عنصرية المتنبي
صفحة 1 من اصل 1
عنصرية المتنبي
أثناء البحث في مجال الأدب المقارن، لم يكن هينا أن نجد معادلا للشاعر
الإنجليزي الكبير «جون دون» بين شعراء العربية، على كثرتهم ونبوغهم.
فالاختلاف الكبير بين البيئتين والثقافتين العربية والإنجليزية جعل مواضيع
شعرهم صعبة المقارنة. «جون دون» زعيم المدرسة الميتافيزيقية شاعر قوي اللغة
والمواضيع، كتب في الفلسفة، كما في الفكر والسياسة، فكان يهجو جهة ويدني
من شأنها، ويمدح أخرى ويعظم من قدرها. كانت لغة شعره جميلة غير معهودة،
منسابة دون تعقيد، مع أنها جمعت الحكمة الفلسفية وبعض التأملات الصوفية.
الشاعر «جون دون» كان كذلك يحب أن يكون له منصب ريادي في عالم السياسة،
وكان عضوا في البرلمان الإنجليزي.
في هذه المقارعة النقدية بين أصدقاء أمريكيين يدرسون الأدب المقارن،
اقترحت الشاعر «المتنبي» ليكون ندا للشاعر «جون دون» الإنجليزي، لأنني أظن
أنه الشاعر العربي الذي يعادله في قوة أشعاره وجمال لغته، ويشبهه في الطموح
لنيل مراتب سياسية. «أبو الطيب المتنبي»، الذي تنوعت أشعاره بين الهجاء
والفخر والمدح، يشبه الإنجليزي «جون دون»، لأنه كان يطمح دائما إلى ولاية
سياسية، وظل يمني نفسه بمجد وزعامة لم يرض بغيرهما، فهو، مثل «جون دون»،
شاعر معتد بنفسه، يمدح دون التخلي عن تعاليه وكبريائه، فكان لا يمدح
الأمراء والولاة دون أن يهب لنفسه أبياتا من الفخر والاعتداد بمزاياه، كانت
غاية في القوة والجمال، يمجد فيها من خصاله وفروسيته الشعرية حين يقول
مثلا:
و ما الدهر إلا من رُواةِ قصائدي.. إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشدا
المفاجأة هي أن اقتراحي المتنبي كمعادل للشاعر «جون دون» لم يلق أي ترحيب،
بل بالعكس من ذلك تسبب لي في إحراج حقيقي، بعدما اتهم العديد من زملائي
المتنبي بالعنصرية بسبب هجائه الشهير لكافور الإخشيدي، الذي صب عليه جام
غضبه الشعري وحنقه عليه لتماطله في إكرامه ومنحه ما وعده من مجد سياسي.
أحسست أن كل جمال شعر المتنبي وتمكنه الفذ من ناصية اللغة لم يشفعا له في
النقد الحديث لأن هجاءه كافور الإخشيدي يظهر اليوم خطيئة عنصرية وجريمة
صنفته في مركز متساو مع الأمريكيين الذين جلبوا الأفارقة ليستعبدوهم، مع ما
اقترفه نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا. الأبيات التي كتبها المتنبي
يوما ما في حقبة بعيدة أصبحت تقرأ في القرن الواحد والعشرين كأشعار عنصرية.
وبعد ظهور القوانين المناهضة للعنصرية أصبحت السخرية الجارحة، التي جلد
بها المتنبي كافور بسبب اختلاف لونه، تهمة ضد الإنسانية. فهل كان المتنبي
حقا شاعرا عنصريا؟
لا يمكن بأي حال أن نقرأ الأعمال الأدبية خارج ظروفها الذاتية والتاريخية،
وتحليل شعر المتنبي، بدوره، يجب ألا ينفصل عن السياق السياسي التي كتب فيه،
فهجاؤه كافور نبع من خذلان هذا الأخير له، وعدم وفائه بوعوده، حيث استقدمه
لينال بواسطته الشهرة والمدح، ولكنه لم يكرمه. والمتنبي كتب هجاءه القاسي
لأنه ينتمي إلى بيئة ثقافية ذات اقتناع بالقبلية والتحيز والعصبية. أن يقرأ
هجاء المتنبي بأنه شعر عنصري، فهذا يحز في قلب عاشقيه ومريديه، لأن ذلك
يختصر ترسانة قصائده كلها في قصيدة واحدة. قصيدة هجاء كافور، القاسية
والقوية باستعاراتها وتشبيهاتها لغويا، يجب أن تقرأ في سياقها التاريخي، أو
تحت ما يصطلح عليه في النقد الأدبي الحديث حاليا «The New Historicism»،
والذي ببساطة يقر بأن النقد الموجه للأعمال الأدبية يجب أن لا يتم بمنأى عن
المقومات الفكرية في الحقبة الزمنية التي أنتج داخلها، فبعد مئات السنين
من التغييرات الاجتماعية والجغرافية والسياسية التي اجتازها العالم، لا يجب
تقييم الأدباء والروائيين والشعراء بمعايير الحقبة الحالية.
وإذا كان العديد من النقاد يصرون على اتهام المتنبي بالعنصرية، ويختصرون
ثراء شعره في قصيدة هجاء، ويغمضون أعينهم عن تمكنه من اللغة، مثل تمكن
الفرسان من لجام أفراسهم، ويمعنون في إلصاق تهمة العنصرية به، ويغمضون
أعينهم عن جمال لغته الطاغي، وقدرته على ترويض الكلمات وجعلها تأتمر
بإمرته، وتخضع لسلطته الشاعرية الفذة، فلا يجب إغفال أن الشاعر «جون دون»
بدوره كتب شعر الهجاء وركب جناح الخيال في أبيات لم تخل من عنصرية صريحة ضد
المرأة حين يقول: «لننسب الروح إلى أي كان، ولنقتنع بأنه إذا ما كانت
تملكها امرأة فهذا يعني أن الروح ليست ذات شأن» أو حين يقول: «إذا ما نحن
رأينا الأطباء يقولون بوجود فضائل معينة لبعض السموم، فكيف لنا، مع الأسف،
أن نستثني منها النساء؟».
كل من «جون دون» والمتنبي قد يتعرضان لإجحاف كبير إذا ما تمت قراءة
أشعارهما الفذة خارج سياقها التاريخي والاجتماعي. الأول بصفته شاعرا في
القرن السادس عشر في المجتمع الإنجليزي المحافظ الذي يعامل المرأة كرمز
للسوء والرذيلة، و«المتنبي» الذي نظم أبيات هجائه في كافور داخل سياق من
الأحداث والصراعات السياسية في حقبة طغت عليها العصبية القبلية. قراءة
الأعمال الفنية والأدبية يجب أن تتم داخل تاريخيتها، كما يقول «ميشيل
فوكو»، لأن ذلك يجعل الحكم عليها محايدا، ويحافظ على قيمتها الفنية مهما مر
الزمن.
سلوى ياسين
المساء
22~4~ 2011
الإنجليزي الكبير «جون دون» بين شعراء العربية، على كثرتهم ونبوغهم.
فالاختلاف الكبير بين البيئتين والثقافتين العربية والإنجليزية جعل مواضيع
شعرهم صعبة المقارنة. «جون دون» زعيم المدرسة الميتافيزيقية شاعر قوي اللغة
والمواضيع، كتب في الفلسفة، كما في الفكر والسياسة، فكان يهجو جهة ويدني
من شأنها، ويمدح أخرى ويعظم من قدرها. كانت لغة شعره جميلة غير معهودة،
منسابة دون تعقيد، مع أنها جمعت الحكمة الفلسفية وبعض التأملات الصوفية.
الشاعر «جون دون» كان كذلك يحب أن يكون له منصب ريادي في عالم السياسة،
وكان عضوا في البرلمان الإنجليزي.
في هذه المقارعة النقدية بين أصدقاء أمريكيين يدرسون الأدب المقارن،
اقترحت الشاعر «المتنبي» ليكون ندا للشاعر «جون دون» الإنجليزي، لأنني أظن
أنه الشاعر العربي الذي يعادله في قوة أشعاره وجمال لغته، ويشبهه في الطموح
لنيل مراتب سياسية. «أبو الطيب المتنبي»، الذي تنوعت أشعاره بين الهجاء
والفخر والمدح، يشبه الإنجليزي «جون دون»، لأنه كان يطمح دائما إلى ولاية
سياسية، وظل يمني نفسه بمجد وزعامة لم يرض بغيرهما، فهو، مثل «جون دون»،
شاعر معتد بنفسه، يمدح دون التخلي عن تعاليه وكبريائه، فكان لا يمدح
الأمراء والولاة دون أن يهب لنفسه أبياتا من الفخر والاعتداد بمزاياه، كانت
غاية في القوة والجمال، يمجد فيها من خصاله وفروسيته الشعرية حين يقول
مثلا:
و ما الدهر إلا من رُواةِ قصائدي.. إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشدا
المفاجأة هي أن اقتراحي المتنبي كمعادل للشاعر «جون دون» لم يلق أي ترحيب،
بل بالعكس من ذلك تسبب لي في إحراج حقيقي، بعدما اتهم العديد من زملائي
المتنبي بالعنصرية بسبب هجائه الشهير لكافور الإخشيدي، الذي صب عليه جام
غضبه الشعري وحنقه عليه لتماطله في إكرامه ومنحه ما وعده من مجد سياسي.
أحسست أن كل جمال شعر المتنبي وتمكنه الفذ من ناصية اللغة لم يشفعا له في
النقد الحديث لأن هجاءه كافور الإخشيدي يظهر اليوم خطيئة عنصرية وجريمة
صنفته في مركز متساو مع الأمريكيين الذين جلبوا الأفارقة ليستعبدوهم، مع ما
اقترفه نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا. الأبيات التي كتبها المتنبي
يوما ما في حقبة بعيدة أصبحت تقرأ في القرن الواحد والعشرين كأشعار عنصرية.
وبعد ظهور القوانين المناهضة للعنصرية أصبحت السخرية الجارحة، التي جلد
بها المتنبي كافور بسبب اختلاف لونه، تهمة ضد الإنسانية. فهل كان المتنبي
حقا شاعرا عنصريا؟
لا يمكن بأي حال أن نقرأ الأعمال الأدبية خارج ظروفها الذاتية والتاريخية،
وتحليل شعر المتنبي، بدوره، يجب ألا ينفصل عن السياق السياسي التي كتب فيه،
فهجاؤه كافور نبع من خذلان هذا الأخير له، وعدم وفائه بوعوده، حيث استقدمه
لينال بواسطته الشهرة والمدح، ولكنه لم يكرمه. والمتنبي كتب هجاءه القاسي
لأنه ينتمي إلى بيئة ثقافية ذات اقتناع بالقبلية والتحيز والعصبية. أن يقرأ
هجاء المتنبي بأنه شعر عنصري، فهذا يحز في قلب عاشقيه ومريديه، لأن ذلك
يختصر ترسانة قصائده كلها في قصيدة واحدة. قصيدة هجاء كافور، القاسية
والقوية باستعاراتها وتشبيهاتها لغويا، يجب أن تقرأ في سياقها التاريخي، أو
تحت ما يصطلح عليه في النقد الأدبي الحديث حاليا «The New Historicism»،
والذي ببساطة يقر بأن النقد الموجه للأعمال الأدبية يجب أن لا يتم بمنأى عن
المقومات الفكرية في الحقبة الزمنية التي أنتج داخلها، فبعد مئات السنين
من التغييرات الاجتماعية والجغرافية والسياسية التي اجتازها العالم، لا يجب
تقييم الأدباء والروائيين والشعراء بمعايير الحقبة الحالية.
وإذا كان العديد من النقاد يصرون على اتهام المتنبي بالعنصرية، ويختصرون
ثراء شعره في قصيدة هجاء، ويغمضون أعينهم عن تمكنه من اللغة، مثل تمكن
الفرسان من لجام أفراسهم، ويمعنون في إلصاق تهمة العنصرية به، ويغمضون
أعينهم عن جمال لغته الطاغي، وقدرته على ترويض الكلمات وجعلها تأتمر
بإمرته، وتخضع لسلطته الشاعرية الفذة، فلا يجب إغفال أن الشاعر «جون دون»
بدوره كتب شعر الهجاء وركب جناح الخيال في أبيات لم تخل من عنصرية صريحة ضد
المرأة حين يقول: «لننسب الروح إلى أي كان، ولنقتنع بأنه إذا ما كانت
تملكها امرأة فهذا يعني أن الروح ليست ذات شأن» أو حين يقول: «إذا ما نحن
رأينا الأطباء يقولون بوجود فضائل معينة لبعض السموم، فكيف لنا، مع الأسف،
أن نستثني منها النساء؟».
كل من «جون دون» والمتنبي قد يتعرضان لإجحاف كبير إذا ما تمت قراءة
أشعارهما الفذة خارج سياقها التاريخي والاجتماعي. الأول بصفته شاعرا في
القرن السادس عشر في المجتمع الإنجليزي المحافظ الذي يعامل المرأة كرمز
للسوء والرذيلة، و«المتنبي» الذي نظم أبيات هجائه في كافور داخل سياق من
الأحداث والصراعات السياسية في حقبة طغت عليها العصبية القبلية. قراءة
الأعمال الفنية والأدبية يجب أن تتم داخل تاريخيتها، كما يقول «ميشيل
فوكو»، لأن ذلك يجعل الحكم عليها محايدا، ويحافظ على قيمتها الفنية مهما مر
الزمن.
سلوى ياسين
المساء
22~4~ 2011
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
مواضيع مماثلة
» أول من بحث عن رحلة المتنبي من الفسطاط إلى الكوفة
» الآخر في شعر المتنبي: الثقافة العنصرية
» رحلة وهروب المتنبي من الفسطاط إلى الكوفة
» الآخر في شعر المتنبي: الثقافة العنصرية
» رحلة وهروب المتنبي من الفسطاط إلى الكوفة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى