سأم الشعر
صفحة 1 من اصل 1
سأم الشعر
قصائد النثر الاولى :
بقلم ناتالي فانسون مونيا ترجمة: محمد آيت لعميم
(العلم الثقافي)
16/7/2010-
توجد قصائد جميلة من دون أبيات، كما توجد أبيات جميلة من دون شعر. Abbe Du Bos) )
هذه
الحقيقة، التي تحيل على حقيقية أدبية هي اليوم مؤسسة بشكل جيد، لم يكن لها
مثل هذا الوضوح في الزمن الذي قيلت فيه. فهي بالعكس تعكس رأيا مازال يحمل
مفارقة توجد في قاب السجلات المتعلقة بالشعر في القرن( 18): أي الصلة بين
النثر والشعر.
فإذا كان هذا القرن يتميز بانعطافة في تاريخ الشعر
الفرنسي من خلال التصدي للهيمنة المطلقة للبيت الشعري، وأيضا بمحاولاته
الأولى للنثر الشعري، فإنه كان يجب أن ننتظر القرن( 18) حتى يلج النثر في
الشعر لتظهر بعد ذلك قصيدة النثر.
هذه
الحقيقة، التي تحيل على حقيقية أدبية هي اليوم مؤسسة بشكل جيد، لم يكن لها
مثل هذا الوضوح في الزمن الذي قيلت فيه. فهي بالعكس تعكس رأيا مازال يحمل
مفارقة توجد في قاب السجلات المتعلقة بالشعر في القرن( 18): أي الصلة بين
النثر والشعر.
فإذا كان هذا القرن يتميز بانعطافة في تاريخ الشعر
الفرنسي من خلال التصدي للهيمنة المطلقة للبيت الشعري، وأيضا بمحاولاته
الأولى للنثر الشعري، فإنه كان يجب أن ننتظر القرن( 18) حتى يلج النثر في
الشعر لتظهر بعد ذلك قصيدة النثر.
نعرف
جيدا دور بودلير في ابتكار ?وأيضا في إشاعة- "نثر شعري، موسيقى بلا إيقاع
ولا قافية"، لكن شكل قصيدة النثر، وبدايات التعرف على نوعها، ظهر قبيل
"سأم باريس"؛ وكان ذلك في بداية القرن( 18 ) مع بعض نصوص كزافيي فور
نوريط، وموريس دوكران أو نصوص ألوسيوس برتراند إن لم نقل لودفيش دوكايو،
وألفونس رابي، أو جول لوفيفر دوميي.
إن نهاية القرن 18 وبداية القرن 19
تشكلان في هذا الصدد مرحلة أساسية في تاريخ الشعر الفرنسي: فبعد التمرد
على إكراهات العروض التي تحققت في ولادة النثر الشعري، فإن ظهور شكل شعري
آخر، أي شكل قصيدة النثر جاء ليحقق قطيعة جمالية ثانية، وليس ثورة شعرية،
تشهد على إحساس بالقلق وتمنح النثر سلطات جديدة وإمكانات شعرية غير
مسبوقة: وهي أيضا تراهن على ابتكار شعر جديد، فقصيدة النثر - خاصة القصائد
الأولى ? أنشأت خطابا شعريا يثير التفكير حول ذاته وذلك من خلال سخريتها
الخاصة محيلة بذلك الشعر على ذاته: إنه "سأم الشعر" في صورة شعرية حديثة.
لقد
بدأ العروض الفرنسي، الخاضع لمعايير ثابتة ولقواعد صارمة، يظهر باعتباره
إكراها منذ القرن 18. إذ مازالت الممارسة الشعرية تمتثل بطريقة واسعة
لجمالية الكلاسيكية الجديدة، محترمة، على العموم، القواعد المسطرة في
القرن 17. ويعد هذا الإنتاج من بقايا شيء مهجور، منتشر بشكل واسع ومثير
لقراء العصر. لكن بعض المنظرين أو بعض الشعراء في كتاباتهم النظرية
يهاجمون هذا الشعر الأكاديمي الذي يروا فيه عائقا للظهور العفوي، والجدي
للحساسية الشعرية: يشبه Fontenelle الفن الشعري "بطاغية يتلذذ بإزعاج
رعاياه، ولا يريدهم أن يبدوا منزعجين". وبالنسبة "لاسشيري" فإنه يسجل أن
الأبيات الشعرية الفرنسية مليئة بالمعاني المحرفة بسبب الطغيان العبثي
للوزن والقافية"، ويعترف Fenelon أن الشعراء الفرنسيين الكبار منزعجون
بالقوانين الصارمة لعروضنا. إذ تعوزهم في بعض الحالات هذه الدرجة من
الوضوح التام"، وهو وضوح ضروري حسب رأيه للكتابة الشعرية، هكذا يظهر
العروض الفرنسي في صورة طاغية، وهذه الصورة انتقدها الفلاسفة بكثرة وتعرضت
إذن لمحاكمة متشابهة.
هذا الشعر الكلاسيكي الجديد، الأداتي بالأساس
والتزييني ? الوصفي- يعبر من خلال إطارات (الرسالة، القصيدة المغناة)
وبلاغة تبدو مستهلكة، عن موضوعات متداولة، مقصيا كل ابتكار، هذا الشعر
يصبح مصدرا للضجر، إن لم نقل إنه يصبح "شيئا مقرفا حقيقة". قادت هذه
البدايات الأولى ل"السأم" شعري بعض الكتاب في نهاية القرن 18 وبداية القرن
19 إلى اختيار أداة شعرية جديدة ونحت نثر ايقاعي،تصويري، قادر على التعبير
عن غنائية وأحاسيس شخصية، لم يعد إطار البيت الكلاسيكي يستطيع احتواءها.
هكذا ينسب لشاتوبريان أو لبعض الناثرين رغبة شعرية خالصة. فاعتبروا بعض
المقاطع المعزولة على هيئة شذرات، من رواية Atala و "الأغاني الهندية"
مثلا ،قصائد حقيقية بدون قافية أو وزن، كتبت بنثر يحتفظ بإيقاع غني بسبب
تأثير الانتظام، نثر يدعى نثرا حسن السبك"، "منغم" أو "موقع".
لكن هذا
النثر، الذي اعتبر شعريا. هو من إنتاج الناثرين، وهو يشكل أداة كتابة
المحكيات. لكن في العشريات الأولى من للقرن 19، استعمل النثر أيضا كتاب
كتبوا شعرا موزونا في شكل أبيات على هيئة نصوص غالبا ما تكون قصيرة
ومستقلة، منغلقة على نفسها ولها وحدتها الخاصة، نصوص أخرى ليست سردية
خالصة، وأدمجوها تدريجيا في إطار القصيدة.
في سنة 1834 ظهرت مثلا،
"شذرات لودفيك دوكايو". هذه النصوص كتبت في نثر قريب، من خلال مضمونها
وأسلوبها، من نثر الناثرين الما قبل رومانسيين: فالاستلهام الديني حاضر
حضورا بارزا، ونجد أيضا حضور "شذرات تاريخية أو مسرحية، ومقاطع غنائية
صرفة"، و"شذرات منفلتة سردية وواقعية". فالنثر في جزء منه من أجل خدمة
التعبير عن الأحاسيس الشخصية (دينية، غرامية) وعن الغنائية: ففي "ليلة فوق
صخور armonique" مثلا، يتم التغني باستحضار حب قديم، مازجا بين وصف مشهد
في منطقة آرموريك وحضور "أنا" الشاعر ويربط، عبر التشبيهات والاستعارات
على الخصوص، تمثيل الطبيعة بطبيعة الكائنات وأحاسيسها :
ليلة فوق صخور آرموريك
الفراشة ترفرف من زهرة اللؤلؤ إلى الياسمين
الطفولة بصراخات الفرح. البنات يتجولن ويغنين تحت أشجار الزيزفون والكستناء.
الفلاح
يصدر أنغاما ريفية بشبابته الآرموريكية، عذراوات بيلير وأطفال روسكوف
بصدفاتهم الهادئة يرتلون ويصلون. وأنت يا كنيسة القديس مارتان دقي الناقوس
الحزين عبر الغابات.
إنها الأشعة الأخيرة للشمس، إنها الترنيمات
الأخيرة للصلاة، والفرح، والألم أيضا هل يوجد شاعر بشفتين من نار يغني ما
لفينته على قيتارته، يختبئ في الضبابة. لست أنا ذاك الشاعر البطولي. لكن
في هذه الساعة من الليل حين نسمع من وقت لآخر الثغاءات الأخيرة للقطعان،
وحين تأتي الخطيبات الشابات للصلاة على درجات الصليب الوحيد في مقبرة
القرية، وحين يحرك النسيم أوتار قيتارتي، وتلمع الذكرى في قلبي إذ ذاك
سأغني. ها هو الليل أتى.
كنت فيما مضى أعرف مالفينة مسيحية شابة، وردة
ربيعية، نمت عاليا على ضفاف المحيط، عشاق كثيرون، كانوا يرسون بطريقة سرية
في المساء على الشاطئ، ينادونها عبثا. أنا الوحيد الذي يعرف إشارة اللقاء.
فكانت تأتي إذن.
براءة تنهداتها تسلب لبي. شعرها كجناح الغراب
المتوحش، كانت دائما شاحبة اللون، لكن شاحبة مثل ورقة الوردة البيضاء.
كانت تبكي وتتألم مع الذين يبكون ويتألمون. نهدها البكر يهتز بهدوء بفعل
قوة الشباب. كالموجة اللازوردية بنسيم الصباح.
كررت اسمها في قلب
الغيوم، الملائكة تعرفه، الفقير باركه وأنا أعبده، وسأكرره في ساعتي
الأخيرة إذ هي لم تكن هناك لتغمض لي جفني، هي التي كانت غالبا تمسح دموعي.
من وجهة نظر أسلوبية وإيقاعية، يذكرنا نثر cailleux الذي يشبه النثر
الشعري في القرن 18 في مناسبات عدة ،بإيقاع البيت الشعري عبر سلسلات أو
قواعد صارمة ملحوظة: في المقطع الرابع، مثلا هناك وحدتان تركيبيتان
قصيرتان، تفتحان ("ليس أنا ذاك الشاعر البطولي" لكن في هذه الساعة الهادئة
من الليل) وتغلقان (سأغني، "ها هو الليل")،حيث نجد تتابعا من الروابط
الزمنية طويلة جدا مكررة ،خطاطات تركيبية وإيقاعية متشابهة؛ ففي المقطع
الأخير، يتحكم البحر الإسكندري في إيقاع كل الجمل، ويتعمق أحيانا هذا
الإيقاع بواسطة القوافي الداخلية (dérière-paupière) ،مع ذلك وبعيدا عن
هذه التشابهات الموضوعاتية والإيقاعية مع النثر الشعري، فنصوص "الشذرات"
تتميز بخاصيتها الشكلية: "ليلة فوق صخور آرموريك" تفتتح بوصف سيتطور إلى
لوحة ريفية حقيقية، لكن انسياب الحياة الرعوية سيشوش بواسطة سلسلة من
القطائع (تتابع كلمات تجسيدية تحيل إلى مرجعيات خاصة ["الفراشة"]. وكلمات
نوعية تشير إلى مفهوم تجريدي ["الطفولة"]، فهناك انتقال، في المقطع الثاني
وفي الجملة ذاتها، من الحاضر إلى صيغة الأمر الذي يعيد بطريقة معكوسة،
الفاعل للجملتين السابقتين، وهناك قطيعة دلالية وإيقاعية في نهاية المقطع
الثالث، وفي المقطع الموالي، هناك تحول جديد في الموضوعة وفي صيغة الجملة،
ثم بعد ذلك هناك تحول الضمير النحوي [مع إدخال ضمير المتكلم "أنا"].
يحصل
الأمر ذاته، فالحركة الثانية للنص تقدم "نشيد" الشاعر في هيئة ذكريات
بصيغة استمرارية: لكن هنا أيضا، يقطع التمدد الغنائي، عبر التقسيم المقطعي
خصوصا، والاستعمال الكثيف للاقتران التضميني، أخيرا، لا يزال الحضور
الإيقاعي للمقطع الأخير يقطع بواسطة مظاهر الانفجار والقفزات الزمنية. كل
هذه التأثيرات للقطع تكسر التتابع السردي الخالص أو التأملي للنص وتجعل
وحدته في مستوى آخر ليس هو مستوى تطور القصة أو الشخصية أو الفكرة. وبصفة
عامة، فشعراء النثر الأوائل يتميزون بإرادة حساسة لإدماج نصوصهم في شكل
القصيدة : من خلال توضيب كتابي (الفقرات، بياضات) مقطعين النص إلى مقاطع
قصيرة، عبر مؤثرات "التأطير (بنيات دائرية، حضور" "اللازمات، تحديد
السياق....) وبواسطة وحدة الأثر. هكذا، فقطع (كاسبار الليل) هي نماذج
أساسية (تعيد التقسيم ذاته من خلال المقاطع) والشاعر Aloysious في
"تعليماته للسيد المكلف بإخراج الصفحات في الديوان، يؤكد على أن يكون
إخراج النصوص جيدا. هناك قاعدة عامة- أترك بياضات كما لو أن النص كان
شعرا. [.....]سيلاحظ السيد المكلف بإخراج الصفحات أن كل قطعة مقسمة إلى
أربع أو خمس أو ست فقرات أو مقاطع، وسيترك بياضات شاسعة بين هذه المقاطع
كما لو أن الأمر يتعلق بمقاطع شعرية....
تتميز قصيدة النثر إذن عن
النثر الشعري بهذه البنية الواضحة للقصيدة وتتفتح أيضا على سجلات متنوعة
(في حين أن كتاب النثر ما قبل الرومانسية يهدفون بالأساس للغنائية)
ومتعددة: سردية، وصفية، إن لم نقل تاريخية أو تأملية. فعناوين "الكتب
المختلفة" ل(كاسبار الليل) تعكس إما رغبة وصفية ? معمارية ( "باريس
القديمة") أو طبيعية (قصيدة خفيفة مرتجلة) أو تشكيلية ("مدرسة فلامانية")
? وإما بعدا سرديا، حكايات أحلام ("الليل وسحره") أو مشاهد لها صلة بالرسم
( "اسبانيا وايطاليا")، وإما أخيرا، كتابة تاريخية ("الأحبار") الأمر نفسه
عند Alphons Rabbe، في الجزء الثالث ألبوم متشائم ? بعنوان "أوقات فراغ
حزينة"، الذي يشتمل على نصوص تعلن جماليتها عن جمالية قصيدة النثر (وتقترب
منها كثيرا) يمزج فيها حكايات قصيرة ("الغرق") بأوصاف الأشياء ("الغليون"،
"المدينة") لكنه يدمجها في مقاطع سردية ? ونجد أيضا البعد الوصفي في "كتاب
المتجول" لجول لوفيفردوميي. أما بالنسبة لموريس دوكران فقصيدتا نثره
المشهورتان "السنتور، والكاهنة" ،إنما تتخذان شكل محكيات الحياة. في حين
أن قصائده الموزونة ،تقترح نفسها دوما باعتبارها مرثيات (في غنائية واضحة
بطريقة مباشرة) وذكريات (يخلي فيها السرد المكان للتأمل العاطفي أو الحضور
العاطفي) أو "الأحلام اليقظة" (حيث تهيمن، هنا أيضا، ذاتية العواطف
الشخصية).
إذن، فقصيدة النثر تشكل تطورا جديدا في علاقتها بالنثر
الشعري. وإذا كان ابتكار النثر الشعري يمثل قطيعة جذرية مع البيت الشعري
الموزون، بما أنه يسمح للشعرية أن تنحشر في شكل تعبيري هو محتفظ به إلى
الآن لميادين أخرى، فإن قصيدة النثر نفسها، تبرز الدخول الحقيقي لنصوص
النثر إلى حقل الشعر. هذا النثر وهذه النصوص، وهي تتشكل في قصائد كما هو
الأمر بالنسبة للقصائد الموزونة، تمتلك قيمة شعرية عالية ويمكنها إذن أن
تجرب سجلات تعتبرها الشعرية القديمة غير شعرية (محتفظة بوحدة الأثر
الشعري) لقد وسعت قصيدة النثر بهذا الدخول الشعري ،حقل الشعرية ،وأسهمت
إذن في تعديلها وتعديل معاييرها.
لكن الممكنات الافتراضية الأكثر
تجديدية التي أدمجها نثر قصيدة النثر توجد فيما وراء المضمون الأسلوبي،
والموضوعاتي أو النوعي للخطاب الشعري. إنها أصابت الأساس نفسه لهذه اللغة
الشعرية، ذلك أنها تحديدا لم تعد لغة البيت الشعري الموزون. لقد وضحت جيدا
Barbara jonson كيف أن "قصائد النثر الصغيرة" مركزة على وضعية اللا بيت
فيها، تستدعي نصا كتب بطريقة الأبيات حيث هذه القصائد توضح الاشتغال
المجازي والشعري من خلال "غلو غنائي" و"تسطيح للصور"، وهكذا تكون "لغة
كتبت بطريقة حرفية". لم يعد الخطاب الشعري يحيل سوى إلى عمله الخاص،
وينهدم من تلقاء نفسه، فالشعر لم يدخل فقط إلى عصر الارتياب، وإنما دخل
إلى وضعية المداهنة والازدواج ،حيث يقال في اللحظة نفسها التي يقول فيها،
لقد دخل إلى حالة من السخرية والهزء بحيث يوضح التنافر بين الرؤية الشعرية
وتمثيل الواقع، وينعكس فيها الإحساس السأمي الذي يغير، في النسق
الميتافيزيقي، الصدمة المعيشة بين الواقع والمثال.
فالانجازات الأولى
لجمالية قصيدة النثر- كل قصائد النثر الأولى إن أمكننا القول- إن هي لم
تقترح نماذج خطاب ذي مرجعية ذاتية مثل هذه، فإنها على الأقل تحيل من خلال
بعض المظاهر إلى أدبيتها الخاصة وتشتمل في الغالب على آليات تناصية. ومن
تم، فإن decalleux يقترح إعادة كتابة للانجيل، في حين أن التناص عند
Guerun هو مرتبط أساسا بالاسطورة، وعند Bertrand مرتبط بالصورة والتشكيل.
هذا الأخير، في العصر نفسه، أحدث، من خلال استعماله، صدعا في الخطاب
الشعري تحدى به التمثيل وخلط الحدود بين الواقع والفانطاستيك، بين الهزلي
والتراجيدي، لكن وفي هذا الصدد، فقصائد Xavier من دون شك، هي التي تبرز
الإمكانيات الممنوحة للشعر بواسطة النثر، خصوصا في قصائد مجموعته "قطعة من
قطع" "الحلم هو "، مثلا، تكشف في حكي حلمي، عن سلسلة من ظواهر التقطعات
(الإيقاعية، والتركيبية، والمنطقية، والزمنية، والتلفظية...)، وفي نص آخر
هو "جوهرة العشب" يوظف بغزارة الأفكار الرومانسية المألوفة، لكن ازدواجية
لعب الكتابة يهدمها من الداخل ويرهن خيوط الخطاب الشعري؛ أما نص "يأس" فهو
يشتغل كلية على صيغة خيبة الأمل :
يأس
لست أدري إن كانت النحلة التي
تطن وتخز، والنسر الذي يبوق ويمزق، والكلب الضخم الذي ينبح ويعض، والغراب
الذي ينعق وينبش، والتمساح الذي يبكي ويبتلع، والفيل الذي يصأى وينقلب،
والبازي الذي يصرصر ويمزق، والبوم الذي ينعق ويقلع العيون، والأسد الذي
يزأر ويقلب الأرض، والببغاء الذي يشتم وقد يقود إلى الموت، والخنزير البري
الذي يقبع ويجتث، والثعبان الذي يفح ويلتف، والنمر الذي يخرخر ويفترس- لا
أدري إن كانت هذه الرباعيات والزواحف والطيور تترك جراحا في ما تلمسه.
كفعل الذي تنتظره ولا يأتي، يلقي بنا وسط قلب المرارة قطرة قطرة، ووسط
التمزق الجارح، الحي.
لست أدري: - لكن شابا وهو يدخل بيته، أتريدون
أن أقول لكم أية حجة سيبرهن بها على يأسه، وأن ساعة الميعاد لم تأته سوى
بصوت جرس بدل صوت معشوقته؟ - نعم، قد كان سعيدا أن يلمس كل ليلة هذه
المعشوقة- وأنه وهو عائد إلى غرفته، كان يمر بالقرب من أمه وكان يقبلها،
مجازفا بإيقاظها كي يقول لها كذبة. هذه الليلة لن يقبلها.
يجعلنا
العنوان نترقب محكيا لقصة غرامية والحالة هذه فالفقرة الأولى لا ترتبط إلا
بمقارنتها النهائية ("تنتظر"، "قلب"، "المرارة") التي تحيل، فضلا عن ذلك،
وبطريقة انعكاسية إلى موضوع الانتظار الخائب، زد على ذلك، فخيبة الأمل هذه
تتعمق بمجرد أن وجه الشبه بين المشبه (الآلام الذي يحدثه الانتظار الغرامي
الخائب) والمشبه به (الهجومات الحيوانية) لا يعلل إلا بطريقة بعيدة جدا،
ولا يستند إلا على الكلمة الثانية من كل جزء من التعداد ("نجز"، "يمزق"،
يعض") الكلمة ("ظنين" ، البوق" ، "النباح") باعتبارها عديمة الجدوى في
بلورة الصورة لا تبدو حاضرة إلا لكي تمدد مجانيا التعداد (وإذن تمدد
انتظار القارئ)، والذي من جراء هذا التطويل يصير دائرا في الفراغ، ولا
تعمل هذه الكلمات إلا على الإشارة لصيغ اشتغال للصورة النهائية بدل أن
تخدمها. فالمقطع الثاني، بإدماجه لشخصيات ، انما يملأ أخيرا انتظارات
العنوان. لكن هنا أيضا، كل شيء هو ممارسة هدم لهذه التوقعات: فعلى المستوى
الخطابي، يزاح التطور السردي والمسار الخطي المرتقب بواسطة التشابكات
الزمنية؛ وفيما يتعلق بالتلفظ، فالتدخلات المباشرة للسارد والتصييغات تسهم
في تشويش خيط الحكي، وأخيرا على المستوى الدلالي والإيقاعي، "حجة اليأس"
المضخمة في تمثيلها، تنفجر بطريقة ساخرة في التركيب النهائي القصير.
فالعمل
السردي يخفق إذن، كما أخفق التمثيل في التعداد الطويل جدا في الفقرة
الأولى، فالحكاية المرتقبة لم تنجز أو أنها أنجزت بعيدا (بين الأم وابنها)
وبهذا الصنيع توحي بانتظار جديد. وبما أن قصيدة النثر هي في الآن نفسه
تمثل وهدم لهذا التمثيل، وهي خطاب شعري وإظهار للاشتغال الشعري، فإنها
تعتبر مكانا للتمزق. وقد بين Fornoret في مناسبات شتى هذا الإحساس
بالتنافر بين البحث الشعري والوصول إليه في الواقع؛ "كل شيء نحس به، لكن
لا نستطيع أبدا إخراجه-" أو أيضا "الكاتب يفهم الشعر كما لو أنه لا يستطيع
أبدا إنجازه [.....] بالنسبة له، في هذا العالم، الشعر على العموم، هو
حلمه: لكن حينما يكتب، يكون ذلك في اليقظة، وهذه اليقظة تكبله، يجد نفسه
في حالة سيئة ومرة يجد نفسه في حالة جيدة. لقد أحس كل شيء، ولم يقل شيئا،
بما أنه قال ذلك، بطريقته".
بما أن السأم الميتافيزيقي يجعل الكائن
مزدوجا، فإن قصيدة النثر تترجم بداخلها هذا السأم، فهي في الآن نفسه، تدفق
وانقطاع، ولعب على هذه الانكسارات، وهي في الآن نفسه تصوير، ولا تصوير،
وتشويه، تقول سأم شعر لم يعد يقال أبدا إلا في صيغة السخرية. شعر، في
النصف الأول من القرن 18، لم يعد ممكنا أن يقول نفسه: فشعراء النثر
الأوائل يسمون نصوصهم "قطعة من القطع" Fornoret ، و "أوقات فراغ حزينة"
Rabbé و"لوحات مضحكة" Bertrand ،لكن لا يدعونها أبدا "قصائد نثر". يجب لكي
يحدث هذا.. انتظار مجيء بودلير و "قصائد نثره الصغيرة"، لكن سأم قصائد
النثر الأولى سيستمر في قصائد النثر الصغيرة، وبما أنها نشأت في باريس،
فإنها لن تغادر ثنائيتها وتنافرها: ألا ينبغي أن يكون نثر هذه القصائد
"لينا بما فيه الكفاية، ومتنافرا أيضا كي يتلاءم في الآن نفسه والحركات
الغنائية للروح، وتموجات حلم اليقظة، والقفزات الفجائية للوعي أليس الشعر
في الآن نفسه سريالية وسخرية؟.
جيدا دور بودلير في ابتكار ?وأيضا في إشاعة- "نثر شعري، موسيقى بلا إيقاع
ولا قافية"، لكن شكل قصيدة النثر، وبدايات التعرف على نوعها، ظهر قبيل
"سأم باريس"؛ وكان ذلك في بداية القرن( 18 ) مع بعض نصوص كزافيي فور
نوريط، وموريس دوكران أو نصوص ألوسيوس برتراند إن لم نقل لودفيش دوكايو،
وألفونس رابي، أو جول لوفيفر دوميي.
إن نهاية القرن 18 وبداية القرن 19
تشكلان في هذا الصدد مرحلة أساسية في تاريخ الشعر الفرنسي: فبعد التمرد
على إكراهات العروض التي تحققت في ولادة النثر الشعري، فإن ظهور شكل شعري
آخر، أي شكل قصيدة النثر جاء ليحقق قطيعة جمالية ثانية، وليس ثورة شعرية،
تشهد على إحساس بالقلق وتمنح النثر سلطات جديدة وإمكانات شعرية غير
مسبوقة: وهي أيضا تراهن على ابتكار شعر جديد، فقصيدة النثر - خاصة القصائد
الأولى ? أنشأت خطابا شعريا يثير التفكير حول ذاته وذلك من خلال سخريتها
الخاصة محيلة بذلك الشعر على ذاته: إنه "سأم الشعر" في صورة شعرية حديثة.
لقد
بدأ العروض الفرنسي، الخاضع لمعايير ثابتة ولقواعد صارمة، يظهر باعتباره
إكراها منذ القرن 18. إذ مازالت الممارسة الشعرية تمتثل بطريقة واسعة
لجمالية الكلاسيكية الجديدة، محترمة، على العموم، القواعد المسطرة في
القرن 17. ويعد هذا الإنتاج من بقايا شيء مهجور، منتشر بشكل واسع ومثير
لقراء العصر. لكن بعض المنظرين أو بعض الشعراء في كتاباتهم النظرية
يهاجمون هذا الشعر الأكاديمي الذي يروا فيه عائقا للظهور العفوي، والجدي
للحساسية الشعرية: يشبه Fontenelle الفن الشعري "بطاغية يتلذذ بإزعاج
رعاياه، ولا يريدهم أن يبدوا منزعجين". وبالنسبة "لاسشيري" فإنه يسجل أن
الأبيات الشعرية الفرنسية مليئة بالمعاني المحرفة بسبب الطغيان العبثي
للوزن والقافية"، ويعترف Fenelon أن الشعراء الفرنسيين الكبار منزعجون
بالقوانين الصارمة لعروضنا. إذ تعوزهم في بعض الحالات هذه الدرجة من
الوضوح التام"، وهو وضوح ضروري حسب رأيه للكتابة الشعرية، هكذا يظهر
العروض الفرنسي في صورة طاغية، وهذه الصورة انتقدها الفلاسفة بكثرة وتعرضت
إذن لمحاكمة متشابهة.
هذا الشعر الكلاسيكي الجديد، الأداتي بالأساس
والتزييني ? الوصفي- يعبر من خلال إطارات (الرسالة، القصيدة المغناة)
وبلاغة تبدو مستهلكة، عن موضوعات متداولة، مقصيا كل ابتكار، هذا الشعر
يصبح مصدرا للضجر، إن لم نقل إنه يصبح "شيئا مقرفا حقيقة". قادت هذه
البدايات الأولى ل"السأم" شعري بعض الكتاب في نهاية القرن 18 وبداية القرن
19 إلى اختيار أداة شعرية جديدة ونحت نثر ايقاعي،تصويري، قادر على التعبير
عن غنائية وأحاسيس شخصية، لم يعد إطار البيت الكلاسيكي يستطيع احتواءها.
هكذا ينسب لشاتوبريان أو لبعض الناثرين رغبة شعرية خالصة. فاعتبروا بعض
المقاطع المعزولة على هيئة شذرات، من رواية Atala و "الأغاني الهندية"
مثلا ،قصائد حقيقية بدون قافية أو وزن، كتبت بنثر يحتفظ بإيقاع غني بسبب
تأثير الانتظام، نثر يدعى نثرا حسن السبك"، "منغم" أو "موقع".
لكن هذا
النثر، الذي اعتبر شعريا. هو من إنتاج الناثرين، وهو يشكل أداة كتابة
المحكيات. لكن في العشريات الأولى من للقرن 19، استعمل النثر أيضا كتاب
كتبوا شعرا موزونا في شكل أبيات على هيئة نصوص غالبا ما تكون قصيرة
ومستقلة، منغلقة على نفسها ولها وحدتها الخاصة، نصوص أخرى ليست سردية
خالصة، وأدمجوها تدريجيا في إطار القصيدة.
في سنة 1834 ظهرت مثلا،
"شذرات لودفيك دوكايو". هذه النصوص كتبت في نثر قريب، من خلال مضمونها
وأسلوبها، من نثر الناثرين الما قبل رومانسيين: فالاستلهام الديني حاضر
حضورا بارزا، ونجد أيضا حضور "شذرات تاريخية أو مسرحية، ومقاطع غنائية
صرفة"، و"شذرات منفلتة سردية وواقعية". فالنثر في جزء منه من أجل خدمة
التعبير عن الأحاسيس الشخصية (دينية، غرامية) وعن الغنائية: ففي "ليلة فوق
صخور armonique" مثلا، يتم التغني باستحضار حب قديم، مازجا بين وصف مشهد
في منطقة آرموريك وحضور "أنا" الشاعر ويربط، عبر التشبيهات والاستعارات
على الخصوص، تمثيل الطبيعة بطبيعة الكائنات وأحاسيسها :
ليلة فوق صخور آرموريك
الفراشة ترفرف من زهرة اللؤلؤ إلى الياسمين
الطفولة بصراخات الفرح. البنات يتجولن ويغنين تحت أشجار الزيزفون والكستناء.
الفلاح
يصدر أنغاما ريفية بشبابته الآرموريكية، عذراوات بيلير وأطفال روسكوف
بصدفاتهم الهادئة يرتلون ويصلون. وأنت يا كنيسة القديس مارتان دقي الناقوس
الحزين عبر الغابات.
إنها الأشعة الأخيرة للشمس، إنها الترنيمات
الأخيرة للصلاة، والفرح، والألم أيضا هل يوجد شاعر بشفتين من نار يغني ما
لفينته على قيتارته، يختبئ في الضبابة. لست أنا ذاك الشاعر البطولي. لكن
في هذه الساعة من الليل حين نسمع من وقت لآخر الثغاءات الأخيرة للقطعان،
وحين تأتي الخطيبات الشابات للصلاة على درجات الصليب الوحيد في مقبرة
القرية، وحين يحرك النسيم أوتار قيتارتي، وتلمع الذكرى في قلبي إذ ذاك
سأغني. ها هو الليل أتى.
كنت فيما مضى أعرف مالفينة مسيحية شابة، وردة
ربيعية، نمت عاليا على ضفاف المحيط، عشاق كثيرون، كانوا يرسون بطريقة سرية
في المساء على الشاطئ، ينادونها عبثا. أنا الوحيد الذي يعرف إشارة اللقاء.
فكانت تأتي إذن.
براءة تنهداتها تسلب لبي. شعرها كجناح الغراب
المتوحش، كانت دائما شاحبة اللون، لكن شاحبة مثل ورقة الوردة البيضاء.
كانت تبكي وتتألم مع الذين يبكون ويتألمون. نهدها البكر يهتز بهدوء بفعل
قوة الشباب. كالموجة اللازوردية بنسيم الصباح.
كررت اسمها في قلب
الغيوم، الملائكة تعرفه، الفقير باركه وأنا أعبده، وسأكرره في ساعتي
الأخيرة إذ هي لم تكن هناك لتغمض لي جفني، هي التي كانت غالبا تمسح دموعي.
من وجهة نظر أسلوبية وإيقاعية، يذكرنا نثر cailleux الذي يشبه النثر
الشعري في القرن 18 في مناسبات عدة ،بإيقاع البيت الشعري عبر سلسلات أو
قواعد صارمة ملحوظة: في المقطع الرابع، مثلا هناك وحدتان تركيبيتان
قصيرتان، تفتحان ("ليس أنا ذاك الشاعر البطولي" لكن في هذه الساعة الهادئة
من الليل) وتغلقان (سأغني، "ها هو الليل")،حيث نجد تتابعا من الروابط
الزمنية طويلة جدا مكررة ،خطاطات تركيبية وإيقاعية متشابهة؛ ففي المقطع
الأخير، يتحكم البحر الإسكندري في إيقاع كل الجمل، ويتعمق أحيانا هذا
الإيقاع بواسطة القوافي الداخلية (dérière-paupière) ،مع ذلك وبعيدا عن
هذه التشابهات الموضوعاتية والإيقاعية مع النثر الشعري، فنصوص "الشذرات"
تتميز بخاصيتها الشكلية: "ليلة فوق صخور آرموريك" تفتتح بوصف سيتطور إلى
لوحة ريفية حقيقية، لكن انسياب الحياة الرعوية سيشوش بواسطة سلسلة من
القطائع (تتابع كلمات تجسيدية تحيل إلى مرجعيات خاصة ["الفراشة"]. وكلمات
نوعية تشير إلى مفهوم تجريدي ["الطفولة"]، فهناك انتقال، في المقطع الثاني
وفي الجملة ذاتها، من الحاضر إلى صيغة الأمر الذي يعيد بطريقة معكوسة،
الفاعل للجملتين السابقتين، وهناك قطيعة دلالية وإيقاعية في نهاية المقطع
الثالث، وفي المقطع الموالي، هناك تحول جديد في الموضوعة وفي صيغة الجملة،
ثم بعد ذلك هناك تحول الضمير النحوي [مع إدخال ضمير المتكلم "أنا"].
يحصل
الأمر ذاته، فالحركة الثانية للنص تقدم "نشيد" الشاعر في هيئة ذكريات
بصيغة استمرارية: لكن هنا أيضا، يقطع التمدد الغنائي، عبر التقسيم المقطعي
خصوصا، والاستعمال الكثيف للاقتران التضميني، أخيرا، لا يزال الحضور
الإيقاعي للمقطع الأخير يقطع بواسطة مظاهر الانفجار والقفزات الزمنية. كل
هذه التأثيرات للقطع تكسر التتابع السردي الخالص أو التأملي للنص وتجعل
وحدته في مستوى آخر ليس هو مستوى تطور القصة أو الشخصية أو الفكرة. وبصفة
عامة، فشعراء النثر الأوائل يتميزون بإرادة حساسة لإدماج نصوصهم في شكل
القصيدة : من خلال توضيب كتابي (الفقرات، بياضات) مقطعين النص إلى مقاطع
قصيرة، عبر مؤثرات "التأطير (بنيات دائرية، حضور" "اللازمات، تحديد
السياق....) وبواسطة وحدة الأثر. هكذا، فقطع (كاسبار الليل) هي نماذج
أساسية (تعيد التقسيم ذاته من خلال المقاطع) والشاعر Aloysious في
"تعليماته للسيد المكلف بإخراج الصفحات في الديوان، يؤكد على أن يكون
إخراج النصوص جيدا. هناك قاعدة عامة- أترك بياضات كما لو أن النص كان
شعرا. [.....]سيلاحظ السيد المكلف بإخراج الصفحات أن كل قطعة مقسمة إلى
أربع أو خمس أو ست فقرات أو مقاطع، وسيترك بياضات شاسعة بين هذه المقاطع
كما لو أن الأمر يتعلق بمقاطع شعرية....
تتميز قصيدة النثر إذن عن
النثر الشعري بهذه البنية الواضحة للقصيدة وتتفتح أيضا على سجلات متنوعة
(في حين أن كتاب النثر ما قبل الرومانسية يهدفون بالأساس للغنائية)
ومتعددة: سردية، وصفية، إن لم نقل تاريخية أو تأملية. فعناوين "الكتب
المختلفة" ل(كاسبار الليل) تعكس إما رغبة وصفية ? معمارية ( "باريس
القديمة") أو طبيعية (قصيدة خفيفة مرتجلة) أو تشكيلية ("مدرسة فلامانية")
? وإما بعدا سرديا، حكايات أحلام ("الليل وسحره") أو مشاهد لها صلة بالرسم
( "اسبانيا وايطاليا")، وإما أخيرا، كتابة تاريخية ("الأحبار") الأمر نفسه
عند Alphons Rabbe، في الجزء الثالث ألبوم متشائم ? بعنوان "أوقات فراغ
حزينة"، الذي يشتمل على نصوص تعلن جماليتها عن جمالية قصيدة النثر (وتقترب
منها كثيرا) يمزج فيها حكايات قصيرة ("الغرق") بأوصاف الأشياء ("الغليون"،
"المدينة") لكنه يدمجها في مقاطع سردية ? ونجد أيضا البعد الوصفي في "كتاب
المتجول" لجول لوفيفردوميي. أما بالنسبة لموريس دوكران فقصيدتا نثره
المشهورتان "السنتور، والكاهنة" ،إنما تتخذان شكل محكيات الحياة. في حين
أن قصائده الموزونة ،تقترح نفسها دوما باعتبارها مرثيات (في غنائية واضحة
بطريقة مباشرة) وذكريات (يخلي فيها السرد المكان للتأمل العاطفي أو الحضور
العاطفي) أو "الأحلام اليقظة" (حيث تهيمن، هنا أيضا، ذاتية العواطف
الشخصية).
إذن، فقصيدة النثر تشكل تطورا جديدا في علاقتها بالنثر
الشعري. وإذا كان ابتكار النثر الشعري يمثل قطيعة جذرية مع البيت الشعري
الموزون، بما أنه يسمح للشعرية أن تنحشر في شكل تعبيري هو محتفظ به إلى
الآن لميادين أخرى، فإن قصيدة النثر نفسها، تبرز الدخول الحقيقي لنصوص
النثر إلى حقل الشعر. هذا النثر وهذه النصوص، وهي تتشكل في قصائد كما هو
الأمر بالنسبة للقصائد الموزونة، تمتلك قيمة شعرية عالية ويمكنها إذن أن
تجرب سجلات تعتبرها الشعرية القديمة غير شعرية (محتفظة بوحدة الأثر
الشعري) لقد وسعت قصيدة النثر بهذا الدخول الشعري ،حقل الشعرية ،وأسهمت
إذن في تعديلها وتعديل معاييرها.
لكن الممكنات الافتراضية الأكثر
تجديدية التي أدمجها نثر قصيدة النثر توجد فيما وراء المضمون الأسلوبي،
والموضوعاتي أو النوعي للخطاب الشعري. إنها أصابت الأساس نفسه لهذه اللغة
الشعرية، ذلك أنها تحديدا لم تعد لغة البيت الشعري الموزون. لقد وضحت جيدا
Barbara jonson كيف أن "قصائد النثر الصغيرة" مركزة على وضعية اللا بيت
فيها، تستدعي نصا كتب بطريقة الأبيات حيث هذه القصائد توضح الاشتغال
المجازي والشعري من خلال "غلو غنائي" و"تسطيح للصور"، وهكذا تكون "لغة
كتبت بطريقة حرفية". لم يعد الخطاب الشعري يحيل سوى إلى عمله الخاص،
وينهدم من تلقاء نفسه، فالشعر لم يدخل فقط إلى عصر الارتياب، وإنما دخل
إلى وضعية المداهنة والازدواج ،حيث يقال في اللحظة نفسها التي يقول فيها،
لقد دخل إلى حالة من السخرية والهزء بحيث يوضح التنافر بين الرؤية الشعرية
وتمثيل الواقع، وينعكس فيها الإحساس السأمي الذي يغير، في النسق
الميتافيزيقي، الصدمة المعيشة بين الواقع والمثال.
فالانجازات الأولى
لجمالية قصيدة النثر- كل قصائد النثر الأولى إن أمكننا القول- إن هي لم
تقترح نماذج خطاب ذي مرجعية ذاتية مثل هذه، فإنها على الأقل تحيل من خلال
بعض المظاهر إلى أدبيتها الخاصة وتشتمل في الغالب على آليات تناصية. ومن
تم، فإن decalleux يقترح إعادة كتابة للانجيل، في حين أن التناص عند
Guerun هو مرتبط أساسا بالاسطورة، وعند Bertrand مرتبط بالصورة والتشكيل.
هذا الأخير، في العصر نفسه، أحدث، من خلال استعماله، صدعا في الخطاب
الشعري تحدى به التمثيل وخلط الحدود بين الواقع والفانطاستيك، بين الهزلي
والتراجيدي، لكن وفي هذا الصدد، فقصائد Xavier من دون شك، هي التي تبرز
الإمكانيات الممنوحة للشعر بواسطة النثر، خصوصا في قصائد مجموعته "قطعة من
قطع" "الحلم هو "، مثلا، تكشف في حكي حلمي، عن سلسلة من ظواهر التقطعات
(الإيقاعية، والتركيبية، والمنطقية، والزمنية، والتلفظية...)، وفي نص آخر
هو "جوهرة العشب" يوظف بغزارة الأفكار الرومانسية المألوفة، لكن ازدواجية
لعب الكتابة يهدمها من الداخل ويرهن خيوط الخطاب الشعري؛ أما نص "يأس" فهو
يشتغل كلية على صيغة خيبة الأمل :
يأس
لست أدري إن كانت النحلة التي
تطن وتخز، والنسر الذي يبوق ويمزق، والكلب الضخم الذي ينبح ويعض، والغراب
الذي ينعق وينبش، والتمساح الذي يبكي ويبتلع، والفيل الذي يصأى وينقلب،
والبازي الذي يصرصر ويمزق، والبوم الذي ينعق ويقلع العيون، والأسد الذي
يزأر ويقلب الأرض، والببغاء الذي يشتم وقد يقود إلى الموت، والخنزير البري
الذي يقبع ويجتث، والثعبان الذي يفح ويلتف، والنمر الذي يخرخر ويفترس- لا
أدري إن كانت هذه الرباعيات والزواحف والطيور تترك جراحا في ما تلمسه.
كفعل الذي تنتظره ولا يأتي، يلقي بنا وسط قلب المرارة قطرة قطرة، ووسط
التمزق الجارح، الحي.
لست أدري: - لكن شابا وهو يدخل بيته، أتريدون
أن أقول لكم أية حجة سيبرهن بها على يأسه، وأن ساعة الميعاد لم تأته سوى
بصوت جرس بدل صوت معشوقته؟ - نعم، قد كان سعيدا أن يلمس كل ليلة هذه
المعشوقة- وأنه وهو عائد إلى غرفته، كان يمر بالقرب من أمه وكان يقبلها،
مجازفا بإيقاظها كي يقول لها كذبة. هذه الليلة لن يقبلها.
يجعلنا
العنوان نترقب محكيا لقصة غرامية والحالة هذه فالفقرة الأولى لا ترتبط إلا
بمقارنتها النهائية ("تنتظر"، "قلب"، "المرارة") التي تحيل، فضلا عن ذلك،
وبطريقة انعكاسية إلى موضوع الانتظار الخائب، زد على ذلك، فخيبة الأمل هذه
تتعمق بمجرد أن وجه الشبه بين المشبه (الآلام الذي يحدثه الانتظار الغرامي
الخائب) والمشبه به (الهجومات الحيوانية) لا يعلل إلا بطريقة بعيدة جدا،
ولا يستند إلا على الكلمة الثانية من كل جزء من التعداد ("نجز"، "يمزق"،
يعض") الكلمة ("ظنين" ، البوق" ، "النباح") باعتبارها عديمة الجدوى في
بلورة الصورة لا تبدو حاضرة إلا لكي تمدد مجانيا التعداد (وإذن تمدد
انتظار القارئ)، والذي من جراء هذا التطويل يصير دائرا في الفراغ، ولا
تعمل هذه الكلمات إلا على الإشارة لصيغ اشتغال للصورة النهائية بدل أن
تخدمها. فالمقطع الثاني، بإدماجه لشخصيات ، انما يملأ أخيرا انتظارات
العنوان. لكن هنا أيضا، كل شيء هو ممارسة هدم لهذه التوقعات: فعلى المستوى
الخطابي، يزاح التطور السردي والمسار الخطي المرتقب بواسطة التشابكات
الزمنية؛ وفيما يتعلق بالتلفظ، فالتدخلات المباشرة للسارد والتصييغات تسهم
في تشويش خيط الحكي، وأخيرا على المستوى الدلالي والإيقاعي، "حجة اليأس"
المضخمة في تمثيلها، تنفجر بطريقة ساخرة في التركيب النهائي القصير.
فالعمل
السردي يخفق إذن، كما أخفق التمثيل في التعداد الطويل جدا في الفقرة
الأولى، فالحكاية المرتقبة لم تنجز أو أنها أنجزت بعيدا (بين الأم وابنها)
وبهذا الصنيع توحي بانتظار جديد. وبما أن قصيدة النثر هي في الآن نفسه
تمثل وهدم لهذا التمثيل، وهي خطاب شعري وإظهار للاشتغال الشعري، فإنها
تعتبر مكانا للتمزق. وقد بين Fornoret في مناسبات شتى هذا الإحساس
بالتنافر بين البحث الشعري والوصول إليه في الواقع؛ "كل شيء نحس به، لكن
لا نستطيع أبدا إخراجه-" أو أيضا "الكاتب يفهم الشعر كما لو أنه لا يستطيع
أبدا إنجازه [.....] بالنسبة له، في هذا العالم، الشعر على العموم، هو
حلمه: لكن حينما يكتب، يكون ذلك في اليقظة، وهذه اليقظة تكبله، يجد نفسه
في حالة سيئة ومرة يجد نفسه في حالة جيدة. لقد أحس كل شيء، ولم يقل شيئا،
بما أنه قال ذلك، بطريقته".
بما أن السأم الميتافيزيقي يجعل الكائن
مزدوجا، فإن قصيدة النثر تترجم بداخلها هذا السأم، فهي في الآن نفسه، تدفق
وانقطاع، ولعب على هذه الانكسارات، وهي في الآن نفسه تصوير، ولا تصوير،
وتشويه، تقول سأم شعر لم يعد يقال أبدا إلا في صيغة السخرية. شعر، في
النصف الأول من القرن 18، لم يعد ممكنا أن يقول نفسه: فشعراء النثر
الأوائل يسمون نصوصهم "قطعة من القطع" Fornoret ، و "أوقات فراغ حزينة"
Rabbé و"لوحات مضحكة" Bertrand ،لكن لا يدعونها أبدا "قصائد نثر". يجب لكي
يحدث هذا.. انتظار مجيء بودلير و "قصائد نثره الصغيرة"، لكن سأم قصائد
النثر الأولى سيستمر في قصائد النثر الصغيرة، وبما أنها نشأت في باريس،
فإنها لن تغادر ثنائيتها وتنافرها: ألا ينبغي أن يكون نثر هذه القصائد
"لينا بما فيه الكفاية، ومتنافرا أيضا كي يتلاءم في الآن نفسه والحركات
الغنائية للروح، وتموجات حلم اليقظة، والقفزات الفجائية للوعي أليس الشعر
في الآن نفسه سريالية وسخرية؟.
بقلم ناتالي فانسون مونيا ترجمة: محمد آيت لعميم
(العلم الثقافي)
16/7/2010-
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» حول حجب جائزة الشعر بالمغرب !
» الشعر والايديولوجيا
» يوم الشعر العالمي
» الشعر المغربي
» ملف عن الشاعر محمد بنطلحة (الاتحاد الاشتراكي الثقافي)
» الشعر والايديولوجيا
» يوم الشعر العالمي
» الشعر المغربي
» ملف عن الشاعر محمد بنطلحة (الاتحاد الاشتراكي الثقافي)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى