوانيين إلى مغادرة المدينة. وكانت سفينتنا
تكاد تمتلئ في كل رحلة من هؤلاء اللاجئين. فقد كانت السلطات تأذن لهم
باستعمال هذه السفينة. ومن عجيب أن أعداد المهاجرين منهم للمدينة لم تتناقص
حتى عندما أخذت الأوضاع بها في التحسن. وإنما على العكس من ذلك، فقد
تزايدت أعداد الفارين من المدينة للنجاة بأنفسهم. وكانوا، فضلاً عن ذلك،
يحملون معهم أهم أغراضهم. وقد أكثرهم يحملون معهم على ظهر السفينة صناديق
يزعمو أنها تخص الطريس أو أسرته، ويطلبون منا الاعتناء بها. وسرعان ما
تبيَّنت أن أولئك المسافرين لم يكونوا باللاجئين، وإنما هم مجرد تجار
يستعماون سفينة «التركي» وسيلة للنقل زهيدة السعر في ما يقومون به من تجارة
مربحة ما بين مدينة طنجة. كما أن الصناديق والعلب التي كانت تُحمَّل في
السفينة باسم الطريس إنما كانت تعود إلى خواص يزعمون أنها لطريس ليضمنوا
لها المعاملة الحسنة. وحيث كانت بعض البواخر الخاصة التي كانت تقوم
برحلاتها ما بين مدينتي طنجة وتطوان، فلم يكن من داع لحمل تلك السلع على
متن سفينة حكومية، قد كنا نحرم تلك السفن الخاصة بعض مداخيلها. غير أن
الطريس رجل تطواني، وهذا يكفي. فالمغرب بلد المحسوبية. وكل شخص متنفذ يسعى
ليخص بالامتيازات أقرباءه، ثم أصدقاءه ومعارفه، وفي الأخير أهل مدينته. وكل
بائس أو مسكين يرى من الطبيعي أن يفيد من أقربائه المتنفِّذين، و أصدقائه
والفلاحين الأقرب إليه.
وقبل أن نعود إلى استئناف رحلاتنا الاعتيادية باتجاه مدينة تطوان، كنا شهوداً على واقعة «حربية» مميزة للحروب المغربية.
فقد
حدث أن أرسل بوحمارة بأحد خلفائه إلى ناحية تطوان ليبث الفتنة ويؤلب سكان
تلك النواحي ويجمعهم على الروغي. وفي 11 يوليوز، سمعت الحديث، لأول مرة، عن
وجود هذا الخليفة الذي قيل إنه نصب خيمته في أحد الأودية على ساحل البحر،
يبعد بمسير ساعتين تقريباً إلى الجنوب من مدينة تطوان. ولقد حكى لنا بحارة
تطوان، على سبيل التهويل، في اليوم الموالي، أن قبائل جنوب تطوان قد انحازت
إلى جانب بوحمارة، وإن المدينة تبدو في وضع سيء. وحتى العلاقة بين تطوان
ومرتيل كان يُقال إنها أصبحت مهددة. والواقع أن المتمردين لم يحرِّكوا
ساكناً.
لذلك قرر مولاي الأمراني أن يخرج في طلب العدو. وفي 15 يوليوز،
نحو العاشرة صباحاً، رأينا إلى الجنوب من مكان رسوِّنا دخاناً يتعالى من
القرى المحرَّقة، وتناهى إلى أسماعنا بعض طلقات الرصاص. وفي الزوال جاءنا
الأمر بالتوجه ناحية الجنوب وقنبلته. كان الوادي الواقع إلى الجنوب من رأس
مازارين، حيث يوجد ما يمكن أن نسميه معسكراً، يوحي بالأمن. وتمتد من وراء
ذلك الوادي قرية كبيرة تحيط بها حقول خضراء يانعة الخضرة. وفي منخفض مجاورة
للشاطئ، غيضة مزهرة. فلم نجد بداً من العودة، في حوالي الساعة الثالثة،
إلى مارتيل.
وأثناء ذلك كان الجنود ممعنين في قنبلة الناحية الجنوبية.
وأصبحت أعمدة الدخان المتصاعدة إلى عنان السماء أكثر فأكثر ضخامة. لكن
توقفت طقطقات الرصاص، مما يوحي بأن الجنود شرعوا، حينئذ، في نهب بيوت تلك
الناحية. وسرعان ما رأيناهم يقتادون قطعاناً كبيرة من الماعز والأبقار، على
طول الشاطئ، باتجاه مرتيل، لجعلها في مأمن على الضفة الأخرى من الوادي.
وهذا يعني أن هذا اليوم كان يوماً مثمراً على الجنود. ولم نفلح في ثنْي
رجالنا عن الإسراع بالنزول إلى البر ليحوزوا نصيباً من تلك الغنيمة. لكن
حتى أولئك منهم الذين لم يجشموا أنفسهم ذلك العناء توصلوا بنصيبهم من تلك
الغنيمة. ففي مساء ذلك اليوم أرسل إلينا القايد على متن السفينة بخروفين
و11 دجاجة، 100 بيضة، 12 قالباً من السكر، و3 علب من الشاي، و10 علـب من
الشمـع، وكيس من الخبز.
مرت تلك «الحملة» من غير إراقة كبيرة للدماء،
وبدا أنها إنما كان الهدف منها استكمال الإمدادات وتشجيع الجنود. وبعد ذلك
علِمت أن سكان القرى التي تعرضت للنهب والإحراق كانوا عزلاً تماماً من أية
حماية، وأنهم بقوا على ولائهم للسلطان. والواقع أن خليفة بوحمارة كان قد
علِم، في الوقت المناسب، بما كان مولاي الأمراني يدبِّر للسطو على أمواله،
ولذلك لاذ بالفرار. ولقد بلغ الحنق بالأمير لفشلان مخطَّطه، أن أمر بنهب
القرى.
26-07-2012
ظل السلطان، حتى بداية 1903،
عاجزاً، برغم الجهود اليائسة، عن القضاء على تمرُّد بوحمارة. وإن كان
الروغي، كذلك، لم يحقق، هو الآخر كبيرَ تقدم.
وكان الصراع بين الطرفيْن
يبدو كأنه حرب على الطريقة المغربية: فقد كان أحد الطرفين يحاول أن يضر
أكبر ما في الإمكان بالطرف الآخر، بأن يحرق وينهب له، من دون أن يجرؤ على
أن يوجِّه إليه ضربة حاسمة.
وكانت القبائل تساند، في معظم الأحيان، من
يبدو لها هو الأقوى، وقد كان يتفق أن تنقلب قبائل عن بكرة أبيها، إلى جانب
الطرف الخصم، متى بدا لها أن النصر يميل إلى جانبه.
وفي الأخير توجه بوحمارة إلى تاسة، في نواحي مليلية، لمحاولة إخضاع المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد.
وقد كانت ترابط في فرخانة وفي وجدة الكثير من المحلات المتجنِّدة للدفاع عن السلطان، مما حتَّم عليه أن يمدها بالعون.
ثم بدأت عمليات نقل الجنود باتجاه المناطق المهدَّدة، فقد نزل مولاي عرفة، عم السلطان، إلى فاس في 200 جندي و10 مطايا.
ولقد ركب سفينة «التركي» إلى مدينة مليلية في 7 فبراير، وكانت رحلة مضطربة شديدة الاضطراب، بفعل العواصف.
وكان
الأمير ابن عرفة رجلاً عجوزاً قد تجاوز الستين، ضعيف الجسم، ولذلك عانى
كثيراً من دوار البحر، وبقي الجو على حاله، لم يتحسن، مما اضطرنا إلى
التوقف بصورة مؤقتة في ساحل رأس ثلث مداري، في جويْن، تُعْرف عند الأهالي
باسم «مرسى البراق».
وقد كان هذا الرأس، يومئذ، بيدي السلطان، ولذلك رغِب الأمير في النزول فيه، والتوجه منه، بطريق البر، إلى قصبة فرخانة.
ولقد نزل الرجل العجوز ورجاله هنا، وبعد بضعة أيام،
تحسنت حالة الجو، وبذلك أمكننا أن نواصل طريقنا باتجاه مدينة ملوية، فلما
بلغتها، سرت والترجمان بومغيث، براً لزيارة عامل قصبة فرخانة، ولأعرف، في
نفس الوقت، إلى أين آلت الحرب.
ولقد ركبنا عربة إلى هناك، واستغرقت ذلك
منا نصف ساعة، حتى الحدود الإسپانية، ومن هناك سرنا مدة عشر دقائق راجلين،
فلم يكن مسموحاً للعرَبات باجتياز الحدود، والدخول إلى التراب المغربي.
وتوجد
قصبة فرخانة إلى الجنوب الغربي من مدينة مليلية، في واد صغير، تحيطها جبال
شاهقة، ولقد شيِّدت قصبة فرخانة على نمط تشييد قصبة السعيدية، والقصبة
الأولى كالقصبة الثانية، لايكنها أن تصمد طويلاًَ لحرب عصرية.
كان
القايد البشير يستعد لتناول الفطور، حين أخبِر بوصولنا ، فدعانا من فوره
إلى مشاركته ظعامه. وقد كان يتلف من ستة أنواع من الفطائر المقلية في
الزيت.
والقايد البشير من القادة الأكبر سناً والأشد نشاطاً في جيش
السلطان، إنه رجل طويل ومهيب، شديد نصوع البشرة بالنسبة لعربي، لأسارير
حادة، ولحية كبيرة سوداء ضاربة عند الصدغين إلى الرمادي.
وقد كانت له
رؤية إلى الوضع شديدة التفاؤل، لأن القبائل التي في المنطقة الساحلية بين
مليلية والحدود، كانت تبدو، إلى ذلك الحين، لا تزال تابعة للسلطان، وكان
الروغي لا يزال بعيداً. وكان يتوقع الكثير من مولاي عرفة، الذي كان قد وصل
بالفعل، عبر الطريق، وتخلص من العناء الذي وجده في رحلته البحرية.
فلما
ودعته، دس في يدي علبة صغيرة، قائلاً إنها هدية من الأمير لأجل الرحلة،
وتملكني الفضول لمعرفة ما تحتويه، ففتحتها، ووجدت بها 50 بسيطة عربية في
شكل قطع نقدية، كان خمسها مزيفاً، فدفعت بالهدية الأميرية إلى الترجمان،
ورضيت بأن أكون، بذلك، قد أدخلت السرور على شخص ما.
وعند عودتنا إلى
مدينة طنجة، وجدنا ثاني أعمام السلطان، مولاي الأمراني وقد اصطحب معه حريمه
واستقل السفينة في 14 فبراير رفقتهن وحوالي 200 من الجنود ولقد جملناهم،
كذلك، إلى مدينة مليلية.
لم يبد على الإسپان أي رغبة في السماح للجنود
المغاربة باجتياز أراضيهم بأسلحتهم وذخيرتهم، فلزِم أن ننزل كل شيء في
الساحل المغربي، على بعد ألفي ميل بحري جنوبي مليلية، وذلك ما كان، من غير
عراقيل وفي طقس جميل.
تلقينا الأمر بمواصلة طريقنا مباشرة، باتجاه
عجرود، وبالتوجه إلى قصبة السعيدية لنحمل من هناك 100 بندقية. إنها بنادق
من نوعية «شاسپو»، فئة 1873، ومعها 6 صناديق من الذخيرة.
وقد كانت 300
من تلك البنادق في حالة من الصدإ، يستحيل معها استعمالها. ولقد سعيْنا
لحصول على ترخيص بنقل تلك الحمولة عبر التراب الإسپاني، إذ لم يكن إنزالها
على الساحل بالأمر السائغ، بحكم كثرتها. غير أننا لقينا، من جديد، مصاعبَ
جمة من الإسپانين، ولم نجد بداً من المكوث عند الساحل المغربي.
وبعد تلك الرحلة لبثنا متبطلين مؤقتاً ولقد بقينا على تلك الحال طيلة شهر مارس، في مدينة طنجة.
وأثناء ذلك توجه مولاي عرفة من قصبة فرخانة إلى مدينة وجدة.
وقد كان بوحمارة يتقدم في بطء، لكن بانتظام، باتجاه الساحل الشمالي الشرقي.
وكانت
شعبيته لاتني في ازدياد ولقد أرغم مولاي عرفة على التنازل عن مدينة وجدة،
في أواخر شهر مارس، والفرار إلى مناطق الاحتلال الفرنسي وبعدئذ عاد إلى
قصبة فرخانة ولما أصبحت ساءت عليه الأوضاع، توجه إلى مدينة مليلية.
ولقد
أخذت القبائل المحيطة بمليلية في الانضمام شيئا فشيئاً إلى بوحمارة،
وأصبحت تهدد جدياً قصبةَ فرخانة، بحيث اضطر القايد البشير إلى طلب النجدة،
ومن سوء الحظ أن نداءاته ظلت بلا مجيب فلم يُرسَل بسفينة سيد التركي إلى
مليلية إلا في 3 أبريل، ولم تكن تحمل التعزيزات المطلوبة، بل كان كل ما
حملتْ مدفعين لحماية القصبة. وفي نفس اليوم، أرسل بوحمارة أحد خلفائه إلى
عامل مليلية، يطالبه بالاعتراف به، هو الروغي، سلطاناً، وبطرد موظفي مولاي
عبد العزيز من مدينة مليلية ومن فرخانة وبطبيعة الحال، فلم يكن للعامل أن
يستجيب إلى هذا الطلب، فكان رده على مبعوثي بوحمارة أنه إلى ذلك الحين لا
يزال الإسپانيون يعترفون بمولاي عبد العزيز سلطاناً للمغرب، وأنه ينبغي
احترام موظَّفيه.
ورغم أننا نستشف من جواب الإسپانيين هذا، أنهم
لايزالون منحازين إلى جانب مولاي عبد العزيز، فإن السلطات الإسپانية لم
ترخِّص لنا بإنزال ذيْنك المدفعين.
وكان الشأن نفسه حتى من السلطات في
التراب المغربي، إذ خشيَتْ أن يتم الاستيلاء على المدفعيْن، فور إنزالهما،
من القبائل المناصِرة لبوحمارة ولذلك بقي المدفعان جاثمين على ظهر السفينة.
صارت
الوضعية في فرخانة تزداد مع الوقت إقلاقاً، وأصبحت الطريق من مليلية إلى
فاس، حينئذ، محفوفة بالمخاطر. وقد كان الجنود المائة يكفون بالكاد لتأمين
الدفاع. وما عاد جنود الروغي يبعدون بغير بضع ساعات من فرخانة. ولقد أعطى
الروغي أمره بمهاجمة المدينة. وكان المتمردون يستعملون مدافع قديمة، لايزال
بعضها معبئاً بالحجارة. ولقد أمكنهم، بالتدريج، أن يُحدِثوا بها خرقاً في
أسوار المدينة. وفي 14 أبريل تمكن المتمردون من تفجير ركن من القصبة، بحيث
لم يعد في وسع الحامية السلطانية إلا أن تنسحب إلى مدنية مليلية، وتترك
فرخانة للأعداء. ولم يقدر الجنود على حمل غير أسلحتهم. ووقع كل متاعهم
وأغراضهم بين أيدي المتمردين.
ومباشرة بعد سقوط القصبة، تم إرسالنا إلى
مليلية لنزودها بالخيام ليأوي إليها الجنود. لكن ذلك المجهود من الحكومة
المغربية كان من غير طائل، لأن الإسپان كانوا قد سبقوها إلى مد الجنود
المغاربة بما يتسع لهم من الخيام العسكرية. وقد كان للقايد البشير ومولاي
الأمراني مكان مشترك يستقبلان فيه من يزورهما في المدينة. وعندما قمت
بزيارتهما، وجدت القايد قد أخذ منه الضنى كل مأخذ. فلقد نالته الأحداث في
مقتل.
ولقد كرَّر بوحمارة، حينئذ، طلبه بطرد كل من ينتمي إلى السلطان من
المدينة. وهدَّد، في حالة ما أذا لم تتم الاستجابة إلى طلبه، بأن يمنع عن
الإسپانيين جميع المؤن التي تأتي إليهم من المغرب، وبأن يوقف تجارة مليلة
كلها. وحيث إنه كان قد أصبح حينئذ، متحكماً في خلفية البلاد، وحيث إنه لم
يعد في الإمكان الحيلولة بينه وبين تنفيذ ما يهدِّد يه، مما كان سيؤدى إلى
ارتفاع مهول في أسعار المواد الغذائية ويتسبب في خسارات كبرى للتجارة في
مدينة مليلية، فقد وجد الإسپانيون أنفسهم مجبرين على طرد ضيوفهم، رجال
السلطان.
وتم إغلاق الجمرك المغربي. وتم نقل عمال الجمرك، والقايد،
والجنود، والدواب المركوبة، والأسلحة والأمتعة على ظهر سفينة «التركي»
وسفينة بخارية فرنسية أخرى، باتجاه مدينة طنجة. وكانت تلك نهاية محتومة
لهيمنة مولاي عبد العزيز على مدينة مليلية.
لم يقتصر الأمر في تلك
الفترة على تمرد بوحمارة، وما كان يخلق من مصاعب للمخزن، بل انضاف إليه
تمرد الريسوني، الذي ظهر، هو الآخر، في صورة مثيرة للقلق. وتلك من خاصيات
الضعف الذي كانت تعاني منه الحكومة المغربية، في عجزها عن نشر الهدوء
والأمن في الشمال الشرقي من المملكة، على مقربة من مدينة طنجة.
والمدعو
الريسوني (أو الريسولي)، الذي أصبح ذائع الصيت، رجل كأنما خُلِق للصوصية
وقطع الطرق. وقد كان سبق له في سنوات تسعينيات القرن التاسع عشر أن عاش
الحياة الحرة للمهرِّب في الشمال الشرقي من المغرب، إلى أن أمكن لعامل
مدينة طنجة النشيط عبد الرحمان ولد الصدوق، أن يلقي القبض عليه، ويرسله إلى
سجن مدينة الصويرة. ولم يكن في الإمكان قتله بسبب ما اقترف من الجرائم،
بحكم انحداره من أسرة جليلة القدر، كان الأهالي يعتبرونها فوق العقاب. ولقد
مكث الريسوني في السجن مدة سنتين تقريباً، ثم أُخليَ سبيله. ولقد كان ذلك
خطأً جسيماً. فلقد تدخَّل العجوز الطريس، الذي ينحدر، هو نفسه، من نفس بلاد
الريسوني؛ تطوان، لدى السلطان لصالحه. وهو خطأ سيندم عنه الطريس بعدئذ،
شديد الندم.
استقل الريسولي في عام 1901 سفين «التركي» متوجهاً من مدينة
الصويرة إلى مدينة طنجة. ولقد مكث يومين كاملين رفقتي. ولم يترك لديَّ
الانطباع، يومئذ، بأنه رئيس لقطَّاع الطرق. فلقد كان ذا وجه صبوح. وكان
يُعرف بالاستقامة. ذا سحنة صافية. وشعر رأسه ولحيته بالغ السواد. وكان ذا
هيأة طويلة ونحيلة. وقد كان البحارة يعتبرونه شريفاً من الشرفاء، فكانوا
يخشونه أيما خشية، ولو لم يكن بعضهم قد حدثني عن الإنجازات الإجرامية لهذا
اللص، لما كان ليخطر ببالي أنني كنت إزاء رجل من هذه الطينة.
فلما بلغنا
مدينة طنجة، توجه الريسوني إلى الجبال. ولم يكد يمضي وقت يسير حتى أصبح
اسمه على كل لسان. فقد كانت عصابته في تنام وازدياد، وكانت نجاحاته تزيده
جرأة فوق جرأة. حتى لقد انتهى الأمر بجميع قبائل مثلث طنجة - تطوان -
العرائش تقريباً، إلى الانضمام إلى صفوفه. مما استحالت معه طرق القوافل
كلها إلى مسارات خطِرة، ينعدم فيها الأمن.
وفي الأيام الأخيرة من شهر
أبريل من عام 1903، قام الريسوني بمحاصرة مدينة أرْصيلا، وهي مدينة صغيرة
تقوم وسطاً بين رأس سپارطيل والعرائش. ولقد أثار هناك من الذعر حداً بلغ
إلى إرسال سفينة شراعية صغيرة إلى مدينة طنجة لطلب العون والنجدة. ولقد كان
اليهود أكثر المستهدَفين في مدينة أصيلة بتعديات الريسوني. ولقد أرسلوا
يتوسلون إلى أبناء جلدتهم من الطنجيين يلتمسون منهـم التعجيل بإرسال
المساعدة.
بيد أن السلطات المغربية بقيت جامدة، لم تحرك ساكناً. ووحدها
ضغوط اليهود مكنت من التسريع بالأمور. وكان العائق الأول أن الجنود
الموجهين لتحرير مدينة أصيلة رفضوا أن يبدأوا في المسير إلا أن يقبضوا
مؤخرات رواتبهم. ولقد أعطاهم اليهود تقدمات من تلك المؤخرات. ومن سوء الحظ
أن ساءت أحوال المناخ، مما حال دون تحرير المدينة المهددة من طريق البحر.
لم
يتسن لنا أن ننطلق إلى مدينة أصيلة إلا في 2 ماي، محملين من المؤن والعتاد
الحربي. وفي نفس الوقت وصلـت الجـيوش مـن طريق البر. وفي حوالي الزوال
اقتربوا من المدينة. فكنا نستدل على تقدمهم من الدخان الذي كان يعلو من
القرى التي كانوا ينهبونهـا في طـريقهـم، ويحولونها إلى رماد. وسرعان ما
رأيناهـم يخـترقون السـهول، ويقتحـمون المدينة. ولقـد ذهلـت مديـنة أصيـلة
لذلك. وبرغم كل جـهودي، فإنني لم أر أثراً للعدو. فمن المحتمل أن يكون فر
قبل وصولِنا ووصول الجنود.
في تلك الأثناء وصلتنا أصداء مقلِقة من مدينة
تطوان. فقد أصبحت المدينة واقعة تحت تهديدات الريسوني، ورفاقه من أنجرة
وبن إيدر. ولقد سبق لي أن قلت إن مدينة تطوان هي مسقط رأس الوزير الطريس،
ولذلك فقد خُصَّت بمساعدات سخية في تلك الأوقات العصيبة. ولقد سلمنا الحبوب
والأموال والذخيرة في 10 ماي، إلى الجنود المرابطين في المدينة، فكان
الرجال يخرجون من القوارب الصغيرة مسلحين تسليحاً قوياً، مما يوحي بخطورة
الوضع في المدينة. ولقد تعزز لدي هذا الانطباع بمجيء مولاي عرفة من نمور
إلى تطوان لمساعدة حامية المدينة بجنوده، ثم لم يلبث أن اندس في السفينة،
للالتجاء إلى مدينة طنجة. ولقد بداً عليلاً، قد اشتد عليه المرض. وانسحب
متعللاً بأسباب صحية. ثم كانت وفاته بعد ذلك بقليل. وفي طريق مغادرتنا إلى
مدينة طنجة، إذ رأينا تصاعد الدخان من نواحي المدينة، وسمعنا طلقات رصاص
متفرقة. ويبدو أن المتمردين بدأوا هجومهم على المدينة. ولقد حملنا من طنجة،
في اليوم الموالي، حوالي 200 من الرجال للاستبدال. ولقد حكوا لنا عن معركة
وحشية، تم فيها القضاء على المتمردين بعد أن دمروا كل شيء في المدينة،
وأتلفوا البساتين الجميلة حول المدينة. وقد كان هذا القول، كذلك، من
المبالغات التي انشرت كبير الانتشار في المغرب. والحال أنني أمكنني فور
ذلك، أن أقف على الواقع بنفسي، فكانت المناطق الخضراء لاتزال على تألقها،
إلا من أشجار البرتقال التي تعرضت للإحراق.
تواصلت إمداداتنا لمدينة
تطوان. وكانت تلك الإمدادات تتكون، في معظمها، من العتاد الحربي، والأموال،
والذخيرة والمؤن. كما كنا نحمل إلى المدينة، في كل رحلة تقريباً، ما بين
100 و200 من الرجال ودوابهم. ولقد أوكِلتْ قيادة الجنود إلى القايد
البشير، الذي تم طرده من فرخانة، وإلى رفيقه السابق في النكبة مولاي
الأمراني. ولقد أمكن بوصولهما، في منتصف شهر ماي، أن يستتب الهدوء والأمن
داخل المدينة وفي نواحيها القريبة.
وعلى الرغم من أن تطوان معدودة بين
مراسي المغرب، فهي لا تقوم على البحر مباشرة، بل تبعد عنه بحوالي 10
كيلومترات. ومرسى مارتيل، الذي تمر من خلاله التجارة البحرية، يقع على بعد
30 كيلومتراً إلى الجنوب من المستعمرة الإسپانية سبتة. وتجارة السفن مع
البر تجرى ههنا على نحو ما هي في سائر المدن الساحلية المغربية، بواسطة
القوارب التي تعود إلى الحكومة، والتي يمكنها الإبحار في مصب الوادي.
المنطقة
التي بين تطوان ومارتيل أرض منبسطة تماماً. وفي خلفيتها تنتصب الجبال
مشكلة ما يشبه نصف دائرة. وعندد سفوحها يمتد سهل شديد الخصوبة، لكن لا يعرف
نشاطاً فلاحياً ذا بال، بسبب إهمال السكان.
ومدينة تطوان، التي تُرى
أسوارها البيضاء واضحة للعيان من الشاطئ، هي من أجمل الأماكن في المغرب.
والمدينة تقوم فوق ربوة هينة السفوح، تقوم في سفوحها بساتين خصبة ممرعة،
تتخللها بيوت صغيرة بيضاء. وتحف بها من جوانب ثلاثة جبال عالية. تصعد في
البداية بهدوء، وتنتهي في الأعلى بجرُف وعرة وقرعاء.
وكثيراً ما سنحت لي
الفرصة لزيارة هذه المدينة، فكنت أغتنمها اغتناماً سعد بها كثيراً. ويكون
رفيقي دائماً الترجمان الحاج محمد بومغيث. فكنا نركب جوادين ضامرين عجوزين،
يبدو أنهما لا يعرفان غير السير، فنمضي ساعات غير قليلة نقطع خلالها مسافة
10 كيلومترات، للوصول إلى تطوان.
وفي كل مرة أزور المدينة، تأخذ بجماع
نفسي. فما اقتربت منها إلا ازدادت جمالاً في ناظري. على جانبي الطريق تمتد
بساتين من ورود بيوت صغيرة، إلى أن نبلغ باب المدينة، ثم ندخلها. ونسير
نسلك دروباً ضيقة، إلى أن نأتي إلى السوق، وهو ساحة فسيحة تقوم وسط
المدينة. وهناك نعيد دوابنا إلى أصحابها، لكي تقوى على حملنا حين الرجوع.
وثم أمر يسستثيرني كلما نزلت بهذه المدينة، فهي وإن تتكن غنية، وبين
ساكنتها موظفون سامون لدى السلطان، إلا أنها توجد في حال سيئة حقاً.
فطرقاتها تفتقر إلى النظافة، وهي ضيقة تعمها الفوضى، وقليلة جداً، وبينها
السيئة التبليط. البيوت متنافرة الأشكال، من غير أن تصبغ بالجير. بل إنك
لترى القصور المغربية الأكثر تميزاً، تلك القصور التي تذكرنا، من وجوه عدة،
بقصر الحـمراء في غرناطة، بهيئتها الموريسكية الغنية، تلوح، في مظهرها
الخارجي، قبيحة وسخة. ويمثل الحي، الملاح اليهودي استثناء صارخاً.
لكن
لا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلى أن اليهود لا يمكنهم أن يسكنوا في غير
الملاح. فإن لهم، ههنا، كما في سائر المدن الساحلية، في ما خلا الرباط
وسلا، أن يشتروا ويبتنوا لهم مساكن حيثما شاءوا من المدينة، وفي خارج
القصبة.
وفي المدينة حي صناعي خاص، قد جعِل للصناعة البيتية بطبيعة
الحال. وقد جعِل لكل حرفة زقاقها الخاص بها. فمن الأزقة ما هو مخصص لصناعة
البلغ وحدها، ومنها المقتصر بها على صناعة الجلد، تليها المخصصة للدباغة،
والحدادة، وصناعة البنادق، وسواها. ويؤوي كل صانع إلى دكان صغير، ذي باب
وحيدة تطل على الزقاق، مفتوحة على الدوام. ومن هناك يمكننا رؤيتهم وهم
يعملون. ومعظم هذه الأزقة مغطى بأشجار العنب، لتقيها أشعة الشمس، فهذا مما
يشعر المتجول فيها بالمتعة والنداوة. ومن عجيب أن هذا الحي، وما يعج به من
حرف، يكون، هادئاً، فيجتذبي إليه اجتذاباً.
ولا ينبغي أن تفوتنا
الإشارة، كذلك، إلى القصبة، التي، كشأنها في سائر المدن المغربية المشيدة
فوق هضاب، تقوم شامخة تعلو على ما سواها. وإن كثيراً من تلك الحوائط
البيضاء المتينة يلوح للمرء من أسفل، منذراً متوعداً، بيد أنه إنذار ليس له
من أساس، قليس للقصبة من دور عسكري. وعدا ذلك، فالحوائط ليست بالمتينة
جداً، في ما عدا بعض المدافع البالية قد نصبت إلى بعض الكوى، والتي أصبح
معظمها غير قابل للاستعمال. ولو أريدَ تعبئة لقم تلك المدافع، فإن مخاطرها
على الرماة ستكون أكثر منها على العدو.
وقد كنت في كل زيارة لي إلى هذه
الناحية، أذهب لزيارة القايد البشير ومولاي الأمراني. إن كلاً منهما يسكن
بيتاً من أجمل البيوت. وقد كنت أتبادل والقايد البشير الحديث في شأن الوضع
السياسي، فكانت تصدر عنه بعض الأحكام التي أستنتج منها عدم رضاه عن السلطان
ومستشاريه. في منتصف شهر ماي من عام 1903، تناهى إلى علمنا أن مراسل
صحيفة «التايمز»، هاريس، قد تعرض للاختطاف من لدن الريسولي، وأن هذا الأخير
أطلق سراحه، مقابل الإفراج عن جميع أتباعه. وكان الناس يتهامسون أنهم
شاهدوا هاريس والريسوني متدثِّرين بغطاء. وقد كان البشير يأسف لهذا الحادث
لما يخشى من أن يُغري المتمردين باختطاف المسيحيين، لتحرير رفاقهم السجناء،
وهذا مما سيمدُّ من عمر التمرد. كما كان يشغله أن المتمردين كانوا أفضل
تسليحاً من جنود السلطان. ذلك أنه تم القبض على أحد الرجال من قبيلة أنجرة
فوجِدتْ معه بندقية عصرية، من قبيل ما يستعمله المشاة الألمان، من نوعية
88، وقد أراني إياها القايد. وأما جنود السلطان فلم يكونوا يملكون غير
بنادق قديمة من نوعية شاسپو تعود إلى سنة 1873، كان معظمها في حالة سيئة.
وعلمت بهذه المناسبة، أن البنادق العصرية التي كان يستعملها المتمردون كانت
تمر إليهم بطريق التهريب من الإسپان.
يقدر عدد الجنود الذين قمنا
بحملهم، في مجموعات كبيرة نسبياً، من طنجة إلى تطوان، بما بين 12000 و
15000 رجل. ولولا أنهم صعدوا إلى السفينة بصفة الجنود، لكان من الصعب
علينا أن نعرف أنهم كذلك. فلم يكن لهم «زي» يميزهم، غير الطربوش الأحمر
المذبب المعتاد لدى الجنود المغاربة. وفيما عدا ذلك، كانوا يلبسون حسبما
يشتهون، أو حسبما تسعفهم إمكانياتهم. ولم نصادف غير مجموعة واحدة ارتقت
السفينة في أزياء حقيقية. فقد كان أفرادها يرتدون بذلاً حمراء، غير ملائمة،
ذات ثنيات صفراء وأزرار مذهبة، وسراوييل زرقاء واسعة تنتهي عند ركبهم.
وكان هؤلاء الرجال، كسائر الجنود المغاربة، يجعلون على الدوام، فوق ثيابهم
جلباباً بيضاء حائلة، فلا ترى أزياؤهم. ولا نميز لدى هؤلاء الجنود من قادة،
فكأن الرؤساء ليس لهم من سلطان عليهم، إذ كان يقع على بحارتي حفظ النظام
على متن السفينة. فكنا كلما ركبوا وإيانا نجردهم من أسلحتهم، ونجعلها في
صناديق خاصة أو في الرزم. وكانوا سرعان ما ياتخذون أماكنهم على ظهر
السفينة. فندرك على الفور أننا بإزاء شعب رحال، حيثما جُعل شعر كأنه في
بيته. وكانوا إذ هم على السطح، يتجمعون في مجموعات صغيرة بين الصناديق
والرزم، المكومة، أ، بجوار جيادهم. وكانوا يمدون حصراً يتمددون عليها، أو
يجلسون متربعين. ثم يأخذون في تسخين الماء لإعداد الشاي على مجامير صغيرة
يحملونها وإياهم. فقد كان الشاي والزيتون والخبز تكاد تكون هي طعامهم
الوحيد طوال الرحلة. والذين على الجسر يتقون الشمس والمطر بأن يجعلوا عليهم
ثياباً بالية، أو خياماً وأقمشة، يصير بها الجسر أشبه ما يكون بمخيم.
كان
الرؤساء يطالبون بأماكن جيدة، فنهيئها لهم على السطح الخلفي. وقد أسمح،
أحياناً، لبعض الموظفين الكبار بالجلوس في مقصورتي. وأما من سواهم فيكون
عليهم أن يبحثوا عن مكان فوق الجسر. وكذلك كان الرؤساء سريعاً ما يتخذوا
هناك أماكنهم، فيجعلون من يخدمهم من الرجال، غير عابئين بشيء. فلم يكن
يتميزهم شيءٌ عن رجالهم، إلا سنهم المتقدمة وجلابة أكثر نظافة، وكذا
بخناجير صغيرة معقوفة في أغماد من فضة، يعلقونها إلى أعناقهم بخيوط طويلة
من الحرير.
كان أولئك المقاتلون رجالاً من شتى الأعمار، أصغرهم لا
يكادون يبلغون الرابعة عشرة، وأكبرهم في الخمسين، ومن شتى ألوان البشرة.
ويبدو أن المسؤولين لم يولوا وقت تجنيدهم من اهتمام إلى القوة الجسمانية،
لأن كثيرين بينهم كانوا في حالة مزرية. ومع أن الجنود لم يكن لهم أي علم
بالنظام، فلم يكن من الصعب اقتيادهم، وقليلاً ما كانت تحدث مشاجرات لرفضهم
الإذعان لقانون السفينة. وقد كانوا في عمومهم قذرين جداً، وكانوا مبتلين
بالهوام. فكنت كثيراً ما أرى رجلاً قد انزوى في ركن، وجعل يفلي القمل، أو
أرى أحدهم قد جعل رأسه بين ركبتي صاحبه، ليفيله له.
وكان يُدفع إلينا في
بعض الأحيان، إذ نحن في تطوان أو طنجة، بسجناء الحرب. فيكونون مكبلين
بحلقة حدديدية تُثبت في العراقيب وبين القدمين يُجعل قضيب حديدي بطول حوالي
30 ستنتمترا. فبذلك لا يكون وسع أولئك التعساء أن يقوموا بغير خطوات
دائرية صغيرة. وبين أولئك السحناء الذين يُقال لنا، دائماً، إنهم متمردون،
كنا نرى تعساء مساكين؛ فكنت أشك في أن الرؤساء إنما يقبضون على رجال
مسالمين تماماً لمجرد التباهي أمام السلطة، ولكي يثبتوا حماستهم للسلطان.
وعموماً، فإن أولئك المساكين يكونون ملفوفين في جلابيب، بعد أن يكون الجنود
المرافقون لهم قد جرّدوهم من كل ثياب، وما معهم من متاع.
اضطُرَّت هذه
الاضطرابات أعداداً كبيرة من التطوانيين إلى مغادرة المدينة. وكانت سفينتنا
تكاد تمتلئ في كل رحلة من هؤلاء اللاجئين. فقد كانت السلطات تأذن لهم
باستعمال هذه السفينة. ومن عجيب أن أعداد المهاجرين منهم للمدينة لم تتناقص
حتى عندما أخذت الأوضاع بها في التحسن. وإنما على العكس من ذلك، فقد
تزايدت أعداد الفارين من المدينة للنجاة بأنفسهم. وكانوا، فضلاً عن ذلك،
يحملون معهم أهم أغراضهم. وقد أكثرهم يحملون معهم على ظهر السفينة صناديق
يزعمو أنها تخص الطريس أو أسرته، ويطلبون منا الاعتناء بها. وسرعان ما
تبيَّنت أن أولئك المسافرين لم يكونوا باللاجئين، وإنما هم مجرد تجار
يستعماون سفينة «التركي» وسيلة للنقل زهيدة السعر في ما يقومون به من تجارة
مربحة ما بين مدينة طنجة. كما أن الصناديق والعلب التي كانت تُحمَّل في
السفينة باسم الطريس إنما كانت تعود إلى خواص يزعمون أنها لطريس ليضمنوا
لها المعاملة الحسنة. وحيث كانت بعض البواخر الخاصة التي كانت تقوم
برحلاتها ما بين مدينتي طنجة وتطوان، فلم يكن من داع لحمل تلك السلع على
متن سفينة حكومية، قد كنا نحرم تلك السفن الخاصة بعض مداخيلها. غير أن
الطريس رجل تطواني، وهذا يكفي. فالمغرب بلد المحسوبية. وكل شخص متنفذ يسعى
ليخص بالامتيازات أقرباءه، ثم أصدقاءه ومعارفه، وفي الأخير أهل مدينته. وكل
بائس أو مسكين يرى من الطبيعي أن يفيد من أقربائه المتنفِّذين، و أصدقائه
والفلاحين الأقرب إليه.
وقبل أن نعود إلى استئناف رحلاتنا الاعتيادية باتجاه مدينة تطوان، كنا شهوداً على واقعة «حربية» مميزة للحروب المغربية.
فقد
حدث أن أرسل بوحمارة بأحد خلفائه إلى ناحية تطوان ليبث الفتنة ويؤلب سكان
تلك النواحي ويجمعهم على الروغي. وفي 11 يوليوز، سمعت الحديث، لأول مرة، عن
وجود هذا الخليفة الذي قيل إنه نصب خيمته في أحد الأودية على ساحل البحر،
يبعد بمسير ساعتين تقريباً إلى الجنوب من مدينة تطوان. ولقد حكى لنا بحارة
تطوان، على سبيل التهويل، في اليوم الموالي، أن قبائل جنوب تطوان قد انحازت
إلى جانب بوحمارة، وإن المدينة تبدو في وضع سيء. وحتى العلاقة بين تطوان
ومرتيل كان يُقال إنها أصبحت مهددة. والواقع أن المتمردين لم يحرِّكوا
ساكناً.
لذلك قرر مولاي الأمراني أن يخرج في طلب العدو. وفي 15 يوليوز،
نحو العاشرة صباحاً، رأينا إلى الجنوب من مكان رسوِّنا دخاناً يتعالى من
القرى المحرَّقة، وتناهى إلى أسماعنا بعض طلقات الرصاص. وفي الزوال جاءنا
الأمر بالتوجه ناحية الجنوب وقنبلته. كان الوادي الواقع إلى الجنوب من رأس
مازارين، حيث يوجد ما يمكن أن نسميه معسكراً، يوحي بالأمن. وتمتد من وراء
ذلك الوادي قرية كبيرة تحيط بها حقول خضراء يانعة الخضرة. وفي منخفض مجاورة
للشاطئ، غيضة مزهرة. فلم نجد بداً من العودة، في حوالي الساعة الثالثة،
إلى مارتيل.
وأثناء ذلك كان الجنود ممعنين في قنبلة الناحية الجنوبية.
وأصبحت أعمدة الدخان المتصاعدة إلى عنان السماء أكثر فأكثر ضخامة. لكن
توقفت طقطقات الرصاص، مما يوحي بأن الجنود شرعوا، حينئذ، في نهب بيوت تلك
الناحية. وسرعان ما رأيناهم يقتادون قطعاناً كبيرة من الماعز والأبقار، على
طول الشاطئ، باتجاه مرتيل، لجعلها في مأمن على الضفة الأخرى من الوادي.
وهذا يعني أن هذا اليوم كان يوماً مثمراً على الجنود. ولم نفلح في ثنْي
رجالنا عن الإسراع بالنزول إلى البر ليحوزوا نصيباً من تلك الغنيمة. لكن
حتى أولئك منهم الذين لم يجشموا أنفسهم ذلك العناء توصلوا بنصيبهم من تلك
الغنيمة. ففي مساء ذلك اليوم أرسل إلينا القايد على متن السفينة بخروفين
و11 دجاجة، 100 بيضة، 12 قالباً من السكر، و3 علب من الشاي، و10 علـب من
الشمـع، وكيس من الخبز.
مرت تلك «الحملة» من غير إراقة كبيرة للدماء،
وبدا أنها إنما كان الهدف منها استكمال الإمدادات وتشجيع الجنود. وبعد ذلك
علِمت أن سكان القرى التي تعرضت للنهب والإحراق كانوا عزلاً تماماً من أية
حماية، وأنهم بقوا على ولائهم للسلطان. والواقع أن خليفة بوحمارة كان قد
علِم، في الوقت المناسب، بما كان مولاي الأمراني يدبِّر للسطو على أمواله،
ولذلك لاذ بالفرار. ولقد بلغ الحنق بالأمير لفشلان مخطَّطه، أن أمر بنهب
القرى.
26-07-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 5 -
في اليوم الموالي خرجنا متوجهين إلى كاپ جوبي..
وكاپ
جوبي، الذي يسميه المغاربة بطرفاية، هي آخر نقطة إلى الجنوب من المغرب،
إنها موقع صحراوي، تلتقي فيه الصحراء مع البحر. ويقع رصيف الميناء أمام
الساحل، إلى الناحية الجنوبية الشرقية، ولقد نشأ عن ذلك، بين الرصيف
والقارة، خليج من مياه هادئة، لكن شديدة الضحالة.
واتفق، قبل بضعة أعوام، أن وقع اختيار شركة إنجليزية على هذا المكان لتنشئ فيه مركزاً تجارياً.
وأخذت
تجذب إليها، شيئاً فشيئاً، التجارةَ المتجهة من سوس إلى مدينة الصويرة،
وحيث إن جبال سوس الضاربة في الجنوب لا تكاد تبعد بغير 30 متراً عن مدينة
طرفاية، لكنها تبعد، على العكس، بأزيد من300 كيلومتر إلى الشمال، فقد كان
للمخطَّط الإنجليزي مؤهلات للنجاح، ولقد شرعت الشركة في إنشاء منزل منيع في
أقصى الجنوب الشرقي من الريف، على هيأة حصن، كما أنشأت، قبالته، على
الشاطئ، بناية جميلة.
ولقد تم البناء على نحو متين، ولا يزال البناءان
قائمين إلى يومنا هذا، غير أن الموقف العدائي للقبائل الصحراوية من هذه
المقاولة الجديدة، أحال كل تجارة تقوم بها أمراً مستحيلاً.
وقد يكون الإنجليز اغتبطوا عندما لوَّح السلطان بسيادته على الأرض التي احتلُّوها، واشترى منهم ملكهم بمبلغ لا يُستهان به.
ولقد
رحل الإنجليز عن المنطقة، وجعل السلطان عليها حامية صغيرة لا يتعدى عدد
رجالها الأربعين، كان كل شأنهم أن يرابطوا عن الحدود المغربية من ناحية
الجنوب.
وكان يتم استبدالهم على رأس كل عامين، إذْ لم يكن في مقدور حتى الإنسان المغربي أن يتحمَّل البقاء طويلاً في هذه المنطقة.
فلا
يمكن تصور وجود منطقة أكثر من هذه بؤساً وإيحاشاً؛ فليس يكتنفها غير
الرمل، والرمل ثم الرمل! وإنه ليعسر علينا أن نفهم أين تجد بعض الخراف
البائسة التي يمتلكها الأهالي والعدد اللا يُحصى من الغزلان غذاءَها في هذا
القفر.
ولم يكن يظهر في هذا المجال الرتيب غير المنزلين اللذين أنشأها
الإنجليز، لكن على الرغم من هذا الفراغ، كان الناس يعيشون في هذا الطرف من
الصحراء، ولا يخطر ببالهم أن يتركوه!
كان يتعيَّن جلب جميع المواد
الغذائية للحامية، بما فيها الماء وخشب التدفئة، ولذلك يكون وصول سفينتنا
دائماً، عيداً صغيراً للحامية. فبالإضافة إلى المواد الغذائية الطرية، كنا
نحمل إليهم رسائل الأهل وأخبار البلاد، وكان الجنود المغاربة يسكنون على
الطريقة العربية، فلا وجود في مساكنهم لأي أثر للنظافة التي كانت تطبع هذه
المساكن على عهد الإنجليز. ولم يعد البيتان يحتفظان بلونها الأصفر البراق
في غير النواحي منهما التي يطالها رذاذ البحر، أو النواحي التي لا تطولها
أيدي البشر.
ومن النوافذ الست لأحد هذين المنزلين تتراءى آثار سوداء مصدرها ما يُلقى من الفتحات من الأزبال والقاذورات.
وقد أُلْقيت كما اتفق، في ساحة مفتوحة تمتد إلى داخل الأراضي، خليط من القطع الخشبية، والأكياس الفارغة، وكل شيء.
وكان تقوم هنا، رافعتان لتفريغ حمولات السفن، وقد كانتا من البلى بحيث كنت أخشى على الدوام، أن تنهارا تحت ثقل الحمولة فوقها.
فكان لسان حالهم :»لن يحدث ذلك إلا بمشيئة الله!»، ويستمرون في العمل بهما كما اتفق.
ولم
يكن الداخل بأفضل من الخارج، فقد كانت حواجز من الخشب تقسِّم قاعات جميلة
وكبيرة إلى حجرات صغيرة، كان يسكنها بعض الرجال رفقة بعض الإماء الزنجيات،
أو أزواجهم الشرعيات.
وقد كانت القذارة نفسها، والفوضى نفسها تعم
المكان، وقد بلغ بالناس استخفافهم بالنظافة، أنهم كانوا لا يتورعون عن غسل
أقدامهم في الخزان الذي منه يؤخذ الماء بالبراميل!
وكان البيت نفسه في الحالة نفسها من التردي.
وكانت
الريح والرمل قد مسحا الأسوار القديمة المحيطة بالفناء، والبالغ علوها
خمسة أمتار، حتى لم يعد يُرى منه في بعض الأنحاء غير الزاوية العلوية، وبات
بإمكان المرء أن يتخطاه بخطوة واحدة.
وإلى جوار هاتين البنايتين كان الكثير من أبناء الصحراء يعيشون تحت الخيام.
وكانوا يكاد أن يكون كل عيشهم على العمل لفائدة الحامية.
وقد كان لهم بعض المومسات الكريهات، في حوالي الستين من عمرهن.
وكان
لباس الرجال والنساء أزرقَ غامقاً، بحيث يبدو الجسد كله في لون أزرق، وحيث
إنهم لم يكونوا يغتسلون أبداً، فإن ذلك قد يحمل على الاعتقاد أن لون جلدهم
أزرق، وحتى وجوههم كانت زرقاء، لأنهم يحيطون جباههم وأفواههم، في العادة،
بطرف من ثيابهم.
كان جنود السلطان على الأقل، هم الذين يلمس أجسادَهم
الماء والصابون من حين إلى حين. ولقد أدركت فضل الرسول على أتباعه عندما
أمر بالوضوء قبل كل صلاة، إذ لو لم يكن هؤلاء الجنود مجبرين، من الناحية
الأخلاقية، على الاغتسال عندما يقومون إلى الصلاة، لكانوا قد تلفوا من
الأوساخ والأدران.
ولقد سمحت لي الحكومة المغربية، منذ أن بدأت في مزاولة نشاطي، بأن ترافقني زوجتي في أسفاري.
ولقد
نزلت وإياها مدينة طرفاية، فكانت مثار فضول السكان الصحراويين. فقد كانت
تلك أول مرة يرى فيها معظمهم امرأة مسيحية، وفضلاً عن ذلك امرأة طويلة
القامة، ألمانية وشقراء. ولقد اندهشوا أيما اندهاش لشعرها الأشقر، والورود
في قماش قبعتها.
ولقد اقتعدنا الرمل، فتحلقوا من حولنا في نصف دائرة،
فكانوا يمدون أيديهم فيلمسون شعر زوجتي البراق، ليتأكدوا من أنه شعر حقيقي،
كما كانوا يتشممون الورود على القبعة، التي يبدو أنها سلبتهم ألبابهم.
كما أثار استغرابهم ما كنا نحمل في أصابعنا من الخواتم الذهبية.
غير
أن فضولهم لم يكن يضايقنا، وإنما كان بالأحرى، فضولاً خجولاً، ينم عن خوف
شديد، فكانوا ينسحبون بسرعة، عندما يلاحظون أنهم أصبحوا لحوحين مزعجين.
وبعد
أن فرغنا من تحميل السفينة، وعدنا أدراجنا إلى مدينة الصويرة، كان بين
المسافرين بعض العبيد الذين كان لا يزال يجري فيهم البيع والشراء في مدينة
طرفاية! وقد كان معظمهم من الشباب السود، استُقدِموا من بلاد السودان.
ظل
السلطان، حتى بداية 1903، عاجزاً، برغم الجهود اليائسة، عن القضاء على
تمرُّد بوحمارة. وإن كان الروغي، كذلك، لم يحقق، هو الآخر كبيرَ تقدم. وكان
الصراع بين الطرفيْن يبدو كأنه حرب على الطريقة المغربية : فقد كان أحد
الطرفين يحاول أن يضر أكبر ما في الإمكان بالطرف الآخر، بأن يحرق وينهب له،
من دون أن يجرؤ على أن يوجِّه إليه ضربة حاسمة. وكانت القبائل تساند، في
معظم الأحيان، من يبدو لها هو الأقوى. وقد كان يتفق أن تنقلب قبائل عن بكرة
أبيها، إلى جانب الطرف الخصم، متى بدا لها أن النصر يميل إلى جانبه.
وفي الأخير توجه بوحمارة إلى تاسة، في نواحي مليلية، لمحاولة إخضاع المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد.
وقد كانت ترابط في فرخانة وفي وجدة الكثير من المحلات المتجنِّدة للدفاع عن السلطان، مما حتَّم عليه أن يمدها بالعون.
ثم بدأت عمليات نقل الجنود باتجاه المناطق المهدَّدة. فقد نزل مولاي عرفة، عم السلطان، إلى فاس في 200 جندي و10 مطايا.
ولقد ركب سفينة «الرتركي» إلى مدينة مليلية في 7 فبراير.
وكانت
رحلة مضطربة شديدة الاضطراب، بفعل العواصف. وكان الأمير ابن عرفة رجلاً
عجوزاً قد تجاوز الستين، ضعيف الجسم. ولذلك عانى كثيراً من دوار البحر.
وبقي
الجو على حاله، لم يتحسن، مما اضطرنا إلى التوقف بصورة مؤقتة في ساحل رأس
ثلث مداري، في جويْن، تُعْرف عند الأهالي باسم «مرسى البراق».
وقد كان هذا الرأس، يومئذ، بيدي السلطان، ولذلك رغِب الأمير في النزول فيه، والتوجه منه، بطريق البر، إلى قصبة فرخانة.
ولقد
نزل الرجل العجوز ورجاله هنا، وبعد بضعة أيام، تحسنت حالة الجو، وبذلك
أمكننا أن نواصل طريقنا باتجاه مدينة ملوية، فلما بلغتها، سرت والترجمان
بومغيث، براً لزيارة عامل قصبة فرخانة، ولأعرف، في نفس الوقت، إلى أين آلت
الحرب. ولقد ركبنا عربة إلى هناك، واستغرقت ذلك منا نصف ساعة، حتى الحدود
الإسپانية. ومن هناك سرنا مدة عشر دقائق راجلين، فلم يكن مسموحاً للعرَبات
باجتياز الحدود، والدخول إلى التراب المغربي.
وتوجد قصبة فرخانة إلى
الجنوب الغربي من مدينة مليلية، في واد صغير، تحيطها جبال شاهقة. ولقد
شيِّدت قصبة فرخانة على نمط تشييد قصبة السعيدية، والقصبة الأولى كالقصبة
الثانية، لايكنها أن تصمد طويلاًَ لحرب عصرية.
كان القايد البشير
يستعد لتناول الفطور، حين أخبِر بوصولنا ، فدعانا من فوره إلى مشاركته
ظعامه. وقد كان يتلف من ستة أنواع من الفطائر المقلية في الزيت.
والقايد
البشير من القادة الأكبر سناً والأشد نشاطاً في جيش السلطان، إنه رجل طويل
ومهيب، شديد نصوع البشرة بالنسبة لعربي، لأسارير حادة، ولحية كبيرة سوداء
ضاربة عند الصدغين إلى الرمادي.
وقد كانت له رؤية إلى الوضع شديدة
التفاؤل، لأن القبائل التي في المنطقة الساحلية بين مليلية والحدود، كانت
تبدو، إلى ذلك الحين، لا تزال تابعة للسلطان، وكان الروغي لا يزال بعيداً.
وكان يتوقع الكثير من مولاي عرفة، الذي كان قد وصل بالفعل، عبر الطريق ،
وتخلص من العناء الذي وجده في رحلته البحرية.
فلما ودعته، دس في يدي
علبة صغيرة، قائلاً إنها هدية من الأمير لأجل الرحلة. وتملكني الفضول
لمعرفة ما تحتويه، ففتحتها، ووجدت بها 50 بسيطة عربية في شكل قطع نقدية،
كان خمسها مزيفاً، فدقعت بالهدية الأميرية إلى الترجمان، ورضيت بأن أأكون،
بذلك، قد أدخلت السرور على شخص ما.
وعند عودتنا إلى مدينة طنجة، وجدنا
ثاني أعمام السلطان، مولاي الأمراني، وقد اصطحب معه حريمه. واستقل السفينة
في 14 فبراير رفقتهن وحوالي 200 من الجنود. ولقد جملناهم، كذلك، إلى مدينة
مليلية.
لم يبد على الإسپان أي رغبة في السماح للجنود المغاربة باجتياز
أراضيهم بأسلحتهم وذخيرتهم. فلزِم أن ننزل كل شيء في الساحل المغربي، على
بعد ألفي ميل بحري جنوبي مليلية، وذلك ما كان، من غير عراقيل وفي طقس جميل.
تلقينا
الأمر بمواصلة طريقنا مباشرة، باتجاه عجرود، وبالتوجه إلى قصبة السعيدية
لنحمل من هناك 100 بندقية. إنها بنادق من نوعية «شاسپو»، فئة 1873، ومعها 6
صناديق من الذخيرة. وقد كانت 300 من تلك البنادق في حالة من الصدإ،
يستحيل معها استعمالها. ولقد سعيْنا لحصول على ترخيص بنقل تلك الحمولة عبر
التراب الإسپاني، إذ لم يكن إنزالها على الساحل بالأمر السائغ، بحكم
كثرتها. غير أننا لقينا، من جديد، مصاعبَ جمة من الإسپانين، ولم نجد بداً
من المكوث عند الساحل المغربي.
وبعد تلك الرحلة لبثنا متبطلين مؤقتاً، ولقد بقينا على تلك الحال طيلة شهر مارس، في مدينة طنجة.
وأثناء
ذلك توجه مولاي عرفة من قصبة فرخانة إلى مدينة وجدة. وقد كان بوحمارة
يتقدم في بطء، لكن بانتظام، باتجاه الساحل الشمالي الشرقي. وكانت شعبيته
لاتني في ازدياد.
ولقد أرغم مولاي عرفة على التنازل عن مدينة وجدة، في
أواخر شهر مارس، والفرار إلى مناطق الاحتلال الفرنسي. وبعدئذ عاد إلى قصبة
فرخانة. ولما أصبحت ساءت عليه الأوضاع، توجه إلى مدينة مليلية.
ولقد
أخذت القبائل المحيطة بمليلية في الانضمام شيئا فشيئاً إلى بوحمارة، وأصبحت
تهدد جدياً قصبةَ فرخانة، بحيث اضطر القايد البشير إلى طلب النجدة، ومن
سوء الحظ أن نداءاته ظلت بلا مجيب، فلم يُرسَل بسفينة سيد التركي إلى
مليلية إلا في 3 أبريل، ولم تكن تحمل التعزيزات المطلوبة، بل كان كل ما
حملتْ مدفعين لحماية القصبة، وفي نفس اليوم، أرسل بوحمارة أحد خلفائه إلى
عامل مليلية، يطالبه بالاعتراف به، هو الروغي، سلطاناً، وبطرد موظفي مولاي
عبد العزيز من مدينة مليلية ومن فرخانة. وبطبيعة الحال، فلم يكن للعامل أن
يستجيب إلى هذا الطلب، فكان رده على مبعوثي بوحمارة أنه إلى ذلك الحين
لايزال الإسپانيون يعترفون بمولاي عبد العزيز سلطاناً للمغرب، وأنه ينبغي
احترام موظَّفيه. ورغم أننا نستشف من جواب الإسپان هذا، أنهم لا يزالون
منحازين إلى جانب مولاي عبد العزيز، فإن السلطات الإسپانية لم ترخِّص لنا
بإنزال ذيْنك المدفعين. وكان الشأن نفسه حتى من السلطات في التراب المغربي،
إذ خشيَتْ أن يتم الاستيلاء على المدفعيْن، فور إنزالهما، من القبائل
المناصِرة لبوحمارة ولذلك بقي المدفعان جاثمين على ظهر السفينة.
صارت الوضعية في فرخانة تزداد مع الوقت إقلاقاً، وأصبحت الطريق من مليلية إلى فاس، حينئذ، محفوفة بالمخاطر.
وقد كان الجنود المائة يكفون بالكاد لتأمين الدفاع. وما عاد جنود الروغي يبعدون بغير بضع ساعات من فرخانة.
ولقد
أعطى الروغي أمره بمهاجمة المدينة. وكان المتمردون يستعملون مدافع قديمة،
لايزال بعضها معبئاً بالحجارة. ولقد أمكنهم، بالتدريج، أن يُحدِثوا بها
خرقاً في أسوار المدينة.
وفي 14 أبريل تمكن المتمردون من تفجير ركن من
القصبة، بحيث لم يعد في وسع الحامية السلطانية إلا أن تنسحب إلى مدنية
مليلية، وتترك فرخانة للأعداء ولم يقدر الجنود على حمل غير أسلحتهم، ووقع
كل متاعهم وأغراضهم بين أيدي المتمردين.
ومباشرة بعد سقوط القصبة، تم
إرسالنا إلى مليلية لنزودها بالخيام ليأوي إليها الجنود. لكن ذلك المجهود
من الحكومة المغربية كان من غير طائل، لأن الإسپان كانوا قد سبقوها إلى مد
الجنود المغاربة بما يتسع لهم من الخيام العسكرية.
وقد كان للقايد
البشير ومولاي الأمراني مكان مشترك يستقبلان فيه من يزورهما في المدينة.
وعندما قمت بزيارتهما، وجدت القايد قد أخذ منه الضنى كل مأخذ، فلقد نالته
الأحداث في مقتل.
ولقد كرَّر بوحمارة، حينئذ، طلبه بطرد كل من ينتمي إلى
السلطان من المدينة. وهدَّد، في حالة ما أذا لم تتم الاستجابة إلى طلبه،
بأن يمنع عن الإسپانيين جميع المؤن التي تأتي إليهم من المغرب، وبأن يوقف
تجارة مليلة كلها. وحيث إنه كان قد أصبح حينئذ، متحكماً في خلفية البلاد،
وحيث إنه لم يعد في الإمكان الحيلولة بينه وبين تنفيذ ما يهدِّد يه، مما
كان سيؤدى إلى ارتفاع مهول في أسعار المواد الغذائية ويتسبب في خسارات كبرى
للتجارة في مدينة مليلية، فقد وجد الإسپانيون أنفسهم مجبرين على طرد
ضيوفهم، رجال السلطان.
وتم إغلاق الجمرك المغربي. وتم نقل عمال الجمرك،
والقايد، والجنود، والدواب المركوبة، والأسلحة والأمتعة على ظهر سفينة
«سيِّد التركي»وسفينة بخارية فرنسية أخرى، باتجاه مدينة طنجة. وكانت تلك
نهاية محتومة لهيمنة مولاي عبد العزيز على مدينة مليلية.
27-07-2012
في اليوم الموالي خرجنا متوجهين إلى كاپ جوبي..
وكاپ
جوبي، الذي يسميه المغاربة بطرفاية، هي آخر نقطة إلى الجنوب من المغرب،
إنها موقع صحراوي، تلتقي فيه الصحراء مع البحر. ويقع رصيف الميناء أمام
الساحل، إلى الناحية الجنوبية الشرقية، ولقد نشأ عن ذلك، بين الرصيف
والقارة، خليج من مياه هادئة، لكن شديدة الضحالة.
واتفق، قبل بضعة أعوام، أن وقع اختيار شركة إنجليزية على هذا المكان لتنشئ فيه مركزاً تجارياً.
وأخذت
تجذب إليها، شيئاً فشيئاً، التجارةَ المتجهة من سوس إلى مدينة الصويرة،
وحيث إن جبال سوس الضاربة في الجنوب لا تكاد تبعد بغير 30 متراً عن مدينة
طرفاية، لكنها تبعد، على العكس، بأزيد من300 كيلومتر إلى الشمال، فقد كان
للمخطَّط الإنجليزي مؤهلات للنجاح، ولقد شرعت الشركة في إنشاء منزل منيع في
أقصى الجنوب الشرقي من الريف، على هيأة حصن، كما أنشأت، قبالته، على
الشاطئ، بناية جميلة.
ولقد تم البناء على نحو متين، ولا يزال البناءان
قائمين إلى يومنا هذا، غير أن الموقف العدائي للقبائل الصحراوية من هذه
المقاولة الجديدة، أحال كل تجارة تقوم بها أمراً مستحيلاً.
وقد يكون الإنجليز اغتبطوا عندما لوَّح السلطان بسيادته على الأرض التي احتلُّوها، واشترى منهم ملكهم بمبلغ لا يُستهان به.
ولقد
رحل الإنجليز عن المنطقة، وجعل السلطان عليها حامية صغيرة لا يتعدى عدد
رجالها الأربعين، كان كل شأنهم أن يرابطوا عن الحدود المغربية من ناحية
الجنوب.
وكان يتم استبدالهم على رأس كل عامين، إذْ لم يكن في مقدور حتى الإنسان المغربي أن يتحمَّل البقاء طويلاً في هذه المنطقة.
فلا
يمكن تصور وجود منطقة أكثر من هذه بؤساً وإيحاشاً؛ فليس يكتنفها غير
الرمل، والرمل ثم الرمل! وإنه ليعسر علينا أن نفهم أين تجد بعض الخراف
البائسة التي يمتلكها الأهالي والعدد اللا يُحصى من الغزلان غذاءَها في هذا
القفر.
ولم يكن يظهر في هذا المجال الرتيب غير المنزلين اللذين أنشأها
الإنجليز، لكن على الرغم من هذا الفراغ، كان الناس يعيشون في هذا الطرف من
الصحراء، ولا يخطر ببالهم أن يتركوه!
كان يتعيَّن جلب جميع المواد
الغذائية للحامية، بما فيها الماء وخشب التدفئة، ولذلك يكون وصول سفينتنا
دائماً، عيداً صغيراً للحامية. فبالإضافة إلى المواد الغذائية الطرية، كنا
نحمل إليهم رسائل الأهل وأخبار البلاد، وكان الجنود المغاربة يسكنون على
الطريقة العربية، فلا وجود في مساكنهم لأي أثر للنظافة التي كانت تطبع هذه
المساكن على عهد الإنجليز. ولم يعد البيتان يحتفظان بلونها الأصفر البراق
في غير النواحي منهما التي يطالها رذاذ البحر، أو النواحي التي لا تطولها
أيدي البشر.
ومن النوافذ الست لأحد هذين المنزلين تتراءى آثار سوداء مصدرها ما يُلقى من الفتحات من الأزبال والقاذورات.
وقد أُلْقيت كما اتفق، في ساحة مفتوحة تمتد إلى داخل الأراضي، خليط من القطع الخشبية، والأكياس الفارغة، وكل شيء.
وكان تقوم هنا، رافعتان لتفريغ حمولات السفن، وقد كانتا من البلى بحيث كنت أخشى على الدوام، أن تنهارا تحت ثقل الحمولة فوقها.
فكان لسان حالهم :»لن يحدث ذلك إلا بمشيئة الله!»، ويستمرون في العمل بهما كما اتفق.
ولم
يكن الداخل بأفضل من الخارج، فقد كانت حواجز من الخشب تقسِّم قاعات جميلة
وكبيرة إلى حجرات صغيرة، كان يسكنها بعض الرجال رفقة بعض الإماء الزنجيات،
أو أزواجهم الشرعيات.
وقد كانت القذارة نفسها، والفوضى نفسها تعم
المكان، وقد بلغ بالناس استخفافهم بالنظافة، أنهم كانوا لا يتورعون عن غسل
أقدامهم في الخزان الذي منه يؤخذ الماء بالبراميل!
وكان البيت نفسه في الحالة نفسها من التردي.
وكانت
الريح والرمل قد مسحا الأسوار القديمة المحيطة بالفناء، والبالغ علوها
خمسة أمتار، حتى لم يعد يُرى منه في بعض الأنحاء غير الزاوية العلوية، وبات
بإمكان المرء أن يتخطاه بخطوة واحدة.
وإلى جوار هاتين البنايتين كان الكثير من أبناء الصحراء يعيشون تحت الخيام.
وكانوا يكاد أن يكون كل عيشهم على العمل لفائدة الحامية.
وقد كان لهم بعض المومسات الكريهات، في حوالي الستين من عمرهن.
وكان
لباس الرجال والنساء أزرقَ غامقاً، بحيث يبدو الجسد كله في لون أزرق، وحيث
إنهم لم يكونوا يغتسلون أبداً، فإن ذلك قد يحمل على الاعتقاد أن لون جلدهم
أزرق، وحتى وجوههم كانت زرقاء، لأنهم يحيطون جباههم وأفواههم، في العادة،
بطرف من ثيابهم.
كان جنود السلطان على الأقل، هم الذين يلمس أجسادَهم
الماء والصابون من حين إلى حين. ولقد أدركت فضل الرسول على أتباعه عندما
أمر بالوضوء قبل كل صلاة، إذ لو لم يكن هؤلاء الجنود مجبرين، من الناحية
الأخلاقية، على الاغتسال عندما يقومون إلى الصلاة، لكانوا قد تلفوا من
الأوساخ والأدران.
ولقد سمحت لي الحكومة المغربية، منذ أن بدأت في مزاولة نشاطي، بأن ترافقني زوجتي في أسفاري.
ولقد
نزلت وإياها مدينة طرفاية، فكانت مثار فضول السكان الصحراويين. فقد كانت
تلك أول مرة يرى فيها معظمهم امرأة مسيحية، وفضلاً عن ذلك امرأة طويلة
القامة، ألمانية وشقراء. ولقد اندهشوا أيما اندهاش لشعرها الأشقر، والورود
في قماش قبعتها.
ولقد اقتعدنا الرمل، فتحلقوا من حولنا في نصف دائرة،
فكانوا يمدون أيديهم فيلمسون شعر زوجتي البراق، ليتأكدوا من أنه شعر حقيقي،
كما كانوا يتشممون الورود على القبعة، التي يبدو أنها سلبتهم ألبابهم.
كما أثار استغرابهم ما كنا نحمل في أصابعنا من الخواتم الذهبية.
غير
أن فضولهم لم يكن يضايقنا، وإنما كان بالأحرى، فضولاً خجولاً، ينم عن خوف
شديد، فكانوا ينسحبون بسرعة، عندما يلاحظون أنهم أصبحوا لحوحين مزعجين.
وبعد
أن فرغنا من تحميل السفينة، وعدنا أدراجنا إلى مدينة الصويرة، كان بين
المسافرين بعض العبيد الذين كان لا يزال يجري فيهم البيع والشراء في مدينة
طرفاية! وقد كان معظمهم من الشباب السود، استُقدِموا من بلاد السودان.
ظل
السلطان، حتى بداية 1903، عاجزاً، برغم الجهود اليائسة، عن القضاء على
تمرُّد بوحمارة. وإن كان الروغي، كذلك، لم يحقق، هو الآخر كبيرَ تقدم. وكان
الصراع بين الطرفيْن يبدو كأنه حرب على الطريقة المغربية : فقد كان أحد
الطرفين يحاول أن يضر أكبر ما في الإمكان بالطرف الآخر، بأن يحرق وينهب له،
من دون أن يجرؤ على أن يوجِّه إليه ضربة حاسمة. وكانت القبائل تساند، في
معظم الأحيان، من يبدو لها هو الأقوى. وقد كان يتفق أن تنقلب قبائل عن بكرة
أبيها، إلى جانب الطرف الخصم، متى بدا لها أن النصر يميل إلى جانبه.
وفي الأخير توجه بوحمارة إلى تاسة، في نواحي مليلية، لمحاولة إخضاع المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد.
وقد كانت ترابط في فرخانة وفي وجدة الكثير من المحلات المتجنِّدة للدفاع عن السلطان، مما حتَّم عليه أن يمدها بالعون.
ثم بدأت عمليات نقل الجنود باتجاه المناطق المهدَّدة. فقد نزل مولاي عرفة، عم السلطان، إلى فاس في 200 جندي و10 مطايا.
ولقد ركب سفينة «الرتركي» إلى مدينة مليلية في 7 فبراير.
وكانت
رحلة مضطربة شديدة الاضطراب، بفعل العواصف. وكان الأمير ابن عرفة رجلاً
عجوزاً قد تجاوز الستين، ضعيف الجسم. ولذلك عانى كثيراً من دوار البحر.
وبقي
الجو على حاله، لم يتحسن، مما اضطرنا إلى التوقف بصورة مؤقتة في ساحل رأس
ثلث مداري، في جويْن، تُعْرف عند الأهالي باسم «مرسى البراق».
وقد كان هذا الرأس، يومئذ، بيدي السلطان، ولذلك رغِب الأمير في النزول فيه، والتوجه منه، بطريق البر، إلى قصبة فرخانة.
ولقد
نزل الرجل العجوز ورجاله هنا، وبعد بضعة أيام، تحسنت حالة الجو، وبذلك
أمكننا أن نواصل طريقنا باتجاه مدينة ملوية، فلما بلغتها، سرت والترجمان
بومغيث، براً لزيارة عامل قصبة فرخانة، ولأعرف، في نفس الوقت، إلى أين آلت
الحرب. ولقد ركبنا عربة إلى هناك، واستغرقت ذلك منا نصف ساعة، حتى الحدود
الإسپانية. ومن هناك سرنا مدة عشر دقائق راجلين، فلم يكن مسموحاً للعرَبات
باجتياز الحدود، والدخول إلى التراب المغربي.
وتوجد قصبة فرخانة إلى
الجنوب الغربي من مدينة مليلية، في واد صغير، تحيطها جبال شاهقة. ولقد
شيِّدت قصبة فرخانة على نمط تشييد قصبة السعيدية، والقصبة الأولى كالقصبة
الثانية، لايكنها أن تصمد طويلاًَ لحرب عصرية.
كان القايد البشير
يستعد لتناول الفطور، حين أخبِر بوصولنا ، فدعانا من فوره إلى مشاركته
ظعامه. وقد كان يتلف من ستة أنواع من الفطائر المقلية في الزيت.
والقايد
البشير من القادة الأكبر سناً والأشد نشاطاً في جيش السلطان، إنه رجل طويل
ومهيب، شديد نصوع البشرة بالنسبة لعربي، لأسارير حادة، ولحية كبيرة سوداء
ضاربة عند الصدغين إلى الرمادي.
وقد كانت له رؤية إلى الوضع شديدة
التفاؤل، لأن القبائل التي في المنطقة الساحلية بين مليلية والحدود، كانت
تبدو، إلى ذلك الحين، لا تزال تابعة للسلطان، وكان الروغي لا يزال بعيداً.
وكان يتوقع الكثير من مولاي عرفة، الذي كان قد وصل بالفعل، عبر الطريق ،
وتخلص من العناء الذي وجده في رحلته البحرية.
فلما ودعته، دس في يدي
علبة صغيرة، قائلاً إنها هدية من الأمير لأجل الرحلة. وتملكني الفضول
لمعرفة ما تحتويه، ففتحتها، ووجدت بها 50 بسيطة عربية في شكل قطع نقدية،
كان خمسها مزيفاً، فدقعت بالهدية الأميرية إلى الترجمان، ورضيت بأن أأكون،
بذلك، قد أدخلت السرور على شخص ما.
وعند عودتنا إلى مدينة طنجة، وجدنا
ثاني أعمام السلطان، مولاي الأمراني، وقد اصطحب معه حريمه. واستقل السفينة
في 14 فبراير رفقتهن وحوالي 200 من الجنود. ولقد جملناهم، كذلك، إلى مدينة
مليلية.
لم يبد على الإسپان أي رغبة في السماح للجنود المغاربة باجتياز
أراضيهم بأسلحتهم وذخيرتهم. فلزِم أن ننزل كل شيء في الساحل المغربي، على
بعد ألفي ميل بحري جنوبي مليلية، وذلك ما كان، من غير عراقيل وفي طقس جميل.
تلقينا
الأمر بمواصلة طريقنا مباشرة، باتجاه عجرود، وبالتوجه إلى قصبة السعيدية
لنحمل من هناك 100 بندقية. إنها بنادق من نوعية «شاسپو»، فئة 1873، ومعها 6
صناديق من الذخيرة. وقد كانت 300 من تلك البنادق في حالة من الصدإ،
يستحيل معها استعمالها. ولقد سعيْنا لحصول على ترخيص بنقل تلك الحمولة عبر
التراب الإسپاني، إذ لم يكن إنزالها على الساحل بالأمر السائغ، بحكم
كثرتها. غير أننا لقينا، من جديد، مصاعبَ جمة من الإسپانين، ولم نجد بداً
من المكوث عند الساحل المغربي.
وبعد تلك الرحلة لبثنا متبطلين مؤقتاً، ولقد بقينا على تلك الحال طيلة شهر مارس، في مدينة طنجة.
وأثناء
ذلك توجه مولاي عرفة من قصبة فرخانة إلى مدينة وجدة. وقد كان بوحمارة
يتقدم في بطء، لكن بانتظام، باتجاه الساحل الشمالي الشرقي. وكانت شعبيته
لاتني في ازدياد.
ولقد أرغم مولاي عرفة على التنازل عن مدينة وجدة، في
أواخر شهر مارس، والفرار إلى مناطق الاحتلال الفرنسي. وبعدئذ عاد إلى قصبة
فرخانة. ولما أصبحت ساءت عليه الأوضاع، توجه إلى مدينة مليلية.
ولقد
أخذت القبائل المحيطة بمليلية في الانضمام شيئا فشيئاً إلى بوحمارة، وأصبحت
تهدد جدياً قصبةَ فرخانة، بحيث اضطر القايد البشير إلى طلب النجدة، ومن
سوء الحظ أن نداءاته ظلت بلا مجيب، فلم يُرسَل بسفينة سيد التركي إلى
مليلية إلا في 3 أبريل، ولم تكن تحمل التعزيزات المطلوبة، بل كان كل ما
حملتْ مدفعين لحماية القصبة، وفي نفس اليوم، أرسل بوحمارة أحد خلفائه إلى
عامل مليلية، يطالبه بالاعتراف به، هو الروغي، سلطاناً، وبطرد موظفي مولاي
عبد العزيز من مدينة مليلية ومن فرخانة. وبطبيعة الحال، فلم يكن للعامل أن
يستجيب إلى هذا الطلب، فكان رده على مبعوثي بوحمارة أنه إلى ذلك الحين
لايزال الإسپانيون يعترفون بمولاي عبد العزيز سلطاناً للمغرب، وأنه ينبغي
احترام موظَّفيه. ورغم أننا نستشف من جواب الإسپان هذا، أنهم لا يزالون
منحازين إلى جانب مولاي عبد العزيز، فإن السلطات الإسپانية لم ترخِّص لنا
بإنزال ذيْنك المدفعين. وكان الشأن نفسه حتى من السلطات في التراب المغربي،
إذ خشيَتْ أن يتم الاستيلاء على المدفعيْن، فور إنزالهما، من القبائل
المناصِرة لبوحمارة ولذلك بقي المدفعان جاثمين على ظهر السفينة.
صارت الوضعية في فرخانة تزداد مع الوقت إقلاقاً، وأصبحت الطريق من مليلية إلى فاس، حينئذ، محفوفة بالمخاطر.
وقد كان الجنود المائة يكفون بالكاد لتأمين الدفاع. وما عاد جنود الروغي يبعدون بغير بضع ساعات من فرخانة.
ولقد
أعطى الروغي أمره بمهاجمة المدينة. وكان المتمردون يستعملون مدافع قديمة،
لايزال بعضها معبئاً بالحجارة. ولقد أمكنهم، بالتدريج، أن يُحدِثوا بها
خرقاً في أسوار المدينة.
وفي 14 أبريل تمكن المتمردون من تفجير ركن من
القصبة، بحيث لم يعد في وسع الحامية السلطانية إلا أن تنسحب إلى مدنية
مليلية، وتترك فرخانة للأعداء ولم يقدر الجنود على حمل غير أسلحتهم، ووقع
كل متاعهم وأغراضهم بين أيدي المتمردين.
ومباشرة بعد سقوط القصبة، تم
إرسالنا إلى مليلية لنزودها بالخيام ليأوي إليها الجنود. لكن ذلك المجهود
من الحكومة المغربية كان من غير طائل، لأن الإسپان كانوا قد سبقوها إلى مد
الجنود المغاربة بما يتسع لهم من الخيام العسكرية.
وقد كان للقايد
البشير ومولاي الأمراني مكان مشترك يستقبلان فيه من يزورهما في المدينة.
وعندما قمت بزيارتهما، وجدت القايد قد أخذ منه الضنى كل مأخذ، فلقد نالته
الأحداث في مقتل.
ولقد كرَّر بوحمارة، حينئذ، طلبه بطرد كل من ينتمي إلى
السلطان من المدينة. وهدَّد، في حالة ما أذا لم تتم الاستجابة إلى طلبه،
بأن يمنع عن الإسپانيين جميع المؤن التي تأتي إليهم من المغرب، وبأن يوقف
تجارة مليلة كلها. وحيث إنه كان قد أصبح حينئذ، متحكماً في خلفية البلاد،
وحيث إنه لم يعد في الإمكان الحيلولة بينه وبين تنفيذ ما يهدِّد يه، مما
كان سيؤدى إلى ارتفاع مهول في أسعار المواد الغذائية ويتسبب في خسارات كبرى
للتجارة في مدينة مليلية، فقد وجد الإسپانيون أنفسهم مجبرين على طرد
ضيوفهم، رجال السلطان.
وتم إغلاق الجمرك المغربي. وتم نقل عمال الجمرك،
والقايد، والجنود، والدواب المركوبة، والأسلحة والأمتعة على ظهر سفينة
«سيِّد التركي»وسفينة بخارية فرنسية أخرى، باتجاه مدينة طنجة. وكانت تلك
نهاية محتومة لهيمنة مولاي عبد العزيز على مدينة مليلية.
27-07-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 6 -
لم
يقتصر الأمر في تلك الفترة على تمرد بوحمارة، وما كان يخلق من مصاعب
للمخزن، بل انضاف إليه تمرد الريسوني، الذي ظهر، هو الآخر، في صورة مثيرة
للقلق.
وتلك من خاصيات الضعف الذي كانت تعاني منه الحكومة المغربية، في
عجزها عن نشر الهدوء والأمن في الشمال الشرقي من المملكة، على مقربة من
مدينة طنجة.
والمدعو (الريسوني) أو الريسولي الذي أصبح ذائع الصيت، رجل كأنما خُلِق للصوصية وقطع الطرق.
وقد
كان سبق له في سنوات تسعينيات القرن التاسع عشر أن عاش الحياة الحرة
للمهرِّب في الشمال الشرقي من المغرب، إلى أن أمكن لعامل مدينة طنجة النشيط
عبد الرحمان ولد الصدوق، أن يلقي القبض عليه، ويرسله إلى سجن مدينة
الصويرة.
ولم يكن في الإمكان قتله بسبب ما اقترف من الجرائم، بحكم انحداره من أسرة جليلة القدر، كان الأهالي يعتبرونها فوق العقاب.
ولقد
مكث الريسوني في السجن مدة سنتين تقريباً، ثم أُخليَ سبيله، ولقد كان ذلك
خطأً جسيماً. فلقد تدخَّل العجوز الطريس، الذي ينحدر، هو نفسه، من نفس بلاد
الريسوني، تطوان، لدى السلطان لصالحه، وهو خطأ سيندم عنه الطريس بعدئذ،
شديد الندم.
استقل الريسولي في عام 1901 سفينة «التركي» متوجهاً من مدينة الصويرة إلى مدينة طنجة.
ولقد
مكث يومين كاملين رفقتي، ولم يترك لديَّ الانطباع، يومئذ، بأنه رئيس
لقطَّاع الطرق، فلقد كان ذا وجه صبوح، وكان يُعرف بالاستقامة، ذا سحنة
صافية، وشعر رأسه ولحيته بالغ السواد. وكان ذا هيأة طويلة ونحيلة، وقد كان
البحارة يعتبرونه شريفاً من الشرفاء، فكانوا يخشونه أيما خشية، ولو لم يكن
بعضهم قد حدثني عن الإنجازات الإجرامية لهذا اللص، لما كان ليخطر ببالي
أنني كنت إزاء رجل من هذه الطينة.
فلما بلغنا مدينة طنجة، توجه الريسوني إلى الجبال، ولم يكد يمضي وقت يسير حتى أصبح اسمه على كل لسان.
فقد
كانت عصابته في تنام وازدياد، وكانت نجاحاته تزيده جرأة فوق جرأة، حتى لقد
انتهى الأمر بجميع قبائل مثلث طنجة - تطوان - العرائش تقريباً، إلى
الانضمام إلى صفوفه، مما استحالت معه طرق القوافل كلها إلى مسارات خطِرة،
ينعدم فيها الأمن.
وفي الأيام الأخيرة من شهر أبريل من عام 1903، قام
الريسوني بمحاصرة مدينة أرْصيلا، وهي مدينة صغيرة تقوم وسطاً بين رأس
سپارطيل والعرائش.
ولقد أثار هناك من الذعر حداً بلغ إلى إرسال سفينة شراعية صغيرة إلى مدينة طنجة لطلب العون والنجدة.
ولقد كان اليهود أكثر المستهدَفين في مدينة أصيلة بتعديات الريسوني.
ولقد أرسلوا يتوسلون إلى أبناء جلدتهم من الطنجيين يلتمسون منهـم التعجيل بإرسال المساعدة.
بيد أن السلطات المغربية بقيت جامدة، لم تحرك ساكناً، ووحدها ضغوط اليهود مكنت من التسريع بالأمور.
وكان العائق الأول أن الجنود الموجهين لتحرير مدينة أصيلة رفضوا أن يبدأوا في المسير إلا أن يقبضوا مؤخرات رواتبهم.
ولقد أعطاهم اليهود تقدمات من تلك المؤخرات. ومن سوء الحظ أن ساءت أحوال المناخ، مما حال دون تحرير المدينة المهددة من طريق البحر.
لم
يتسن لنا أن ننطلق إلى مدينة أصيلة إلا في 2 ماي، محملين من المؤن والعتاد
الحربي، وفي نفس الوقت وصلـت الجـيوش مـن طريق البر. وفي حوالي الزوال
اقتربوا من المدينة، فكنا نستدل على تقدمهم من الدخان الذي كان يعلو من
القرى التي كانوا ينهبونهـا في طـريقهـم، ويحولونها إلى رماد.
وسرعان ما
رأيناهـم يخـترقون السـهول، ويقتحـمون المدينة، ولقـد ذهلـت مديـنة أصيـلة
لذلك، وبرغم كل جـهودي، فإنني لم أر أثراً للعدو، فمن المحتمل أن يكون فر
قبل وصولِنا ووصول الجنود.
في تلك الأثناء وصلتنا أصداء مقلِقة من مدينة
تطوان، فقد أصبحت المدينة واقعة تحت تهديدات الريسوني، ورفاقه من أنجرة
وبن إيدر، ولقد سبق لي أن قلت إن مدينة تطوان هي مسقط رأس الوزير الطريس،
ولذلك فقد خُصَّت بمساعدات سخية في تلك الأوقات العصيبة.
ولقد سلمنا
الحبوب والأموال والذخيرة في 10 ماي، إلى الجنود المرابطين في المدينة،
فكان الرجال يخرجون من القوارب الصغيرة مسلحين تسليحاً قوياً، مما يوحي
بخطورة الوضع في المدينة.
ولقد تعزز لدي هذا الانطباع بمجيء مولاي عرفة
من نمور إلى تطوان لمساعدة حامية المدينة بجنوده، ثم لم يلبث أن اندس في
السفينة، للالتجاء إلى مدينة طنجة.
ولقد بداً عليلاً، قد اشتد عليه المرض، وانسحب متعللاً بأسباب صحية، ثم كانت وفاته بعد ذلك بقليل.
وفي
طريق مغادرتنا إلى مدينة طنجة، إذ رأينا تصاعد الدخان من نواحي المدينة،
وسمعنا طلقات رصاص متفرقة. ويبدو أن المتمردين بدأوا هجومهم على المدينة.
ولقد حملنا من طنجة، في اليوم الموالي، حوالي 200 من الرجال للاستبدال.
ولقد حكوا لنا عن معركة وحشية، تم فيها القضاء على المتمردين بعد أن دمروا كل شيء في المدينة، وأتلفوا البساتين الجميلة حول المدينة.
وقد
كان هذا القول، كذلك، من المبالغات التي انشرت كبير الانتشار في المغرب.
والحال أنني أمكنني فور ذلك، أن أقف على الواقع بنفسي، فكانت المناطق
الخضراء لا تزال على تألقها، إلا من أشجار البرتقال التي تعرضت للإحراق.
تواصلت إمداداتنا لمدينة تطوان، وكانت تلك الإمدادات تتكون، في معظمها، من العتاد الحربي، والأموال، والذخيرة والمؤن.
كما كنا نحمل إلى المدينة، في كل رحلة تقريباً، ما بين 100 و200 من الرجال ودوابهم.
ولقد
أوكِلتْ قيادة الجنود إلى القايد البشير، الذي تم طرده من فرخانة، وإلى
رفيقه السابق في النكبة مولاي الأمراني. ولقد أمكن بوصولهما، في منتصف شهر
ماي، أن يستتب الهدوء والأمن داخل المدينة وفي نواحيها القريبة.
وعلى
الرغم من أن تطوان معدودة بين مراسي المغرب، فهي لا تقوم على البحر مباشرة،
بل تبعد عنه بحوالي 10 كيلومترات ومرسى مارتيل، الذي تمر من خلاله التجارة
البحرية، يقع على بعد 30 كيلومتراً إلى الجنوب من المستعمرة الإسپانية
سبتة وتجارة السفن مع البر تجرى هنا على نحو ما هي في سائر المدن الساحلية
المغربية، بواسطة القوارب التي تعود إلى الحكومة، والتي يمكنها الإبحار في
مصب الوادي.
المنطقة التي بين تطوان ومارتيل أرض منبسطة تماماً، وفي
خلفيتها تنتصب الجبال مشكلة ما يشبه نصف دائرة، وعندد سفوحها يمتد سهل شديد
الخصوبة، لكن لا يعرف نشاطاً فلاحياً ذا بال، بسبب إهمال السكان.
ومدينة
تطوان، التي تُرى أسوارها البيضاء واضحة للعيان من الشاطئ، هي من أجمل
الأماكن في المغرب. والمدينة تقوم فوق ربوة هينة السفوح، تقوم في سفوحها
بساتين خصبة ممرعة، تتخللها بيوت صغيرة بيضاء وتحف بها من جوانب ثلاثة جبال
عالية تصعد في البداية بهدوء، وتنتهي في الأعلى بجرُف وعرة وقرعاء.
وكثيراً
ما سنحت لي الفرصة لزيارة هذه المدينة، فكنت أغتنمها اغتناماً سعد بها
كثيراً. ويكون رفيقي دائماً الترجمان الحاج محمد بومغيث، فكنا نركب جوادين
ضامرين عجوزين، يبدو أنهما لا يعرفان غير السير، فنمضي ساعات غير قليلة
نقطع خلالها مسافة 10 كيلومترات، للوصول إلى تطوان.
وفي كل مرة أزور المدينة، تأخذ بجماع نفسي.
فما
اقتربت منها إلا ازدادت جمالاً في ناظري. على جانبي الطريق تمتد بساتين من
ورود بيوت صغيرة، إلى أن نبلغ باب المدينة، ثم ندخلها. ونسير نسلك دروباً
ضيقة، إلى أن نأتي إلى السوق، وهو ساحة فسيحة تقوم وسط المدينة. وهناك نعيد
دوابنا إلى أصحابها، لكي تقوى على حملنا حين الرجوع، وثم أمر يستثيرني
كلما نزلت بهذه المدينة، فهي وإن تكن غنية، وبين ساكنتها موظفون سامون لدى
السلطان، إلا أنها توجد في حال سيئة حقاً، فطرقاتها تفتقر إلى النظافة، وهي
ضيقة تعمها الفوضى، وقليلة جداً، وبينها السيئة التبليط.
البيوت
متنافرة الأشكال، من غير أن تصبغ بالجير. بل إنك لترى القصور المغربية
الأكثر تميزاً، تلك القصور التي تذكرنا، من وجوه عدة، بقصر الحـمراء في
غرناطة، بهيئتها الموريسكية الغنية، تلوح، في مظهرها الخارجي، قبيحة وسخة
ويمثل الحي، الملاح اليهودي استثناء صارخاً.
لكن لا ينبغي أن يذهب بنا
الظن إلى أن اليهود لا يمكنهم أن يسكنوا في غير الملاح، فإن لهم، ههنا، كما
في سائر المدن الساحلية، في ما خلا الرباط وسلا، أن يشتروا ويبتنوا لهم
مساكن حيثما شاءوا من المدينة، وفي خارج القصبة.
وفي المدينة حي صناعي خاص، قد جعِل للصناعة البيتية بطبيعة الحال.
وقد
جعِل لكل حرفة زقاقها الخاص بها، فمن الأزقة ما هو مخصص لصناعة البلغ
وحدها، ومنها المقتصر بها على صناعة الجلد، تليها المخصصة للدباغة،
والحدادة، وصناعة البنادق، وسواها.
ويؤوي كل صانع إلى دكان صغير، ذي باب
وحيدة تطل على الزقاق، مفتوحة على الدوام. ومن هناك يمكننا رؤيتهم وهم
يعملون. ومعظم هذه الأزقة مغطى بأشجار العنب، لتقيها أشعة الشمس، فهذا مما
يشعر المتجول فيها بالمتعة والنداوة ومن عجيب أن هذا الحي، وما يعج به من
حرف، يكون، هادئاً، فيجتذبني إليه اجتذاباً.
ولا ينبغي أن تفوتنا
الإشارة، كذلك، إلى القصبة، التي، كشأنها في سائر المدن المغربية المشيدة
فوق هضاب، تقوم شامخة تعلو على ما سواها. وإن كثيراً من تلك الحوائط
البيضاء المتينة يلوح للمرء من أسفل، منذراً متوعداً، بيد أنه إنذار ليس له
من أساس، فليس للقصبة من دور عسكري. وعدا ذلك، فالحوائط ليست بالمتينة
جداً، في ما عدا بعض المدافع البالية قد نصبت إلى بعض الكوى، والتي أصبح
معظمها غير قابل للاستعمال، ولو أريدَ تعبئة لقم تلك المدافع، فإن مخاطرها
على الرماة ستكون أكثر منها على العدو.
وقد كنت في كل زيارة لي إلى هذه
الناحية، أذهب لزيارة القايد البشير ومولاي الأمراني، إن كلاً منهما يسكن
بيتاً من أجمل البيوت، وقد كنت أتبادل والقايد البشير الحديث في شأن الوضع
السياسي، فكانت تصدر عنه بعض الأحكام التي أستنتج منها عدم رضاه عن السلطان
ومستشاريه. في منتصف شهر ماي من عام 1903، تناهى إلى علمنا أن مراسل صحيفة
«التايمز»، هاريس، قد تعرض للاختطاف من لدن الريسولي، وأن هذا الأخير أطلق
سراحه، مقابل الإفراج عن جميع أتباعه.
وكان الناس يتهامسون أنهم شاهدوا هاريس والريسوني متدثِّرين بغطاء.
وقد
كان البشير يأسف لهذا الحادث لما يخشى من أن يُغري المتمردين باختطاف
المسيحيين، لتحرير رفاقهم السجناء، وهذا مما سيمدُّ من عمر التمرد. كما كان
يشغله أن المتمردين كانوا أفضل تسليحاً من جنود السلطان، ذلك أنه تم القبض
على أحد الرجال من قبيلة أنجرة فوجِدتْ معه بندقية عصرية، من قبيل ما
يستعمله المشاة الألمانيون، من نوعية 88، وقد أراني إياها القايد.
وأما جنود السلطان فلم يكونوا يملكون غير بنادق قديمة من نوعية شاسپو تعود إلى سنة 1873، كان معظمها في حالة سيئة.
وعلمت بهذه المناسبة، أن البنادق العصرية التي كان يستعملها المتمردون كانت تمر إليهم بطريق التهريب من الإسپان.
يقدر
عدد الجنود الذين قمنا بحملهم، في مجموعات كبيرة نسبياً، من طنجة إلى
تطوان، بما بين 12000 و 15000 رجل، ولولا أنهم صعدوا إلى السفينة بصفة
الجنود، لكان من الصعب علينا أن نعرف أنهم كذلك، فلم يكن لهم «زي» يميزهم،
غير الطربوش الأحمر المدبب المعتاد لدى الجنود المغاربة.
وفيما عدا ذلك،
كانوا يلبسون حسبما يشتهون، أو حسبما تسعفهم إمكانياتهم، ولم نصادف غير
مجموعة واحدة ارتقت السفينة في أزياء حقيقية. فقد كان أفرادها يرتدون بذلاً
حمراء، غير ملائمة، ذات ثنيات صفراء وأزرار مذهبة، وسراوييل زرقاء واسعة
تنتهي عند ركبهم.
وكان هؤلاء الرجال، كسائر الجنود المغاربة، يجعلون على الدوام، فوق ثيابهم جلباباً بيضاء حائلة، فلا ترى أزياؤهم.
ولا نميز لدى هؤلاء الجنود من قادة، فكأن الرؤساء ليس لهم من سلطان عليهم، إذ كان يقع على بحارتي حفظ النظام على متن السفينة.
فكنا
كلما ركبوا وإيانا نجردهم من أسلحتهم، ونجعلها في صناديق خاصة أو في
الرزم. وكانوا سرعان ما يتخذون أماكنهم على ظهر السفينة. فندرك على الفور
أننا بإزاء شعب رحال، حيثما جُعل شعر كأنه في بيته.
وكانوا إذ هم على السطح، يتجمعون في مجموعات صغيرة بين الصناديق والرزم، المكومة، بجوار جيادهم.
وكانوا يمدون حصراً يتمددون عليها، أو يجلسون متربعين، ثم يأخذون في تسخين الماء لإعداد الشاي على مجامير صغيرة يحملونها وإياهم.
فقد كان الشاي والزيتون والخبز تكاد تكون هي طعامهم الوحيد طوال الرحلة.
والذين على الجسر يتقون الشمس والمطر بأن يجعلوا عليهم ثياباً بالية، أو خياماً وأقمشة، يصير بها الجسر أشبه ما يكون بمخيم.
كان الرؤساء يطالبون بأماكن جيدة، فنهيئها لهم على السطح الخلفي.
وقد أسمح، أحياناً، لبعض الموظفين الكبار بالجلوس في مقصورتي.
وأما من سواهم فيكون عليهم أن يبحثوا عن مكان فوق الجسر.
وكذلك كان الرؤساء سريعاً ما يتخذوا هناك أماكنهم، فيجعلون من يخدمهم من الرجال، غير عابئين بشيء.
فلم
يكن يتميزهم شيءٌ عن رجالهم، إلا سنهم المتقدمة وجلابة أكثر نظافة، وكذا
بخناجير صغيرة معقوفة في أغماد من فضة، يعلقونها إلى أعناقهم بخيوط طويلة
من الحرير.
كان أولئك المقاتلون رجالاً من شتى الأعمار، أصغرهم لا
يكادون يبلغون الرابعة عشرة، وأكبرهم في الخمسين، ومن شتى ألوان البشرة.
ويبدو أن المسؤولين لم يولوا وقت تجنيدهم من اهتمام إلى القوة الجسمانية،
لأن كثيرين بينهم كانوا في حالة مزرية.
ومع أن الجنود لم يكن لهم أي علم
بالنظام، فلم يكن من الصعب اقتيادهم، وقليلاً ما كانت تحدث مشاجرات لرفضهم
الإذعان لقانون السفينة، وقد كانوا في عمومهم قذرين جداً، وكانوا مبتلين
بالهوام، فكنت كثيراً ما أرى رجلاً قد انزوى في ركن، وجعل يفلي القمل، أو
أرى أحدهم قد جعل رأسه بين ركبتي صاحبه، ليفيله له.
وكان يُدفع إلينا في
بعض الأحيان، إذ نحن في تطوان أو طنجة، بسجناء الحرب. فيكونون مكبلين
بحلقة حدديدية تُثبت في العراقيب وبين القدمين يُجعل قضيب حديدي بطول حوالي
30 ستنتمترا. فبذلك لا يكون وسع أولئك التعساء أن يقوموا بغير خطوات
دائرية صغيرة، وبين أولئك السحناء الذين يُقال لنا، دائماً، إنهم متمردون،
كنا نرى تعساء مساكين، فكنت أشك في أن الرؤساء إنما يقبضون على رجال
مسالمين تماماً لمجرد التباهي أمام السلطة، ولكي يثبتوا حماستهم للسلطان.
وعموماً، فإن أولئك المساكين يكونون ملفوفين في جلابيب، بعد أن يكون الجنود
المرافقون لهم قد جرّدوهم من كل ثياب، وما معهم من متاع.
اضطُرَّت هذه
الاضطرابات أعداداً كبيرة من التطوانيين إلى مغادرة المدينة، وكانت سفينتنا
تكاد تمتلئ في كل رحلة من هؤلاء اللاجئين، فقد كانت السلطات تأذن لهم
باستعمال هذه السفينة، ومن عجيب أن أعداد المهاجرين منهم للمدينة لم تتناقص
حتى عندما أخذت الأوضاع بها في التحسن، وإنما على العكس من ذلك، فقد
تزايدت أعداد الفارين من المدينة للنجاة بأنفسهم.
وكانوا، فضلاً عن ذلك،
يحملون معهم أهم أغراضهم، وقد أكثرهم يحملون معهم على ظهر السفينة صناديق
يزعمو أنها تخص الطريس أو أسرته، ويطلبون منا الاعتناء بها. وسرعان ما
تبيَّنت أن أولئك المسافرين لم يكونوا باللاجئين، وإنما هم مجرد تجار
يستعماون سفينة «التركي» وسيلة للنقل زهيدة السعر في ما يقومون به من تجارة
مربحة ما بين مدينة طنجة.
كما أن الصناديق والعلب التي كانت تُحمَّل في
السفينة باسم الطريس إنما كانت تعود إلى خواص يزعمون أنها لطريس ليضمنوا
لها المعاملة الحسنة. وحيث كانت بعض البواخر الخاصة التي كانت تقوم
برحلاتها ما بين مدينتي طنجة وتطوان، فلم يكن من داع لحمل تلك السلع على
متن سفينة حكومية، قد كنا نحرم تلك السفن الخاصة بعض مداخيلها، غير أن
الطريس رجل تطواني، وهذا يكفي، فالمغرب بلد المحسوبية. وكل شخص متنفذ يسعى
ليخص بالامتيازات أقرباءه، ثم أصدقاءه ومعارفه، وفي الأخير أهل مدينته. وكل
بائس أو مسكين يرى من الطبيعي أن يفيد من أقربائه المتنفِّذين، وأصدقائه
والفلاحين الأقرب إليه.
وقبل أن نعود إلى استئناف رحلاتنا الاعتيادية باتجاه مدينة تطوان، كنا شهوداً على واقعة «حربية» مميزة للحروب المغربية.
فقد حدث أن أرسل بوحمارة بأحد خلفائه إلى ناحية تطوان ليبث الفتنة ويؤلب سكان تلك النواحي ويجمعهم على الروغي.
وفي
11 يوليوز، سمعت الحديث، لأول مرة، عن وجود هذا الخليفة الذي قيل إنه نصب
خيمته في أحد الأودية على ساحل البحر، يبعد بمسير ساعتين تقريباً إلى
الجنوب من مدينة تطوان. ولقد حكى لنا بحارة تطوان، على سبيل التهويل، في
اليوم الموالي، أن قبائل جنوب تطوان قد انحازت إلى جانب بوحمارة، وإن
المدينة تبدو في وضع سيء. وحتى العلاقة بين تطوان ومرتيل كان يُقال إنها
أصبحت مهددة. والواقع أن المتمردين لم يحرِّكوا ساكنا.
لذلك قرر مولاي الأمراني أن يخرج في طلب العدو.
وفي
15 يوليوز، نحو العاشرة صباحاً، رأينا إلى الجنوب من مكان رسوِّنا دخاناً
يتعالى من القرى المحرَّقة، وتناهى إلى أسماعنا بعض طلقات الرصاص.
وفي الزوال جاءنا الأمر بالتوجه ناحية الجنوب وقنبلته.
كان الوادي الواقع إلى الجنوب من رأس مازارين، حيث يوجد ما يمكن أن نسميه معسكراً، يوحي بالأمن.
وتمتد من وراء ذلك الوادي قرية كبيرة تحيط بها حقول خضراء يانعة الخضرة.
وفي منخفض مجاورة للشاطئ، غيضة مزهرة. فلم نجد بداً من العودة، في حوالي الساعة الثالثة، إلى مارتيل.
وأثناء ذلك كان الجنود ممعنين في قنبلة الناحية الجنوبية.
وأصبحت
أعمدة الدخان المتصاعدة إلى عنان السماء أكثر فأكثر ضخامة، لكن توقفت
طقطقات الرصاص، مما يوحي بأن الجنود شرعوا، حينئذ، في نهب بيوت تلك
الناحية.
وسرعان ما رأيناهم يقتادون قطعاناً كبيرة من الماعز والأبقار،
على طول الشاطئ، باتجاه مرتيل، لجعلها في مأمن على الضفة الأخرى من الوادي.
وهذا
يعني أن هذا اليوم كان يوماً مثمراً على الجنود، ولم نفلح في ثنْي رجالنا
عن الإسراع بالنزول إلى البر ليحوزوا نصيباً من تلك الغنيمة. لكن حتى أولئك
منهم الذين لم يجشموا أنفسهم ذلك العناء توصلوا بنصيبهم من تلك الغنيمة.
ففي مساء ذلك اليوم أرسل إلينا القايد على متن السفينة بخروفين و11دجاجة،
100 بيضة، 12 قالباً من السكر، و3علب من الشاي، و10 علـب من الشمـع، وكيس
من الخبز.
مرت تلك «الحملة» من غير إراقة كبيرة للدماء، وبدا أنها إنما
كان الهدف منها استكمال الإمدادات وتشجيع الجنود. وبعد ذلك علِمت أن سكان
القرى التي تعرضت للنهب والإحراق كانوا عزلاً تماماً من أية حماية، وأنهم
بقوا على ولائهم للسلطان. والواقع أن خليفة بوحمارة كان قد علِم، في الوقت
المناسب، بما كان مولاي الأمراني يدبِّر للسطو على أمواله، ولذلك لاذ
بالفرار. ولقد بلغ الحنق بالأمير لفشلان مخطَّطه، أن أمر بنهب القرى،
متهماً السكان بالتجسس لفائدة ذلك الخليفة، وإيوائهم له.
ولم يكن معظم
«الحروب» في المغرب، يخرج عن مثل هذه المناوشات. فقد كان الجنود قلة،
وغالباً ما كانوا يتلقَّون رواتبهم بصورة غير منتظمة. وكان السلطان يعاني
كثيراً في سبيل إيجاد جنود، إن هو لم يرخِّص لهم، في بعض الأحيان، بغنم كل
ما ينهبون.
29-07-2012
لم
يقتصر الأمر في تلك الفترة على تمرد بوحمارة، وما كان يخلق من مصاعب
للمخزن، بل انضاف إليه تمرد الريسوني، الذي ظهر، هو الآخر، في صورة مثيرة
للقلق.
وتلك من خاصيات الضعف الذي كانت تعاني منه الحكومة المغربية، في
عجزها عن نشر الهدوء والأمن في الشمال الشرقي من المملكة، على مقربة من
مدينة طنجة.
والمدعو (الريسوني) أو الريسولي الذي أصبح ذائع الصيت، رجل كأنما خُلِق للصوصية وقطع الطرق.
وقد
كان سبق له في سنوات تسعينيات القرن التاسع عشر أن عاش الحياة الحرة
للمهرِّب في الشمال الشرقي من المغرب، إلى أن أمكن لعامل مدينة طنجة النشيط
عبد الرحمان ولد الصدوق، أن يلقي القبض عليه، ويرسله إلى سجن مدينة
الصويرة.
ولم يكن في الإمكان قتله بسبب ما اقترف من الجرائم، بحكم انحداره من أسرة جليلة القدر، كان الأهالي يعتبرونها فوق العقاب.
ولقد
مكث الريسوني في السجن مدة سنتين تقريباً، ثم أُخليَ سبيله، ولقد كان ذلك
خطأً جسيماً. فلقد تدخَّل العجوز الطريس، الذي ينحدر، هو نفسه، من نفس بلاد
الريسوني، تطوان، لدى السلطان لصالحه، وهو خطأ سيندم عنه الطريس بعدئذ،
شديد الندم.
استقل الريسولي في عام 1901 سفينة «التركي» متوجهاً من مدينة الصويرة إلى مدينة طنجة.
ولقد
مكث يومين كاملين رفقتي، ولم يترك لديَّ الانطباع، يومئذ، بأنه رئيس
لقطَّاع الطرق، فلقد كان ذا وجه صبوح، وكان يُعرف بالاستقامة، ذا سحنة
صافية، وشعر رأسه ولحيته بالغ السواد. وكان ذا هيأة طويلة ونحيلة، وقد كان
البحارة يعتبرونه شريفاً من الشرفاء، فكانوا يخشونه أيما خشية، ولو لم يكن
بعضهم قد حدثني عن الإنجازات الإجرامية لهذا اللص، لما كان ليخطر ببالي
أنني كنت إزاء رجل من هذه الطينة.
فلما بلغنا مدينة طنجة، توجه الريسوني إلى الجبال، ولم يكد يمضي وقت يسير حتى أصبح اسمه على كل لسان.
فقد
كانت عصابته في تنام وازدياد، وكانت نجاحاته تزيده جرأة فوق جرأة، حتى لقد
انتهى الأمر بجميع قبائل مثلث طنجة - تطوان - العرائش تقريباً، إلى
الانضمام إلى صفوفه، مما استحالت معه طرق القوافل كلها إلى مسارات خطِرة،
ينعدم فيها الأمن.
وفي الأيام الأخيرة من شهر أبريل من عام 1903، قام
الريسوني بمحاصرة مدينة أرْصيلا، وهي مدينة صغيرة تقوم وسطاً بين رأس
سپارطيل والعرائش.
ولقد أثار هناك من الذعر حداً بلغ إلى إرسال سفينة شراعية صغيرة إلى مدينة طنجة لطلب العون والنجدة.
ولقد كان اليهود أكثر المستهدَفين في مدينة أصيلة بتعديات الريسوني.
ولقد أرسلوا يتوسلون إلى أبناء جلدتهم من الطنجيين يلتمسون منهـم التعجيل بإرسال المساعدة.
بيد أن السلطات المغربية بقيت جامدة، لم تحرك ساكناً، ووحدها ضغوط اليهود مكنت من التسريع بالأمور.
وكان العائق الأول أن الجنود الموجهين لتحرير مدينة أصيلة رفضوا أن يبدأوا في المسير إلا أن يقبضوا مؤخرات رواتبهم.
ولقد أعطاهم اليهود تقدمات من تلك المؤخرات. ومن سوء الحظ أن ساءت أحوال المناخ، مما حال دون تحرير المدينة المهددة من طريق البحر.
لم
يتسن لنا أن ننطلق إلى مدينة أصيلة إلا في 2 ماي، محملين من المؤن والعتاد
الحربي، وفي نفس الوقت وصلـت الجـيوش مـن طريق البر. وفي حوالي الزوال
اقتربوا من المدينة، فكنا نستدل على تقدمهم من الدخان الذي كان يعلو من
القرى التي كانوا ينهبونهـا في طـريقهـم، ويحولونها إلى رماد.
وسرعان ما
رأيناهـم يخـترقون السـهول، ويقتحـمون المدينة، ولقـد ذهلـت مديـنة أصيـلة
لذلك، وبرغم كل جـهودي، فإنني لم أر أثراً للعدو، فمن المحتمل أن يكون فر
قبل وصولِنا ووصول الجنود.
في تلك الأثناء وصلتنا أصداء مقلِقة من مدينة
تطوان، فقد أصبحت المدينة واقعة تحت تهديدات الريسوني، ورفاقه من أنجرة
وبن إيدر، ولقد سبق لي أن قلت إن مدينة تطوان هي مسقط رأس الوزير الطريس،
ولذلك فقد خُصَّت بمساعدات سخية في تلك الأوقات العصيبة.
ولقد سلمنا
الحبوب والأموال والذخيرة في 10 ماي، إلى الجنود المرابطين في المدينة،
فكان الرجال يخرجون من القوارب الصغيرة مسلحين تسليحاً قوياً، مما يوحي
بخطورة الوضع في المدينة.
ولقد تعزز لدي هذا الانطباع بمجيء مولاي عرفة
من نمور إلى تطوان لمساعدة حامية المدينة بجنوده، ثم لم يلبث أن اندس في
السفينة، للالتجاء إلى مدينة طنجة.
ولقد بداً عليلاً، قد اشتد عليه المرض، وانسحب متعللاً بأسباب صحية، ثم كانت وفاته بعد ذلك بقليل.
وفي
طريق مغادرتنا إلى مدينة طنجة، إذ رأينا تصاعد الدخان من نواحي المدينة،
وسمعنا طلقات رصاص متفرقة. ويبدو أن المتمردين بدأوا هجومهم على المدينة.
ولقد حملنا من طنجة، في اليوم الموالي، حوالي 200 من الرجال للاستبدال.
ولقد حكوا لنا عن معركة وحشية، تم فيها القضاء على المتمردين بعد أن دمروا كل شيء في المدينة، وأتلفوا البساتين الجميلة حول المدينة.
وقد
كان هذا القول، كذلك، من المبالغات التي انشرت كبير الانتشار في المغرب.
والحال أنني أمكنني فور ذلك، أن أقف على الواقع بنفسي، فكانت المناطق
الخضراء لا تزال على تألقها، إلا من أشجار البرتقال التي تعرضت للإحراق.
تواصلت إمداداتنا لمدينة تطوان، وكانت تلك الإمدادات تتكون، في معظمها، من العتاد الحربي، والأموال، والذخيرة والمؤن.
كما كنا نحمل إلى المدينة، في كل رحلة تقريباً، ما بين 100 و200 من الرجال ودوابهم.
ولقد
أوكِلتْ قيادة الجنود إلى القايد البشير، الذي تم طرده من فرخانة، وإلى
رفيقه السابق في النكبة مولاي الأمراني. ولقد أمكن بوصولهما، في منتصف شهر
ماي، أن يستتب الهدوء والأمن داخل المدينة وفي نواحيها القريبة.
وعلى
الرغم من أن تطوان معدودة بين مراسي المغرب، فهي لا تقوم على البحر مباشرة،
بل تبعد عنه بحوالي 10 كيلومترات ومرسى مارتيل، الذي تمر من خلاله التجارة
البحرية، يقع على بعد 30 كيلومتراً إلى الجنوب من المستعمرة الإسپانية
سبتة وتجارة السفن مع البر تجرى هنا على نحو ما هي في سائر المدن الساحلية
المغربية، بواسطة القوارب التي تعود إلى الحكومة، والتي يمكنها الإبحار في
مصب الوادي.
المنطقة التي بين تطوان ومارتيل أرض منبسطة تماماً، وفي
خلفيتها تنتصب الجبال مشكلة ما يشبه نصف دائرة، وعندد سفوحها يمتد سهل شديد
الخصوبة، لكن لا يعرف نشاطاً فلاحياً ذا بال، بسبب إهمال السكان.
ومدينة
تطوان، التي تُرى أسوارها البيضاء واضحة للعيان من الشاطئ، هي من أجمل
الأماكن في المغرب. والمدينة تقوم فوق ربوة هينة السفوح، تقوم في سفوحها
بساتين خصبة ممرعة، تتخللها بيوت صغيرة بيضاء وتحف بها من جوانب ثلاثة جبال
عالية تصعد في البداية بهدوء، وتنتهي في الأعلى بجرُف وعرة وقرعاء.
وكثيراً
ما سنحت لي الفرصة لزيارة هذه المدينة، فكنت أغتنمها اغتناماً سعد بها
كثيراً. ويكون رفيقي دائماً الترجمان الحاج محمد بومغيث، فكنا نركب جوادين
ضامرين عجوزين، يبدو أنهما لا يعرفان غير السير، فنمضي ساعات غير قليلة
نقطع خلالها مسافة 10 كيلومترات، للوصول إلى تطوان.
وفي كل مرة أزور المدينة، تأخذ بجماع نفسي.
فما
اقتربت منها إلا ازدادت جمالاً في ناظري. على جانبي الطريق تمتد بساتين من
ورود بيوت صغيرة، إلى أن نبلغ باب المدينة، ثم ندخلها. ونسير نسلك دروباً
ضيقة، إلى أن نأتي إلى السوق، وهو ساحة فسيحة تقوم وسط المدينة. وهناك نعيد
دوابنا إلى أصحابها، لكي تقوى على حملنا حين الرجوع، وثم أمر يستثيرني
كلما نزلت بهذه المدينة، فهي وإن تكن غنية، وبين ساكنتها موظفون سامون لدى
السلطان، إلا أنها توجد في حال سيئة حقاً، فطرقاتها تفتقر إلى النظافة، وهي
ضيقة تعمها الفوضى، وقليلة جداً، وبينها السيئة التبليط.
البيوت
متنافرة الأشكال، من غير أن تصبغ بالجير. بل إنك لترى القصور المغربية
الأكثر تميزاً، تلك القصور التي تذكرنا، من وجوه عدة، بقصر الحـمراء في
غرناطة، بهيئتها الموريسكية الغنية، تلوح، في مظهرها الخارجي، قبيحة وسخة
ويمثل الحي، الملاح اليهودي استثناء صارخاً.
لكن لا ينبغي أن يذهب بنا
الظن إلى أن اليهود لا يمكنهم أن يسكنوا في غير الملاح، فإن لهم، ههنا، كما
في سائر المدن الساحلية، في ما خلا الرباط وسلا، أن يشتروا ويبتنوا لهم
مساكن حيثما شاءوا من المدينة، وفي خارج القصبة.
وفي المدينة حي صناعي خاص، قد جعِل للصناعة البيتية بطبيعة الحال.
وقد
جعِل لكل حرفة زقاقها الخاص بها، فمن الأزقة ما هو مخصص لصناعة البلغ
وحدها، ومنها المقتصر بها على صناعة الجلد، تليها المخصصة للدباغة،
والحدادة، وصناعة البنادق، وسواها.
ويؤوي كل صانع إلى دكان صغير، ذي باب
وحيدة تطل على الزقاق، مفتوحة على الدوام. ومن هناك يمكننا رؤيتهم وهم
يعملون. ومعظم هذه الأزقة مغطى بأشجار العنب، لتقيها أشعة الشمس، فهذا مما
يشعر المتجول فيها بالمتعة والنداوة ومن عجيب أن هذا الحي، وما يعج به من
حرف، يكون، هادئاً، فيجتذبني إليه اجتذاباً.
ولا ينبغي أن تفوتنا
الإشارة، كذلك، إلى القصبة، التي، كشأنها في سائر المدن المغربية المشيدة
فوق هضاب، تقوم شامخة تعلو على ما سواها. وإن كثيراً من تلك الحوائط
البيضاء المتينة يلوح للمرء من أسفل، منذراً متوعداً، بيد أنه إنذار ليس له
من أساس، فليس للقصبة من دور عسكري. وعدا ذلك، فالحوائط ليست بالمتينة
جداً، في ما عدا بعض المدافع البالية قد نصبت إلى بعض الكوى، والتي أصبح
معظمها غير قابل للاستعمال، ولو أريدَ تعبئة لقم تلك المدافع، فإن مخاطرها
على الرماة ستكون أكثر منها على العدو.
وقد كنت في كل زيارة لي إلى هذه
الناحية، أذهب لزيارة القايد البشير ومولاي الأمراني، إن كلاً منهما يسكن
بيتاً من أجمل البيوت، وقد كنت أتبادل والقايد البشير الحديث في شأن الوضع
السياسي، فكانت تصدر عنه بعض الأحكام التي أستنتج منها عدم رضاه عن السلطان
ومستشاريه. في منتصف شهر ماي من عام 1903، تناهى إلى علمنا أن مراسل صحيفة
«التايمز»، هاريس، قد تعرض للاختطاف من لدن الريسولي، وأن هذا الأخير أطلق
سراحه، مقابل الإفراج عن جميع أتباعه.
وكان الناس يتهامسون أنهم شاهدوا هاريس والريسوني متدثِّرين بغطاء.
وقد
كان البشير يأسف لهذا الحادث لما يخشى من أن يُغري المتمردين باختطاف
المسيحيين، لتحرير رفاقهم السجناء، وهذا مما سيمدُّ من عمر التمرد. كما كان
يشغله أن المتمردين كانوا أفضل تسليحاً من جنود السلطان، ذلك أنه تم القبض
على أحد الرجال من قبيلة أنجرة فوجِدتْ معه بندقية عصرية، من قبيل ما
يستعمله المشاة الألمانيون، من نوعية 88، وقد أراني إياها القايد.
وأما جنود السلطان فلم يكونوا يملكون غير بنادق قديمة من نوعية شاسپو تعود إلى سنة 1873، كان معظمها في حالة سيئة.
وعلمت بهذه المناسبة، أن البنادق العصرية التي كان يستعملها المتمردون كانت تمر إليهم بطريق التهريب من الإسپان.
يقدر
عدد الجنود الذين قمنا بحملهم، في مجموعات كبيرة نسبياً، من طنجة إلى
تطوان، بما بين 12000 و 15000 رجل، ولولا أنهم صعدوا إلى السفينة بصفة
الجنود، لكان من الصعب علينا أن نعرف أنهم كذلك، فلم يكن لهم «زي» يميزهم،
غير الطربوش الأحمر المدبب المعتاد لدى الجنود المغاربة.
وفيما عدا ذلك،
كانوا يلبسون حسبما يشتهون، أو حسبما تسعفهم إمكانياتهم، ولم نصادف غير
مجموعة واحدة ارتقت السفينة في أزياء حقيقية. فقد كان أفرادها يرتدون بذلاً
حمراء، غير ملائمة، ذات ثنيات صفراء وأزرار مذهبة، وسراوييل زرقاء واسعة
تنتهي عند ركبهم.
وكان هؤلاء الرجال، كسائر الجنود المغاربة، يجعلون على الدوام، فوق ثيابهم جلباباً بيضاء حائلة، فلا ترى أزياؤهم.
ولا نميز لدى هؤلاء الجنود من قادة، فكأن الرؤساء ليس لهم من سلطان عليهم، إذ كان يقع على بحارتي حفظ النظام على متن السفينة.
فكنا
كلما ركبوا وإيانا نجردهم من أسلحتهم، ونجعلها في صناديق خاصة أو في
الرزم. وكانوا سرعان ما يتخذون أماكنهم على ظهر السفينة. فندرك على الفور
أننا بإزاء شعب رحال، حيثما جُعل شعر كأنه في بيته.
وكانوا إذ هم على السطح، يتجمعون في مجموعات صغيرة بين الصناديق والرزم، المكومة، بجوار جيادهم.
وكانوا يمدون حصراً يتمددون عليها، أو يجلسون متربعين، ثم يأخذون في تسخين الماء لإعداد الشاي على مجامير صغيرة يحملونها وإياهم.
فقد كان الشاي والزيتون والخبز تكاد تكون هي طعامهم الوحيد طوال الرحلة.
والذين على الجسر يتقون الشمس والمطر بأن يجعلوا عليهم ثياباً بالية، أو خياماً وأقمشة، يصير بها الجسر أشبه ما يكون بمخيم.
كان الرؤساء يطالبون بأماكن جيدة، فنهيئها لهم على السطح الخلفي.
وقد أسمح، أحياناً، لبعض الموظفين الكبار بالجلوس في مقصورتي.
وأما من سواهم فيكون عليهم أن يبحثوا عن مكان فوق الجسر.
وكذلك كان الرؤساء سريعاً ما يتخذوا هناك أماكنهم، فيجعلون من يخدمهم من الرجال، غير عابئين بشيء.
فلم
يكن يتميزهم شيءٌ عن رجالهم، إلا سنهم المتقدمة وجلابة أكثر نظافة، وكذا
بخناجير صغيرة معقوفة في أغماد من فضة، يعلقونها إلى أعناقهم بخيوط طويلة
من الحرير.
كان أولئك المقاتلون رجالاً من شتى الأعمار، أصغرهم لا
يكادون يبلغون الرابعة عشرة، وأكبرهم في الخمسين، ومن شتى ألوان البشرة.
ويبدو أن المسؤولين لم يولوا وقت تجنيدهم من اهتمام إلى القوة الجسمانية،
لأن كثيرين بينهم كانوا في حالة مزرية.
ومع أن الجنود لم يكن لهم أي علم
بالنظام، فلم يكن من الصعب اقتيادهم، وقليلاً ما كانت تحدث مشاجرات لرفضهم
الإذعان لقانون السفينة، وقد كانوا في عمومهم قذرين جداً، وكانوا مبتلين
بالهوام، فكنت كثيراً ما أرى رجلاً قد انزوى في ركن، وجعل يفلي القمل، أو
أرى أحدهم قد جعل رأسه بين ركبتي صاحبه، ليفيله له.
وكان يُدفع إلينا في
بعض الأحيان، إذ نحن في تطوان أو طنجة، بسجناء الحرب. فيكونون مكبلين
بحلقة حدديدية تُثبت في العراقيب وبين القدمين يُجعل قضيب حديدي بطول حوالي
30 ستنتمترا. فبذلك لا يكون وسع أولئك التعساء أن يقوموا بغير خطوات
دائرية صغيرة، وبين أولئك السحناء الذين يُقال لنا، دائماً، إنهم متمردون،
كنا نرى تعساء مساكين، فكنت أشك في أن الرؤساء إنما يقبضون على رجال
مسالمين تماماً لمجرد التباهي أمام السلطة، ولكي يثبتوا حماستهم للسلطان.
وعموماً، فإن أولئك المساكين يكونون ملفوفين في جلابيب، بعد أن يكون الجنود
المرافقون لهم قد جرّدوهم من كل ثياب، وما معهم من متاع.
اضطُرَّت هذه
الاضطرابات أعداداً كبيرة من التطوانيين إلى مغادرة المدينة، وكانت سفينتنا
تكاد تمتلئ في كل رحلة من هؤلاء اللاجئين، فقد كانت السلطات تأذن لهم
باستعمال هذه السفينة، ومن عجيب أن أعداد المهاجرين منهم للمدينة لم تتناقص
حتى عندما أخذت الأوضاع بها في التحسن، وإنما على العكس من ذلك، فقد
تزايدت أعداد الفارين من المدينة للنجاة بأنفسهم.
وكانوا، فضلاً عن ذلك،
يحملون معهم أهم أغراضهم، وقد أكثرهم يحملون معهم على ظهر السفينة صناديق
يزعمو أنها تخص الطريس أو أسرته، ويطلبون منا الاعتناء بها. وسرعان ما
تبيَّنت أن أولئك المسافرين لم يكونوا باللاجئين، وإنما هم مجرد تجار
يستعماون سفينة «التركي» وسيلة للنقل زهيدة السعر في ما يقومون به من تجارة
مربحة ما بين مدينة طنجة.
كما أن الصناديق والعلب التي كانت تُحمَّل في
السفينة باسم الطريس إنما كانت تعود إلى خواص يزعمون أنها لطريس ليضمنوا
لها المعاملة الحسنة. وحيث كانت بعض البواخر الخاصة التي كانت تقوم
برحلاتها ما بين مدينتي طنجة وتطوان، فلم يكن من داع لحمل تلك السلع على
متن سفينة حكومية، قد كنا نحرم تلك السفن الخاصة بعض مداخيلها، غير أن
الطريس رجل تطواني، وهذا يكفي، فالمغرب بلد المحسوبية. وكل شخص متنفذ يسعى
ليخص بالامتيازات أقرباءه، ثم أصدقاءه ومعارفه، وفي الأخير أهل مدينته. وكل
بائس أو مسكين يرى من الطبيعي أن يفيد من أقربائه المتنفِّذين، وأصدقائه
والفلاحين الأقرب إليه.
وقبل أن نعود إلى استئناف رحلاتنا الاعتيادية باتجاه مدينة تطوان، كنا شهوداً على واقعة «حربية» مميزة للحروب المغربية.
فقد حدث أن أرسل بوحمارة بأحد خلفائه إلى ناحية تطوان ليبث الفتنة ويؤلب سكان تلك النواحي ويجمعهم على الروغي.
وفي
11 يوليوز، سمعت الحديث، لأول مرة، عن وجود هذا الخليفة الذي قيل إنه نصب
خيمته في أحد الأودية على ساحل البحر، يبعد بمسير ساعتين تقريباً إلى
الجنوب من مدينة تطوان. ولقد حكى لنا بحارة تطوان، على سبيل التهويل، في
اليوم الموالي، أن قبائل جنوب تطوان قد انحازت إلى جانب بوحمارة، وإن
المدينة تبدو في وضع سيء. وحتى العلاقة بين تطوان ومرتيل كان يُقال إنها
أصبحت مهددة. والواقع أن المتمردين لم يحرِّكوا ساكنا.
لذلك قرر مولاي الأمراني أن يخرج في طلب العدو.
وفي
15 يوليوز، نحو العاشرة صباحاً، رأينا إلى الجنوب من مكان رسوِّنا دخاناً
يتعالى من القرى المحرَّقة، وتناهى إلى أسماعنا بعض طلقات الرصاص.
وفي الزوال جاءنا الأمر بالتوجه ناحية الجنوب وقنبلته.
كان الوادي الواقع إلى الجنوب من رأس مازارين، حيث يوجد ما يمكن أن نسميه معسكراً، يوحي بالأمن.
وتمتد من وراء ذلك الوادي قرية كبيرة تحيط بها حقول خضراء يانعة الخضرة.
وفي منخفض مجاورة للشاطئ، غيضة مزهرة. فلم نجد بداً من العودة، في حوالي الساعة الثالثة، إلى مارتيل.
وأثناء ذلك كان الجنود ممعنين في قنبلة الناحية الجنوبية.
وأصبحت
أعمدة الدخان المتصاعدة إلى عنان السماء أكثر فأكثر ضخامة، لكن توقفت
طقطقات الرصاص، مما يوحي بأن الجنود شرعوا، حينئذ، في نهب بيوت تلك
الناحية.
وسرعان ما رأيناهم يقتادون قطعاناً كبيرة من الماعز والأبقار،
على طول الشاطئ، باتجاه مرتيل، لجعلها في مأمن على الضفة الأخرى من الوادي.
وهذا
يعني أن هذا اليوم كان يوماً مثمراً على الجنود، ولم نفلح في ثنْي رجالنا
عن الإسراع بالنزول إلى البر ليحوزوا نصيباً من تلك الغنيمة. لكن حتى أولئك
منهم الذين لم يجشموا أنفسهم ذلك العناء توصلوا بنصيبهم من تلك الغنيمة.
ففي مساء ذلك اليوم أرسل إلينا القايد على متن السفينة بخروفين و11دجاجة،
100 بيضة، 12 قالباً من السكر، و3علب من الشاي، و10 علـب من الشمـع، وكيس
من الخبز.
مرت تلك «الحملة» من غير إراقة كبيرة للدماء، وبدا أنها إنما
كان الهدف منها استكمال الإمدادات وتشجيع الجنود. وبعد ذلك علِمت أن سكان
القرى التي تعرضت للنهب والإحراق كانوا عزلاً تماماً من أية حماية، وأنهم
بقوا على ولائهم للسلطان. والواقع أن خليفة بوحمارة كان قد علِم، في الوقت
المناسب، بما كان مولاي الأمراني يدبِّر للسطو على أمواله، ولذلك لاذ
بالفرار. ولقد بلغ الحنق بالأمير لفشلان مخطَّطه، أن أمر بنهب القرى،
متهماً السكان بالتجسس لفائدة ذلك الخليفة، وإيوائهم له.
ولم يكن معظم
«الحروب» في المغرب، يخرج عن مثل هذه المناوشات. فقد كان الجنود قلة،
وغالباً ما كانوا يتلقَّون رواتبهم بصورة غير منتظمة. وكان السلطان يعاني
كثيراً في سبيل إيجاد جنود، إن هو لم يرخِّص لهم، في بعض الأحيان، بغنم كل
ما ينهبون.
29-07-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 7 -
بعيْد عيد المولد العربي، وما يحفل به من ختان الصبية، وقيام طائفتي عيساوة
وحمادشة المتحمسين بتقديم عروضهما الدموية، بدا أن رحى الحرب تميل لصالح
السلطان، فلقد اعتُبِرت استعادة مدينة تازة بيد المنبهي نجاحاً كبيراً، جرى
الاحتفاء في كل من مدينة طنجة ومدينة تطوان بإطلاق 21 طلقة مدفعية، وتنظيم
حفلات الفروسية، وجاء أمر الوزير، كذلك، بتمكين سفينة «التركي» من الراحة
لمدة يومين.
وبعد طرد بوحمارة من مدينة، أخذت الحكومة المغربية تحاول، من جديد، أن توطد لنفسها في المناطق الحدودية.
وفي
يوم 8 يوليوز تم نقل حوالي 12000 من الجنود على متن سفينة بخارية فرنسية
إلى منطقة نمور، ليكون زحفهم من هناك، في طور أول، على عجرود، ثم يكون لهم
أن يستعيدوا مدينة وجدة.
لقد كانت تلك أولى التعزيزات التي أرسل بها السلطان من أجل إعادة إحكام سيطرته على الناحية الشرقية من المملكة.
ولقد
رخصت السلطات الفرنسية للجنود المغاربة بالمرور من نمور إلى الأراضي
الواقعة تحت سيطرتها، مما تشهد على العلاقات الحسنة التي أصبحت قائمة بين
فرنسا والمغرب.
نفذ هؤلاء الجنود القسمَ الأول من هذا المخطط؛ باحتلالهم
لقصبة السعيدية، وإخضاعهم للقبائل المجاورة لها، غير أن الجنود 1200
اعْتُبِروا غير كافين لمواجهة جميع الأوضاع الممكنة.
ولذلك أرسلت الحكومة المغربية بجنود آخرين تكلَّفنا بنقلهم.
كان خروجنا من مدينة طنجة في 20 يوليوز، نحمل أولى التعزيزات.
وقد كانت تتألف من حوالي 200 من الرجال، و40 من الخراف والدواب المركوبة.
ولقد
كان الجنود الذين حملناهم في رحلتنا تلك، أسوأَ حالاً من كل من حملنا منهم
إلى ذلك الوقت. فقد كانوا حشداً من الرعاع المزعجين والعصاة.
وعلى
الرغم من العدد الكبير من الرؤساء، فقد استحال علينا أن ننشر النظام بينهم،
وعندما كان البحارة يتجرأون على إعطاء أمر من الأوامر للحفاظ على نظافة
السفينة أو تنفيذ خدمة من خدماتها، كانوا يبلغون إلى المشاداة بالأيدي.
فقد كانوا يتصرفون وكأن في مقدورهم أن يفعلوا ما يحلوا لهم بالسفينة وأجهزتها.
فإذا
بدر مني احتجاج على تصرفاتهم، كانوا يردون عليَّ على الدوام: «إن السفينة
تخص السلطان، فلنا فيها نفس ما لك فيها من الحقوق»، فلم يكن بمقدورهم أن
يعوا أن عليَّ، وأنا قائد السفينة، أن أحرص على صون النظام والأمن عليها.
كان
الوقت صيفاً، وفي السماء الزرقاء تلتمع شمس حارقة، فجعلوا، ورؤساؤهم
يرفعون أًصواتهم في طلب أشرعة يتقون بها الشواظ الحارق، وما أسهل ما كان
يمكنهم أن ينصبوا الخيام التي حملوها معهم، فلم أجد بداً من الإذعان
لرغباتهم، فنشرت الأشرعة على الجسر، ذلك بأني عندما بدأت بالرفض، جعلوا
يتوعدون.
فلما خرجنا إلى عرض البحر، ثار علينا الأبيض المتوسط، وأخذت
السفينة تتأرجح قليلاً. ومن حسن الحظ أن أصيب القوم جميعاً بالدوار فالتزمت
الهدوء فوق الجسر. ونعمنا بالسلام.
كان بينهم شخص ماهر أريب، قد اتخذ
له ركناً من السفينة، أسفل حجرة القيادة، فجعل فيه ما يشبه المقهى، وكان
يبـيع الشـاي والقهوة لرفاقه بـ 50 سنتيماً للكأس، وقد كان له من ذلك العمل
ربح وفير.
ولكم اغتبطنا بإنزال هؤلاء المزعجين في عجرود، ولقد اجتمع، لدى وصولنا، حشد كبير على الساحل.
وقد لاح لناظري، أثناء العبور لوحة متعددة الألوان، وقد تم إفراغ الحمولة على الشاطئ؛ حيث جرى تكويمها.
كانت الخيول والبغال في انتظار، وكان الجنود وقد نزلوا من السفينة، يخوضون في حديث حاد مع رفاقهم، أو يتجولون على الرمل.
وقد
اضطُرت الحرارة الجنود أن يزيلوا عنهم جلابيبهم الرمادية الحائلة، فهم
يتصببون عرقاً في ثيابهم القشيبة، وقد غطوا رؤوسهم جميعاً بالطربوش الأحمر
أو بالعمامات، واحتذوا بلغاً صفراء.
وكان بينهم بعض البدو بجلابيبهم الرمادية، وعلى رؤوسهم عمامات من وبر الجمال، وفي أقدامهم صناديل.
زيادة
عن لون الرمال الذهبية، ولون الغروب من خلف التلال، ومن فوق ذلك كله أفق
خال من أي سحابة، أزرق عميق الزرقة! إنه مشهد جدير بأن يخلد في لوحة!
وجدنا قائد هذه الناحية سي أحمد الركينة على الساحل قد اتخذ له مجلساً مع بعض الموظفين في خيمة نُصِبت خصيصاً لأجله.
وكان
يقوم عند مدخل الخيمة ستة رجال يقومون على حراستها ثلاثةً من كل جانب،
مشكِّلين، بذلك، ما يشبه الممر، فحييناه بسرعة، وتلقينا بعض التعليمات لما
يلي من الرحلة، ثم نزلنا النهر الحدودي، واتجهنا صوب الناحية الفرنسية.
كان
استقر في هذه الناحية، منذ سنوات، على مقربة من البحر رجل فرنسي يُدعى لوي
ساي. وقد تملك ناحية هناك، يحدها من الجهة الغربية نهر كيس، ومن الجهتين
الشرقية والجنوبية الجبال التي نراها، في ناحيتنا هذه، قريبة إلى البحر،
ويحدها البحر من الناحية الشمالية، إنها أرض جميلة مسطحة، خصيبة في قسم
منها، بمساحة من حوالي كيلومترين مربع ونصف.
وسبق لي أن تعرفت على السيد ساي، فجاء يومئذ لاستقبالي، كما استقبلني في المرة السابقة، بكل ود.
ولقد
علِمت منه أنه يعتزم بناء مدينة وميناء في تلك الناحية، من ماله، ويسمي كل
ذلك ميناء ساي. وقادت تلك الناحية، قبل ثلاث سنوات، جرد صحراء؛ حيث كان
يتخذ له فيها كوخاً من القصب والتبن، فيما أصبح بها، اليوم، موضع قائم
وكثير من البيوت الناجزة، أو التي هي في طور الإنجاز، وشوارع عريضة وجميلة.
وقد انطلقت أشغال إنشاء رصيف الميناء، وقد كان ساي يجد في الجبال المحيطة كفاية مما يحتاج من مواد البناء ذات الجودة العالية.
لقي
لوي ساي، في البداية، شيئاً من الممانعة من السلطات الفرنسية، وعرقلة
لمخططاته الطموحة، فوضعت في وجهه الكثير من العراقيل، كانت تعود، قبل كل
شيء، إلى ما كان يُحاك في نمور من دسائس.
ولا تكاد تبعد نمور عن هذا
المرسى بغير 30 كلم إلى الشرق، فعُدَّ المرسى منافساً خطيراً لها؛ ذلك بأن
نمور لا تتوفر على غير مرسى مفتوح، فيما كان ساي يرمي إلى بناء يرسى محمي
كبير.
وعدا ذلك، فقد كان بور ساي أيسر بلوغاً، بفضل موقعه على الحدود
المغربية، فكان يُخشي، في نمور، متى انتهت الأشغال في ساي، أن يجتذب إليه
التجارة كلها، ويكون في ذلك القضاء المبرم على مرسى نمور. بيد أن ذلك كله
لم يكن ليخيف في ساي، فدأب على البناء، مستخفاً بكل التهديدات التي كانت
تتقاطر عليه من كل صوب، ثم كان له النجاح في النهاية.
وإذا موقف السلطات الفرنسية تتجاهه قد صار وداً بعد صد وممانعة.
وكذلك
كان من ضباط المراكز العسكرية المجاورة، فبعد أن ظنوه، في بادئ الأمر،
رجلاً حالماً أو مجنوناً، وكانوا يتحاشون كل اتصال وإياه، وهو الضابط
الاحتياطي في البحرية الفرنسية، لم يلبثوا أن صاروا يتقربون إليه.
فلما أقيم جمرك، في تلك الفترة، فكان علامة دالة على اعتراف الحكومة، خيِّل إلى ساي أنه قد تغلب على جميع الصعاب.
أنجزت
الأشغال تحت إدارة مهندسين فرنسيين، لكن من أسف أنهم لم يجيدوا الاختيار،
ولم يكن لهم كبير معرفة بالرجال، فكان أن منوا بخيبات عديدة. ولقد كان في
هذا العمل السيئ تبديد لكثير من الوقت والمال.
كان الفرنسيون في بور ساي
يحيون في ترابط وثيق، كانوا مقبلين على حياتهم كيفما اتفق، وقد كانت
النساء قليلات جداً هناك، فلم يكونوا يجدون ضرورة للاهتمام بهندامهم. فهذا
السيد ساي، على سبيل التمثيل، كان يستقبلني، في معظم الأحيان، وليس عليه
غير بذلة بيضاء، وسراويل قصيرة من المخمل وأحذية من قماش الأشرعة. وكنت
أرى رجالاً كثيرين قد ارتدوا دون ثيابه بكثير.
إنها، حقاً، حياة حدودية!
بل إن القوم لا يغيرون من تلك الثياب حتى في المساء، في ما خلا السيد ساي،
الذي يلصق ياقة، ولم أره قط قد ارتدى جوارب.
تلقاني الرجل بود غامر، ولاحظت التقدم الذي تحقق للأشغال، التي صار يطلعني عليها بكثير من الفخر.ثم زرت المعسكر الكبير للجنود.
إلى
الجنوب من القصبة، مربع من نحو نصف كلم2، وقد جعلت هناك حفرة بعمق 50
سنتمتراً أو نحو ذلك، وأقيم جدار بالعلو نفسه، في داخل لك الحصن، تنتصب
خيام الجنود كأنها نقط بيضاء صغيرة، وفي بعض الأنحاء تنتصب خيمة كبيرة،
يؤوي إليها القادة. وفي ما بين الخيام، عقِلت الدواب المركوبة. ورأيت
الجنود خيالات سوداء في أزياء بين الكاكي والأحمر، في مجموعات يثرثرون، بين
متمدد ومنتصب وجالس.
كانت مجموعتنا من المسافرين الوقحين قد اتخذت
أماكنها داخل المعسكر. وكان رئيسه، القايد عبد السلام مجون يسيِّر، فيما
يبدو، المعسكر، فقد كان يقيم في أكبر خيمة فيه، وقدامها نصبت ثلاثة مدافع
من نوع مكسيم. وبدا لي كأنه ورجاله قد نسوا لمنازعات الصغيرة التي تخللت
الرحلة، إذ أنهم دعونا بود، إلى كأس شاي. غير أننا ما كدنا نتخذ أماكننا
مستظلين بالخيمة، حتى تلقى مضيفنا خبراً، فخرج، وركب صهوة حصان بهي قد أسرج
بسرج باذخ، قد وضع هن إشارته، ثم انطلق إلى داخل البلاد.
وقد خلفه
نائبين له، ليتوليا ضيافتنا. وقد تداولت وإياهم، بواسطة الترجمان، فعلمت أن
الجنود كلهم مدعوون للتوجه، خلال الأيام القريبة، إلى وجدة. لم يكن الأمر
يزيد عن محادثات مع بعض القبائل التي كانت تميل إلى العودة للدخول تحت طاعة
السلطان. لذلك دعي القايد مجون إلى ملاقاة شيوخ إيلم حيا أنجاد، في القصبة
لإجراء محادثات الدخول في السلم.
أخذت الحركة تدب رويداً رويداً في
المخيم. وتناول الجنود بنادقهم، وأخذوا يستعدون للقتال. حينئذ، بدأ يظهر،
عن بعد، أولئك الرجال المنتظرون. لم يكن في نية أصحابنا أن يأمنوا لهم
ويولوهم ثقتهم كلها، فكان الاستعداد لجميع الاحتمالات. ورأينا مجموعة من
الجنود تقترب، قد ضمت قرابة 500 رجل، وهم جميعاً ركوب، ومسلحون، وقد لبسوا
وتعمموا بثياب وعمامات بيضاء.
مروا راكضين بطول المخيم، وتواروا داخل
القصبة. غير أنهم أبرموا ميثاقاً للسلم مع ممثل السلطان، القاىد الركينة،
وكان في ذلك دفعٌ كبير بأمور الحكومة في تلك لمنطقة.
في المساء جيء
إلينا بـ 56 سجيناً لنحملهم على متن سفينة «التركي». ويُحتمل أن يكون ستة
منهم بالغي السوء، وحتى لقد زعموا أن الجانب الفرنسي والجانب المغربي وعدا
بمكافأة سخية لمن يأتيهما برؤوسهم. وقد كانوا جميعاً موثَقين بإحكام،
ويحملون على أيديهم جلود الماعز ليبيِّنوا لإخوتهم أنهم قد تم قطع أيديهم
ووضع الملح والفلفل على ما تبقى منها وخيط كل ذلك إلى جلد الماعز. غير أن
أيدي هؤلاء المساجين كانت لا تزال سليمة، وإنما جُعِلت لهم تلك القفازات
لإدخال الرعب في نفوس إخوتهم. وأما الخمسون الآخرون، الذين كان 25 منهم
موثقين بسلاسل حول العنق، والـ 25 الآخرون كانوا موثقين إلى بعضهم بحبال
رقيقة مثبتة إلى أيديهم، فلم يكن يبدو عليهم أنهم من عتاة المجرمين.
كانوا
يبدون جميعاً خائري القوة منهكين. فلم نلاق منهم مشكلات ولا مصاعب، فلم
يكونوا يقوون على تحريك ساكن. بل لقد أقدمنا على تحرير 25 منهم من حبالهم
وتركناهم طلقاء يتحركون على هواهم. لقد كانوا مجردين من أي سلاح، وكانوا
أضعف من أن يقدموا على عصيان أو تمرد. حتى إذا بلغنا بهم إلى الوجهة التي
هم مرسَلون إليها، شق عليهم كثيراً أن يتركوا السفينة؛ حيث كانوا ينعمون
بالهواء العليل والطعام الوفير، الذي ينولهم من وجبات الجنود، أو يظفرون به
في مطبخ الطاقم. بينما ينتظرهم منذ اليوم، جوع رهيب في جوف زنزانة معتمة.
في
الأيام الأولى من شهر غشت، توجهنا ناحية الحدود بكمية كبيرة جداً من
المعدَّات. ولزِمَنا، في البداية، أن نتوجه إلى مدينة تطوان؛ حيث علمنا
بموت بوحمارة.
واغتبطت الحكومة لذلك النبإ، وأمرت بتنظيم لعبة الفروسية
من رجالها، وهي لعبة تكون بأن يتقدم صف كامل من الفرسسان راكضين بجيادهم في
الساحة، ثم يتوقفون فجأة، ويطلق الجميع رشقات بنادقهم، وهم يستعملون شتى
أنواع الأسلحة النارية، لكن من أسف أن الطلقات لا تسعفهم دائماً، لأن بعض
البارود يسقط من المخزن أثناء الركض، فإذا انتهى قسم من الرجال من الركض،
يأتي دور قسم آخر، إلى أن يعود القسم الأول فيكرر ركضه، ويظل ذلك المشهد
يتكرر، في صورة جميلة وعجيبة. ويُخيل إلى من يرى الفرسان وهم يراكضون،
وثيابهم تتطاير في مهب الريح، وهم في اهتزاز أهوج، أنهم محبو حرب.
أُقيمت
تلك الاحتفالات في ساحة السوق الكبيرة في وسط المدينة. ولقد تم التوسيع من
جوانب الساحة لتنظيم تلك الألعاب، فيما احتشد المتفرجون في بقية الساحة
وفي الشرفات، من رجال ونساء.
ولقد كان احتفالاً بهيجاً، لكنه لم يكن احتفالاً في محله على الإطلاق، لأن بوحمارة الذي كان يُعتَقَد بموته، كان لايزال حياً يُرزَق.
كان
يرافقني الكاتب الأخباري في صحيفة «كولونيا»، السيد هورنونغ، في تلك
الرحلة. وقد كان يبغي التوجه إلى ميناء ساي، في مدينة وجدة، فطلب إلى
الكباص؛ الوزير الحالي للحربية، الذي تم تعيينه عضواً في لجنة فرنسية
مغربية لتسوية مشكلة الحدود، طلب إليه أن يرخص له بالركوب مع المحلة التي
كانت تتأهب، في تلك الأيام، للزحف باتجاه مدينة وجدة. وقد كان الكباص رجلاً
بالغَ اللطف، لكنه لم يشأ أن يتحمَّل المسؤولية في تلك المغامرة، ولذلك
وجد نفسه مكرهاً على رفض طلب هورنونغ، غير أن هذا الأخير لم يشأ أن يصرف
نظره عن تلك الرحلة، فقرر أن يتوجه عبر الأراضي الواقعة تحت سيطرة
الفرنسيين، حتى مغنية، ومن هناك يدخل وجدة، غير أن السلطات الفرنسية لم
تسمح له باجتياز الحدود! ولقد كان من مغنية يرى وجدة قريبة جداً منه، من
دون أن يسمحوا له بدخولها.
ولقد ظلت السلطات الفرنسية تراقبه طوال
إقامته في هذه المنطقة، لا تغفل عنه طرفة عين، إلى حين ركوبه البحر في نمور
في طريقه إلى مدينة طنجة.
ولقد كان هذا الموقف من السلطات الفرنسية
تجاه هذا المراسل الصحافي أولَ دليل ملموس بين يدي على أن الفرنسيين كانوا
ينوون التدبير لمشكلات وعراقيل في هذه المنطقة، فلم يكونوا ليسمحوا لأحد أن
يطَّلع على ما يدبرون.
31-07-2012
عدل سابقا من قبل izarine في الخميس 2 أغسطس 2012 - 11:07 عدل 1 مرات
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 8 -
لقد
ظل في مقدور الحكومة المغربية في السنوات الماضية، أن تجد كفايتَها من
القمح والشعير لإطعام الجنود والدواب الداخلين في محلاتها، بفضل ما كانت
تقبض من القبائل. وأما في الوقت الحاضر، فلم تعد هذه الحكومة تملك من
السلطة على البلاد، ما تستطيع به أن تحصِّل شيئاً من تلك القبائل، وفضلاً
عن ذلك، فإن ضعف المحاصيل، وعدمَ اقتناء الحكومة المغربية لما يكفي من
القمح والشعير، قد حتم على هذه الأخيرة أن تتحول إلى الاستيراد من البلدان
الأجنبية، لتغطية حاجياتها.
وقد كانت تشتري هذه المواد بكميات كبيرة
بخاصة من فرنسا، وكان يتم تخزين تلك الحمولات في مدينة العرائش في انتظار
نقلها إلى جهات المغرب.
ولقد استمر التفريغ طوال فصل الشتاء من عام
1904-1903، إلى أن أصبحت المخازن تضيق بما فيها، فتُرِكتْ بقية تلك
الحمولات في العراء. ولقد كان الافتقار إلى المكان، مما اضطر إلى تكويم تلك
المواد، حتى أصبحت، شيئاً فشيئاً، في ارتفاع بيت من أربعة طوابق.
وفصل
الشتاء في المغرب فصل مطير، كثير الأمطار في معظم الأحيان، بعكس الصيف الذي
يكون فصلاً جافاً على الدوام، لكن لم يرَ المسؤولون ضرورة لتغْطية هذا
الركام الضخم من أكياس الطحين والحبوب بغطاء غير منفِذ، فتكفلت الشمس
والأمطار بإفساد تلك المؤن الثمينة، فلقد بدأ الطحين في التحلل، حتى إذا
انفتقت الأكياس حين نقَلها، انبعثت منها رائحة كريهة. غير أن الحكومة بقيت
محتفظة بتلك المؤن، لم تر داعياً لإتلافها، وإنما السلطات في العرائش، على
العكس من ذلك، كأنما هي تجهل جهلاً تاماً، بالضرر التي تمثله تلك المواد،
فتم تحميلها على السفن إلى مدينة تطوان والحدود، لتكون مؤناً للرجال
والدواب! فلم يكن يعني السلطاتِ المغربية أن تكون تلك المؤن قابلة، أو غير
قابلة، للاستهلاك، بل كل ما كان يعني تلك السلطات في مدينة العرائش أن
تنفِّذ الأوامر بنقل تلك المؤن في وقتها المضروب لها! فكانت تحسب أنها بذلك
إنما تقوم بواجبها، ولم يكن ذلك بالأمر المستساغ عندنا، نحن الذين كانت
تلك أولَ مرة، في مطلع العام 1904، ننقل فيها تلك الأكياس باتجاه مدينة
تطوان وعجرود، فقد أبحرت السفينة تلفها ضبابة من رائحة كريهة، لم تتلاش إلا
بعد لاي، بعد إفراغ ما حملت في جوفها من تلك المواد النتنة.
بلغنا إلى الحدود في 9 أبريل بتلك الحمولة الفاسدة، فبدا أن السلطات قد أخذت تتحرك قليلاً.
وكانت جيوش السلطان قد تقدمت حتى ملوية، ونصبت لها معسكراً على إحدى ضفتيه، على بعد حوالي 10 كيلومترات أعْلى النهر.
فقد
كانت تبغي اجتياز النهر ومهاجمة أنصار بوحمارة. ولقد تعيَّن على سفينة
«التركي» أن تدعم تلك العملية من البحر، بقصف قرى القبائل على الضفة
الغربية من نهر مليلية، لإرغام سكان القرى القريبة من المحلة التي تساند
الروغي، على العودة إلى بيوتهم لحماية أموالهم.
وباعتباري لست مغربياً
و»كافراً»، فلم يكن يجوز لي أن أقتِّل المؤمنين، ولذلك لزِم إرسال أحد
القياد إلى ظهر السفينة ليتولى القيادة ويدير أعمالنا الحربية.
ولقد
رشَّح الركينة، الذي كان لا يزال يضطلع بالقيادة العليا، برغم ما تم
اكتشافه من تجاوزاته، رشَّح القايد الحاج علال للقيام بتلك المهمة، ولقد
صعد هذا الأخير إلى ظهر السفينة في يوم 13 أبريل، وأخذ، فور ذلك، في تهييء
مكان له فيها.
وقد كنا، من قبل، أعدْنا ما كان بحوزتنا من المدافع إلى
مدينة تطوان، ولذلك حملوا إلينا على ظهر السفينة مدفعاً قديماً من نوع
«كروپ» ومدفعاً آخر من نوع «شنايدر»، من صنع أقرب عهداً، وعيار من 5،7
سنتيمتر.
ولقد نصبْنا المدفعين على الجانبين من طرف السفينة الأمامي،
مثبِّتين العجلات والمراصد. واصطحب القايد معه حوالي عشرين من الرجال،
ليقوموا على المدفعين، أو بالأحرى ليقوموا على خدمته الخاصة! ولقد اتخذوا
لهم أماكن في الخلفية، فيما كان القايد الحاج علال يهيء له مركزاً له في
المقدمة، وقد كان يود أن يقاسمني حجرتي، فكان ردي عليه بالرفض القاطع منذ
أول تلميح منه بذلك، بحيث لم يجرؤ بعدئذ، على محادثتي في ذلك الأمر.
بدأْنا
المسير، في إطار بعثاتنا الحربية، في يوم 14، على الساعة الرابعة صباحاً،
فإذا طلع النهار كنا قد بلغنا مصب نهر ملوية؛ حيث يفرغ النهر مياهه العكرة
في البحر، في صبغة بلون أصفر كدر.
لقد كان يوماً ماطراً، تعذرت معه
الرؤية إلى الأرض، ثم بدا القايد بعينين ناعستين على سطح السفينة، محاولاً
أن يستدل على الاتجاه. غير أنه لم يفلح، ولزمني، أولاً، أن أدله على
المنطقة، إذ لم تكن له أي معرفة بأمور الجغرافيا، لقد كان القايد جاهلاً
بالقراءة والكتابة، وكانت كل معرفته مقصورة على الحساب؛ لما فيه مصلحته!
ولقد دللْته على مصب النهر، ناحية الحدود مع الجزائر، والجانب الذي لايزال
تحت سيطرة بوحمارة. فأخذ يجول بعينيه في هذا الجانب، وما إن بدت له بعض
المنازل الحمراء، المتوارية خلف الخضرة، حتى بادر بإعطاء أوامره إلى جنود
المدفعية، الذين كان نصفهم قد صعد إلى ظهر السفينة، بالاستعداد للقصف، ثم
شرعنا، حينئذ، من بُعْد 3000 متر، في قصف المزارع الهادئة القائمة في تلك
الناحية.
ولقد اخترقت القذيفة الأولى الجوَّ الهادئ والمعتم، بُّوم! ثم
انفجرت، بعض بضع دقائق، مصطدمة بالأرض، وموقظة السكان، على حين غرة، من
نومهم، وأُطلِقت قذيفة ثانية، ثم ثالثة. حتى إذا استوفت القذائف عشراً، أمر
القايد بوقف «القتال»!
لم يسفر قصفنا عن خسائر كثيرة، فإذا كان أن رمية
قائد جنود المدفعية الذي يسددها بنفسه، تكون رميةً سديدة بلا جدال، فإن
شروط النجاح كانت غير مساعدة، فالمدافع ذات العجلات كانت مثبتة على
السفينة، بحيث لا تتأتى إدارتها إلا بإدارة السفينة كلها! ولا تسمح
السفينة، دائماً، بتحريك أكثر من مدفع واحد، وإدارته في يُسر، ولذلك كان
جندي المدفعية يخطئ اللحظة الملائمة للرمي، حتى وإن أفلح في تصويب فوهة
المدفع نحو ما يبغي من الأهداف، فالسفينة تنحرف قبل أن يتمكن جندي المدفعية
من الرمي، فتصدف رميته عن هدفها! وكان رئيس جنود المدفعية، ويُدعى المعلم
محمَّد، يجيد إلقام المدافع.
وقد كان أمضى وقتاً طويلاً في ألمانيا، وهناك تعلَّم كيفية تشغيل المدافع.
ثم
تلقينا الأمر من «رئيس العمليات» بالرُّسو لبعض الوقت، عند مصب نهر ملوية.
وفجأة ظهر من الضفة الموالية لنا، بعض الرجال ملوِّحين بعلم أحمر.
وعندئذ
أمر الحاج علال بعلم أحمر، وشرع يلوِّح به، ولقد أوضح لي أن تلك كانت
إشارة من رئيس المحلة بالانضمام إلينا، غير أني أعتقد أنه لم تكن له أية
معرفة بالإشارات.
فلما غادر الرجال تلك الضفة، انطلقنا نمخر عباب البحر
باتجاه الجزر الجعفرية، القريبة جداً، فلما بلغناها ألقينا المرساة فيها،
ولبثنا في مأمن بقية يومنا، وفي الصباح الباكر توجهنا إلى ساحل كبدانة، ومن
هناك كان في إمكاننا أن نميز بوضوح، القرى المنتثرةَ فوق بسط خُضر من
البساتين الممتدة في الجهة الشرقية من رأس الماء، وما إن أصبح الحاج علال
على مسافة تسمح له ببلوغ الأهداف، حتى أعطى أوامره بالشروع في القصف.
كان
النجاح هذه المرة، أكبر من المرة السابقة، ذلك أن الرجل الذي تسلَّم
القيادة على السفينة كان خبيراً، وكان يمكِّن لجندي المدفعية من أن يسدد
بأقصى دقة.
وأثناء ذلك كانت القذائف تسقط وسط القرى، كما تؤكد ذلك
أعمدةُ الدخان المتصاعد إلى عنان السماء. غير أن الرجال في البر لم يلبثوا
مكتوفي الأيدي. فقد فتحوا، من مخابئهم خلف الأدغال والصخور، ناراً كثيفة
على سفينتنا، لكن من دون أن يلحِقوا بنا ضرراً كبيراً، إذ لم تكن بنادقهم
بالتي يصل مداها إلينا، بحكم بعد المسافة بيننا، غير أني رأيت الرصاص يصل
حتى حوالي عشرة أمتار من السفينة، وفور ذلك تملك الهلع جنودَنا الأشداء.
فإذا
هم يهرولون فزعين للاختباء وراء المتراس، بين منبطح ومقرفص! وقد بذلت
قصارى جهدي عبثاً لأقنعهم بأن لا خوف عليهم من رصاص العدو، لكن شدة خوفهم
كانت تغلق أذهانهم عن أي تعقل.
نسيت أن أشير إلى أننا كنا قد حملنا
معنا، على متن السفينة، مدفعاً رشاشاً من نوعية قديمة جداً، لا يُعبَّأ
آلياً، ويُشغَّل بواسطة مقود. ولقد صوبناه جهة مخابئ المتمردين، وسرعان ما
أخرسْنا بنادقهم. وفي نفس الوقت استمر الرمي بالمدفعيْن. وفجأة إذا بمدفع
كروپ يتفتت، فلقد انفصلت عنه إحدى عجلاته، فيما كان يطلق النار، وإذا هو
يتفكك إلى قطع، ومن حسن الحظ أن لم يُصَبْ أحد من الجنود على متن السفينة.
وعندئذ أمر القايد علال بوقف إطلاق النار. ثم توجهنا ناحية مليلية؛ حيث تمت إصلاح بعض الخسائر التي لحقت مُعدَّاتنا.
استمر
قصفنا للساحل خلال الأيام الموالية. فأحرزنا، في ذلك، بعض النجاح، فلقد
انضمت قبيلة برج أولاد الحاج، الواقعة في ناحية رأس الماء حتى نهر ملوية،
إلى جانب السلطان، غير أن القايد لم يحسن المعاملة لأنصار السلطان الجدد،
فقد طالبهم، في بادئ الأمر، ببعض الحملان وبكمية من البيض، غير أن ذلك لم
يكفه، ثم عاد يطالبهم بالمزيد، ويهددهم عليه. فكان الأهالي يجأرون بعوزهم،
وأنهم ما عادوا يملكون شيئاً، مما أفقد القايد صبره، فأمر باعتقال أربعة
رجال من القبيلة كانوا على متن قارب، وحملهم إلى ظهر السفينة، وأعلن أنهم
سجناء، وأمر بالاستيلاء على قاربهم. وعبثاً ظل أولئك السجناء، وهم بين 18
و20 سنة، يتوسلون القايدَ لإطلاق سراحهم، ولقد تحتم عليهم أن يمكثوا على
ظهر السفينة لبضعة أيام. حتى إذا جاء أهل القبيلة إلى القايد بأكثر مما
أعطوهم، أول مرة، من المؤونة، أفرج عن معتقَليه، غير أنه لم يكن قد اكتفى
تماماً بتلك الفدية، ولذلك ظل محتفظاً بالقارب المذكور. ولقد صدرت عن صاحب
القارب بعض التهديدات، لكنها ظلت من دون جدوى، فلقد سُلِب المسكين قاربه.
وبعدئذ، حمل الحاج علال معه ذلك القارب إلى قصبة السعيدية حيث لبث هناك إلى
أن نخَر وتلف، إذ لم يهتم به أحد.
وفي واحدة من بعثاتنا، رأينا على
الشاطئ سفينة متمردة راسية، قد وعليها حمولة كثيرة. كانت قريبة جداً من
الشاطئ. فلما اقتربنا، إذا الركاب الركاب قد أسرعوا بالارتماء في الماء،
والاحتماء وراء الكثبان الرملية؛ فقد كانوا يعرفوننا جبداً، نحن وما نريد
بهم، لم يبدوا من عداء، وإنما أخذوا، على العكس، يلوحون من مخابئهم بعلم
أبيض، علامة استسلام. غير أنه لم يكن ليمنع القايد أن يقصفهم ومركبهم، وإن
لم يلحق بهم من أضرار. وقد كان بوسع الحاج علال أن يستولي على مركبهم، لكن
كان يلزمه أن يركب إليه قارباً من القوارب التي على السفينة، فقد كان الماء
شديد الضحالة، بما لا يلائم السفينة.
ولم يكن بين البحارة من أراد أن
يخاطر بحياته، فقد كانوا يخشون، وهم محقون، ألا يسلم أصحاب المركب مركبهم
بهدوء، ولا يقصفون الطاقم وهو من غير حماية. فرفضوا الإذعان لأوامر القايد،
أو أوامري، وأرعد الحاج علال وأزبد، لكن لم يبدر منهم حركة. وحتى لقد
هددهم بأن يبلغ عنهم الوزارة في طنجة، فلم يجده التهديد فتيلاً، وقال أحد
الرجال، في مكر : «إن مضيت، مضينا معك». وما كان القايد بالراغب في ذلك
فتركنا المركب، وواصلنا مسيرنا.
كان من المنتظر مجيء ملك إسپانيا في
فاتح ماي إلى مليلية. فكانت الأشغال على قدم وساق لإقامة أبواب التشريف،
وتزيين المدينة. الجميع في حركة وهياج عارمين. ولم يكن القايد علال يرغب في
أن يفوت الفرصة لرؤية ألفونس الثالث، بيد أننا ذهبنا، أولاً، إلى عجرود؛
حيث كانت لي محادثات في مرات عدة، مع الأمين ومع السيد ساي أيضاً. كان
الاثنان يريان معاً، أن القصف الذي نقوم به لم يكن له جدوى. فلن نفلح به في
إخصاع قبائل راس الما. ولم يكون للقصف يقع على أهل كبدانة، فيقوض بعض
بيوتهم، أن يمنعهم من البقاء إلى جانب محلة الروغي، متى رأوا أننا لا نقدر
على النزول. فقد كان أكثر ما يهم أن لا يجتاز رجال السلطان الوادي، ولا
ينفذوا إلى أراضيهم. وكان الأمين يعتقد أن الحاج علال هو المستفيد الوحيد
من بعثاتنا الحربية، فقد كان، أثناء مقامه على السفينة، يقبض في كل يوم
أجراً زائداً بعشرة دوروات. ولقد أصاب هذا الرجل الجريء، لكن غاب عنه أن
يشير إلى أن القايد كان يقوم، زيادة على ذلك، ببعض المعاملات بما بيديه من
أجور الرجال. غير أن الموظفين المغاربة كانوا لا يحبون الحديث في هذا
الأمر، ففي هذا الباب، لا تجد بينهم من يده نظيفة.
واتفق لي، خلال تلك
النهارات، أن التقيت، بالصدفة، لدى السيد ساي رجلاً عربياً من الجزائر،
أمدنا بتفاصيل غريبة عن الحالة التي كانت عليها محلة السلطان المعسكرة على
ضفاف ملوية. فقد كانت القائمون على المحلة لا يزالون يعزون عدم قدرة الجنود
على اجتياز النهر إلى ارتفاع منسوب الماء، وأما الأهالي فيقولون إن الجنود
الألفين (2000) كان معهم ما يزيد عن ثمانمائة (800) من البنات، فلذلك هم
يمتنعون عن الدخول إلى أراضي العدو!
فلما فرغ القايد من إنجاز مهمته
المزعومة، وعاد إلى ركوب السفينة، رحلنا، في عشية الزيارة التي سيقوم بها
ملك إسپانيا إلى مليلية، قاصدين مكان الاحتفال. وقد سبق لي أن قلت إن رئيس
الرماة كان يقوم بالعناية جيداً بالمدافع. فلما أنزِلت إلى البر، لم تعد
تلقى تلك الصيانة، فهذا أفقدها البراغي التي تشد واقية الوجه والمقود في
مدافع كروپ. فصرنا كلما سددنا بالمدفع، لزمنا أن نزيل الواقية والمقود،
وإلا تراجع المدفع، حين الرمي، فطار في وجه الرامي، وأطار به من على
السفينة. وكذلك اتبعنا الحيلة نفسها عدنا نكرر التحية للقرى على ساحل
كبدانة ببعض الكرات. فقد سدد المعلم محمد رميته، فيما كان المدفعي يتهيأ
لرفع المقود، صاح الرامي بالأمر أن أطلق النار. وعلى الرغم من أن الحسين قد
صاح أن انتظر لحظة، فإن الرجل صاح بأعلى صوته : «دابا!» (الآن). وانطلقت
الرمية، وسقط الحسين جاثياً على ركبتيه، وقد انخرقت يده. كانت لحظة مخيفة.
ففيما عدا الإبهام والسبابة المقطعين، المدميين وعظمة الخنصر، فإن الأصابع
الأخرى ولحم راحة اليد قد أطارت بها الطلقة. وعلى رغم الألم الشديد الذي
استولى على المسكين،لم يكن يصدح بشكوى، وإنما كان يهمهم : «الحمد لله!
الحمد لله!». وقد ضمدنا له يده، وأسرعنا صوب مليلية؛ حيث أدخِل، في مساء
ذلك اليوم، المستشفى العسكري. لكن لم يكن يكن بد من بتر ما تبقى من يده،
والسلاميات المنسحقة. وقد أصبح اليوم عاجزاً.
وفي حوالي الساعة 9 من
صباح اليوم الموالي، دخل ملك إسپانيا ميناء مليلية على متن يخت، تخفره
الطرادة كاردينال سيسنيروس. وتلك كانت بداية يوم من الاحتفالات في هذه
المدينة العسكرية. الناس ههنا، لا يزالون شديدي الوفاء للملكية، أمرٌ لاشك
أن الملك لاحظه، فعندما هم بالرحيل في المساء، في خضم من هتاف الحشود، إذ
وقف على السفينة، ولوح بقبعته في غبطة وفرح. وشعر المغاربة ببعض الإهانة،
إذ أنه لم يستقبل واحداً منهم، وربما دلنا هذا الأمر على رغبة مليلية في
مداراة عبد العزيز والروغي معاً.
كأني بالحاج علال كان يعتقد أن بإمكانه
أن يظل يتجول بسفينتنا، مستمتعاً وساعياً وراء الثروة. ولقد انتشلته في
هدوء من هذا الحلم، بأن أخبرته أننا سنتوجه، عن قريب، إلى طنجة لنركب هناك
مدخنة جديدة، ذلك بأن الأنبوب القديم قد صدأ تماماً، خلال تلك السنوات،
ويوشك أن يسقط في أي لحظة. وقد أرسِل في طلب واحد جديد من أنجلترا، وقد كان
يومها جاهزاً في طنجة في انتظار أن نركِّبه. فلما أخبرت العجوز، في أواخر
شهر ماي، بأن رحلته على متن السفينة ينبغي أن تتوقف، إذا به كأنما جُن
جنونه، فلم أكن، ولا الميكانيكي، بقادر على تحمل مسؤولية الأمن على السفينة
طالما بقيت المدخنة العتيقة، دون أن تُستبدَل. استولى عليه الحنق، طلبت
منه أن يكتب تصريحاً يعلن فيه مسؤوليته عن السفينة، فبدون ذلك لن أستطيع
الاستمرار، وحينئذ، اتهمني والميكانيكي بأننا إنما نريد العودة إلى طنجة
سعياً وراء مبلغ مالي عظيم نغنمه من المدخونة الجديدة. فرددت عليه قولي إن
الحنق من ضياع الدوروات العشرة التي يغنهما في اليوم، هو وحده الذي يمكنه
أن يدفعه إلى التفوه بذلك الكلام الشائن.
وانصرفت عنه. ومع ذلك، فتلك
الفترة الزاهية على الحاج علال كانت ستنتهي ولو من غير ذلك الشجار، فقد
وردت علينا برقية تدعونا إلى التوجه إلى طنجة.
رافقنا الحاج علال إلى
طنجة ليطلب إلى الطريس أن يجعل السفينة رهن تصرفه. لكن لم يكتب له الحظ،
فقد تلقاه الطريس ببرود شديد، وبدا عليه الاستغراب أن يتخلى عن مهمته كقايد
لقصبة السعيدية من غير ترخيص من المخزن.
ولا شك أننا قد انتبهنا في طنجة إلى أن رحلتنا الحربية كانت مكلفة جداً، لكن من غير نتائج ذات بال.
01-08-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 9 -
انشغلنا، في صيف 1904، ببعض الرحلات بين طنجة، والعرائش، وتطوان، ومليلية وعجرود.
وكانت الحدود تغص بكميات وافرة من الدقيق الفاسد، والحبوب ترد عليها من العرائش.
وكان جنود جدد يتوجهون، على الدوام، إلى عجرود، فيما كان الركينة يعيد إلى طنجة أعداداً كثيرة من قدامى الجنود.
وكثيراً ما كان يؤتى إلينا ببعض السجناء لننقلهم في السفينة.
ولقد
أرادونا، ذات مرة، على أن نحمل رؤوساً مقطوعة، قد حُفظت في الملح، وجُعلت
في سلال. لكني احتججت بشدة، وأفلحت في رد تلك الجمولة، وقد كان يتفق لنا،
أحياناً، أن يُرسل إلينا ببعض السجناء من غير قوت، فيكون علي أن أتدخل
لإمدادهم بالخبز على الأقل. ومعظمهم يكونون من البائسين والعجزة والأطفال،
يكادون يهلكون جوعاً، وليس عليهم من الثياب غير أسمال بالية قذرة.
وكانوا من شدة الهزال أن غارت خدودهم، وشاحبين، ولم أكد أرى بينهم رجلاً واحداً حسن الهيئة، أو في متوسط العمر.
كانت
أوضاع المغرب في تفاحش مستمر. ولقد سبق للسلطان أن قبض كثيراً من القروض
الصغيرة، ثم إذا هو يقبض، في شهر يوليوز 1904، من فرنسا قرضاً كبيراً
بقيمة 60 مليوناً، مقابل رهنه %60 من حقوق جمروكه. وكانت الأبناك التي منحت
المغرب ذلك القرض تنوي أن ترسل بمراقبيها الفرنسيين ليقوموا على تدبير
الجمارك المغربية، فقوبلت رغبتها باحتجاج قوي من موظفي الجمرك المغاربة.
فكان
يتم، في كل يوم، تسليم %60 من مداخيل الجمرك إلى الأبناك الفرنسية، لكن من
دون أن يتم تبيان ذلك في الكشوف، بحيث يكون في وسع موظفي الجمرك المغاربة
أن يستولوا على تلك المبالغ، في كل يسر، تبعاً لتقليد درجوا عليه منذ وقت
طويل.
ولم تتحقق الفعالية للمراقبين الفرنسيين إلا بعد مضي وقت غير يسير.
كان
نفوذ الريسولي، هو الآخر، لا يزال، في صعود، ولقد حدث، ذات ليلة، أن اختطف
الثري الأمريكي پيرديكاريس، من منزله الواقع في ضواحي مدينة طنجة،
واستبقاه عنده وقتاً طويلاً، لم يثنه عن ذلك الاستعراضُ الضخم للقوة الذي
كان يقوم به الأسطول البحري الأمريكي في عرض سواحل مدينة طنجة، رداً على
ذلك الاختطاف، ولقد شرط الريسولي الإفراج عن رهينته بتقليده منصبَ عامل على
منطقة فاس، ولقد كان له، بالفعل، ما شرطَ. وأصبح زعيمُ اللصوص هذا، منذئذ،
يقوم على ضمان الأمن في تلك المنطقة، ومن عجيبٍ أنْ عرفت تلك المنطقة، حتى
مداخل مدينة طنجة، من الأمن قدراً لم تنعم به من ذي قبل.
غير أن ذلك
الحادث لم يكن له أن يقلِّص من جو التوتر الذي كان يعم يومئذ، مدينةَ طنجة.
فقد كان يتم التهويل من كل حادث هيِّن، وكان في المدينة، يومئذ، جيوش من
المراسلين من كافة البلدان، فكلما تم تلفيق شائعة من الشائعات، وإشاعتها في
أرجاء المدينة كنثار من البارود، إلا وعجَّل أولائك الصحافيون بالكتابة
فيها، ومراسلة الجرائد الأوروپية بما كانوا يكتبون.
ولقد زاد من القلق
العام الذي كان يسود مدينة طنجة، في تلك الأثناء، توقُّفُ سفينتين حربيتين
من البحرية الفرنسية في سواحل المدينة، تانك هما : سفينة غاليلي، التي
اشتهرت بما كان لها من المشاركة في عملية الدار البيضاء، وسفينة كليبير،
لقد كان توقف تينك السفينتين الفرنسيتين والقرض الفرنسي للمغرب بمبلغ 60
مليوناً أولَ ما بدأ يتجلى من عواقب الاتفاق الذي تم بين انجلترا وفرنسا في
ربيع ذلك العام في شأن كل من المغرب ومصر، وإنه ليصعب علينا أن نجد مبعثاً
لما كان يتملك الأهالي، يومئذ، من الخوف، والتوتر، ذلك أن موقفهم تجاه
الأوروپيين كان ولا يزال موقفاً مسالماً، وكل حقدهم كان ينصب على السلطان،
وبعضُه على الفرنسيين، فلقد أخذ الشعب يستشعر تهدد استقلاله من جانب
الفرنسيين، وأما الفرنسيون فقد كانوا مرتاحي البال، لايساورهم قلق في هذا
الشأن.
وعلى الرغم من أهمية القرض الذي قبضه المخزن من فرنسا، فقد كان
لايزال يعاني مشكلات من الناحية المالية. ولقد أصبح المخزن مضطراً، في
نهاية الأمر، إلى التقليص من أجور جميع موظفي الحكومة إلى الثلث.
وكنا، أنا ومن معي من البحارة، مهدَّدين بالخضوع لنفس الإجراء، لولا أن تدخَّل العجوز الطريس في حزمٍ، للدفاع عنا لدى الحكومة.
ولقد
رفض الجنود الإذعان للأمر بركوب سفينة «التركي»، وشرطوا خروجهم بقبض ما
لهم في ذمة الحكومة من الرواتب المتأخرة. ولقد طالبوا تمكينهم من تسبيق عن
ثلاثة أشهر، زيادة على رواتبهم التي تأخرت عنهم لعدة شهور. ولقد أفلحت
الحكومة في استدراجهم، أول الأمر، حتى المرسى، زاعمةً لهم أن النقود توجد
في الجمرك. حتى إذا بلغت بهم إلى هناك، أغلقت من خلفهم أبواب المدينة، وتم
إركابهم السفينة بالقوة، من دون أن يقبضواً شيئاً من تلك النقود.
ولربما
بدأ مولاي عبد العزيز يلاحظ، شيئاً فشيئاً، أن نائبه الركينة لم يكن
بالرجل المناسب للقضاء على تمرد بوحمارة. ولذلك عمد السلطان، في شهر شتنبر،
إلى استبدال الركينة في منصب القائد، بعبد الرحمان بن عبد الصدوق. ولقد
علِمت بالسبب الذي جعل الركينة يرسل إلى مدينة طنجة بكل تلك الأعداد من
الجنود. فقد كان يقبض أموالاً عن جميع أولئك الرجال، للترخيص لهم بالعودة
إلى بيوتهم. فكان يقبض الكثيرَ عن الأثرياء منهم، والقليل عن الفقراء.
وبذلك أمكنه أن يملأ جيوبه بالأموال، فيما كان السلطان يتحمل التكاليف التي
تتطلبها التعزيزات، من دون أن يعرف الجنود في المناطق المتمردة زيادةً في
أعدادهم. وكان من البديهي أن يفقد مولاي عبد العزيز، وهو الرجل اللطيف،
صبرَه، في نهاية الأمر، من جراء كل ذلك.
وساد الاعتقاد، حينئذ، أن
الركينة أودِع السجن لأجل ما قدمت يداه. ولم يكن ذلك صحيحاً. فلقد بقي حراً
طليقاً، يتمتع بثروته التي اكتسبها بتلك الطرق غير المشروعة. وظل يتمتع
بكرم السلطان عليه! فقد كان السلطان مولاي عبد العزيز قد تخلى كلياً، عن
العادة، التي درج عليها من سبقه من سلاطين المغرب؛ في اعتصار أولئك من
موظفيهم الذين يبالِغون بالإثراء، كما يعتصرون حبات الليمون! ولم يحاول
مولاي عبد العزيز أن يفعل ذلك، في غير مرة واحدة، تجاه المنبهي، وفشِل
فيها. فقد تمكن المنبهي، بعد تسريح السلطان له من منصب وزير الحربية، من
الحصول على الحماية الإنجليزية. ولقد حرصت إنجلترا على حماية ثرواته.
عرفت
الأوضاع على الحدود، عهد ابن عبد الصدوق، شيئاً من التحسن. ولم يعد جنود
السلطان إلى شيء من التماسك إلا شهر نونبر، وقت أن توجه القايد في 500 جندي
إلى وجدة، مروراً بطنجة.
وحل فصل الشتاء. فإذا البحر الهائج يحطم اثنين
من قواربنا أثناء عملية النقل. فما العمل يا ترى؟ كان بحوزتنا 120 حصاناً
في القعر وفوق السطح. فأخذنا نخرج بعضها بدفعها لتسبح في الماء. وبعد لحظات
من التردد، اهتدت الدواب إلى اتجاه البر، فاجتازت مسافة 500 متر في أمان
وأمان.
ولم يلبث الفرنسيون مكتوفي الأيدي خلال فصل الصيف. فقد كانوا
يحاولون النفوذ، تدريجياً، إلى داخل البلاد. فكانوا لا يكفون يرددون تلك
العبارة الفارغة الجوفاء «الاختراق السلمي». وكذلك أخذ السلطان مولاي عبد
العزيز، هو الآخر، يستشعر الخطرَ يتهدده من الجانب الفرنسي.
وفي شهر
دجنبر توجه السفير الفرنسي سان رونيه تايانديي إلى مدينة فاس، بِنِية
الشروع في التدبير للمشروع الفرنسي. فقد جمع عدته، في منتصف ذلك الشهر،
للخروج إلى فاس. ولقد خرج من مدينة طنجة، ولم يكن في نيته أن يسلك الطريق
المباشرة التي تقوده إلى مدينة فاس، عبر المناطق الداخلية، وإنما آثر أن
يمر بمدينة العرائش. ولقد ساءت أحوال الطقس، مما منع من اختراق الحواجز
الرملية في سواحل العرائش، وأخَّر انطلاقنا يوماً عن يوم. واستعاد البحارة
من الأهالي شجاعتَهم، إذ روا في هذا التأخر عوناً من الله. ثم تحسن الطقس
في رأس السنة. وبلغت الأخبار من مدينة فاس أن السلطان مولاي عبد العزيز
سرَّح جميع الفرنسيين من خدماته. فكان رد الفرنسيين على هذا الإجراء بوقف
استعداداتهم، ليتسنى لهم، بذلك، أن يضغطوا على السلطان. ولقد طالب
الفرنسيون بالإعادة الفورية للأوروپيين إلى وظائفهم، وبالغوا في الإصرار
على مطالبتهم هذه، بحيث أمكن لسان رونيه تايانديي، في نهاية المطاف، أن
يستأنف رحلته، في منتصف شهر يناير، باتجاه مدينة فاس. ولقد جعلوا لنا الشرف
المشبره؛ في أن نحمل أمتعة السفير الفرنسي.
وكان وصول السفير إلى مدينة
فاس في مطلع شهر فبراير. ثم كان استقبال السلطان له بعد ثلاثة يام من
وصوله. ولا شك أن السفير الفرنسي قد أوضح للسلطان مولاي عبد العزيز أنه
قدِم إليه باسم أوروپا لمفاوضته في شأن الإصلاحات الواجب إدخالها على
المملكة الشريفة. لكن سرعان ما جاء القنصل الألماني ليخبر السلطان ببطلان
دعوى القنصل الفرنسي، وأنه إنما يتصرف باسم حكومة بلاده وحدها.
عرف
مولاي عبد العزيز كيف يطيل محادثاته مع الفرنسيين ويمطِّطها. فقد تعلَّل
بأنه غير قادر على أن يتخذ، بمفرده، أي قرار في شأن مستقبل البلاد، وأنه
يحتاج، في ذلك، إلى استشارة رعاياه وتصديقهم. واستدعى السلطان شخصيتين عن
كل مدينة وكل قبيلة، ليأتوه إلى مدينة فاس للمشاركة في تلك المشاورات. وقد
كان جمْع كل أولئك الرجال في عاصمة المملكة يتطلب وقتاً غير يسير. ولقد تم
إقصاء بعض من هذه الشخصيات، فلما أصبحت في منتصف الطريق، إذا هي تتلقى
الأمر بالعودة من حيث أتت، مما وفر وقتاً من جديد، إلى أن وصل المعوضون إلى
العاصمة بعد رحلة طويلة. فلما اجتمع الكل، تلقى العربي الطريس ومستشاريه
الاثنين : عصيد برادة وبن ياسر غنام، الأمر بالتوجه إلى مدينة فاس. فتوجه
الطريس وبرادة إلى مدينة العرائش يستقلان إليها سفينة «التركي»، فيما استقل
غنام سفينة فرنسية وضعتها فرنسا لأجل سفر الرجال الثلاثة. ولقد استخلص
الأهالي من ذلك، أن الطريس وبرادة كانا يبغيان أن يظهِرا كرههما لفرنسا،
فيما لم يتردد غنام في ركوب السفينة الفرنسية، بما كان له من التعاطف اتجاه
فرنسا.
فلما بلغ الرجال ثلاثتهم إلى مدينة فاس، لم تكن المحادثات فقد
حققت أدنى تقدم. وكان المفاوضون المغاربة يمنون السفير الفرنسي بالوعود.
وأخذ بقية الأوروپيين يدركون أن فرنسا تغذي في المغرب أطماعاً استفرادية.
فكانوا يخشون أن تنتهي مغامرة الفرنسيين في المغرب بحماية، كما كان الأمر
في كل من الجزائر وتونس. فكانوا يستدلون من هذين البلدين على المآل الذي
ستؤول إليه التجارة الخارجية في المغرب. فمن المعلوم في هذه المستعمرات
الفرنسية أنه يغدو من شبه المستحيل على التجار الأجانب أن يحافظوالهم على
وجود، بسبب ما يضعه الفرنسيون أمامهم من الحواجز الجمركية، وسوى ذلك من
العراقيل والمماحكات.
وكان قسم كبير من التجارة المغربية بأيدي الألمان
والإنجليز خاصة، فكانوا، لذلك، منشغلين بما سيكون مآل البلاد في أيدي
الفرنسيين، ويخشون على عملهم على مدى أعوام كثيرة أن يذهب هباء. ولذلك
أرسلوا بعرائض إلى حكوماتهما يطالبونها بالتدخل لحماية مصالحهم بكل حزم.
ولم تتأخر الإجابات، لكنها لم تكن بالمطمئنة كثيراً للإنجليزيين، إذ تم
التصريح لهم بأن فرنسا تتكفل بنشر النظام في المغرب، والاهتمام بالرعايا
الإنجليز. فيما جاء الجواب الألماني أكثر طمأنة وتشجيعاً للرعايا الألمان.
فلقد وعد المستشار الألماني رعايا بلاده بحماية فعالة عند الحاجة، غير أنه
يعتقد أنه لا يوجد في الوقت الحالي، ما يدعو إلى التدخل، وأن وجود سفينة
مدرسة شتاين، التي كانت متوقفة، وقتئذ، لبعض الوقت، في ميناء مدينة طنجة،
ربما سيكون له أن يسهم في تهدئة نفوس الألمان.
لكن على الرغم من الثقة
الكاملة التي وضعها الألمان في الممثل الألماني، مستشار المندوبية فون
كولمان، وعلى الرغم من طمأنته الدائمة لنا، وبخاصة في خطابه الذي ألقاه
بمناسبة عيد ميلاد الإمبراطور، وعلى الرغم من الدعم الكامل الذي وجده
الألمان منه، وعلى الرغم، أيضاً، وأخيراً، من زيارة جلالة الملك ستين
لمدينة طنجة، فإن الأجواء ظلت على توترها في أوساط الجالية الألمانية، لم
تعرف الانفراج ولا الهدوء.
فقد كانوا جميعاً منهارين، وكان حبهم لوطنهم قد وُضِع في اختبار مرير، فيما كانوا يشعرون كأنما تخلى عنهم ذلك الوطن.
وأما الفرنسيون فقد أخذوا يتصرفون وكأن المغرب يخصهم وحدهم، فكان لسان حالهم : «نحن في بلدنا».
ولقد
كان موقفهم غاية في الغطرسة والتعاظم. وأصبح هذا الموقف يثير لدى بقية
الأوروپيين امتعاضاً قوياً، وهو شعور صرنا نتقاسمه مع الأهالي، تجاه الشعب
الفرنسي الصلِف المتغطرس.
02-08-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 10 -
يمكننا أن نتصور مدى الفرح الذي بعثَه في نفوس الألمان، في تلك الأجواء، الإعلانُ عن إزماع الإمبراطور الألماني زيارة مدينة طنجة.
فلقد
أسرَّ كولمان، في بادئ الأمر، بالخبر المفرح بتلك الزيارة، إلى الجالية
الألمانية وإلى السلطات المغربية، لكن سرعان ما أصبح خبر تلك الزيارة
حديثََ الجميع في مدينة طنجة، وعلى لسان سائر شرائح السكان، ولدى جميع
الجاليات.
ولقد عمَّت، لذلك، مظاهر البهجة أرجاءَ المدينة. وحدهم
الفرنسيون، بطبيعة الحال، كانوا منزعجين من ذلك النبأ، فكنت تراهم يذرعون
شوارع المدينة كأن على رؤوسهم الطير.
تحدَّد موعد زيارة الإمبراطور في
31 مارس. وبدأت الاستعدادات على قدم وساق في المدينة، لتهيئ استقبال يليق
بعظمة هذا الضيف، وأُبلِغَ مولاي عبد العزيز بخبر زيارة الإمبراطور
الألماني في رسالة مستعجلة، فعمَّت، لذلك، الفرحةُ بلاطَ فاس، وأرجاء
المدينة، ولم يكن في مقدور السلطان أن يبلغ إلى مدينة طنجة، في ذلك الوقت
اليسير، بحكم بُعد المسافة بين بلاطه في مدينة فاس، ومدينة طنجة، ولكونه لا
يستطيع السفر إلا في بطء، بحكم ضخامة موكبه، ولذلك بعث بأحد أعمامه؛ ذلك
هو مولاي عبد المالك، ليقوم مقامه في استقبال الإمبراطور.
وكان وصول عبد المالك إلى مدينة طنجة في يوم 29 مارس.
وكنتُ
تعرَّفْت، في 20 من الشهر نفسه، بفضل السيد هورنونغ، على مراسل صحيفة
«التايمز»، السيد هاريس، ولم يكن قد بدأ، في تلك الفترة، بعدُ، في ممالأة
الجانب الفرنسي والتزلف له. لكنه لا يزال من المدافعين عن «مغرب مستقل
يحكمه عاهل مستقل»، ولقد عرض علينا هاريس وجهة نظره في صيغة أقرب إلى هذه :
«لقد سبق له، من قبل، أن حذَّر، على صفحات «التايمز»، الفرنسيين من أن
الألمانيين سيكون لهم، في المستقبل القريب، الوضع الأفضل في المغرب، غير أن
الفرنسيين سخروا من تحذيره. ولقد ظلت فرنسا، إلى ذلك الوقت، تتجاهل
ألمانيا في المغرب، وهو ما لا يكون حتى لأمة صغيرة أن تقبله، فما بالك بأمة
عظيمة كألمانيا! لكن الفرنسيين أدركوا، اليوم، خطَأ تصرفهم. غير أن غضبهم
لم يكن من ديكلاسي ورفيقه، ما دام أن ألمانيا قد تصرفت في العلن، ووفقاً
للمعاهدات.
كانت فكرة زيارة الإمبراطور الألماني فكرة سديدة، كان لها في
نفوس الفرنسيين أسوأ وقع. وليس المغاربة بالذين يجهلون بأهمية هذه
الزيارة، ولذلك ابتهجوا لها أيما ابتهاج، وابتهج لتلك الزيارة، كذلك، سائر
الجاليات الأجنبية، ما عدا الفرنسيين.
ولسوف يَعِدُ الإمبراطورُ
الألمانيين بحماية مصالحهم، وسيكون في ذلك عرقلةُ «الاختراق السلمي» الذي
يدبِّره الفرنسيون. وسوف يكون على السلطان، بطبيعة الحال، أن يُدخِل بعض
الإصلاحات، والأفضل أن يستعين، على إنجاز تلك الإصلاحات، بموظفين من
البلدان المحايدة، كالبلجيكيين والسويسريين.
وقد كان ماك لين يرى نفسَ الرأي. ولم يكن في موقف الإنجليز، في هذا الشأن، ما يخدم جانب الفرنسيين.
فلقد
أشاروا على السلطان بإدخال بعض الإصلاحات بالاستعانة بفرنسا، وهو ما امتنع
عنه السلطان بطبيعة الحال، ولم تكن إنجلترا ملزمة بمد يد العون إلى
الفرنسيين في حالة حدوث أي تعقيد خارج المغرب، عدا أنها كانت مكتفية بمصر،
وسوف يكون من الأفضل عقد مؤتمر دولي في باريز، لحل «المسألة المغربية».
كان
السيد هاريس يعتقد أن فرنسا تجاهلت ألمانيا عند إبرامها لاتفاقها مع
المغرب، إذ كان يُخشى في باريز، من أن يحدث معارضة قوية للغرفة، في حالة
تقديم تنازلات لفائدة ألمانيا. فلم تكن لألمانيا من مصالح في المغرب، في ما
عدا التجارية منها، ويعتقد هاريس، كخلاصة لكل ما سلف، أننا، نحن الألمان،
كنا ممثَّلين تمثيلاً جيداً في مدينة طنجة كما في مدينة فاس في شخصي كولمان
والدكتور ڤاسل، وذلك هو الحكم الذي كان الناس يحملونه، أيامئذ، عن المسألة
المغربية، وحتى من داخل المغرب نفسه!
وكلما اقترب موعد وصول
الإمبراطور، إلا وتزايدت مظاهر الفرحة، وتعاظمت أجواء الاحتفال، ولقد نصبت
الجالية الألمانية بوابة شرفية لِصْق السفارة الألمانية.
وفعل الإنجليز
نفس الشيء في الطريق المؤدية إلى هضبة التجَّار. ثم نصب الأسپانيون في أحد
الشوارع الرئيسية من المدينة قوساً للنصر جميلاً فوق منزلين.
وقدم
المخزن الأموال اللازمة لتنظيم استقبال يليق بمقام الإمبراطور، ولقد كانت
الأبواب الشرفية التي أعدَّها المخزن لتلك المناسبة أبواباً بدائية جداً،
فقد كانت مجرد تسقيل من الخشب مزين بأقمشة متنوعة الألوان.
وقامت
الحكومة المغربية، في عجل، بتبليط الشوارع الرئيسية في المدينة، واقتنت
الزرابي لتغطية أرصفة الميناء، على طول المسافة من المون وحتى مقر الجمرك،
أي على طول 150 متراً من الزرابي، كما جعلت درابزين جديداً على المون،
وأحاطت الحاشية من جانب بشريط أخضر، وتم ترميم البنايات العمومية وأعيدت
صباغتها، كما أعيد صباغة جميع البيوت في المدينة، وتم تزيين جزء من جدرانها
بالأخضر وبالأعلام.
وفي 30 مارس وصلت أعداد كثير من الألمان إلى مدينة
طنجة على متن سفينة بخارية تابعة لشركة أولدنبورغ-البرتغال، خصَّصها لهم
المستشار السري شولتسه. ولقد وضعت هذه الشركة أربعاً من سفنها قبالة مدينة
طنجة لأجل يوم زيارة الإمبراطور، لكي تمثل البحرية الألمانية في المغرب
أفضل تمثيل.
في ذلك الوقت كان القايد ماك لين يتولى القيادة العيا لجميع
الجنود في مدينة طنجة، وهو ما اغتاظ له القائد العسكري الفرنسي بعض الغيظ.
وإجمالاً،
فقد كان الفرنسيون مستائين من جميع الاستعدادات الجارية، وكانوا يدبرون
الدسائس لتعكير جو الفرحة. وكان الشيوخ من سكان المدينة يزعمون أنهم لم
يروا، من قبل، ما يضاهي هذا الجو من الفرحة والاحتفال الذي ساد أرجاء
المدينة. فلقد كانت أياماً رائعة!
ثم حان اليوم المشهود. وقد كان
مرتقباً للإمبراطور، الذي كان يسافر على متن السفينة البخارية هامبورغ
التابعة لشركة هامبورغ أمريكا، ترافقها الفرقاطة الكبيرة «الأمير فريديريك
شارل»، أن يصل، بحسب ما هو مبيَّن في برنامج الزيارة، في الساعة السادسة
صباحاً. لكن ريحاً قوية هبت من الاتجاه الشرقي المعاكس لاتجاه سفينة
الإمبراطور، فأخرت وصول السفينة بساعتين. ولقد شرعت السفن والبواخر الحربية
المتمركزة في الميناء في رفع أعلامها ابتداء من الساعة السابعة صباحاً.
وعلى مقربة من المرسى كانت الجالية الألمانية، والهيئة الديپلوماسية ومولاي
عبد المالك وبقية الأعيان وموظفي الدولة المغاربة وقوفاً ينتظرون نافدي
الصبر، منذ الساعة السادسة. وفي الساعة الثامنة تراءت السفينتان عند
الزاوية الشمالية الشرقية من المدينة. وعندئذ أُطلِقت 31 طلقة مدفيعة
للتحية من السفن الحربية الفرنسية ومن بطارية المرسى.
ثم بدأنا، عندئذ،
في الانتظار من جديد، بفعل الريح التي أصبحت أكثر قوة، وبدأنا نتساءل هل في
مقدور الإمبراطور أن يصل إلى المرسى مع هذه الريح. ثم كان وصول السفينة
الأولى، فلم يكن على متنها غير السيد كولمان والكونت تاتينباخ (وهو، يومئذ،
سفير لألمانيا في لشبونة، وقد كان قبلئذ، سفيراً لها في مدينة طنجة)، وبعض
من أعضاء الحاشية.
وفي لمح البصر إذ سرَت الشائعات في أنحاء المدينة.
فقد كان الناس يتحدثون عن تعرض الإمبراطور للاعتداء. وأياً ما يكن، فلقد
حذَّر القبطانات الفرنسيون من الاقتراب من الساحل بسبب من سوء أحوال الجو.
غير أن الإمبراطور وثِق برأي الأوروپيين، المقيمين في المدينة، والذين
اتفقوا على نفي أي خطورة في ذلك.
وفي الأخير كان نزول الإمبراطور إلى
البر في الساعة 11 . ولقد حيته الفرقاطات الفرنسية بـ31 طلقة مدفعية و31
طلقة من بطارية المرسى. وكان الديپلوماسيون الأجانب انصرفوا، قبيل ذلك، إلى
بيوتهم، فيما لبث الألمان والمغاربة. ولقد حيا الإمبراطور، إذ هو على
الرصيف، في البداية، ممثلَ السلطان، ثم ألقى أحد الألمانيين خطاباً قصيراً
مرحباً بمقدم الإمبراطور، وهتف بحياته. ولقد أجاب الإمبراطور على ذلك
بالتعبير عن اغتباطه لحسن صنيع الألمان في المغرب، ووعدهم بالعمل على
حماية مصالحهم. كما أعرب عن مساندة ألمانيا لاستقال المغرب، وأنها لن تتحمل
أن تنال أية قوة أجنبية من هذا الاستقلال. ثم ختم الإمبراطور كلامه بحركة
ساخرة من يده، قائلاً : «لنكن متضامنين!». وبعد ذلك انطلق الموكب سيراً على
الأقدام على طول الرصيف باتجاه الجمرك، فيما كان آلاف البرابر المتمركزين
على الشاطئ لا يفتأون يطلقون رشقات بنادقهم.
فلما بلغ الموكب إلى الجمرك
امتطى أفراده صهوات الجياد، واجتازو المدينة، متوجهين إلى مقر السفارة
الألمانية، تحت هتاف حشد عظيم من مسيحيين ومسلمين ويهود. كان الإمبراطور هو
وحده وحاشيته وبعض موظفي السفارة ههم الذين ركبوا صهوات الجياد. فكنا
نتبعهم راجلين. وكنا في فوضى عارمة، بحيث لا أزال، إلى اليوم، أتساءل كيف
أمكنني الوصول إلى السفارة. ثم تحتم بضغط الوقت أن يُنقص برنامج الزيارة،
فلم يبق منه إلا زيارة السفارة، فكان ذلك مبعث أسف عظيم للمتفرجين المصطفين
في الطرق الأخرى. لكن حققفت الزيارة الهدف الأساسي منها. فقد كان الجميع
يشعرون أن سيداً زار سيداً آخر، وكان إمبراطورنا يعلن، بذلك، أن المغرب بلد
مستقل.
وفي السفارة، قدِّم إلى الإمبراطور بعض الديپلوماسيين الأجانب،
وكثير من الوجهاء من الجالية الألمانية، ثم قدِّم إليه بعض الأعيان العرب،
وفي الأخير النساء من الجالية الألمانية. ولقد تبادل الإمبراطور عبارات
المجاملة مع كل واحد وواحدة من زواره وزائراته. وبعد كل تلك الاستقبالات
وتلك الخطابات، توجه الإمبراطور إلى منزل القيم على شؤون السوق الكبير،
واستمتع بمشاهده الألعاب التي كان يقدمها المغاربة. ولقد كان السوق من
الاكتظاظ بالناس، بحيث لو ألقيت إبرة وسط تلك الجموع لتعذر أن تبلغ الأرض.
وفي
الساعة الواحدة بعد الزوال أخذ موكب الإمبراطور طريقه، من جديد، باتجاه
المرسى. وفي الثانية استقل الإمبراطور سفينته، وبعد ذلك بقليل غادر المركب
الإمبراطوري. وسُمِعت، من جديد، طلقات التحية تطلقها السفن الحربية وبطارية
المرسى.
كان احتفالاً قصيراً، لكن جميلاً، ظل موضوع حديث الناس في مدينة طنجة لوقت طويل.
ولقد
مر كل شيء بسلام، ولم يحدث ما يعكر ذلك الجو الاحتفالي. وتلقى الإمبراطور،
بطبيعة الحال، الهدايا الموجهة إليه من مختلف الجاليات الألمانية، وكذلك
من السلطان. كما زوِّدت سفينتا الإمبراطور بمؤونة وفيرة. ولقد ظل السكان
الأهالي، الذين يدركون مغزى تلك الزيارة بالنسبة إليهم، في احتفالاتهم طوال
ثمانية أيام أخرى.
بُعيد انتهاء زيارة الإمبراطور الألماني، توجَّه مولاي عبد المالك إلى مدينة فاس. وكذلك فعَل القايد ماك لين.
ولقد
أُعيدَ تعيين الكونت تاتينباخ، من جديد، سفيراً لألمانيا في مدينة طنجة،
إلى حين عودة خلَفِه الدكتور روزن، الذي كان في مهمة خاصة في أيسيني.
وفي 2 ماي توجه تاتينباخ إلى مدينة فاس، بصفة المبعوث الخاص، ليحمل، بصفة شخصية، تحيةَ الإمبراطور الألماني إلى السلطان.
وقد
كان لي، من قبل، حديثٌ طويل مع تاتينباخ، لفتْت انتابه، خلاله، إلى تجارة
السلاح التي أصبحت، وقتئذ، تجارة رائجة في مدينة العرائش.
فقد كانت هذه
التجارة تجري في تلك المدينة، في واضحة النهار. وكان الجمركيون متواطئين مع
المهرِّبين. وكان الحاج عمر التازي، وهو من أقرباء الشيخ التازي، يحقق
الأرباح الطائلة من هذه التجارة غير المشروعة. وقد كان أحد القناصل الأجانب
هو المدبِّر الرئيسي لهذه العملية.
ولقد تمادى هذا القنصل في وقاحته؛
حتى لقد كان يجلب الأسلحة رأساً، على متن القوارب الصغيرة، التي كانت لاتني
تقوم بأعمال القرصنة في مياه مدينة العرائش، وكان يفرغ حمولة تلك القوارب
من الأسلحة في مكان سرِّي في صعيد المدينة.
03-08-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
-11-
وانتهت الاحتفالات وفي يوم 11
ماي، تم إرسالنا إلى مدينة مليلية، لننقل إلى الحدود المحاربين من قبيلة
فرخانة، الذين كانوا، كما قلْت من قبل، قد فروا من وجه بوحمارة، لائذين
بالتراب الإسپاني.
وقد كانوا تطوَّعوا لـمَدِّ يد العون إلى السلطان في محاربته للروغي.
وكان
أكثر ما يدفع هؤلاء إلى القتال إلى جانب السلطان رغبتُهم في العودة إلى
بلادهم، وأن تلك العودة لم تعد بالممكنة إلا بالقضاء على بوحمارة.
ولقد
كان ذلك جيشاً عظيماً في بلد كالمغرب، تولينا نقله على متن سفينة «التركي»
في 18 ماي. فقد كان يتألف من 200 رجل من الأشداء الأقوياء.
وقد جُعِل على رأس أولئك الرجال الفريلي؛ القايد محمد نفسه، شيخ قبيلة فرخانة.
لقد
كانت تلك أولَ عودة لي إلى عجرود، منذ أن كانت زيارة الإمبراطور، فكنت
أتوق إلى معرفة الجو الذي يسود بين الفرنسيين في هذه الناحية.
وجديرٌ
بالذكر أن أحد مواطنيَّ الألمانيين كان قد استقر، منذ وقت يسيرٍ، في هذه
المنطقة؛ ولقد سبق لي أن التقيته، إنه حدَّاد، يُدعى زالوڤسكي.
وقد كان هاجر ألمانيا في شبابه، على غرار الكثير من الأشخاص من غير ذوي التجربة، بسبب مشاداة نشبت بينه وأحد رؤسائه العسكريين.
ثم
انخرط، بعدئذ، في الفرقة الأجنبية، وأدى فيها الخدمة العسكرية. ثم كان
استقراره في الجزائر؛ حيث تزوج من امرأة من بني جلدته في بلعباس.
ورغم
أن زالوڤسكي عاش طوال 16 سنة بين الجالية الفرنسية، فقد ظل ألمانياً قحاً.
وقد كنت أجد على الدوام، متعة كبيرة في السلام على هذا العماد الحقيقي من
أعمدة ألمانيا في هذا الصقع المنعزل، الذي كل سكانه من الفرنسيين وبينهم
قلة من الأهالي.
استمر زالوڤسكي على حبه لبلاده، ولذلك كان من الطبيعي أن يبتهج أيما ابتهاج بزيارة الإمبراطور.
ولقد
حكى لي أن الناس في الجزائر كانوا شديدي الامتعاض؛ إذ يرون أن المغرب قد
أصبح أشبه ما يكون بالمستعمرة الفرنسية، وأنه لم يكونوا يتوقعون أن يكون في
مقدور طرف آخر غير الفرنسيين الحق في الكلام في المغرب.
وقد كان
الفرنسيين قبل تلك الزيارة يتمنوَّن أن لا يُكتب لها التحقق، والحقيقة أن
الناس كانوا يرون أن من المستحيل أن تتم تلك الزيارة، لما فيها من إهانة
للفرنسيين.
حتى إذا قُضيَ الأمر، وأصبحت زيارة الإمبراطور الألماني أمراً واقعاً، صِرْتَ ترى الفرنسيين يرغون ويزبدون من شدة الحنق.
وتملك
السخط، كذلك، ساي ورجاله عندما عرضت عليهم بعض الصورة لزيارة الإمبراطور
لطنجة، فألقوا إليها بنظرة خاطفة، وغمغموا : «همهم» ثم أداروا عنها وجوههم
حانقين.
وكان ساي قد اشترى في تلك النواحي أرضاً فسيحة، زرتها وإياه
نزولاً عند دعوته، فقلد خرجنا في الصباح الباكر نستقل سيارته، فسرنا بطول
النهر الحدودي، مسافة طويلة.
ثم اجتزنا وادياً يتخلل سلسلة من الهضاب،
ويقوم سريراً للوادي، فكنا نُضطر، في بعض المواقع، إلى السير في النهر
نفسه، لضيق الحلق. ثم بلغنا الموقع الذي يتواجه فيه السوقان الحدوديان
الجزائرية والمغربية.
لكن من أسف أننا لم نأت في اليوم المناسب؛ فالسوق لا تنعقد إلا مرة في الأسبوع.
كان الرجال المسلحون من الجانب المغربي يذرعون المكان، وأما من الجانب الفرنسي فقد كان حمل السلاح ممنوعاً.
واجتزنا ساحة السوق التي بدت لنا ميتة، وما هي إلا مسافة قصيرة، حتى بلغنا ضيعة سالووسكي.
إنها
أرض خصبة تقوم فوق هضبة. وتمتد حتى تكاد تصل إلى النهر، وقد كانت في ذلك
الحين لم تُستصلح بعد. وفكرتُ أن الأمر يحتاج إلى المال لاستصلاحها كلها،
واستغلالها، لكن سالووسكي بين لي كيف يمكن للمرء، في الجزائر، أن يتلافى
بسهولة تكاليف الاستصلاح. فالأرض تُدفع كلها بالإيجار، إلى شخص آخر، لعدد
من السنين، من غير إجارة. ويكون هذا الشخص، عموماً إسپانيا، لأن إسپانيا
تمنح الجالية الفرنسية في الجزائر أي عاملة بخسة السعر ومجدة. وتدوم هذه
الإجارة، من غير إتاوة، في معظم الأحيان، ثماني سنوات. فالإسپاني يقتلع
الأدغال، ويزيل الحجارة، ويزرع الأرض كلها، حسسبما التزمن، ويكون له أن
يستفيد في ما تبقى من مدة التعاقد. فإذا انصرم الأجل، استعاد المالك الأرض
التي استصلحها الإسپاني، وما عليها من أغراس الزيتون والعنب، وما أقام فيها
من بنايات، أو يعيد تأجيرها إلى مستأجرها السابق، لكن مقابل أتاوة.
وكان
زالوڤسكي، في ذلك الوقت، يمتلك حوالي 50 هكتاراً من الأراضي، لم يدفع
مقابلها مجتمعة غير 150 فرنكاً. وقد كان يفاوض أحد جيرانه لشراء أراضي
أخرى، يبغي أن يوسِّع بها من أملاكه. ولقد تم له ذلك بالفعل. فقد أدى 3500
فرنك مقابل حصوله على 250 هكتاراً إضافية : 300 هكتار مقابل 5000 فرنك، هل
تتصورون كل هذا الملك المولوي الصغير بهذا السعر البخس!
وسمعنا، لدى
عودتنا من عجرود، بخبر وصول الكونت تاتينباخ إلى مدينة فاس، وأنه حظي
بحفاوة الاستقبال من السلطان مولاي عبد العزيز. ولقد حقَّقت المفاوضات التي
جرت في مدينة فاس بين الجانبين المغربي والألماني بتقدماً كبيراً، بعكس ما
حدث مع السفير الفرنسي وما كان يحمل من المشاريع؛ فقد لبث حيث هو، لم
يتقدم خطوة إلى الأمام، وبقيت مشاريعه مجرد أفكار تدور في رأسه. وجديرٌ
بالذكر، ها هنا، أن الإمبراطور الألماني أعلن، أثناء زيارته لمدينة طنجة،
عن النية في إنشاء ميناء محمي في هذه المدينة. ولقد عهِد السلطان إلى
الشركات الألمانية «أدولف رينشوزن وشركائه»، بداية من شهر يونيو، بوضع
التصاميم الخاصة بذلك الميناء. ولقد أمكن للسيد لاوتر مدير مؤسسة فيليپ
هولتسمان وشركائه، أن ينجز، في وقت يسير جداً، مشروعاً، حظي بتصديق
السلطان، رغم أن الفرنسيين تقدموا، في الوقت ذاته، بمقترح إلى السلطان، في
نفس الشأن، أقل كلفة بكثير، مما يتطلبه المشروع الألماني، لكنه أقل منه
جودة.
ولقد نصح الجانب الألماني السلطان بمضاعفة مجهوداته في حربه ضد
بوحمارة، لما سيكون في ذلك من إنهاء التمرد المؤسف الذي يعم المنطقة
الحدودية. ولقد جهد الكونت تاتينباخ لمد يد العون للسطان، فيما كانت فرنسا
تبذل ما في وسعها لوضع أكثر ما يمكن من المصاعب في وجه مولاي عبد العزيز.
فلم يكن الفرنسيون ليغفروا للسلطان رفضه للمساهمة التي تقدموا إليه بها في
أدب جمٍّ، فكانوا يحاولون أن ينتشلوه من بين مخالب ألمانيا، ليجعلوه بين
مخالبهم. ولقد اعتمدوا في سبيل تلك الغاية، ما لا حصر له من الوسائل.
فلقد
أعلن الجمركيون الفرنسيون في نمور، منذ الأيام الأولى من شهر يونيو، أن
إرسال المغرب للسلاح والذخيرة بطريق البر، من مدينة طنجة إلى مدينة وجدة،
هو من التهريب. ولذلك تمت مصادرة تلك البضائع، على الرغم من أن حق المرور
عبر التراب الجزائري كان مكفولاً على الدوام، لجيوش السلطان في مدينة وجدة.
وسرعان ما أصبحت الجيوش المغربية تفتقر إلى الأسلحة والذخيرة، بحيث تحتَّم
على سفينة «التركي» أن تتوجه إلى ناحية الحدود، محملة بمواد الاستبدال.
ووجدنا الأهالي في قصبة السعيدية غير قلقين في شأن تلك المصادرة، فقد كانوا
يعتقدون أن فرنسا لن تلبث أن ترد إليهم كل ما صادرت منهم. وحدهم الجنود
كانوا يعانون من نقص الأموال، لأنهم لم يتلقوا غير الثلث من رواتبهم، ولم
يكن الضباط بأحسن حالاً من بقية الجنود.
وكان حقاً ما اعتقده الأهالي.
فلم تلبث السلطات الفرنسية أن أعادت، بعض بضعة أسابيع، إلى الجنود المغاربة
ما كانت صادرت لهم من الأموال والذخيرة. كما رفعت الحظر الذي كانت تفرضه
على تزويد جنود السلطان في مدينة وجدة، بالمؤن، من الجزائر. وسرعان ما
تبيننا الأسباب التي دعت الجانب الفرنسي إلى إتيان تلك التدابير. فقد بلغ
إلى مسمعي أن جنود السلطان استولوا، في وقت قريب، على قطيع من 2000 رأس من
الحملان في ملكية الفرنسيين، كان هؤلاء يقتادونها، ليلاً، عبر المنطقة
الموالية لمولاي عبد العزيز. وقيل إن ذلك القطيع كان موجَّهاً إلى بوحمارة.
وإن كون ذلك القطيع قد نُقِل ليلاً ليثبت أن الفرنسيين أنفسهم، كانوا
مقتنعين بعدم مشروعية تلك العملية. لكن ذلك لايغير من الأمر شيئاً، والمؤكد
أن مصادرة الفرنسيين لتلك الأموال والذخيرة قد كانت بغرض الإساءة إلى
السلطان.
ومن الأساليب التي لجأ إليها الفرنسيون، كذلك، بغاية افتعال
النزاع مع السلطات المغربية، ما خصوا به جميع الهاربين من مدينة وجدة من
الاستقبال الكريم في مدينة وهران. وقد كانت السلطات الفرنسية تمتنع عن
الترخيص لأولئك الأشخاص بعبور ناحية مدينة وهران، إلا الحاملين منهم لترخيص
خاص من القيادة العليا، في شخص عبد الرحمان الصدوق، فيما كانت تسلِّم
سواهم ممن لايحملون ذلك الترخيص إلى السلطات المغربية في مدينة وجدة. ثم
سرعان ما أصبح في مقدور كل هارب من مدينة وجدة أن يجتاز مدينة وهران، من
دون أن تواجهه في ذلك أية عراقيل، وأصبح مخولاً لهم أن يسافروا، بكل حرية،
من نمور إلى طنجة. ولقد صعَّدت السلطات الفرنسية من موقفها هذا، بأن أصبحت
تحرص على التعريف بهذا الإجراء المغري بالهروب بواسطة بعض المناشير، ولقد
شجَّع ذلك على ما أصبحنا نشاهد من الهروب الكثيف لأفراد المحلة القائمة في
مدينة وجدة!
ولقد أفلح المخزن في وقف هذه الظاهرة، وحقق في هذا الأمر
بعض النجاح، بما أصبح يقوم به من الاعتقال المباشر للهاربين الذين يبلغون
إلى مدينة طنجة، وإلقائهم في السجون، لتتم إعادة نقلهم، ما أن تسنح الفرصة،
على متن سفينة «التركي»، إلى عجرود. فأصبح السجناء يعودون من إقامتهم
القصيرة، لكن المشؤومة، في سجن طنجة، في أسوإ حال. فكانوا يشكلون، بذلك،
تحذيراً لرفاقهم الذين ربما خامرتهم الرغبة في الحذو حذوهم!.
ولقد أفاد
بوحمارة كبيرَ الفائدة من الموقف الفرنسي. وكان يبدو أن الفرنسيين في
الجزائر أصبحوا يميلون إلى اعتبار بوحمارة آخر وسيلة بين أيديهم، وكانوا
لايتورعون عن الإعلان، صراحة، على صفحات جرائدهم المحلية، أن عليهم أن
يدفعوا بتولية العرش الشريفَ مولاي محمد - فكذلك كان يتسمَّى بوحمارة، رغم
أن الجميع يعلمون أن ذلك مجرد اسم مستعار - مكان مولاي عبد العزيز. ولقد
أخذت فرنسا تمد الروغي، من الجزائر، بوفرة من الأموال، والأسلحة والذخيرة.
وكانت المعارك بين الطرفين تجري، يومئذ، على مقربة من مدينة وجدة، من دون
أن يُحسَم فيها لأي من الطرفيْن. فكان جنود السلطان يفلحون، على الدوام، في
رد المتمردين، وكان أهل فرخانة بخاصة، تحت قيادة القايد محمدي، يفلحون، في
معظم الأحيان، في صد المتمردين، وينصرون مولاي عبد العزيز.
أوكِل إلينا
في منتصف شهر يونيو أن ننقل عدداً كبيراً من الجنود باتجاه المنقطة
الحدودية. ولقد بدا أن ذلك كان أكبر تعزيز نحمله إلى عجرود، بإيعاز من
السفارة الألمانية. وكان يقود هؤلاء الجنود حشدٌ من القادة، كما كان
يرافقهم جوق صغير، كان يعزف، على طول تلك الرحلة، ثلاث مرات في اليوم
الواحد. وسرعان ما وصلت تعزيزات جديدة. وفي 28 من الشهر نفسه، رافقَنا
القايد الحسين. ولقد اصظحب معه حريمه كله إلى الحرب. وضم حريم القايد
الحسين 12 امرأة، قد تلثَّمن جميعاً. وقد تم إسكانهن على نحو لاتبلغ إليهن
نظرات الذكور. وكان القايد رجلاً صغير القامة، حسنَها، صبوح الوجه، ذي شعْر
متوسط السواد. وكان ذا لحية قليلة، حتى ليكاد يكون أمرد، بينما تبرز من
تحت طربوشه، عند الصدعين، خصلات شعر تدل على الشجاعة. ولم يكن يعطي
الانطباع بكونه محارباً، سيما وقد كان ذا وجه أنثوي منتفخ. غير أنه كان
معدوداً عند الأهالي من أفضلَ القواد المغاربة.
لقد أصبح في مقدور جنود
السلطان، بفضل تلك التعزيزات كلها، أن يتقدموا إلى الأمام في مهمتهم. وهو
ما لم يرق للفرنسيين. فقد أصبحوا يرون النصر بعيداً عن حليفهم الجديد
بوحمارة، مما كان يجعلهم بَرِمين فاقِدين للصبر. فقد كان الفرنسيون يأملون
أن يقلِب بوحمارة كل ما يمت إلى مولاي عبد العزيز بصلة داخل مدينة وجدة،
وفي النواحي منها. ولم يكن بوحمارة، نفسه، بالمطمئن كل الاطمئنان إلى
أصدقائه الجدد. فقد كان يخشى أن يكون بالنسبة لهم مجرد أداة للبلوغ إلى
هدفهم، حتى إذا تمكنوا من ذلك، أداروا، في أول فرصة تسنح لهم، أسلحتهم ضده.
ولقد كان محقاً تماماً، في ما كان يجد في نفسه من الارتياب في الفرنسيين.
فلم تكن فرنسا تتعاون إلا مع أولئك الذين هم خاضعون لها كل الخضوع. ولذلك
فما أن تقرَّب مولاي عبد العزيز إلى فرنسا، حتى تخلَّت هذه الأخيرة عن
بوحمارة.
ولقد حاول بوحمارة الاستيلاء على مدينة وجدة بطريق الغيلة
والغدر، فكان فشله في ذلك فشلاً ذريعاً. فقد كان يتعين على ابن بوحمارة؛ سي
الطيب بوحمارة، أن يتظاهر بالصداقة لرجال السلطان، ليشعرهم بالثقة، ويتمكن
من مباغثة العزيزيِّين بمساعدة رجال بوحمارة. لكن لم يلبث سي الطيب أن
افتُضِح أمره، وتم نقله، وشركائه إلى مدينة طنجة، على متن سفينة «التركي».
ولقد ظل يصيح، في الطريق، مدعياً البراءة، ويتوعد بانتقام أبيه. وربما كانت
قصة هذه الخيانة مجرد قصة مختلقة، غير أنني لم أستطع أن أعرف منها أكثر ما
رويت هنا. ولقد تم إطلاق سراح سي الطيب، بعدئذ، بضغط من الحكومة الفرنسية،
لكنه تعهد بعدم التدخل، أبداً، في الوضعية على الحدود.
وكان تاتينباخ
يواصل، في تلك الأثناء، محادثاته مع السلطان. ولقد أصبحنا، نحن الألمانيين
كذلك، نجد الوضعية في المغرب قد أصبحت أكثر فأكثر إزعاجاً، وأصبح الأمر
يدعو إلى تغيير مستعجل. لكننا كنا نعارض، بطبيعة الحال، أن تكون فرنسا هي
المتدخل الوحيد في هذا الأمر. ولذلك اقترح سفيرنا الألماني على السلطان
مولاي عبد العزيز، إذْ هو في مدينة فاس، أن يدعو إلى مؤتمر دولي، للتقرير
في مصير المغرب. ولقد وجد هذا المشروع الموافقة والتصديق الفوريين من
المخزن. وإذا فرنسا قد أصبحت ترى، في أسف، تجمُّد مشروعها في «الاختراق
السلمي»، ولذلك لم تلبث أن انضمت، هي الأخرى، إلى هذا المقترح. ولقد تحاور
الدكتور روزن في هذه القضية مع الحكومة الفرنسية في باريز. ولقد خلصت باريز
وفاس، في شهر أكتوبر، إلى تحديد برنامج ذلك المؤتمر وموعده. ولذلك تعيَّن
على سفراء جميع البلدان الأجنبية أن يغادروا بلاط السلطان، للتوجه إلى
الساحل. فقد تقرر عقد ذلك المؤتمر في الخزيرات، وهي مدينة إسپانية أثرية
صغيرة، تقع في خليج جبل طارق.
لقد اقتصر افتراضنا، حتى الآن، على أن
فرنسا كانت تقدم الدعم المادي لبوحمارة. ولم يكن في مقدور أي أوروپي، من
غير الفرنسيين، أن يقيم الدليل على أن الفرنسيين كانوا يدبرون لأمر مَّا في
سرية تامة. لكن سرعان ما أصبح ذلك الشك حقيقة. ففي أواخر شهر أكتوبر رستْ
سفينتان شاحنتان بخاريتان فرنسيتان في واضحة النهار، في مار تشيكا؛ حيث
توجد سلوان، تلك القصبة التي كان يحتلها بوحمارة. ولقد أنزلت تانك
السفينتان، هناك حمولتيهما من الذخيرة والأسلحة. غير أن ذلك الدعم لم يكن
بالنفع الكبير لبوحمارة، فقد كانت سلطته وصِيتُه في تقلص مستمر. وقد كان
ذلك أنسب وقت للقضاء عليه في الحال. غير أن قواد المحلات العزيزية لم
يكونوا على اتفاق في ما بينهم، فلم يكن في مقدورهم أن يوجهوا إليه مجتمعين،
الضربة القاضية.
كما كانوا يخشون أن يفقدوا مداخيلهم الهامة، بعد
القضاء على بوحمارة، وكان هذا هو السبب الأساسي الذي جعلهم يمنحونه مزيداً
من السلطة، ويقتصرون على احتوائه.
وسرت الشائعات بتورُّط السيد ساي في
عمليات تزويد بوحمارة من الأسلحة. ولقد آثر ساي، بدهائه، أن يلتزم الصمت،
فلم ينبس بشيء في شأن هذا الزعم. وكانت منشآته في مرسى ساي في تنامٍ
متواصل، لكن يبدو أن الأشغال لم تكن تسير على النحو المناسب. ولقد أمكنه،
بالتدريج، أن يشيِّد رصيفين، ويتعين إطالتهما لأجل مدهما داخل البحر،
ليتأتى، في نهاية الأمر، تكوين ميناء محمي. بيد أن الشاطئ كان يزداد
تنامياً واتساعاً، موازاة لازدياد حجم الرصيفين، إذ كان مد البحر يأتي
محملاً، على الدوام، بمزيد من الرمال. وبدلاً من أن تسفر الأشغال عن ميناء،
كان كلَّ ما تم التحصُّل عليه أرضٌ رملية جديدة. ولذلك بدا لي هذا العمل
مضيعة للوقت وإضاعة للمال.
وفي 7 نونبر وصل مندوبنا الألماني الجديد؛ الدكتور روزن، إلى مدينة طنجة؛ حيث تولى إدارة الشؤون الألمانية.
ولقد
أفلح في أن يحوز، في وقت قصير جداً، ثقة الجالية الألمانية في المغرب
وعطفها الكاملين. وأصبح روزن مستشاراً مخلصاً لجميع المقيمين الألمانيين في
هذا البلد. وبعد وقت يسير من ذلك، غادر الكونت تاتينباخ المغرب، على أثر
انتهاء مهمته فيه.
فلما غادر جميع السفراء الأجانب مدينة فاس، سرَّح
السلطان، كذلك، الأعيان المغاربة الذين كان دعاهم للتشاور في شأن المقترحات
الفرنسية، بغاية تحسين الأوضاع، غير أن المفاوضات لم تجر على نحو ما كان
يتوقع الفرنسيون. فكان ذلك فشلاً ذريعاً لمشروعهم في الاختراق السلمي.
وغادر
الطريس وغنام، كذلك، في الأخير، مدينة فاس متوجهيْن إلى مدينة طنجة. وكان
بلوغهما إلى مدينة العرائش في مطلع شهر دجنبر. ومن هناك استقلا سفينة
«التركي» إلى مدينة طنجة، ليضطلعا هناك، من جديد، بالمهام الموكلة إليهما.
ولقد رافقهما في رحلتهما، رجل أسود، كان قاصداً، كذلك، إلى مدنة طنجة، وكان
يدعى الحاج الناصري، وقد كان، من قبل، صديقاً حميماً لبوحمارة، ثم عاد،
بعدئذ، إلى موطنه. لكنه أصبح، الآن، يتظاهر بالصداقة لمولاي عبد العزيز،
بغرض التجسس لفائدة بوحمارة. ولقد وجدنا فيه، خلال تلك الرحلة، مشعوذاً
غاية في البراعة. فقد كان يفرِّجنا على ضروب من السحر، خليقة بأن تثير
الدهشة والتقدير فوق خشبة أي مسرح من المسارح الأوروپية. وكنا نجلس إليه
متحلقين حوله، في خلفية السفينة، فيما كان «يشتغل»، مفيداً كبير الفائدة من
لباسه العريض، ولقد أخذ بألباب مشاهديه من الأهالي، فكانوا يعتقدونه
ممتلكاً لمواهب إما أن تكون ذات أصل شيطاني أو تكون ذات أصل رباني، وعبثاً
حاولْت أن أقنعهم أن ما يرون من ألاعيبه إن هو إلا خداع وتمويه.
حكى لنا الرجل الأسود أن بوحمارة هو من لقَّنه ذلك الفن، وأن الروغي أفضل منه بكثير في مجال السحر.
ولقد
أدركنا، نحن الأوروپيين، مصدر ما يمتلك بوحمارة من سلطة في محيطه، وما
يجعله يبث من الخوف والفزع في نفوس أعدائه : لقد جعل الناس يعتقدون بمهمته
الربانية بفضل ما كان بارعاً فيه من الشعوذة، فلقد كانت الشعوذة أفضل سلاح
له.
وسرعان ما توجه الطريس، والمقري، والصفار إلى الخزيرات مبعوثين للسلطان؛ حيث ابتدأت أشغال ذلك المؤتمر في فاتح يناير.
04-08-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 12 -
قمنا، في 16 دجنبر، برحلة
إلى ناحية عجرود، لتسليم الإمدادات الجديدة من الذخيرة إلى المحلات
المرابطة في تلك الناحية. فلما كنت أهم بتوديع الطريس، إذ استلم المراسلات،
فكلفني بأن أعرِّج، في طريق عودتي، على مار تشيكا، لأتحقق مما إذا كان
الأهالي منكبين على العمل في تلك الناحية، أم أن الإسپان رفعوا علمهم فوق
كاپ ريستينغا. فلقد تناهى إلى مسامع الطريس أن بوحمارة باع الإسپان تلك
ناحيةَ، فأراد العجوز حينها أن يتأكد من صحة ذلك الخبر.
ولقد علمت إذْ
أنا في قصبة السعيدية أن بوحمارة فاوض الإسپان في بيعهم تلك الأراضي، لكن
منعتْه منه القبائل المحلية. غير أن الروغي لم يتخل عن مشروع الحصول على
الأموال بهذه الوسيلة، وقيل إنه على علاقة ببعض الفرنسيين، وإن هؤلاء
يدبِّرون لإنشاء ميناء في منطقة مار تشيكا، وقد كانوا، في تلك الأثناء،
يمدونه من الأسلحة والذخيرة. علمت بهذا الأمر من أهل فرخانة، وكانت بهم
رغبة شديدة في الإبحار على متن سفينة «التركي» باتجاه كاپ ريستينغا، ليتسنى
لهم من هناك، القضاء على بوحمارة، غير أن بقية جنود السلطان لم يكن يبدو
عليهم أنهم ميالون إلى تأييد هذا المشروع تأييداً فعلياً. وبذلك بقيت
الأمور معلقة، كشأنها عادة.
وتلقينا الأوامر، في 19 من دجنبر، بالإبحار
بطول ساحل كبدانة، باتجاه مار تشيكا. وكان الجو غاية في الروعة، والبحر
هادئاً والرؤية جيِّدة. فإذا طلع النهار، كنا قد بلغنا إلى كاپ ريستينغا،
ورأينا فوق إحدى الهضاب، معسكراً صغيراً تخفق فوقه راية بوحمارة الخضراء.
كما رأينا خيمة خضراء وسط الخيام، وكان المعسكر كله يغط في نوم هادئ.
أخبرْت
الطريس بما رأينا، فكان اعتقاده أن المعسكر إنما يستعمل العلم الأخضر
لبوحمارة مجرد غطاء، لأن الروغي لم يكن، وقتئذ، في تلك الناحية، وإنما كان
في سلوان، والأرجح أن تكون تلك الخيام لـمهرِّبين فرنسيين أو إسپان. ثم
جاءت الصحافة الإسپانية، بعدئذ، لتثْبت صحة رأي الطريس. كما أثارت هذه
الصحافة الانتباه إلى ما كان يدبِّره الفرنسيون في مار تشيكا، وحذَّرت منه.
وإذا
لم يكن من شك في أن زيارة الإمبراطور الألماني إلى مدينة طنجة ومؤتمر
الخزيرات المقبل قد رفعا من معنويات السلطان مولاي عبد العزيز، فإنهما لم
يُجْديا فتيلاً في تسوية الارتباكات المالية التي بات يتخبط فيها المخزن.
فلقد كانت حالة الموظفين النظاميين تزداد سوءاً على سوء، ويزداد الاختلال
في أداء رواتبهم تفاحشاً. وربما كان ذلك نفسه حالَ الموظفين والعمال في
الميناء. وإذا كان من المسوَّغ خفض رواتب جميع موظفي المخزن، بعد أن أصبحوا
في حكم العاطلين، ولم يتعلموا شيئاً، وتقلص ما كانوا ينهضون به من أعباء،
فإن عمال الميناء كانوا عمالاً حقيقيين؛ فقد كانت تقع على كواهلهم عمليات
الشحن والتفريغ، وكذلك كان الشأن عند البحارة العاملين على متن قوارب
التحميل والتفريغ؛ أولئك الرجال الأشداء! ولم يكن لهم من الموظفين إلا أنهم
يقومون بكامل عمليات المرسى التي تحتكرها الحكومة المغربية. وقد كانوا
يأتمرون بأوامر قبطان الميناء.
ولقد أقدم هذا القبطان، في أعياد الميلاد
لسنة 1904، على اقتطاع عدة أسابيع من رواتبهم المقلَّصة في أصلها، فضاقوا
ذرعاً بالأمر، وبلغ بهم إلى الامتناع عن العمل.
وتلك كانت أول مرة نشهد
فيها إضراباً حقيقياً في المغرب، ونرى فرق المضربين ومقاومي الإضراب.
وتوقف نشاط المرسى، وتوقف، كذلك، نشاط الملاحة.
وأصبح كل نشاط المرسى
مقتصراً على مرور المسافرين، فيما بقيت التجارة معطلة. ولم يظهر قبطان
الميناء للأنظار. ولم تجد الحكومة بداً، في نهاية المطاف، من الإذعان
لمطالب المضربين، فقبض العمال رواتبهم، وزيادة. وعادوا من فورهم إلى
استئناف عملهم.
وفي تلك الأثناء تم الكشف، في مدينة طنجة، عن عملية غش
واختلاس كبيرة؛ كان بين مدبِّريها الرئيسيين أحدُ كتاب الوزارة، يُدعى
القباج. فلقد ظل مدبرو هذه العملية يهرِّبون، طيلة شهور، كميات كبيرة من
الحرير، من دون أداء مستحقات الجمرك. ولقد يسَّر لهم تلك العمليات
الجمركيون، الذين كانوا شركاء لهم فيها. ولقد تم طرد الجميع من وظائفهم،
وأُجبِروا على أداء غرامات. ولم يُسجن منهم سوى موظف واحد؛ ذلك هو قبطان
الميناء الحاج عبد الرحمان، وإن كان بريئاً تماماً من تلك العمليات، فكذلك
أراد له الآخرون، الذين كانوا جميعاً رؤساءه. ولقد كان الحاج عبد الرحمان
رجلاً محبوباً من الجميع، لكن لم يتسنَّ إطلاق سراحه، بعد وقت غير يسير،
وكان الفضل يرجع في ذلك، تخصيصاً، إلى تدخل الأوروپيين في شأنه لدى الحكومة
المغربية. وأما الآخرون فقد كانوا ينحدرون من كبريات الأسر المغربية، مما
منع من إدانتهم.
وفي 14 يناير، تم إرسال سفينة «التركي» إلى مدينة
العرائش، لتأتي من هناك، بأحد السجناء، وأربعة من المدافع. ولقد وجدنا
السجين المذكور في حراسة مشددة. فقد كان متهماً باغتيال القنصل النمساوي
مادن، في مدينة الجديدة. ولقد تعرض السجين للتعذيب، جلداً بالسياط، حتى
أقرَّ بجريمته، والحق أن القنصل القتيل كان قد ساهم في تلك النهاية
المأساوية التي انتهى إليها. فقد كان القاتل تحت حمايته، فكان يستغله في
مآربه الشخصية. ولقد بالغ في التنكيل بالرجل، حتى لقد خرج به عن رشده، وحتى
كانت تلك الجريمة التي تخلص بها المعذَّب من نيْر المعذِّب. ونحن نقف على
هذه القصة المؤلمة نفسها في جميع أعمال العنف التي تستهدف الأوروپيين،
مسلطة ضوءاً غاية في الإيلام، على تصرفات كثير من المسيحيين في المغرب.
وأما
المدافع التي كان يتعيَّن علينا حملها إلى مدينة طنجة، فقد كانت توجد في
الحصون البرتغالية في المدينة، فضلاً عن كثير من العتاد الحربي. ولقد تطلب
تجميع قطع المدافع بعض الوقت، وتطلب منا تعليب كل ذلك وتكديسه، وتهييئه
ليُنقَل على متن السفينة بضعة أيام.
ولقد اغتنمت الفرصة لأستطلع تلك الحصون من الداخل، وهو أمر كان محظوراً على كل شخص لايحمل إذناً بالدخول.
إنها
بنايات ذات مظهر خارجي متين، وكذلك هي تعطي الانطباع من الداخل بالأمن
والأمان. والداخل إلى تلك الحصون يدخلها من بوابة حديدية قديمة، فيجد نفسه
في ردهات ضيقة وعالية، لازالت مغطاة، وفي حالة جيِّدة، فيما الغرف المتصلة
بها قد تهدم قسم منها. وفي الردهات أكوام هائلة من المدافع، والبنادق،
وصناديق الذخيرة. وسبيل شديد الوعورة، لكن سالك، تغطيه أعشاب برية، لكن
معتنى به شديد العناية، يقود صعداً إلى الأسوار. وفوق أسطح الردهات يوجد
ركام هائل من المدافع التي يعود صنعها إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وتنتصب هذه المدافع فوق أعمدة خشبية متآكلة منذ وقت طويل، وهي لازالت
رابضة في المكان الذي تُرِكتْ فيه.
ولقد نبتت بعض الأشجار في الحوائط
والخرائب، فكانت تسهم، في بطء، لكن في بحتمية، في انهيار هذه الحصون. ويجد
الداخل إلى هذه الحصون تحت الردهات المغطاة التي ذكرناها آنفاً، مطمورات
هائلة، أقدِّر عمقها بما بين 10 أمتار و15 متراً. ويُقال إن البرتغاليين
كانوا يتخذون هذه المطمورات سجوناً، كما كانوا يتخذونها حمى يلوذ بها سكان
المدينة. وأما في الوقت الراهن، فقد أصبحت هذه المطمورات مخازن هائلة
للذخيرة. ولاينفذ الهواء ولا الضوء إلى هذه الحصون إلا من سراديب المداخن،
وليس على الجدران أية كتابة يمكن أن تدلنا على عمر هذه البنايات أو أصلها.
ثم
كان انطلاقنا باتجاه مدينة طنجة في 20 من الشهر نفسه. فلما بلغتُها تلقيت
دعوة الطريس إليَّ لأمضي إليه في الوزارة. ولم يلق إليَّ بغير أمر واحد :
أن على سفينة «سداة التركي» أن تكون على استعداد للتوجه ليلاً، إلى عجرود؛
حيث سيتعيَّن علينا أن نحمل إلى هناك بعض الرسائل، وننتظر الأمر من مدينة
وجدة. ولقد استقل السفينة نحو 50 من الجنود ونحو 20 من جنود المدفعية. ولقد
أنزلناهم جميعاً في عجرود؛ حيث لبثوا هناك. وبقينا ننتظر الأمر من وجدة،
لنحمل المدافع على متن السفينة، ونقصد مار تشيكا، حيث سنُنْزِل هناك الجنود
الخمسين، ونموِّه على إنزالنا للمدافع.
ولقد بدا واضحاً منذ البداية،
صعوبة ذلك الإنزال، فقد رفض الجنود أن يطأوا أرض العدو. وكان يبدو على
المقاتلين أنهم تنقصهم الجسارة، كما كان القائدان، وهما اللذان تلقيا
تكوينهما، من دون نجاح، في إيطاليا، وكان يقع عليهما قيادة سيفنتي الإنزال،
كان هذان القائدان جبانين خوافَّين، فكانا يرتجفان فزعاً منذ أن خرجنا من
مدينة طنجة.
وكان البحر عاصفاً جداً، مما أجبرنا على أن نعود أعقابنا
إلى مدينة طنجة. ولم يتأت لنا أن نبلغ إلى عجرود إلا في 31 يناير. فلما
وطئت قدمي تلك الناحية، أخبرني القايد أن السيد ساي وزمرته كلها قد تحولوا،
فجأة، إلى جانب بوحمارة، فأصبحوا من أشد أنصاره، يستميتون جميعاً في مده
بأقوى دعم وأنجعه.
لقد بدا لي تحوُّل السيد ساي إلى جانب بوحمارة، في
بادئ الأمر، أمراً يصعب تصديقه. لكن لم ألبث أن تثبتْت من هذا الأمر من
الفرنسيين في پور ساي. قد حكى لي أحد المستخدمين في مرسى ساي، كان يعمل
بستانياً لدى السيد ساي، أن اثنين من أصدقاء السيد ساي كانا ينزلان، في تلك
الأيام، ضيفين في مار تشيكا. وكان ساي، نفسه، في فرنسا ليجمع الأموال
لبوحمارة. ثم شاءت الظروف، في نهاية الأمر، أن يجنح يخت السيد ساي، المدعو
«آيْدرْ»، منذ أيام، إلى الصخور قبالة المركز التجاري، ويغرق بما حمل على
متنه من الأشخاص والأموال. وقد كان يخت «آيدر» يقوم بأعمال النقل بين مرسى
ساي ومار تشيكا. ولقد أفاد ساي، في خطاب له، أنه كان على علم بنيتنا، نحن
الألمان، في مهاجمة مركزه التجاري، وقد بث ذلك خوفاً عظيماً في نفوس
المستخدمين في ذلك المركز ولقد حاول ساي أن يستدرجني في الحديث، وحاصرني
بأسئلته البارعة، لينتزع مني بعض الأسرار، فما ظفر مني بغير إجابات هروبية
غامضة. ولقد علِمت من الرجل، في نهاية محادثتنا، بنصب عنابر كبيرة في مار
تشيكا، لتخزين الكميات الكبيرة من السلع والمواد الغذائية.
أعطاني السيد
زالوڤكي مزيداً من التفاصيل في شأن هذه القضية. ولقد كان، بحكم جنسيته
الألمانية، يثق في ما يسمع من الأهالي، وكان يأخذ الكثير من أفواههم.
وقدَّم لي الرواية التالية في شأن قضية مار تشيكا :
كان للسيد ساي ابن
متبنَّى، يُسمى بورمانسي. وكان شاباً غريب الأطوار، ذا ميرل فوضوية. وقد
كان على اتصال مع بوحمارة، منذ وقت طويل. وكان كثير السفر إلى سلوان ومار
تشيكا. ولقد أفلح في إقناع السيد ساي بمرافقته في إحدى سفراته تلك. ولقد
انتهى الأمر بساي بالتوجُّه، في مطلع شهر يناير، إلى تلك الناحية على متن
يخت «آيدر»، ثم عاد، فإذا هو مفعم النفس حماساً شديداً مما رأى من ذلك
البلد. فلقد تبين له، فور ذلك، أن من اليسير إنشاء ميناء في تلك المنطقة.
ثم كانت للرجلين مقابلة مع بوحمارة لمدة ساعتيْن. وقد ظل بوحمارة، طيلة تلك
المقابلة، ممسكاً مسدساً في كل يد، وكان فوق الطاولة بينهم دزينة من
المسدسات. وقد جلس أمامه ساي ورجل فرنسي آخر، راكعين، مقوسي الظهرين، في
احترام بالغ للروغي. ولقد طالب بوحمارة الرجلين بمليون فرنك، تؤدى له
عيناً، ليتنازل لساي عن الميناء في مار تشيكا، كما طالبهما، علاوة على ذلك،
بنحو 15000 بندقية. ولقد أعطى بوحمارة، في الوقت نفسه، وعداً لساي، إذا
أصبح ملكاً على المغرب، أن يمنحه القسم من الأرض الممتد من مدينة مليلية
حتى الريف، فضلاً عن خلفية البلد من الجبال القريبة. ولقد لبث ساي هناك مدة
10 أيام، وقد عقد عزمه على أن يخترق لسان الأرض الفاصل بين البحر والقناة
الداخلية، ليجعل من مار تشيكا ميناء طبيعياً وآمناً. كما كان يبغي أن ينشئ
في أقصى تلك الناحية، مدينة تسمى «المحمدية»، تكون تتركز فيها التجارة
كلها، مع المناطق الداخلية من البلاد.
وفور عودة ساي إلى منطقته، إذا هو
يتوجه إلى فرنسا، ليجمع الأموال لبوحمارة. فيما غادر بورمانسي على متن ذلك
اليخت إلى مار تشيكا. ولقد حان من هذا الشاب الحالم، عند مغادرته لتلك
الناحية، مثال على ما هو معهود فيه من الطيش؛ فقد رفع فوق يخت «آيدر»
العلمَ الأخضر لبوحمارة، بدلاً من العلم الفرنسي، وهو لا يزال، بعد، في
المياه الفرنسية. ولقد دهش لذلك رجال السلطان في قصبة السعيدية. فلما جنحت
سفينته، في تلك الليلة نفسها، جنوحها ذاك الذي تحدثنا عنه، رأوا في ذلك
عقاباً من الله للفرنسين على ما بدر منهم من وقاحة وطيش! ولقد بذل بورمانسي
وديبلر، «قائد الأركان الحربية» الفرنسي في جيش بوحمارة، كل ما في وسعهما
من أجل دفع بوحمارة إلى مهاجمة قصبة السعيدية، لكن عبثاً حاولاً. ولقد بدأت
تأخذ بوحمارة الريبة والحذر من رجاله الذين أخذوا يستهجنون علاقات قائدهم
مع الفرنسيين، كما يستهجنون بيعه الأرض المغربية لهم.
تلك كانت الرواية
التي قصها عليَّ زالوڤسكي. ولقد وجدتها رواية من الأهمية البالغة؛ بحيث لم
أتمالك نفسي من محاورة موظفي السلطان، يوم 1 فبراير، في قصبة السعيدية في
شأنها.
وكان القايد علال، والأمين بن يعقوب، والقايد محمدي، من فرخانة، يتناولون طعام الفطور، في كوخ ذي سقف خشبي، عند مدخل القصبة.
فلما
جئتهم رفقة ترجماني وجدتهم لتذون بقضم فطائر تقليدية، قُليَتْ في زيت
زنِخة. ثم مسحوا أيديهم في طرف قماش شديد القذارة. وعندئذ بدأنا محادثتنا.
ولقد وصل زالوڤسكي أثناء ذلك، والتحق بنا.
أفضينا إلى الرجال الثلاثة
بكل ما تكوَّن لدينا من معلومات عن علاقات ساي مع بوحمارة، وعن نوايا هذا
الأخير في مار تشيكا. وأثرت انتباههم، بخاصة، إلى الخطر الجسيم الذي يتهدد
جنود السلطان في حالة استلام بوحمارة لتلك الأموال، وتلك الكمية العظيمة من
البنادق الفرنسية. ولم أتمالك نفسي من أن أبدي لهم رأيي الخاص في هذا
الشأن : فقد كنت أجد أسلوب ساي أسلوباً غاية في الخسة والانحطاط، وكنت أرى
أن من غير المعقول أن تساند الحكومة الفرنسية هذا الرجل السفيه وتدعم
أعماله الموجهة ضد السلطان.
ولقد اقترحت عليهم، في الأخير، أن أخبر العجوز الطريس بجميع هذه الأمور، بواسطة مبعوث خاص.
أبدى
الموظفون الثلاثة الكبار تأييدهم لمقترحاتي، لكن لم يكن في مقدورهم أن
يفعلوا شيئاً من تلقاء أنفسهم. غير أنهم اتفقوا، في المقابل، على أن
يخبروا، في أول الأمر، القائدَ الأعلى لمدينة وجدة؛ سي عبد الرحمان بن عبد
الصدوق، ويتركوا له أن يقرر ما يشاء.
هكذا انقضت أيام أخرى، في جمود وانتظار.
فلما
كنا نقترب بسفينة «التركي» من الساحل، في 3 فبراير، في طلب المؤن، إذْ بلغ
إلى علمنا خبر مغادرة جنود السلطان لمدينة وجدة، وأنهم يعسكرون، في تلك
الأثناء، فوق نهر ملوية. كما كان يُنتظَر وصول سي عبد الرحمان، في وقت ريب
جداً، إلى قصبة السعيدية.
وأثناء ذلك، كانت السفينة البخارية الفرنسية
«لو زينيث» تبحر، أمام أنظارنا، ما بين مرسى ساي ومار تشيكا، من دون أن
يكون في مقدورنا أن نحرك ساكناً، إذْ لم نكن قد تلقينا، بعد، الأمر
بالتدخل!
وفي 4 فبراير اضطرَّنا النقص في المؤن وسوء أحوال الجو إلى
مغادرة مرسانا في عجرود، والبحث عن حمى في الجزر الجعفرية. ولقد زرت عامل
تلك الجزر، وتحادثنا طويلاً في الدسائس الجديدة التي يحوكها الفرنسيون في
مار تشيكا. فعلِمت منه أن الساحل الممتد من ملوية حتى مدينة مليلية يدخل
كله، في منطقة المصالح الإسپانية، وأن الإسپانيين سيحرصون على التخلص، في
أقرب وقت ممكن، من هذه المنافسة المكلِّفة.
أصبحنا، بداية من تلك
اللحظة، كثيراً ما ننزل هذه الجزر. إنها ثلاث جزر صغيرة، تشكل نصف دائرة،
تنفتح من ناحية الجنوب. وتوجد تلك الجزر على بعد ميلين بحريين من القارة
الأوروپية، مشكلة ميناء مثالياً، وهو الميناء الوحيد الآمن على السواحل
المغربية الممتدة من الحدود الجزائرية حتى مدينة طرفاية، في المحيط
الأطلسي.
إنها جزر كثيرة الصخور، يندر فيها الشجر والعشب، ولا تتعدى ساكنه هذه الجزر 500 فرد، ينتمي 49 منهم إلى أسرة واحدة.
والجد السعيد هو العجوز فرانسيسكو أوزس، أكبر تجار تلك الناحية، وهو يدير محلاً لبيع الكحول، كما يعمل موظفاً في المعزل الصحي.
وقد
كان يسكن هذه الناحية، من قبل، 50 من الجنود، يقومون على حراسة عدد كبير
من المجرمين، فقد كانت إسپانيا تتخذ تلك الجزر سجناً للدولة. وأما اليوم،
فقد تم نقل أولئك المجرمين إلى مدينة سبتة، إذْ لزِم توسيع الميناء،
ويُحتاج في ذلك، إلى مكان للعمال، لكننا يمكننا أن نتساءل إن كان ذلك
البناء يبرر المصاريف التي صُرِفت فيه، إذ كانت التجارة مع القارة
الأوروپية قد تقلصت كثيراً يومئذ، ولم تعد السفن ترسو في هذه الجزر إلا
للاحتماء من سوء أحوال الجو. لقد كانت الجزر الجعفرية من القحط والمحالة
بحيث كان يلزم أن تُحمَل إليها المواد الغذائية، وحتى الماء الصالح للشرب.
لكن كان في الإمكان التزود منها بالمؤونة، بأسعار زهيدة.
وكانت الطرادة الفرنسية «لالاند» تحتمي، في تلك الأثناء مثلنا، في تلك الجزر.
وكان
الترجمان العامل لدى السفارة الفرنسية في مدينة طنجة، المدعو بن غبريط،
يوجد، بصفة استثنائية، على متن الطرادة الفرنسية. ولقد حاول بن غبريط، عند
نزوله عن متن السفينة، أرضاً، أن يستدرج رجالنا في الحديث، بمحاصرتهم
بأسئلته الحاذقة، لمعرفة المزيد عن منطلقنا ووجهتنا، فما ظفِر منهم بشيء ذي
بال، إذ لم يكن رجالنا أنفسهم على علم بشيء من ذلك.
كان الجو صعباً
قاسياً، وكانت جبال كبدانة وبني يزناسن مكسوة عن بكرة أبيها ثلوجاً، فكانت
تزيدنا شعوراً بالبرد، وأمطرت كثيراً طوال النهار، فكنا نحس كتل الماء، حتى
وهي تصطدم بقعر السفينة.
ترجمة عبد الرحيم حــزل
06 - 08 - 2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
13
تحسنتْ أحوال البحر في 8 فبراير، وبذلك أمكن لنا، بعد طول انتظار، أن نتوجه إلى عجرود، للقيام بما ينتظرنا هناك من أعمال.
ولقد أرسلْنا بقارب السفينة، إلى الساحل، فبلغ إليه في حوالي الساعة 4 بعد الزوال، ثم عاد منه محملاً بالأمتعة.
وعاد
القارب في نقلته الثانية، يحمل على متنه 50 شخصاً، وقد كان بينهم «مسؤول
عن المدفعية»، وخليفته وأربعة ريفيين، والأمين بن يعقوب، فضلاً عن بعض
الخدم والجنود. وحيث إن سفينة «التركي» كانت تحمل أصلاً على متنها، 50 من
الجنود و20 من جنود المدفعية، عدا البحارة، فإن إيواء كل ذلك العدد من
الأشخاص الإضافيين، على متن السفينة، لم يكن بالأمر اليسير.
وكان «المسؤول» والقائد السياسي للسفينة، المؤتمِر بأوامري، أنا الرئيس التقني، يُدعى أحمد بن الطاهر.
وقد
كان معروفاً بمكانته الكبيرة لدى وزير الحربية محمد الكباص، ولقد أخبرني
بن الطاهر هذا، بنيته في التوجه في يوم الغد، إلى مدينة مليلية، مروراً
بمار تشيكا. وكان يتعين علينا أن نهيء مدفعيْنا في فجر اليوم الموالي،
ولذلك توجهت، من فوري، إلى الجزر الجعفرية، لأقضي الليلة هناك، في أمان،
وأعود أدراجي في الصباح.
ألقيت المرساة، في مساء ذلك اليوم، والتحقت
بموظفي المخزن، لأعرف المزيد مما يُعدون للقيام به. فوجدت بن الطاهر نفسه،
لا يعلم شيئاً ذا بال، وقد بدا لي لا يمتلك مخططاً لحملته، وأنه يبغي أن
يركن إلى الصدفة. ولم أحصل سوى على معلومة واحدة : أنهم تخلوا، في تلك
اللحظة، عن الإنزال في مار تشيكا، ولا يبغون سوى أن يضعوا حداً للسفه
الفرنسي في هذه الناحية.
كان القائد، أثناء تلك المحادثات، يجلس في مؤخر
الخيمة، وقد أمكنني أن أمعن النظر عن كثب، في محيَّاه، على ضوء بعض الشموع
الذُّهينية، فلم يكن بذي الوجوه الجميل، فقد كان كالح السحنة، ذا فم واسع،
وشفاه غليظة. وكان يبدو حاملاً لغير قليل من دم العبيد. وكان الرجل ذا
عينين غامضي اللون، ترسلان نظرات ماكرة ومخادعة، تحف بوجهه لحية ضاربة إلى
الرماد، مقصوصة على الطريقة العربية. ورغم ما كان يبدو من حركاته كلها من
خفة، برغم بطنه المكورة، فقد كان يبدو على هذا الرئيس أنه طلَّق سن الشباب،
وأنه يزحف نحو الستين.
ولم يكن لبن الطاهر، بطبيعة الحال، أي تصور عن
الملاحة، لكنه كان يبدو متقمصاً لمهمته الجديدة كأنه «أميرال كبير»
للسلطان. وكان يرفق كل ما يأتي من أقوال أو أفعال بغرور أحمق وتعاظم
وخيلاء.
وأعطيت لبن الطاهر خيمة ليأوي إليها، لكنها لم تكن بالخمية
الواسعة، فقد كانت عبارة عن شراع قديم قد جُعِلَ فوق صاري الشحن، وشُدَّت
جوانبه إلى كوى السفينة. وقد كان بن الطاهر يتوقع مني أن أمنحه حجرة من
حجرات السفينة، ولقد أخطأ التقدير، فلم تكن بي رغبة في إشراكه في حجراتي،
ولاكان متسع من المكان فوق ظهر السفينة.
وعلى نقيض ابن الطاهر كان
خليفته سي أحمد أحرضان، من مدينة طنجة، فقد كان رجلاً محبوباً، وودوداً،
وحيوياً، وشديد النشاط، وظريفاً، وكان ذا وجه ذكوري مليح، تحفه لحية سوداء
فاحمة، وعينين بالغتي السوداء، أمينتيْن، رضية النظرات. وكان الرجلان معاً
يؤويان، كيفما اتفق، إلى تلك، الخيمة.
وكان يقوم على خدمة بن الطاهر
ثلاثة زنوج، لايبدو عليهم أنهم يعرفون معنى لكلمة «نطافة». ولقد وجدت منذ
البداية، طريقتهم في تهييء الأكل مقزِّزة.
وفي صباح اليوم الموالي شرعنا
في إعداد المدفعين، ولبثنا، نزولاً عند رغبة بن الطاهر، على مقربة من
الجزر الجعفرية، بغرض أداء تلك المهمة، وقد كان الأجدر بعملية تجميع
المدفعين أن يقوم بها جنود المدفعية، لكننا سرعان ما تأكد لنا أنهم
ورؤساءهم لن يفلحوا في ذلك.
ولذلك كلَّفنا التقنيين الألمانيين
بمساعدتهم، وبذلك تم، تحت توجيهاتهم، تجميع المدفع الأول في زوال ذلك
اليوم، ولقد جعلنا بعض القطع الخشبية تحت عجلات المدفع، إلى أن أصبحت فوهته
ترتفع على درابزين السفينة، وهي درابزين شديدة الارتفاع، ثم سحبنا العجلات
والمحور حتى حاذت دعامات الدرابزين. وثبَّتنا شجرة قبالة الكوى ثبتنا
إليها المرصاد بسلاسل ثقيلة. حتى إذا أصبح أحد المدفعين جاهزاً للإطلاق،
أراد بن الطاهر أن يجرِّبه، فور ذلك، بإطلاق بعض الرشقات على ميناء الجزر
الجعفرية. لكني أثرت انتباهه إلى ما في تلك الطلقات داخل التراب الإسپاني
من الخطَل، حتى وإن كان تسديدنا لفوهة المدفع نحو الساحل المغربي. ولذلك
اقترحْت عليه أن تكون تلك الطلقات التجريبية في أعلى البحر. حتى إذا غادرنا
الميناء، أرسل إلينا رئيس جنود المدفعية المعلم محمد بتحيته، الذي نعرفه
معرفة جيِّدة منذ الأسفار التي كانت لنا رفقة الحاج علال، أرسل إلينا
بتحيته الودية باسم رجال بوحمارة، مطلقاً علينا كرتين مدفعيتين!
كان
المدفع يعمل جيداً، ولم تكن السفينة تعاني من الارتجاج، وهو ما كنت أخشاه
في البداية، بفعل قوة التراجع. ولذلك شرعنا في تجميع المدفع الثاني، متبعين
الطريقة نفسها، على الجانب الآخر من السفينة. كما ثبتْنا، فضلاً عن ذلك،
على طرف السفينة بندقيتين كبيرتين شديدتي الاتقان.
وخلال تلك المناورات
القصيرة، كان بن الطاهر قد جمع رجاله المسلحين، وكان يبغي من ذلك، في ما
بدا لي، أن ينتشي بقوته. ورغم أن الرجال قد أصبحوا في منتصف الطريق إلا
أنني تركتهم يفعلون، مؤملاً أن لاتتكرر مثل الاستعراضات في ما يقبل من
أيام.
لبثنا، أثناء إعدادنا للمدفعين، على مقربة من الجزر الجعفرية. غير
أن «رئيس المحلة العجوز»، كما لقَّبناه، أراد لنا أن نبدأ مسيرنا، في 4 من
صباح 10 من نفس الشهر، باتجاه مار تشيكا. فلما طلع علينا النهار، في حوالي
الساعة 7، كنا قد أصبحنا على مقربة من كاپ ريستينغا؛ حيث كنا، من قبل، قد
رأينا بعض الخيام، وحيث يُرجَّح أن يكون قد تم نصب بعض العنابر الخشبية.
وكان العلم الأخضر، كما في المرة السابقة، لايزال يخفق بفعل ريح الصباح.
ولقد نبهت بن الطاهر إلى أن المركز التجاري هو الآن، على مرمى بصر. وعندئذ،
صعد جميع الجنود إلى سطح السفينة، وهم في كامل عدتهم، لكن لايزالون
نعسانين، ثم أخذوا أماكنهم بقصد العرْض. ولقد بدأ ذلك الاستعراض الصاخب
يثير اهتمامي. واستفسرت من خليفة بن الطاهر سي أحمد أحرضان، عن الغرض من
ذلك الاستعراض، فقال إنه سيكون على الجنود، عند نشوب المعركة، أن يتدخلوا
ببنادقهم. غير أن بن الطاهر كان قد أعطى الأمر بعدم الاقتراب من البر إلى
أقل من 4000 متر، فيما لايبلغ مدى البنادق إلى أبعد من 1500 متر، فلم
أتمالك نفسي من أن أعبِّر للخليفة عن سخافة تلك الوضعية.
ولم يظهر بن
الطاهر، رغم إعلامه أننا لم نعد نبتعد بغير 4000 متر عن المركز التجاري.
ونفد صبر جنود المدفعية، في نهاية الأمر، وإذا هم يشرعون في إطلا ق النار،
من دون أن ينتظروا الأمر بذلك من الرجل العجوز، معتبرين أنهم إنما جاءوا
لأجل ذلك الغرض. ولقد أطلقوا ست رشقات، وكنا نريد الاقتراب أكثر، لأن بعض
الرصاصات كانت تسقط في الماء، لإخطائنا في تقدير المسافة. وعندئذ ظهر بن
الطاهر، على حين غرة، وهو يتميز من الغيظ، فكان يريد أن يعرف من ذا الذي
تجرأ على تخطي أوامره، وأعطى الأمر بالشروع في إطلاق النار. وصاح في من
حوله أنه لاينوي الشروع، اليوم، في الأعمال الحربية، بل كل ما يبغي أن
يستكشف المنطقة.
وكانت سفينتنا تتقدم في تؤدة، ولقد لزمني لتثبيتها، أن
أجعلها تدور عدة دورات، بحيث تعيَّن على الأميرال أن يدور حول نفسه في بطء،
لكي يرى البر والمركز التجاري. حتى إذا توقفت السفينة، سألني تصوري،
فأجبته بسؤال آخر : ماذا ينوي؟ ولقد تبينْت رغبته الشديدة في القتال، ولذلك
لم يتمالك نفسه من إطلاق رشقتين أخريين باتجاه الموكز التجاري، لكن من دون
أن يصيب هدفه، إذ لم يكن جنود المدفعية قد ضبطوا رمايتهم. ثم إذا هو يوقف
هذه اللعبة القاسية، ويعطى أمره بالتوجه صوب مدينة مليلية.
وعند
اقترابنا من مليلية، نودي على الجنود مرة أخرى، إلى سطح السفينة، وهناك
جعلوا يصطفون. ولم أجد بداً أن أنبه العجوز إلى مدى ما في هذا الاستعراض من
شناعة وسخرية. وأكدت له أننا، بدلاً من أن نحدث أي تأثيير باستعراضاتنا
العسكرية، سنكون محط سخرية، ليس من الرجال على متن الطرادة الفرنسية
«لالاند»، التي كانت، وقتها، في مليلية، ولكن سنكون محط سخرية من السكان
أيضاً. فبدا أنه وعى الأمر، وأمر الرجال بالانسحاب.
كان للطريس، في مليلية، رجل ثقة، كان تاجراً ينحدر من مدينة تطوان، يُدعى محمد فرتوت.
وقد
كان له بعض الأعمال في المدينة، فكان دائم الدفاع عنا. وقد كان أول من
أتوجه إليه، فقد كنا نودع لديه ما نحمل من الرسائل والأوامر.
ولقد وجدت
لديه، في هذه المرة، بعض الشيوخ الريفيين، يجلسون في دكانه، وكانوا في ثياب
بسيطة، وعلامات الأسى بادية على وجوههم. إنهم من فرخانة.
وقد كان طردهم
بوحمارة منذ وقت طويل، من بلادهم، وهم يقيمون، الآن، في مخيم على مقربة من
المدينة. ولقد شرعت في التحدث إليهم، فقد كنت أعرفهم منذ وقت طويل. ولقد
اشتكوا، كالعادة، سوء وضعيتهم، وأخبروني أن كثيراً من أهل قبيلتهم لا
يزالون على ولائهم لبوحمارة. بل كان يحدث بين أهل فرخانة أن يخالف الإبن
أباه، والأخ أخاه، وينقسما بين معسكر السلطان ومعسكر بوحمارة. وأوضحت لهم
أن أنصار بوحمارة إنما يعملون لفائدة فرنسا. وقد كانوا مدركين لذلك، كما
كانوا يرون أن البلداء قصيري النظر هم من اختاروا جانب بوحمارة، وإن كانوا
كثيري العدد! لقد كان أنصار بوحمارة ممن لا يملكون الشجاعة على المقاومة،
كما كانوا يخشون القدرات الخارقة التي يتمتع بها بوحمارة! ولقد سألت هؤلاء
الشيوخ الريفيين إن كان بوحمارة يمتلك مدافع يمكنها أن يصل إلينا مداها من
المركز التجاري. فأخبروني أن كل ما سمـعوا عن تـسليح بوحـمارة محـصور في
مدفعين صغيرين بمدى لا يتعدى 3000 متر، وهما مدفعان يبعد أن تبلغ رشقاتهما
إلينا.
وفي اليوم الموالي، التقيت، في مكتب القبطان الإسپاني، الحاكمَ
العام س. يـ. إيرز. الجنرال خوسي مارينا. وهو رجل متوسط العمر، شديد
التأدب، فحياني بود غامر. وسرعن ما أخذ يحدثني في الوضعية، وفي ما ننوي
فعله. فقد كان يقوم خارج المدينة، في سفح جبل مليلية، على مقربة من الشاطئ،
في التراب المغربي، مجموعة مختلطة من البيوت، تقوم مقام مركز لجمرك
الروغي. فكان ابن الطاهر مطامع في هذه القصبة. فكان في نيته أن يهاجمها عن
قريب.
وقد بدا لي في الأمر مخاطرة، لقرب القصبة من مليلية، ما جعلني
أستفسر العامل عن رأيه في الأمر. وكما كان متوقعاً، فقد احتج على الفور؛
ذلك بأن هذه الأرض، وإن كانت تعود إلى المغرب، فإنها تُعتبر، مع ذلك، منطقة
محايدة، ولا يمكن القيام فيها بأي عمل حربي. ورجاني أن أعلم بالأمر
«الأميرال»، وأنقل إليه قوله إنه لا يمكن الاستجابة إلى رغباته، إلا أن
تكون ممكنة التحقيق، ثم انصرف عني، وبقيت لوحدي.
أخذ يلتحق بنا، رويداً
رويداً، ضباط من مختلف الأجناس. كان بينهم قائد الرماة، هويلاني أرفو، وقد
كان يجيد التحدث بالألمانية. فتولى الترجمة بيننا، بود، أثناء المحادثات.
فقد كان يتكلم الألمانية أفضل مما أتكلم أنا الإسپانية.
ذلك بأنه قد
أمضى سنوات في دراستها. وكان هؤلاء السادة شديدي الود. وكانوا يعدوننا
شركاء ضد فرنسا، التي كانت، في ذلك الحين، تهدد المصالح الإسپانية، بدعمها
لبوحمارة. وقد عقدت، في تلك الظهيرة، علاقات كثيرة وإياهم، فصاروا لي، في
ما بعد، أصدقاء حقيقيين.
ثم لم ألبث أن اكتشفت أن الضابط الإسپاني رجل
يفوق بكثير شهرته عند الناس. حقاً إنه لا يملك الاندفاع الذي عند نظيره
الألماني، لكنه جندي جيد، وذكي وذو مقدرة، مثلما أنه رجل دمث وممتع.
ولربما
كان لا يُجعل على مركز بمثل خطورة مركز مليلية إلا الرجال من هذه الطينة،
الذين يبدون في بلدهم الأم مختلفين. وقد كان الجنود العاديون، الذين في
مليلية، الذين خضعوا لتدريب جيد كذلك، وبدوا في أحسن هيئة، يمثلون أفضل
برهان على كفاءات الضباط!
وبدا كأن ابن الطاهر يريد أن يختبر، في الحال،
مدى الإقدام الذي يتمتع به الجنرال. وحدث، في تلك الأثناء، أن أخذ رجلان
من رجالنا في الاحتجاج على تأخر راتبيهما، ثم لم يلبثا أن فرا من خدمتهما
على ظهر السفينة، وركنا إلى المدينة المحايدة؛ حيث يعيش الموالون للسلطان
مع الموالين لبوحمارة في وفاق ووئام، وكنتَ تسمع الكلمات النابية المشينة
في حق السلطان والمخزن. ولقد طلب إليَّ بن الطاهر أن ألتمس إلى الحكومة
تسليمه الجانيين الاثنين، ليتم جلدهما على ظهر السفينة، وإيداعهما السجن في
مدينة طنجة.
غير أني أفلحت في صرفه عن هذا الأمر. ولقد تركنا الرجليْن
يفلتان، فلم تكن بي رغبة في إعادتهما للعمل لديَّ على متن سفينة
«التركي».
وقد لبثنا، في الأيام
الموالية، في عطالة بمدينة مليلية، منتظرين أن نتوصل من مدينة طنجة بالمال،
والذخيرة للبطاريات، وأصبح بن الطاهر، أثناء ما كنا نحتمي في المرسى، من
سوء أحوال الطقس، يحاول مراضاتي والتقرب إليَّ.
وربما بلغ، من ذلك، إلى
دعوتي لمشاركته الشاي تحت خيمته، وهو ما كان يشق عليَّ بالغ المشقة، إذْ
كان العبيد الثلاثة القذِرون الذين يقومون على خدمته، يعدون الشاي أمام
ناظري، وغالباً ما كنا نجلس إلى الشاي في ثلاثة أشخاص : بن الطاهر في وسط
المجلس، وأنا وبومغيث على الجانبين.
فكان بومغيث يتولى الترجمة بيننا.
وكان أكثر مدار محادثاتنا حول خسة الموظفين المغاربة. فكان بن الطاهر
يحدِّثني عن عدم استقامتهم، وإن بدوا بمظاهر الشرفاء، وبطبيعة الحال، فبن
الطاهر يزعم نفسه استثناء بينهم. لكن سرعان ما تكشف أنه لا يفضلهم بقلامة
ظُفْر.
وقد نتحاور، أحياناً، في تراشقاتنا بالرصاص، وفي إمكانية إنهاء
فضيحة مار تشيكا. ولقد حدثت الرجل العجوز عن المدفعين اللذين في حوزة
بوحمارة، فكان يعتقد، على نحو ساذج، أن الأفضل أن نتفاهم مع الفرقاطة
«لالاند».
فقد كان يعتقد أن هذه الفرقاطة الفرنسية يمكنها أن ترافقنا
إلى المركز التجاري، وتتخذ وضعة تمكننا من قَنبلة العدو، من دون أن يمسها
سوء، أو تضطر إلى إطلاق النار. كما تحادثنا في شأن مؤتمر الخزيرات، الذي
كان يجري في جو من القلق والهياج.
وقد كانت جريدة «تلغراف الريف» التي
أصدرها قبطان إسپاني، وتقوم نشرةً رسمية للحكومة الإسپانية، هي مصدر
أخبارنا في مدينة مليلية. ولقد أفادت هذه الجريدة ظهورَ بعض المصاعب في
مؤتمر الخزيرات، وتوقف المفاوضات فيه، بسببٍ من أن فرنسا تريد أن تكون هي
وحدها القائمة على الأمن في المغرب.
ولقد قبلتْ بمنح الإسپانيين بعضاً من هذه السلطة، بيد أن هذه المشروعات قوبِلتْ بالمعارضة من قِبَل ألمانيا.
ترجمة عبد الرحيم حزل بيان اليوم : 07 - 08 - 2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
- 14 -
أخذت أحوال الجو في التحسن تدريجياً. وقد كان في نيتنا أن نطيل مكوثنا في مدينة مليلية، لولا أن أُعْلِمْنا بوجود إحدى السفن البخارية بقرب المركز التجاري، وأنه يبدو كأنها تنزل حولتها. وأمكننا بواسطة منظار قوي، أن نرى من على الحصن بكل وضوح، ما كان يجري في كاپ ريستينغا، وأمكننا أن نتفحص الأفق بدقة، لكثرة ما كان الإسپانيون مهتمين بالتجارة في هذه الناحية.
فلما تلقينا هذا الخبر، أخذْنا في تهييء الآلات، وفي 10 صباحاً انطلقنا، باتجاه مار تشيكا، بسرعة 5 أميال بحرية.
ورأينا، من بعيد، تلك السفينةَ البخارية راسية، ثم أخذْنا نتعرف فيها، فيما كنا نقترب منها، على سفينة «زينيث»؛ تلك السفينة البخارية الفرنسية، وقد كانت تسرع بتفريغ حمولتها. فلما اقترب الزوال صرنا على بعد 5000 متر إلى الجنوب من مخيم الجبل.
وعندئذ أعطى بن الطاهر الأمر بالشروع في إطلاق النار على البنايات. وقد كانت «زينيث» في الجهة الشرقية، بعيدة عن خط الرمي، بحيث لم يكن سبيل إلى إصابتها.
مرت القذيفة الأولى مزمجرة، ثم انفجرت في اتجاه المخيم تحديداً، ولقد سدّد المعلم محمد فأجاد التسديد.
ثم قفَّاها بطلقة أخرى، سديدة كالسابقة. وتراءى لنا من الجانب الآخر شعاعٌ، تلاه انفجار، ثم رأينا انفجاراً في الماء على مقربة من سفينتنا.
كان ذلك ردَّهم على قصفنا. لكن لم يكن في مقدورهم إصابتنا، لأن مدى بطاريتهم يقف دون ذلك.
وهو ما لم يمنعهم من إطلاق كرة مدفعية ثانية، ثم ثالثة ورابعة، إلى أن انتبهوا إلى بطلان مجهوداتهم، فتوقفوا عن إطلاق النار. وأما نحن، فعلى العكس واصلنا رميَهم بكرة تلو أخرى، إلى أن رأينا أن سفينة «زينيث»، التي كانت قواربها وصنادلها، قد جُعِلت، منذ البداية، في حمى بين الصخور على البر، قد علاها الدخان، ورفعت مراسيها، وأخذت تتهيأ للمغادرة.
كان ابن الطاهر يظن عن صواب أن السفينة البخارية كانت سفينةَ تهريب، وبالتالي فهي عدوٌّ لنا، ولذلك أعطى أمره إلى جندي المدفعية بإطلاق النار على تلك السفينة. ولو كان في الإمكان إدارة المدفعين على متن سفينتنا، لكان جندي المدفعية نفَّذ أمر بن الطاهر إليه. غير أن المدفعين كانا مثبتين ولا يمكن إدارتهما، إلا أن تغير السفينة اتجاهها. ولقد أشار جندي المدفعية بيده إلى موجِّه السكان بالدوران، فأدرْكت حينئذ ما ينوي فعله، ولذلك أوقفْت السفينة للحظةٍ، لأتحدث إلى بن الطاهر : فلقد أوضحت له أن من المستحيل إطلاق النار على سفينة عدوَّة.
ولم يكن ذلك بالأمر الواضح في نظره، لكنه تخلى، في نهاية الأمر، عن قصف «زينيث»، وكلَّفني بأن أحاول وقف تلك السفينة، التي كانت تبتعد بأقصى سرعة إلى جهة الشرق.
أشرْت إلى السفينة الفارّة : «توقفوا حالاً»! لكن «زينيث»، لم تستجب للأمر، وواصلت سيرها بأقصى سرعة.
وعندئذ أعطيْت الأمر بإطلاق النار، بحيث تسقط القذائف في الماء، على بعد 300 متر خلف السفينة.
وكنت أقوم بنفسي، على التسديد، للحيلولة دون وقوع حادث ليس في الحسبان. لكن عبثاً فعلْت، فلقد ظلت السفينة تبتعد أكثر فأكثر، بسرعة بلغت 10 أميال بحرية، فيما لم يكن في مقدورنا اللحاق بها، إلا بسرعة 5 أميال ونصف الميل.
كانت الفرقاطة «لالاند» حين مغادرتنا، لا تزال راسية قبالة مدينة مليلية، فإذا هي قد صارت تتعقبنا أثناء ملاحقتنا لسفينة «زينيث»، حتى لتكاد أن تصل إلينا. طلب مني بن الطاهر أن أشير إلى سفينة «لالاند» بملاحقة سفينة «زينيث»، بدل ملاحقتنا نحن. غير أن الجهود التي بذلناها لإثارة انتباه الفرنسيين ضاعتْ هباء، ولم يُلقوا بالاً، كذلك، إلى إشارتي إليهم : «سفينة حربية فرنسية»، إذ لم يكن لي عِلْم بإشاراتهم. غير أن الفرقاطة الفرنسية لاحقتْ «زينيث»، وأوقفتْها على مقربة من الجزر الجعفرية، فلما وصلنا في الثالثة بعد الزوال وجدنا هناك السفينتين معاً.
وما كدنا نلقي بمرساتنا حتى جاءنا قاربٌ من سفينة «لالاند» برسالة من قائدها. فلقد طلب ذلك القائد تبليغ «الرجل المغربي الذي يمثل الحكومة المغربية الشريفة على متن سفينة التركي»، أن عليه أن يأتي إلى سفينة «لالاند»، لأن لدى القائد أخباراً مهمة يبلغها له.
وخشي بن الطاهر إن هو ارتقى لوحده ظهر الفرقاطة الفرنسية أن يقع في الأسر.
كما كان يعتقد أن في مقدوري أن أفاوض قائد تلك السفينة، أفضلَ منه، ولذلك رجاني أن أرافقه. لكن لم تكن بي أي رغبة في مرافقته، فقد لاحظت أن الضابط الذي حمل إلينا الرسالة كان شديد الاعتدال، لكنه كان، كذلك، شديد البرود، غير أن «رجل البعثة العجوز» ألح عليَّ في مرافقته، إلى أن أذعنْت له.
ولقد جعل برفقته كذلك خليفتَه، وترجماني بومغيث.
فلما صعدنا إلى سطح السفينة «لالاند»، جاء من يقودنا إلى داخل قُمرية. وحيانا القبطان عند باب القمرية، وقدمْنا له أنفسنا، ثم أدخلَنا.
ولقد مددت إليه يدي محيياً في خجل، فتجاهل تحيتي.
ولزمنا أن نقتعد أربعة كراس مقششة بسيطة، رغم أن الغرفة مؤثثة بأرائك جميلة ومخدات قد أُسندت إلى الفواصل. وحده القبطان كان يقتعد أريكة وتيرة. ولقد عُيِّن كذلك مكانٌ لبومغيث، الذي يقوم بعمل الترجمة مع المغاربة. وعندئذ ابتدأ الاستجواب، الذي ذكَّـرني بمحاكم التفتيش الإسپانية القديمة.
-أيها السادة، لقد قصفتْم اليومَ مصنعَ مار تشيكا. ألا تعلمون أن الفرنسين كانوا متوقفين هناك؟».
- «كلا، سيدي، لم أكن أعلم بذلك. كل ما أعلم أن السيد ساي ورجاله كانوا هناك منذ وقت قريب، وأنهم كانوا، قبلئذ، كثيري التردد على ذلك المكان، وأما في الوقت الراهن فليس منهم من ينزل هناك».
وطُرِح السؤال نفسه على الآخرين. ولم يكن لبن الطاهر وخليفته علم بشيء من كل ذلك. وأما بومغيث فمبلغ علمه أن ديلبريل رئيس الأركان العامة للروغي بوحمارة، كان موجوداً، وقتئذ، في ذلك المركز التجاري. فلما سمع القبطان هذا الاسم تبادل مع بن غبريط نظرة ذات دلالة.
- «أيها السادة، لماذا لم تبلغوا مار تشيكا أنكم تنوون قصف ذلك المركز، ليتم إنذار الفرنسيين؟».
- «سيدي، إن الساحل كله يعلم أن سفينة «التركي» توجد هناك لقصف ذلك المركز، فيكون من غير المجدي تحذير من يكون هناك من الناس، عدا أننا، كما قلت من قبل، لم نكن نعلم أنه لا يزال ثمة بعض الفرنسيين».
- «لقد قصفتْم سفينة ترفع العلم الفرنسي».
- «كلا، سيدي، إننا لم نفعل شيئاً من ذلك».
- «ألم تطلقوا النار عليها؟».
- ذلك صحيح، سيدي، لكن لم نكن نبغي إصابتها. بل كنا نسدد إلى 3000 متر خلفها.
- «لماذا؟».
- «لنجبرها على التوقف».
- «ولماذا؟».
- «لأنها كانت تحمل مواد مهربة».
- «وهل كنت تعرف ذلك؟».
- «نعم، لأن كل ما يوجَّه إلى الروغي هو من التهريب».
- «حقاً؟».
- «حقاً!».
وخضع بن الطاهر للاستجواب نفسه. وكان القبطان يعود دائماً لسؤالنا في النقاط نفسها : أننا فتحنا النار في مار تشيكا، على الفرنسيين، وأننا لم نحذِّرهم من ذلك، وأننا قصفنا سفينة فرنسية كانت تبحر رافعة العلم الفرنسي. ولقد بدا لي أنه يتقصد أن يوقعنا في التناقضات، لكنه لم يفلح في شيء من ذلك. وكنا في البداية يتملكنا بعض القلق، لكنني أخذت، شيئاً فشيئاً، في استعادة هدوئي واطمئناني، ثم صرت بعدئذ، أجد صعوبة في أن أحافظ على جديتي. فلقد كان الأسلوب الاستعراضي الذي تتبعه القاضي القبطان في استجوابنا يثير ضحكي وسخريتي. وفي الأخير منع علينا منعاً باتاً أن نقصف مار تشيكا، إلى أن يأتينا منه ترخيص بذلك. ولسوف يتوجه، في صباح الغد، إلى هناك، ليحذر الفرنسيين، أو ينقلهم عن ذلك المكان، وسوف تصلنا منه تعليمات أخرى عندما نبلغ إلى مليلية. وبذلك حصلْنا على «الإذن» بالتوجه إلى مليلية في صباح اليوم الموالي، ثم عاد هذا القبطان، عندئذ، يكرر على مسامعنا الأمر بأن لانقوم بشيء ضد المركز التجاري. ولقد عزَّز تحذيره إلينا بالتهديد بأن تقصف سفينته «لالاند» سفينتَنا «التركي»!
كنت أحسُّني كأني في قاعة من قاعات المحكمة. فقد كان القاضي يوجه إلينا نظرات قاتلة. وفي الأخير أُفرِج عنا. وقد أدركنا ذلك من نهوض القاضي عن كرسيه. ولقد انحنينا، في جدية متصنعة، ثم صعدنا إلى متن قاربنا.
نزلنا إلى البر لزيارة قائد الجزر، الذي وجدنا منه الاستقبال الجميل. روينا له ما عرَض لنا في يومنا من أحداث، فأبدى اهتماماً كبيراً لما قلنا، وأبدى استغراباً كثيراً من موقف القبطان. ثم توجهنا إلى مصلحة البرق؛ حيث أبرق بن الطاهر من هناك إلى الطريس ببرقية طويلة. ولم أتمالك نفسي، أنا الآخر، من إرسال برقية إلى الكونت تاتينباخ في الخزيرات. ولقد أخبرته في تلك البرقية أن سفينة «لالاند» تحاول أن تختلق لنا الصعوبات والعراقيل أثناء ما نقوم به من عمليات ضد بوحمارة، وهو ما كان ، بدون شك، خطأً، فقد كان يتعين علي أن أقنع نفسي بأن تاتينباخ لا يستطيع مساعدتنا. لكن تلك البرقية أعادت لي الشعور بارتياح غامر، من شدة ما كنت عاجزاً عن مواجهة التدخلات الفرنسية.
ولم تكن بالرجل العجوز رغبةٌ في قضاء تلك الليلة في الجزر الجعفرية.
وحيث إنني تلقيت الأمر من القاضي القبطان بعدم مغادرة الجزر قبل صباح الغد، فإنني بعثت ببومغيث إلى ذلك القبطان على متن سفينة، ليلتمس منه الإذن لنا بالتوجه إلى ميلية، مساء ذلك اليوم نفسه. ولقد تحسبنا لاستجواب القبطان لبومغيث فيمَ نريد النزول إلى البر، ولذلك أوصيت الترجمان بأن يذكر للقبطان برقيتي إلى تاتينباخ.
ولقد نفذ ما أمرته به، فلما عاد أخبرنا أن وجه القبطان العبوس قد تكدر أيما تكدر لسماع ذلك الخبر، فلم يعد له، بالتالي، أن يعترض على مغادرتنا للجزر.
وفي اليوم الموالي، 16 فبراير، التقيت في مليلية الماجورَ المدفعي هويلين أرسو، فأطلعْتُه بتفصيل عن الأحداث الأخيرة، ورجوته أن يحرص على إخبار الجنرال بما سمع مني. وفي زوال ذلك اليوم، وصلتْ سفينة «لالاند» إلى قبالة مدينة مليلية، بعد أن توقفت، في وقت مبكر من ذلك اليوم، في مار تشيكا، وأنزلتْ هناك قسماً من الفرنسيين. وفي حوالي الساعة الخامسة من بعد زوال ذلك اليوم، وجَّه إليَّ القبطان الرسالة التالية :
«السيد القائد،
أرجو أن تخبر ممثل السلطان، الموجود على متن سفنيتك، أنه أمكنني أن أتصل، في هذا الصباح، بمار تشيكا، وأنه لم يعد في مقدوري فعل شيء، حتى إشعار آخر. وتقبَّل تحياتي الخاصة، مودي».
ويبدو أن هذه الرسالة، التي حُرِّرت بكل تلك الحكمة والحرص الشديدين، كانت الغاية منها أن تقول لنا إن سفينة «لالاند» لن تتسبب لنا منذ الآن، في أية عراقيل. وتعزيزاً لما جاء في هذه الرسالة، غادرت الفرقاطة المذكورة، في مساء ذلك اليوم، باتجاه الشرق. لكن بن الطاهر لم يشأ أن يباشر إرسال أفواج أخرى من الجنود، إلا بعد أن يتوصل بجواب الطريس على برقيته إليه.
ولقد أحيط لقاؤنا بسفينة «لالاند» بكثير من التعليقات في مدينة مليلية. ولاحظت امتعاض الأهالي من الأسلوب الفرنسي وتعاطفهم معنا!
وفي زوال يوم 17 فبراير توصلنا ببرقية الطريس، بعد طول انتظار. ولقد جاءت تلك البرقية تخبرنا بتوصل الطريس بتقريرنا عن الأحداث التي مرت بنا في الجزر الجعفرية، ويأمرنا بمواصلة أعمال القصف.
دعاني الماجور هويلين لمرافقته، بعد الزوال، في جولة في التراب الخاضع لإسپانيا. ولقد سرنا، في بادئ الأمر، بمحاذاة الشاطئ، حتى الحدود، ومن هناك أمكنني أن أرى المكتب الجمركي الذي أنشأه بوحمارة، لا يكاد يبعد عنا بغير حوالي 200 متر.
ولقد قلَّبت ناظري في أنحاء ذلك المكتب، فما رأيت غير مجموعة من البيوت مشيدة على الطراز المغربي، تتوسطها ساحة مسوَّرة.
ولكم كان بودي أن أقترب أكثر، حتى أتمكَّن من رؤية المجموع، غير أن هويلين حذَّرني من ذلك، ففي اعتقاده أن المغاربة لن يترددوا في رمْيِي بالرصاص، فهم جميعاً يعرفونني، وسيكون من السذاجة منهم أن يقيموا اعتباراً لحيادي. وواصلنا جولتنا، حتى بلغنا إلى أحد الأبراج المحصَّنة، التي شيِّدت من حول المدينة. إنه برج مستدير الشكل، بعلو من 6 أمتار وعرض من 20 متراً، والجدران الخارجية مشيدة من الحجارة، في سُمك من حوالي ثلاثة أمتار. ويحيط بها خندق بعمق من نحو أربعة أمتار. ويتم الولوج إلى ذلك البرج بواسطة جسر متحرِّك يُرفَع كل مساء.
وفي الأرضية، أي على مستوى عمق الخندق، توجد المطابخ وقاعات الذخيرة. ومن فوقها مساكن الرجال، وعلى الأسطح، من خلف فُتحات الرمي، في الحائط السميك، وُضِعت البطاريات، ومدافع «كروپ» من عيار5،7 ستم، وهي ليست بالعصرية، لكنها لازالت في حال جيدة، فضلاً عن بعض المدافع من عيار 5 ستم، سريعة الشحن. وتتولى الحراسةَ فرقةٌ تنتصب فوق كل برج من تلك الأبراج، وتُستبدَل على رأس كل شهر، وتعم هذا المكان نظافة تامة. وثمة أربعة أبراج أخرى شبيهة بهذا، تكوِّن تحصينات مدينة مليلية.
وهي مجهزة بكشافات وبجهاز الهاتف. وفي الأعلى يكمن حارس يراقب القرية. وهذه التحصينات غير مجهزة تجهيزاً عصرياً، لكنها تشكل حماية أكيدة من الهجومات المحتملة من قبائل الريف.
وخلف هذه الخط من التحصينات، يقوم خط ثان، والخطان معاً، يكفيان لضمان الأمن لمدينة مليلية، وهو ما جعل هذه المدينة تكاد لا تكون محصنة، إذا نحن استثنينا القلعة المحصنة المشيدة فوق نتوء صخري.
أمكننا، من موقفنا فوق ذلك البرج، أن نحيط رؤية بمار تشيكا، ولقد بدا لنا شبيهاً ببحيرة داخلية هائلة، يكاد يتعذر الولوج إليها من طريق البحر، ولقد أدركت، ساعتئذ، السبب وراء شغف ساي بهذا المكان! إنها منطقة مناسبة لإنشاء ميناء هائل، سهل الولوج، وجيد الحماية، بالقليل من الوسائل.
مررْنا، في طريق عودتنا، بقرب ساحة التدريب؛ حيث كان بعض الجنود يتدربون. ولقد أخبرني الماجور أن مليلية تضم، وقتئذ، حامية من 6000 رجل، بسبب من الاضطرابات التي كانت واقعة في تلك الأيام.
وتتألف تلك الحامية من 4000 من المشاة، والبقية منهم بين رماة، ورواد، وفرسان، إلخ.
طالعت صحيفة «تلغراف الريف»، ووجدت في تلك الصحيفة الرسيمة تتميماً للأحداث التي مرت بنا في الجزر الجعفرية. وإليكم، في ما يلي، مقتطفاً من ذلك :
«استدعى قبطان سفينة «لالاند» قبطان سفينة «زينيث»، ليستجوبه، ثم أرسله بسفينته إلى وهران، ليكون رهن تصرف السلطات البحرية المحلية.
ومساء الأمس، غادرت سفينة «لالاند» الجزرَ الجعفرية إلى مار تشيكا، للاتصال بالبر، ونقل الفرنسيين، الذين هم هناك، تأميناً لسلامتهم.
ولقد قبِل تلك الدعوةَ خمسةٌ من جملة الفرنسيين العشرة المقيمين في مار تشيكا، وكان بينهم صحفيان، كانا قد غادرا، أمس، سفينةَ «زينيث»، لالتقاط الأخبار، ثم أُجبِروا على البقاء هناك.
ولقد أعلم القبطان الفرنسيين الخمسةَ الآخرين، قبل مغادرة سفينة «لالاند»، أن فرنسا لن تحرِّك ساكناً في حالة تعرُّضهم لمكروه، وأنهم إن لبِثوا هناك، فالمسؤولية في ذلك إنما تقع عليهم، وعليهم وحدهم تحمل ما يترتب عن ذلك من التبعات، وأنهم لن يكون لهم أي حق في الاحتجاج بجنسيتهم.
وقال ضباط على متن الفرقاطة إن القناة، التي شرع الرجال في حفرها في المركز التجاري، ليست، بعد، سوى حفرة صغيرة، قليلة العمق، وضيقة، وأنه لا سبيل لهم إلى تحقيق مشاريعهم، بدون الاستعانة بالآلات. - ولاشك أن الأحداث التي شهدها مار تشيكا قد خلقت توتراً كبيراً في الخزيرات، فلقد سارع الدوق دالموضوڤار إلى التحدث، في ذلك الشأن، مع الجنرال مارينا في مدينة مليلية، بالاتصال به مباشرة، من مكان إقامته في فندق رينا كريستينا.
وكانت للوزير محادثة مع الحاكم دامت من الساعة 1 إلى الساعة 5 و30 دقيقة، ولقد مُنِع على العموم دخول مصلحة التلغراف طيلة تلك المدة».
ومن جهة أخرى جاءت الصحيفة بتصوير للأحداث مطابق تمام المطابقة لما فعلتُ، ورغم أن سفينة «لالاند» قد عادت إلى مدينة مليلية في الأيام الموالية، فلم يكن في وسعنا أن نتحمل مزيداً من التدخل في حرية حركتنا. ويبدو أن الحكومة أعطت أمرها إلى القبطان بعدم التحرش بنا.
08-08-2012
فلما تلقينا هذا الخبر، أخذْنا في تهييء الآلات، وفي 10 صباحاً انطلقنا، باتجاه مار تشيكا، بسرعة 5 أميال بحرية.
ورأينا، من بعيد، تلك السفينةَ البخارية راسية، ثم أخذْنا نتعرف فيها، فيما كنا نقترب منها، على سفينة «زينيث»؛ تلك السفينة البخارية الفرنسية، وقد كانت تسرع بتفريغ حمولتها. فلما اقترب الزوال صرنا على بعد 5000 متر إلى الجنوب من مخيم الجبل.
وعندئذ أعطى بن الطاهر الأمر بالشروع في إطلاق النار على البنايات. وقد كانت «زينيث» في الجهة الشرقية، بعيدة عن خط الرمي، بحيث لم يكن سبيل إلى إصابتها.
مرت القذيفة الأولى مزمجرة، ثم انفجرت في اتجاه المخيم تحديداً، ولقد سدّد المعلم محمد فأجاد التسديد.
ثم قفَّاها بطلقة أخرى، سديدة كالسابقة. وتراءى لنا من الجانب الآخر شعاعٌ، تلاه انفجار، ثم رأينا انفجاراً في الماء على مقربة من سفينتنا.
كان ذلك ردَّهم على قصفنا. لكن لم يكن في مقدورهم إصابتنا، لأن مدى بطاريتهم يقف دون ذلك.
وهو ما لم يمنعهم من إطلاق كرة مدفعية ثانية، ثم ثالثة ورابعة، إلى أن انتبهوا إلى بطلان مجهوداتهم، فتوقفوا عن إطلاق النار. وأما نحن، فعلى العكس واصلنا رميَهم بكرة تلو أخرى، إلى أن رأينا أن سفينة «زينيث»، التي كانت قواربها وصنادلها، قد جُعِلت، منذ البداية، في حمى بين الصخور على البر، قد علاها الدخان، ورفعت مراسيها، وأخذت تتهيأ للمغادرة.
كان ابن الطاهر يظن عن صواب أن السفينة البخارية كانت سفينةَ تهريب، وبالتالي فهي عدوٌّ لنا، ولذلك أعطى أمره إلى جندي المدفعية بإطلاق النار على تلك السفينة. ولو كان في الإمكان إدارة المدفعين على متن سفينتنا، لكان جندي المدفعية نفَّذ أمر بن الطاهر إليه. غير أن المدفعين كانا مثبتين ولا يمكن إدارتهما، إلا أن تغير السفينة اتجاهها. ولقد أشار جندي المدفعية بيده إلى موجِّه السكان بالدوران، فأدرْكت حينئذ ما ينوي فعله، ولذلك أوقفْت السفينة للحظةٍ، لأتحدث إلى بن الطاهر : فلقد أوضحت له أن من المستحيل إطلاق النار على سفينة عدوَّة.
ولم يكن ذلك بالأمر الواضح في نظره، لكنه تخلى، في نهاية الأمر، عن قصف «زينيث»، وكلَّفني بأن أحاول وقف تلك السفينة، التي كانت تبتعد بأقصى سرعة إلى جهة الشرق.
أشرْت إلى السفينة الفارّة : «توقفوا حالاً»! لكن «زينيث»، لم تستجب للأمر، وواصلت سيرها بأقصى سرعة.
وعندئذ أعطيْت الأمر بإطلاق النار، بحيث تسقط القذائف في الماء، على بعد 300 متر خلف السفينة.
وكنت أقوم بنفسي، على التسديد، للحيلولة دون وقوع حادث ليس في الحسبان. لكن عبثاً فعلْت، فلقد ظلت السفينة تبتعد أكثر فأكثر، بسرعة بلغت 10 أميال بحرية، فيما لم يكن في مقدورنا اللحاق بها، إلا بسرعة 5 أميال ونصف الميل.
كانت الفرقاطة «لالاند» حين مغادرتنا، لا تزال راسية قبالة مدينة مليلية، فإذا هي قد صارت تتعقبنا أثناء ملاحقتنا لسفينة «زينيث»، حتى لتكاد أن تصل إلينا. طلب مني بن الطاهر أن أشير إلى سفينة «لالاند» بملاحقة سفينة «زينيث»، بدل ملاحقتنا نحن. غير أن الجهود التي بذلناها لإثارة انتباه الفرنسيين ضاعتْ هباء، ولم يُلقوا بالاً، كذلك، إلى إشارتي إليهم : «سفينة حربية فرنسية»، إذ لم يكن لي عِلْم بإشاراتهم. غير أن الفرقاطة الفرنسية لاحقتْ «زينيث»، وأوقفتْها على مقربة من الجزر الجعفرية، فلما وصلنا في الثالثة بعد الزوال وجدنا هناك السفينتين معاً.
وما كدنا نلقي بمرساتنا حتى جاءنا قاربٌ من سفينة «لالاند» برسالة من قائدها. فلقد طلب ذلك القائد تبليغ «الرجل المغربي الذي يمثل الحكومة المغربية الشريفة على متن سفينة التركي»، أن عليه أن يأتي إلى سفينة «لالاند»، لأن لدى القائد أخباراً مهمة يبلغها له.
وخشي بن الطاهر إن هو ارتقى لوحده ظهر الفرقاطة الفرنسية أن يقع في الأسر.
كما كان يعتقد أن في مقدوري أن أفاوض قائد تلك السفينة، أفضلَ منه، ولذلك رجاني أن أرافقه. لكن لم تكن بي أي رغبة في مرافقته، فقد لاحظت أن الضابط الذي حمل إلينا الرسالة كان شديد الاعتدال، لكنه كان، كذلك، شديد البرود، غير أن «رجل البعثة العجوز» ألح عليَّ في مرافقته، إلى أن أذعنْت له.
ولقد جعل برفقته كذلك خليفتَه، وترجماني بومغيث.
فلما صعدنا إلى سطح السفينة «لالاند»، جاء من يقودنا إلى داخل قُمرية. وحيانا القبطان عند باب القمرية، وقدمْنا له أنفسنا، ثم أدخلَنا.
ولقد مددت إليه يدي محيياً في خجل، فتجاهل تحيتي.
ولزمنا أن نقتعد أربعة كراس مقششة بسيطة، رغم أن الغرفة مؤثثة بأرائك جميلة ومخدات قد أُسندت إلى الفواصل. وحده القبطان كان يقتعد أريكة وتيرة. ولقد عُيِّن كذلك مكانٌ لبومغيث، الذي يقوم بعمل الترجمة مع المغاربة. وعندئذ ابتدأ الاستجواب، الذي ذكَّـرني بمحاكم التفتيش الإسپانية القديمة.
-أيها السادة، لقد قصفتْم اليومَ مصنعَ مار تشيكا. ألا تعلمون أن الفرنسين كانوا متوقفين هناك؟».
- «كلا، سيدي، لم أكن أعلم بذلك. كل ما أعلم أن السيد ساي ورجاله كانوا هناك منذ وقت قريب، وأنهم كانوا، قبلئذ، كثيري التردد على ذلك المكان، وأما في الوقت الراهن فليس منهم من ينزل هناك».
وطُرِح السؤال نفسه على الآخرين. ولم يكن لبن الطاهر وخليفته علم بشيء من كل ذلك. وأما بومغيث فمبلغ علمه أن ديلبريل رئيس الأركان العامة للروغي بوحمارة، كان موجوداً، وقتئذ، في ذلك المركز التجاري. فلما سمع القبطان هذا الاسم تبادل مع بن غبريط نظرة ذات دلالة.
- «أيها السادة، لماذا لم تبلغوا مار تشيكا أنكم تنوون قصف ذلك المركز، ليتم إنذار الفرنسيين؟».
- «سيدي، إن الساحل كله يعلم أن سفينة «التركي» توجد هناك لقصف ذلك المركز، فيكون من غير المجدي تحذير من يكون هناك من الناس، عدا أننا، كما قلت من قبل، لم نكن نعلم أنه لا يزال ثمة بعض الفرنسيين».
- «لقد قصفتْم سفينة ترفع العلم الفرنسي».
- «كلا، سيدي، إننا لم نفعل شيئاً من ذلك».
- «ألم تطلقوا النار عليها؟».
- ذلك صحيح، سيدي، لكن لم نكن نبغي إصابتها. بل كنا نسدد إلى 3000 متر خلفها.
- «لماذا؟».
- «لنجبرها على التوقف».
- «ولماذا؟».
- «لأنها كانت تحمل مواد مهربة».
- «وهل كنت تعرف ذلك؟».
- «نعم، لأن كل ما يوجَّه إلى الروغي هو من التهريب».
- «حقاً؟».
- «حقاً!».
وخضع بن الطاهر للاستجواب نفسه. وكان القبطان يعود دائماً لسؤالنا في النقاط نفسها : أننا فتحنا النار في مار تشيكا، على الفرنسيين، وأننا لم نحذِّرهم من ذلك، وأننا قصفنا سفينة فرنسية كانت تبحر رافعة العلم الفرنسي. ولقد بدا لي أنه يتقصد أن يوقعنا في التناقضات، لكنه لم يفلح في شيء من ذلك. وكنا في البداية يتملكنا بعض القلق، لكنني أخذت، شيئاً فشيئاً، في استعادة هدوئي واطمئناني، ثم صرت بعدئذ، أجد صعوبة في أن أحافظ على جديتي. فلقد كان الأسلوب الاستعراضي الذي تتبعه القاضي القبطان في استجوابنا يثير ضحكي وسخريتي. وفي الأخير منع علينا منعاً باتاً أن نقصف مار تشيكا، إلى أن يأتينا منه ترخيص بذلك. ولسوف يتوجه، في صباح الغد، إلى هناك، ليحذر الفرنسيين، أو ينقلهم عن ذلك المكان، وسوف تصلنا منه تعليمات أخرى عندما نبلغ إلى مليلية. وبذلك حصلْنا على «الإذن» بالتوجه إلى مليلية في صباح اليوم الموالي، ثم عاد هذا القبطان، عندئذ، يكرر على مسامعنا الأمر بأن لانقوم بشيء ضد المركز التجاري. ولقد عزَّز تحذيره إلينا بالتهديد بأن تقصف سفينته «لالاند» سفينتَنا «التركي»!
كنت أحسُّني كأني في قاعة من قاعات المحكمة. فقد كان القاضي يوجه إلينا نظرات قاتلة. وفي الأخير أُفرِج عنا. وقد أدركنا ذلك من نهوض القاضي عن كرسيه. ولقد انحنينا، في جدية متصنعة، ثم صعدنا إلى متن قاربنا.
نزلنا إلى البر لزيارة قائد الجزر، الذي وجدنا منه الاستقبال الجميل. روينا له ما عرَض لنا في يومنا من أحداث، فأبدى اهتماماً كبيراً لما قلنا، وأبدى استغراباً كثيراً من موقف القبطان. ثم توجهنا إلى مصلحة البرق؛ حيث أبرق بن الطاهر من هناك إلى الطريس ببرقية طويلة. ولم أتمالك نفسي، أنا الآخر، من إرسال برقية إلى الكونت تاتينباخ في الخزيرات. ولقد أخبرته في تلك البرقية أن سفينة «لالاند» تحاول أن تختلق لنا الصعوبات والعراقيل أثناء ما نقوم به من عمليات ضد بوحمارة، وهو ما كان ، بدون شك، خطأً، فقد كان يتعين علي أن أقنع نفسي بأن تاتينباخ لا يستطيع مساعدتنا. لكن تلك البرقية أعادت لي الشعور بارتياح غامر، من شدة ما كنت عاجزاً عن مواجهة التدخلات الفرنسية.
ولم تكن بالرجل العجوز رغبةٌ في قضاء تلك الليلة في الجزر الجعفرية.
وحيث إنني تلقيت الأمر من القاضي القبطان بعدم مغادرة الجزر قبل صباح الغد، فإنني بعثت ببومغيث إلى ذلك القبطان على متن سفينة، ليلتمس منه الإذن لنا بالتوجه إلى ميلية، مساء ذلك اليوم نفسه. ولقد تحسبنا لاستجواب القبطان لبومغيث فيمَ نريد النزول إلى البر، ولذلك أوصيت الترجمان بأن يذكر للقبطان برقيتي إلى تاتينباخ.
ولقد نفذ ما أمرته به، فلما عاد أخبرنا أن وجه القبطان العبوس قد تكدر أيما تكدر لسماع ذلك الخبر، فلم يعد له، بالتالي، أن يعترض على مغادرتنا للجزر.
وفي اليوم الموالي، 16 فبراير، التقيت في مليلية الماجورَ المدفعي هويلين أرسو، فأطلعْتُه بتفصيل عن الأحداث الأخيرة، ورجوته أن يحرص على إخبار الجنرال بما سمع مني. وفي زوال ذلك اليوم، وصلتْ سفينة «لالاند» إلى قبالة مدينة مليلية، بعد أن توقفت، في وقت مبكر من ذلك اليوم، في مار تشيكا، وأنزلتْ هناك قسماً من الفرنسيين. وفي حوالي الساعة الخامسة من بعد زوال ذلك اليوم، وجَّه إليَّ القبطان الرسالة التالية :
«السيد القائد،
أرجو أن تخبر ممثل السلطان، الموجود على متن سفنيتك، أنه أمكنني أن أتصل، في هذا الصباح، بمار تشيكا، وأنه لم يعد في مقدوري فعل شيء، حتى إشعار آخر. وتقبَّل تحياتي الخاصة، مودي».
ويبدو أن هذه الرسالة، التي حُرِّرت بكل تلك الحكمة والحرص الشديدين، كانت الغاية منها أن تقول لنا إن سفينة «لالاند» لن تتسبب لنا منذ الآن، في أية عراقيل. وتعزيزاً لما جاء في هذه الرسالة، غادرت الفرقاطة المذكورة، في مساء ذلك اليوم، باتجاه الشرق. لكن بن الطاهر لم يشأ أن يباشر إرسال أفواج أخرى من الجنود، إلا بعد أن يتوصل بجواب الطريس على برقيته إليه.
ولقد أحيط لقاؤنا بسفينة «لالاند» بكثير من التعليقات في مدينة مليلية. ولاحظت امتعاض الأهالي من الأسلوب الفرنسي وتعاطفهم معنا!
وفي زوال يوم 17 فبراير توصلنا ببرقية الطريس، بعد طول انتظار. ولقد جاءت تلك البرقية تخبرنا بتوصل الطريس بتقريرنا عن الأحداث التي مرت بنا في الجزر الجعفرية، ويأمرنا بمواصلة أعمال القصف.
دعاني الماجور هويلين لمرافقته، بعد الزوال، في جولة في التراب الخاضع لإسپانيا. ولقد سرنا، في بادئ الأمر، بمحاذاة الشاطئ، حتى الحدود، ومن هناك أمكنني أن أرى المكتب الجمركي الذي أنشأه بوحمارة، لا يكاد يبعد عنا بغير حوالي 200 متر.
ولقد قلَّبت ناظري في أنحاء ذلك المكتب، فما رأيت غير مجموعة من البيوت مشيدة على الطراز المغربي، تتوسطها ساحة مسوَّرة.
ولكم كان بودي أن أقترب أكثر، حتى أتمكَّن من رؤية المجموع، غير أن هويلين حذَّرني من ذلك، ففي اعتقاده أن المغاربة لن يترددوا في رمْيِي بالرصاص، فهم جميعاً يعرفونني، وسيكون من السذاجة منهم أن يقيموا اعتباراً لحيادي. وواصلنا جولتنا، حتى بلغنا إلى أحد الأبراج المحصَّنة، التي شيِّدت من حول المدينة. إنه برج مستدير الشكل، بعلو من 6 أمتار وعرض من 20 متراً، والجدران الخارجية مشيدة من الحجارة، في سُمك من حوالي ثلاثة أمتار. ويحيط بها خندق بعمق من نحو أربعة أمتار. ويتم الولوج إلى ذلك البرج بواسطة جسر متحرِّك يُرفَع كل مساء.
وفي الأرضية، أي على مستوى عمق الخندق، توجد المطابخ وقاعات الذخيرة. ومن فوقها مساكن الرجال، وعلى الأسطح، من خلف فُتحات الرمي، في الحائط السميك، وُضِعت البطاريات، ومدافع «كروپ» من عيار5،7 ستم، وهي ليست بالعصرية، لكنها لازالت في حال جيدة، فضلاً عن بعض المدافع من عيار 5 ستم، سريعة الشحن. وتتولى الحراسةَ فرقةٌ تنتصب فوق كل برج من تلك الأبراج، وتُستبدَل على رأس كل شهر، وتعم هذا المكان نظافة تامة. وثمة أربعة أبراج أخرى شبيهة بهذا، تكوِّن تحصينات مدينة مليلية.
وهي مجهزة بكشافات وبجهاز الهاتف. وفي الأعلى يكمن حارس يراقب القرية. وهذه التحصينات غير مجهزة تجهيزاً عصرياً، لكنها تشكل حماية أكيدة من الهجومات المحتملة من قبائل الريف.
وخلف هذه الخط من التحصينات، يقوم خط ثان، والخطان معاً، يكفيان لضمان الأمن لمدينة مليلية، وهو ما جعل هذه المدينة تكاد لا تكون محصنة، إذا نحن استثنينا القلعة المحصنة المشيدة فوق نتوء صخري.
أمكننا، من موقفنا فوق ذلك البرج، أن نحيط رؤية بمار تشيكا، ولقد بدا لنا شبيهاً ببحيرة داخلية هائلة، يكاد يتعذر الولوج إليها من طريق البحر، ولقد أدركت، ساعتئذ، السبب وراء شغف ساي بهذا المكان! إنها منطقة مناسبة لإنشاء ميناء هائل، سهل الولوج، وجيد الحماية، بالقليل من الوسائل.
مررْنا، في طريق عودتنا، بقرب ساحة التدريب؛ حيث كان بعض الجنود يتدربون. ولقد أخبرني الماجور أن مليلية تضم، وقتئذ، حامية من 6000 رجل، بسبب من الاضطرابات التي كانت واقعة في تلك الأيام.
وتتألف تلك الحامية من 4000 من المشاة، والبقية منهم بين رماة، ورواد، وفرسان، إلخ.
طالعت صحيفة «تلغراف الريف»، ووجدت في تلك الصحيفة الرسيمة تتميماً للأحداث التي مرت بنا في الجزر الجعفرية. وإليكم، في ما يلي، مقتطفاً من ذلك :
«استدعى قبطان سفينة «لالاند» قبطان سفينة «زينيث»، ليستجوبه، ثم أرسله بسفينته إلى وهران، ليكون رهن تصرف السلطات البحرية المحلية.
ومساء الأمس، غادرت سفينة «لالاند» الجزرَ الجعفرية إلى مار تشيكا، للاتصال بالبر، ونقل الفرنسيين، الذين هم هناك، تأميناً لسلامتهم.
ولقد قبِل تلك الدعوةَ خمسةٌ من جملة الفرنسيين العشرة المقيمين في مار تشيكا، وكان بينهم صحفيان، كانا قد غادرا، أمس، سفينةَ «زينيث»، لالتقاط الأخبار، ثم أُجبِروا على البقاء هناك.
ولقد أعلم القبطان الفرنسيين الخمسةَ الآخرين، قبل مغادرة سفينة «لالاند»، أن فرنسا لن تحرِّك ساكناً في حالة تعرُّضهم لمكروه، وأنهم إن لبِثوا هناك، فالمسؤولية في ذلك إنما تقع عليهم، وعليهم وحدهم تحمل ما يترتب عن ذلك من التبعات، وأنهم لن يكون لهم أي حق في الاحتجاج بجنسيتهم.
وقال ضباط على متن الفرقاطة إن القناة، التي شرع الرجال في حفرها في المركز التجاري، ليست، بعد، سوى حفرة صغيرة، قليلة العمق، وضيقة، وأنه لا سبيل لهم إلى تحقيق مشاريعهم، بدون الاستعانة بالآلات. - ولاشك أن الأحداث التي شهدها مار تشيكا قد خلقت توتراً كبيراً في الخزيرات، فلقد سارع الدوق دالموضوڤار إلى التحدث، في ذلك الشأن، مع الجنرال مارينا في مدينة مليلية، بالاتصال به مباشرة، من مكان إقامته في فندق رينا كريستينا.
وكانت للوزير محادثة مع الحاكم دامت من الساعة 1 إلى الساعة 5 و30 دقيقة، ولقد مُنِع على العموم دخول مصلحة التلغراف طيلة تلك المدة».
ومن جهة أخرى جاءت الصحيفة بتصوير للأحداث مطابق تمام المطابقة لما فعلتُ، ورغم أن سفينة «لالاند» قد عادت إلى مدينة مليلية في الأيام الموالية، فلم يكن في وسعنا أن نتحمل مزيداً من التدخل في حرية حركتنا. ويبدو أن الحكومة أعطت أمرها إلى القبطان بعدم التحرش بنا.
08-08-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 15 -
كانت تلك بدايةَ فترة مضطربة
بالنسبة لنا. فقد كنا نجهد لمنع عمليات التهريب التي كانت تجري في مار
تشيكا، واحتجاز قوارب أنصار الروغي بوحمارة، والإبقاء على أهل المركز
التجاري في حالة خوف دائم، بفعل ما نرميهم به من الطلقات بأوقات معلومة.
قمنا، في يوم 18 فبراير، بأول معركة ذات أهمية، إن صح التعبير، منذ ذلك الاشتباك الذي كان لنا مع سفينة «لالاند.
»
فلقد غادرْنا مدينة مليلية في وقت باكر، والصبح بعد لم ينبلج، لكي يكون
وصولنا، على حين غرة، مع مطلع النهار، قبالةَ المركز التجاري. وما كاد بن
الطاهر يستيقظ حتى أعطى أمره إلى الرماة بقصف العدو.
ولقد رد العدو على
قصفنا، لكنه سرعان ما توقف عن القصف؛ إذ تبيَّن أن طلقاته لن تصل إلينا،
فكنا في جيئة ورواح، في بطء، على بعد 5000 متر من المركز التجاري، مستعملين
مدفع الميمنة، أو مدفع الميسرة، ولقد أصبنا المعسكر بنحو عشر طلقات من
جملة الطلقات الخمسين التي رميناه بها، حتى إذا أشبع العجوز بن الطاهر ما
بنفسه من عطش إلى الحرب، توجهنا إلى مليلية، حيث أرهقَنا الأهالي
والإسپانيون بالأسئلة عن نجاحاتنا.
أبدى الضباط الرماة الإسپانيون اهتماماً خاصاً بنشاطنا، وطلبوا إلينا أن نقص عليهم ما فعلنا.
ورغب كثير منهم في مرافقتنا، لولا أن امتنعت الحكومة، لأسباب سياسية، من الترخيص لهم بذلك.
ولم
يكن في وُسعِنا أن نعلَم مدى ما كان لطلقاتنا من الفعالية، رغم أن من أهل
المركز التجاري من كان يأتي بانتظام إلى مليلية، فلقد منع الروغي بوحماره
أنصارَه من التحدث في الأمر، وهدد المخالفين لأوامره بتغريمهم 50 دورو.
ولم نتلق، في 18 فبراير، رداً على قصفنا للمركز التجاري ولمعسكر بوحمارة، مما أشعرنا بشيء من الاطمئنان.
فلما
باشرنا المعارك في 20 من الشهر نفسه، من دون أن نلقى رداً من البر، أصبحنا
أكثر جراءة، بحيث صرنا نقترب أكثر فأكثر من الساحل، لكي تكون طلقاتنا
أكثر فعالية.
لكن ما كدنا نقترب من الساحل بنحو 3000 متر، حتى لاح،
فجأة، لأبصارنا لمع كالبرق من البر، وبعد ذلك بقليل، أصابت طلقة من العدو
الماء على مقربة من سفينتنا. وإذن فقد راقبنا خصومنا عن كثَب.
لكنهم لم
يكونوا، بكل يقين، من الأهالي، فليس الأهالي من الذكاء بحيث يلاحظون أن
السفينة قد بلغت إلى حد الرمي، بل كانوا، بالأحرى، من الأوروپيين،
الفرنسيين، الذين قدَّروا بدقة، تلك المسافة. ولقد أسرعنا، عندئذ، إلى
التراجع بـ 1000 متر.
وما كدنا نتخذ طريقنا باتجاه مليلية، حتى شرع بن
الطاهر في قصف جميع الضيعات والبيوت التي كنا نراها في متناول مدافعنا، غير
أن ذلك القصف منا لم يسفِر عن كبير خسائر، إذ كانت الأهداف المتموقعة على
الضفة من مار تشيكا شديدة البعد، بحيث تستحيل معها الدقة في التسديد. لكن
سمعنا أن المتمردين كانوا في خوف شديد من ذلك القصف، وكان بن الطاهر يؤمل،
بقصفه المتواصل لهم، والرعب الذي يبث في أنفسهم، أن يدفعهم إلى التخلِّي عن
بوحمارة.
في تلك الأيام، كانت بمليلية خمسة قوارب تابعة إلى المتمردين،
كانت تتهيأ للانطلاق بما عليها من الحمولة، وكانت تبغي أن تنتظر حلول
الليل ليتسنى لها الفرار في جنح الظلام، فلا نراها. وكانت تلك القوارب
موجهة إلى الحسيمة، وكان يكفيها أن تبلغ إلى «رأس ثلث مداري»، لتكون في
منأى عن الأنظار، ولقد لبثنا نراقب تلك القوارب ليل نهار.
وفي زوال يوم
21 فبراير، عدنا إلى نقطة رسونا، وعندئذ لمحنا بعض الأشرعة البيضاء على
مقربة من ساحل «رأس ثلث مداري». ولقد أخذنا في إبعاد تلك الزوارق، موقنين
أنها للمتمردين.
حتى إذا اقتربنا منها، تبين لنا أنها لصيادين إسپانيين
كانوا يصطادون آمنين، وعندما كنا نستعد للتوجه نحو مليلية، إذ لمحنا، فجأة،
زورقاً صغيراً في خليج صغير إلى أقصى الجهة الشمالية الشرقية من ذلك
الرأس. وكان الزورق قد ألقى مرساته على مقربة من الساحل.
ولقد لاحظت من
هيئته أنه قارب ريفي، وعندئذ قرر ابن الطاهر الاستيلاء عليه، ولقد أخذت
بالتسلل، في تؤدة وحذر، إلى الخليج، وأوقفت ذلك القارب، وأنزلت إلى الماء
زورقنا الصغير. لكن لم يكن ببحارتنا رغبة بالنزول إلى القارب، مخافة أن
يكون في ذلك حتفهم، فلئن كان الشاطئ يبدو خالياً مقفراً من أي شخص، فيمكن
لبعض المتمرِّدين أن يكونوا مختفين خلف صخور الساحل، لحماية أموالهم عند
الحاجة. وانتهى الأمر بأن نزل إلى القارب ثلاثة متطوعين، ومعهم سبعة جنود،
كانوا، للغرابة، أقل خوفاً.
ولقد بلغوا حتى إلى البر. وأرسلتُ بسفينة
الإنقاذ الكبيرة لمساعدة أولئك المتطوعين، متى عجزوا عن تدبر الأمر
بأنفسهم. وكان الظلمة تزداد حلكة، حتى لقد أصبح يتعذر علينا رؤية الزوارق.
وفجأة سُمعت في كبد الظلام طلقات نارية، ثم عاد السكون المطبق. تقرَّيت
الظلمة، فما استطعت تبيُّن شيء.
ولبثنا لبضع دقائق، في قلق، خشية أن
يسقط رجالنا بين أيدي المتمردين. وفي الأخير لمحت ثلاثة قوارب فوق سطح
الماء، تقترب من سفينتنا. ثم سمعنا، من جديد، طقات نارية في الظلمة، وبلغت
إلى مسامعنا، في الوقت نفسه، صيحة الحرب يطلقها بحارتنا المغاربة. وكان
رجالنا يعلنون، بذلك، أنهم في أمان، وأنهم عائدون بغنيمة.
ولقد اقتربت
تلك حتى صارت بمحاذاة سفينتنا، وأخبرنا بحارتنا أنه ليس على الساحل غير
الريفيين، الذين طردتْهم الطلقات المدفعية الأولى.
ولقد أسرعنا بحمل
الزوارق، وأخذنا في سحب القارب المغنوم. واتجهنا ناحية عجرود، فبلغناها في
صباح اليوم الموالي، وهناك سلمنا غنيمتنا. لكن أثناء ذلك فرَّ من بين
أيدينا أولئك الذين كانوا بغيتنا في الأصل.
واستاء الإسپان أيما استياء
لاستيلائنا على ذلك الزورق. ونشرت صحيفة «تلغراف الريف» بعض المقالات
المعادية، أشد العداء، لنشاطنا. فقد رأى كتاب تلك المقالات أننا لو أردنا
أن نحتجز كل ما تقع عليه أنظارنا من القوارب، لآل بنا الأمر، بمضي الوقت،
إلى وقف كل تجارة مع مدينة مليلية. كما أثار أسلوبنا في العمَل قلق الحكومة
المغربية وانشغالها، هي التي كانت تؤمِّل الحفاظ على علاقاتها الودية مع
سكان المناطق المحيطة بالتراب الخاضع لإسپانيا. ولذلك أصدرت إلينا الحكومة
المغربية أمرها بردِّ القارب المغنوم إلى صاحبه. لكن قوبل ذلك الأمر بالرفض
من العجوز بن الطاهر، ولم تُجدني شيئاً محاولتي لرده إلى جادة الصواب.
وكذلك كان لقصفنا للضيعات القريبة من الحدود الإسپانية الوقع السيء في نفوس
أهل مليلية. ولقد أمرنا الجنرال، من أجل تهدئة النفوس، بأن نتلافى أي قصف
لتلك النواحي إلا أن يكون على مسافة تتعدى ستة أميال بحرية من التراب
الخاضع لإسپانيا. ولقد جُنَّ جنون بن الطاهر لدى تلقيه لهذا الأمر. لكنه لم
يلبث أن استعاد هدوءه لما أخبرتُه أن من شأن ذلك أن يجعلنا نفيد من ضيافة
مدينة مليلية، لكننا سنُطرَد منها لو لم نمتثل لتعليمات السلطات الإسپانية،
وهي تعليمات معقولة.
ثم إذا ببن الطاهر يأخذ شيئاً فشيئاً في استعادة
حماسته، وأخذ يجد من نفسه شعوراً متزايداً بأنه هو سيد السفينة وسيِّد
الجنود معاً! وإذا هو يبلغ من كل ذلك إلى تطبيق العقاب الجسدي لأول مرة على
ظهر السفينة. والعقاب الجسدي ممارسة لازالت جارية في المغرب. فلقد أمر بن
الطاهر بجلد أحد الجنود في سوء غير ذي بال اقترفه. ولقد انقلب ذلك الحادث
مشهداً هزلياً. ففيما كان أحد الرجال يمسك برأس الجانح، الممدَّد على أرضية
السفينة، ويمسك رجل آخر برجليه، كان «الجلاد» وهو أحد ضابطي الفرقة
الصغيرة، ينزِل ضرباته بثنية سروال الجانح بطرف كبْل صغير.
كانت ضربات
الضابط شديدة حقاً، لكن لم يكن لها أن تؤلم الرجل شديد الألم، رغم ما كان
يُصدِر من الصراخ الحاد. ولقد دفَع هذا الصراخ بالسيد الذي كان يجلس على
سطح السفينة؛ حيث كان يجري تنفيذ الحكم، إلى وقف ذلك العقاب، ولم يكن
الجانح تلقى غير ضربات معدودة.
وفي اليوم نفسه، أُنزِل العقاب عينه بأحد
العبيد السود. ولقد لبِث الرجل العجوز داخل خيمته فيما كان يجري تنفيذ
الحكم في الخارج، بعيداً عن نظره. فأما الجندي الجانح فقد كانت الضربات
تنزِل فوق ثنية سرواله، رغم أنه قد كان لذلك السروال الكثير من الثنيات،
وأما العبد فقد تولى رجلان شدَّ طرفي سرواله، بحيث كانت الضربات تنزل فوق
الثوب المشدود! غير أن العبد كان يصرخ من الحدة كأنما هم يسلخونه حياً.
ولقد دخلت، في تلك الأثناء، إلى خيمة بن الطاهر، ونظرت إلى العجوز نظرة
شزراء، وغمغمت ببعض الكلمات بلساني الألماني، وإذا هو يأمر، فور ذلك، بوقف
العقاب.
كانت سفينتنا مكتظة بالرجال؛ من بن الطاهر وجنوده. فقد كان منهم
على متن السفينة 90 رجلاً. وكان جنود بن الطاهر يتألفون من 50 من المشاة،
و20 من الرماة. وكان المشاة يتوزعون إلى مجموعة من الفصائل، وكانت كل فصيلة
منها تأتمر بأوامر قايد خاص (أشبه بضابط الصف). وكان الرماة يأتمرون بأمر
المعلم محمد.
وكان جميع هؤلاء الرجال في جعجعة دائمة لا طحين من ورائها!
ولم يكونوا يقومون بعمل دائم منتظم، إلا من المشاة الذين يقومون بتنظيف
بنادقهم مرة في الأسبوع - إذا أُجبِروا على ذلك - فيما يقوم الرماة على مسح
المدافع وتنظيفها بعد كل استعمال، فإن لم يفعلوا ذلك، كان عليهم أن
يقوموا، في كل يوم وأثناء ما ينشب من «معارك»، بجلب الذخيرة وشحن
البطاريات. غير أنه عمل يكفي عشرة رجال، أو أقل، للقيام به، مما يجعل طاقم
المشاة برمته زائداً على الحاجة ولا نفع فيه. غير أن بن الطاهر لم يكن من
هذا الرأي، فلم يكن يرى هذه الكثرة الزائدة في الجنود على ظهر السفينة،
فإذا طلبت منه، في بعض الأحيان، أن يتخفَّف من النصف وزيادة من أولئك
الرجال، كان يقابل طلبي بالرفض، متذرعاً بحاجته الماسة إليهم في عملية
الإنزال المقبل. ولم أكن أجد بُداً من الإذعان لمشيئته، وأعتبر جميع أولئك
المزعجين بمثابة شر لا مفر منه!
لم يكن أولئك الجنود في الحقيقة بالرجال
العدوانيين. ولقد أصبحنا لا ننزعج لوجودهم منذ أن كفوا عن القيام
باستعراضهم المألوف فوق سطح السفينة لسبب وبدونه. ولم يكن لهؤلاء الجنود،
بطبيعة الحال، أي حظ من التكوين العسكري، وما كانوا يشبهون الجنود بغير
الهندام. فقد كانوا في ثلاث بدلات مختلفة. غير أنهم كانوا يرتدون كل ما يقع
بين أيديهم، مما كان يجعل مجموعهم غير متناسق. وكانوا في ثياب واسعة
وعريضة، إذ كانت أُعِدَّت على مقاسات رجال أقوى منهم وأسمن. غير أن حسنة
هؤلاء الجنود الوحيدة في كونهم من الشبان مكيني البنية.
كان الحنود
يقيمون في ممر، قُسِّم إلى حجرات ضيقة، بواسطة الأخشاب التي يجود بها مد
البحر، على نحو ما نجد في جميع السفن، بواسطة عصي، وأغطيتهم وأفرشتهم. وكان
الرجال يعيشون في جماعات. وكانوا لا يولون كبير اهتمام للنظافة، فكانوا
يتركون الفضلات مكوَّمة فوق الأرضية، لا يزيلونها إلا أن يُضطروا إلى ذلك
بعد أن تصبح تلك الأزبال معرقلة لحركتهم. وهم يمضون بقية ووقتهم في الشرب،
والأكل، والتدخين والثرثرة والنوم. ولا يبرحون أماكنهم إلا على مضض، وفي
حالة الضرورة القصوى.
وكان مكان الاحتكاك الوحيد بين الجنود والبحارة هو
المطبخ. فلم يكن بالسفينة غير حجرة صغيرة شاغرة، تُستعمَل في إعداد الأكل
للبحارة، والسائقين، والرماة، والمشاة، وضباط الصف، وبن الطاهر. وكان هؤلاء
جميعاً يقومون على إعداد أكلهم بأنفسهم، وإنه لأمر معقد حقاً! فلم يكن
مناص من أن تنشب عراكات بينهم، وسيظل الأمر على حاله إلى أن يتم إدخال بعض
النظام على هذه الفوضى.
كان العجوز، ورؤساء الرماة وضابطا الصف، شأننا
نحن، قد أُعطيَت إليهم أوامر بأن يعتنوا بالسلامة الجسمانية لرؤسائهم. وفي
مقابل ذلك كان لهم أن يأكلوا من الفتات الذي يفضل عنهم، ولقد كان فتاتاً
هزيلاً مع بن الطاهر، الذي كان رجلاً بخيلاً. كما كان الطباخ الذي يقوم على
إعداد طعامه رجلاً مغطى ببقع الزيت، ولم أكن أقبل، إلا على مضض، دعواته
إليَّ، بين الفينة والأخرى، لمشاركته طعامه، فلم يكن للنظافة وجود في
محيطه، وكان العبدان اللذان يقومان على خدمته من القذارة حداً لايطاق.
لم
يكن ليخطر ببال الجنود أن يُهَوُّوا حجراتهم، فلازال الوقت شتاء، ولازال
الجو بارداً. ولقد واصلوا الحياة في حجورهم، رغم كل تحذيراتي إليهم من مغبة
ذلك. فلم يكن بالشيء المفاجئ، والحالة هذه، أن يقع بينهم بعض المرضى. ولقد
طلبت الإذن من مدينة مليلية بحمل الجنود المرضى إلى المستشفى، لكن لم يأذن
لهم موظف المحجر بالنزول إلى البر، خشية أن يكونوا مصابين بمرض معدٍ. وزاد
على ذلك بأن هدَّد بالحجر على السفينة كلها، ومنعها من كل نشاط تجاري، في
حالة الإعلان عن وجود حالات مرض أخرى على متنها. ولقد استاء بن الطاهر أيما
استياء من ذلك، وقرِّر، مكرهاً، أن يُنزِل جنود المشاة جميعاً في عجرود.
وكان
علينا، قبل الرحيل، أن نتزود بشيء من المؤن من مليلية. بيد أن الجنود لم
يكن لهم، بسبب الأمراض، أن يطأوا البر، ولم يؤذن بذلك لغير البحارة
والأوروپيين. بيد أن العجوز كان عاقداً العزم على أن يرسل بأحد خدامه ليقوم
له ببعض الأشرية، فلقي مقاومة شديدة من البحارة، الذين منعت عنهم منهعاً
باتاً أن يسمحوا للجنود بالرحيل.
ولقد امتلأ العجوز سخطاً وحنقاً، فأعطى
أمره بمعاقبة البحارة، وهو الأمر الذي قاموا عليه محتجين كرجل واحد، وسمعت
الضجة، فأسرعت بالصعود إلى سطح السفينة.
كان ابن الطاهر يصيح، في
انزعاج، ويلوح بيديه، فيما كان رجالي الحيارى يقصون عليَّ ما جرى، فانحزت،
بطبيعة الحال، إلى جانب رجالي، ومعه ابن الطاهر بصورة نهائية أن يعطيهم
أوامر أو يعاقبهم، فهم لا يتبعون سواي، أنا القائد المسؤول للسفينة، ولن
أتحمل أن يقوم شخص ثالث بعرقلة عملي.
وحدث كذلك أثناء إنزال الجنود في
عجرود، ما يشبه المشهد الفاصل في المسرحيات، مع بن الطاهر، بدا على ضابط
الصف الطنجي أنه لم يكن يرى حاجة لأن يؤدي لهم أجرهم، ولربما كان يريد كذلك
أن يأخذ معه إلى البر أجر الأيام الآتية للاستحواذ عليه.
وباختصار فقد
حدث هرج كبير. وفي الأخير أظهر ضابط الصف كيساً صغيراً مليئاً بالنقوذ،
تناوله منه العجوز وهو يضحك في برود، ثم وضعه في جيبه!
ثم كان نزول
الجماعة إلى البر، ولم يلبث على متن السفينة غير 20 من الرماة، ولقد تم
تنظيف قعر السفينة، ولم نعد نجد مُدافعةً في مدينة مليلية لاستئناف التجارة
مع هذه المدينة. ولقد حقق نشاطنا القصير نجاحات لا يمكن إنكارها، على كثير
من الأصعدة، ولاسيما منها التهريب الذي كان يشتغل به الفرنسيون في مار
تشيكا؛ فلقد نجحنا في القضاء عملياً، على هذا التهريب، كما أصبحنا مصدر خوف
كبير للمتمردين.
ويمكن لوقف مفاجي لغاراتنا أن تنسف بسرعة ما حققنا من
نجاح عابر، غير أن احتياطينا من الفحم كان في تناقص، مما حتَّم علينا
التوجه إلى مدينة طنجة في طلب تموينات جديدة، ما دام أن جميع طلباتنا
المكتوبة لكي يُرِسلوا إلينا بالفحم من هناك، بقيت بدون جواب.
ولقد أبدى
بن الطاهر، في البداية، بعض المقاومة لقراري، لكنه لم يلبث أن أذعن، عندما
قمت بكتابة إقرار يعفيه من كل مسؤولية في هذا الأمر.
تلا علينا بينير،
ممثل الطريس، الذي كان وقتئذ، في الخزيرات، عندما كنا نهِم بالمغادرة،
خطاباً من السلطان، يعبِّر لنا فيه عن امتنانه لما قمنا به من أعمال.
9 - 8 - 2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 16 -
مكثنا في مدينة طنجة أسبوعين، أخذنا خلالهما، حمولتَنا من الفحم. وفي 20 مارس غادرنا المدينة باتجاه مليلية.
أصبح
بيد بن الطاهر الآن ثلاثون رجلاً يأتمرون بأوامره، وعشرون من المشاة
يأتمرون بأوامر ضابطَي الصف، وجنديان راميان. ولقد تقلَّص فيلق الرماة إلى
النصف، وأصبح يتكوَّن من المعلم محمد ونائب له يُدعى المعلم القشابة.
تم تثبيت المدفعين فوق دعامتين قويتين، صنعتا في مدينة طنجة.
ولقد
تحتم علينا أن نمكث في مدينة مليلية متبطلين لبعض الوقت، بفعل ريح الغربي
القوية التي كانت تعيث بالبحر، فلما نزلت إلى البر، أخبرني بومغيث أنه تحدث
إلى زوج (رجل وامرأة) ألماني، يرغب في لقائي. ذلكما هما السيد راينهارد
مانيسمان دي ريمشايد وزوجته الشابة. فقد كانا في رحلة لقضاء شهر العسل،
وكانا يتجهان صوب المغرب، مروراً بمدينة مليلية، لشدة ما كان الجو بارداً
في الجزائر. ولم يكن في مدينة مليلية من ألمانيين، ولذلك كان طبيعياً أن
نغتبط للقاء مواطنينا في هذه المدينة.
وفي اليوم الموالي تناولت طعام الإفطار رفقة أسرة مانيسمان في فندق كولون، ولقد تعرفت فيهما على شخصين بالغي الفائدة.
ولقد
جلسنا إلى مائدة بمعية أربعة فرنسيين، كان السيد والسيدة مانيسمان يتحدثان
معهم باللغة الفرنسية، فيما لم أكن أتحدث معهما بغير الألمانية. وفجأة إذ
لاح للسيد مانسيمان أن يقول لهم إنني أتكلم الفرنسية، غير أني لا أتحدث بها
بطواعية، لأن فرنسيتي رديئة.
وعندئذ خاطبني الفرنسي الذي يجس بقربي، بالإسپانية، قائلاً :
- «فلنتحدث بالإسپانية، ما دمت تجيد هذه اللغة».
فسألته :
- «ومن أدراك بذلك؟»
- «أوه، إنني أعرفك منذ ست سنوات، فكان لا بد أن أعرف بذلك».
- «ألست أنت السيد ميم نون؟».
- «ذلك أنا بالضبط».
كنت
سمعت الكثير عن السيد «ميم نون»، لكني كنت لا أكاد أذكره. إنه يمتلك أرضاً
بالقرب من مرسى ساي، على مقربة من الحدود المغربية، على الساحل الذي طرده
منه السيد ساي.
ولقد أصبح منذئذ أنشطَ بائعي الأسلحة للروغي بوحمارة،
ولقد اغتنمت الفرصة لأسأله عن الروغي، وعن الوضعية في مار تشيكا، فكان
جوابه على ما سألت صادقاً، ليس فيه شائبة من كذب.
فلقد كان في المركز
التجاري أثناء ما كنا نقوم به من قصف لذلك المكان، لكنه لم يشارك شخصياً في
إدارة المدافع، رغم كونه ضابطاً رامياً احتياطياً وهو لم يكن يرى ضيراً في
بيعه الأسلحة للروغي، فلقد كان مرخصاً له بذلك، هو التاجر الرزين. عدا أنه
يدعو بوحمارة، دائماً، باسم مولاي محمد. ولقد سألت السيد «ميم نون» من
يكون ديلبريل، وما هو عمله، فعلمت منه ما يلي :
كان ديلبريل، من قبْلُ،
يعمل ناسخاً أثناء مهمة للتصوير الطوپوغرافي، ولقد تمكَّن، بذلك، من
مشاهدة قسم كبير من المغرب. وعندما قام بوحمارة (مولاي محمد) بالتمرد على
السلطان، دخل ديلبريل في خدمته. ولقد عرف كيف يحوز تقدير سيده، بحيث لم يكد
يمضي عليه في خدمته وقت يسير حتى رقاه بوحمارة إلى أعلى المراتب. ولقد
تقدم ديلبريل، في بداية عمله لدى بوحمارة، إلى الحكومة الفرنسية باقتراح أن
يرفع إليها تقارير عن جميع الأحداث، وهو العمَل الذي زاوله مدة ثلاثة
أشهر. غير أنه لم يتمالك نفسه من التباهي بذلك علناً، مما جعل الحكومة
الفرنسية تتخلى عنه. ورغم تأكيد السيد «ميم نون» على انقطاع أي اتصال رسمي
بين ديلبريل وفرنسا، إلا أنني لم أصدقه في ما زعَم.
وكان من بين من جلس
معنا إلى المائدة صديق ومساعد للسيد (ميم نون)، وكان الآخر محامياً
فرنسياً، وكان ثالث الجلوس رجلاً بلجيكياً. وقد كانت لهذا الأخير مصالح
كثيرة في مار تشيكا، فكان خوفه كبيراً أن يخسر كل شيء. ولقد سأل السيدة
مانيسمان في قلق وانشغال بالغين عن نوايانا، وعن عيارات مدافعنا. ولذلك
وجدتني أُخْرِج صور القصف الأخير، وجعلت أُديرها على الحضور من حولي.
فكانوا يتفرجون عليها جميعاً في اهتمام بالغ. فلما وقعتْ بين يدي الرجل
البلجيكي، لم يتمالك نفسه من أن يهمس، مندهشاً، إلى السيدة مانيسمان من تحت
المائدة : «75 ملم!». وبعد الفراغ من الأكل، عبَّر لي هؤلاء الأشخاص
الأجانب عن ودهم. ولم أعرف إن كانوا صادقين. ثم انصرفوا.
دعوت السيد
مانيسمان، على سبيل الدعابة، إلى مرافقتي، هو وزوجته، فإذا هو يحمل دعوتي
إليه على محمل الجد. ولقد كان بالزوج اثنيهما رغبة شديدة في القيام بتلك
الرحلة، بحيث لم أملك إلا حملهما معي، رغم معرفتي بافتقار السفينة إلى
وسائل الراحة. لكن سرعان ما تبدَّدت مخاوفي في هذا الشأن؛ فقد كان الزوج
مستعديْن، في سبيل المشاركة في تلك الرحلة، لتحمل شروط أقل راحة مما هو
الأمر على متن السفينة، ولقد استقلا السفينة في 24 مارس. واغتبط بن الطاهر
أيما اغتباط لمرآى المرأة الشابة، والتي كان لايني يلتهمها بنظراته، فكان
حفياً شديد الحفاوة بضيوفي. وسرعان ما دعانا إلى خيمته، حيث شاركناه طعاماً
بسيطاً. استغربت لسهولة تأقلم الزوج مع الوضع، فكانا يتناولان الطعام
بأصابعما، على غرار ما كان يفعل مضيفنا.
وكان العجوز يجلس هنياً داخل
خيمته، قد شبَّك ساقيه، كأنما يقتعد عرشاً. فكان يبتسم في سرور، ويمعن
النظر في المرأة الحسناء. وكنا نشكل مجموعة غريبة من حواليه. وكان بومغيث
يتولى الترجمة.
لبثنا متسامرين حتى وقت متأخر من الليل. واستيقظنا
مبكرين في اليوم الموالي، فحيَّيْنا المركز التجاري ببعض الكرات المدفعية.
لكننا لم نُطِل في ذلك، إذْ كنا نبغي التوجه، في نفس اليوم، إلى عجرود.
وفي
طريقنا إليها، عاد بن الطاهر لقصف القرى الواقعة على ساحل كبدانة، وظل
ممعناً في قصف الساحل، لم يتوقف إلا عندما أصبحنا داخل المناطق الصديقة.
وفي
28 توجهنا إلى مدينة مليلية، فرمينا، في طريقنا إليها، المركزَ التجاري
ببعض الكرات المدفعية، وقصفنا جميع ما لاح لأنظارنا من القرى في تلك
الناحية.
حدثَتْ، إذْ نحن في مدينة مليلية، مشاداة عنيفة بين العجوز
وبومغيث. فلقد ألزَم بن الطاهر البحارة بالمشاركة في عمليات القصف. واعترض
بومغيث على ذلك، بضُعف الطاقم، وبأنه لا ينبغي تبديد قواته، وهو ما رفض
العجوز التسليم به. ولقد ظن بن الطاهر أن بومغيث يسعى إلى افتعال الشجار
معه، فكان ذلك مبعث غضب لديه، وكان يلوِّح بيديه، كما اعتاد أن يفعل في مثل
هذه الحالات. بيد أن بومغيث لم يجبُنْ أو يستسلم. فأخذ، بدوره، في الصراخ،
والتلويح بيديه، حتى لم نعُد نسمع للعجوز صوتاً، وأخذ يقبل بمصيره. ولقد
أشرْنا عليه بأن يرسل في طلب بعض الرجال من مدينة طنجة، للعمل في عمليات
الإنزال. ولقد بادر إلى العمل بتلك النصيحة، فأبرقَ، في ذلك الشأن، إلى
العجوز الطريس. لكنه لم يتلق، أبداً، أي جواب على برقيته.
جلسنا، مساءً،
ننعم بالهدوء، داخل خيمة الرجل العجوز. فحكى لنا أن الروغي جنَّد خمسة
رجال من كل قرية من قرى «رأس ثلث مداري»، من القادرين على حمل السلاح.
أردنا
أن ندفع هؤلاء المجنَّدين الجدد للعودة إلى بيوتهم، ولذلك توجهنا، في يوم
29 من الشهر نفسه، باتجاه ثلث مداري، وقصفنا ما وقعت عليه أبصارنا من
القرى. ولقد حققت هذه العملية نجاحاً كبيراً، إذْ دفعت بجميع القرويين من
سكان تلك الناحية، إلى ترْك الروغي، والعودة إلى بلاداتهم المهدَّدة. ومن
سوء الحظ أن اضطُرِرْنا إلى وقف كل إغاراتنا على ذلك «الرأس»، نزولاً عند
رغبة الحاكم. فلقد نقل إلينا مترجمة، الذي كنت على علم بعلاقاته الطيبة مع
الروغي، نقل إلينا رغبة الحاكم في هذا الشأن. ولقد ارتبت في أن يكون إنما
يفعل ذلك من تلقاء ذاته، ولذلك قصدت الجنرال شخصياً، لأستفسره في ما يريد.
فأوضح لي أن القبائل المجاورة لمليلية صديقة لإسپانيا، وأنها تثق بها، فلو
أننا قصفناها، وعدنا بعد ذلك، إلى مليلية، فسيكون من شأن ذلك أن يُغضِبها،
ويمكن لذلك أن يتسبب في مصاعب سيكون لها الوقع السيء، في الوقت الذي يتم
العمل، في الخزيرات، من أجل إعادة السلم والهدوء إلى المنطقة. ولذلك رجانا
أن نكف قصفنا عن سكان ذلك الرأس، وكذلك عن سكان القرى الواقعة في جنوب
مليلية. ولئن كنت لم أتفهم جيداً حججه وتعلُّلاته، إلا أنني وعدته بأن
أحترم رغباته.
استمتع السيد والسيدة مانيسمان كثيراً برحلتهما على متن
«التركي»، بحيث عادا على متنها، كذلك، متوجهين إلى عجرود. ولقد كان
انطلاقنا في الصباح الباكر، يوم 30 مارس. وعند مطلع النهار، حيَّينا المركز
التجاري، من جديد، ببعض الكرات المدفعية.
وجدنا في استقبالنا، بقصبة
السعيدية، عبد الرحمان بن عبد الصدوق، الذي كان قد أقام هناك مركز قيادته؛
حيث دعانا إلى مشاطرته فطوراً وفيراً. لقد كان هذا الرجل الجليل يسكن بيت
القايد، لكنه كان يؤثِر أن يقضي نهاره في خيمته. وهي خيمة رحبة فسيحة،
مؤثثة بحشيات وزراب، مما جعل مجلسنا فيها مبعث راحة جمة. وجيء إلينا
بمائدتين واطئتين، فجلسنا أرضاً متحلقين حولهما. فكان القائد الأعلى إذا
التقط مضغة لذيذة كان يجعلها بيديه في فم السيدة مانيسمان، فكنا نتسلى
كثيراً بما يفعل. ولم يكن في ذلك ما يبعث على الاشمئزاز، فلقد غسَل الرجل
يديه، من قبل، بالصابون في عناية. ولقد أثارني، في ذلك، الاختلاف الشديد ما
بين رجال السلطان وبين بن الطاهر. فقد كان الأوائل رجالاً ذوي هيبة ووقار،
وكانوا، برغم هيبتهم، رجالاً شديدي الحيوية، بشوشين، ومقبلين على الحديث.
وأما بن الطاهر، فهو عجوز متعظِّم وكسول، قد انصر كل همه إلى الأكل. فقد
كان من شده «تلهفه» إلى الأكل كأنما يريد أن يتزود منه بما يكفيه لأيام
كثيرة، ما دام أن ذلك لم يكن يكلفه شيئاً.
تقدم السيد مانيسمان إلى عبد
الرحمان بن عبد الصادق بمقترحات لمهاجمة الروغي. فلقد أشار عليه بتسليح
سفينة «التركي» بمدافع يصل مداها إلى 15 كيلومتراً، ليقتدروا بها على قصف
قصبة سلوان من البحر، فيطدروا، بذلك، بوحمارة من آخر مستقر ثابت له. كما
اقترح تزويد سفينة «السيد التركي» بنظام إشارة بسيط، حتى يكون في مستطاعنا
أن نتفاهم به مع الجنود المرابطين في منطقة ملوية، تيسيراً للتعاون
والتنسيق بينهما. ولقد كان القائد الأعلى يصغي في اهتمام لمقترحات السيد
مانيسمان، وبدا أنه يستحسن نصائحه إليه. ومن سوء الحظ أن ظلت تلك النصائح
كلاماً في الهواء، لم يُعمَلْ بها!
وفي زوال ذلك اليوم دعاني زالوڤسكي
إلى مرافقته في جولة بأملاكه. فرأيت القمح قد عرَّش كثيفاً في الناحية التي
تم استصلاحها، مما يَعِدُ بمحصول وافر. ولقد أخبرنا زالوڤسكي أنه استخدم
ثلاثة عمال من الأهالي، وأنه يؤدي أجراً أسبوعياً لكل واحد منها يصل إلى 75
ليرة من الشعير و10 كيلوغرامات من الدقيق. وسيكون لهم، بعد جني المحصول،
5/1 من القمح المدروس، فيما يحتفظ هو بالتبن والقمح. وقد كان ذلك الأجر
العيني يجعل أولئك العمال يعملون طوال السنة، فإذا عجزوا عن القيام لوحدهم
بعمل الحصاد يكون عليهم أن يشغِّلوا معهم من يساعدهم في ذلك، وأن يؤدوا
أجور معاونيهم من عندهم. وهو عُرْف قديم جداً عند الأهالي، ولقد أثبتت
التجربة، دائماً، فعاليته وجدواه، فقد كان طموح العمال إلى الحصول على قسم
من المحصول يحفزهم إلى الجد في العمل.
في اليوم الموالي، دعينا، مرة أخرى، عند سيدي عبد الرحمن. فعدنا، من جديد، إلى السفينة في وقت متأخر من الليل.
لن
أنسى ذلك المسير ما حييت. فقد لاحظنا، وقت أن شرعنا نعد القارب للرحيل،
أن الريح أخذت تعصف رويداً رويداً. فطلبت إليَّ السيد والسيدة مانيسمان أن
يمضيا الليلة في القصبة، ويتركاني أمضي لوحدي. لكنهما رفضا. فلم أجلد بداً
أن أذهب بهما، ممتلئ النفغس غماً. صارت تواجهنا أمواج عالية، فلا تني ترتد
بنا إلى الوراء. واقتضانا الأمر ساعة إلى أن أفلحنا في تخطي العوائق
الأخيرة، وندخل الخمياه الهادئة. وقد ظلت الريح في اضطراب متزايد. ومن
حولنا الظلام دامس. فكنا نسير على هدي إضاءة المرساة، لولا أنها كانت
كثيراً ما تحجبها الأمواج. فلم نكن نستطيع تقدماً إلا ببطء. ولم يكن بوسعنا
التقدم إلا خطوة خطوة. ولم يكن بين الجدافين من ينذرنا بالتعب غير أربعة!
ولم يكن لنا سبيل إلى أن نرجع القهقرى بأي حال، وإلا لكان ارتداد الموج قضى
علينا. لم يكن لنا بد من التقدم. فتارة من فوق المرتفع البحري، وتارة أخرى
في أسفل في جوف الموج. وقد أبانت السيدة مانيسمان عن شجاعة منقطعة النظير.
فقد كانت بكلماتها الحادة والمسلية، تشجع الرجال، الذين بدأوا يتعبون، على
مضاعفة مجهوداتهم. فصرنا نقترب، رويداً رويداً، من السفينة، التي جعل
البحارة يصبون منها الزيت في الماء لتهدئة الموج من حول القارب. واقتضانا
قطع المسافة القصيرة التي لا تزيد عن أربعة كيلومترات ساعتين كاملتين. ثم
ابتدأنا عملية المسافنة (نقل الركاب من القارب إلى السفينة (المترجم).
فكانت صعبة كذلك؛ لأن القارب إما يكون فوق مستوى المضمار ، أو يختفي في
الأعماق. بيد أننا أفلحنا في الوصول من غير ما أضرار، وإن كنا مبتلين حتى
النخاع. وإذا رجلان يتداركاننا في الوقت المناسب؛ فيمسكا بأيدينا، ويصعدانا
إلى السطح. ووجد السيد مانيسمان أن عليه أن يكافئ الرجال بما يذلوا من
شجاعة وجلَد، فأعطاهم مبلغاً كبيراً من المال.
وسلَّمني زالوڤسكي بعض
الصحف الفرنسية التي تصدر في مدينة وهران. فأمضينا الأيام الموالية في
قراءتها، إذ اضطرنا سوء أحوال الجو إلى البقاء على ظهر السفينة. ولقد أفردت
تلك الصحف أعمدة طويلة لتصوير الأحداث التي شهدها «مار تشيكا»، من المنظور
الفرنسي بطبيعة الحال. فقد صوَّرت قبطان سفينة «زينيث» في صورة شهيد،
وصورتني تلك المقالات في صورة متوحش متعطش إلى الدم، أحقد عليه وأبغي قتله.
ولقد تسلينا كثيراً بهذه الأكاذيب وهذه الترهات.
كنت أتحاشى السيد ساي،
في هذه الأيام الأخيرة. ولقد أرسل إليَّ مع زالوڤسكي يستفر عن سبب امتناعي
عن زيارته. وقد كنت أجدني عاجزاً عن غض طرفي عن عملية مار تشيكا. لكن،
وإنا كنا عدووين، فإن يإمكاننا أن نشرب كأساً من الشامپانيا في مرسى ساي؛
تلك المنطقة المحايدة. وقد كان السيد والسيدة مانيسمان يرغبان في رؤية
الأشغال الجارية في ذلك المرسى، ولذلك قررت قبول دعوة إليَّ، والقيام
بزيارته. ولقد توجهنا إلى مرسى ساي على صهوات الجياد، وسرنا على ساحل
البحر.
كان السيد ساي طريح الفراش، بعدما أصيب في إحدى قدميه. فاستقبلنا
اثنان من رجاله، وتوجها بنا إلى قاعة الأكل. ولقد كان ترحاباً بارداً
ومتكلفاً. ثم قدِّم إلينا الشاي، فرفضته. وطلبت بدلاً عنه كأس كونياك.
وتحدثنا حديثاً قصيراً في عملية «مار تشيكا»، ثم افترقنا. ولقد علِمت،
بعدئذ، أن حضوري، باعتباري ذلك الپروسي المتغطرس، قد كان مصدر إزعاج كبير،
فقد كنت أشن حرباً لا هوادة فيها على فرنسيي «مار تشيكا»، ثم عدت أدراجي
هانئاً على صهوة جوادي عبر منطقتهم. ومن غريبٍ أن جميع الذين قبِلوا بتناول
الشاي قد اشتكوا، بعدئذ، من مغص في معداتهم، بينما أنا، الذي شربت
الكونياك، كنت في أحسن حال!
أمضينا ليلتنا مفترشين بعض الحشايا، تحت
خيمة القائد الأعلى؛ العاجة هوام. وكانت تهمي مدراراً، حتى استحال داخل
القصبة إلى ما يشبه مستنقعاً عميقاً.
وظلت الشمس محتجبة، لم تطل إلا في
ظهيرة اليوم الموالي، لكن بعد تلك الليلة، لم يكن بمقدورها أن تبعث فينا
الحماس لركوب رحلات أخرى، ولقد صعدنا إلى السفينة، وحده ابن الطاهر لبث في
البر؛ إذ توسم في الجو ما ينذر بالسوء.
واستمر الجو على اضطرابه في
الأيام التالية، ما تعذر معه أي اتصال مع البر، وقعد بنا عن نقل قائدنا
العجوز وكانت المؤونة التي بأيدينا في سبيلها إلى الانقضاء.
توجهت، في 7
أبريل، إلى مليلية، وهناك علِمت بانتهاء أشغال مؤتمر الخزيرات. أسفر
المؤتمر عن اتفاق ممثلي القوات الأجنبية، وتعيَّن على المغاربة أن
يُوقِّعوا على الپروتوكول.
وتركَنا السيد والسيدة مانيسمان، وتوجها إلى
مدينة فاس وطنجة، في غمرة فرح المهربين الفرنسيين الذين أزعجهم أن نحشر
أنوفنا في شؤونهم، غير أننا وجدنا مشقة في الافتراق عن ضيوفنا، فلقد بدأنا
نألفهم ونقدرهم أثناء مقامنا الأخير على متن السفينة، وقد أسهما كثيراً في
إدخال شيء من التغيير على رتابة حياتنا.
10 - 08 - 2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
- 17 -
عندما كنا في طريقنا، في 10
أبريل، إلى عجرود، لنحمل بن الطاهر من هناك، إذ لمحنا سفينتين شراعيتن
صغيرتين كانتا تدوران في رأس الماء، وتتجه صوبنا، مبحرتين على مقربة من
كبدانة. ظننتهما سفينين من سفن المتمردين، وأخذت أحاول اعتراضهما وقطع
الطريق عليهما، للاستيلاء عليهما. ولقد تنبه من في السفينتين إلى نيتي،
فسارتا إلى الساحل، وتوقفتا هناك، ثم ترجل الركاب ولاذوا مختبئين ببعض
الصخور وبعض الأدغال، ولقد بدا على الخليفة، الذي يمثل بن الطاهر، أنه
خائف، ولم يكن يعرف ماذا يفعل. شجعته، وجعلته يوقف السفينة. وكنا على بعد
1500 متر، ومن ثم فتحنا ناراً كثيفة على تلك القوارب، كما قصفناها بالكثير
من الكرات المدفعية وطلقات «ماكسيم»، لكن حتى وإن كان الرماة سديدي التصويب
والقصف، فلم نفلح في تحطيم تلك القوارب. إما لأن الكرات كانت تمر من فوقها
وتصيب الصخور، وإما لأنها كانت تصيب البحر، فتحلق فوق الهدف.
كانت
المسافة بالغة الكبر، والأهداف بالغة الصغر، ولقد كان لرصاص «ماكسيم» مفعول
أكثر : فلقد اخترقت جوانب السفينتين، لكن من دون أن تفلح في إغراقها. وكم
كان بودنا أن نمصي للبحث عن السفينتين، بسفينتنا، لولا أن كان أمراً
مستحيلاً، فقد كان ركاب السفينتين مسلحين تسليحا جيداً، وكانوا لايكفون عن
رمينا، من مخابئهم. فما كانوا ليتخلوا بهدوء، عن أموالهم، وربما ما كانوا
ليتورعوا عن إغراق تينك السفينتين عند اكتشافنا لهما، وكانت رصاصاتهم تصفر،
أحيانا، قرب آذاننا، وكنا نلاحظ أن الجنود المغاربة كانوا ينحنون في جبن
اتقاءً للرصاص.
ولم يكفَّ الأعداء قصفهم عنا، إلا عندما أضرمنا النار في مخابئهم، وما أفلحنا بغير رصاص «مكسيم» في وقف قصفهم.
ثم
خيم الليل، وأصبح يتعذر علينا رؤية البر. فكان المتمردون يشعلون نيرانا،
ثم لا يلبثون أن يسرعوا إلى إطفائها، ما أن نصوِّب رشاشاتنا باتجاههم،
وتحتم علينا أن نوقف المعركة، إذ لم يعد في مستطاعنا أن نجبر الأهالي على
الخروج من العتمة أو ترك مخابئهم خلف الساحل مع سفنهم.
علِموا بعدئذ، أن طلقات ماكسيم أحدثت منفذاً للماء في إحدى السفينتين.
وفي
اليوم الموالي قابلت في عجرود، الباشا (إنه الاسم الذي يطلقه الناس على
القائد سي عبد الرحمان بن عبد الصادق، لأنه لازال يشغل وظيفة باشا مدينة
فاس)، ولقد أخبرناه أننا لو كانت لنا إشارة نتفاهم بها مع من في القصبة،
لأمكنهم، أمس، أن يمدوا إلينا بيد العون في سهولة عن طريق البر، ولكان في
مقدورنا أن نستولي على تينك السفينتين. كما قلت له إننا لو كنا نتوفر على
منوار لكان لنا فيه أكبر العون في تلك المعركة. ثم تحادثنا في شأن الجنود
المرابطين في منطقة ملوية، ولقد عرضت عليه أن في الإمكان مد جسر، بسهولة،
فوق ذلك النهر، وأن تلك ستكون أفضل وسيلة لعبور جنود السلطان النهر في يسر
وسلام، وتأمينهم لخطهم الخلفي، وسيتسنى لهم أن يهاجموا بوحمارة بنجاح
انطلاقاً من البر. ولقد استحسن الرجل الشجاع تلك النصائح، ووعد بالعمل بها
إن شاء الله. ولقد استغربت لكل ذلك التسليم بالقدر. وعلى ذلك ودعته واسقللت
السفينة.
عاد بن الطاهر هو الآخر. وقد جاء معه بفتاتين ليجعلهما بين
حريمه. فأوسِع لهما في مؤخرة السفينة، وأخذت الأمتان في تهييء ذلك المكان.
ولقد أُسدِل ستار على الخيمة المنصوبة فوق المؤخرة؛ بحيث أصبح في وسع الرجل
العجوز أن يذهب ويجيء عند نسائه في منأى من العيون. ولقد جاءت الفتاتان
فكانتا ملثمتين كلياً، وفي الحال تم وضعهما في سجنهما الجديد. ولم يكن في
إمكان أي شخص أن يراهما مؤقتاً.
وطالما كان بن الطاهر في البر كان
الهدوء والسلام يسودان على متن السفينة، وما كاد يستقر، من جديد، على متن
السفينة، حتى عاد الجو إلى ما كان عليه من الفوضى. فقد كانت تنتاب الرجلَ
العجوز سورات غضب حادة لأتفه الأمور، وكنت أعانى الأمرَّين في تهدئته. أخذ
يصبح، عندنا نحن الأوروپيين كما عند المغاربة العاملين على متن السفينة،
مصدر تسلية واستهزاء، فقد كان الجميع يتسلَّون بغضباته المتواترة، التي
تكون في معظم الأحيان بلا أساس، ولا تنفعه في شيء. وحدهم الجنود السود
وخدمه، الذين كان يمارس عليهم تأديبه، كانوا يخشونه، إذ كانوا يحبون كثيراً
أن يجلدهم، وهو ما كان يتم في رفق كثير. وأما في القصبة فقد كانوا
يكرهونه، ويحكون عنه أنه وغد لئيم، وأنه يسرق كل ما تقع عليه يداه، وأنه لم
يكن يهتم لغير منفعته، وكان يفتري على القادة الآخرين عند وزير الحربية.
وكم كانوا يتمنون التخلص منه، غير أن حاميه الأعلى؛ وزير الحربية الكبَّاص،
كان يحرص على بقائه. وكان مما زاد من حقد الجنود عليه أنه جاء بامرأتين
على متن السفينة، وهو، كما قيل لي، أمرٌ يتعارض مع الأعراف الإسلامية. ورغم
ما كنت أجده منه من التسلية في معظم الأحيان، فلقد أصبحت أستفظعه. لكن لم
يكن بد، في الوقت الحالي، من تحمله؛ كشر لا بد منه.
لزِم موظف الحجْر
في مليلية أن يصعد إلى متن السفينة بسبب حريم بن الطاهر. غير أن القائد
العجوز رفض السماح للطبيب بالكشف على خليلتيْه، لكن لم يكن له أن يستمر في
عناده بعد أن هدده الطبيب بإدخال المرأتين إلى المحجر الصحي. وعلى ذلك تم
استقدام المرأتين، والكشف عن وجهيْهما المقنعين، والكشف، كذلك، عن أذرعهن.
وكانت تلك أول رؤيتي للمرأتين. لقد كانتا فتاتين لم تكادا تتمان السادسة
عشرة، إحداهما سوداء فاحمة السواد، ولم تكن بالقبيحة، وكانت الثانية سمراء
في لون الذهب، ولم تكن بالجميلة. ولقد فحصهما الطبيب فوجدهما في صحة جيدة.
وبعدئذ أخذتا تتنقلان في أنحاء السطح من السفينة، حسيرتي الوجه، وقد أصبحتا
مستأمنتين. ثم أخذتا، هما أيضاً، تقومان على تنظيف الخيمة.
قضى الإسلام
على المرأة في كافة بلدان الإسلام، ولاسيما في المغرب، بأن تكون مجرد أداة
للمتعة بين يدي الرجل. ولا يكون للمرأة، في العموم، ما تقول، ولا بعض قيمة
لغير كلام الأم، عندما يتوفى الأب. والمرأة في الأسر الفقيرة تنحدر إلى
مجرد خادمة بخسة السعر. والمرأة في الأسر الموسرة أداة للترف بين يدي
سيدها. إن دور المرأة في البلدان الإسلامية هو بين أن تصرف حياتها في العمل
الشاق، أو تلبث متبطِّلة، ويكون همها الوحيد، في الحالة الأخيرة، أن تعتني
بنفسها، لكي تدخل المتعة على نفس سيدها.
ولا نعرف وضعاً آخر للمرأة غير
ذينيْك. ولم تكن النساء المسكينات مدركات لبؤس مصيرهن، إذ لم يكن يلتقين
غير النساء، باستثناء بعض الرجال من قرابتهن. وبطبيعة الحال فقد كان
الأثرياء هم وحدهم، الذي في مقدورهم أن ينعموا بترف الإكثار من النساء. وقد
كان لبن الطاهر زوجتان في مدينة فاس، فاتخذ له هاتين المرأتين الأخريين
كذلك، عند الحدود، لتكونا له متعة وتسلية، ولقد لزِمه أن يؤدي 40 دورو في
الزنجية، أي ما يقرب من 100 مارك.
كنت أجد أن بن الطاهر لم يكن بالناجع
ولا الفعال، إذ غالباً ما كنا نسمع عن إنزال البضائع المهربة في جهات من
السواحل. لكن لم تكن بي رغبة، وقتئذ، لتقديم النصائح إلى الرجل العجوز،
وكنت أترك له أن يفعل ما يعن له. وأياً ما يكن، فقد كنا ألذ أعداء رجال
المركز التجاري، ولم أكن لأفاجأ عندما أرسل إليَّ الماجور أرسو برسالةٍ
مساء يوم 14 - وكان يوم جمعة - يطلب مني أن آخذ حذري إذ يدبَّر في مار
تشيكا لتفجير سفينة «التركي». ولقد سارعت، من فوري، إلى إبلاغ بن الطاهر
بذلك الأمر، فكان نزولنا إلى البر، برغم الوقت المتأخر - فقد كان الوقت
جاوز الثامنة - محاولين معرفة المزيد في ذلك الأمر.
حكى لي أرسو أن
مشروع تفجير السفينة يقوم على الاقتراب ليلاً من سفينتنا بواسطة زورق ذي
محرك يعود إلى رجال من المركز التجاري، عندما تكون في مدينة مليلية أو في
الجزر الجعفرية، بأن يثبِّتوا فيها قنبلة تنفجر بمجرد ما يبتعد الزورق ذو
المحرك. ولقد أضاف إسو أن هذا الخبر ورد عليه من الحاكم نفسه، ورجاني أن
أكتمه. ولقد اعتقدنا، نحن الاثنين، أن الأمر قد لا يعدو أن يكون شائعة تمت
إذاعتها بغرض إخافتِنا وحملنا على الابتعاد عن المنطقة. لولا أن ذلك قد
دفعنا إلى التحلي بمزيد من الحرص واليقظة.
وفي تلك الليلة نفسها، أرسلْت
ببرقية إلى الطريس، لأطلعه على ما سمعت، ثم قمت بزيارة بن الطاهر، وقد كان
تلقى من فرتوت المعلومات نفسها التي بلغتني من أرسو. غير أن الأخبار التي
جاءت من فرتوت كانت تفيد أن نية الأعداء في أن ينصبوا لنا لغماً في مار
تشيكا، أو قبالة عجرود. أبرق بن الطاهر إلى الطريس بذلك، كما أخبره أنه
سيظل منتطراًً، ولن يحرك ساكناً ما لم يتلق جواباً من الوزير. ثم صعدنا إلى
متن السفينة.
جعلت حارسيْن في المقدمة من السفينة، واثنين في الوسط
والخلف منها، كما جعلت بحاراً على سطحها. وكذلك ظل واحد منا، نحن
الأوروپيين، ملازماً لمكانه في الأعلى. ولقد أعطيت الأمر إلى الرجال بإنذار
جميع السفن التي تقترب من سفينتنا، فإذا لم يكن منها ردٌّ على الإنذار
الثالث الذي نوجِّهه إليها، كان عليهم أن يطلقوا عليها النار، ويطلقوا
صفارات الإنذار، ولقد لبثت، أنا أيضاً، فوق السطح حتى الساعة الثانية عشرة،
وقد استغربت لرؤية جميع أولئك الجنود، والرماة، والرؤساء والخليفة مجتمعين
في الأعلى. فلما لم يشأ أي واحد منهم أن يخلد إلى الراحة، سألتهم عن
السبب، فعلمت أن بن الطاهر، في سورة خوفه القاتل من أن تُفجَّرَ به
السفينة، قد أعطى أمره إلى الجميع بالبقاء فوق سطح السفينة، فيما لبث، هو
نفسه، في خيمته يغمغم بالدعاء. غير أن الليل مر من دون حوادث، ودون أن يحدث
ما يدعو إلى الريبة.
وفي اليوم الموالي شاهدت في البر الإسپانيين يقيمون عادة غاية في الحمق واللامعقول، فقد كان اليوم يوم الأحد الذي يسبق عيد القيامة.
وقام
الإسپتانون بتعليق دمية، قبالة كنيسة الحامية، واتخذوا تلك الدمية من
التبن، وقد علَّقوها إلى خيط جُعِل فوق الشارع، وقد جعلوا لها رأس يهودي.
واقترب الجنود والموسيقى. وأخذوا في إطلاق النار على الدمية التي تحكي
يهودا. وفي الوقت نفسه كان الأطفال يدرعون الشوارع في زرافات يجرُّون دمى
من الأسمال قد أوقدوا فيها النار، تمثل، هي الأخرى، يهودا، الذي يكون،
بذلك، لم يُكتفَ بشنقه، وإنما أُطلِقت عليه النار وأُحرِق. وفي 10 صباحاً
سُمِعت جلبة قوية. وأخذ الجوق يعزف، والرصاص يلعلع، ورُفِعت الأعلام، بعد
أن ظلت، إلى ذلك الحين، منكَّسة. ولقد التقيت أرسو، بطريق الصدفة، فسألتُه
عن السبب من وراء ذلك الضجيج، فأوضح لي أن السبب في ذلك أن المسيح قد بُعِث
في الأحد الذي يسبق على عيد القيامة في 10 صباحاً تحديداً. وقد كانوا
يحتفلون بتلك اللحظة!
وفي 17 أبريل توصلنا برسالة وأخبار من الطريس. ولقد أخبرنا أنه توصل ببرقيتنا في ما يتعلق بالقنابل، وكتب إلينا بالتزام الحذر.
بدا
أن السلطات الإسپانية قد حملت القضية على محمل الجد، وبالغت كثيراً في
ذلك. فلقد جعلت سفينتين للحراسة تعسان في المرسى، وجعلت على متنهما بحاريْن
غاية في التسلح.
وفي 18 أبريل علِمت أنه سيتم نقل بعض البضائع المهربة
من سفينة شراعية كبيرة إلى سفينة أخرى صغيرة تكون ترسو في الخليج الواقع
إلى أقصى الشمال الشرقي من رأس ثلث مداري، وأنه يُحتمَل أن تكون تلك
المنقولات أسلحةً موجهة إلى الروغي بوحمارة. فلما أظلم الليل، خرجنا نبغي
المكان المذكور، حتى يتسنى لنا أن نباغث المهربين بالجرم المشهود. ولقد
جعلنا على أنوار سفينتنا حجباً تخفيها عن الأنظار، لكن، بالرغم من ذلك،
سمعنا صوت طلقة نارية آتية من البر. ولقد فتَّشْنا ملياً، في أنحاء الخليج،
فما وقعنا على شيء نرتاب فيه. فإذا كان للمهربين أن يعملوا على نقل تلك
البضائع، فلا يمكنهم أن يقوموا بذلك إلا في جنح الظلام، ولا يظهروا في
الخليج. وحيث لم تكن بحوزتنا كشَّافات، فقد أعجزَنا ذلك عن اكتشاف أي شيء.
ثم
لم نلبث أن غادرنا ذلك المكان، بخفي حنيْن، وعدنا أدراجنا إلى مدينة
مليلية، غير أننا لم نلبث أن رأينا، في الصباح الموالي، سفينة شراعية صغيرة
تتوقف، وقاربين يسيران راسمين دوائر كبيرة حوالي مدينة مليلية، متجهين نحو
مار تشيكا. وهذا يعني أن المهرِّبين قد أتقنوا «عملهم»، أمس، في ذلك
الخليج. ولقد أفرغت السفينة حمولتها، وحملها القاربان، وتوجها بها صوب
المركز التجاري. ولم يكن في الإمكان معرفة محتوى تلك البضائع المهرَّبة.
فقد كان البعض يعتقد أنها لا تعدو أن تكون حمولة من التبغ، تمَّ إدخالها
إلى مدينة مليلية من دون دفع الضرائب. غير أن رجلاً إسپانياً وصل في اليوم
الموالي، زعم أن السفينة الشراعية قد سلَّمت أسلحة وذخيرة إلى بوحمارة.
لم
تترك تلك الطلقة الليلية راحة للعجوز. ولقد طلب إليَّ أن أرافقه عند
الحاكم، ليستفسر منه في م ينبغي لنا القيام به لو أننا تعرضنا للقصف من
البر، علماً بأن أمره إلينا يقضي بأن نتحاشى كل حرب مع من في هذه المنطقة.
ولقد حاولت أن أثني الرجل العجوز عن القيام بتلك الزيارة، مضطراً له بسخافة
ذلك الأمر، إذ لم يكن في مقدورنا أن نثبِت أننا تعرضنا للقصف. فلم يشأ أن
يقتنع بحججي، ولم أجد، في الأخير، بداً من مرافقته، لأحول، عند الاقتضاء،
بينه وإتيان حماقات أخرى. ولقد استقبلنا الحاكم استقبالاً بالغ الود. حتى
إذا استمع إلى ملتمس بن الطاهر لم يتمالك نفسه من الضحك. ولقد أكد لنا أن
من الطبيعي تماماً أن ندافع عن أنفسنا في حالة تعرضنا للهجوم. وفي تلك
الحال سيكون سكان تلك المنطقة، وليس نحن، من أخلَّ بمبدأ الحياد،. ولقد
أخبرنا الحاكم، خلال ذلك اللقاء، أنه تلقى رسالة من السفير الإسپاني في
مدينة طنجة، يخبره فيها أن الطريس اشتكى من عرقلته، هو الحاكم، لحريتنا في
التحرك. وقد كان بن الطاهر أخبر الطريس أنه لم يعد في مقدوره فعل شيء، لأنه
أصبح ممنوعاً من القيام بأي تدخل في نواحي مدينة مليلية! ولقد صرَّحت
للحاكم، فور ذلك، أنني أجهل بالمعلومات التي يكون قدمها بن الطاهر إلى
الوزير المغربي، وأنني أتفهم جيداً أمره إلينا أن ندع النواحي القريبة من
مليلية في سلام، لكي لا نعرقل ما يجري فيها من تجارة. وعندئذ، قدم الجنرال
عرضاً مسهباً لبن الطاهر، يفسِّر له فيه، مرة أخرى، السببَ الذي دفعه لأن
يطلب منا أن نتلافى كل اشتباك في منطقة معينة، في نواحي مدينة مليلية، وفي
الختام، عبَّر لنا الحاكم، مرة أخرى، عن وده وتعاطفه، ووعد بأن يمدنا بكل
ما نطلب إليه من العون المشروع.
أظهرت لي هذه المحادثة، مرة أخرى، أن
قائد بعثتنا العجوزَ لا يناسب المنصب الذي وضع فيه، وازداد تقديري له في
التناقص. ولقد تعيَّن عليَّ أن أكاتب الطريس في بعض الأمور مما يتعلق
بسفيتنا، فاغتنمت تلك الفرصة لأدُسَّ بعض الملاحظات الشخصية في شأن بن
الطاهر، فلقد عبَّرت في تلك الرسالة عن قناعتي من أننا ما دمنا تحت قيادته،
فلن نتأذى إلى أي شيء مما ينتظر المخزن منا، كما أخبرت الطريس أننا نمضي
أكثر مما يلزم من الوقت في مليلة.
12 - 08 - 2012
عندما كنا في طريقنا، في 10
أبريل، إلى عجرود، لنحمل بن الطاهر من هناك، إذ لمحنا سفينتين شراعيتن
صغيرتين كانتا تدوران في رأس الماء، وتتجه صوبنا، مبحرتين على مقربة من
كبدانة. ظننتهما سفينين من سفن المتمردين، وأخذت أحاول اعتراضهما وقطع
الطريق عليهما، للاستيلاء عليهما. ولقد تنبه من في السفينتين إلى نيتي،
فسارتا إلى الساحل، وتوقفتا هناك، ثم ترجل الركاب ولاذوا مختبئين ببعض
الصخور وبعض الأدغال، ولقد بدا على الخليفة، الذي يمثل بن الطاهر، أنه
خائف، ولم يكن يعرف ماذا يفعل. شجعته، وجعلته يوقف السفينة. وكنا على بعد
1500 متر، ومن ثم فتحنا ناراً كثيفة على تلك القوارب، كما قصفناها بالكثير
من الكرات المدفعية وطلقات «ماكسيم»، لكن حتى وإن كان الرماة سديدي التصويب
والقصف، فلم نفلح في تحطيم تلك القوارب. إما لأن الكرات كانت تمر من فوقها
وتصيب الصخور، وإما لأنها كانت تصيب البحر، فتحلق فوق الهدف.
كانت
المسافة بالغة الكبر، والأهداف بالغة الصغر، ولقد كان لرصاص «ماكسيم» مفعول
أكثر : فلقد اخترقت جوانب السفينتين، لكن من دون أن تفلح في إغراقها. وكم
كان بودنا أن نمصي للبحث عن السفينتين، بسفينتنا، لولا أن كان أمراً
مستحيلاً، فقد كان ركاب السفينتين مسلحين تسليحا جيداً، وكانوا لايكفون عن
رمينا، من مخابئهم. فما كانوا ليتخلوا بهدوء، عن أموالهم، وربما ما كانوا
ليتورعوا عن إغراق تينك السفينتين عند اكتشافنا لهما، وكانت رصاصاتهم تصفر،
أحيانا، قرب آذاننا، وكنا نلاحظ أن الجنود المغاربة كانوا ينحنون في جبن
اتقاءً للرصاص.
ولم يكفَّ الأعداء قصفهم عنا، إلا عندما أضرمنا النار في مخابئهم، وما أفلحنا بغير رصاص «مكسيم» في وقف قصفهم.
ثم
خيم الليل، وأصبح يتعذر علينا رؤية البر. فكان المتمردون يشعلون نيرانا،
ثم لا يلبثون أن يسرعوا إلى إطفائها، ما أن نصوِّب رشاشاتنا باتجاههم،
وتحتم علينا أن نوقف المعركة، إذ لم يعد في مستطاعنا أن نجبر الأهالي على
الخروج من العتمة أو ترك مخابئهم خلف الساحل مع سفنهم.
علِموا بعدئذ، أن طلقات ماكسيم أحدثت منفذاً للماء في إحدى السفينتين.
وفي
اليوم الموالي قابلت في عجرود، الباشا (إنه الاسم الذي يطلقه الناس على
القائد سي عبد الرحمان بن عبد الصادق، لأنه لازال يشغل وظيفة باشا مدينة
فاس)، ولقد أخبرناه أننا لو كانت لنا إشارة نتفاهم بها مع من في القصبة،
لأمكنهم، أمس، أن يمدوا إلينا بيد العون في سهولة عن طريق البر، ولكان في
مقدورنا أن نستولي على تينك السفينتين. كما قلت له إننا لو كنا نتوفر على
منوار لكان لنا فيه أكبر العون في تلك المعركة. ثم تحادثنا في شأن الجنود
المرابطين في منطقة ملوية، ولقد عرضت عليه أن في الإمكان مد جسر، بسهولة،
فوق ذلك النهر، وأن تلك ستكون أفضل وسيلة لعبور جنود السلطان النهر في يسر
وسلام، وتأمينهم لخطهم الخلفي، وسيتسنى لهم أن يهاجموا بوحمارة بنجاح
انطلاقاً من البر. ولقد استحسن الرجل الشجاع تلك النصائح، ووعد بالعمل بها
إن شاء الله. ولقد استغربت لكل ذلك التسليم بالقدر. وعلى ذلك ودعته واسقللت
السفينة.
عاد بن الطاهر هو الآخر. وقد جاء معه بفتاتين ليجعلهما بين
حريمه. فأوسِع لهما في مؤخرة السفينة، وأخذت الأمتان في تهييء ذلك المكان.
ولقد أُسدِل ستار على الخيمة المنصوبة فوق المؤخرة؛ بحيث أصبح في وسع الرجل
العجوز أن يذهب ويجيء عند نسائه في منأى من العيون. ولقد جاءت الفتاتان
فكانتا ملثمتين كلياً، وفي الحال تم وضعهما في سجنهما الجديد. ولم يكن في
إمكان أي شخص أن يراهما مؤقتاً.
وطالما كان بن الطاهر في البر كان
الهدوء والسلام يسودان على متن السفينة، وما كاد يستقر، من جديد، على متن
السفينة، حتى عاد الجو إلى ما كان عليه من الفوضى. فقد كانت تنتاب الرجلَ
العجوز سورات غضب حادة لأتفه الأمور، وكنت أعانى الأمرَّين في تهدئته. أخذ
يصبح، عندنا نحن الأوروپيين كما عند المغاربة العاملين على متن السفينة،
مصدر تسلية واستهزاء، فقد كان الجميع يتسلَّون بغضباته المتواترة، التي
تكون في معظم الأحيان بلا أساس، ولا تنفعه في شيء. وحدهم الجنود السود
وخدمه، الذين كان يمارس عليهم تأديبه، كانوا يخشونه، إذ كانوا يحبون كثيراً
أن يجلدهم، وهو ما كان يتم في رفق كثير. وأما في القصبة فقد كانوا
يكرهونه، ويحكون عنه أنه وغد لئيم، وأنه يسرق كل ما تقع عليه يداه، وأنه لم
يكن يهتم لغير منفعته، وكان يفتري على القادة الآخرين عند وزير الحربية.
وكم كانوا يتمنون التخلص منه، غير أن حاميه الأعلى؛ وزير الحربية الكبَّاص،
كان يحرص على بقائه. وكان مما زاد من حقد الجنود عليه أنه جاء بامرأتين
على متن السفينة، وهو، كما قيل لي، أمرٌ يتعارض مع الأعراف الإسلامية. ورغم
ما كنت أجده منه من التسلية في معظم الأحيان، فلقد أصبحت أستفظعه. لكن لم
يكن بد، في الوقت الحالي، من تحمله؛ كشر لا بد منه.
لزِم موظف الحجْر
في مليلية أن يصعد إلى متن السفينة بسبب حريم بن الطاهر. غير أن القائد
العجوز رفض السماح للطبيب بالكشف على خليلتيْه، لكن لم يكن له أن يستمر في
عناده بعد أن هدده الطبيب بإدخال المرأتين إلى المحجر الصحي. وعلى ذلك تم
استقدام المرأتين، والكشف عن وجهيْهما المقنعين، والكشف، كذلك، عن أذرعهن.
وكانت تلك أول رؤيتي للمرأتين. لقد كانتا فتاتين لم تكادا تتمان السادسة
عشرة، إحداهما سوداء فاحمة السواد، ولم تكن بالقبيحة، وكانت الثانية سمراء
في لون الذهب، ولم تكن بالجميلة. ولقد فحصهما الطبيب فوجدهما في صحة جيدة.
وبعدئذ أخذتا تتنقلان في أنحاء السطح من السفينة، حسيرتي الوجه، وقد أصبحتا
مستأمنتين. ثم أخذتا، هما أيضاً، تقومان على تنظيف الخيمة.
قضى الإسلام
على المرأة في كافة بلدان الإسلام، ولاسيما في المغرب، بأن تكون مجرد أداة
للمتعة بين يدي الرجل. ولا يكون للمرأة، في العموم، ما تقول، ولا بعض قيمة
لغير كلام الأم، عندما يتوفى الأب. والمرأة في الأسر الفقيرة تنحدر إلى
مجرد خادمة بخسة السعر. والمرأة في الأسر الموسرة أداة للترف بين يدي
سيدها. إن دور المرأة في البلدان الإسلامية هو بين أن تصرف حياتها في العمل
الشاق، أو تلبث متبطِّلة، ويكون همها الوحيد، في الحالة الأخيرة، أن تعتني
بنفسها، لكي تدخل المتعة على نفس سيدها.
ولا نعرف وضعاً آخر للمرأة غير
ذينيْك. ولم تكن النساء المسكينات مدركات لبؤس مصيرهن، إذ لم يكن يلتقين
غير النساء، باستثناء بعض الرجال من قرابتهن. وبطبيعة الحال فقد كان
الأثرياء هم وحدهم، الذي في مقدورهم أن ينعموا بترف الإكثار من النساء. وقد
كان لبن الطاهر زوجتان في مدينة فاس، فاتخذ له هاتين المرأتين الأخريين
كذلك، عند الحدود، لتكونا له متعة وتسلية، ولقد لزِمه أن يؤدي 40 دورو في
الزنجية، أي ما يقرب من 100 مارك.
كنت أجد أن بن الطاهر لم يكن بالناجع
ولا الفعال، إذ غالباً ما كنا نسمع عن إنزال البضائع المهربة في جهات من
السواحل. لكن لم تكن بي رغبة، وقتئذ، لتقديم النصائح إلى الرجل العجوز،
وكنت أترك له أن يفعل ما يعن له. وأياً ما يكن، فقد كنا ألذ أعداء رجال
المركز التجاري، ولم أكن لأفاجأ عندما أرسل إليَّ الماجور أرسو برسالةٍ
مساء يوم 14 - وكان يوم جمعة - يطلب مني أن آخذ حذري إذ يدبَّر في مار
تشيكا لتفجير سفينة «التركي». ولقد سارعت، من فوري، إلى إبلاغ بن الطاهر
بذلك الأمر، فكان نزولنا إلى البر، برغم الوقت المتأخر - فقد كان الوقت
جاوز الثامنة - محاولين معرفة المزيد في ذلك الأمر.
حكى لي أرسو أن
مشروع تفجير السفينة يقوم على الاقتراب ليلاً من سفينتنا بواسطة زورق ذي
محرك يعود إلى رجال من المركز التجاري، عندما تكون في مدينة مليلية أو في
الجزر الجعفرية، بأن يثبِّتوا فيها قنبلة تنفجر بمجرد ما يبتعد الزورق ذو
المحرك. ولقد أضاف إسو أن هذا الخبر ورد عليه من الحاكم نفسه، ورجاني أن
أكتمه. ولقد اعتقدنا، نحن الاثنين، أن الأمر قد لا يعدو أن يكون شائعة تمت
إذاعتها بغرض إخافتِنا وحملنا على الابتعاد عن المنطقة. لولا أن ذلك قد
دفعنا إلى التحلي بمزيد من الحرص واليقظة.
وفي تلك الليلة نفسها، أرسلْت
ببرقية إلى الطريس، لأطلعه على ما سمعت، ثم قمت بزيارة بن الطاهر، وقد كان
تلقى من فرتوت المعلومات نفسها التي بلغتني من أرسو. غير أن الأخبار التي
جاءت من فرتوت كانت تفيد أن نية الأعداء في أن ينصبوا لنا لغماً في مار
تشيكا، أو قبالة عجرود. أبرق بن الطاهر إلى الطريس بذلك، كما أخبره أنه
سيظل منتطراًً، ولن يحرك ساكناً ما لم يتلق جواباً من الوزير. ثم صعدنا إلى
متن السفينة.
جعلت حارسيْن في المقدمة من السفينة، واثنين في الوسط
والخلف منها، كما جعلت بحاراً على سطحها. وكذلك ظل واحد منا، نحن
الأوروپيين، ملازماً لمكانه في الأعلى. ولقد أعطيت الأمر إلى الرجال بإنذار
جميع السفن التي تقترب من سفينتنا، فإذا لم يكن منها ردٌّ على الإنذار
الثالث الذي نوجِّهه إليها، كان عليهم أن يطلقوا عليها النار، ويطلقوا
صفارات الإنذار، ولقد لبثت، أنا أيضاً، فوق السطح حتى الساعة الثانية عشرة،
وقد استغربت لرؤية جميع أولئك الجنود، والرماة، والرؤساء والخليفة مجتمعين
في الأعلى. فلما لم يشأ أي واحد منهم أن يخلد إلى الراحة، سألتهم عن
السبب، فعلمت أن بن الطاهر، في سورة خوفه القاتل من أن تُفجَّرَ به
السفينة، قد أعطى أمره إلى الجميع بالبقاء فوق سطح السفينة، فيما لبث، هو
نفسه، في خيمته يغمغم بالدعاء. غير أن الليل مر من دون حوادث، ودون أن يحدث
ما يدعو إلى الريبة.
وفي اليوم الموالي شاهدت في البر الإسپانيين يقيمون عادة غاية في الحمق واللامعقول، فقد كان اليوم يوم الأحد الذي يسبق عيد القيامة.
وقام
الإسپتانون بتعليق دمية، قبالة كنيسة الحامية، واتخذوا تلك الدمية من
التبن، وقد علَّقوها إلى خيط جُعِل فوق الشارع، وقد جعلوا لها رأس يهودي.
واقترب الجنود والموسيقى. وأخذوا في إطلاق النار على الدمية التي تحكي
يهودا. وفي الوقت نفسه كان الأطفال يدرعون الشوارع في زرافات يجرُّون دمى
من الأسمال قد أوقدوا فيها النار، تمثل، هي الأخرى، يهودا، الذي يكون،
بذلك، لم يُكتفَ بشنقه، وإنما أُطلِقت عليه النار وأُحرِق. وفي 10 صباحاً
سُمِعت جلبة قوية. وأخذ الجوق يعزف، والرصاص يلعلع، ورُفِعت الأعلام، بعد
أن ظلت، إلى ذلك الحين، منكَّسة. ولقد التقيت أرسو، بطريق الصدفة، فسألتُه
عن السبب من وراء ذلك الضجيج، فأوضح لي أن السبب في ذلك أن المسيح قد بُعِث
في الأحد الذي يسبق على عيد القيامة في 10 صباحاً تحديداً. وقد كانوا
يحتفلون بتلك اللحظة!
وفي 17 أبريل توصلنا برسالة وأخبار من الطريس. ولقد أخبرنا أنه توصل ببرقيتنا في ما يتعلق بالقنابل، وكتب إلينا بالتزام الحذر.
بدا
أن السلطات الإسپانية قد حملت القضية على محمل الجد، وبالغت كثيراً في
ذلك. فلقد جعلت سفينتين للحراسة تعسان في المرسى، وجعلت على متنهما بحاريْن
غاية في التسلح.
وفي 18 أبريل علِمت أنه سيتم نقل بعض البضائع المهربة
من سفينة شراعية كبيرة إلى سفينة أخرى صغيرة تكون ترسو في الخليج الواقع
إلى أقصى الشمال الشرقي من رأس ثلث مداري، وأنه يُحتمَل أن تكون تلك
المنقولات أسلحةً موجهة إلى الروغي بوحمارة. فلما أظلم الليل، خرجنا نبغي
المكان المذكور، حتى يتسنى لنا أن نباغث المهربين بالجرم المشهود. ولقد
جعلنا على أنوار سفينتنا حجباً تخفيها عن الأنظار، لكن، بالرغم من ذلك،
سمعنا صوت طلقة نارية آتية من البر. ولقد فتَّشْنا ملياً، في أنحاء الخليج،
فما وقعنا على شيء نرتاب فيه. فإذا كان للمهربين أن يعملوا على نقل تلك
البضائع، فلا يمكنهم أن يقوموا بذلك إلا في جنح الظلام، ولا يظهروا في
الخليج. وحيث لم تكن بحوزتنا كشَّافات، فقد أعجزَنا ذلك عن اكتشاف أي شيء.
ثم
لم نلبث أن غادرنا ذلك المكان، بخفي حنيْن، وعدنا أدراجنا إلى مدينة
مليلية، غير أننا لم نلبث أن رأينا، في الصباح الموالي، سفينة شراعية صغيرة
تتوقف، وقاربين يسيران راسمين دوائر كبيرة حوالي مدينة مليلية، متجهين نحو
مار تشيكا. وهذا يعني أن المهرِّبين قد أتقنوا «عملهم»، أمس، في ذلك
الخليج. ولقد أفرغت السفينة حمولتها، وحملها القاربان، وتوجها بها صوب
المركز التجاري. ولم يكن في الإمكان معرفة محتوى تلك البضائع المهرَّبة.
فقد كان البعض يعتقد أنها لا تعدو أن تكون حمولة من التبغ، تمَّ إدخالها
إلى مدينة مليلية من دون دفع الضرائب. غير أن رجلاً إسپانياً وصل في اليوم
الموالي، زعم أن السفينة الشراعية قد سلَّمت أسلحة وذخيرة إلى بوحمارة.
لم
تترك تلك الطلقة الليلية راحة للعجوز. ولقد طلب إليَّ أن أرافقه عند
الحاكم، ليستفسر منه في م ينبغي لنا القيام به لو أننا تعرضنا للقصف من
البر، علماً بأن أمره إلينا يقضي بأن نتحاشى كل حرب مع من في هذه المنطقة.
ولقد حاولت أن أثني الرجل العجوز عن القيام بتلك الزيارة، مضطراً له بسخافة
ذلك الأمر، إذ لم يكن في مقدورنا أن نثبِت أننا تعرضنا للقصف. فلم يشأ أن
يقتنع بحججي، ولم أجد، في الأخير، بداً من مرافقته، لأحول، عند الاقتضاء،
بينه وإتيان حماقات أخرى. ولقد استقبلنا الحاكم استقبالاً بالغ الود. حتى
إذا استمع إلى ملتمس بن الطاهر لم يتمالك نفسه من الضحك. ولقد أكد لنا أن
من الطبيعي تماماً أن ندافع عن أنفسنا في حالة تعرضنا للهجوم. وفي تلك
الحال سيكون سكان تلك المنطقة، وليس نحن، من أخلَّ بمبدأ الحياد،. ولقد
أخبرنا الحاكم، خلال ذلك اللقاء، أنه تلقى رسالة من السفير الإسپاني في
مدينة طنجة، يخبره فيها أن الطريس اشتكى من عرقلته، هو الحاكم، لحريتنا في
التحرك. وقد كان بن الطاهر أخبر الطريس أنه لم يعد في مقدوره فعل شيء، لأنه
أصبح ممنوعاً من القيام بأي تدخل في نواحي مدينة مليلية! ولقد صرَّحت
للحاكم، فور ذلك، أنني أجهل بالمعلومات التي يكون قدمها بن الطاهر إلى
الوزير المغربي، وأنني أتفهم جيداً أمره إلينا أن ندع النواحي القريبة من
مليلية في سلام، لكي لا نعرقل ما يجري فيها من تجارة. وعندئذ، قدم الجنرال
عرضاً مسهباً لبن الطاهر، يفسِّر له فيه، مرة أخرى، السببَ الذي دفعه لأن
يطلب منا أن نتلافى كل اشتباك في منطقة معينة، في نواحي مدينة مليلية، وفي
الختام، عبَّر لنا الحاكم، مرة أخرى، عن وده وتعاطفه، ووعد بأن يمدنا بكل
ما نطلب إليه من العون المشروع.
أظهرت لي هذه المحادثة، مرة أخرى، أن
قائد بعثتنا العجوزَ لا يناسب المنصب الذي وضع فيه، وازداد تقديري له في
التناقص. ولقد تعيَّن عليَّ أن أكاتب الطريس في بعض الأمور مما يتعلق
بسفيتنا، فاغتنمت تلك الفرصة لأدُسَّ بعض الملاحظات الشخصية في شأن بن
الطاهر، فلقد عبَّرت في تلك الرسالة عن قناعتي من أننا ما دمنا تحت قيادته،
فلن نتأذى إلى أي شيء مما ينتظر المخزن منا، كما أخبرت الطريس أننا نمضي
أكثر مما يلزم من الوقت في مليلة.
12 - 08 - 2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
-18-
في الصباح الموالي، كان أول
خروجنا باتجاه الساحل الغربي لرأس ثلث مداري في هذا الركن من الجنوب الشرقي
كان يعيش أكثر أنصار الروغي تعصباً له؛ بني بوغفِّر.
ومع مطلع الشمس
شرعنا في قصف القرى، والاقتراب من البر، احتشد القرويون على الشاطئ،
مختبئين وراء الصخور. ثم جعلوا يرموننا بقصف كثيف، حتى لقد كنا نسمع
لقذائفهم صفيراً في آذاننا.
استدعينا، على الفور، جميع الجنود ليصعدوا إلى السطح، فنشبت بيننا، حينئذ، معركة طاحنة بطلقات البنادق.
كان
قلة قليلة من الجنود من يجيدون استخدام المصوِّبة؛ فكانوا يرمون من فوق
الدِّسام الصغير؛ بحيث يسقط الرصاص في الماء على مسافة أقل من 200 متر عن
السفينة، إلى أن أفهمتهم أن أن عليهم أن يسددوا إلى ما فوق السدام الكبير.
كان أحد الرجال يضغط على الزناد وهو مغمض عينيه، وكان آخر يطلق النار وهو
يسند عقب البندقية إلى بطنه! وكان بحارتنا والقائد يرمون بأفضل من ذلك.
وعلى البر كانت الفرقعات الضوئية التي تحدثها الطلقات تحدد لنا الأهداف
بوضوح. وأكثرنا، كذلك، من استعمال بندقيتين من نوع «مكسيم». وكنا، في الوقت
نفسه، نرمي بالمدافع القرى الواقعة على المرتفعات. وفي صباح اليوم
الموالي، علمنا بالنتيجة السارة لتلك المعركة : فقد دمرنا منزلين، وقتلنا
رجلين وامرأتين وطفلاً وبقرة!
وفي 24 أبريل، خرجنا نريد المنطقة نفسها،
نزولاً عند رغبة بن الطاهر. أعتقد أن الخوف من الألغام في مارتشيكا هو وحده
الذي دفع بالرجل العجوز سريع التنفيذ إلى أن ينقل مسرح العمليات إلى مكان
آخر. وما كدنا نشرع في تبادل الرمي وبعض الرجال من البر، في الجهة
المغربية، على ساحل كاب نيغري، حتى أبصرنا بمركبين شراعيين، فبادرنا إلى
تعقبهما. لكن أن رآنا الركاب حتى انحرفوا جهة الساحل، فأفلحوا في الوصول
إلى الشاطئ؛ حيث ربطوا المركبين، وتواروا وراء التلال. ولما صرنا على مقربة
من ذلك المخبإ، لا تكاد تفصلنا عنه غير مائة متر، فتحنا عليه النار.
فقابلوا هجومنا، في البداية، بهجوم مضاد، لكننا لم نلبث أن أخرسنا طلقاتهم
باستعمالنا مدافع مكسيم بشكل متواصل، ثم أنزلنا قاربنا في الماء، وجعلنا
فيه بعض الرجال، فتسنى لنا الاستيلاء على المركبين، فيما كنا، من على سطح
السفينة، نمنع أصحابهما من الإتيان بأي حركة. ثم حمل طاقمنا، في عير ما
عناء، الحمولة التي كانت على السفينتين، وجعلنا نفرغها بهدوء : كانت 50
كيساً من الدقيق، و2 كيسان من الصوف، ومقدار قليل من السكر، و4 صناديق من
النفط، و2 صندوقان من الصابون.
كان بن الطاهر يراقب تلك الغنيمة بعينين
متيقظتين نفاذتين، وهو يسجل كل شيء، كفعل ضابط السفينة أثناء ما يجري
إفراغ حمولتها. وقد كان في نيتيه أن يمضي لجلب المركب الثاني، لولا أنه كان
انتزع من أيدي الرجال، وهو في صياح وزعيق، قالب سكر، بعد أن استولوا عليه،
فرفض هؤلاء أن يجازفوا بأنفسهم مرة ثانية، لذلك رفعنا الأب إلى السطح،
واستأنفنا مسيرنا صوب مليلة، نزولاً عند الرغبة الصريحة من الرجال العجوز.
هناك
وجدنا المسؤولين قد علموا، عن طريق البر بما حدث، ووجدنا العامل في سورة
من الغضب. قال لي إن المركب كان آتياً من مليلية، وإن الحمولة التي كانت
عليه تخص بعض تجار المدينة، فإذا كنا نسرق هذا النوع من السلع، فسنقوض
التجارة كلها. فلم أتمالك نفسي أن أرد عليه بأننا لم نأسر المركب في البر،
بل في البحر، ضمن تراب العدو. ثم أرسلت إليه ببن الطاهر ليتفاهم وإياه. بعد
ذلك قال لنا، بلسان الترجمان، إنه لا ينبغي لنا، في المستقبل، أن نعود إلى
مليلية بما يقع بين أيدينا من غنائم، وإن علينا أن نتوارى، بأسرع ما في
الإمكان، بتلك الغنيمة. أجاب بن الطاهر أنه سيرحل في اليوم الموالي بكل
تأكيد. فقاطعته مؤكداً أنني سأرحل قبله، لأنني لا أريد، بأي حال، أن أثقل
على السلطات الإسبانية بمقام طويل جداً. ثم أضفت قائلاً إنني لو كنت لوحدي،
لما كنا رجعنا إلى مليلية بغنيمتنا؛ ولكنت مضيت بها إلى عجرود. بيد أني لم
يكن لي بد من الإذعان لأوامر الرجل العجوز، فهو القائد السابق لبعثتنا،
ولا يمكن أن تُلقى عليَّ المسؤولية في ما يبدر عنه من أفعال.
وقبل أن
نغادر، سلمني فرتوت، يداً ليد، رسالة من الوزير. فقد كتب إليَّ يرجوني، في
لطف، أن أبقي على بن الطاهر، ليظل في مركزه، وأن نكثر من دورياتنا على
الساحل. وقبل كل شيء، فلم يكن يفترض بي، لو أمكن، أن أمكث لأكثر من 24 ساعة
في مليلة. ومن الواضح أنني قد أُعطيَني حينئذ من السلطة أكثر مما كان لي
من قبل.
وفي 26 أبريل، بلغنا عجرود بغنيمتنا. وقد وافق العجوز على أن
ينزل إلى البر، لكن لا حمولته. فشرحت له أننا لا يمكننا أن نظل محتفظين
بالسلع على متن السفينة، لأن الإسبان أبلغونا بوضوح أنه لم يكن يجدر بنا أن
نعود إلى مليلية بأي غنيمة. ولو علموا أننا لم نطع أوامرهم فسنخسر بخطئنا
إلى غير رجعة تلك المعاملة الحسنة التي كنا نجدنها منهم إلى ذلك الحين.
فلذلك ذلك رفضت أن أعود إلى مليلية. تملكه الغضب، فزعم أننا لو أودعنا
الحمولة قصبة السعيدية، فستضيع على الحكومة، لأن الباشا يستحوذ عليها.
تركته يرغي ويزبد، وبقيت متشبثاً بقراري. وفي الأخير، رضخ للأمر، فلم
يمانع، بعد، في تفريغ الحمولة. فلم يكن، هو نفسه، يعتقد أن الحكومة ستطالب
بالغنيمة.
وإنما بات، على العكس، يعتبر نه المالك الوحيد لها، وخشيته أن
يصيع عليه شيء منها. نزلت إلى البر بمعية بومغيث للتحدث في الأمر مع
الباشا، ورافقني بن الطاهر ليظل على رقيباً، وربما، كذلك، لينقذ ما مان لا
يزال بالإمكان إنقاذه.
كانت القصبة لا تزال تغط في هدوء شامل، فالوقت لم
يكن تجاوز الثامنة صباحاً. ثم جاء من قادنا إلى بيت الباشا، فوجدنا الرجل
يغتسل. طلب منا أن ننتظره في حجرة طويلة وضيقة، تعلوها قوسان عربيان،
يقسمانها إلى ثلاثة أقسام : الأول عبارة عن بهو خلو من أي زخارف، وأما
الثاني، والمنخفض عنه بدرجة، فتكسوه زربيتان، وهو يمثل قاعة للاستقبال،
فيما الثالث، المرتفع درجة، يُتخذ غرفة للنوم، قد مُد فيه سرير كبير مغطى
بالتول. القوس الذي يفصل بين الحجرتين الأخيرتين مهدم أعلاه. الجدران كلها
مبيضة بصورة جيدة، لكن عارية تماماً. السقف قوامه أخشاب خشنة وأعواد،
والأرضية من طين جاف. لقد كان لي متسع من الوقت لأجيل بصري، متفحصاً كل
شيء، لأن الباشا تأخر عنا كثيراً، وبن الطاهر يجلس إلى جانبي وقد لاذ
بالصمت.
وها إن السيد قد ظهر بعد لأي، وهو لا يزال مبللاً كله من
الاغتسال، فحيَّانا، ثم ذهب إلى ذهب إلى حجرته، وجعل يرتدي سراويله وثيابه
العريضه التي يتخذها له حجاباً. فلما بات مستعداً، التحق بنا، ثم لبس
جوربيه. وجعل، شيئاً فشيئاً، يكمل هندامه. ثم جعل، لساعة، يحادثنا في بعض
توافه الأمور. لم يسألنا الغرض من زيارتنا. وقد ظل بن الطاهر يلتزم الصمت،
فلم أجد بداً من طرق الموضوع. فقد حكيت له أننا احتجزنا سفينة وحمولتها،
وأن تلك الغنيمة ينبغي أن تودع في القصبة، لأن الاحتفاظ بها على متن
السفينة سيكون فيه فظاظة وقلة لياقة تجاه السلطات الإسبانية في مليلية. قلت
له إنني أرى من الطبيعي تماماً أن تعود هذه الأشياء كلها إلى الحكومة، ولن
أحتفظ بغير المصابيح والغاز والصابون، لأزود بها السفينة، لأستعملها في ما
يخدم مصالح الحكومة. لكن ينبغي إعطاء الرجال شيئاً مما سيفضل من تلك
الغنيمة، فإن من شأن ذلك أن يشجعهم على ركوب المخاطر في ما قد يتفق لنا، في
المستقبل، من غنائم. وزدت إلى ذلك قولي إن من المحتمل أن الباشا لا يريد
أن يتخذ بنفسه من قرار، واقترحت أن تُرفع المسألة كتابة إلى الطريس، من دون
المساس بالحمولة، إلى حين وصول جوابه. وقد كان بن الطاهر على يقين أن
الطريس سيعطيه تلك الغنيمة كلها؛ فلذلك وافق على أن نرسل ببرقية إلى
الوزير. لكنني صرفته عن الأمر، بأن نبهته إلى وجوب فعل ما في الإمكان
لإبقاء المسألة طي الكتمان، ولقد وجدت مقترحاتي تأييداً من لدن الباشا. فلم
يبق للعجوز إلا أن يذعن للأمر.
بعد هذا النقاش، أمر الباشا بفطور قوامه
أرغفة وزبدة وجبن. وقد لاحظت أنه تناول قطعة خبز، وفتحها، وجعل يدهن دخلها
بأصابعه. فتساءلت إلى من سيعطي تلك المزبَّدة. فمد إليَّ بها. ثم لحس
سبابته، بعد أن استعملها في دهن الزبدة. وبالطريقة نفسها أعد قطعة أخرى من
الخبز لأجل بن الطاهر. فاغتبطت أن جعل لي الأسبقية.
في تلك الأثناء، كان
يجرى إنزال الحمولة المجتجزة، ووضعها داخل القصبة، في العراء. كانت الريح
تهب باردة من الغرب. ولما عزمنا، في الأخير، على ركوب السفينة، اشتد اضطراب
الأمواج، حتى لقد غمرت القارب، وابتللنا منها جميعاً. وضعية كانت جديدة
على قائد الرحلة العجوز، فرأيته يقعي على قدمي أحد الرجال، ثم لم يتمالك
نفسه من شدة الخوف، أن يسرب منه على رجلي الرجل ما يتسرب من الخائف الهلوع.
وفي اليوم الموالي، أبحرنا صوب مليلية.
أمليت
على فرتوت رسالة إلى الطريس، أستفسره فيها في قرارة بشأن الغنيمة، وأخبره،
كذلك، بأن بن الطاهر كان يرتكب، أو يريد أن يرتكب، اختلاسات جديدة، وأنه
يتمادى في تجاوزاته، بما قد يدفع الإسبان إلى طردنا نهائياً من مليلية،
وأنني أرى من مصلحة عملنا أن يرسل إلينا بقائد آخر للرحلة، ولاسيما أن
رجالي معه في مشاحنات متواصلة، وأنهم يهددون بالعصيان، وأنه قد تمادى في
تجنياته، بحيث لما وقع شجار بين أحد البحارة وواحد من رجاله، لم يزد على أن
أمر بضرب رجالي في حال تكرر ما حدث، وأنني بت ألاقي عناء كبيراً في تهدئة
البحارة، وبعد ذلك أغلظت القول كثيراً للعجوز، بما ما كان منه من وقاحة،
بحيث ألجمته لأسابيع.
في الأيام التالية حاولنا أن نقوم برحلة إلى
الحسيمة؛ حيث كان بن الطاهر يريد أن يتنقم من قبيلة تلمسماني. لكننا كنا
كلما هممنا بالتحرك، نضطر إلى الرجوع على أعقابنا، عند رأس ثلث مداري.
وكأني بالعجوز كان يود أن يتحاشى التوكيل التجاري، فعندما ألمحت إليه،
بهدوء، بعد فشل محاولتنا الأولى للالتحاق بالحسيمة، إلى ضرورة أن نظهر، مرة
أخرى، في مارتشيكا، تملكه الحنق، وزعم أنه لا يقدر أن يذهب إلى هناك بسبب
خطر الألغام، لأنه هو المسؤول عن السفينة أمام السلطان. بيد أننا ذهبنا عند
أعدائنا بمبادرة خاصة مني، وبذلك أجبرت العجوز على إطلاق النار، على الرغم
من الخوف الذي كان يتملكه؛ ذلك بأنني اقتربت كثيراً، بحيث كنا نلقى القصف
من البر، فلم يعد له بد من الرد.
كان بن الطاهر هلوعاً من الألغام، فكنا
لا نفوت فرصة لنزيده خوفاً على خوف. فإذا مر بنا شيء من الأشياء، كان
أحدنا يصيح : «لغم!»، فكان دائم الخوف أن يصاب. بيد أن الألغام لم تكن هي
وحدها السبب في خوفه وانشغاله. فقد كان يخاف البحر أيضاً. فكلما شرعت
السفينة تتأرجح، إلا وطلب إلينا أن نعود إلى المرسى. فلا غرو أن يكون
«أميرال» هذا شأنه، من احترام من رجاله.
ومن الجزر الجعفرية، قمنا بعدة
رحلات استشكافية صوب ساحل كبدانة ومارتشيكا، حتى عودتنا إلى مليلية في 3
ماي. وكان أن سلمني حينها فرتوت رسالة من الطريس يبين لنا فيها كيفية
اقتسام الغنيمة. الثلثان يمنحان لي ولطاقم البحارة، والثلث لبن الطاهر
وجنوده. وعلاوة على ذلك، فقد أخبرني بأنني وحدي المسؤول على قيادة الطاقم،
وليس عليَّ أن أترك للعجوز أن يتدخل في الأمر، فخدمة السفينة لا تعنيه في
شيء. وتلقى بن الطاهر، كذلك، رسالة من الوزير يؤاخذه فيها كثيراً بعدم
جدواه، ويأمره أن يكون أكثر فعالية.
بذل فرتوت جهده ليصلح بيني
والعجوز، لكنه لم يفلح كثيراً؛ فقد كان من المتعذر عليَّ أن أحترم رجلاً
خاملاً، وبليداً وجباناً، لم يكن يفوِّت فرصة ليزعق ويرغي ويزبد. غير أني
وعدته أن أقيم هدنة مع بن الطاهر.
في 4 ماي تمكنا، بعد لأى، من الخروج
في الرحلة التي كنا نزمع القيام بها منذ وقت طويل، إلى الحسيمة، كان
ينتظرنا مسير طويل من 14 ساعة، فلذلك حددت موعد الانطلاق في الساعة الثالثة
صباحاً. وارتقيت شخصياً السفينة في الساعة الثانية والنصف، وأعدت القارب
إلى البر ليُقل بن الطاهر، لكننا ظللنا، كما هو معهود في معظم الأحيان،
نرتقب أن نركبه السفينة، في الساعة المحددة، لكن دون جدوى. فلما كانت
الساعة الدابعة، ظهر، أخيراً، مركب خاص تبينت على متنه العجوز، قادماً
ناحية سفينتنا.
وكان قاربنا يسير من ورائهما وهو يتعرج ارتفاعاً
وانخفاضاً، ويتأرجح ذات اليمين وذات الشمال، بشكل مخيف. فاستشعرت وقوع
مكروه، ولم يخطئ إحساسي. نزل من السفينة بن الطاهر، وفرتوت والمعلم محمد،
وقد كان هذا الأخير في غاية الانشراح. وقد أخبرني ابن الطاهر، بلسان
الترجمان، أن رجالي كلهم مخمورون في البر، فطمأنته أن لا خوف من الأمر،
وأنني سأقله، بعد اليوم الموالي، إلى الحسيمة في الموعد المعلوم. وبالفعل،
فقد لاحظت، بعدئذ، أن لا وجود لأي بحار على متن السفينة، وكذلك غاب عنها
جميع السائقين، إلا اثنان. ولما أخبرني ابن الطاهر، فوق ذلك، بأن بعض رجالي
قد اعتُقلوا في بعض الشجارات، ساءني الأمر.
كان قاربنا يتقدم متئداً،
وهو يتأرجح. ورأيت الخليفة وأحد السائقين يكدون ويجهدون لدفعه. وما انتهى
عناؤهم إلا أن انطلقت السفينة الٌسپانية، بعد لأي، صوبهم، وجذبتهم. ورأيت،
من بعيد، أن المجذفين كانوا ثملين. وتعرفت على الطريس (أحد أقرباء الوزير،
كان يحظى بوضع مميز على متن السفينة) مستلقياً، في خلفية السفينة بالعرض؛
فكان كأنه جثة هامدة. ولاحظت، في الأخير، أن السفينة كانت ملآى ماء، توشك
أن تغرق. وما أن تم لنا ربطها، حتى قفز إسبانيان داخلها، وانهالا ضرباً على
المخمورين، وأخذا ينزلانهم. كان الخليفة أقلهم سكراً، فكان صعوده أسرع،
وكذلك بقي السائق واعياً إلى حركاته. بعد ذلك، لزم إركاب الطريس «الجثة»،
فلما عاد هذا الأخير إلى الانتصاب، بعد جهد جهيد، ومساعدة من بعض الرجال
الأشداء، سمعنا من تحته زمجرة، ثم برز الرامي الثاني. وفيما كان الطريس،
الرخو النحيف كأنه خرقة مبلولة، يصعد السلم بمشقة، وهي يزحف على يديه
ورجليه، جعل الرامي يحاول، وهو يضحك ببلاهة، أن يلتقط الأسماك التي اشتراها
إذ هو على البر، وهي، الآن، تتخبط في الماء المتجمع في قعر السفينة، من
غير أن يفلح في الإمساك بها، مهما فعل. وقد أمكن له، في الأخير، أن يرتقي
سطح السفينة، فمضى ليستريح، وكذلك فعل الخليفة والطريس؛ فقد تواروا عن
الأنظار بسرعة تحت السطح. ولبث السائق في الأسفل ينحو بأشنع الشباب على عبد
العزيز.
في تلك الأثناء، كانت الجهود تُبذَل سدى لنزح الماء عن
السفينة، إلى أن انتبهنا إلى أن سدادة الرمل كانت قد أزيلت. ولم يكن سبيل
إلى استعمال السفينة إلا أن تُعاد السدادة إلى مكانها. وبينما كنا، نحن
الأوروپيين، نستمتع بذلك الحادث، كان العجوز بن الطاهر يقف هناك، مذهولاً،
لا يعرف ما يفعل.
نزلت، بعد ذلك، إلى البر، ومعي السائقان، للبحث عن
رجالي. لكن عبثنا. فقد كان من المستحيل أن نقع على واحد منهم. انتظرت على
الشاطئ نهاية تلك الحكاية، فلم يكن بمقدورنا أن نرحل من دونهم. وفي الساعة
السابعة، رأينا، بعد لأي، عربة تقترب. ثم دنت من قاربنا، وترجل عنها أفراد
الفرقة كلهم، وهم محمرُّو الخدود بفعل الكحول، شاردو الأبصار. لكنهم كانوا
جميعاً متماسكين. ناديت على أحدهم، فوقف أمامي كفعل الجندي ليتلقى الأمر،
ويداه تشدان على سرواله، وأعلن أن الجميع حاضرون. وبذلك صار بمقدورنا،
أخيراً، أن نصعد إلى السفينة. وقد لاحظت أن رجالي، على الرغم من سكرهم، لم
يكن بينهم من يخل باللياقة، أو يخرج إلى الوقاحة. فمنذ سنوات وأنا أتولى
قيادة «التركي»، وتلك كانت أول مرة تتجاوز فيها الفرقة كلها الوقتَ المحدد
للاستراحة على البر لذهاب أفرادها للشرب. وقد استغربت لبقائهم ملتزمين
الهدوء، على الرغم من الغشاوة التي كانت على أذهانهم. فلما صرنا على متن
السفينة، رفعوا القارب بكل نظام، وانطلقنا في الليل إلى الحسيمة. فبلغناها
في يوم 5 ماي، على الساعة الثامنة صباحاً.
كان يتعين على ابن الطاهر أن
يسلم رسائل جاء بها من طنجة إلى أهل بقيوة. ولما أن أعياه الانتظار، ولم
يلح في الأفق من قارب، لم يجد بداً من حملها إلى الحسيمة. ثم نزلنا بالساحل
الغربي من خليج الحسيمة، وألقينا المرساة في ساحل العدو، إلى صباح اليوم
الموالي. وفي مساء ذلك اليوم، أجزنا لأنفسنا أن نقوم بدعابة : فقد أرسلنا
من على متن السفينة صندوقاً صغيراً، فلم مر بقربنا، نبهنا العجوز إليه،
قائلين إنه لغم طاف. فلبث المسكين ساهراً لم يغمض له جفن، خشية التعرض
لاعتداء. وقبل أن يعود إليه هدوؤه، اتفق لنا حادث آخر هينٌ. فقد أشهر أحد
زنوج الرجل العجوز سكيناً في وجه ضابطنا الأول على أن عاقبه على فظاظة بدرت
منه. وقد اعترف البحارة بأن السكين يعود إليهم، وأنه سرِق منهم قبل بضعة
أيام. وبطبيعة الحال، فقد انتُزِع السكين من الزنجي، وانصرف من غير أن يلقى
عقاباً، وإن كنا نود أن يتلقى بعض الجلدات عقاباً له على تلك السرقة.
والحقيقة أن الزنوج هم وحدهم الذين كانوا لا يزالون يعتبرون ابن الطاهر
سيداً عليهم، فلم يكن يرغب في أن يفسد على نفسه ذلك الوضع.
كان يوم 6
ماي يوم عيد مغربي. ففي الصباح الباكر، توجه الجنود كلهم إلى مؤخرة
السفينة، وأطلقوا بعض الطلقات أمام ناظري العجوز، ثم جعلوا يقبلون رجليه
تباعاً. لكن العيد لم يمنع العجوز، المتعطش للدم، أن يفتح النار على قرى
التمسماني. ولقد أمضينا ليلة هادئة على تلك سواحل تلك القرى، من غير أن
نتعرض منها لأي إزعاج. فكان ردنا على تلك الضيافة ذلك الرد غير الودي. ولقد
فر أهل أهل تلك القرى المهددة زرافات، ومنهم من لم يكن عليه غير قميص،
واختبأوا في المخانق وخلف الصخور. لقد كانت تحية محزنة في ذلك العيد لأولئك
الناس. بيد أنهم لم يتجاوزوا عن تلك الصفاقة منا، فجعلوا يردون علينا بنار
تزداد كثافة، لم تفلح طلقات مدافعنا «المكسيم» في إسكاتها.
لم يسبق
للعجوز أن كان بهذا القدر من القتالية. ثم سرنا متئدين، بطول الساحل،
ومناوشين حتى الزوال، كل ما يتراءى لنا من بشر أو قرى. وفي الأخير لزمنا أن
نوقف مناوشاتنا، إذ كان التيار يبعدنا عن الساحل. وجعل البحارة والرجال
يحتفلون بالعيد في غناء وضحك ورقص، لتخليد ذلك اليوم. ثم قاموا ببعض
التمرينات على الرمي، لم تكن لتخطر ببال واحد منهم في الأوقات العدية.
13 - 08 - 2012
في الصباح الموالي، كان أول
خروجنا باتجاه الساحل الغربي لرأس ثلث مداري في هذا الركن من الجنوب الشرقي
كان يعيش أكثر أنصار الروغي تعصباً له؛ بني بوغفِّر.
ومع مطلع الشمس
شرعنا في قصف القرى، والاقتراب من البر، احتشد القرويون على الشاطئ،
مختبئين وراء الصخور. ثم جعلوا يرموننا بقصف كثيف، حتى لقد كنا نسمع
لقذائفهم صفيراً في آذاننا.
استدعينا، على الفور، جميع الجنود ليصعدوا إلى السطح، فنشبت بيننا، حينئذ، معركة طاحنة بطلقات البنادق.
كان
قلة قليلة من الجنود من يجيدون استخدام المصوِّبة؛ فكانوا يرمون من فوق
الدِّسام الصغير؛ بحيث يسقط الرصاص في الماء على مسافة أقل من 200 متر عن
السفينة، إلى أن أفهمتهم أن أن عليهم أن يسددوا إلى ما فوق السدام الكبير.
كان أحد الرجال يضغط على الزناد وهو مغمض عينيه، وكان آخر يطلق النار وهو
يسند عقب البندقية إلى بطنه! وكان بحارتنا والقائد يرمون بأفضل من ذلك.
وعلى البر كانت الفرقعات الضوئية التي تحدثها الطلقات تحدد لنا الأهداف
بوضوح. وأكثرنا، كذلك، من استعمال بندقيتين من نوع «مكسيم». وكنا، في الوقت
نفسه، نرمي بالمدافع القرى الواقعة على المرتفعات. وفي صباح اليوم
الموالي، علمنا بالنتيجة السارة لتلك المعركة : فقد دمرنا منزلين، وقتلنا
رجلين وامرأتين وطفلاً وبقرة!
وفي 24 أبريل، خرجنا نريد المنطقة نفسها،
نزولاً عند رغبة بن الطاهر. أعتقد أن الخوف من الألغام في مارتشيكا هو وحده
الذي دفع بالرجل العجوز سريع التنفيذ إلى أن ينقل مسرح العمليات إلى مكان
آخر. وما كدنا نشرع في تبادل الرمي وبعض الرجال من البر، في الجهة
المغربية، على ساحل كاب نيغري، حتى أبصرنا بمركبين شراعيين، فبادرنا إلى
تعقبهما. لكن أن رآنا الركاب حتى انحرفوا جهة الساحل، فأفلحوا في الوصول
إلى الشاطئ؛ حيث ربطوا المركبين، وتواروا وراء التلال. ولما صرنا على مقربة
من ذلك المخبإ، لا تكاد تفصلنا عنه غير مائة متر، فتحنا عليه النار.
فقابلوا هجومنا، في البداية، بهجوم مضاد، لكننا لم نلبث أن أخرسنا طلقاتهم
باستعمالنا مدافع مكسيم بشكل متواصل، ثم أنزلنا قاربنا في الماء، وجعلنا
فيه بعض الرجال، فتسنى لنا الاستيلاء على المركبين، فيما كنا، من على سطح
السفينة، نمنع أصحابهما من الإتيان بأي حركة. ثم حمل طاقمنا، في عير ما
عناء، الحمولة التي كانت على السفينتين، وجعلنا نفرغها بهدوء : كانت 50
كيساً من الدقيق، و2 كيسان من الصوف، ومقدار قليل من السكر، و4 صناديق من
النفط، و2 صندوقان من الصابون.
كان بن الطاهر يراقب تلك الغنيمة بعينين
متيقظتين نفاذتين، وهو يسجل كل شيء، كفعل ضابط السفينة أثناء ما يجري
إفراغ حمولتها. وقد كان في نيتيه أن يمضي لجلب المركب الثاني، لولا أنه كان
انتزع من أيدي الرجال، وهو في صياح وزعيق، قالب سكر، بعد أن استولوا عليه،
فرفض هؤلاء أن يجازفوا بأنفسهم مرة ثانية، لذلك رفعنا الأب إلى السطح،
واستأنفنا مسيرنا صوب مليلة، نزولاً عند الرغبة الصريحة من الرجال العجوز.
هناك
وجدنا المسؤولين قد علموا، عن طريق البر بما حدث، ووجدنا العامل في سورة
من الغضب. قال لي إن المركب كان آتياً من مليلية، وإن الحمولة التي كانت
عليه تخص بعض تجار المدينة، فإذا كنا نسرق هذا النوع من السلع، فسنقوض
التجارة كلها. فلم أتمالك نفسي أن أرد عليه بأننا لم نأسر المركب في البر،
بل في البحر، ضمن تراب العدو. ثم أرسلت إليه ببن الطاهر ليتفاهم وإياه. بعد
ذلك قال لنا، بلسان الترجمان، إنه لا ينبغي لنا، في المستقبل، أن نعود إلى
مليلية بما يقع بين أيدينا من غنائم، وإن علينا أن نتوارى، بأسرع ما في
الإمكان، بتلك الغنيمة. أجاب بن الطاهر أنه سيرحل في اليوم الموالي بكل
تأكيد. فقاطعته مؤكداً أنني سأرحل قبله، لأنني لا أريد، بأي حال، أن أثقل
على السلطات الإسبانية بمقام طويل جداً. ثم أضفت قائلاً إنني لو كنت لوحدي،
لما كنا رجعنا إلى مليلية بغنيمتنا؛ ولكنت مضيت بها إلى عجرود. بيد أني لم
يكن لي بد من الإذعان لأوامر الرجل العجوز، فهو القائد السابق لبعثتنا،
ولا يمكن أن تُلقى عليَّ المسؤولية في ما يبدر عنه من أفعال.
وقبل أن
نغادر، سلمني فرتوت، يداً ليد، رسالة من الوزير. فقد كتب إليَّ يرجوني، في
لطف، أن أبقي على بن الطاهر، ليظل في مركزه، وأن نكثر من دورياتنا على
الساحل. وقبل كل شيء، فلم يكن يفترض بي، لو أمكن، أن أمكث لأكثر من 24 ساعة
في مليلة. ومن الواضح أنني قد أُعطيَني حينئذ من السلطة أكثر مما كان لي
من قبل.
وفي 26 أبريل، بلغنا عجرود بغنيمتنا. وقد وافق العجوز على أن
ينزل إلى البر، لكن لا حمولته. فشرحت له أننا لا يمكننا أن نظل محتفظين
بالسلع على متن السفينة، لأن الإسبان أبلغونا بوضوح أنه لم يكن يجدر بنا أن
نعود إلى مليلية بأي غنيمة. ولو علموا أننا لم نطع أوامرهم فسنخسر بخطئنا
إلى غير رجعة تلك المعاملة الحسنة التي كنا نجدنها منهم إلى ذلك الحين.
فلذلك ذلك رفضت أن أعود إلى مليلية. تملكه الغضب، فزعم أننا لو أودعنا
الحمولة قصبة السعيدية، فستضيع على الحكومة، لأن الباشا يستحوذ عليها.
تركته يرغي ويزبد، وبقيت متشبثاً بقراري. وفي الأخير، رضخ للأمر، فلم
يمانع، بعد، في تفريغ الحمولة. فلم يكن، هو نفسه، يعتقد أن الحكومة ستطالب
بالغنيمة.
وإنما بات، على العكس، يعتبر نه المالك الوحيد لها، وخشيته أن
يصيع عليه شيء منها. نزلت إلى البر بمعية بومغيث للتحدث في الأمر مع
الباشا، ورافقني بن الطاهر ليظل على رقيباً، وربما، كذلك، لينقذ ما مان لا
يزال بالإمكان إنقاذه.
كانت القصبة لا تزال تغط في هدوء شامل، فالوقت لم
يكن تجاوز الثامنة صباحاً. ثم جاء من قادنا إلى بيت الباشا، فوجدنا الرجل
يغتسل. طلب منا أن ننتظره في حجرة طويلة وضيقة، تعلوها قوسان عربيان،
يقسمانها إلى ثلاثة أقسام : الأول عبارة عن بهو خلو من أي زخارف، وأما
الثاني، والمنخفض عنه بدرجة، فتكسوه زربيتان، وهو يمثل قاعة للاستقبال،
فيما الثالث، المرتفع درجة، يُتخذ غرفة للنوم، قد مُد فيه سرير كبير مغطى
بالتول. القوس الذي يفصل بين الحجرتين الأخيرتين مهدم أعلاه. الجدران كلها
مبيضة بصورة جيدة، لكن عارية تماماً. السقف قوامه أخشاب خشنة وأعواد،
والأرضية من طين جاف. لقد كان لي متسع من الوقت لأجيل بصري، متفحصاً كل
شيء، لأن الباشا تأخر عنا كثيراً، وبن الطاهر يجلس إلى جانبي وقد لاذ
بالصمت.
وها إن السيد قد ظهر بعد لأي، وهو لا يزال مبللاً كله من
الاغتسال، فحيَّانا، ثم ذهب إلى ذهب إلى حجرته، وجعل يرتدي سراويله وثيابه
العريضه التي يتخذها له حجاباً. فلما بات مستعداً، التحق بنا، ثم لبس
جوربيه. وجعل، شيئاً فشيئاً، يكمل هندامه. ثم جعل، لساعة، يحادثنا في بعض
توافه الأمور. لم يسألنا الغرض من زيارتنا. وقد ظل بن الطاهر يلتزم الصمت،
فلم أجد بداً من طرق الموضوع. فقد حكيت له أننا احتجزنا سفينة وحمولتها،
وأن تلك الغنيمة ينبغي أن تودع في القصبة، لأن الاحتفاظ بها على متن
السفينة سيكون فيه فظاظة وقلة لياقة تجاه السلطات الإسبانية في مليلية. قلت
له إنني أرى من الطبيعي تماماً أن تعود هذه الأشياء كلها إلى الحكومة، ولن
أحتفظ بغير المصابيح والغاز والصابون، لأزود بها السفينة، لأستعملها في ما
يخدم مصالح الحكومة. لكن ينبغي إعطاء الرجال شيئاً مما سيفضل من تلك
الغنيمة، فإن من شأن ذلك أن يشجعهم على ركوب المخاطر في ما قد يتفق لنا، في
المستقبل، من غنائم. وزدت إلى ذلك قولي إن من المحتمل أن الباشا لا يريد
أن يتخذ بنفسه من قرار، واقترحت أن تُرفع المسألة كتابة إلى الطريس، من دون
المساس بالحمولة، إلى حين وصول جوابه. وقد كان بن الطاهر على يقين أن
الطريس سيعطيه تلك الغنيمة كلها؛ فلذلك وافق على أن نرسل ببرقية إلى
الوزير. لكنني صرفته عن الأمر، بأن نبهته إلى وجوب فعل ما في الإمكان
لإبقاء المسألة طي الكتمان، ولقد وجدت مقترحاتي تأييداً من لدن الباشا. فلم
يبق للعجوز إلا أن يذعن للأمر.
بعد هذا النقاش، أمر الباشا بفطور قوامه
أرغفة وزبدة وجبن. وقد لاحظت أنه تناول قطعة خبز، وفتحها، وجعل يدهن دخلها
بأصابعه. فتساءلت إلى من سيعطي تلك المزبَّدة. فمد إليَّ بها. ثم لحس
سبابته، بعد أن استعملها في دهن الزبدة. وبالطريقة نفسها أعد قطعة أخرى من
الخبز لأجل بن الطاهر. فاغتبطت أن جعل لي الأسبقية.
في تلك الأثناء، كان
يجرى إنزال الحمولة المجتجزة، ووضعها داخل القصبة، في العراء. كانت الريح
تهب باردة من الغرب. ولما عزمنا، في الأخير، على ركوب السفينة، اشتد اضطراب
الأمواج، حتى لقد غمرت القارب، وابتللنا منها جميعاً. وضعية كانت جديدة
على قائد الرحلة العجوز، فرأيته يقعي على قدمي أحد الرجال، ثم لم يتمالك
نفسه من شدة الخوف، أن يسرب منه على رجلي الرجل ما يتسرب من الخائف الهلوع.
وفي اليوم الموالي، أبحرنا صوب مليلية.
أمليت
على فرتوت رسالة إلى الطريس، أستفسره فيها في قرارة بشأن الغنيمة، وأخبره،
كذلك، بأن بن الطاهر كان يرتكب، أو يريد أن يرتكب، اختلاسات جديدة، وأنه
يتمادى في تجاوزاته، بما قد يدفع الإسبان إلى طردنا نهائياً من مليلية،
وأنني أرى من مصلحة عملنا أن يرسل إلينا بقائد آخر للرحلة، ولاسيما أن
رجالي معه في مشاحنات متواصلة، وأنهم يهددون بالعصيان، وأنه قد تمادى في
تجنياته، بحيث لما وقع شجار بين أحد البحارة وواحد من رجاله، لم يزد على أن
أمر بضرب رجالي في حال تكرر ما حدث، وأنني بت ألاقي عناء كبيراً في تهدئة
البحارة، وبعد ذلك أغلظت القول كثيراً للعجوز، بما ما كان منه من وقاحة،
بحيث ألجمته لأسابيع.
في الأيام التالية حاولنا أن نقوم برحلة إلى
الحسيمة؛ حيث كان بن الطاهر يريد أن يتنقم من قبيلة تلمسماني. لكننا كنا
كلما هممنا بالتحرك، نضطر إلى الرجوع على أعقابنا، عند رأس ثلث مداري.
وكأني بالعجوز كان يود أن يتحاشى التوكيل التجاري، فعندما ألمحت إليه،
بهدوء، بعد فشل محاولتنا الأولى للالتحاق بالحسيمة، إلى ضرورة أن نظهر، مرة
أخرى، في مارتشيكا، تملكه الحنق، وزعم أنه لا يقدر أن يذهب إلى هناك بسبب
خطر الألغام، لأنه هو المسؤول عن السفينة أمام السلطان. بيد أننا ذهبنا عند
أعدائنا بمبادرة خاصة مني، وبذلك أجبرت العجوز على إطلاق النار، على الرغم
من الخوف الذي كان يتملكه؛ ذلك بأنني اقتربت كثيراً، بحيث كنا نلقى القصف
من البر، فلم يعد له بد من الرد.
كان بن الطاهر هلوعاً من الألغام، فكنا
لا نفوت فرصة لنزيده خوفاً على خوف. فإذا مر بنا شيء من الأشياء، كان
أحدنا يصيح : «لغم!»، فكان دائم الخوف أن يصاب. بيد أن الألغام لم تكن هي
وحدها السبب في خوفه وانشغاله. فقد كان يخاف البحر أيضاً. فكلما شرعت
السفينة تتأرجح، إلا وطلب إلينا أن نعود إلى المرسى. فلا غرو أن يكون
«أميرال» هذا شأنه، من احترام من رجاله.
ومن الجزر الجعفرية، قمنا بعدة
رحلات استشكافية صوب ساحل كبدانة ومارتشيكا، حتى عودتنا إلى مليلية في 3
ماي. وكان أن سلمني حينها فرتوت رسالة من الطريس يبين لنا فيها كيفية
اقتسام الغنيمة. الثلثان يمنحان لي ولطاقم البحارة، والثلث لبن الطاهر
وجنوده. وعلاوة على ذلك، فقد أخبرني بأنني وحدي المسؤول على قيادة الطاقم،
وليس عليَّ أن أترك للعجوز أن يتدخل في الأمر، فخدمة السفينة لا تعنيه في
شيء. وتلقى بن الطاهر، كذلك، رسالة من الوزير يؤاخذه فيها كثيراً بعدم
جدواه، ويأمره أن يكون أكثر فعالية.
بذل فرتوت جهده ليصلح بيني
والعجوز، لكنه لم يفلح كثيراً؛ فقد كان من المتعذر عليَّ أن أحترم رجلاً
خاملاً، وبليداً وجباناً، لم يكن يفوِّت فرصة ليزعق ويرغي ويزبد. غير أني
وعدته أن أقيم هدنة مع بن الطاهر.
في 4 ماي تمكنا، بعد لأى، من الخروج
في الرحلة التي كنا نزمع القيام بها منذ وقت طويل، إلى الحسيمة، كان
ينتظرنا مسير طويل من 14 ساعة، فلذلك حددت موعد الانطلاق في الساعة الثالثة
صباحاً. وارتقيت شخصياً السفينة في الساعة الثانية والنصف، وأعدت القارب
إلى البر ليُقل بن الطاهر، لكننا ظللنا، كما هو معهود في معظم الأحيان،
نرتقب أن نركبه السفينة، في الساعة المحددة، لكن دون جدوى. فلما كانت
الساعة الدابعة، ظهر، أخيراً، مركب خاص تبينت على متنه العجوز، قادماً
ناحية سفينتنا.
وكان قاربنا يسير من ورائهما وهو يتعرج ارتفاعاً
وانخفاضاً، ويتأرجح ذات اليمين وذات الشمال، بشكل مخيف. فاستشعرت وقوع
مكروه، ولم يخطئ إحساسي. نزل من السفينة بن الطاهر، وفرتوت والمعلم محمد،
وقد كان هذا الأخير في غاية الانشراح. وقد أخبرني ابن الطاهر، بلسان
الترجمان، أن رجالي كلهم مخمورون في البر، فطمأنته أن لا خوف من الأمر،
وأنني سأقله، بعد اليوم الموالي، إلى الحسيمة في الموعد المعلوم. وبالفعل،
فقد لاحظت، بعدئذ، أن لا وجود لأي بحار على متن السفينة، وكذلك غاب عنها
جميع السائقين، إلا اثنان. ولما أخبرني ابن الطاهر، فوق ذلك، بأن بعض رجالي
قد اعتُقلوا في بعض الشجارات، ساءني الأمر.
كان قاربنا يتقدم متئداً،
وهو يتأرجح. ورأيت الخليفة وأحد السائقين يكدون ويجهدون لدفعه. وما انتهى
عناؤهم إلا أن انطلقت السفينة الٌسپانية، بعد لأي، صوبهم، وجذبتهم. ورأيت،
من بعيد، أن المجذفين كانوا ثملين. وتعرفت على الطريس (أحد أقرباء الوزير،
كان يحظى بوضع مميز على متن السفينة) مستلقياً، في خلفية السفينة بالعرض؛
فكان كأنه جثة هامدة. ولاحظت، في الأخير، أن السفينة كانت ملآى ماء، توشك
أن تغرق. وما أن تم لنا ربطها، حتى قفز إسبانيان داخلها، وانهالا ضرباً على
المخمورين، وأخذا ينزلانهم. كان الخليفة أقلهم سكراً، فكان صعوده أسرع،
وكذلك بقي السائق واعياً إلى حركاته. بعد ذلك، لزم إركاب الطريس «الجثة»،
فلما عاد هذا الأخير إلى الانتصاب، بعد جهد جهيد، ومساعدة من بعض الرجال
الأشداء، سمعنا من تحته زمجرة، ثم برز الرامي الثاني. وفيما كان الطريس،
الرخو النحيف كأنه خرقة مبلولة، يصعد السلم بمشقة، وهي يزحف على يديه
ورجليه، جعل الرامي يحاول، وهو يضحك ببلاهة، أن يلتقط الأسماك التي اشتراها
إذ هو على البر، وهي، الآن، تتخبط في الماء المتجمع في قعر السفينة، من
غير أن يفلح في الإمساك بها، مهما فعل. وقد أمكن له، في الأخير، أن يرتقي
سطح السفينة، فمضى ليستريح، وكذلك فعل الخليفة والطريس؛ فقد تواروا عن
الأنظار بسرعة تحت السطح. ولبث السائق في الأسفل ينحو بأشنع الشباب على عبد
العزيز.
في تلك الأثناء، كانت الجهود تُبذَل سدى لنزح الماء عن
السفينة، إلى أن انتبهنا إلى أن سدادة الرمل كانت قد أزيلت. ولم يكن سبيل
إلى استعمال السفينة إلا أن تُعاد السدادة إلى مكانها. وبينما كنا، نحن
الأوروپيين، نستمتع بذلك الحادث، كان العجوز بن الطاهر يقف هناك، مذهولاً،
لا يعرف ما يفعل.
نزلت، بعد ذلك، إلى البر، ومعي السائقان، للبحث عن
رجالي. لكن عبثنا. فقد كان من المستحيل أن نقع على واحد منهم. انتظرت على
الشاطئ نهاية تلك الحكاية، فلم يكن بمقدورنا أن نرحل من دونهم. وفي الساعة
السابعة، رأينا، بعد لأي، عربة تقترب. ثم دنت من قاربنا، وترجل عنها أفراد
الفرقة كلهم، وهم محمرُّو الخدود بفعل الكحول، شاردو الأبصار. لكنهم كانوا
جميعاً متماسكين. ناديت على أحدهم، فوقف أمامي كفعل الجندي ليتلقى الأمر،
ويداه تشدان على سرواله، وأعلن أن الجميع حاضرون. وبذلك صار بمقدورنا،
أخيراً، أن نصعد إلى السفينة. وقد لاحظت أن رجالي، على الرغم من سكرهم، لم
يكن بينهم من يخل باللياقة، أو يخرج إلى الوقاحة. فمنذ سنوات وأنا أتولى
قيادة «التركي»، وتلك كانت أول مرة تتجاوز فيها الفرقة كلها الوقتَ المحدد
للاستراحة على البر لذهاب أفرادها للشرب. وقد استغربت لبقائهم ملتزمين
الهدوء، على الرغم من الغشاوة التي كانت على أذهانهم. فلما صرنا على متن
السفينة، رفعوا القارب بكل نظام، وانطلقنا في الليل إلى الحسيمة. فبلغناها
في يوم 5 ماي، على الساعة الثامنة صباحاً.
كان يتعين على ابن الطاهر أن
يسلم رسائل جاء بها من طنجة إلى أهل بقيوة. ولما أن أعياه الانتظار، ولم
يلح في الأفق من قارب، لم يجد بداً من حملها إلى الحسيمة. ثم نزلنا بالساحل
الغربي من خليج الحسيمة، وألقينا المرساة في ساحل العدو، إلى صباح اليوم
الموالي. وفي مساء ذلك اليوم، أجزنا لأنفسنا أن نقوم بدعابة : فقد أرسلنا
من على متن السفينة صندوقاً صغيراً، فلم مر بقربنا، نبهنا العجوز إليه،
قائلين إنه لغم طاف. فلبث المسكين ساهراً لم يغمض له جفن، خشية التعرض
لاعتداء. وقبل أن يعود إليه هدوؤه، اتفق لنا حادث آخر هينٌ. فقد أشهر أحد
زنوج الرجل العجوز سكيناً في وجه ضابطنا الأول على أن عاقبه على فظاظة بدرت
منه. وقد اعترف البحارة بأن السكين يعود إليهم، وأنه سرِق منهم قبل بضعة
أيام. وبطبيعة الحال، فقد انتُزِع السكين من الزنجي، وانصرف من غير أن يلقى
عقاباً، وإن كنا نود أن يتلقى بعض الجلدات عقاباً له على تلك السرقة.
والحقيقة أن الزنوج هم وحدهم الذين كانوا لا يزالون يعتبرون ابن الطاهر
سيداً عليهم، فلم يكن يرغب في أن يفسد على نفسه ذلك الوضع.
كان يوم 6
ماي يوم عيد مغربي. ففي الصباح الباكر، توجه الجنود كلهم إلى مؤخرة
السفينة، وأطلقوا بعض الطلقات أمام ناظري العجوز، ثم جعلوا يقبلون رجليه
تباعاً. لكن العيد لم يمنع العجوز، المتعطش للدم، أن يفتح النار على قرى
التمسماني. ولقد أمضينا ليلة هادئة على تلك سواحل تلك القرى، من غير أن
نتعرض منها لأي إزعاج. فكان ردنا على تلك الضيافة ذلك الرد غير الودي. ولقد
فر أهل أهل تلك القرى المهددة زرافات، ومنهم من لم يكن عليه غير قميص،
واختبأوا في المخانق وخلف الصخور. لقد كانت تحية محزنة في ذلك العيد لأولئك
الناس. بيد أنهم لم يتجاوزوا عن تلك الصفاقة منا، فجعلوا يردون علينا بنار
تزداد كثافة، لم تفلح طلقات مدافعنا «المكسيم» في إسكاتها.
لم يسبق
للعجوز أن كان بهذا القدر من القتالية. ثم سرنا متئدين، بطول الساحل،
ومناوشين حتى الزوال، كل ما يتراءى لنا من بشر أو قرى. وفي الأخير لزمنا أن
نوقف مناوشاتنا، إذ كان التيار يبعدنا عن الساحل. وجعل البحارة والرجال
يحتفلون بالعيد في غناء وضحك ورقص، لتخليد ذلك اليوم. ثم قاموا ببعض
التمرينات على الرمي، لم تكن لتخطر ببال واحد منهم في الأوقات العدية.
13 - 08 - 2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
-19-
اضطررنا، بسوء الطقس في الأيام التالية، إلى البقاء متبطِّلين. فلم نرجع إلى عجرود إلا في 9 ماي، لنسوي، أخيراً، قضية الغنيمة.
كان
البر لا يزال على شيء من الاضطراب، فآثر بن الطاهر البقاء على متن السفينة
خشية اضطراب الأمواج، وأوكل ببيع حصته من الغنيمة إلى يهودي من مليلية.
وأما
أنا فقد بعت في القصبة الحصة العائدة إلى البحارة بثمن جيد جداً؛ ثم عدت
إلى السفينة؛ فوزعت تلك الدوروات الستين على أفراد الطاقم؛ وكنت أفعل ما
أفعل فوق طاولة على سطح السفينة؛ على مرأى من العجوز، فكنت أنادي على كل
الرجال واحداً واحداً، فأسلمه نقوده. واحتفظنا على متن السفينة ببعض أكياس
القيق لأجل المطابخ، وعادت إلى ابن الطاهر خمسة من تلك الأكياس؛ فدفع إلى
الجنود بثلاثة واحتفظ لنفسه باثنين، وعلى النحو نفسه جرى تقسيم السكر؛
ثلثاً للعجوز، وثلثين لنا. فكان الجنود ينظرون إليَّ في حسد، وأنا أقسم
الدوروات على رجالي، وأردت أن أدخل السرور على أنفسهم، فمنحتهم حصتنا من
السكر.
وقد تبادر إلى أذهانهم، بكل تأكيد، أن بإمكانهم أن يحصلوا على
المزيد؛ فذهبوا عند العجوز يطابونه بحصتهم من الغنيمة، فكان رده عليهم، من
حيرته، أنه اعتقد أنني سأبيع حصته أيضاً. لقد جعلني، نوعاً ما، مسؤولاً على
أن لم يحصل الرجال على شيء. فنبهته، إذاً، إلى أنه كان قد عهد ببيع حصته
إلى ذلك اليهودي.
وكانت لنا عودة إلى مليلية. وقد التقيت هناك فارساً
فرنسياً، من ڤرساي، كانت لي به معرفة، وشاءت له الصدفة أن يكون في مليلية
برفقة (زينيث)، فحكى لي، في فرحة ماكرة، أنه كان عائداً من جمرك الروغي؛
حيث رأى الرؤوس المقطوعة لرجال السلطان الخمسة معلقة عند مدخل الجمرك. فكان
ما سمعت منه دافعاً لي إلى للتوجه، في اليوم الموالي، عند العامل. فرجوته
أن يزيل، في الحال، بتلك الرؤوس، فليس من حق بوحمارة أن يعرض، على تلك
الصورة، غنائم الحرب في منطقة محايدة. ولولا أن أنزِلت تلك الرؤوس، لرأينا
من حقنا أن نسقطها برميها بقذائفنا. ولقد أكد لي العامل أنه قد سبق أن طالب
بإزالة تلك الرؤوس، مع تأكيده لي أنه ليس لنا أي حق في التعدي على حياد
بيت الجمرك. إلا أنه وعد بالحرص، في ما يقبل، على أن يبتعد المتمردون
بمظاهر الخشونة وعدم اللياقة عن جوار مليلية.
وعاودت ابن الطاهر رغبته
العارمة في الاستراحة بضعة أيام بمليلية، حيث يشعر بالأمان، إذ يتولى
الإسپان الحراسة لأجلنا. فلم أجد ببداً من تذكيره بأمر الطريس إلينا بعدم
البقاء في مليلية لأكثر من أربع وعشرين ساعة. فلم أدع له مناصاً من استئناف
رحلة استكشافية قصيرة في 13 ماي، لكننا ما كدنا نرمي ثلاث كرات على المصنع
نعلن بها أننا لا نزال على قيد الحياة، حتى لاحت لنا في الأفق سفينة
شراعية. فسارعنا نبغي اعتراض سبيلها، فتبين أنها كانت تبحر من غير طاقم
عليها. فعمدنا إلى شدها لصق سفينتنا، لتفحصها عن كثب، فلم نجد على متنها
أحداً؛ إلا من بعض الثياب وأربعة رجال متفرقين على السطح. وكان على متن
السفينة حمولة من 40 كيساً من الفحم الخشبي، وأناء عظيم من البيض، وخمسة
دوروات إسپانية. فأخذنا البيض والنقود، وتركنا الفحم في السفينة، وقمنا
بشدها إلى مؤخرة سفينتنا لنسحبها إلى عجرود.
غير أن الطقس كان ينذر
بالاضطراب، فلم نجد بداً من أن نجعل عليها ثلاثة من رجالنا المتطوعين.
فأفلحوا في المضي بها إلى البر. وانطلقنا، فور ذلك، إلى الجزر الجعفرية،
فألقينا فيها المرساة. وكنا في الطريق إليها اقتسمنا البيض، وبعنا الثياب
بالمزايدة. وقد وجدنا في جيب أحد الألبسة رسالة من الروغيك يأمر فيها صاحب
السفينة، وهو، كذلك، شيخ القرية، بجمع الأموال في القرية؛ بسيطة عن كل شخض،
وإلا عاد، في جيشه لنهب القرية، ومحق أهلها.
لبثنا في الجزر الجعفرية
إلى صباح اليوم الموالي؛ ثم تحسن الطقس، فأبحرنا صوب مليلية، لنبرق إلى
الطريس في حاجتنا إلى الفحم. وفيما كنت أهم بالرحيل، إذ علمت أن سفينة
إسپانية صغيرة قد جاءت، في الصباح الباكر، تسأل عن ركاب السفينة الشراعية
التي أسرناها في اليوم الذي قبل. وكان أحد أولئك الرجال بلغ الشاطئ سباحة،
فظُنَّ قد احتفظنا بالثلاثة الآخرين على متن السفينة. والحال أنهم غرقوا
فيما كانوا يحاولون النجاة بأنفسهم سباحة.
وفي مليلية تلقيت برقية
منالوزير يأمرني بالتوجه من فوري، إلى طنجة، لأتزود من الفحم. خبر تلقاه كل
من على السفينة بصيحات الفرح. فسارعنا بالتحوك صوب عجرود لأخذ رجالنا من
هناك. وكان العامل دعاني إلى مقابلته في الساعة 7 من مساء ذلك اليوم، بسبب
غنيمتنا الأخيرة، لكنني أبلغته تأسفي لعدم استطاعتي الانتظار، لشدة عجلتي.
ووجهت إليه تحياتي، وزدت شاكراً له لطفه ، وقد كانت تلك المحادثة ستكون
جلسة أخرى من التفسير المتعب.
وفي اليوم الموالي رتبت أمر شراء حصتنا من
الفحم الحجري، وانتهيت من الأمر في الساعة الواحدة. لكن الأمر لم ينته
بالنسبة لابن الطاهر، الذي لبث، من المساء حتى الساعة الواحدة ليلاً جالساً
في مكانه يشرب ويأكل، لا يتزحزح عنه. وعليه، فقد أخذت حصته من الدقيق ،
التي لم يفلح اليهودي في بيعها، قد أخذت، في تلك الأثناء، يدركها الفساد
بفعل ما توالى عليها من سيول كثيرةو فصارت تنبعث منها رائحة لا تطاق. فلم
يعد له سبيل، في تلك الحالة، إلى بيعها. غير أنه لم يتخل عن ذلك الدقيق،
وحمله على متن السفينة؛ فظل يزكم أنوفنا إلى أن بلغنا طنجة، وهناك لم يعد
يجد بداً من رميه في الماء. وفي نحو الساعة الثانية بعد الزوال، عدنا إلى
السفينة، وأبحرنا من فورنا. وقد أمكنني أن أزيد كل بحار 4,50 بسيطات عن
الفحم الخشبي، فيما لم ينل الجنود شيئاً، فظل ابن الطاهر ييتذمر، لأنني لم
أبع حصته من الدقيق.
أحدث ذلك الشخص من الأضرار خلال تلك الأسابيع أن
بات التخلص منه يمثل عملاً شاقاً مرهقاً. فقد صار لا يكاد يمر يومٌ إلا
يكون فيه سطح السفينة مسرحاً لشجارات؛ بسبب نسائه أو خدمه. وعلى الرغم من
أنه يكون هو المخطئ دائماً، فإنه لا يفوت فرصة للتذمر. ثم إنه كان في غاية
الجبن والفظاظة والجهل والثقل، وفاقداً للذوق والحصافة؛ بحيث لا يحترمه
أحدٌ. وقد أقام الطريس محاكمة كبيرة لبن الطاهر، فحاول هذا الغشاش الماكر
الكبير أن يلبسني المسؤولية عن كل الحوادث التي وقعت على متن السفينة.
واشتكى خاصة، من أننا، نحن الأوروپيين، قد أخفناه كثيراً بالألغام. وعندما
حكى أن الضابط الأول قد تمادى في الأمر، وأنه أخبره بأن طوافة التلغراف في
طنجة كانت طوربيداً، كان موجهاً إلينا، لم يتمالك رجال الوزير أنفسهم من
الضحك. ثم دعا جنوده ليكونوا له شهوداً عليَّ. لكنه أخطأ الحساب؛ فلقد انصب
على رأسه سيلٌ من التهم، بهت لها وتجمد، فلم يحر جواباً. ووقف جندي، قد
عينه رفاقه ليتكلم بالنيابة عنهم، فأسهب في الحديث، وكان يتكلم بحدة وعنف
كبيرين؛ شد إليه انتباه السيدين. فلقد اشتكى الجنود المعاملات الشائنة،
ونقص رواتبهم، وأن ابن الطاهر لم يكد يعطيهم شيئاًَ من الغنائم، فيما وزعتُ
أنا كل ما عاد إليَّ مها على رجالي. وختم الجندي حديثه بالتأكيد أن رفاقه
لن يلبثوا تحت إمرة العجوز.
وعندما فرغ ذلك الجندي من الحديث، تكلم
بناصر غنام، فأغلظ القول للعجوز بمحضر طاقم السفينة كله. ولامه بأنه قد
جعله سخرة أمام المسلمين والمسيحيين. وقال إن عليه أن يخجل من نفسه، وإنه
لم يكن جديراً بالمنصب الذي يشغله، وإنه سوف سيكتب فيه إلى صديقه وزير
الحربية، ليتم عزله منه.
لكن وزير الحربية الذي جاء جوابه بعد بضعة
أيام، أبقى على محظيه أثيره في مهمته، لأنه كان، هو نفسه، سيتفيد من
الاختلاسات التي يقوم بها هذا الأخير. ولزمنا في 30 ماي، أن نعاود الرحيل
بمعيته بصفة «الأميرال» إلى ساحة العمليات. بيد أن الطريس حد من سلطاته،
فما عاد له إلا حق تحديد وقت القصف ومكانه، وتحديد وجهة السفينة. وحتى لقد
جُعل الجنود كلهم تحت إمرتي. وما عاد له من سلطان إلا على خدمه الشخصيين،
ولزمه، بطبيعة الحال، أن يُنزل نساءه في طنجة. فالطريس، كسائر المسلمين،
يرى في وجود حريمه على متن السفينة أمراً مخالفاً للآداب.
وفي تلك الأثناء توجه القنصل الإيطالي الكونط ملموسي إلى فاس، لينقل إلى السلطان قرارات مؤتمر الخزيرات، ويحمله على التوقيع.
وفي
فجر يوم 1 يونيو، ألقينا المرساة قبالة مليلية، وكانت المدينة مزينة عن
كاملها، بسبب حفل زفاف ملك إسپانيا، فرفعنا، نحن أيضاً، علم الاحتفال.
وكان
بوحمارة أرسل بعدد كبير من الفرسان، قاموا، في المنطقة المحايدة، بلعبة
الفروسية، احتفالاً بذلك اليوم، من دون أن يعلم بها الإسپان بصفة رسمية.
وفي
الصباح الباكر، ارتقى مساعد الجنرال، وهو ليوتنون كولونيل، السفينة
وبرفقته ترجمان، لينقل إلينا ما يقرب من الأمر التالي من لدن الحكومة :
تنص
المعاهدات على أن إسپانيا ينبغي لها أن تتولى الأمن في البحر وعلى الساحل
الريفي، ولا ينبغي لنا أن نعرقل التجارة بين الأراضي التي تستعمرها إسپانيا
من جهة، والريفيين من جهة أخرى، بإعاقتنا للتجارة البحرية. وابتداء من تلك
اللحظة، سوف تصطنع جواز مرور إسپانياً لأجل جميع السفن الريفية التي تبحر
من غير تهريب. ولئن كان لنا الحق في وقف السفن المزودة بهذا الجواز،
والتحقق من أنها لا تحمل على متنها سلعاً مهربة، لكن يُمنع علينا أن
نحتجزها ما لم نجد عليها ما يريب، ولو وجدنا على تلك السفن أسلحة مهربة،
فإن علينا أن نمضي بها إلى مليلية، ونترك للعامل أن يقرر بشأنها. لقد كان
بإمكاننا أن نغنم جميع السفن التي ليس بحوزتها جواز مرور، لكن لا ينبغي لنا
أن نأتي بها إلى التراب الإسپاني، وإنما علينا أن ننزلها في البر المغربي.
وعلاوة على ذلك، فقد أعاد تذكيرنا أننا ليس من حقنا أن نطلق النار على بيت
جمرك الروغي. وليس علينا أن نهتاج للخيام التي باتت تقوم فيه يومئذ، لأن
رجال الروغي كانوا يقيمون حفلاً على شرف ملك إسپانيا، وذلك أمرٌ لم يكن
يغيب عن علم السلطات الإسپانية.
وقدم مولاي مصطفى، أحد أعمام السلطان،
إلى مليلية. فاستقل سفينتنا إلى عجرود. وانطلقنا في 3 يونيو، وجهتنا
المتجر، فأطلقنا بعض القذائف، لنعلن لأعدائنا أننا قد عدنا إلى ذلك المكان.
ثم واصلنا طريقنا صوب الجزر الجعفرية؛ حيث ألقينا المرساة، إذ كان ابن
الطاهر يرغب في استبقاء مولاي مصطفى في ضيافة سفينتنا. فظل العجوزان، طوال
النهار، في مؤخر السفينة، في أكل، وصلاة، لا ينقطعان عنهما إلا بالنوم.
وكان ابن الطاهر، بين الفينة والأخرى، يأتي مولاي مصطفى ببعض الشروحات حول
المنطقة، أو يحكي له عن مآثره ومنجزاته خلال الرحلات السابقة. وفي اليوم
الموالي، أنزلنا مولاي مصطفى في قصبة السعيدية، ومن هناك رحل ليطلع على
أمور القوات المتمركزة على ضفاف ملوية.
وفي 7 يونيو، تلقى ابن الطاهر
وخليفته الأمر المفاجئ بالذهاب لرؤية القوات؛ وقيل لي إنه كان ينبغي التحقق
من تعداد الجنود الذين في ملوية، لأن السلطان لم تعد له رغبة في تقديم
المال لجيش كبير، فيما حوالي نصف الجنود المبينين على الورق كانوا في
البوادي. فأرسِل بمولاي مصطفى من فاس، ليقوم بإحصاء الجنود؛ لكنه لم يستطع
أن ينجز تلك المهمة لوحده، فاستقدم ابن الطاهر إلى المعسكر. لقد ظُن أن هذا
الأثير الكبير على وزير الحربية سيصيب من النجاح أكثر مما حقق مولاي
مصطفى. بيد أن محاولات الإحصاء والعد فشلت كلها؛ فقد اصطدمت بعناد القايد
شراب، أحد أفظع المحتالين وأكثرهم جراءة على عهد السلطان. وعاد ابن الطاهر
إلى السفينة في يوم 9، من غير أن ينهي مهمته.
وحكى لي خليفته أنه جرى إزالة خمس الراتب، الذي كان، إلى ذلك الحين، يُدفع إلى القادة، ومن المحتمل أنهم لن تعوزهم مع ذلك النقود.
كان
الطرفان المتعاديان، متحاذيين، لا يفصلهما غير النهر، وقد شرع من الجانبين
في بناء بيوت من الإسمنت، وبالتالي، خلق مواضع جديدة. ولم يكن أي من
الطرفين يفكر في القيام بهجومات نهائية.
وقد كان لي، أثناء غياب ابن
الطاهر، محادثة طويلة مع عجوز ريفي، يدعى عُمراً، كان يقيم على متن السفينة
منذ وقت طويل ليكون لنا مرشداً على الساحل الذي ليس لنا به معرفة. كان
الرجل يعمل في خدمة السلطان منذ 40 سنة خلت. وكان شارك في طرد قبيلته،
فرخانة، وكان شاهداً على محاصرة المتمردين للقصبة وتدميرهم لها. وكانت
للرجل ملكية صغيرة، فسُرقت منه ودمرت. وعندما طرِد جميع موظفي السلطان من
مليلية، تحت تهديد الروغي، لبث وأسرته في المدينة، فآوى إلى المخيم الذي
جُعل للاجئي فرخانة. وعندما طلب القايد المحمدي ورجاله رجال السلطان لتقديم
العون للقوات التي على ضفاف ملوية، التحق الرجل بهم، وخاض معارك، أصيب
فيها بجراح كثيرة. ولقد كانت له نظرة ثاقبة إلى الجيش برمته، فكان يراه
فاسداً عن بكرة أبيه، ويمكنه أن يخبرنا عنه الشيء الكثير. وكان يخشى كثيراً
القايد شراب، إذ كان يراه الأسوأ بين موظفي السلطان طراً. إنه قريب
للمنبهي، وكانت له أملاك في تلمسان، على الجانب الجزائري ؛ حيث كان له
قطعان كبيرة من الماشية. وعمر يعتقد أن الرجل يتخذ له هذا المكان ملاذاً
آمناً، لو قدِّر له أن يرفع قدميه في يوم من الأيام. وقد كان في مكنة
الباشا، في اليداية، وقت أن كان شراب لم يحز بعد النفوذ الكبير الذي صار
له، كان في مكنته أن يقضي عليه، وأما بعد ذلك، فما عاد الأمر ممكناً، فقد
أصبح له مناصرون ونفوذ متزايدان، وبات يعرف أم يحيط نفسه بالرجال الأشد
مراساً. وهو يداهن الروغي، ويُقال إنه لم يكتف بأن أهداه عدداً كبيراً من
الخيام، وإنما كان كثيراً ما يبيعه الأسلحة العصرية. وهو يعرقل العمليات،
إذ لا يبدي تعاوناً قط مع قادة القوات، كما يأمره القايد البشير أو القايد
الحسين. وهو يلبث، في معظم الأحيان، من غير فعل، وقد حدث، بكل تأكيد، أن
انضم رجاله، بطريق الصدفة، إلى المعارك، فكانوا يطلقون نيرانهم في ظهور
الأصدقاء والأعداء. لقد كان فزعاً يتملك معسكر السلطان كله، ولم يكن بمقدور
القياد فعل شيء ضده، فهو يفوقهم بكثير.
لم يكن لقضية السلطان، في مثل
هذه الظروف، أن تعرف تألقاً كبيراً، ويمكن القول إن الحظ شاء أن يموت شراب،
بعد ذلك، من رصاصة أصابته. فتحقق، حينها، مزيد من الوحدة في العمليات، لكن
من أسف أن لم يتحقق تقدم كبير.
تردى ابن الطاهر، خلال الأسابيع
التالية، إلى خمول لا يطاق. ولقد أمضينا أياماً بلياليها قبالة عجرود،
وومليلية والجزر الجعفرية، من غير أن نعرب عن رغبة في القيام بشيء ما. فقد
كان يحب الإقامة في عجرود، إذ كان فيها يعيش في البر، ويمكنه أن يطعَم
مجاناً عند بعض أصدقائه، في الجزر الجعفرية، لأن السفينة في الميناء لم تكن
تترجح قط، وفي مليلية، لأن السلطات الإسپانية تسهر على أمننا. فلقد ظل على
خوفه الشديد من الألغام، وكان شديد الفزع أن تطير به. وكان يتحاشى مار
تشيكا، كأنما يمتنع عن دخولها. فلما كنا في مليلية، ذكرته بأمر الطريس ألا
نمكث فيها لأكثر من أربع وعشرين ساعة، فكان جوابه أن له محادثات مع بعض
القبائل المتمردة، وأن عليه أن يمكث هناك لأكثر من ذلك الوقت. وحتى لقد
أمضى الليلة في البر، متعللاً بالمفاوضات. وقد اتفق لبعض البحارة أن رأوه
يدخل بيتاً للدعارة؛ ضم بعض الفتيات، لكن من المؤكد أنه لم يضم قادة
للمتمردين ولا به قاعات للمفاوضات. وكان كثيراً ما يلبث جالساً في بعض
الحانات الإسپانية في شرب، حتى إذا عجز أن يأتي على الخمرة، تولاها زنجي
يلازمه على الدوام، حتى لا يتركها لصاحب الحانة. وقد يقف، أحياناً، مع
القايد المحمدي، في حانوت أحد اليهود، يقتعد صناديق السلع ويفاوض. وقد أسر
إليَّ أن الأمر كان يتعلق بإخضاع إحدى القبائل. لكن، عندما سألت المحمدي،
بعد ذلك، كيف كان يجري الأمر، أجابني بقوله إنهم تداولوا في أمور شديدة
التفاهة، وإن الحكاية التي قالها ابن الطاهر كانت تلفيقاً من كل الوجوه،
وإن وجودنا في مليلية كان أمراً زائداً وباطلاً من كل الوجوه.
تلقيت،
في 9 يوليوز، برقية من الطريس، تأمرني بالرحيل على الفور إلى عجرود، لأقل
من هناك بعض السجناء، وأعود، فور ذلك، إلى طنجة. خبرٌ ثار له بن الطاهر،
وأصر على أن نلبث في مليلية، ذلك بأن فاساً قد منحته مطلق السلطات على
السفينة، وبالتالي، فليس على الطريس أن يحشر نفسه في الأمر. ولقد أبرقت إلى
الطريس بتفسيرات ابن الطاهر، وتوصلت، على الفور، بجواب يقول : اترك بن
الطاهر هناك، وعد إلى هنا، من غيره، مروراً بعجرود.
بيد أن العجوز لم
يلبث هناك مكتوف اليدين؛ فلقد آثر إلا يرافقنا في تلك الرحلة. وفي صباح 11
يوليوز، وجدت في عجرود، رسالة من الباشا، تخبرني أنه ليس عليَّ أن أنتظر
السجناء، وأن علي أن أرحل في الحال. وأراد ابن الطاهر، مرة أخرى، أن يصيب
الفطور في القصبة، فنزل إلى البر. فجعلت من يخبره أنني لن أنتظره. ولقد
حاول أن يستبقينا، بيد أني أعطيت أمراً صارماً : ينبغي أن يكون القارب على
متن السفينة في الساعة العاشرة دون تأخير.
وعندما تأخر، استعملت الصافرة
البخارية، ورأيت الرجال يركضون صوب القارب، ويدفعونه في الماء، وينطلقون.
وعلى ذلك، أسرع العجوز القائم بالرحلة، وسرعان ما جُعل على متن السفينة،
ولولا ذلك، لتركته، وفي حوالي منتصف النهار، انطلقنا صوب طنجة.
في تلك
الفترة، شرع الفرنسيون في خلق مصاعب جديدة للسلطان عند الحدود، وتحدثت
الصحافة صراحة عن دعم نشيط للروغي. وفي نمور، جرت، من جديد، مصادرة أسلحة
وذخيرة موجهة إلى المحلة، ولئن أعيدت في وقت لاحق، فلقد آلم هذا الحادث
المغاربة كثيراً. ليس في مقدورنا أن نثبت أن ثمة انحيازاً عمومياً من
الفرنسيين نحو الروغي، لكن ثمة أمر شديد الدلالة : من الجانب الرسمي
الفرنسي لم يُشرع في إنهاء المتاجرة التي لا تزال تجري في الخفاء، بين پور
ساي والمتجر، وحتى ليبدو كأنهم يشجعون عليها.
15-08-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
-20-
لم يفلح أحد منا في معرفة السبب
وراء استدعائنا للحضور إلى طنجة. لكن تخميناتنا كانت أن الأمر يتعلق
باستبدال ابن الطاهر بممثل آخر للسلطان. ولزمنا أن نمضي ما يقرب من ثلاثة
أيام لنتمكن من السلام على العجوز الطريس.
أيام مضت على ابن الطاهر وهو
في حالة من الخوف يتصبب له جسده عرقاً بادياً للعيان. ثم دعينا، في الأخير،
عند الوزير، بيد أن المحادثات سارت في منحى آخر، ولم تطرق الموضوع الذين
كنا نتوقعه لها. ففور وصولنا، في الساعة العاشرة من صباح 15 يوليوز، تم
الذهاب بنا إلى الصالون الخاص بالوزير، فوجدنا هناك إسبانيين، ورجلاً يقال
له الزبير (وهو عربي تلقى تعليمه في إنجلترا قام لي بدور الترجمان)،
والطريس وسي بناصر غنام، فضلاً عن بن الطاهر.
كان موضوع تلك المحادثات هو الإعداد لخطة لقتل بوحمارة أو أسره.
ذلك
بأن رجلاً فرنسياً من الجزائر يُدعى (ميم باء)، صاحب مصنع للتبغ الجزائري،
قد اقترح أن يأتي السلطان بخصمه حياً أو ميتاً، ووضع لذلك خطة جريئة لهذا
الغرض. فهو يريد أن يهيئ سفينة بخارية، يحمل عليها بعض الأسلحة لأجل الروغي
على سبيل الخداع، ثم يتوجه إلى مار تشيكا، فيتسلل إلى البحيرة بواسطة قارب
ذي محرك.
ثم ليُستدرج بوحمارة للحضور إلى السفينة بشيء من الحيلة. فإذا
صعدها تم تقييده، ويحمل على وجه السرعة على متن القارب البخاري. وفي حالة
لم يقع في ذلك الفخ، لزم اغتياله في البر.
ويبدو أن المخزن لم يكن له
مناص من ربح هذا الهجوم؛ فإما أن ينجح، فيكون السلطان قد تخلص نهائياً من
ألد أعدائه، وإما أن يفشل، فيفقد الروغي ثقته في أصدقائه الفرنسيين، الذين
سيصيرون حينها خارج اللعبة.
لم يحضر السيد (ميم. باء) بشخصه، هذه
المفاوضات، وإنما مثله فيها الرجلان الإسبانيان اللذان يبدو أنهما سفيران
مفوضان في طنجة. وقد طلب مقابلاً عن تلك المهمة أن يقبض تسبيقاً بمبلغ
20000 فرنك في دفعة واحدة، ليغطي بها تكاليف إعداد السفينة البخارية (ولم
أعرف قط بماذا كان يطالب في حال نجاح تلك الخطة).
وقد كان ممثلا (باء)
والطريس قد تداولوا بشأن القضية، وكان الوزير المغربي موافقاً عليها من
الناحية المبدئية، وما كان من خلاف بينهما إلا بشأن تنفيذ الخطة، وقد جرى
النقاش بشأنه بمحضرنا. وتلت ذلك مقارعة للرأي طويلة بين الإسبان من جهة،
والطريس وغنام من جهة أخرى، إلى أن عن لأحد الإسبان أن يدعوني إلى الإدلاء
برأيي.
فلزم الزبير أن يطلعني على الموضوع، لأنني كنت، إلى ذلك الحين،
لا أعي شيئاً مما يتداولون. فلما اطلعت على ذلك السر، بين لي أن الطريس
وغناماً يودان للتركي أن تظل، أثناء ما يجري تنفيذ تلك الخطة، على مقربة من
المكان، وأن أتوجه أنا وابن الطاهر، أولاً، على متن السفينة الفرنسية بصفة
الملاحظين. وأما ممثلا (باء) فيرغبان أن تظل «التركي» أبعد ما في الإمكان
عن مسرح العمليات، وكذلك أنا وابن الطاهر.
قلت لأولئك السادة إنني أرى أنه لا ينبغي لـ «التركي» أن تمكث في تلك الناحية إن كان يُعدُّ لشيء ضد الروغي.
ومع
أنه يمكن لـ «التركي» أن تختفي في ركن من تلك الناحية، فسيكون في الإمكان
رؤيتها، على كل حال، من البر، وللمتمردين نظام إنذار في غاية الإتقان، بحيث
يمكنها أن تبلغ سلوان بوجودنا في رمشة العين. ولو توجهت، بعد ذلك، سفينة
بخارية فرنسية إلى مار تشيكا لتنزل الأسلحة، في الظاهر، دون أن نعترض
سبيلها، فلسوف يخمن الروغي، من شدة ريبته، في الحال، أن في الأمر اتفاقاً،
وسيكون في ذلك إفشال للخطة برمتها.
ولقد تبين للوزيرين صواب رأيي. بيد
أنهما كانا يرغبان في أن أقوم أنا وابن الطاهر بمراقبة العملية، ولو من غير
«التركي»، واشترط أن تأتي إلينا السفينة البخارية الفرنسية لتقلنا إلى
طنجة. وقد رأى ممثلا (باء) هذا الأمر أكثر عملية.
ولزمني، مرة أخرى، أن
أصدق على كلامهما. فلقد بينت للوزير أن من المتعذر علينا أن نستقل السفينة
من غير أن نُرى. فإذا أبلِغت سلوان بركوبنا وانطلاقنا، كان ذلك مما يضر
بالعملية. وزدت قائلاً إنه سيكون م دواعي غبطتي الكبيرة أن أكون حاضراً
عندما يتم القضاء على بوحمارة، ذلك الرجل الذي تسبب للحكومة في تلك المتاعب
الجمة، لكني رأيت من واجبي أن أعدل عن ذلك الحضور، حرصاً على مصلحة
الحكومة. وعلى ذلك انتهى ذلك الاجتماع.
لقد كان يلزمنا أن نظل ملتزمين
الهدوء فبذلك تقضي مخططات (باء)، لذلك اغتنمت الفرصة للذهاب إلى العرائش،
لكي أميل السفينة لإصلاحها على ضفة النهر. فلما عدت إلى طنجة، في 12 غشت،
علمنا، بفرحة عارمة، أن ابن الطاهر قد أقيل نهائياً من مهامه كأميرال
وقائد، وإنه لن يصعد إلى السفينة بعد ذلك اليوم أبداً.
صار على طنجة
قايد جديد، ذلك هو بن غازي؛ فقد دخل العامل السابق على تطوان هذه المدينة
دخولاً احتفالياً، في وقت مبكر من يوم 16 غشت، يرافقه عدد من الفرسان
وسلطات المدينة التي خرجت لاستقباله. وقد اندلعت، في اليوم نفسه، بعض
المناوشات بين رجال الريسولي، الذين يقومون بالأمن على السوق الخارجي،
ورجال أنجرة.
وقيل إن السبب فيها كانت الوقاحة التي بدرت من رجال
الريسولي، الذين كانوا قد تسببوا، من قبل، في بعض المواجهات. وقد كان أهل
أنجرة سلكوا بعض وسائل العنف تجاه المنكلين بهم، فتعرضوا للاعتداء من
هؤلاء، وطرِدوا من السوق.
وقد كنا نرى، من على السفينة، أولئك الضحايا
مهزومين مدحورين، يدوسون خلال الكتبان الرملية، ويركضون صوب الشاطئ، وفي
أعقابهم رجال الريسولي وجنود القايد. لقد أسفرت تلك المواجهات عن سقوط قتلى
وجرحى من الجانبين. وكان مشهداً رهيباً أن نرى أحد الجنود يقطع رأس رجل من
أنجرة، سقط على الشاطئ، ثم يحمله فوق بندقيته، ويعود إلى المدينة حاملاً
غنيمته الحربية، ومن حوله حشد من الفضوليين. ولقد أفلح هذا القايد الجديد،
على الرغم من تعبه الناجم عن رحلته الطويلة على ظهور الجياد، في توجيه تلك
العملية، بحيث لم يتأدَّ منها أوروبي واحد. وبذلك أمكنه أن يحوز، على
الفور، التعاطف من سائر السكان. وفي المساء استتب الهدوء، فما عاد أحد يفكر
في ذلك «الحادث». وفي الأيام التالية، تمت تسوية الخلاف، بصفة نهائية، بين
الريسولي وأهل أنجرة، وعاد الهدوء إلى المدينة.
لقد كانت هذه الواقعة
الجديدة دليلاً على عجز المخزن أن يحفظ النظام. وهي تثبت، كذلك، أن بين
احترام السلطات شيء بدأ يختفي لدى الأهالي. ولئن كنا لم نشهد نماذج كثيرة
لهذه الواقعة، فإنما مرد ذلك إلى الطبع الطيب الذي جبل عليه هذا الشعب.
في
الأيام التالية، وصلت سفينة بخارية فرنسية صغيرة إلى طنجة، تلك هي «ليون
طوني». لم يكن أحد يعرف بنواياها. وساور السلطات شك في أن تكون محملة بسلع
مهربة إلى بوحمارة، فطلبت من المفوضية الفرنسية أن تحقق في الأمر. بيد أن
السفينة لم تلبث منتظرة، فغادرت يوم 27 غشت، تاركة في طنجة سفينة كبيرة
بمحرك.
وفي زوال ذلك اليوم نفسه، رأيت (ميم. باء) من وهران على رصيف
الميناء في طنجة، فخمنت أن تلك السفينة ربما كانت موجهة إلى ذلك الهجوم
الخادع على بوحمارة. وزادت شكوكي عندما علمت أن (ميم. باء) غادر مع
السفينة.
في 5 شتنبر انطلقنا من جديد صوب مسرح عملياتنا. وقد كان الطريس
أخبرني بأن (ميم. باء) لم يأسر بوحمارة، وأنه يُفترض اعتبار العملية كلها
منتهية، وعلينا أن نعود لاستئناف معركتنا. ومن حسن الحظ أن ابن الطاهر لم
يرافقنا، وما رافقنا غير خليفة، ذلك هو سي أحمد أحرضان إلى عجرود.
في
الزوال، قمت بزيارة الباشا، الذي كان محموماً، فوجدته جالساً، وقد وهن
كثيراً، تحت خيمته، لكنه تكلف، مع ذلك، أن يكون لنا مضيفاً كريماً.ولقد
كلفني بالذهاب ليلاً إلى مليلية، للائتمار بأوامر القايد المحمدي، الذي
سنتلقى منه أوامر أخرى. لقد كان مضطراً إلى مواصلة القصف، ومضطراً إلي أن
يكون له علي متن السفينة ممثل للحكومة المغربية، ففطلبت منه أن يجعل معنا
سي أحمد أحرضان؛ فقد صار لنا صديقاً في كل شيء، وإن سلوكه المهذب يطمئننا
أننا لن نتعرض لأي قلاقل مع السلطات الإسبانية. فبدا أنه يوافقني تماماً
إلى هذا الرأى، وعلى ذلك تسلل سي أحمد أحرضان إلى ساحة بني طاهر. وقد حكى
لي الباشا أن رجال السلطان أنزلوا، في الأيام الأخيرة، هزائم كثيرة
بالروغي، وأن من المستحب أن يُصار ألى إنهاء تلك الحملة، لأن أنصار بوحمارة
وسلطته باتا في تناقص واضمحال. غغير أنه لم يحدثني في توجيه ضربة حاسمة،
وعندما سألته، في خجل، في ذلك الموضوع، لم ألق منه جواباً.
انطلقنا في
الليل إلى ملوية، فوصلناها في الثامنة صباحاً. وهناك أعطانا القايد المحمدي
أمره بالرحيل باكراً في اليوم التالي، صوب ساحل بني بوغافر، والظهور هناك
لبضع ساعات، من غير إطلاق نار. فإذا خرج قارب، كان علينا أن نقول للركاب
إننا ننوي إنزال بعض الجنود في هذه الناحية. وحكى لي القايد أن بني بوغافر
صاروا مرتابين في أمر الروغي، وأن ظهورنا سيكون من شأنه أن يقويهم على
التصميم على قرارهم الانحياش إلى جانب السلطان الشرعي. اقترحت عليه ألا نعد
بإنزال للقوات، بل بإنزال 500 رجل إلى البر. وسيكون بمقدور هؤلاء الرجال،
إذا ما ساتعانوا بالقسم الموثوق من بني بوغافر، أن يقصوا على الروغي، وفي
حال احتاجوا إلى مساعدة فسيكونون على مقربة من مليلية. وعلى الرغم من
الاستحسان الذي قوبل به هذا الاقتراح، فإنه لم يُتبع.
في اليوم
الموالي، عند مطلع الشمس، كنا إلى الجنوب الغربي من رأس ثلث مداري، على
مقربة من شاطئ بني بوغافر، فكمنا نبحر متئدين جهة الغرب. وفجأة لمحنا، في
البعيد، قارباً صغيراً، فسارعنا إلى مطاردته. ولقد تعرف علينا أصحابه،
فحاولوا، مغتنمين التي كانت تهب ضعيفة، أن يخلصوا قاربهم بالتجذيف بقوة
باتجاه الساحل. لكن عبثاً فعلوا! فقد اعترضنا سبيلهم، فلم يجدوا مناصاً، في
الأخير، من أن يضعوا أسلحتهم ويستسلموا لنا. فصعدوا إلى سطح سفينتنا،
ووضِعوا رهن الاعتقال، لأنهم لم يكونوا يحملون أوراقاً. كانوا خمسة مغاربة،
يبدون هادئين تماماً، خاصة قائدهم، الذين كان يلقي إلينا بنظرات خائفة
وخجولة. إنهم من قبيلة تامسمان، على ساحل الحسيمة، المناصرة لعدو السلطان،
لكن لم يكن يبدو عليهم من نوايا إحرابية. غير أن سي أحمد أصر على أن نمضي
سبهم إلي السعيدية ومعهم قاربهم، وليقرر الباشا ما يفعل بهم. فسحبنا قاربهم
المحمل بغالاً، ثم واصلنا طريقنا، في تؤدة، إلى الشرق، بمحاذاة ساحل بني
بوغافر. وفجأة رأينا بعض أهالي قرية أساننْ، يجرون على الشاطئ. فتوقفنا،
منتظرين أن نتلقاهم بكل ود على متن سفينتنا. لكن بدلاً من ذلك، إذا هم
يطلقون النار علينا، من مخابئهم خلف الصخور. فسارعنا إلى الرد عليهم بإطلاق
محتوى حزام كامل من رصاص مكسيم وسبع كريات مدفعية على قريتهم.
في صباح
العاشر، اقتاد جنودنا السجناء، في كثير من الفخفخة، إلى القصبة، مقيدي
الأيدي الأيدي إلى الظهور، وسلموهم، بصفة مؤقتة، إلى القايد علال.
فقد قرر الباشا أن عليهم البقاء هناك باعتبارهم أسرى حرب، وأنه يمكن اعتبار محتوي قاربهم قد صار لنا غنيمة.
وقد كان على متن القارب 150 زوجاً من البغال، فجرى اقتسام العائد من بيعها علي أفراد الطاقم.
اشتكى
الباشا من تصرفات أخرى مشينة من لدن الفرنسيين. فقد أصبحوا، الآن، لا
يسمحون للسفن القادمة من وهران باجتياز الحدود. وقد أخبرته بأنني قرأت،
مؤخراً، في صحيفة فرنسية تصدر في طنجة، أن المخزن لم يسدد الكمبيالة
القادمة من وهران بشأن تسليم القمح؛ لذلك اقتصرت السلطات الفرنسية على منع
مرور سلع أخرى إلى المغرب من الحدود الجزائرية. لكنه أكد لي جميع التسليمات
الموجهة إلى الحكومة قد تمت تسويتها في الوقت المحدد» وما امتنعت الحكومة
سوى عن أداء ديونها الخاصة إلى بعض القياد في مارينا. فلم أتوان عن التعقيب
على كلامه بأن فرنسا لم تكن تترك فرصة إلا اغتنمتها للإضرار بالمغرب
وزيادة إضعافه، كلد مبتغاها من ذلك أن تجعله ترتباً مفتوحاً في حال اعتزمت
أن تخضع البلاد لسلطتها.
وعاودنا الرحيل في الليل إلى مليلية.
اجتمع
لي، خلال هذه الأيام، بعض المعلومات لا أخالها مبتوتة الصلة بالمحادثة التي
كنت حضرتها لدى الطريس بشأن [مخطط] (باء) للقضاء على بوحمارة. فقد سمعت،
أولاً، في عجرود، أن سفينة «ليون وطوني» قد اعترضتها سفينة نسافة فرنسية،
وجرى اقتيادها إلى أحد الموانئ الفرنسية، بزعم أنها كانت محملة بسلع مهربة،
هذا الخبر نشرته صحيفة في وهران، لكن لم أسمع بما يؤكده، وفي ظن أن أصحاب
سفينة «ليون وطوني» هم من تعمد أن يمدوا الصحافة بذلك الخبر لتضليلنا.
وعلمت، بعد ذلك، أن السفينة ذات المحرك، بقيت في طنجة، ولم تتبعها، لأن
قائدها رفض الدخول إلى مار تشيكا؛ فتم تسريحه، من غير أن يؤتى له بمن
ببديل. ثم، لما كنت في الجزر الجعفرية، سمعت أن سفينة «ليون وطوني»، بقيت،
خلال تلك الأيام، في تلك المياه؛ فكثيراً ما تتوجه، في الليل، إلى المصنع،
وتبحر بعيداً في النهار. وكثيراً ما رآها الصيادون، بل إن منهم من زعم أنه
رأى على متنها (باء) وبرفقته بعض الفرنسيين في أحسن ثياب.
وقد أخبره
الرجال بأن على متن سفينتهم 200 بندقية و3 مدافع، لكنهم لن يسلموها إليه
قبل أن يسدد الروغي ثمنها. وفي الأخير، فقد سمعت، وأنا في مليلية، أن
ديلبريل قد فقد حظوته لدى بوحمارة، والبعض أكد أن السبب كان رفضه أن يسلم
إليه الأسلحة قبل أن يحصل على ثمنها، وقال آخرون إن السبب خيانته لسيده؛
فقد يكون اتفق مع (باء)، الذي كان الروغي قد اكتشف مخططه.
وعلاوة على
ذلك، فإن الشائعة التي قالت إن الروغي أعطى أوامره إلى موظفيه على الجمرك
في مليلية أن يأتوه بديلبريل حياً أو ميتاً، كانت صحيحة.
وأميل
إلى الاعتفاد، بناء على هذه المعلومات كلها، أنه قد تم السعي إلى قتل
بوحمارة، وأن السلع المهربة على سفينة «ليون وطوني» لم تكن موجهة إلا لقتل
الروغي. وعلى كل حال، فلم يُعلم بشيء من هذا الأمر على الصعيد الرسمي.
وعلى ذلك، اختفت سفينة «طوني وليون» من تلك المياه، ورأيناها، في أماكن متفرقة من البحر، سفينة تجارية بخارية تعمل بالبخار.
وقد
حاول ديلبريل أن يصور العملية، وكأنه قدم استقاته إلى بوحمارة، بادعاء أنه
كان على خلاف مع سياسته، بيد أنن أحداً لم يصدقه، والذين لم يخمنوا القصة
الحقيقية ما جرى، كانوا يفترضون أنه قد تم تسريحه لما قد يكون اقترف من
اختلاس واختيان.
ترجمة عبد الرحيم حــزل
بيان اليوم : 17 - 08 - 2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
-21-
توجَّه سفيرنا الدكتور روزن، في
يوم 22 شتنبر إلى مدينة فاس، لمقابلة السلطان، وتسليمه أوراق اعتماده.
وكانت سفينة «التركي» تعمل منذ أربع سنوات، من دون أن يُؤذَن لها بالتوقف
للترميم والصيانة. ولطالما طالبنا بذلك، من دون أن تحظى مطالباتنا ولا
احتجاجاتنا باستجابة من السلطات المغربية. وحيث لم يكن في مقدورنا أن
نُلزِم الحكومة المغربية بذلك، فلم أجد بداً من أن أطلب إلى السفير أن
يحدِّث السلطان في هذا الأمر، إذ هو في فاس، حتى يكون في وسعنا أن نتوقف
لترميم سفينة «التركي». ولقد علمت من مدينة فاس أن السلطان قرَّر أن يُرسِل
بالسفينة ليتم ترميمها في أوروپا. لكن هذه النية لم يُكتبْ لها التحقُّق
أبداً.
خرجنا في يوم 24 شتنبر، نبغي مدينة مليلية، فاستلمنا 500 كيس من
مدينة طنجة لحملها إلى عجرود، كما حملنا على متن السفينة اثني عشر رجلاً،
بينهم 8 جمود كانوا قد فروا من المحلة المرابطة في منطقة ملوية. وقد كان
فرارهم إلى الجزائر، كما كان منهم في المرة السابقة، فوجدوا الاستقبال
الحفي، في هذه المرة، كا وجدوه في المرة السابقة. ثم لم تلبث السلطات
الجزائرية أن رحَّلتْهم، كما فعلت معهم في المرة السابقة، إلى مدينة طنجة،
على متن بواخر فرنسية. غير أن المخزن قام بوضع من وصل من أولئك الهاربين
إلى مدينة طنجة في السجن؛ حيث قضى معظمهم جوعاً خلال بضعة أسابيع. ثم نقلنا
نحن، بقيتهم، وقد كانوا من النحافة والضغف بما لايُطاق، إلى الحدود
ليكونوا عبرة لرفاقهم. ولقد كان الأشخاص الثمانية الذين نقلناهم بؤساء
مساكين، وكان أن قضى أحدهم من الضعف والضنى. ولزِمنا، عندما صرنا على مقربة
من البر، أن نقوم بدفنه على عادة البحارة، إذ لم يكن في مقدورنا الوصول
إلى عجرود، بفعل سوء الطقس. كما لم يبد لي من المناسب أن أُنزِل الميت في
مدينة مليلية أو في الجزر الجعفرية. فقد كنت أخشى المصاعب مع إدارة الحجر
الصحي، ولذلك آثرْت عدم التصريح بموت ذلك الجندي إلى السلطات الإسپانية.
فلما نزلنا، في 30 شتنبر، إلى عجرود، وأخبرْنا الحاج علال بموت الرجل، إذا
هو يبادرنا بطلب تسليمه النقود التي كانت مع الميت. فأكدنا له أن الرجل لم
يكن بحوزته شيء، وبدا أنه اقتنع بكلامنا. وأفترِض أن الحاج علال كان
سيستولي على كل فلس قد يكون في حوزة الميت.
ويبدو أن السيد ساي كان
مكروباً، إذ ما عدت أزوره كما كنت أفعل في السابق. فلم تكن لي عودة إلى
مرسى ساي منذ تلك المرة التي رافقت فيها السيد ساي في جولة في تلك المنطقة
على صهوات الجياد، في موكب كأنه لباشا من الباشوات. ولقد حمَل إليَّ ابنه
المتبنَّى في 1 أكتوبر، رسالة إلى متن السفينة، يرجوني الذهاب لرؤية كفيله.
ولقد تناهت إلى مسمعي، إذ أنا في مليلية، أصداء تفيد أن ساي قام، منذ وقت
قريب، بقطع علاقاته مع بوحمارة. ويُقال إنه تلقى من الحكومة المغربية مبلغ
000 20 فرنك، وتخلى مقابلها عن مشروعاته في مار تشيكا. ولقد استفسرت من ابن
ساي المتبنى السيد دانييل عن حقيقة هذا الأمر، فأنكره حقاً، غير أني لم
أستبعد هذا الأمر. ولقد وعدْت السيد دانييل بالتوجه قريباً لزيارة والده،
وطلبت إليه، في انتظار ذلك، أن يُخبِر والده أن العلاقات الحميمة التي كانت
له مع بوحمارة حتى ذلك الحين، هي التي منعتني من زيارة مرسى ساي، فلكوني
موظفاً لدى السلطان، فلاأريد أن أُتَّهم بأن لي علاقات مع أصدقاء الروغي.
لكني الآن، وقد علِمت أن ساي لم تعد له من علاقات مع بوحمارة، فسوف آتي عن
طيب خاطر، لرؤيته، وأُكثر من زياراتي إلى مرسى ساي. ولقد حكى لي دانييل أن
سيِّدة تُدعى مدام دوكاس، تقيم حالياً، لدى السيد ساي في مرساه، وهي تنوي
التوجه، في وقت قريب جداً، إلى مدينة فاس.
وما كدت أتعرَّف على هذه
السيدة حتى صرت أهتم لها شديد الاهتمام. فلقد سبق أن كانت لها اتصالات
وثيقة ببوحمارة في سلوان. كما اتفق لها أن كانت موجودة في المركز التجاري
عند قصفنا له. ولقد سبق لصحيفة مليلية، أن تحدثت عن هذه السيدة فأسهبت في
الحديث. وكان يُقال عنها إنها شديدة الاهتمام ببوحمارة، وإنها شديدة
الإجلال له. ويُقال عنها كذلك، إنها واسعة الثراء، وهي تبغي مدَّ الروغي من
المال، والأسلحة، والذخيرة، وفي مقابل ذلك طلبت منه بعض التنازلات
المنجمية، وتشييدات طرق ومرسى. غير أن رفض الحاكم أدى إلى فشل تلك الصفقات.
ولذلك كنت متشوقاً إلى سماع المزيد عن مشروعات هذه السيدة ومخططاتها.
ولقد
وصلْت إلى مرسى ساي، فاستقبلني السيد ساي في حفاوة. ولقد أخبرته مرة أخرى،
في إيجاز، بالأسباب التي جعلتني أتحاشاه زمناً طويلاً. ثم قدَّم إليَّ
ضابطين فرنسيين، وأخبرني أن الحكومة عيَّنتهما لمرافقة السيدة دوكاس. كما
أخبرني أن هذه السيدة تحمل رسالة توصية من الحكومة الفرنسية إلى السلطان.
ولم تكن السيدة دوكاس حاضرة، وقتئذ، وعندما كنت أهم بالمغادرة، إذا بي
أتقابل وأولئك الرجال عند الباب، بالسيدة دوكاس. إنها امرأة طويلة القامة،
جليلة، متناسقة الملامح، غزيرة الشعر شقراؤه. لكني وجدتها كريهة سمجة، ولم
أعرف لذلك سبباً، وقد يكون ذلك بسبب المساحيق التي جعلتها على وجهها،
فأفسدتْها الشمس الحارة.
دار بيننا حديث قصير. وبدت متعجلة لمغادرة مرسى
ساي؛ حيث أمضت وقتاً طويلاً، وحيث تشعر بالملل. ولقد انتهزت ذلك الحديث
بيننا لتستفسر مني عن موعد الرحلة المقبلة إلى مليلية. فعرضت عليها، في رقة
ومهارة، أن أنقلها على متن سفينة «التركي». فكان ردها أن « من شأن ذلك أن
يعرضها للشبهة»، وأصرَّت على أن يكون سفرها على متن سفينة «زينيث»، التي
كانت تتأهب لكي تغادر، في الموعد نفسه، مرسى ساي، باتجاه مليلية.
ولذلك
توجهت بمفردي إلى مليلية. وفي 3 أكتوبر زوالاً، كنت في فندق «أفريكانا»،
أثرثر مع شخص تعرَّفت عليه هناك، وحينئذ دخلت سفينة «زينيث» إلى المرسى.
ولقد رأينا السيدة ساي ومرافقيها وهم ينزلون من «زينيث»، وجميعهم في لباس
مدني. ولقد وجدت السيدة دوكاس في استقبالها رجلاً، قيل لي في الفندق، إنه
السيد «جيم». وعلِمت، بعدئذ، أن السيد «جيم» هو مهرِّب فرنسي. وقد شوهد،
منذ وقت قريب، كذلك، في سلوان. وكان قد نزل في فندق «أفريكانا» لكنه لم
يسدِّد مستحق السكن. ومن الناس من يزعمون أن السيد «جيم» يعمل عوناً للسيدة
دوكاس. ولقد رأيت من الجهد الذي كان يبذل والعناء الذي كان يلاقي في
الاهتمام بالسيدة دوكاس وبأمتعتها ما جعلني لاأستبعد صحة هذا الخبر. ولقد
زارت مديرة فندق «أفريكانا»، في اليوم الموالي، السيدةَ دوكاس، لتطلب منها
تسديد حساب السيد «جيم»، غير أن السيدة دوكاس امتنعت عن ذلك، وقالت في
تبرير ذلك إنه يستحيل عليها أن تتكفل بالديون الخاصة لأصدقائها. وفي الوقت
ذاته، تلقيْت رسالة من الطريس يطلب مني فيها أن أراقب، في مدينة مليلية،
كلاً من «جيم» وباي. فقد كان اثناهما ينويان أن يُنزلا في هذه المنطقة في
وقت قريب، كميات هائلة من الأسلحة والذخيرة لأجل الروغي.
ولقد استغربت
لهذا الأمر، بعد ما رأيت من الفرنسيين، وما قيل لي عنهم. فلقد حاولت السيدة
دوكاس أن تقوم ببعض الصفقات مع الروغي. ولايزال أعوانها؛ ذلك هو «جيم»،
برفقة الروغي، فيما توجهت هي إلى مدينة فاس، وبمعيتها الضابطان الفرنسيان.
ولبث «جيم» من دون أن يسدد حسابه، رغم ما كانت عليه مشغِّلته من واسع
الثراء. وأما السيد «باء» الذي كان صلة الوصل بين الاثنين، فهو أخو موظف
فرنسي سام في الجزائر. لكن الأفظع في كل ذلك، إنما كان موقف السيدة دوكاس
التي يبدو لي أنها كانت تقوم بدورين باسم الحكومة الفرنسية. ولم يكن لي بد
من أن أرفع تقريراً مسهباً إلى العجوز الطريس في شأن هذه الأحداث. ولقد
ضمَّنْت ذلك التقرير كل ما سمعت في هذه الأيام الأخيرة. كما نبهت الطريس
إلى الطُّعم الجديد الذي يستعمله الفرنسيون؛ أقصد السيدة الجميلة دوكاس.
ولقد
تعرفت في هذه الأيام، على ضابط إسپاني شاب، هو ضابط المشاة «غاء»، الذي
كان مجيداً للغة العربية، مما أهَّله لأن يصبح معلماً للشرطة الغربية
المحلية. إن السيد «غاء» شخص محبوب ولطيف وجذاب. وهو كثير التردد، أثناء
عطله، على سلوان. فيتنكر في زي طبيب إسپاني حتى يتسنى له أن يستعلِم حول
الوضعية المحلية. ولم أكن أعلم إن كان يتنقل باسم الحاكم وبمصادقة منه،
لكني أرجِّح ذلك. ولقد حكى لي أنه قرأ، مؤخراً، رسالة باللغة العربية جاءت
إلى أمين جمرك الروغي، بقرب مدينة مليلية، إذ كان هذا الأخير لايعرف
القراءة ولا الكتابة. وقد ورد في تلك الرسالة أمرٌ من الروغي باعتقال
ديلبريل وإرساله إلى سلوان، لو تجرأ على أن يطأ التراب المغربي. وبذلك تأكد
لي أن الأقوال التي تفيد أن ديلبريل قد افترق عن الروغي كانت مجرد ادعاءات
باطلة. ولقد سمعت، فضلاً عن ذلك، أمراً آخر زاد من احتقاري لهذا الفرنسي
المشؤوم. إذ يُحكى أن ديلبريل كان قد طالب مزوِّدي الروغي من الأسلحة
بتموينه هو، قبل أن يؤدى لهم ثمن تلك الأسلحة، وحيث إنه لم يُدفع له على
الفور بذلك التموين، فلقد قرَّر أن يظل الروغي مديناً له بتلك الأسلحة.
وكذلك كان خطاب السيد «جيم» في شأن الوضعية الحالية في سلوان خطاباً بالغ
الأهمية.
كان المتمردون يشكون من نقص في الأموال والمؤن. وتفشى الكثير
من الأمراض في سلوان، وارتفع فيها معدل الوفيات. والروغي نفسه شخص يوحي
بالود، ويحظى بالاحترام ممن يعرفونه، حتى وإن كان منهم من يعتبرونه، في
دخائلهم، رجلاً غاصِباً. والأشد وفاء من أنصاره إليه هم أشخاص مغامرون
متهورون جمعهم حوله من جميع أنحاء المغرب. لكن لم يبق للروغي بين أنصاره من
الريفيين غير المدعو سعيد الشاذلي والأفراد من قبيلته هم الريفيون. ولقد
أصبح عدد حُلفاء بوحمارة، الآن، لا يتعدى 1000 رجل؛ مما يجعل الوقت مواتياً
لقهرهم والقضاء عليهم في رمشة عين، سيما وقد أصبحت الذخيرة نادرة في
سلوان. غير أنني أتوقع، بكل يقين، أن يضيع جنود السلطان هذه الفرصة،
ولايغتنموها.
ما أن رحل عنا بن الطاهر، حتى عاد التفاهم والوفاق أفضل ما
يكون على متن السفينة بين البحارة والجنود. فقد عاد الرجال يتحملون بعضهم
بأحسن حال، وما أكثر ما كنت أرى الجنود يقدمون يد العون عن طيب خاطر إلى
البحارد في ما يتفق لنا من مناورات. وقد كان هذا الانسجام، بكل يقين، هو
السبب الرئيسي الذي جعلهم يقررون أن ينظموا، مجتمعين، حفلاً كبيراً. ولا
يبعد أن يكون اقتراب شهر الصيام قد دفعهم إلى إقامة وليمة مرة أخرى. فقاموا
يجمعون في ما بينهم مبلغاً صغيراً، وجاءوا يطلبون من الأوروبيين مساهمة
صغيرة، فحصلوا عليها عن طيب خاطر. ثم اشتروا في مليلية وعجرود كمية عظيمة
من الشاي والسكر والدقيق والزبدة والدجاج وبعض الحملان. ثم طلبوا إليَّ
يوماً كاملاً يتعطلون فيه عن العمل، ليسمتعوا بالشرب والأكل. فجعلت موعد
ذلك الحفل يوم 6 أكتوبر؛ إذ يلزمنا أن نتوقف، في ذلك اليوم، في الجزر
الجعفرية للقيام بتصليح بسيط يمكن أن يقوم به الميكانيكيان الألمانيان.
منذ
الفجر، شرع المغاربة يغطون سطح السفينة بالأشرعة؛ فقد كنسوها ليجعلوها
نظيفة، وجعلوا حشيات فوق الكوى الكبيرة. وكان العمل يجري، تحت خيام
الأهالي، على قدم وساق، شياً، وطبخاً على البخار، وإعداد حلويات، وطهياً.
ثم اقتعدوا الحشيات متربعين، يتقدم الجنود ويليهم البحارة. وهكذا، ابتدأ
حفلٌ صاخب؛ فشربوا الشاي، وغنموا وعزفوا، وكانوا جميعاً منشرحين مغتبطين،
وبقدر ما يتقدم اليوم، يزداد انشراحهم واغتباطهم. وجعلوا يتناقلون القيثارة
بين أيديهم، يرافقون به الأغاني الشجية الرتيبة. وقد يقومون للرقص
أحياناً، فيتحلقون في دائرة، ويشبكون ركبهم، ويأخذون يقومون وينحنون
ويطنطنون، وهم يؤرجحون جذوعهم إلى الأمام ثم إلى الخلف. كان بعض الرجال
يغنون، والجميع يصفقون. وأخذ أحد الراقصين يقفز، وهو ينتقل من الواحد إلى
الآخر في دائرة. قال لي بومغيث إن هذه الرقصة يفترض بها أنها تسهل الهضم؛
إذ يتم إنزال الطعام، لتحل محله كميات جديدة. وقد كانت المقادير الملتهمة
من الطعام في ذلك اليوم عظيمة جداً. وبين الفينة والأخرى، يقدم تشخيص مسرحي
موجز؛ بأن يقوم أحد البحارة بمحاكاة أحد كبار الموظفين. فهو يشخص هذا
النوع من الأوغاد المميزين في صورة بالغة الهزل. وحتى لقد استخدمت السبحة،
كذلك، هي التي تسمح للموظف، كما يقال، بإحصاء أرباحه. وإني نادراً ما رأيت
رجالاً يلهون بمثل هذه البراءة، من غير أن يصبوا قطرة من كحول. ولم يحدث من
نشاز يعكر صفو هذا الحفل البريء. وبطبيعة الحال، فقد لزمنا، نحن
الأوروبيين، أن ننضم إليهم بين الفينة والأخرى، ونشاركهم الطعام. ولقد طال
الحفل الليل كله، حتى الساعة الثالثة صبحاً. وبعد ذلك، عاد الهدوء ليسود
أرجاء السفينة.
جعلنا ننتقل بين مليلية وعجرود على فواصل طويلة، من غير
أن نزعج أحداً، وإنما كل نيتنا أن نمنع خصومنا كل متاجرة مع مار تشيكا. وفي
صباح يوم 19 لزمنا ان نعاود الرحيل، مرة أخرى، عن مليلية نحو الحدود، وكنت
أؤمل أن يكون بمقدوري الرسو في عجرود قبل الليل. لكن لزمنا أن نظل [هناك]
منتظرين عدة ساعات، لأجل راكب لم يكن بد من أن يرحل وإيانا، ولم يكن قد
تهيأ بعد، قلبثت منتظراً، بفارغ الصبر، في دكان فرتوت إشارة الرحيل. وفجأة
ظهر زنجي في ميعة الشباب، وكان طويلاً وقوياً، يرافقه بعض الريفيين. كان
هؤلاء منشرحين جميعاً، فيما الزنجي يتكلف الضحك في شيء من الاضطراب، ويسعى
إلى تقبيل رؤوس جميع الحاضرين، وأيديهم وجلابيبهم. ولقد استغربت لهذا الفعل
الغريب من الزنجي والود الغامر من قبل الريفيين، فسألت عن أمر هذا الزنجي.
فحصلت على جواب صريح : أن القايد المحمدي اشتراه في ذلك اليوم بـ 400
دورو، ويريد أن يعيد بيعه في عجرود. إذن، فهو عبد قد اشتري ويعاد بيعه بكل
هدوء في قلب التراب الإسباني؟ وبطبيعة الحال، فإن السلطات الإسبانية لم
تعلم بالأمر، وإلا لما وافقت على هذه المتاجرة في بني البشر.
وكان
الزنجي قد أفرغت عليه جلابة جديدة، فكان، في تلك الأثناء، داخل دكان فرتوت
يرتدي قميصاً جديداً، متخذاً من الجلابة... وقد ظل، بطبيعة الحال، مرتدياً
قميصه قديم تحت الجديد. ثم أعطي بلغة جديدة، وبعد لأي أمكننا أن نرحل بهذه
الحمولة العجيبة.
تراءى لنا، في ذلك المساء، الهلال، علامة على دخول شهر
رمضان. فلن يعود للرجال، منذ ذلك اليوم، حق في الأكل خلال النهار، إلخ.
فهم يكونون، طوال ذلك الشهر، موروز، وكسالى، وكلما يكون الاختلاط بهم
مريحاً. وأما الباشا الذي كنا كثيراً ما نراه، في الأيام السابقة إذ كنا
قبالة عجرود على الدوام، فكان يبدو أنه لم يفقد شيئاً من مزاجه الطيب. وما
رأيته إلا مرة واحدة، يعنف كاتبه، الذي عاد من الجيش يحمل رسائل، بدل أن
يحمل إليه أخباراً. وقد كان الجنود يلحون في طلب النقود إلى القائد. فكان
يرى الوقت غير مناسب، خلال شهر رمضان، لإزعاجه بمثل تلك الترهات.
وقد
جاءه، بعد ذلك، قايد صغير من الجيش، بعد أن لم يعد بحوزته مال، وصارت
المؤونة الضرورية في سبيلها إلى النفاد، فلم يتورع الباشا عن جلده، ثم رده
على أعقابه إلى الجيش. وكنت أجلس إلى بومغيث والخليفة لدى السيد، خلال
النهار يؤتى إليَّ بطبق من اللحم المشوي، أو بوجبة قد هيئت وفق العادة
القديمة. فيكون عليَّ أن أطعم، فيما ينظر إليَّ الآخرون. فقد كانوا يطردون
عنهم الجوع والضجر بما يقصون على بعضهم من الحكايات، ويكثرون من الضحك
ويطيلون.
كانت الاستعدادات دارية، في تلك الأثناء، للمعركة الحاسمة ضد
الروغي. وكان أهل كبدانة قد تعبوا من الحرب، فهم يريدون التخلص من بوحمارة
في أسرع وقت، ولذلك فقد حصلوا على إمدادات جديدة من الدخيرة، وانطلقوا إلى
المحلة المرابطة في ملوية. وانضمت بعض التجريدات من بني يزناسن إلى رجال
السلطان، تحت قيادة القايد العظيم والشجاع حمدول. وكذلك غادر القايد علال
قصبة السعيدية في الحامية المحلية، وتوجه إلى ملوية. وصرنا، بداية من 20
أكتوبر، نسمع أن اليوم الموالي سيكون يوم الحسم. وفي يوم 24، دارت المعركة
الأولى. وجاز القايد حمدول ورجاله النهر في مهمة استكشافية. ولقد اصطدم
بحامية صغيرة للروغي بقيادة القايد قندول بن محمد الشريكي، المعروف باسم
الخليفة الشريكي. وقد كانت مواجهة حامية، انهزم فيها جنود بوحمارة، ووقع
قائدهم بأيدي بني يزناسن، فانسحبوا من الجانب الآخر من الوادي يحملون
غنيمتهم، من غير أن يفيدوا من النصر. ولقد تم قتل الحصان الذي يركبه
الأسير، وأصيب من تحته، حتى لا يضيع على قاتليه السرح الثمين، فتم لهم
الاستيلاء عليه. وكذلك أخِذ من الخليفة الشركي سلاحه وثيابه النفيسة،
وحُملت إلي المعسكر، وهناك أعطاه القايد البشير جلابة ليست بها عورته. ثم
اقتيد إلى قصبة السعيدية، لتحمله «التركي» من هناك إلى طنجة. وسمعت أن خنجر
الأسير بيع، فور ذلك، في المعسكر بـ 80 دورو.
بيد أن المعركة الحاسمة
ظلت في إرجاد. وقد كلمت بعض الجنود في الأمر، فعلمت منهم أن القادة لم
يكونوا متفقين وإياهم، لأن ما يريد الواحد منـهم لا يرغـب فيـه الآخر. ولا
يبدو أنهـم كانـوا متـفـقين إلا عـلى شيء واحد : إطالة الحرب على الروغي،
فبذلك يتسنى لهم أن يجنوا المكاسب التي كانت، إلى ذلك اليوم، عظيمة.
ويبدو
أن القايد البشير كان هو، بوجه خاص، من يرى إرجاء المعركة الحاسمة. وتمر
الأيام، ونحن نسمع في كل يوم : في الغد. رلى أن كان يوم 25؛ ففي ذلك اليوم
أمطرت مدراراً، حتى لقد تحول ملوية، في غضون ساعات معدودة، إلى سيل جارف،
استحال معه كل سبيل لعبوره. فكان للقادة ما أملوا طويلاً : فلقد ساعدتهم
الطبيعة، بأن جعلت من المستحيل القيام بتلك الحملة القاضية، التي لم يكونوا
فيها براغبين. واضطُررنا بنقص الفحم، إلى التوجه، مزة أخرى، في يوم 26 إلى
طنجة للتزود منه. وهناك لم يسلم إلينا غير 33 من الأسرى؛ كان بينهم القائد
الكبير على قوات بوحمارة، القايد الشركي. وقد كانوا مكبلين جميعاً، وأما
القايد فكان مسلسل الأيدي والأرجل معاً. كان يبدو عليه أنه لا يزال في صحته
وعافيته، فلما يمض علي اعتقاله غير يومين. وأما بقية الأسرى فكانوا جميعاً
في حالة تبعث على الشفقة. لقد كانوا منهكين معدمين؛ يبدو عليهم أنهم قد
ترِكوا طويلاً في في زنازن عفنة نتنة.
تولى رجالنا الخليفة الشركي بكثير
من الاهتمام والعناية طوال الرحلة التي حملته إلى طنجة، وقد يخرجونه،
أحياناً، لينعم بالهواء الندي، فهذا شجعه على أن يقدم لنا روايته لتلك
الأحداث. فقد حكى أنه من أبناء قبيلة القايد البشير؛ أي أنه ينحدر من نواحي
فاس (هذا هو السبب الذي جعل القايد الباشا يقدم له جلابة بعد أن سُلِب كل
شيء) وأن أسرته تُعد من أغنى وأعلاها منزلة بين قبيلته. وقد راودته الرغبة،
في وقت من الأوقات، أن يصير قايداً علي قبيلته، لكن ذلك المنصب أسنِد إلى
شخص آخر من ذوي الحظوة داخل البلاط. وقد كان من المعروف للجميع أن كل رجل
في فاس من النزهاء الذين لا يجيدون التدلل والممالأة، لم يكن له نصيب في
حظوة ولا في رعاية، وأن جميع الرجال من البواسل الشجعان الذين لا يجيدون
المداهنة والتزلف لم يكن لهم من شأن داخل البلاط، ولقد غضب صاحبنا أن
استُبعِد من تلك المنصب، فالتحق بالروغي في 60 من أتباعه، وهمو أتم ما يكون
اقتناعاً بأن بوحمارة هو نفسه مولااي امحمد، أخو السلطان. ثم كان أن تنبه
إلي تلك الخدعة، منذ سبعة أشهر، لكن لم يعد له سبيل إلى التراجع.
وها
إنه قد قدِّر له أن يقع في الأسر، وهو راض بقدره. ثم خلص إلى الحديث عن
الروغي، فقال إنه لا يزال معه 400 من الفرسان و110 من المشاة، وجميعهم من
المحاربين المجربين. حقاً، لقد بات من الواضح أن قضية بوحمارة تسير إلى
نهايتها، لكن قبل أن يتسنى القضاء على بوحمارة وأنصاره، سيوقع الروغي في
جنود السلطان ضِعف ما سيقع بين جنوده من قتلى. وإذا كانت الأمطار لا تزال
في تساقط، جاعلة من المتعذر ، لبعض الوقت، اجتياز ملوية، بحيث سنكون في
مأمن من أي أخطار من هذا الجانب، فإن هذا الأمر سيتيح لبوحمارة، الذي كان،
وقتئذ، يدير العمليات بشخصه، أن يعود إلى سلوان. ومن هناك، سيجهد ليضم إلى
قضيته قبائل سلاية، سواء بالترغيب أو بالترهيب، وتلك ستكون بالنسبة إليه هي
الوسيلة الوحيدة للصمود لوقت أطول. وأما في تلك اللحظة، فلم يكن استمال
إلى جانبه غير القليل جداً من القبائل.
وتحدث صاحبنا عن الفرنسيين، فقال
إن بوحمارة ليس صديقاً لهم بأي حال، وإنما كل شأنه معهم أنه يسخرهم
لمصلحته! ولقد وعدهم ببعض الامتيازات في المناطق المتمردة، ليحصل منهم على
الأسلحة والدخيرة، وليس في نيته أن يفي بوعد واعد من وعوده لهم.
كان
الخليفة الشركي قد شغل وظيفة سامية لدى بوحمارة، وحظي بدثقته الكاملة، لذلك
تبدو لي أقواله قابلة للتصديق، ولاسيما والرجل يترك عند من يراه انطباعة
حسنةً. ومع أن ملامحه ليست بالجميلة، فإنها توحي بالصراحة والشجاعة والحزم،
ومع أن الأسر كان يثقل عليه، فإنه لم يبد قط ما يدل على أنه خائف.
في 29 أكتوبر وصلنا طنجة بحمولتنا من بني البشر.
وفي
صباح اليوم الموالي، أنزلنا السجناء، بعد أن استدعينا الجيش الذي في طنجة
كله، وجعلناه من حول الميناء ليقوم على مراقبتهم. توجهت عند الوزير، حيث
التقيت، بالإضافة إلى الطريس وكتابه، الباشا ابن بازي، وخليفته والقايد
إدريس عن بطارية الميناء. سير بالسجناء في الطريق الرئيسية على ظهور الحمير
في موكب محزن، يتقدمهم الخليفة الركي. ثم توقفوا أمام الوزير ورُفِع
الخليفة الشركي من على حماره، واقتيد إلى الداخل ليتم استنطاقه من لدن
الطريس.
كان الاستنطاق قصيراً، وسرعان ما أخرج الخليفة الشركي من
المكاتب، ولما كان في الآروقة، فتح بعض القياد القميص الذي يترديه، وأخذوا
ورقة كان يضعها في كيس جليدي صغير من حول عنقه. اعتقد بومغيث أنها تميمة،
أو آية قرآنية نقلها الروغي، لتكون لأنصاره وقاية من رصاص الأعداء.
استدعاني الطريس ليخبرني بأن عليَّ أن أتوجه إلى الدار البيضاء لأنقل من
هناك حمولة من القمح إلى عجرود، وأثناء الساعات القليلة التي أمضيتها
مستريحاً، قبل أن يبلغ إلى علمي نبأ حدوث اضطراب كبير في أرسيلا على
السلطان، لكن أمكن إخماده بسرعة وشدة من طرف الريسولي، بعد أن استنجدت به
الساكنة. وقد تلقته ساكنة أصيلا باستقبال حماسي، وعينه السلطان عاملاً على
المدينة واستتب الأمن.
18-09-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
-22-
خرجنا في الصباح الباكر قاصدين
جبل طارق؛ حيث استكملْنا مؤونتنا من الفحم، ووصلنا إلى سواحل الدار البيضاء
في 2 نونبر. ولقد لزِمنا أن نمكث هناك خاملين ليوم كامل؛ إذ كانت الحمولة
التي يتعيَّن علينا شحنها في مخازن رجل يهودي متزمِّت، فقد كان ممتنعاً عن
العمل بسببٍ من أن اليوم كان يوم سبت. ولقد اعتنمت الفرصة للاستخبار بأكثر
دقة، في شأن حادث وقع منذ وقت قريب، وتحدثت عنه الصحافة الفرنسية في كثير
من التهويل والانفعال، ولقد أمكنني أن أجمع في شأن هذا الحادث التفاصيلَ
التالية :
كان الشيخ ماء العينين قد عاد، مؤخراً، لزيارة مدينة فاس،
ولقد مرَّ رجاله في طريق عودتهم إلى الصحراء، بمدينة الدار البيضاء. واتفق
لأحدهم أن قام بزيارة، عن فضول وحب اطلاع، إلى مشغل لأحد صنَّاع الأسلحة
الفرنسيين. ويبدو أن الزائر أُعجِبَ كثيراً بآلة ثقَّابة، فأخذ، بدافع
الفضول، يدير عجلتَها بشدة. وضاق الصانع الفرنسي درعاً بذلك العبث من
الزائر، فرفع يده في جهه، مهدِّداً، وطرده خارج مشغله.
ولقد استاء رجال
الشيخ ماء العينين من ذلك التعدِّي على واحد منهم، فتوجهوا إلى مشغل الرجل
الفرنسي، فأوسعوا الرجل ضرباً، ثم طردوا جميع الفرنسيين من المدينة، غير
أنهم لم يتعرَّضوا بسوء إلى المسيحيين الذين علِموا عنهم أنهم من غير
الفرنسيين.
ولم يستغرق الحادث سوى ساعات معدودة، عادت الأمور بعدها إلى
مجاريها، ولم يعد بين السكان من يفكر في ذلك الحادث. وحدها الصحافة
الفرنسية انتهزت تلك الفرصة لتثير الانتباه إلى جو الفوضى الذي يسود
البلاد.
ولقد خذ احترام السكان للسلطان وإدارته في التقلُّص أكثر فأكثر،
بسببٍ من ضعفهما، ولم يعد الأهالي يجدون في أنفسهم أدنى احترام لسلطانهم.
وكان
الاستياء أقوى وأشد عند التجار. فقد كانوا يطلبون إلى السلطة أن تحمِل
المدينين على أداء ما في ذممهم من الديون لهم، فكانوا يقابَلون بالرفض
عموماً، لكن، مع ذلك، لم يكن الأهالي يجدون من أنفسهم أي عداء تجاه
الأوروپيين.
وفي 14 نونبر أرسلنا الباشا إلى مدينة مليلية.
وقيِّضَ
لي، في 17 من الشهر نفسه، أن ألتقي، بطريق الصدفة، بالقبطان «جيم»، الذي
كان من عادته أن يتردد كثيراً على بوحمارة في سلوان. فعلِمت منه أن سلطة
الروغي يسيـر إلى في تراجع. وسيكون ممثل للسلطان مقتدرٌ وموضع ثقة، في
الوقت الراهن، أنفع في مليلية، وسيكون في مقدوره، في هذه الظروف، أن يقضي،
في أسرع وقت، على التمرد. ومن سوء الحظ أن القايد محمدي لم يكن له أي نفوذ
تقريباً على القبائل المجاورة، إذ كان شغله الشاغل، دائماً، مصلحته
الشخصية، وقد كان الجميع، للأسف، يعلمون بذلك.
وكنت إلى ذلك الحين،
أعتبر هذا القايد رجلاً آية في الاستقامة، وكنت أتبيَّن هذا الاعتقاد في
وجهه السمح الجميل. فلم ألبث أن أدركت أنني انخدعت أيما انخداع في شأن
الرجل.
وعلمت في يوم 22 نونبر، من صحيفة «تلغراف الريف»، أن إسپانيا،
وأنجلترا، وفرنسا، تزمع القيام باستعراض لأساطيلها في مياه طنجة، احتجاجاً
ضد الريسولي، وأن أعداداً كبيرة من الجنود تقوم في إسپانيا على أهبة
الركوب، احتمالاً، باتجاه مدينة طنجة، ولقد كان الاعتقاد في هذه الجريدة
أنه في حالة حدوث ذلك الإنزال، فسوف تكون الدعوة إلى الجهاد في جميع مساجد
المغرب. ولقد عبَّرت عن رأيي علناً في محضر بعض الضباط الإسپان الذين كنت
أتداول معهم في شأن هذه الأخبار. وأوضحت لهم أنه ما دام تمرُّد بوحمارة
يقترب من نهايته، فإن فرنسا ستجهد لتخلق، بطريقة أخرى، مصاعب للمغرب. وعلى
الرغم من أن الريسولي كان في السابق، قائد لصوص، فقد أصبح، الآن، قايداً
كثير النشاط جم الحيوية، وأصبح الإقليم الذي هو تحت إمرته ينعم بالأمن
والهدوء والنظام.
ولئن لم يكن الريسولي بالمعادي للأجانب، فإنه كام، مع ذلك، يبغض الفرنسيين.
فقد
كان يستشعر، بغريزته، أنهم لازالوا يمثلون تهديداً لوطنه. وكان الريسولي
مبعث قلق وانشغال للفرنسيين؛ إذ كانوا يعلمون أنه ليس من أصدقائهم، ولأنه
كان عازماً، كل العزم، على الحفاظ على النظام في مجال سلطته. ولذلك سارعت
فرنسا، وانجلترا وإسپانيا إلى الدسِّ له وتدبير العراقيل والمنغصات!
ومما
لا سبيل إلى إنكاره أن الريسولي كان يتجاوز صلاحياته في بعض الأحيان،
وينتحل لنفسه حقوقاً ليست له. لكنها وضعية كان في الإمكان تسويتها، لو لم
يكن فرنسا بالطيش والتهور اللذين كانت عليهما. ولقد أمكن لسفيرنا الألماني،
الدكتور روزن، أن يتدخَّل، فاستطاع، بحقٍّ، أن يحول دون إنزال تلك القوات،
ومنع، بذلك، من وقوع مأساة كبيرة. غير أن المخزن لم يجد بداً من خلع
الريسولي. ولقد كان عاقبةَ ذلك عودةُ منطقة الشمال الغربي من المغرب إلى
حالتها السابقة من انعدام الأمن. وكانت فرنسا، بذلك، قد حقَّقت هدفها.
لقد
عمِل القايد محمدي، طوال تلك الأيام، في بأس شديد، لتوحيد تلك القبائل،
وإرسالها على بوحمارة، ولقد أغراهم على التوحد بوعده إليهم أن يمدَّهم
بالأموال والأسلحة، ولكي يطمئنهم إلى جدية دعوته، قرَّر أن تُحَمَّلَ سفينة
«التركي» من مدينة طنجة بـ 50 بندقية و8 صنادق من الذخيرة، لتوزيعها على
الريفيين. ولقد أرسلَنا القايد محمَّدي في 23 نونبر، إلى الجنوب الشرقي من
رأس «ثلث مداري». وأشاع أننا إنما نذهب لتسليم البنادق والذخيرة، وجعل معنا
دليلاً من البلاد والقبيلة. فأبحرنا في تؤدة، بمحاذاة الساحل، بطول أراضي
بني بوغاسن، وبني شيكر، حتى بلغنا إلى بني سعيد.
وقد كان محظوراً علينا
أن نفتح النار، وكان علينا أن نكتفي بانتظار القوارب القادمة من البر. لكن
عبثاً انتظرنا، فلم يظهر قارب. ثم لمحنا، في نهاية الأمر، في خليج (كرت)
تجمعاً كبيراً. ولقد أخذنا في تشغيل صافرة السفينة بصورة متواصلة لوقت
طويل، كما جعلنا على مقدَّم السفينة حايكاً كبيراً علامة على السلم. ويبدو
أن الأهالي اقتنعوا بنوايانا السلمية؛ إذ جعلوا قارباً في البحر، وعلى متنه
ثمانية من المجدفين. وأما جنودنا فيبدو عليهم أنهم لم يثقوا بهم، فكانوا
على استعداد للقتال. ولقد تجمعوا فوق ظهر السفينة ببنادقهم وصناديق الرصاص.
وكذلك الريفيون لم يبد عليهم أنه وثقوا منا؛ فحتى عندما صعدوا إلى متن
سفينتنا، ظلوا محتفظين بأسلحتهم. كانوا رجالاً مليحين ووقورين. ذوي وجوه
صريحة وصادقة. كان بينهم ستة كباراً في السن، لذوي لحي كبيرة، واثنان منهم
في قرابة العشرين، كانوا مرداً، وقد كانوا مليحين حقاً. للم تكن ثيابهم
بالفاخرة، لكنها كانت نقية. وقد أحاطوا رؤوسهم بعمامات من وبر الجمال، علي
جري العادة المحلية. مضينا بهم إلى الخلف، تحت الخيمة؛ حيث اتخذوا لهم
أماكن إلى جوار سي حامد وبومغيث. ولقد وضعوا بنادقهم فوق كوة صغيرة عند
مدخل الخيمة، وظلوا حريصين على أن لا يقربها أحدٌ. وقد كان معظمها أسلحة
بالية، لكنها لا زالت في حالة جيدة جداً. ولقد جعل سي حامد من يدير الشاي
على الريفيين، ثم تحدثوا في حمية، عن معركة قوية وقعت على بعد ثلاث ساعات
فقط، من هذه الناحية وقد شارك فيها جنود السلطان، لم يتخلف منهم غير قلة،
ليقوموا على حماية القرى.
لم تكن البنادق التي حملناها موجهة إلى هؤلاء
الريفيين. فكانوا عليهم أن يعودوا إلى البر، يصطحبون معهم دليلنا ليبحث عمن
هي موجهة إليهم، ويأتي بهم إلى متن السفينة.
ألقينا المرساة هذه الليلة
في ذلك المكان، على ساحل لا يمكننا أن نأمن فيه إلى أحد، وليس لنا فيه من
حمى من الطوارئ. بيد أن الطقس كان جميلاً جداً، على الرغم من أن الفصل كان
يشارف على النهاية، بحيث لم يترك الأمر مجالاً للتردد في التوقف هناك. ولقد
جعلنا حراساً على متن السفينة، تحسباً للمفاجآت التي يمكن أن تأتينا من
البر.
مر الليل من غير حوادث. وفي صباح اليوم الموالي، مررت بخيمة سي
أحمد، فوجدت هناك بومغيث وبحاراً نائمين، وإلى جوارهما بندقية معبأة. بيد
أنهما شعراً بالانزعاج خلال الليل.
لبثنا هناك إلى الزوال، من غير أن
يتقدم إلينا أحدٌ. وعندئذ رأى سي حامد أن لاجدوى من إطالة الانتظار. وقد
أصبح الجو مضطرباً. وهبت ريح قوية، جعلتني أصرف نظري عن المضي رأساً إلى
مليلية، فآليت إلا ألقي المرساة وأتخذ حمى في الجزر الجعفرية.
تلقيت في مكاني هناك برقيتين من مليلية من القايد محمدي. وتفيد البرقيتان :
1
. أن بني سيدل يخوضون، منذ ثلاثة أيام، حرباً على بوحمارة. وقد سقط في تلك
الحرب أعداد كبيرة من القتلى. وتحتم على القبائل أن توقف القتال،
لافتقارها إلى الذخيرة. ويتعين قدوم المحلة على وجه السرعة.
2 . أن بوحمارة قاتل قبائل بني فكلان، وأحرق بيوتهم، مما اضطرهم إلى الفرار عند بني سعيد.
ولم
يكن ذانك بالخبرين الساريْن. بل إنهما ليحملان على الخوف من أن يكون في ما
حدث ما يعيد للروغي اعتباره، ويزيد من قوته. وكذلك حمَلْنا، في 26 نونبر،
أخباراً محزنة إلى باشا قصبة السعيدية. فلم يغتم لذلك كثيراً، وأخبرَنا أن
المحلة اغتنمت غياب الروغي إلى ملوية، وكذلك اغتنمت انخفاض منسوب الماء في
النهر بفعل توالي بعض الأيام من الجفاف، فانتقلت إلى الضفة التي يحتلها
العدو. ولقد اخترق الثلث الجنود، ذلك الذي يقوده القايد البشير، النهرَ،
وقد أصبحوا يعسكرون، الآن، فوق ساحل كبدانة. وسوف يأتي القايد البشير نفسه،
رفقتنا إلى مليلية؛ حيث سيقيم هناك مركز قيادته، ذلك أن من المتوقع للجنود
أن يزحفوا بسرعة على سلوان، ويقيمون صلة وصل بطريق البر مع مليلية.
والتقينا،
إذ نحن في الجزر الجعفرية، كاتبَ القايد محمدي، الذي قدِمَ من مليلية يحمل
رسائل، وواصل طريقه رفقتنا إلى السعيدية. وكان بين تلك الرسائل ثلاث من
السلطان، فكان الباشا يمس كل رسالة من تلك الرسائل بجبهته ويقبلها بفمه قبل
أن يأخذ في قراءة ما فيها، فيما يهمهم الحضور بالتبريك.
وفيما كنت
أتجول في أرجاء القصبة، إذا برجل في بدلة عربية تقليدية بالية، يكلِّمني،
فجأة، باللغة الألمانية: «هل يمكنك أن تقلَّني؟». ولقد حكى لي أنه ألماني
من إقليم الألزاس، وأنه فرَّ، منذ ثلاثة أشهر، من الفرقة الأجنبية. فلما
وصل إلى التراب المغربي، تعرَّض للاعتداء من الأهالي، الذين نهبوه كل
ثيابه، وأعطوه، بدلاً عنها، جلابة ممزقة. وكذلك أطعموه، وكانوا كثيراً ما
يشغِّلون. وبذلك أمكنه أن يتنقل من قرية إلى قرية، واجتاز جبل بني يزناسن،
وبلغ، كذلك، حتى إلى المحلة المرابطة في منطقة ملوية. وكان بلوغه، في نهاية
المطاف، إلى قصبة السعيدية؛ حيث التقاني بمحض الصدفة. ولقد حملته، في
المساء، إلى ظهر السفينة؛ حيث أعطيناه، نحن الأوروپيين، بعض الثياب. لكن
لزِمه، في البداية، أن يستحم داخل السفينة، بالصابون الأخضر... لقد كان
ثالث جندي من جنود الفرقة الأجنبية أقلُّه مباشرة من مرسى ساي، على متن
الزورق التابع للسفينة.
وقد كنا، نحن الأوروپيين، نغتنم وجود هاربين من
الفرقة الأجنبية على متن سفينتنا لنجعلهم يقصون علينا كيف كانوا يعيشون
أثناء عملهم في تلك الفرقة. وغالباً ما كانت الآراء تتباين. فلقد زعم أحد
الهاربين أن العمل في الفرقة الأجنبية منهك أشد ما يكون الإنهاك، وأن
الطعام من التردي بما يفوق كل وصف. فيما كان الآخر يجد الأمريْن مما يمكن
تحمله. وربما كان الرأيان معاً على صواب، فأحد الرجلين واتاه الحظ، ولم
يوات الآخر. وقد يكون أحد الرجليْن معتاداً على العيش في البيت، وعلى
الحياة الهنية والمترفة، فيما لم يعرف الآخر، منذ سنِّي شبابه، غير العمل
والمعاش الفقير. وأحرص على التوضيح أن المشتكي من الرجليْن كان بلجيكياً.
وأما الألمان الذين فروا، بعدئذ، من الدار البيضاء، فقد كانوا، راضين على
وجه العموم. وقد كانوا، برأيي، محقين في تشكيهم من المعاملات السيئة
وانعدام الانضباط. وكأنما يخيل إلى المرء أن هذا الأمر الأخير كان يؤثر
فيهم، ولم يكن الأمر كذلك؛ فقد كانوا موقنين أن النظام لا يمكن أن يستتب
إلا بفضل الانضباط الصارم، نظام يحمي الجندي الأجنبي، الأعزل، غير العارف
بلغة أهل البلد، من رفاقه ومن القادة، نظام يقنن الخدمة من غير عقوبات
دائمة ومغالية، ومن غير الشجارات الصغيرة المتكررة، التي تم إسكاتها بكثير
من القسوة. ذلك بأن الجنود الألمان في الفيلق الأجنبي قد أصبحوا، يومها، هم
الذين يتعررضون، على الدوام، للتنكيل من غير حماية. إن الإنسان العادي،
خاصة إذا كان قد أدى خدمته في ألمانيا، تكون حاجته في المقام الأول إلى
العدل، وأن تكون السيادة للصرامة؛ في الفيلق الأجنبي. إن قدماء الألمان
خاصة يعانون من الانضباط العنيف ينزله به ضباط الصف والمأمورين، ذلك بأن
هذه المناصب هي، على وجه التحديد، التي يشغلها رجال أقل جدارة، والفرنسيون
هم الأسوأ؛ وإذا كانوا قدامى الجنود العاملين في الفيلق الأجنبي، فإن
المتعاظمين الذين ليس لهم مبادئ هم الذين يصلون إلى هذه المناصب. فالمعاملة
الظالمة، في معظم الأحيان، تدمر، ببطء، لكن بشكل محتوم، الإحساس بالشرف،
والذين ينتبهون قبل فوات الأوان إلى أن ضمائرهم تتدمر شيئاً فشيئاً،
يحاولون التخلص من هذه الوضعية بالهرب.
غير أن المجازفة التي كان الفار
من الفيلق الأجنبي يركبها كانت عظيمة. فالجندي الذي يتم الإمساك به، بعد
أن يظل بعيداً عن الجيش لأكثر من ثلاثة أيام، من غير أن يفلح في الوصول
إلى الحدود نظراً لبعد المعسكر، يكون عقابَه الحرمانُ من الحرية لأعوام.
وتُزاد إليه عقوبةٌ إضافية عن كل قطعة تنقص من زيه، ولو كانت بضعة أزرار.
وتكون العقوبات الحارمة عقوبات فظيعة؛ شغل جهيد من الصباح إلى المساء تحت
الشمس الحارقة، وطعام قليل جداً، ومعاملة وحشية من كل الوجوه. ومن قبيل ما
نقول أن رجلاً سويسرياً كان يعمل كثيراً مع المساجين، حكى لي أن أحدهم أوثق
ليلاً إلى عمود من أعمدة التلغراف، وترِك هناك دون أن يُهتم لأمره، إلى
الصباح. فقد أوثق ساقاه إلى العمود بحبال، وأوثق ذراعاه وراء ظهره. وحل
المساء، وهو لا يزال واقفاً، حتى إذا أقبل الليل، أخذ ينهار شيئاً فشيئاً،
فلما أطلِق سراحه في اليوم الموالي، كانت قدماه قد ماتتا تماماً. وقد رأى
سالووسكي كيف جرى تقييد يديِّ أحد أولئك التعساء ورجليه خلف ظهره، ثم مدِّد
لساعات في الشمس الحارقة، وإمعاناً في زيادة الحرارة الخانقة، جُعل عليه
قماش غليظ، ولو صاح التعيس في طلب شربة ماء، جاءه الحارس الكورسيكي -
فكثيراً ما يُتخَّذ الحراس على المساجين من الكورسيكيين، إذ كانوا معروفين
بقسوتهم - وغرز كعب جزمته في فمه، قائلاً له: «هاك، أيها الكلب، ها هو
الماء!».
وإذا كان الرجال من الأهالي يلوذون بالفرار، على الرغم مما قد
يعود عليهم من الإيجابيات من هذه المعاملات، فبا بالك بالحياة التي ستكون
من نصيب الجندي العامل في الفيلق الأجنبي! وإذا سالووسكي، الذي رضخ للأمر
المحتوم، والذي أمضى سنواته الخمس، قد وجد الخدمة في صورتها هذه، أمراً
يمكن تحمله، فلقد تكبد معاناة معنوية كثيرة. وقد كان، هو الآخر، يشتكي من
الجور الذي يعم الفيلق الأجنبي.
يغلب على الناس الاعتقاد بأن الفيلق
الأجنبي يتألف من جنود ألمان فارين من الخدمة، أو مجرمين. وليس هذا بصحيح؛
فمن جملة الجنود الألمان الستين الذين فروا من الدار البيضاء، لا تجد غير
ستة قد فروا من الدار البيضاء (فقد فضلوا الخدمة في الفيلق الأجنبي بدلاً
من أن يمضوا مدة عقوبتهم في سجون بلدهم).
بل إنك، على العكس، تجد معظم
هؤلاء من العمال الألمان النزيهين، قد وقعوا في أيدي مجنِّدين فرنسيين
عديمي الذمة، مدفوعين إليهم بالحاجة أو بمعسول الوعود، ثم لا يلبثون أن
يصطدموا بالبؤس، ولا يظفرون بشي مما قيل لهم من تلك الوعود البراقة. ذلك
بأن المجندين في الفيالق الأجنبية كل أجرهم يقبضون خمسة سنيمات ذهبية عن
اليوم الواحد في وقت السلم، وعشرون في وقت الحرب، لأي سبب؟ ليسخَّر، في وقت
السلم، للعمل في الأماكن القصية من الصحراء، أو ليُجعلوا، في وقت الحرب،
جنوداً منذورين للهلاك، في الأماكن التي يكون تمنع المخاطر فيها من إرسال
الجنود الفرنسيين. ولو قدِّر لهذا الجندي أن لبث أثناء المسير في المؤخرة،
ووقع بين أيدي العدو أو مات من العطش في الصحراء، أو وقع صريعاً في ساحة
الوغى، أو ترِك [في العراء] من غير كفن، نهباً لأنياب الضباع ومخالب النسور
في الأطلس - فما هو إلا جندي عامل في الفيلق الأجنبي! فمتى تنتهي، إذن،
هذه المتاجرة في الرقيق الأبيض، فنتنفس الصعداء؟
22-08-2012
خرجنا في الصباح الباكر قاصدين
جبل طارق؛ حيث استكملْنا مؤونتنا من الفحم، ووصلنا إلى سواحل الدار البيضاء
في 2 نونبر. ولقد لزِمنا أن نمكث هناك خاملين ليوم كامل؛ إذ كانت الحمولة
التي يتعيَّن علينا شحنها في مخازن رجل يهودي متزمِّت، فقد كان ممتنعاً عن
العمل بسببٍ من أن اليوم كان يوم سبت. ولقد اعتنمت الفرصة للاستخبار بأكثر
دقة، في شأن حادث وقع منذ وقت قريب، وتحدثت عنه الصحافة الفرنسية في كثير
من التهويل والانفعال، ولقد أمكنني أن أجمع في شأن هذا الحادث التفاصيلَ
التالية :
كان الشيخ ماء العينين قد عاد، مؤخراً، لزيارة مدينة فاس،
ولقد مرَّ رجاله في طريق عودتهم إلى الصحراء، بمدينة الدار البيضاء. واتفق
لأحدهم أن قام بزيارة، عن فضول وحب اطلاع، إلى مشغل لأحد صنَّاع الأسلحة
الفرنسيين. ويبدو أن الزائر أُعجِبَ كثيراً بآلة ثقَّابة، فأخذ، بدافع
الفضول، يدير عجلتَها بشدة. وضاق الصانع الفرنسي درعاً بذلك العبث من
الزائر، فرفع يده في جهه، مهدِّداً، وطرده خارج مشغله.
ولقد استاء رجال
الشيخ ماء العينين من ذلك التعدِّي على واحد منهم، فتوجهوا إلى مشغل الرجل
الفرنسي، فأوسعوا الرجل ضرباً، ثم طردوا جميع الفرنسيين من المدينة، غير
أنهم لم يتعرَّضوا بسوء إلى المسيحيين الذين علِموا عنهم أنهم من غير
الفرنسيين.
ولم يستغرق الحادث سوى ساعات معدودة، عادت الأمور بعدها إلى
مجاريها، ولم يعد بين السكان من يفكر في ذلك الحادث. وحدها الصحافة
الفرنسية انتهزت تلك الفرصة لتثير الانتباه إلى جو الفوضى الذي يسود
البلاد.
ولقد خذ احترام السكان للسلطان وإدارته في التقلُّص أكثر فأكثر،
بسببٍ من ضعفهما، ولم يعد الأهالي يجدون في أنفسهم أدنى احترام لسلطانهم.
وكان
الاستياء أقوى وأشد عند التجار. فقد كانوا يطلبون إلى السلطة أن تحمِل
المدينين على أداء ما في ذممهم من الديون لهم، فكانوا يقابَلون بالرفض
عموماً، لكن، مع ذلك، لم يكن الأهالي يجدون من أنفسهم أي عداء تجاه
الأوروپيين.
وفي 14 نونبر أرسلنا الباشا إلى مدينة مليلية.
وقيِّضَ
لي، في 17 من الشهر نفسه، أن ألتقي، بطريق الصدفة، بالقبطان «جيم»، الذي
كان من عادته أن يتردد كثيراً على بوحمارة في سلوان. فعلِمت منه أن سلطة
الروغي يسيـر إلى في تراجع. وسيكون ممثل للسلطان مقتدرٌ وموضع ثقة، في
الوقت الراهن، أنفع في مليلية، وسيكون في مقدوره، في هذه الظروف، أن يقضي،
في أسرع وقت، على التمرد. ومن سوء الحظ أن القايد محمدي لم يكن له أي نفوذ
تقريباً على القبائل المجاورة، إذ كان شغله الشاغل، دائماً، مصلحته
الشخصية، وقد كان الجميع، للأسف، يعلمون بذلك.
وكنت إلى ذلك الحين،
أعتبر هذا القايد رجلاً آية في الاستقامة، وكنت أتبيَّن هذا الاعتقاد في
وجهه السمح الجميل. فلم ألبث أن أدركت أنني انخدعت أيما انخداع في شأن
الرجل.
وعلمت في يوم 22 نونبر، من صحيفة «تلغراف الريف»، أن إسپانيا،
وأنجلترا، وفرنسا، تزمع القيام باستعراض لأساطيلها في مياه طنجة، احتجاجاً
ضد الريسولي، وأن أعداداً كبيرة من الجنود تقوم في إسپانيا على أهبة
الركوب، احتمالاً، باتجاه مدينة طنجة، ولقد كان الاعتقاد في هذه الجريدة
أنه في حالة حدوث ذلك الإنزال، فسوف تكون الدعوة إلى الجهاد في جميع مساجد
المغرب. ولقد عبَّرت عن رأيي علناً في محضر بعض الضباط الإسپان الذين كنت
أتداول معهم في شأن هذه الأخبار. وأوضحت لهم أنه ما دام تمرُّد بوحمارة
يقترب من نهايته، فإن فرنسا ستجهد لتخلق، بطريقة أخرى، مصاعب للمغرب. وعلى
الرغم من أن الريسولي كان في السابق، قائد لصوص، فقد أصبح، الآن، قايداً
كثير النشاط جم الحيوية، وأصبح الإقليم الذي هو تحت إمرته ينعم بالأمن
والهدوء والنظام.
ولئن لم يكن الريسولي بالمعادي للأجانب، فإنه كام، مع ذلك، يبغض الفرنسيين.
فقد
كان يستشعر، بغريزته، أنهم لازالوا يمثلون تهديداً لوطنه. وكان الريسولي
مبعث قلق وانشغال للفرنسيين؛ إذ كانوا يعلمون أنه ليس من أصدقائهم، ولأنه
كان عازماً، كل العزم، على الحفاظ على النظام في مجال سلطته. ولذلك سارعت
فرنسا، وانجلترا وإسپانيا إلى الدسِّ له وتدبير العراقيل والمنغصات!
ومما
لا سبيل إلى إنكاره أن الريسولي كان يتجاوز صلاحياته في بعض الأحيان،
وينتحل لنفسه حقوقاً ليست له. لكنها وضعية كان في الإمكان تسويتها، لو لم
يكن فرنسا بالطيش والتهور اللذين كانت عليهما. ولقد أمكن لسفيرنا الألماني،
الدكتور روزن، أن يتدخَّل، فاستطاع، بحقٍّ، أن يحول دون إنزال تلك القوات،
ومنع، بذلك، من وقوع مأساة كبيرة. غير أن المخزن لم يجد بداً من خلع
الريسولي. ولقد كان عاقبةَ ذلك عودةُ منطقة الشمال الغربي من المغرب إلى
حالتها السابقة من انعدام الأمن. وكانت فرنسا، بذلك، قد حقَّقت هدفها.
لقد
عمِل القايد محمدي، طوال تلك الأيام، في بأس شديد، لتوحيد تلك القبائل،
وإرسالها على بوحمارة، ولقد أغراهم على التوحد بوعده إليهم أن يمدَّهم
بالأموال والأسلحة، ولكي يطمئنهم إلى جدية دعوته، قرَّر أن تُحَمَّلَ سفينة
«التركي» من مدينة طنجة بـ 50 بندقية و8 صنادق من الذخيرة، لتوزيعها على
الريفيين. ولقد أرسلَنا القايد محمَّدي في 23 نونبر، إلى الجنوب الشرقي من
رأس «ثلث مداري». وأشاع أننا إنما نذهب لتسليم البنادق والذخيرة، وجعل معنا
دليلاً من البلاد والقبيلة. فأبحرنا في تؤدة، بمحاذاة الساحل، بطول أراضي
بني بوغاسن، وبني شيكر، حتى بلغنا إلى بني سعيد.
وقد كان محظوراً علينا
أن نفتح النار، وكان علينا أن نكتفي بانتظار القوارب القادمة من البر. لكن
عبثاً انتظرنا، فلم يظهر قارب. ثم لمحنا، في نهاية الأمر، في خليج (كرت)
تجمعاً كبيراً. ولقد أخذنا في تشغيل صافرة السفينة بصورة متواصلة لوقت
طويل، كما جعلنا على مقدَّم السفينة حايكاً كبيراً علامة على السلم. ويبدو
أن الأهالي اقتنعوا بنوايانا السلمية؛ إذ جعلوا قارباً في البحر، وعلى متنه
ثمانية من المجدفين. وأما جنودنا فيبدو عليهم أنهم لم يثقوا بهم، فكانوا
على استعداد للقتال. ولقد تجمعوا فوق ظهر السفينة ببنادقهم وصناديق الرصاص.
وكذلك الريفيون لم يبد عليهم أنه وثقوا منا؛ فحتى عندما صعدوا إلى متن
سفينتنا، ظلوا محتفظين بأسلحتهم. كانوا رجالاً مليحين ووقورين. ذوي وجوه
صريحة وصادقة. كان بينهم ستة كباراً في السن، لذوي لحي كبيرة، واثنان منهم
في قرابة العشرين، كانوا مرداً، وقد كانوا مليحين حقاً. للم تكن ثيابهم
بالفاخرة، لكنها كانت نقية. وقد أحاطوا رؤوسهم بعمامات من وبر الجمال، علي
جري العادة المحلية. مضينا بهم إلى الخلف، تحت الخيمة؛ حيث اتخذوا لهم
أماكن إلى جوار سي حامد وبومغيث. ولقد وضعوا بنادقهم فوق كوة صغيرة عند
مدخل الخيمة، وظلوا حريصين على أن لا يقربها أحدٌ. وقد كان معظمها أسلحة
بالية، لكنها لا زالت في حالة جيدة جداً. ولقد جعل سي حامد من يدير الشاي
على الريفيين، ثم تحدثوا في حمية، عن معركة قوية وقعت على بعد ثلاث ساعات
فقط، من هذه الناحية وقد شارك فيها جنود السلطان، لم يتخلف منهم غير قلة،
ليقوموا على حماية القرى.
لم تكن البنادق التي حملناها موجهة إلى هؤلاء
الريفيين. فكانوا عليهم أن يعودوا إلى البر، يصطحبون معهم دليلنا ليبحث عمن
هي موجهة إليهم، ويأتي بهم إلى متن السفينة.
ألقينا المرساة هذه الليلة
في ذلك المكان، على ساحل لا يمكننا أن نأمن فيه إلى أحد، وليس لنا فيه من
حمى من الطوارئ. بيد أن الطقس كان جميلاً جداً، على الرغم من أن الفصل كان
يشارف على النهاية، بحيث لم يترك الأمر مجالاً للتردد في التوقف هناك. ولقد
جعلنا حراساً على متن السفينة، تحسباً للمفاجآت التي يمكن أن تأتينا من
البر.
مر الليل من غير حوادث. وفي صباح اليوم الموالي، مررت بخيمة سي
أحمد، فوجدت هناك بومغيث وبحاراً نائمين، وإلى جوارهما بندقية معبأة. بيد
أنهما شعراً بالانزعاج خلال الليل.
لبثنا هناك إلى الزوال، من غير أن
يتقدم إلينا أحدٌ. وعندئذ رأى سي حامد أن لاجدوى من إطالة الانتظار. وقد
أصبح الجو مضطرباً. وهبت ريح قوية، جعلتني أصرف نظري عن المضي رأساً إلى
مليلية، فآليت إلا ألقي المرساة وأتخذ حمى في الجزر الجعفرية.
تلقيت في مكاني هناك برقيتين من مليلية من القايد محمدي. وتفيد البرقيتان :
1
. أن بني سيدل يخوضون، منذ ثلاثة أيام، حرباً على بوحمارة. وقد سقط في تلك
الحرب أعداد كبيرة من القتلى. وتحتم على القبائل أن توقف القتال،
لافتقارها إلى الذخيرة. ويتعين قدوم المحلة على وجه السرعة.
2 . أن بوحمارة قاتل قبائل بني فكلان، وأحرق بيوتهم، مما اضطرهم إلى الفرار عند بني سعيد.
ولم
يكن ذانك بالخبرين الساريْن. بل إنهما ليحملان على الخوف من أن يكون في ما
حدث ما يعيد للروغي اعتباره، ويزيد من قوته. وكذلك حمَلْنا، في 26 نونبر،
أخباراً محزنة إلى باشا قصبة السعيدية. فلم يغتم لذلك كثيراً، وأخبرَنا أن
المحلة اغتنمت غياب الروغي إلى ملوية، وكذلك اغتنمت انخفاض منسوب الماء في
النهر بفعل توالي بعض الأيام من الجفاف، فانتقلت إلى الضفة التي يحتلها
العدو. ولقد اخترق الثلث الجنود، ذلك الذي يقوده القايد البشير، النهرَ،
وقد أصبحوا يعسكرون، الآن، فوق ساحل كبدانة. وسوف يأتي القايد البشير نفسه،
رفقتنا إلى مليلية؛ حيث سيقيم هناك مركز قيادته، ذلك أن من المتوقع للجنود
أن يزحفوا بسرعة على سلوان، ويقيمون صلة وصل بطريق البر مع مليلية.
والتقينا،
إذ نحن في الجزر الجعفرية، كاتبَ القايد محمدي، الذي قدِمَ من مليلية يحمل
رسائل، وواصل طريقه رفقتنا إلى السعيدية. وكان بين تلك الرسائل ثلاث من
السلطان، فكان الباشا يمس كل رسالة من تلك الرسائل بجبهته ويقبلها بفمه قبل
أن يأخذ في قراءة ما فيها، فيما يهمهم الحضور بالتبريك.
وفيما كنت
أتجول في أرجاء القصبة، إذا برجل في بدلة عربية تقليدية بالية، يكلِّمني،
فجأة، باللغة الألمانية: «هل يمكنك أن تقلَّني؟». ولقد حكى لي أنه ألماني
من إقليم الألزاس، وأنه فرَّ، منذ ثلاثة أشهر، من الفرقة الأجنبية. فلما
وصل إلى التراب المغربي، تعرَّض للاعتداء من الأهالي، الذين نهبوه كل
ثيابه، وأعطوه، بدلاً عنها، جلابة ممزقة. وكذلك أطعموه، وكانوا كثيراً ما
يشغِّلون. وبذلك أمكنه أن يتنقل من قرية إلى قرية، واجتاز جبل بني يزناسن،
وبلغ، كذلك، حتى إلى المحلة المرابطة في منطقة ملوية. وكان بلوغه، في نهاية
المطاف، إلى قصبة السعيدية؛ حيث التقاني بمحض الصدفة. ولقد حملته، في
المساء، إلى ظهر السفينة؛ حيث أعطيناه، نحن الأوروپيين، بعض الثياب. لكن
لزِمه، في البداية، أن يستحم داخل السفينة، بالصابون الأخضر... لقد كان
ثالث جندي من جنود الفرقة الأجنبية أقلُّه مباشرة من مرسى ساي، على متن
الزورق التابع للسفينة.
وقد كنا، نحن الأوروپيين، نغتنم وجود هاربين من
الفرقة الأجنبية على متن سفينتنا لنجعلهم يقصون علينا كيف كانوا يعيشون
أثناء عملهم في تلك الفرقة. وغالباً ما كانت الآراء تتباين. فلقد زعم أحد
الهاربين أن العمل في الفرقة الأجنبية منهك أشد ما يكون الإنهاك، وأن
الطعام من التردي بما يفوق كل وصف. فيما كان الآخر يجد الأمريْن مما يمكن
تحمله. وربما كان الرأيان معاً على صواب، فأحد الرجلين واتاه الحظ، ولم
يوات الآخر. وقد يكون أحد الرجليْن معتاداً على العيش في البيت، وعلى
الحياة الهنية والمترفة، فيما لم يعرف الآخر، منذ سنِّي شبابه، غير العمل
والمعاش الفقير. وأحرص على التوضيح أن المشتكي من الرجليْن كان بلجيكياً.
وأما الألمان الذين فروا، بعدئذ، من الدار البيضاء، فقد كانوا، راضين على
وجه العموم. وقد كانوا، برأيي، محقين في تشكيهم من المعاملات السيئة
وانعدام الانضباط. وكأنما يخيل إلى المرء أن هذا الأمر الأخير كان يؤثر
فيهم، ولم يكن الأمر كذلك؛ فقد كانوا موقنين أن النظام لا يمكن أن يستتب
إلا بفضل الانضباط الصارم، نظام يحمي الجندي الأجنبي، الأعزل، غير العارف
بلغة أهل البلد، من رفاقه ومن القادة، نظام يقنن الخدمة من غير عقوبات
دائمة ومغالية، ومن غير الشجارات الصغيرة المتكررة، التي تم إسكاتها بكثير
من القسوة. ذلك بأن الجنود الألمان في الفيلق الأجنبي قد أصبحوا، يومها، هم
الذين يتعررضون، على الدوام، للتنكيل من غير حماية. إن الإنسان العادي،
خاصة إذا كان قد أدى خدمته في ألمانيا، تكون حاجته في المقام الأول إلى
العدل، وأن تكون السيادة للصرامة؛ في الفيلق الأجنبي. إن قدماء الألمان
خاصة يعانون من الانضباط العنيف ينزله به ضباط الصف والمأمورين، ذلك بأن
هذه المناصب هي، على وجه التحديد، التي يشغلها رجال أقل جدارة، والفرنسيون
هم الأسوأ؛ وإذا كانوا قدامى الجنود العاملين في الفيلق الأجنبي، فإن
المتعاظمين الذين ليس لهم مبادئ هم الذين يصلون إلى هذه المناصب. فالمعاملة
الظالمة، في معظم الأحيان، تدمر، ببطء، لكن بشكل محتوم، الإحساس بالشرف،
والذين ينتبهون قبل فوات الأوان إلى أن ضمائرهم تتدمر شيئاً فشيئاً،
يحاولون التخلص من هذه الوضعية بالهرب.
غير أن المجازفة التي كان الفار
من الفيلق الأجنبي يركبها كانت عظيمة. فالجندي الذي يتم الإمساك به، بعد
أن يظل بعيداً عن الجيش لأكثر من ثلاثة أيام، من غير أن يفلح في الوصول
إلى الحدود نظراً لبعد المعسكر، يكون عقابَه الحرمانُ من الحرية لأعوام.
وتُزاد إليه عقوبةٌ إضافية عن كل قطعة تنقص من زيه، ولو كانت بضعة أزرار.
وتكون العقوبات الحارمة عقوبات فظيعة؛ شغل جهيد من الصباح إلى المساء تحت
الشمس الحارقة، وطعام قليل جداً، ومعاملة وحشية من كل الوجوه. ومن قبيل ما
نقول أن رجلاً سويسرياً كان يعمل كثيراً مع المساجين، حكى لي أن أحدهم أوثق
ليلاً إلى عمود من أعمدة التلغراف، وترِك هناك دون أن يُهتم لأمره، إلى
الصباح. فقد أوثق ساقاه إلى العمود بحبال، وأوثق ذراعاه وراء ظهره. وحل
المساء، وهو لا يزال واقفاً، حتى إذا أقبل الليل، أخذ ينهار شيئاً فشيئاً،
فلما أطلِق سراحه في اليوم الموالي، كانت قدماه قد ماتتا تماماً. وقد رأى
سالووسكي كيف جرى تقييد يديِّ أحد أولئك التعساء ورجليه خلف ظهره، ثم مدِّد
لساعات في الشمس الحارقة، وإمعاناً في زيادة الحرارة الخانقة، جُعل عليه
قماش غليظ، ولو صاح التعيس في طلب شربة ماء، جاءه الحارس الكورسيكي -
فكثيراً ما يُتخَّذ الحراس على المساجين من الكورسيكيين، إذ كانوا معروفين
بقسوتهم - وغرز كعب جزمته في فمه، قائلاً له: «هاك، أيها الكلب، ها هو
الماء!».
وإذا كان الرجال من الأهالي يلوذون بالفرار، على الرغم مما قد
يعود عليهم من الإيجابيات من هذه المعاملات، فبا بالك بالحياة التي ستكون
من نصيب الجندي العامل في الفيلق الأجنبي! وإذا سالووسكي، الذي رضخ للأمر
المحتوم، والذي أمضى سنواته الخمس، قد وجد الخدمة في صورتها هذه، أمراً
يمكن تحمله، فلقد تكبد معاناة معنوية كثيرة. وقد كان، هو الآخر، يشتكي من
الجور الذي يعم الفيلق الأجنبي.
يغلب على الناس الاعتقاد بأن الفيلق
الأجنبي يتألف من جنود ألمان فارين من الخدمة، أو مجرمين. وليس هذا بصحيح؛
فمن جملة الجنود الألمان الستين الذين فروا من الدار البيضاء، لا تجد غير
ستة قد فروا من الدار البيضاء (فقد فضلوا الخدمة في الفيلق الأجنبي بدلاً
من أن يمضوا مدة عقوبتهم في سجون بلدهم).
بل إنك، على العكس، تجد معظم
هؤلاء من العمال الألمان النزيهين، قد وقعوا في أيدي مجنِّدين فرنسيين
عديمي الذمة، مدفوعين إليهم بالحاجة أو بمعسول الوعود، ثم لا يلبثون أن
يصطدموا بالبؤس، ولا يظفرون بشي مما قيل لهم من تلك الوعود البراقة. ذلك
بأن المجندين في الفيالق الأجنبية كل أجرهم يقبضون خمسة سنيمات ذهبية عن
اليوم الواحد في وقت السلم، وعشرون في وقت الحرب، لأي سبب؟ ليسخَّر، في وقت
السلم، للعمل في الأماكن القصية من الصحراء، أو ليُجعلوا، في وقت الحرب،
جنوداً منذورين للهلاك، في الأماكن التي يكون تمنع المخاطر فيها من إرسال
الجنود الفرنسيين. ولو قدِّر لهذا الجندي أن لبث أثناء المسير في المؤخرة،
ووقع بين أيدي العدو أو مات من العطش في الصحراء، أو وقع صريعاً في ساحة
الوغى، أو ترِك [في العراء] من غير كفن، نهباً لأنياب الضباع ومخالب النسور
في الأطلس - فما هو إلا جندي عامل في الفيلق الأجنبي! فمتى تنتهي، إذن،
هذه المتاجرة في الرقيق الأبيض، فنتنفس الصعداء؟
22-08-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
-23-
رافقنا الباشا، في 27 نونبر إلى
مليلية. فلما ولجنا مصب ملوية، رأينا عدداً كبيراً من القوارب محملة
بالجنود، فلما وصولنا في الساعة الحادية عشرة، أصر الباشا إصراراً على
النزول إلى اليابسة. فسعيت في الحصول له على ترخيص.
لكن لزمنا أن نظل
منتظرين حتى الساعة الثانية صباحاً لكي تزول جميع الصعاب، ويصير بإمكانه
النزول. وبعد ذلك، قد جرت، محادثة طويلة مع القايد المحمدي، كلِّفنا،
بعدها، بالتوجه إلى شاطئ بني بوغافر، عسانا نفلح في الاتصال بالبر، فننزل
هناك البنادق والذخيرة. لكن لم يكن مأذوناً لنا بالبقاء هناك لأكثر من ثلاث
ساعات أو أربع.
وعندما وصلنا، في 29 نونبر، على الساعة الثامنة صباحاً،
إلى تلك الناحية، وفيما كنا منتظرين، وقد توقف محرك السفينة، أو كانت تسير
متثاقلة، إذا طلقات تستهدفنا. ثم أعقبتها طلقات أخرى، بحيث لم يعد لنا
بدٌّ من الرد. فأطلقنا نصف حمالة من رصاص مكسيم على المعتدين، في مخابئهم
التي كان من اليسير علينا أن نهتدي إليها؛ إذ كانوا يستعملون الرصاص القديم
وهو كثر دخان، فأخرسناهم، وأخذنا وجهتنا صوب بني سعيد. لم يقابلنا من
قارب. فعدنا أدراجنا إلى مليلية في وقت الزوال.
علمت في ما بعد أن أولئك
الرجال لم يطلقوا علينا النار بدافع العداء بل بنية أن يظهروا لرجال
الروغي أنهم لا يزالون غير منحاشين بعدُ إلى جانب السلطان. وكذلك لم يأت
أهالي بني سعيد على متن القوارب لمجرد الخوف من بوحمارة. فقد كانت هاتان
القبيلتان تخشيان كثيراً أن تتعرضا لحملة انتقامية من لدن الروغي في
ناحيتيهما، لإظهارها التعاطف مع السلطان.
انتهى شهر رمضان منذ وقت غير
يسير، وإذا الأهالي ممن ليسوا معادين للكحول، والذين امتنعوا عن تناولها
طوال شهر الصوم، قد عادوا إلى شربها كالعادة. وقد كان بين جنودنا، كذلك، من
يفرط في الشرب أحياناً، ثم يدخلون في مشاجرات مع رجال الروغي، تنتهي إلى
اشتباكات بالأيدي. وكانت تلك العراكات مما يسوء الحكومة الإسبانية، ويسوء
العامل أيضاً، فيشتكي إليَّ منها بين حين وآخر. فكنت أعده بأن أحرص على أن
يلقى الجناة العقاب متى عادوا إلى السفينة، وأنهم لن يكون لهم، في ما بعد،
أن ينزلوا إلى البر.
لقد كانت تشكيات الإسبان الدائمة من جنودنا
المخمورين تثير غيظي، فلذلك طلبت إلى الباشا أن يظهر الحزم والشدة مع ضابطي
الصف. وعليه، فقد استدعاهما وأطال في توبيخهما. ولقد وفى ذلك التوبيخ
بالمراد؛ فما عاد يحدث من تجاوز، ولاسيما أن آخر جندي أثار الشغب على متن
السفينة كان جزاؤه 150 جلدة.
في هذه الأيام، بدأ الجنود الأشد وفاء
للروغي يفرون عنه. وكثير منهم انحاشوا إلى جانب الباشا، فحملناهم، بعدئذ،
إلى الحدود على متن «التركي»، ليتم، على الفور، تجنيدهم في محلة السلطان.
في 7 دجنبر، ونحن في الجزر الجعفرية، أخبرني القايد المحمدي أن بوحمارة توجه وفرسانه من سلوان صوب ملوية.
وفي
8 دجنبر عاد سي أحمد من جولته التفقدية، وكان أول ما حدثني به أن فرسان
الروغي الذين أعلن عنهم من مليلية كان عددهم ثلاثين رجلاً بالتحديد، وأنهم
لم يكن بمقدورهم، بطبيعة الحال، أن يفعلوا شيئاً. ولقد أكد لي، مرة أخرى،
أن القايد البشير يوجد، بالفعل، في غرب ملوية.
وقيل إن 100 من فرسانه
قاموا، مؤخراً، بحملة للتعرف على سلوان، وإنهم تقدموا كثيراً حقاً، حتى
أشرفوا على سلوان ومليلية. وقد قابلتهم القرى التي عبروها بوفودها، وتلقتهم
بذبح العجول دلالة على حسن النية، وأكدت لهم تعلقها بالسلطان، وطلبت عفوه.
ولم يقابل أولئك الجنود بأي عداء في أي مكان مروا به، ولا بدر منهم عداء
تجاه تلك القرى المسالمة.
كان الهدف الرئيسي من تلك الحملة التعرفية هو
استكشاف المنطقة الواقعة بين ملوية والمركز التجاري، وتحديد أفضل سبيل
لتسلكها المحلة. وقد كنا نرى من البحر مدى صعوبة تلك السبيل.
لقد كانت
تلك الناحية مخترقة، عن بكرة أبيها، بأودية، صغيرة وكبيرة، تنبع من قمم جبل
كبدانة، وتجري لتصب في البحر. وكثيراً ما تحبل تلك الأودية، في فصل
الشتاء، بالسيول الجارفة، وأما في فصل الصيف فتكون جافة ماحلة. الساحل الذي
يصل متوسط ارتفاعه إلى 15 متراً، ينحدر عمودياً إلى البحر، فيتخذ، في هذا
الموضع، شكلاً متموجاً، وكل موجة من موجاته ينطوي على مجرى من الجاري. يزعم
الأهالي أن 101 من المجاري تصب، ههنا، في البحر، وهم يسمو ن هذا البلد
«عناقد»؛ ومعناها الحناجر. وحده هذا الجانب من كبدانة اقتصرت عليه حملة
المحلة، لأن الجانب الآخر كان يفوقه صعوبة، ويقتضي [التحول عن الطريق
المباشرة و] الالتفاف عليه مسافة كبيرة.
وواصل سي أحمد حكايته. فقد قرر
قادة الجيوش المسكرة في شرق ملوية أن يعبروا النهر «اليوم». وما كان الأمر
يزيد، في تلك اللحظة، عن نية طيبة، ولا كانت الفتيات الكثيرات اللائي يخطرن
في المعسكر بخاليات من من المسؤولية عن بقاء الجنود متسمرين في ذلك
المكان.
لقد اضطرَّنا سوء الطقس إلى إطالة المكوث بالجزر الجعفرية. فقد
كانت العواصف تتوالى من الجنوب الشرقي والشمال الغربي، وكانت تمطر كثيراً،
ويبرد الطقس بشدة. وكان الثلج يغمر قمم كبدانة وبني زناسن، وينزل إلى
السفوح. ما سمحت لنا أحوال الطقس في 9 دجنبر، إلا بأن نجازف بالخروج من
مخبئنا الآمن داخل الميناء.
ذهبنا إلى عجرود للإتيان بسرير الباشا
وطباخه. وقد رأينا، إلى الغرب من مصب ملوية مخيماً كبيراً من الخيام، وفي
تلك اللحظة علمت، خيِّل إليَّ، بالفعل، أن قسماً من المحلة قد عبر النهر.
وصلنا،
في 11 دجنبر، وقت الزوال، إلى مليلية. فكان لي حديث طويل مع الباشا. فقد
أخبرته بالنقص الذي بتنا نشكوه في النقود على متن السفينة. فالرجال لم
يستلموا أجورهم منذ ما يزيد عن الشهر، وتأخر أجور الجنود كثيراً؛ وقد انقضى
ما كان معي، أنا نفسين من نقود، فقد أقرضت منه هؤلاء وأولئك، فصرت، الآن،
لا أعرف لي وسيلة للحصول على المؤن. فطمأنني الباشا بأحسن ما يستطيع، وطلب
مني أن أصبر لبضعة أيام، فلابد أن تصل النقود من طنجة. وقد كتب، في حضوري،
برسالة إلى طريس يصور له فيها الوضع المزري الذي كنا فيه.
كنا نؤمل أن
نتوصل بالنقود عما قريب مع السفينة البخارية الثانية التي استأجرها المغرب
حديثاً، والمسماة «السعيدي». لكن في يوم 14 علمت من أحد رجالي، كنت قد
أذنت له بالتوجه إلى طنجة بسبب وفاة أحد أفراد أسرته، أن «السعيدي» كانت في
طنجة، بسبب عطل في محركها، وأن السلطات الجمركية المحلية لم تشأ أن تتحمل
نفقات تصليحها. وعليه، فقد واصلنا طريقنا، كيفما اتُّفق؛ فكنت أقترض
النقود، أحياناً، من القايد المحمدي.
تقدم بعض المتطوعين للقال في ملوية
إلى الباشا. فلزمنا أن نقلَّهم إلى راس الما؛ وهناك حملتهم القوارب إلى
اليابسة. كانوا عشرين شخصاً، بين شيوخ وأطفال؛ فقد كان أكبرهم في الستين
وأصغرهم لم يكد يبلغ الرابعة عشرة. فكأنما دعونا إلى التعبئة العامة.
انتقلنا
من راس الما إلى الجزر الجعفرية، لنمضي الليل هناك. وفي الزوال، جاء
القايد الحاج علال من البر، ليرافقنا إلى مليلية. فتوجه عند الباشا، رسولاً
من الجيش، ليطلب إليه أن يمده بالمال. فقد كانت المحلة، هي الأخرى، تنتظر
أجر شهر متأخر. وقد بدأ الجنود يتذمرون، بعد أن صاروا فريسة للجوع. فكانوا
يهددون أنهم إذا لم يتوصلووا بالنقود في قريب، فييعبرون الحدود إلى الجزائر
ليبعوا هناك أسلحتهم ويبحثوا عن عمل. وقد أصبح القادة يلاقون المشاق في
استبقائهم. فما كانت أوضاعهم بالجيدة حتى في الأوقات التي كانت تتظم لهم
النقود، لأن معظمهم كانوا لا يقبضون برسم الشهر الواحد غير أجر عشرة أيام،
وكانوا يعطون من الدقيق أجراً لعشرة أيام أخر، فيما يذهب الباقي إلى جيوب
القادة. وقد كان هؤلاء يمتنعون أن يفدموا تسبيقات إلي رجالهم، لأنهم يخشون
أن يبذروا ما زاد عن حاجتهم، عدا أنهم كانوا يحرصون على ألا يظهروا أنهم لا
يزال بحوزتهم نقود. لقد كانوا يعلنون العوز الشديد لينقذوا القطع التي
سرقوها.
في يوم 28 توصل الباشا برسالة من طنجة لخبره بأن «السعيدي»
ستحمل النقود في الأيام الموالية، لكن أحداً لم يصدق هذا الخبر. وفي تلك
الأثناء، كما نسمع أن الجنود الذين في ملوية كانوا يتسللون، في الليل، إلى
القرى المجاورة، ليختلسوا ما يطعمون!
وانقضت الأيام التالية، من غير أن
تطالعنا «السعيدي». وأصبح رجالنا مهتاجين، يتحرقون نافدي الصبر. وبتُّ
ألاقي عناء في توفير الطعام الضروري لهم.
أوشكت الساعة الثانية عشرة
ليلاً، ونحن ننتظر النقود دون جدوى. في المساء، عشية عيد الميلاد، جلسنا،
نحن الأورپيين، في المؤخرة، لدى بومغيث تحت خيمة سي أحمد، وشربنا البنش،
ونحن نفكر في أحبائنا الذين تركناهم في الموطن. ولقد رفه علينا بومغيث
قليلاً، بأن قص علينا حكاية مضحكة عن رحلته الأخيرة إلى مكة. فقد رحل، وليس
معه من النقود إلا قليل, لكنه كسب بعضها في أماكن متفرقة، أولاً بالعمل
ترجماماً على متن السفينة البخارية الأنجليزية التي أقلته إلى بورسعيد، ثم
من الخدمات البسيطة التي كان يسديها إلى بعض أثرياء المغاربة في ما كان
يصيبهم من دوار البحر. كما عمل، خلال عبوره من جدة إلى مكة كسائس لدى
المنبهي، الذي كان يقوم، وقتها، بفريضة الحج. وبذا، كان بومغيث يتدبر أموره
حسبما شاءت له الظروف. ولقد بقي على خير حال، وإن يكن هلك في مكة مئات
الحجيج من الكوليرا، وحتى لقد كان يتفق لبعض المحتضرين أن يسقطوا إلى جواره
صرعى أثناء الصلاة. ولقد اغتبط، وهو الرجل التقي الورع، وإن لم يكن
بالمسلم المتعصب لرحمة الله، الذي وقاه الأمراض، ويسر له العمل في الوقت
المناسب. ولقد حاولت، عبثاً، أن أبين له أن جراءته، ومعرفته بالألسن، وقبل
كل شيء، نوعاً من الجسارة، قد كانت هي الأسباب وراء نجاحه، وأنه إذا كان لم
يهلك من الكوليرا فالسببب يعود، على وجه التحديد، إلى أنه ذو معدة جيدة
قوية جداً، وأنه كان من عادته أن يطعم جيداً. لكنه أصر على التأكيد أن الله
أراد أن يكافئه على شدة ورعه وتقواه، فيسر له سبيل العودة إلى طنجة من غير
مشاق.
وكم كان بودي لو أحكي عن واحدة من المغامرات الساحرة التي تتفق
له في أسفاره : فقد كان رافق قافلة من الجمال من مكة إلى المدينة. وفي
الليل، يتمدد في العراء، محتمياً بجمل راقد. فهذه الحيوانات كثيراً ما تنام
وهي تضع بطونها على الأرض، وتطوي قوائمها الآماميتين والخلفيتين. ولكي
يتحاشى أن ينقلب الجمل على جانب، فيسحقه، كان يضع حجراً كبيراً تحت خاصرته.
فمتى رغب الجمل أن ينقلب على جنبه، آلمه الحجر، فانتصب، وجذب عنقه، فصاح :
آي!
في اليوم الموالي، أيقظني أحد البحارة في الساعة الرابعة صباحاً،
ليخبرني بأن الموج في تعاظم. أسرعت بالصعود إلى السطح، فرأيت أن الموج
المرتد من الجهة الشمالية الشرقية قد تعاظم كثيراً، وأننا كنا نرسو،
بالفعل، في خضم الأمواج. كانت أمواج عظيمة تغمر السفينة كلها. أسرعت إلى
إيقاظ الجميع، وإعداد الآلة. ومن حسن الحظ أن المرساة كانت متشبثة جيداً،
بحيث كانت السفينة تجذبها جذباً قوياً.
أصبح المحرك جاهزاً، فرفعت
المرساة. فالرجال المكلفون بهذه المهمة في المقدمة، يكونون، أحياناً،
مغمورين بالماء كلما انهالت علينا موجة كاسرة. وعلى الرغم من الظلمة
الحالكة، كان بمقوري أن أرى ذلك بوضوح من الممشى، لأن الماء كان متألقاً.
وفيما كان يجري رفع المرساة، شغلت المحرك، فلما أصبح جاهزاً، أعطيت الأمر :
«إلى الأمام!»». بيد أننا لم نكن نتقدم إلا ببطء شديد، وكثيراً ما كانت
قوة الأمواج الكاسرة تقذف بنا إلى الوراء. فأخذت طقطقات المروحة تصدر صوتاً
رهيباً في الهواء. كان البحارة يعملون بصورة آلية فوق السطح، ويرممون
الأجزاء المنتزعة. فأسمعهم، أحياناً، يصيحون : «الله! الله!». كان بومغيث
يقف إلى جانبي فوق الممشى، يسألني من حين لآخر : «هل نتقدم؟». فأجيبه :
«آمل ذلك، لكني لا أعتقد أننا نتقدم في هذه اللحظة». لقد كانت لحظات
رهيبة.
وفيما تبينت، على أضواء المدينة المتنائية، بعد لأي، أننا
كنا نسير متقدمين، ولو ببطء شديد، إذا بي أرى، فجأة، موجاً كاسراً يأتي من
المقدمة، بأشد قوة من سابقيه. فاندفق ليغمر السفينة كلها، فلم يقتصر على
السطح، وإنما بلغ أعلى الممشى أيضاً، بحيث صرت، للحظة، وقد بلغ الماء
وركيَّ، ولزمني أن أستمسك بشيء حتى لا أنجرف. تغير وضع السفينة رأساً على
عقب، وقُذف بها في عرض البحر، بحيث إن المكسر التالي، والذي كان دون الأول
عتفاً وضخامة، قد صدمنا من الجانب. خيل إليَّ أنها النهاية، لكن السماء
كانت بنا رحيمة. بعد تينك الموجتين الكاسرتين، عاد الهدوء فصار بمقدورنا أن
نخرج من جمودنا، وننتشل أنفسنا من ذلك المضيق الخطر. حقاً إننا كنا في
أعالي البحر، لكننا لم نعد مغمورين بالموج، فسرنا، في تؤدة، لكن في أمان،
صوب الجزر الجعفرية الحفية المضيافة. تلك الرحلة الرهيبة في خضم من الموج
المرتد طالت بين أربع ساعات ونصف وست ساعات، وما قطعنا خلالها غير 400
متر.
كان الإسبان الذين في الجزر الجعفرية يقيمون الاحتفالات. وعندما
جرؤت على أن أهنئ الجميع برأس السنة، إذا هم يسألونني، في استغراب، إن كنا،
نحن الألمان، أيضاً، نعرف بأعياد الميلاد، ونحن البروسيتان! فكأني بهم
يحسبون البروستانت من الوثنيين، قلت لهم إننا نحن، أيضاً، مسيحيون طيبون
مثلهم؛ فقدموا لي من حلوى عيد الميلاد، وأفسحوا لي بينهم لأخذ بحظي من تلك
الاحتفالات.
وعلى متن السفينة، أعد بومغيث وجبة جيدة جداً، ودعانا، نحن
الأوروپيين. لم يكن يريد أن يحتفل بالعيد المسيحي، بل كان يريد أن يحتفل
بنجاتنا. فالمؤكد أنه حسب، والعربَ الذين معه، حينها، أن ساعتهم قد آذنت،
فكانوا مغتبطين جميعاً بنجاتهم من ذلك الخطر الداهم.
عاد الحديث، أثناء
الأكل، مرة أخرى، إلى الأحداث التي عرفتها الليلة الماضية، وأما نحن،
الأوروپيين، فقد جعلنا نحكي عن ليالي عيد الميلاد الشبيهة، التي أمضيناها
في رأس هورن، أو في بحر الشمال.
23-08-2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
-24-
البحر، وعاد الجو إلى
سابق حاله من الهدوء والدعة. فأمكننا أن نخرج إلى
مدينة مليلية في 27 أكتوبر. وقد علِمت من فرتوت بوصول
مولاي مصطفى، في تلك الآونة، إلى مدينة فاس، وأنه أبلغ
السلطان بالأحداث المؤلمة التي كانت ملوية مسرحاً لها.
ولقد أبدى السلطان استياءه من من كثرة ما أصبح الجنود
يقدمون على بيع بنادقهم. غير أن مولاي مصطفى أخبره أن
أولئك المساكين إنما يفعلون ليدفعوا عنهم غائلة الجوع،
فلقد تأخرت عنهم رواتبهم عدة شهور. وأمَّل فرتوت أن
يصير إرسال النقود أكثر انتظاماً، لكن لم يحدث شيء من
ذلك إلى الآن. وما زلنا ننتظر بدون جدوى.
هنأت
بالسنة الجديدة أصدقائي الإسپان الذين التقيتهم، فاستغربوا
أن أكون عارفاً بذلك التاريخ. فكأني بهم يعتقدون أن
الإسپان هم وحدهم المخصوصون، لا بالاحتفال بالميلاد وحده،
بل وبالروزنامة المسيحية أيضاً.
مرت علينا الأيام
التالية رتيبة. كنا جميعاً ننتظرالتوصل بالنقود التي لم
تصل بعد. فأرسلنا ببرقية إلى مدينة طنجة، فجاء الوعد،
كالعادة، بقرب إرسال تلك النقود. لكن لم يصل منها شيء.
فكان البحارة يجيلون أبصارهم، حزانى، في الأفق، يبحثون
عن شبح سفينة تشبه «السداة».
وصل بعض الرجال
إلى مليلية، قادمين إليها من المحلة، بعد أن اجتازوا
المنطقة المتمردة سيراً على الأقدام. فكانوا خيالات بائسة
كأنها، من فرط الجوع، هياكل أموات مغلفة في أسمال.
فسمعنا منهم أخباراً مؤلمة عن البؤس الذي يسود منطقة
ملوية.
وفي 7 يناير، تلقى الباشا برقية من الجزر
الجعفرية، فيها إنذار من المحلة إن لم تتوصل، في غضون
الأيام الثلاثة القابلة، برواتبها، لتتفكَّكنْ عن بكرة
أبيها، ولتسلِّمَنْ نفسها إما إلى الروغي، أو إلى
بوحمارة، أو إلى سلطات وهران، ولتذهبن، بطبيعة الحال،
بأسلحتها كلها.
فأرسل الباشا من فوره ببرقية إلى كل من الطريس والكباص، مؤداة سلفاً، إذ بدأ يتأكله القلق.
فلما
كانت الظهيرة رأينا سفينة بخارية، ولم يكن في العادة
أن نرى من سفينة في ذلك الوقت. فهرول الجميع نحو
المتراس لرؤية القادم الجديد. تلك كانت سفينة
«السعيدي». وإذا الغبطة قد استولت على الجميع، إذ
استبشروا بانتهاء البؤس.
لكن في اليوم الموالي، خبت
تلك الفرحة، عند توصلنا بالنقود المرسلة إلى السفينة.
فبدلاً من الأجر المتأخر عن الأشهر الثلاثة، لم نتوصل
بغير أجر شهر واحد! وعلى كل حال، فالمبلغ سمح لنا
بتسديد ديوننا، والتزود من المؤونة المسعفة لنا إلى
حين.
لكن الأمر كان أسوأ على المحلة، فبدلاً من
أن تحمل إليها «السعيدي» أجر الشهور الثلاثة المتأخرة،
كان كل ما جاءتها به لا يزيد عن أجر ثمانية أيام!
وقد أودِعت النقود في قصبة السعيدية، ولم أستغرب إذ
علمت، بعد بضعة أيام، وتحديداً في يوم 15، أن الجنود
الذين في ملوية قد أرسلوا بمجموعة منهم، فاستولت من
الأمينين على النقود كلها، ثم زادتهما تعنيفاً وتنكيلاً.
وما منعها غير خوف العقاب من السلطان أن تقتِّلهما.
وكان أن فر أحد ذينك الموظفين المنكل بهما إلى وهران،
ضمن التراب الخاضع للسلطة الفرنسية، وفر الثاني عند
الباشا. لقد كان الجنود بما فعلوا يترجمون حرصهم ألا
يقع ذلك المبلغ الزهيد من المال في أيد غير أمينة.
وفي
21 يناير رأيت مشهداً يصعب تصوره. فقد وصل فرسان
بوحمارة جميعاً، وكانوا حوالي 120 رجلاً، يتقدمهم القايد
الشاذلي، في منتصف النهار، إلى المنطقة الخاضعة للاحتلال
الإسپاني. ولم أفلح في معرفة السبب وراء هذه الزيارة
على وجه التحديد. وكان البعض يعتقد أن بوحمارة، وقد
ازداد له مولود قبل يومين، فإن فرسانه يعتزمون أن
يقيموا عرضاً للفروسية في الأراضي الخاضعة للإسپان،
للاحتفال بذلك الحدث. وكان البعض يعتقد، كذلك، أن
الشاذلي سيجنِّد بعض العمال لترميم قصبة فرخانة، وكان
آخرون يعتقدون أنه جاء ليقتني خيمة جديدة لحساب الروغي.
ولقد مر الفرسان وهم في كامل عدتهم وعتادهم، خلال
المنطقة الإسپانية، حتى وصلوا إلى باب المدينة، وهناك
توقفوا. ثم غاب الشاذلي لبعض الوقت، داخل المدينة، فإذا
عاد، انطلقت الجماعة نافخة في الأبواق. ولقد وجدْت ذلك
المشهد وقاحة صارخة، ورأيت أن من الزيغ أن يُسمَح
للمتمردين بالقدوم إلى مليلية راكبين ومتسلحين، فيما
الباشا، ممثل السلطان، ينزل بالمدينة، ويُمنَع عن رجال
السلطان أن يدخلوا، متسلحين، الترابَ الخاضع لإسپانيا. ولم
أكن أخفي هذه الأفكار عن الإسپان.
لقد كان في
نية الفرسان حقاً أن يقوموا بألعاب الفروسية فوق التراب
الخاضع لإسپانيا، لكن لم يؤذن لهم في ذلك. فتوجهوا
لذلك، إلى بيت الجمرك القائم في تراب محايد، وأمضوا
نهارهم في الألعاب النارية. لكن كان يبدو أنهم لم
يكونوا في حال جيدة. فقد كانت جيادهم نحيلة وقبيحة،
وكانوا هم أنفسهم يبدون في غاية الفاقة والقذارة.
عبثاً
انتظرنا أن يأتينا الأمر بالرحيل، إلى أن كان يوم 23
يناير. فيومها بدأت الريح تعصف من جهة الشرق، وفي جهة
الشمال الغربي أخذ الموج في الارتفاع كثيراً، ما اضطرني،
في الظهيرة، إلى الرحيل عن مرسى مليلية، بعد أن صرنا
فيه عرضة للمخاطر، ومضيت للبحث عن حمى في الجزر
الجعفرية. فلما آذنت الشمس بالمغيب، صارت وجهة الريح
تتحول، متثاقلة، إلى الجنوب الشرقي. وابتداء من التاسعة
ليلاً، صارت تهب علينا من الجنوب ريح باردة. وظل
الموج، أثناءها، في ارتفاع في الجهة الشمالية الشرقية.
فلم نلق المرساة في الجزر الجعفرية إلا في الحادية
عشرة. ولما أن توسمت في ريح الجنوب أنها تميل إلى
الهدوء، مضيت لأصيب لي سنة من نوم، تاركاً جنود
الحراسة على السطح.
وفي وقت باكر من اليوم
الموالي، أيقظني الميكانيكي الأول، السيد كوخ، وأخبرني أنه
سيعدُّ الآلة، في حال كنت أرغب في تغيير المرساة،
وإلقاء مرساة ثانية. فلما كنت أهم بارتداء ملابسي، أخذت
السفينة تتأرجح وتهتز اهتزازات عنيفة. ثم لم ألبث أن
سمعت تقصفات رهيبة. وسرعان ما عرفت بما حصل : كنا
نغرق.
هرعت، وأنا في نصف ثيابي، إلى السطح، فتأكد
لي أننا كنا فوق الجزيرة الريسية، لا يفصلنا شيء عن
الساحل القائمة من فوقه بطارية ألفونس الثالث عشر. أتممت
ارتداء ثيابي على عجل، وجعلت أرتقي السطح، فرأيت الرجال
وهم يخرجون المرساة من القارب. ثم شرعوا يجذفون، تلو
بعضهم، على طرفه، ونزلوا إلى البر باستعمال القلوس،
لينجوا بأنفسهم وأموالهم. وانخرط البحارة الإسپان العاملون
في المرسى وبعض السكان بين الحشاف التي على الجزيرة،
وشرعوا يتعاونون على إنقاذ الرجال وأغراضهم.
جاء
العامل بشخصه ليشرف على عملية الإنقاذ. وما أن وطئت
أقدام الجنود البر، حتى نسوا السفينة، فما عادوا يهتمون
لأمرها، وأما البحارة فقد عادوا مجذفين إلى سطحها،
فخلصوا أغراض الأوروپيين، ثم لبثوا بعد ذلك وإيانا.
لقد أيقنت، من فوري، أنه لم يكن في الإمكان فعل شيء
لإنقاذ السفينة. وحدها «زينيث» كان بمقدورها أن
تعيننا؛ تلك السفينة البخارية التي كنا، من قبل، قد
تعرضنا لها عند المركز التجاري، والتي ظلت، خلال الليل،
تبحث، بدورها، عن ملاذ في الجزر. لكنها غادرت المرسى،
بعيْد غرقنا، من دون أن تهتم لوضعنا المسيؤوس منه.
كنا
نقف فوق صخور تصطدم بها السفينة في خضم بحر لجب
مضطرب. وقد كانت ضربات قوية تخض السطح خضاً، فيميل مع
الأمواج حيث تميل، أماماً فوراء، وتهتز المرساة والمدخنة.
وأصبح من المتعذر على من فوق السطح أن يثبُت من غير
أن يتشبث بشيء. ولم يعد في الإمكان تشغيل المحرك بعد
أن تحطمت ألواح المراوح على الصخور التي في مؤخر
السفينة. ولم يعد في مقدورنا، كذلك، أن ننزل قاربنا
إلى الماء، فإن من شأنه أن يتحطم على جانب السفينة.
لم يكن في الإمكان توقع أن نحصل على أي عون من
البر، فقد كان الشاطئ مغمورواً برمته بالأمواج المرتدة.
وكانت مرساتنا، في ذلك الحين، في وضع سيء، يجعل من
المتعذر علينا سحبها.
وبعد لأي، جاء الغوث من
سفينة تجارية فرنسية، أخرى؛ هي «المغرب»، التي شاءت
الصدفة أن تمر بذلك الموضع. فقد أرسلت إلينا إشارات
تستفهم منا عن وضع السفينة، وهل أصبحت خارج الاستعمال.
فكان جوابي بالنفي! سألتنا هل نحتاج إلى المساعدة، فأجبت
بنعم. فقامت بإلقاء المرساة في مكان ملائم، ومدت إلى
سطح سفينتنا بحبل، فجذبتنا وانتشلتنا على الفور من
وضعيتنا الخطرة. وبِذا أنقِذت سفينتُنا!
لقد جاءت
النجدة في الوقت المراد، فما عادت سفينتنا، حينها،
ممتنعة من نفاذ الماء إليها، وبدأت مؤخرتها تمتلئ شيئاً
فشيئاً بالماء. والحق أنها تلقت ضربات عنيفة جداً.
ولربما كان سيكون في إمكاننا أن نستغني، في الأخير، عن
المساعدة الفرنسية، ونتولى إنقاذ أنفسنا؛ فقد بدأ البحر
يستعيد هدوءه. لكن الماء الذي تسرب إلى السفينة كان
يضطرنا إلى الإسراع بطلب العون.
في الساعة العاشرة
صرنا نرسو في أعالي البحر. واقتضانا البحث عن المنافذ
التي يتسرب منها الماء وسدها مجهوداً مضنياً وعسيراً.
وبودي أن أتقدم، مرة أخرى، بالشكر إلى الميكانيكيين
الأخوين كوخ لمجهوداتهما لإنفاذ «التركي».
كان من
حسن حظنا أن لم تفقد السفينة غير الدسارات، وأما
الغشاء الخارجي فكان سليماً. فقد كان من فولاذ مكسيم
ده سيمنس.
استعملنا سبعة براميل من الإسمنت لكي
نسد الثقوب التي لحقت السفينة كلها. وقد حصلنا على هذه
المادة مجاناً من السلطات الإسپانية. وأمضينا الليلة
التالية للغرق كلها في العمل حتى سددنا منافذ الماء،
ثم صرنا بعدها نتأنى في العمل، فلا نشتغل إلا نهاراً.
فلما زال الخطر، عاد الجنود وضباط البحرية المكوَّنون
في إيطاليا إلى سطح السفينة. وأما بحارتي وسائقي فقد
ظلوا ملازمين لها لم يبرحوها طرفة عين.
واصلت
السفينة البخارية الفرنسية طريقها في اليوم التالي لذلك
الحادث، بعد أن أخبرتها بنجاح مساعدتها، واقتناعها بأننا
صرنا قادرين على التخلص من ورطتنا بدونها. وفي أواخر
يناير صرنا من جديد مستعدين للإبحار، فكنا ننتظر أن
يصفو الجو، وذلك ما تحقق لنا في 4 فبراير، فتمكنا،
بعد لأي، من التوجه إلى طنجة، مروراً بمليلية. فلم يعد
بمقدورنا البقاء؛ فقعر السفينة كان محدباً كله، وإن
أمكننا أن نرممه ونرتق ثقوبه، فكان من اللازم إصلاحه
قبل أن يصير بمقدور السفينة أن تبحر من جديد.
فلما
وصلنا الجزر، لقينا من الجميع، سواء أكان من الجانب
الرسمي أو الخاص، وداعاً غامراً، وأعانتنا السلطات وأعاننا
العامل، معاً، على قدر ما استطاعا، ولم يتوانيا عن
تلبية رغباتنا. فلما حان وقت الرحيل، أعربت عن امتناني
للعامل، ووعدته أن أسعى ليحصل البحارة العاملون في
المرسى على مكافآتهم من لدن المخزن على ما بذلوا من
مساعدة لإنقاذ الرجال. ثم أبحرنا صوب مليلية.
هناك
سمعنا من الريفيين أن بوحمارة لما أن سمع بغرقنا، قال،
مزهواً، لأنصاره إن بركته هي التي كانت من وراء ذلك
الحادث. ولقد اغتبط للأمر؛ فأقام له حفلاً كبيراً في
الأيام الموالية. ثم لما بلغه النبأ الجديد بإنقاذ
سفينتنا، وأنها عادت إلى الإبحار من جديد، تكدر كثيراً،
فلم يعرف كيف يتخلص من كذبته. وأُلغي الحفل.
وجدت
في مليلية المساعدة نفسَها التي كنت لقيتها في الجزر.
فلما زرت العامل لأودعه، وكررت له شكري للمساعدة التي
لقيتها في الجزر الجعفرية،جعل من يقص عليه الأحداث. ثم
أعرب عن أمله أن أطيل مكوثي في خدمة المخزن، ولا
ألقى بالاً إلى ذلك الحادث. بل إنه عرض عليَّ أن
يعطيني توصية خاصة إلى الطريس، فرفضت، وشكرته.
كنت
آخر المودعين للباشا، فأراد أن يستبقيني والسفينة
المتضررة، وتحدث عن رحلة إلى عجرود، لكنني أخبرته
باستحالة ذلك الأمر، وأن علينا أولاً أن نقوم
بالإصلاحات، ليكون في مقدورنا استئناف أنشطتنا. فتركني
أرحل.
وفي وقت متأخر من مساء 5 فبراير، بلغنا
سواحل طنجة. وفي زوال اليوم الذي بعدُ، قمت بزيارة
الطريس. فكان شديد الود لي، وما قال في موضوع الغرق
إلا : «الحمد لله !». وقد حدثته خاصة، في الإصلاح
اللازم، فأنصت إليَّ السادة الذين معه باهتمام، ولم
ينبسوا بكلمة. وسرعان ما أدركت أن الأمر ربما احتاج
إلى وقت. وما كنت بالمخطئ.
وبطبيعة الحال، فقد قام
الأصدقاء الأعزاء بترويج حكايات عن غرقنا، تقشعر لها
الأبدان. ومن ذلك أنهم زعموا أنني تعمدت إغراق السفينة،
وأنني حصلت، لأجل ذلك، على 4000 دورو من بوحمارة،
وأنني أعطيت 500 منها لبومغيث لأشتري صمته.
حصلت
على 100 دورو من الطريس لأجل البحارة الإسپان العشرة
العاملين في مرسى، للتخفيف عنهم ضنك العيش. وقد حملت
بنفسي النقود إلى سفارة إسپانيا في طنجة، فما قبلت
باستلامها إلا بتحفظ كثير. ثم سلِّمت إلى الرجال. وحملت
إلى حكومة الجزر، على سبيل التذكار، صوراً كنت التقطتها
أثناء خدمتي لدى السلطان. واقترحت أن تُعطى السفينةَ
الفرنسية، بواسطة الطريس، مبلغ 5000 فرنك بما قدمت إلينا
من مساعدة، غير أنها لم تحصل على شيء، فتقدمت بشكاية
تطالب فيها السلطان وتطالبني أنا نفسي بمبلغ 000 50.
فلم تقبص منه شيئاً، لأن المطلب كان أخرقَ، عدا أن
المساعدة المقدمة إلى السفن الحكومية لا تُكافأ عنها
طالما لم يوضع بشأنها تعاقد، ناهيك عن صناديق الدولة
المغربية التي كانت خاوية.
قضيـنا الشهور الموالـية
متبطلـين. فقد لبثـنا منتظرين الأجـر المتـأخر، لا نشتغل
بغير تصليح المركب. وباتت السفينة الأخرى التابعة للحكومة،
«السعيدي»، هي التي تتولى القيام بالرحلات لأجل عملية
التصليح.
وأثناء ذلك كان الفرنسيون يكدون ويجتهدون
للاستقرار، بصفة نهائية، في المغرب، على الرغم من ميثاق
الجزيرة الخضراء، وتحريف قرارات هذا الميثاق بأسرع ما
يستطيعون. ولقد أفلحوا، في أواخر شهر مارس، في أن
يقيموا في مختلف المدن الساحلية أعمدة لأجل البرق
اللاَّسلكي. وسعوا في أن يدخِلوا تلك الأعمدة، بزعم أنها
طواحين هوائية، حتى يتهربوا من دفع الضريبة الواجبة
عليها. لكنهم وجدوا معارضة من السلطات المغربية. فلقد
لاحظت هذه السلطات في مدينة طنجة أن تصريحات الفرنسيين
بتلك المعدات كانت كاذبة.
وفي الأيام الأولى من
شهر أبريل وصل إلى مدينة طنجة نبأ مقتل الطبيب الفرنسي
الدكتور موشان. ثم ثبُت، بعدئذ، أن القتيل لم يكن
خالي المسؤولية ولا بريئاً من مقتله. فلقد كان عميلاً
سرياً للحكومة الفرنسية، وكان وجوده قد أثار تعصُّب
الأهالي، ما دفعهم إلى اغتياله. ولقد أقرَّت الحكومة
الفرنسية بهذا الأمر، لكن بعد مضي وقت طويل.
غير
أن الفرنسيين بادروا، حين تلك الواقعة، إلى الرد على
مقتل الطبيب الفرنسي باحتلال مدينة وجدة «بصفة مؤقتة»،
حسبما زعموا، لإرغام السلطان على أن يسدد بصفة نهائية
ما عليه من ديون لفرنسا. وقد كانت تلك الديون تعويضات
لفرنسا عن مقتل كثير من الفرنسيين، الذين كانت لهم بعض
المسؤولية في ما حل بهم، كشأن دوشام. غير أن الشروط
الفرنسية كانت من القساوة بما لا يقدر أقوى السلاطين
على تحمُّله أو الوفاء بها، فأحرى أن يكون سلطاناً
ضعيفاً كمولاي عبد العزيز. وقد كان كل شخص نزيه يرى
بكل وضوح، أن «بصفة مؤقتة» تعني، في هذه الحالة،
«بصفة نهائية»!
أخذ السلطان، من فرط حيرته،
بالارتماء في أحضان الفرنسيين. ومن المؤكد أنه قد أمَّل
أن لا توافق ألمانيا على الاحتلال الفرنسي لأرض من
الأراضي المغربية، مما يُعتبَر انتهاكاً لميثاق الجزيرة.
فقد كان أول بند من هذا الميثاق وأهمه ينص، صراحة،
على وجوب احترام الوحدة الترابية للمغرب، واحترام
استقلالية السلطان، والحفاظ على مبدإ الباب المفتوح. غير
أن ألمانيا تغاضت عن الأمر، لأن فرنسا لم تفتأ تردد
أن ذلك الاحتلال سيكون مؤقتاً، إلى أن يرتضيه المغرب
ويقرُّه.
كانت العاقبة المباشرة لتزايد النفوذ
الفرنسي أن الفرنسيين لم يعودوا يجدون من معارضة لإقامة
أجهزة التلغراف داخل البلاد. وسرعان ما تم تثبيت الأعمدة
والسواري. وكانت تلك بداية التلغراف. وما عاد الفرنسيون
يلقون بالاً إلى المعارضات على مشاريعهم. فإذا كان
الفرنسيون لا يلتزمون بالقرار الأساسي في ميثاق الجزيرة،
فأي أهيمة تكون لبعض القرارات الملحقة أو الفرعية؟
لقد
أصبح المرء في المغرب يجد من نفسه انطباعاً، يتعزز
شيئاً فشيئاً، أنه يعيش في مستعمرة فرنسية. وزاد من
ذلك أن مراقبي الجمرك الفرنسيين كانوا يأتون شتى أنواع
المنغصات لعرقلة الاستيراد في السلع غير الفرنسية. وبدلاً
من أن يأخذ بنك الدولة، بالتدريج، في تثبيت سعر قار،
إذا هو يوحه حرصه، على العكس، إلى إعاقة التجارة
بالعراقيل التي لا تنتهي. ثم إن الفرنسيين كانوا يؤثرون
أن يطردوا كل من هو غير فرنسي، لكن لما كان ذلك
أمراً مستحيلاً، فقد صاروا يجتهدون لطردهم بما كانوا
يقابلونهم به من صنوف المضايقات.
وعلى الرغم من
الاحتلال الذي وقع على مدينة وجدة، فإن الحركات الموجهة
ضد بوحمارة كانت تأتي ببعض النتائج. ففي ماي ويونيو
1907، تقدمت المحلة بتؤدة، لكن في حزم، باتجاه مار
تشيكا. ثم كان نزولها في المركز التجاري وفي نواحي سوق
أركمان، فيما كان بوحمارة ينزوي بقصبة سلوان، ولا يزال
المخلص له الشاذلي ينزل بالمنزل الجمركي بقرب ملوية. وفي
ذلك الوقت، عادت العمليات تراوح مكانها من جديد، وبقي
الطرفان قُبُلَ بعضهما بعضاً، من دون مناوشات. وقد كان
جنود السلطان يحصلون، أحياناً، على شيء من رواتبهم،
لكنهم كانوا، في معظم الأحيان، يعيشون في إملاق. ويبقى
أن التقدم الحاسم للمحلة كان نجاحاً كبيراً للسلطان.
وفي 1 غشت وصل من مدينة الدارالبيضاء النبأ
المفجع عن اغتيال بعض عمال المرسى، وكان أكثرهم من
الفرنسيين.
واليوم نعلم أن هؤلاء القتلى كانوا هم
من جروا على أنفسهم ذلك المصير المأساوي. لكن فرنسا
وجدت في الأمر ذريعة سانحة لكي تنزل بجيوشها في هذه
المدينة أيضاً، وبصفة مؤقتة. وقبل ذلك، أقدم كان أحد
القادة الفرنسيين وأحد الموظفين الأغرار في القنصلية
الفرنسية، لغير ما سبب، على قصف رهيب وعابث للمدينة،
تحول بهذا المكان الأكثر ازدهاراً في المغرب إلى ركام
من الخرائب. ولقد شارف القصف بالتجار الألمان والأجانب
على الإفلاس، وأودى بحياة الكثير من الرجال، والنساء،
والأطفال والشيوخ!
فلما وصلت جيوش الاحتلال الفرنسية،
في آخر الأمر، نزلت في تلك المدينة المدمرة، فإذا هي
تأخذ - في غير استحياء - في مواصلة أعمال النهب التي
كان بدأها الأهالي، من جراء الحنق الذي استولى عليهم.
فيما أخذت الجثث تتعفن في الشوارع وتهدد بنشر الأوبئة.
لقد سادت المغربَ مرارة عميقة من هؤلاء الجلادين؛ وحدهم
الفرنسيون كانوا ينتشون من «الأعمال البطولية» لجيوشهم.
وشيئاً فشيئاً، أخذت المدينة تستعيد هدوءها. وأصبح
الجنود متبطلين، أو ينشغلون بتبليط المدينة. وفي تلك
الأثناء أقرت الحكومة الفرنسية، هي الأخرى، بأن قنبلة
الدار البيضاء كانت عملاً طائشاً.
وأما خلفية هذه
الأحداث فقد كانت مختلفة تماماً. فقد كنت لا تكاد تسمع
شيئاً عن وقوع القايد ماك لين في الأسر لدى الريسولي.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» ليلة القبض على امرئ القيس!: خيري منصور
» محكيات من سيرة بوحمارة كما نشرها كتاب غربيون معاصرون له
» لودوفيك دي كامبو: الإمبراطورية المتداعية
» ليلة القبض على " عيشة قنديشة "!!
» أتموا الصيام إلى الليل
» محكيات من سيرة بوحمارة كما نشرها كتاب غربيون معاصرون له
» لودوفيك دي كامبو: الإمبراطورية المتداعية
» ليلة القبض على " عيشة قنديشة "!!
» أتموا الصيام إلى الليل
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى