كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
صفحة 1 من اصل 1
كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
إدمون دوتي، ترجمة: عبد الرحيم حزل
بيان اليوم
- 1 -
يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا
بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون
دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة.
وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم
مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة
وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة
واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء
حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً
من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل
حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
المغاربة لا يتصورون مملكتهم بحدود معلومة، بل على أنها جماع من الأقوام الخاضعة
الشاوية
الرحلة
من الدار البيضاء إلى أزمور... سهلة يسيرة، بقدر ما هي مملة رتيبة. فهي
تسير بطول ساحل رملي خفيض. وطبيعة الأرض تجعل المسير فيها أمراً ممتعاً،
لكن السائح يسير فيها لا يلاقي بصره نتوءاً في الأرض مهما كان هيناً
ضئيلاً. والمسافة لا تزيد عن خمسة وسبعين كيلومتراً، لا تكلف المسافرين
العجِلين وكذا الرقاصة غير يوم واحد. وأما القوافل فيكلفها قطع تلك المسافة
في العادة يومين اثنين؛ بمعدل خمسة كيلومترات في الساعة؛ وذلك هو مسيرها
العادي متى كانت الدواب ثقيلة الحمولة، فتستغرقها الرحلة بين ثلاث عشرة أو
أربع عشرة ساعة تقطعها على مرحلتين؛ فتمر بقسم من تراب الشاوية وتراب
دكالة، للتوجه من الدار البيضاء إلى مدينة مولاي بوشعيب.
معنى كلمة الشاوية
يجدر
بنا ههنا أن نشير إلى أن كلمة «الشاوية» تدل على مجموعة من الناس لا على
مجال ترابي. فيكون الأوروبيون يخطئون هم الذين اعتادوا أن يقولوا «الشاوية»
يريدون بها البلد الذي تشغله القبائل المعروفة بهذا الاسم. وقد وجدنا بعض
المؤلفين، بله وجدنا بعض مشاهير المؤلفين، قد اعتمدوا هذه التسمية
وعمَّموها؛ فمنهم الذين يكتبون « Châouia La» و»La Rehâmna»، ومنهم الذين
يؤثرون استعمال صيغة الإفراد فيقولون، وإن كانوا يخطئون أيضاً، «le
Châouia» و»Le Rehâmna»، إلخ. فهذه الكلمات تأتي جميعاً في اللغة العربية
بصيغة الجمع : «الشاوية» و»الرحامنة»، وينبغي أن نجعل ترجمتها إلى الفرنسية
«les Châouia» و»Les Rehâmna»، إلخ. وأما كلمة «الشاوية»، في حد ذاتها فهي
صيغة الجمع من الاسم الموصول «الشاوي»، وأما صيغة الجمع منه في اللغة
الفصيحة فهي «الشاويون»، المشتقة من «الشاتون»؛ والمراد بها «الشاهاتون»،
النعاج، ومعناها «أصحاب قطعان الأغنام»؛ وقد أصبحوا يعرفون بعدئذ
بـ»الرعاة». ويسميهم الحسن الوزان «Soaua»، ويعرفهم بأنهم : «رعاة الشاء
[وهم] شعب يعيش عيشة العرب». وقد كان ابن خلدون سبقه إلى التعريف نفسه. ثم
صار هذا الاسم في ما بعدُ اسماً عرقياً بحق؛ فكذلك نجده عند مارمول، ولدى
المؤرخين العرب اللاحقين. وما بدأنا نجد من المؤرخين من يقول «الشاوية»،
بصيغة الجمع اسماً علماً للناس، إلا في مطلع القرن الخامس عشر، وبعيْد
الفترة التي كتب فيها ابن خلدون. ونحن نجد هذا المؤلف البارز يستعمل هذه
الكلمة تارة لا يزيد بها عن صفة؛ أي بمعنى الرعاة، ويستعملها تارة أخرى
بمعنى حراس القطعان الملكية. كما نجده في بعض المواضع يستعملها بمزيد من
التدقيق كصفة عرقية، فيقترب بها من معناها الحالي.
أصول الشاوية
وجدنا
كاريت في حديث بليغ في كتابه عن «هجرات القبائل الجزائرية» يبين أن السكان
الذين يقال لهم في شمال إفريقيا «الشاوية» هم خليط من زناتة وهوارة. ومن
المعلوم أن هؤلاء قد انتشروا في سائر أنحاء شمال إفريقيا بعد أن ظلوا
منحصرين لوقت طويل عند تخوم إفريقيا وبلاد طرابلس؛ وربما لا يوجد شعب أكثر
تشتتاً منهم في هذه الناحية. وهم مثل زناتة قد كانوا شبه معربين، ويقتصرون
في عيشهم على الرعي، إلى حد أن البعض يحملهم أحياناً على العرب. وقد
وجدناهم في مواضع كثيرة مختلطين بزناتة، التي يبدو أنهم قد قاسموهم مصائرهم
وارتبطوا وإياهم بروابط الإقطاع. واليوم صرنا نجد اسم الشاوية يشمل زناتة
وهوارة في سوس، ولدى أولاد سيدي بوشعيب (وهي مجموعة مختلطة في رمشي بولاية
تلمسان)، وفي الدواير فليتا (وهي مجموعة مختلطة في لهليل بولاية مستغانم)،
وفي بني منا (وهي مجموعة مختلطة في تنيس بولاية أوليانفيل). لكن هذا الاسم
يُطلق أكثر ما يُطلق على سكان الهدْفة الجبلية الكبيرة في الأوراس، جنوبي
ولايد قسنطينة. ويبدو بالفعل أن هذا اللفظ الذي ألف العرب أن يطلقوه على
الساكنة الأمازيغية قد اصطبغ ولا يزال بمسحة من الاحتقار؛ لذلك يرفضه سكان
الأوراس ولا يرضون أن يتسموا به، بينما يقبل به السكان من بقية المجموعات
التي أتينا على ذكرها وبه يُعرفون إلى اليوم، ومنهم الشاوية على الساحل
الأطلسي من المغرب. ويجدر بالتذكير في الأخير أن اسم «شوا» Choa، حسبما
يفيدنا كامبفماير وهارتمان، إنما هو مشتق من كلمة «شاوية».
تامسنا القديمة
كانت
بلاد الشاوية التي في القسم من الساحل المغربي تسمى من قبل «تامسنا». ونحن
نرى «بلاد» تامسنا في بداية تاريخ المغرب تحتلها مصمودة، إخوة مصمودة
الذين في الأطلس، والذين سيقومون في ما بعد بتأسيس أكبر إمبراطورية عرفها
شمال إفريقيا، وهم المسمون تحديداً ببرغواطة. وقد أفرد البكري وابن خلدون
وصاحب «القرطاس» صفحات غاية في الطرافة لملحمة هذا الشعب وخرافة نبيه الذي
جاء بدين على غرار دين محمد، إلى أن كان القضاء عليه بأيدي المرابطين في
حملتهم الدينية.
تاريخا تامسنا
بقيت
تامسنا متلفة خربة لزمن طويل، ومن المحتمل أن هؤلاء المتعصبين قد أسكنوا
من بني جلدتهم صنهاجة في هذا المكان؛ ومن المحتمل أن يكونوا وجدوا بعضهم
لدى البرغواطيين. ثم وجدنا بعد ذلك المنصور، السلطان الموحدي القوي، وهو
أول من شجع على دخول الأعراب إلى المغرب، والذي اعترف وهو على فراش الموت
بأنه ارتكب فيه خطأ سياسياً، وجدناه يُدخل في تامسنا قسماً من الأقوام
المعروفين باسم عام هو «جشم»، وإن هو إلا اسم قسم منهم. وقد كان أهل جشم
الذين في تامسنا من قبل لا يشتملون على جشم بمعناهم الحقيقي، بل كانوا
جميعاً من الخلط من سفيان ومن عاصم من بني جابر. وقد كان هؤلاء الأعراب
يمارسون هناك أعمال اللصوصية، وبها أصبحوا يُعرفون بصورة سيئة في المغرب،
بيد أنهم لم يستطيعوا البقاء هناك، ومن المحتمل أن يكونوا تعرضوا للاكتساح
من زناتة وهوارة الذين حملهم المرينيون وإياهم، وبلغوا شأواً بعيداً من
التحضر. ومما لاشك فيه أن الاندماج كان سهلاً يسيراً بين هؤلاء القادمين
الجدد الأمازيغ ذوي التقاليد الشبيهة بتقاليد الأعراب، وأسلافهم الذين لاشك
أنهم قد اكتسحوهم ليصيروا الشاوية الذين نراهم اليوم يسودون هذا البلد بعد
اضطرابات وتحولات كثيرة.
تامسنا الحالية
لقد
اختفت اليوم جميع الأسماء القديمة، لكننا لا نزال نجد في الشاوية قبيلة من
زناتة، وفخدة من الخلط، الذين باتوا يُعرفون اليوم بخلُط، أو بالأحرى
الخلُط، بزيادة أداة التعريف. وأما اسم «تامسنا»، وهو اسم غير معروف للكثير
من الأوروبيين، فلا يزال إلى اليوم كثير الاستعمال، بيد أن الأهالي
يحملونه على معنى أضيق مما كان متداولاً لدى المؤلفين القدامى. فهم يعتقدون
أن تامسنا لا يدخل فيها غير التراب الذي تشغله القبائل الأربع : «أولاد
البوزيري» و»المزامزة» و»أولاد سيدي بن داود» و»أولاد سعيد». ثم إنهم
يذهبون إلى اسم «تامسنا» ربما كان يدل على الأرض لا على الناس. وبطبيعة
الحال فلا يُقال للرجل «تامسني»، بينما يُقال له «شاوي». لكننا نعلم أن
الغالبية العظمى من الأسماء الجغرافية قد كانت في مبتدئها أسماء عرقية، وقد
كان يمكن لكلمة «تامسنا» نفسها أن تؤكد هذه القاعدة إن صح أنها توافق
القواعد التي وضعها بطليموس وتوافق «الماسينيين» الذين تحدث عنهم
أنطونينوس؛ وهذا هو الرأي الذي يذهب إليه كاريت، لولا أن علماء الآثار
يرجحون أن جمع هاتين الكلمتين في باسم قبيلة «مكناسة». وأما مطابقة
«الباكوات» مع برغواطة يبدو أقرب إلى الصواب. لكن يبدو أن هذا الاسم قد زال
واختفى نهائياً بزوال الأقوام الذين كانوا يحملونه. إلا أننا نجد هذا
الاسم قد ظل معروفاً لدى أولاد صامد، من قبيلة أولاد سعيد؛ فقد أكد لي بعض
الأهالي هناك أنهم ينحدرون من صالح بن طريف، ولكن نظن أن المسالة لا تعدو
أن تكون ذكريات مبهمة.
مفهوم المملكة عند المغاربة
وعليه
فإن أسماء الشاوية والرحامنة...، إلخ. تدل على مجموعات بشرية أكثر مما تدل
على مجالات ترابية. ففي هذه الحالة، كما في حالات أخرى عديدة، تكون الغلبة
في أذهان المغاربة للتصور العرقي على التصور الترابي للمملكة التي يعيشون
فيها. ذلك بأن بيننا والمسلمين فارقاً مكيناً في تصورهم للمملكة وتصورنا
للإمبراطورية. فعندنا أن العنصر المهين في هذه الفكرة هو المتمثل في
الحدود. وقد شكل مفهوم الحدود عائقاً لنا لوقت طويل عن فهم مدلول المملكة
في بلدان المغرب، وكان سبباً في الأخطاء التي اعتورت تمثلنا لهذا الأمر
جملة وتفصيلاً، وكان مصدراً للأخطاء التي اعتورت تصورنا لتكون المغرب
بمعناه الصحيح، لكنه تصور عاد في آخر الأمر بالفائدة عليه. إن المغاربة لا
يتصورون، أو إنهم كانوا على الأقل إلى وقت قريب لا يزالون لا يتصورون
مملكتهم بحدود معلومة، بل يقوم تصورهم لها على أنها جماع من الأقوام
الخاضعة. وإن جهلنا بهذه الحقيقة طوال نصف قرن من الزمان هو الذي كان وراء
القرارات البليدة والمشينة ظلت تتخبط فيها سياستنا المتعلقة بالحدود
الجزائرية المغربية لوقت طويل.
القبيلة المغربية
تنقسم
الشاوية إلى اثنتي عشرة قبيلة، وهو الاسم الذي استعمله الأوروبيون
والمؤلفون القدامى الذين كتبوا عن المغرب وكانوا يريدون به ما أصبح يعرف
عند المعاصرين باسم القبيلة. و»القبيلة» هو الاسم المتداول في عموم المغرب،
وهو متداول في سائر بلدان شمال أفريقيا، لكن أكثر شيوعاً في المغرب. وأما
في الجزائر فلا يزالون يقولون «العرش» أو «النجع». قال بيل : «إنهم
يستعملون هذه الأسماء الثلاثة من غير تفريق، لكن توجد بينها فروقات دقيقة.
فـ»النجع» هو القبيلة المتوسطة، و»العرش» هو القبيلة الصغيرة و»القبيلة»
أكبر منهما معاً». غير أن الاسم الغلب على الاستعمال في الجزائر هو
«العرش»، وقد ساهمت الإدراة في التوسيع من نطاق استعماله إذا كانت تكاد
تقتصر عليه في محرراتها العربية. وأما سكان جرجرة فيُسمون في مجموعهم
«قبايل»، ومهن اشتق الجزائريون اسم قبايل وقبايلي، وهما كلمتان شديدتا
اختلاف عن اللفظ شائع الاستعمال في المغرب. وأعتقد أن هذا التشابه قد كان
مصدراً لما لاعد له من أوجه الخلط والالتباس التي اعتورت المراسلات بين
الجزائر والمغرب، خاصة ما كانت تتناقل منها قصاصات وكالات الأخبار. وأما
شاوية الأوراس الذي يستهجنون هذا الاسم، كما أسلفنا القول، فإنهم يسمون
أنفسهم «هاقبايل»، شأنهم شأن أهل القبايل. ونجد مؤلفين آخرين قد جاءوا
بأوجه من العبارة نفسها لتسمية تجمعات أخرى من البربر.
قدم اسم «القبيلة»
وكلمة
«القبيلة» من الأسماء القديمة جداً، فأنت تجدها في شعر ما قبل الإسلام،
وإن تكن فيه قليلة ورود؛ فلا نعرف لها فيه غير أمثلة قليلة يأتي فيها على
صيغة الجمع. ويكثر ورود هذه الكلمة في نصوص النثر [العربية] القديمة
والمعاصرة. ولا تغيب هذه الكلمة، بعكس ما يذهب إليه كدينفلت، في اللغة
المعاصرة المتداولة في المشرق. فهذا لاندبيرغ يفيدنا أن اسم القبيلة يُجعل
في جنوب شبه الجزيرة العربية للقبيلة المنتسبة إلى أحد الأجداد من البدو،
وتكون هذه القبيلة على انسجام ووحدة، لكن تسير إلى اتساع بما يداخلها من
الأعداد الكبيرة من الوافدين. وتكون القبائل على قدر متفاوت من الاتساع ومن
الترابط في ما بينها، بحيث يصعب الجزم في معظم الأحيان بأن هذه الواحدة من
هذه المجموعات البشرية تستحق بالفعل لقب «القبيلة». ولا تجد لدى الأهالي
خاصة في المغرب عرفاً أو استعمالاً ثابتاً يلتزمونه ولا يخرجون عنه. علاوة
على أن تنظيم القبائل والمدن في شمال إفريقيا وتوزيعها وأسماءها ووظائفها
تعتبر من الأمور التي لا يزال يلفها الغموض والالتباس. وقد سعى ماسكراي إلى
معالجة هذه الأمور في دراسته للقبايل والأوراس وامزاب، ثم على نراه ضمن
كتابه كذلك، على الرغم من ذلك العنوان فيه - [تشكل الحواضر لدى الساكنة
المقيمة في الجزائر] – الكثير من الأخيار والمعلومات عن القبائل الرحل.
ونحن نقف في هذا الكتاب كذلك على الاختلاف الكبير الذي يوجد بين كلمتي
«العرش» و»القبيلة» لدى امزاب والقبايل.
التنظيم الاجتماعي عند العرب
لم
يترك لنا الكتاب العرب معلومات ضافية عن المسالة، حيث ظلوا مشدودين – كما
في أمكان أخرى – إلى الجانب النظري دونما تساؤل عن طبيعة أنظمتهم
الاجتماعية هل كانت مسايرة للأحداث والتحولات أم لا؟ وسنورد هنا بعض
المقتطفات من كتابتهم :
«يشير ابن الكلبي نقلاً عن أبيه أن الشعب أكبر
من القبيلة التي تأتي الإمارة ثم البطن ثم الفخذ». وذكر آخر في ترتيبها من
الأكبر إلى الأصغر ما يلي : «الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة،
ثم الذرية، ثم العشرة، ثم الأسرة».
ثم جاء نوفل أفندي نعمة الله بعكس
ذلك وقال : «تقسم العرب في اصطلاح علماء النسب، إلى طوائف أعمها الشعب وأخص
منه القبيلة ثم العمارة ثم البطن والبطون هم أوساط الأنسباء في القرب من
الجد الأعلى والبعد عنه ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة وهم أدنى الأقارب
فالشعوب في القبائل مثل بني مضر والقبائل مثل بني قيس بن غيلان بن مضر
والعمائر مثل سعد بن قيس بن غيلان والبطون مثل بني ذبيان بن مغيض بن ريث بن
غطفان والفصائل مثل بني فزازة والعشائر مثل بي بدر الفزاري».
والذي
يبدو أن كل ما ذكرنا لا يأتي بتجلية لهذه المسألة. وخاصة أن اسم «قبيلة» في
المغرب يشتمل في ما يبدو على معاني متغايرة. والأقوام الناطقون
بالأمازيغية لهم فيها تسميات مختلفة كلياً، ستسنح لنا فرص للحدث عنها في ما
يقبل من هذا الكتاب. إنه فصل في علم اجتماع شمال إفريقيا لا يزال ينتظر من
يكتبه.
الخروج من الدار البيضاء
(25
مارس 1901). تركت قافلتنا الصغيرة في الساعة التاسعة صباحاً قنصلية فرنسا
وخرجت من المدينة من باب الكبير. اليوم الاثنين، وهو اليوم الذي ينعقد فيه
السوق أمام هذا الباب، فيتزايد نشاطه فوق ما يكون في بقية الأسبوع. فصرنا
نشق لنا بصعوبة طريقاً وسط الحشد الكثيف من أصحاب البرانس البيضاء
والصهباء، وبينها المتسخ والمرقع. الطقس بالغ الجمال وساطع النور بحيث تدس
سطوعها كله في نتوءات ثناياها الاقمشة الباذخة. ثم تجاوزنا آخر البيوت في
ضاحية الدار البيضاء، ولم تلبث أن حجبها عنا مرتفع من الأرض صغير. إنه
«كركور»؛ أي كومة مقدسة من الحجارة، يقوم علامة على الموضع الذي منه يرى
المسافر الذي يأتي إلى أزمور، لأول مرة، مدينة مولاي بوشعيب. وهو اسم الولي
المسلم لهذه المدينة، الذي لا يفوت المؤمنين الأتقياء أن يأتوا للتبرك به
في الموضع ووضع حجر على ذلك الكركور.
وللمدن والقبائل والقرى في المغرب،
كما في باقي بلدان شمال إفريقيا، أولياؤها الدينيون. فأنت تعرف على الفور
البلد الذي منه المسلم التقي بالانتباه إلى اسم الولي الذي يكثر من ترديده
في حديثه. فأهل فاس يحلفون بمولاي إدريس، وأهل مراكش يحتجون بسيدي بلعباس
السبتي، وأهل سوس يعتدُّون بسيدي احماد أوموسى...، إلخ. وإذا ذُكر أمامك
اسم أحد كبار الأولياء هذه وجب أن تقول تأدباً : «شاي الله».
سيدي بليوط
إن
ولي الدار البيضاء الذي يحيطه الناس بالكثير من التوقير قد كان إلى منتصف
القرن الماضي [التاسع عشر] يكاد يكون مجهولاً. فلم يكن ضريحه يزيد عن بيت
بائس يقوم على حراسته رجل يدعى بلمكناسي، الذي جعل من نفسه مقدماً عليه.
وما تسنى جمع مبلغ من الماء غير يسير إلا في سنة 1851م سخر في بناء «قبة»
ضريح الحالية. ويقال إن سيدي بيلوط كان شريفاً «ركراكياً»، والخرافة تنسب
إليه بركة الحضور في كل مكان. والحجاج يأتون إليه للتبرك منه قبل التوجه
إلى مكة. وما أعظم دهشتهم إذا جاءوا إلى تلك المدينة المقدسة فيجدون هناك
سيدي بليوط بعد أن كانوا يعتقدون أنهم تركوه في ذلك المكان البعيد! ويقال
إن الماء الذي ينزل في الدار البيضاء، وينزل خاصة على «قبة» سيدي بيلوط له
خصائص عجيبة، فكل من شرب منه لابد أن يعود إلى الدارالبيضاء، ولو شط به
البعاد إلى أقاصي المعمور. ويقال كذلك إن لسيدي بليوط بركة التحكم في
الحيوان؛ فقد كان يتجول تحيط به الأسود، ومنها جاء اسمه سيدي بليوط، الذي
لا يعدو أن يكون تحريفاً للاسم الفصيح «أبو الليوث».
ضاحية الدار البيضاء
الدار
البيضاء مترامية لا يحيط بها البصر، والسهل المنبسط إلا من بعض تموجات
هينة تتوزعه الأراضي المزروعة والمساحات التي تركت يبعمرها نبات البروق،
فيشيع في الأرجاء رائحة تمازجها حرافة، وزرابي من الأدريون تكسو بعض تلك
النواحي تخالطها أزهار الأدريون التزيينية الجميلة الشائعة لدى الجزائريين
(الشيح)، ولسيناتها الطويلة ينعكس عليها البريق المخملي الزهيرات
الأرجواني، فتكون مع رؤيسات اللؤلؤيات وتويجات اللُّبينات، فتكون حاشية
وافرة على المعطف المتحرك للشعير الأخضر. فتشكل لوحة تتميز خصوبة وغنى.
فكيف يقدر لها أن تختلط بصور الخراب والأسى؟ فقد بدأت تلك الحشرة القاتلة
ترسل فلولها على هذه الأنحاء؛ إنه «الجراد الجوال»، المرعب للفلاحين في
إفريقيا، الذي بدأت نذره تظهر في سائر أنحاء هذه المنطقة.
بيان اليوم
- 1 -
يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا
بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون
دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة المذكورة.
وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم
مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة
وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة
واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء
حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً
من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل
حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
المغاربة لا يتصورون مملكتهم بحدود معلومة، بل على أنها جماع من الأقوام الخاضعة
الشاوية
الرحلة
من الدار البيضاء إلى أزمور... سهلة يسيرة، بقدر ما هي مملة رتيبة. فهي
تسير بطول ساحل رملي خفيض. وطبيعة الأرض تجعل المسير فيها أمراً ممتعاً،
لكن السائح يسير فيها لا يلاقي بصره نتوءاً في الأرض مهما كان هيناً
ضئيلاً. والمسافة لا تزيد عن خمسة وسبعين كيلومتراً، لا تكلف المسافرين
العجِلين وكذا الرقاصة غير يوم واحد. وأما القوافل فيكلفها قطع تلك المسافة
في العادة يومين اثنين؛ بمعدل خمسة كيلومترات في الساعة؛ وذلك هو مسيرها
العادي متى كانت الدواب ثقيلة الحمولة، فتستغرقها الرحلة بين ثلاث عشرة أو
أربع عشرة ساعة تقطعها على مرحلتين؛ فتمر بقسم من تراب الشاوية وتراب
دكالة، للتوجه من الدار البيضاء إلى مدينة مولاي بوشعيب.
معنى كلمة الشاوية
يجدر
بنا ههنا أن نشير إلى أن كلمة «الشاوية» تدل على مجموعة من الناس لا على
مجال ترابي. فيكون الأوروبيون يخطئون هم الذين اعتادوا أن يقولوا «الشاوية»
يريدون بها البلد الذي تشغله القبائل المعروفة بهذا الاسم. وقد وجدنا بعض
المؤلفين، بله وجدنا بعض مشاهير المؤلفين، قد اعتمدوا هذه التسمية
وعمَّموها؛ فمنهم الذين يكتبون « Châouia La» و»La Rehâmna»، ومنهم الذين
يؤثرون استعمال صيغة الإفراد فيقولون، وإن كانوا يخطئون أيضاً، «le
Châouia» و»Le Rehâmna»، إلخ. فهذه الكلمات تأتي جميعاً في اللغة العربية
بصيغة الجمع : «الشاوية» و»الرحامنة»، وينبغي أن نجعل ترجمتها إلى الفرنسية
«les Châouia» و»Les Rehâmna»، إلخ. وأما كلمة «الشاوية»، في حد ذاتها فهي
صيغة الجمع من الاسم الموصول «الشاوي»، وأما صيغة الجمع منه في اللغة
الفصيحة فهي «الشاويون»، المشتقة من «الشاتون»؛ والمراد بها «الشاهاتون»،
النعاج، ومعناها «أصحاب قطعان الأغنام»؛ وقد أصبحوا يعرفون بعدئذ
بـ»الرعاة». ويسميهم الحسن الوزان «Soaua»، ويعرفهم بأنهم : «رعاة الشاء
[وهم] شعب يعيش عيشة العرب». وقد كان ابن خلدون سبقه إلى التعريف نفسه. ثم
صار هذا الاسم في ما بعدُ اسماً عرقياً بحق؛ فكذلك نجده عند مارمول، ولدى
المؤرخين العرب اللاحقين. وما بدأنا نجد من المؤرخين من يقول «الشاوية»،
بصيغة الجمع اسماً علماً للناس، إلا في مطلع القرن الخامس عشر، وبعيْد
الفترة التي كتب فيها ابن خلدون. ونحن نجد هذا المؤلف البارز يستعمل هذه
الكلمة تارة لا يزيد بها عن صفة؛ أي بمعنى الرعاة، ويستعملها تارة أخرى
بمعنى حراس القطعان الملكية. كما نجده في بعض المواضع يستعملها بمزيد من
التدقيق كصفة عرقية، فيقترب بها من معناها الحالي.
أصول الشاوية
وجدنا
كاريت في حديث بليغ في كتابه عن «هجرات القبائل الجزائرية» يبين أن السكان
الذين يقال لهم في شمال إفريقيا «الشاوية» هم خليط من زناتة وهوارة. ومن
المعلوم أن هؤلاء قد انتشروا في سائر أنحاء شمال إفريقيا بعد أن ظلوا
منحصرين لوقت طويل عند تخوم إفريقيا وبلاد طرابلس؛ وربما لا يوجد شعب أكثر
تشتتاً منهم في هذه الناحية. وهم مثل زناتة قد كانوا شبه معربين، ويقتصرون
في عيشهم على الرعي، إلى حد أن البعض يحملهم أحياناً على العرب. وقد
وجدناهم في مواضع كثيرة مختلطين بزناتة، التي يبدو أنهم قد قاسموهم مصائرهم
وارتبطوا وإياهم بروابط الإقطاع. واليوم صرنا نجد اسم الشاوية يشمل زناتة
وهوارة في سوس، ولدى أولاد سيدي بوشعيب (وهي مجموعة مختلطة في رمشي بولاية
تلمسان)، وفي الدواير فليتا (وهي مجموعة مختلطة في لهليل بولاية مستغانم)،
وفي بني منا (وهي مجموعة مختلطة في تنيس بولاية أوليانفيل). لكن هذا الاسم
يُطلق أكثر ما يُطلق على سكان الهدْفة الجبلية الكبيرة في الأوراس، جنوبي
ولايد قسنطينة. ويبدو بالفعل أن هذا اللفظ الذي ألف العرب أن يطلقوه على
الساكنة الأمازيغية قد اصطبغ ولا يزال بمسحة من الاحتقار؛ لذلك يرفضه سكان
الأوراس ولا يرضون أن يتسموا به، بينما يقبل به السكان من بقية المجموعات
التي أتينا على ذكرها وبه يُعرفون إلى اليوم، ومنهم الشاوية على الساحل
الأطلسي من المغرب. ويجدر بالتذكير في الأخير أن اسم «شوا» Choa، حسبما
يفيدنا كامبفماير وهارتمان، إنما هو مشتق من كلمة «شاوية».
تامسنا القديمة
كانت
بلاد الشاوية التي في القسم من الساحل المغربي تسمى من قبل «تامسنا». ونحن
نرى «بلاد» تامسنا في بداية تاريخ المغرب تحتلها مصمودة، إخوة مصمودة
الذين في الأطلس، والذين سيقومون في ما بعد بتأسيس أكبر إمبراطورية عرفها
شمال إفريقيا، وهم المسمون تحديداً ببرغواطة. وقد أفرد البكري وابن خلدون
وصاحب «القرطاس» صفحات غاية في الطرافة لملحمة هذا الشعب وخرافة نبيه الذي
جاء بدين على غرار دين محمد، إلى أن كان القضاء عليه بأيدي المرابطين في
حملتهم الدينية.
تاريخا تامسنا
بقيت
تامسنا متلفة خربة لزمن طويل، ومن المحتمل أن هؤلاء المتعصبين قد أسكنوا
من بني جلدتهم صنهاجة في هذا المكان؛ ومن المحتمل أن يكونوا وجدوا بعضهم
لدى البرغواطيين. ثم وجدنا بعد ذلك المنصور، السلطان الموحدي القوي، وهو
أول من شجع على دخول الأعراب إلى المغرب، والذي اعترف وهو على فراش الموت
بأنه ارتكب فيه خطأ سياسياً، وجدناه يُدخل في تامسنا قسماً من الأقوام
المعروفين باسم عام هو «جشم»، وإن هو إلا اسم قسم منهم. وقد كان أهل جشم
الذين في تامسنا من قبل لا يشتملون على جشم بمعناهم الحقيقي، بل كانوا
جميعاً من الخلط من سفيان ومن عاصم من بني جابر. وقد كان هؤلاء الأعراب
يمارسون هناك أعمال اللصوصية، وبها أصبحوا يُعرفون بصورة سيئة في المغرب،
بيد أنهم لم يستطيعوا البقاء هناك، ومن المحتمل أن يكونوا تعرضوا للاكتساح
من زناتة وهوارة الذين حملهم المرينيون وإياهم، وبلغوا شأواً بعيداً من
التحضر. ومما لاشك فيه أن الاندماج كان سهلاً يسيراً بين هؤلاء القادمين
الجدد الأمازيغ ذوي التقاليد الشبيهة بتقاليد الأعراب، وأسلافهم الذين لاشك
أنهم قد اكتسحوهم ليصيروا الشاوية الذين نراهم اليوم يسودون هذا البلد بعد
اضطرابات وتحولات كثيرة.
تامسنا الحالية
لقد
اختفت اليوم جميع الأسماء القديمة، لكننا لا نزال نجد في الشاوية قبيلة من
زناتة، وفخدة من الخلط، الذين باتوا يُعرفون اليوم بخلُط، أو بالأحرى
الخلُط، بزيادة أداة التعريف. وأما اسم «تامسنا»، وهو اسم غير معروف للكثير
من الأوروبيين، فلا يزال إلى اليوم كثير الاستعمال، بيد أن الأهالي
يحملونه على معنى أضيق مما كان متداولاً لدى المؤلفين القدامى. فهم يعتقدون
أن تامسنا لا يدخل فيها غير التراب الذي تشغله القبائل الأربع : «أولاد
البوزيري» و»المزامزة» و»أولاد سيدي بن داود» و»أولاد سعيد». ثم إنهم
يذهبون إلى اسم «تامسنا» ربما كان يدل على الأرض لا على الناس. وبطبيعة
الحال فلا يُقال للرجل «تامسني»، بينما يُقال له «شاوي». لكننا نعلم أن
الغالبية العظمى من الأسماء الجغرافية قد كانت في مبتدئها أسماء عرقية، وقد
كان يمكن لكلمة «تامسنا» نفسها أن تؤكد هذه القاعدة إن صح أنها توافق
القواعد التي وضعها بطليموس وتوافق «الماسينيين» الذين تحدث عنهم
أنطونينوس؛ وهذا هو الرأي الذي يذهب إليه كاريت، لولا أن علماء الآثار
يرجحون أن جمع هاتين الكلمتين في باسم قبيلة «مكناسة». وأما مطابقة
«الباكوات» مع برغواطة يبدو أقرب إلى الصواب. لكن يبدو أن هذا الاسم قد زال
واختفى نهائياً بزوال الأقوام الذين كانوا يحملونه. إلا أننا نجد هذا
الاسم قد ظل معروفاً لدى أولاد صامد، من قبيلة أولاد سعيد؛ فقد أكد لي بعض
الأهالي هناك أنهم ينحدرون من صالح بن طريف، ولكن نظن أن المسالة لا تعدو
أن تكون ذكريات مبهمة.
مفهوم المملكة عند المغاربة
وعليه
فإن أسماء الشاوية والرحامنة...، إلخ. تدل على مجموعات بشرية أكثر مما تدل
على مجالات ترابية. ففي هذه الحالة، كما في حالات أخرى عديدة، تكون الغلبة
في أذهان المغاربة للتصور العرقي على التصور الترابي للمملكة التي يعيشون
فيها. ذلك بأن بيننا والمسلمين فارقاً مكيناً في تصورهم للمملكة وتصورنا
للإمبراطورية. فعندنا أن العنصر المهين في هذه الفكرة هو المتمثل في
الحدود. وقد شكل مفهوم الحدود عائقاً لنا لوقت طويل عن فهم مدلول المملكة
في بلدان المغرب، وكان سبباً في الأخطاء التي اعتورت تمثلنا لهذا الأمر
جملة وتفصيلاً، وكان مصدراً للأخطاء التي اعتورت تصورنا لتكون المغرب
بمعناه الصحيح، لكنه تصور عاد في آخر الأمر بالفائدة عليه. إن المغاربة لا
يتصورون، أو إنهم كانوا على الأقل إلى وقت قريب لا يزالون لا يتصورون
مملكتهم بحدود معلومة، بل يقوم تصورهم لها على أنها جماع من الأقوام
الخاضعة. وإن جهلنا بهذه الحقيقة طوال نصف قرن من الزمان هو الذي كان وراء
القرارات البليدة والمشينة ظلت تتخبط فيها سياستنا المتعلقة بالحدود
الجزائرية المغربية لوقت طويل.
القبيلة المغربية
تنقسم
الشاوية إلى اثنتي عشرة قبيلة، وهو الاسم الذي استعمله الأوروبيون
والمؤلفون القدامى الذين كتبوا عن المغرب وكانوا يريدون به ما أصبح يعرف
عند المعاصرين باسم القبيلة. و»القبيلة» هو الاسم المتداول في عموم المغرب،
وهو متداول في سائر بلدان شمال أفريقيا، لكن أكثر شيوعاً في المغرب. وأما
في الجزائر فلا يزالون يقولون «العرش» أو «النجع». قال بيل : «إنهم
يستعملون هذه الأسماء الثلاثة من غير تفريق، لكن توجد بينها فروقات دقيقة.
فـ»النجع» هو القبيلة المتوسطة، و»العرش» هو القبيلة الصغيرة و»القبيلة»
أكبر منهما معاً». غير أن الاسم الغلب على الاستعمال في الجزائر هو
«العرش»، وقد ساهمت الإدراة في التوسيع من نطاق استعماله إذا كانت تكاد
تقتصر عليه في محرراتها العربية. وأما سكان جرجرة فيُسمون في مجموعهم
«قبايل»، ومهن اشتق الجزائريون اسم قبايل وقبايلي، وهما كلمتان شديدتا
اختلاف عن اللفظ شائع الاستعمال في المغرب. وأعتقد أن هذا التشابه قد كان
مصدراً لما لاعد له من أوجه الخلط والالتباس التي اعتورت المراسلات بين
الجزائر والمغرب، خاصة ما كانت تتناقل منها قصاصات وكالات الأخبار. وأما
شاوية الأوراس الذي يستهجنون هذا الاسم، كما أسلفنا القول، فإنهم يسمون
أنفسهم «هاقبايل»، شأنهم شأن أهل القبايل. ونجد مؤلفين آخرين قد جاءوا
بأوجه من العبارة نفسها لتسمية تجمعات أخرى من البربر.
قدم اسم «القبيلة»
وكلمة
«القبيلة» من الأسماء القديمة جداً، فأنت تجدها في شعر ما قبل الإسلام،
وإن تكن فيه قليلة ورود؛ فلا نعرف لها فيه غير أمثلة قليلة يأتي فيها على
صيغة الجمع. ويكثر ورود هذه الكلمة في نصوص النثر [العربية] القديمة
والمعاصرة. ولا تغيب هذه الكلمة، بعكس ما يذهب إليه كدينفلت، في اللغة
المعاصرة المتداولة في المشرق. فهذا لاندبيرغ يفيدنا أن اسم القبيلة يُجعل
في جنوب شبه الجزيرة العربية للقبيلة المنتسبة إلى أحد الأجداد من البدو،
وتكون هذه القبيلة على انسجام ووحدة، لكن تسير إلى اتساع بما يداخلها من
الأعداد الكبيرة من الوافدين. وتكون القبائل على قدر متفاوت من الاتساع ومن
الترابط في ما بينها، بحيث يصعب الجزم في معظم الأحيان بأن هذه الواحدة من
هذه المجموعات البشرية تستحق بالفعل لقب «القبيلة». ولا تجد لدى الأهالي
خاصة في المغرب عرفاً أو استعمالاً ثابتاً يلتزمونه ولا يخرجون عنه. علاوة
على أن تنظيم القبائل والمدن في شمال إفريقيا وتوزيعها وأسماءها ووظائفها
تعتبر من الأمور التي لا يزال يلفها الغموض والالتباس. وقد سعى ماسكراي إلى
معالجة هذه الأمور في دراسته للقبايل والأوراس وامزاب، ثم على نراه ضمن
كتابه كذلك، على الرغم من ذلك العنوان فيه - [تشكل الحواضر لدى الساكنة
المقيمة في الجزائر] – الكثير من الأخيار والمعلومات عن القبائل الرحل.
ونحن نقف في هذا الكتاب كذلك على الاختلاف الكبير الذي يوجد بين كلمتي
«العرش» و»القبيلة» لدى امزاب والقبايل.
التنظيم الاجتماعي عند العرب
لم
يترك لنا الكتاب العرب معلومات ضافية عن المسالة، حيث ظلوا مشدودين – كما
في أمكان أخرى – إلى الجانب النظري دونما تساؤل عن طبيعة أنظمتهم
الاجتماعية هل كانت مسايرة للأحداث والتحولات أم لا؟ وسنورد هنا بعض
المقتطفات من كتابتهم :
«يشير ابن الكلبي نقلاً عن أبيه أن الشعب أكبر
من القبيلة التي تأتي الإمارة ثم البطن ثم الفخذ». وذكر آخر في ترتيبها من
الأكبر إلى الأصغر ما يلي : «الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة،
ثم الذرية، ثم العشرة، ثم الأسرة».
ثم جاء نوفل أفندي نعمة الله بعكس
ذلك وقال : «تقسم العرب في اصطلاح علماء النسب، إلى طوائف أعمها الشعب وأخص
منه القبيلة ثم العمارة ثم البطن والبطون هم أوساط الأنسباء في القرب من
الجد الأعلى والبعد عنه ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة وهم أدنى الأقارب
فالشعوب في القبائل مثل بني مضر والقبائل مثل بني قيس بن غيلان بن مضر
والعمائر مثل سعد بن قيس بن غيلان والبطون مثل بني ذبيان بن مغيض بن ريث بن
غطفان والفصائل مثل بني فزازة والعشائر مثل بي بدر الفزاري».
والذي
يبدو أن كل ما ذكرنا لا يأتي بتجلية لهذه المسألة. وخاصة أن اسم «قبيلة» في
المغرب يشتمل في ما يبدو على معاني متغايرة. والأقوام الناطقون
بالأمازيغية لهم فيها تسميات مختلفة كلياً، ستسنح لنا فرص للحدث عنها في ما
يقبل من هذا الكتاب. إنه فصل في علم اجتماع شمال إفريقيا لا يزال ينتظر من
يكتبه.
الخروج من الدار البيضاء
(25
مارس 1901). تركت قافلتنا الصغيرة في الساعة التاسعة صباحاً قنصلية فرنسا
وخرجت من المدينة من باب الكبير. اليوم الاثنين، وهو اليوم الذي ينعقد فيه
السوق أمام هذا الباب، فيتزايد نشاطه فوق ما يكون في بقية الأسبوع. فصرنا
نشق لنا بصعوبة طريقاً وسط الحشد الكثيف من أصحاب البرانس البيضاء
والصهباء، وبينها المتسخ والمرقع. الطقس بالغ الجمال وساطع النور بحيث تدس
سطوعها كله في نتوءات ثناياها الاقمشة الباذخة. ثم تجاوزنا آخر البيوت في
ضاحية الدار البيضاء، ولم تلبث أن حجبها عنا مرتفع من الأرض صغير. إنه
«كركور»؛ أي كومة مقدسة من الحجارة، يقوم علامة على الموضع الذي منه يرى
المسافر الذي يأتي إلى أزمور، لأول مرة، مدينة مولاي بوشعيب. وهو اسم الولي
المسلم لهذه المدينة، الذي لا يفوت المؤمنين الأتقياء أن يأتوا للتبرك به
في الموضع ووضع حجر على ذلك الكركور.
وللمدن والقبائل والقرى في المغرب،
كما في باقي بلدان شمال إفريقيا، أولياؤها الدينيون. فأنت تعرف على الفور
البلد الذي منه المسلم التقي بالانتباه إلى اسم الولي الذي يكثر من ترديده
في حديثه. فأهل فاس يحلفون بمولاي إدريس، وأهل مراكش يحتجون بسيدي بلعباس
السبتي، وأهل سوس يعتدُّون بسيدي احماد أوموسى...، إلخ. وإذا ذُكر أمامك
اسم أحد كبار الأولياء هذه وجب أن تقول تأدباً : «شاي الله».
سيدي بليوط
إن
ولي الدار البيضاء الذي يحيطه الناس بالكثير من التوقير قد كان إلى منتصف
القرن الماضي [التاسع عشر] يكاد يكون مجهولاً. فلم يكن ضريحه يزيد عن بيت
بائس يقوم على حراسته رجل يدعى بلمكناسي، الذي جعل من نفسه مقدماً عليه.
وما تسنى جمع مبلغ من الماء غير يسير إلا في سنة 1851م سخر في بناء «قبة»
ضريح الحالية. ويقال إن سيدي بيلوط كان شريفاً «ركراكياً»، والخرافة تنسب
إليه بركة الحضور في كل مكان. والحجاج يأتون إليه للتبرك منه قبل التوجه
إلى مكة. وما أعظم دهشتهم إذا جاءوا إلى تلك المدينة المقدسة فيجدون هناك
سيدي بليوط بعد أن كانوا يعتقدون أنهم تركوه في ذلك المكان البعيد! ويقال
إن الماء الذي ينزل في الدار البيضاء، وينزل خاصة على «قبة» سيدي بيلوط له
خصائص عجيبة، فكل من شرب منه لابد أن يعود إلى الدارالبيضاء، ولو شط به
البعاد إلى أقاصي المعمور. ويقال كذلك إن لسيدي بليوط بركة التحكم في
الحيوان؛ فقد كان يتجول تحيط به الأسود، ومنها جاء اسمه سيدي بليوط، الذي
لا يعدو أن يكون تحريفاً للاسم الفصيح «أبو الليوث».
ضاحية الدار البيضاء
الدار
البيضاء مترامية لا يحيط بها البصر، والسهل المنبسط إلا من بعض تموجات
هينة تتوزعه الأراضي المزروعة والمساحات التي تركت يبعمرها نبات البروق،
فيشيع في الأرجاء رائحة تمازجها حرافة، وزرابي من الأدريون تكسو بعض تلك
النواحي تخالطها أزهار الأدريون التزيينية الجميلة الشائعة لدى الجزائريين
(الشيح)، ولسيناتها الطويلة ينعكس عليها البريق المخملي الزهيرات
الأرجواني، فتكون مع رؤيسات اللؤلؤيات وتويجات اللُّبينات، فتكون حاشية
وافرة على المعطف المتحرك للشعير الأخضر. فتشكل لوحة تتميز خصوبة وغنى.
فكيف يقدر لها أن تختلط بصور الخراب والأسى؟ فقد بدأت تلك الحشرة القاتلة
ترسل فلولها على هذه الأنحاء؛ إنه «الجراد الجوال»، المرعب للفلاحين في
إفريقيا، الذي بدأت نذره تظهر في سائر أنحاء هذه المنطقة.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 2 -
المسلمون لا يخشون أن يفقدوا استقلالهم، بقدر ما يخشون أن يقعوا تحت حكم الكفار
مرض الجراد
ولاشك
أن الجزائريين يتذكرون ذلك النقاش الطويل الذي دار يومذاك في مدينة
الجزائر حول إمكانية القضاء على الجراد بتعريضه لجوائح لازهرية اصطناعية.
وهذه سؤال قديم، يعود فضل السبق في طرحه إلى السيدين كورنو وبرونيار في
مداخلاتهما التي قدماها في أكاديمية العلوم خلال سنوات 1878 و1879 و1881.
ثم جاء السيد لومول، بتجاربه في القضاء الدود الأبيض باستعمال الـ Botrylis
tenella، فأعاد من جديد طرح ذلك السؤال، الذي بات سؤالاً حارقاً في مدينة
الجزائر في سنة 1891. بل كان يحدث أن تبلغ النقاشات أقصى مبالغ الحدة؛ فقد
كان يجري استعمال لازهري شكِّيل، وهو مستحضر شديد المفعول، كان يُتداول in
ritro جهود العلماء. وفضلاً عن ذلك فإن تلك التجارب قد ظلت حبيسة، والناظر
إلى فلول الجراد التي اجتاحت عين كديد يتذكر بكثير من الحزن والأسى ذلك
الصراع العلم.
ظللنا نسير خلال الأجمات والأدغال، واجتزنا وادي أولاد
جرار الذي لم يكن يجري فيه من الماء إلا كخيط رقيق. وأولاد جرار فخدة من
قبيلة الكبرى مديونة التي تقوم على ترابها مدينة الدار البيضاء. وكانت
الأرجاء مخضرة بما يكسوها من نبات الترمس ووريقاته البديعة وينشر عليها
عناقيد أزهاره الزرقاء. ورأينا خلالها كذلك صليبية بيضاء عظيمة وزهرة
متفردة جميلة كأنها من فصيلة نبات العنصل. وقد كانت القوافل كثيرة،
والبادية معتملة بالنشاط، لكن الدواوير لم تكن تتلقى الكثير من الزوار. وفي
الساعة الثالثة وأربعين دقيقة جئنا إلى دار بن عبيد. وفي الساعة الرابعة
والنصف حططنا رحالنا في نزالة مولاي زيدان.
النزالات
تشكل
هذه النزالات، كما هو معلوم، دواوير صغيرة، وقد لا تزيد عن مسوَّر تحدد
السلطة الإدارية موقعه، ويجد فيه المسافر مأوى آمناً مقابل أجر زهيد.
والرسم يؤدى عن البهائم وليس عن الأشخاص، ويبدو أن اليهود والمسيحيين كانوا
من قبل يؤدون تلك الرسوم عن أشخاصهم، وأما على الصعيد العملي فما عاد
أصحاب تلك النزالات يجرؤون اليوم على مطالبة المسيحيين بشيء من تلك الرسوم،
وأما اليهود فلا يزالوا ملزمين بها إلى اليوم. وأصحاب النزالات مسؤولون عن
أمن المسافرين الذين يتوقفون عندهم، وأما من جهة أخرى فإنه كثيراً ما يخلي
نفسه من كل مسؤولية عن المسافرين الذين ينصبون خيامهم بمنأى عن النزالات
فيأتون للاشتكاء مما يتعرضون له من أنواع المنغصات. وقد يحدث في أوقات
الاضطرابات كذلك أن يمنع السلطان عن القوافل أن تتجاوز النزالات ولا تبيت
فيها، ولو عن لإحدى القوافل أن تتجاوز عن النزالة ولا تبيت فيها، فينبغي أن
يثبت القائمون على النزالة بمحضر أن القافلة لم تذعن إلى أوامرهم بالنزول
فيها، فتكون هي المسؤولة على ما يحدث لها.
التخييم في النزالات
وتوجد
النزالات على أطراف جميع الطرق التي يكثر سلوكها في المغرب. لكن النزول
فيها غير مريح، فليس على أرضها من غطاء سوى فضلات البهائم، فهي لذلك تعج
بالهوام والحشرات، وإذا خرج المرء منها لم يأمن على نفسه هجوم الكلاب
الشرسة. ولم نصب في مقامنا هذا المساء بوجه راحة كثيرة، فقد لبثنا طوال
الليل في انزعاج من المواشي التي كانت كانت تتجول من حول ذلك المكان
فتعلق قوائمها بحبال الخيام فتهزها هزاً عنيفاً يبعث الروح في نفوسنا. ثم
إننا لا نزال حديثي عهد بالترحال إلى المغرب، وقد صرنا في ما بعد ننتبه إلى
الفوائد التي سنصيبها من تلافي الإقامة في النزالات، وأن ننصب خيامنا في
العراء بجوار الدوار.
الخيمة العربية
لقد
باتت الجزائر وتونس اليوم معروفتين على أوسع نطاق، وبات الزائرون إليهما
كثرة كثيرة، ولقد أفاضوا في تصوير الدواوير والخيام فيهما، بما يجعلنا في
حل من أن نشرح للقارئ معنى الدوار ونعرِّفه كيف تكون الخيمة العربية. وأنت
تجد التطابق على هذا الصعيد، وعلى أصعدة أخرى، بين سائر أقطاع شمال
إفريقيا. لكن يجدر بالملاحظة أن الدواوير في المغرب تكون أكبر وأوسع من تلك
التي في الجزائر. وما أكثر ما ترى في الشاوية تلك الحلقات البديعة من
ثمانين إلى مائة خيمة ويتوسطها «مراح» صغير يمتلئ في المساء بقطعان الماشية
العائدة من المراعي، فيما الأهالي يزالون حياتهم في محيط تلك الخيام
المسمى في العربية «الريف». وما أكثر ما ترى في تلك الدواوير من الخيام
الجديدة المتخذة من شعر الماعز. وأما الخيام التي تقوم في معظم أنحاء
الشاوية، كما تقوم في دكالة، فإن معظمها يتخذ من «الليف»، وهي الألياف التي
تؤخذ من الأنسجة التي تكسو أصول النخل الصغير أو «الدوم». وكذلك ينتوعون
من أصول نبات البروق أو «لبرواك» أليافاً يقومون بدقها وترطيبها ونسجها.
ويسمونها «حيدلي»، ويستعملونها كذلك في صنع الخيام.
وفي مساء هذا اليوم
الجميل، عادت قطعان الماشية إلى الدوار فأشاعت فيه حركة وحيوية عارمتين.
وجاءتنا عجوز سوداء بماء في قربة عليها قطران، وهو، في ما يبدو، ماء مفضل
لديهم على الماء الذي اعتاد الناس شربه في هذه الناحية. غير أنها حرصت قبل
أن تدفع إلينا بتلك القربة على تنبيه رفاقي المسلمين والتأكد منهم إلى أنهم
لن يشركوني في الشرب منها.
تعصب المسلم
الأهالي
ههنا ليسوا متعصبين، بل إنهم لا يبخلون على الأوربيين بشيء من اللطف
والمودة، وأما الذي له بعض معرفة بالمسلمين فلا ينطلي عليه ما يحملون لنا
من احتقار مكين. ومهما يكن الاستقبال الذي يلقاه المسيحي في المغرب، فلابد
أن يشعر، إذا كان من أصحاب النفوس الرقيقة، بذلك الجو من الاحتقار الذي
يحيط به. ولئن أفلح كبار السن من المسلمين في إخفاء أسباب ذلك الاحتقار
عنه، فإن الأطفال، وهم بطبعهم أكثر تلقائية وأمعن سخرية، لا يفتأون يردونه
عن ذلك الوهم ويصرحوا له بالمشاعر التي ينقلها إليهم آباؤهم نحوه.
رحلة المسحي في المغرب
وفي
المغرب مدن، كسلا، لا يكاد الأجنبي يتجول فيها دون أن يطارده الأطفال
بالصياح أو يرموه بالحجارة. وقد وضعت اتفاقية دولية منذ ماءتين وخمسين سنة
بين الأقاليم المتحدة ومدينة سلا تشترط أن مراعاة جانب التجار وألا يتعرض
لهم «بسوء المعاملة بالقول أو بالضرب أو بالرمي بالحجارة أو بمختلف أنواع
الشتائم». وها إن الوضعية لا تزال إلى سنتنا هذه 1902، لم تعرف التغير
العميق. فالأجنبي لا يزال يشعر بنفسه في المغرب أنه «نصراني» (مسيحي)، بكل
ما في هذه الكلمة من معنى يقترن لدى المسلمين بحشد من المدلولات
الانتقاصية، أقرب إلى تلك المدلولات التي لا تزال تحفل بها عندنا إلى الوقت
الحالي كلمة «يهودي». وقد نبه الرسول في كثير من أحاديثه، وكذلك نبه علماء
الحديث كثيراً إلى تمييز اليهود والمسيحيين عن الوثنيين ورفع منزلتهم
عليهم، وأما العامة فلا تعمل بكل هذه التفيرقات ولو كانت عارفة بها، ولذلك
فكرهها للمسيحيون أو اليهود لا يقل عن كرهها للوثنيين.
نجاسة الكافر
ينبغي
للمسيحي الذي يسافر لدى الأقوام الجاهلة أن يظل مستحضراً، مهما يكن في هذا
الأمر من حط في كبريائهم، أننا معتبرون لديهم من الأنجاس، وأنهم يجدون من
أنفسهم شيئاً من التقزز من مجرد رؤية هيئاتنا. وهذه ملاحظة ربما كانت تنطبق
على كثير من المسلمين الآخرين، لكننا نخشى إن تمادينا في هذا الأمر أن
نجرح حساسيات الآخرين ونخرج عن إطار هذه الدراسة. لكن كذلك تصور الإسلام
القديم للأجانب في وقت من الأوقات؛ فهو يدخل جسم المسيحي في النجس، فإذا
لمسه المسلم وجب أن يتوضأ. ثم جاء علماء [الإسلام] بتصحيح لهذا المعتقد
البدائي المفرط، وقالوا إن نجاسة الكافر التي ينبه إليها القرآن إنما هي
نجاسة معنوية، وإنه يحسن بالمسلم أن يتوقى الاختلاط به لأنه لا يتوضأ ويمكن
أن ينقل إليه نجاسات أخرى. غير أن العامة لا تلقي بالاً هذه المناقشات
المذهبية، وما أكثر ما يتعرض الأجانب من الحوادث الصغيرة، غير ذات الأهمية،
لكن شديد الإيلام لذوي المشاعر الرقيقية منهم، ويزيد من إيلامها فرط
تكرارها؛ فهي تذكر الرحالة في كل لحظة وحين بأنه لا يعدو عن كافر. فيلزم
الرحالة الذي يسافر يزمع السفر إلى المغرب أن يتجرد من كل أنفة ويحصن
مشاعره من التأثر لأي شيء، إلا أن يكون من الشخصيات الرسمية الهامة، أو
يكون يدخل في حاشيته.
الخوف من الأجنبي
وينبغي
أن نميز بحق في مشاعر الكراهية التي يحملها المغاربة للأوروبيين بين كرههم
للكافر وخوفهم من المستعمر. فهم لا يستطيعون أن يفهموا أن حب العلم أو جرد
الفضول يمكن أن يكونا هما الدافعان الوحيدان للرحالة الأوروبيين من غير
التجار إلى زيارة بلدهم. ولا يرون في تلك الأبحاث وفي تلك الاستكشافات إلا
أنها وسائل وممهدات لتيسر على الحكومات الأجنبية استعمار بلدهم. ولربما كان
هذا الاعتقاد لديهم على شيء من الصواب. فقد نقل دو فوكو عنهم قولهم :
«إننا نخاف المستعمر أكثر مما نكره المسيحي».
آراء غريبة عن الأجنبي
وتأتي
– بدون شك – مخافة المستعمر أيضا لتعمق من إحساس كره المؤمن حيال الكافر،
لكن مظاهر المعارضة والكره هذه لها أسباب عميقة، وأعني مسالة الخوف من
الأجنبي كيفما كان. فكل بدائي يخاف كثيرا كمن تباين الأجناس، ونعلم كم يخاف
«البدائيون» من كل مظاهر التجديد. وقد امتد هذا التخوف (في أوساط المسلمين
تحت اسم «البدعة». فالأجنبي لا يخلق دائما للبدائي مصدر إزعاج وعدم ثقة
حيث يخاف أذاه، ويعتبره ساحرا، ويشك في أدنى تصرفاته. فالأهالي في المناطق
النائية في المغرب يراقبون الأجنبي بدقة وبطريقة مضحكة أحيانا بما في ذلك
كيفية جمعه لأوراقه وكتبه وأدواته، حيث يسبب لهم منظر عدم معرفتهم بأشياء
جديدة عليهم ألما واضحا. فنجنب النسبة لهم سحرة يخافون سحرهم، وهذا اعتقاد
عام عند كل البدائيين اتجاه الأجانب، كما أنهم ينسجون عن الغرباء في هذه
البلدان حكايات مطبوعة بمختلف أنواع الخرافات والغرائب. وهكذا نلاحظ أن عند
السكان المغاربة في المناطق النائية انطباعات خاصة عنا، فقد سألوا هاريس
هل عند المسيحيين رجال ونساء ؟. وسألوا فوكو هل الكافرون لا يسكنون الجزر.
ولا يركبون البحر..إلخ؟. فعندما كنت أمر بأعالي سهول الكندافي كنت أثير –
في هذه المداشر – فضولا مشوبا بكثير من الحذر إلى درجة الإضحاك. وكنت أرتدي
حينها بذلة وسروالا « إلى الركبتين» من قطيفة مخملية وكان هذا يزيد من
دهشة الأهالي وكان مرافقي المسلمين يتلقون كثيرا من الأسئلة عن منظري لكن
دون جدوى ودون أن يصلوا إلى درجة تقوية الشك والارتياب كانوا يجيبونهم :
«راجل بحالكم». وهذا لا يجب أن نعتبره شيئا غريبا، خاصة إذا علمنا أن هذا
التصرف نفسه هو الذي كان عند المسيحيين اتجاه المسلمين في القرون الوسطى أو
إلى حدود أزمنة قريبة.
الأجنبي والضيافة
إن
الإنسان المتخلف الذي يخاف الإذاية من الأجنبي تراه يسعى في تجنبه، خاصة
إذا كان مظهره منفراً، أو كان قبيح المنظر أو يشكو من عاهة. وذكر البكري أن
أهل الريف لا يحتملون بينهم من الأجانب من كان ذا عاهة. وسيكون من باب
الجهل بعادات البدائيين أن يذهب إلى الاعتقاد بأن هؤلاء الريفيين إنما
يخشون فساد أعراقهم؛ وإنما هم يريدون أن يبعدوا عنهم التأثيرات السيئة،
وأسباب الانحطاط التي يعتقدون أن الأجنبي لابد ملحقها بهم. وإذا كان
البدائي لا يبعد عنه الأجنبي فإنه يسعى إلى حماية نفسه منه، وقد يلزمه
أحياناً بالتطهر. وكثيراً ما تراه يسعى في استمالته إلى جانبه. فقد يدعوه
خاصة إلى مشاركته الأكل، لأن هنالك اعتقاداً كونياً بأن الأكل الذي يشترك
عليه أشخاص كثر من شأنه أن يوطد الروابط بينهم، وهذا هو مصدر ذلك الحرص على
نراه في القبايل على استضافة [الأجنبي]، وهو السبب في ذلك المزيج من اللطف
ومن الريبة الذي كثيراً ما يُتلقى به الأجنبي في المغرب على سبيل التمثيل
: hospes, hostes. نستقبل بهما أحيانا. فهم يعطونك «المونة» الوافرة، ولا
يسهون عليك بالمراقبة. ثم إن الواحد منهم متى استضافك عنده لا تراه يألو
جهداً في الاستفادة من مقامك لديه؛ فهو يريد أن يفيد مما يحسبه لديك مواهب
سحرية أو طبية (فهما صفتان يجمعانهما في الشخص الواحد)، ويأتون في طلب
الاستشارة منك، فإذا أنت قد صرت طبيباً برغم أنفك. وأما إذا كان الأجنبي
مسلماً فإنهم يرفعون إليه نزاعاتهم، ويجبرونه على أن يفصل في منازعاتهم
القديمة والمتشابكة؛ فلامناص له من أن يكون بينهم الحكم والقاضي.
وللخوف
من الأجنبي [عند المسلمين] وجه آخر يتجلى في الخوف من السفر. فإذا كان
البلد يخافون الرحالة الذي يقدم عليهم، فإن خوفهم يكون أشد وأعظم أن يذهبوا
هم أنفسهم إلى البلاد الأجنبية يعشوا بين أولئك الأجانب. فلذلك كان السفر
عند الإنسان القليل تحضر حافلاً بأسوإ التوقعات. ولذلك جاء الدين الإسلامي
بوجه خاص مشتملاً على الكثير من القواعد المتعلقة بالسفر. وجاءت كتب الحديث
وكتب الأدب مشتملة جميعاً على فصول خاصة بالسفر. وقد كان المسافر عند
الأقوام البدائية يقوم لحظة الاستعداد للسفر وأثناء ذلك السفر وبعده، بشتى
الطقوس التي يتطهر بها، وليخلص بها نفسه من كل الشرور السابق واللاحق. وهذا
هو حسب اعتقادي مدلول ذلك الماء الذي يرشونه في إفريقيا الشمالية عند قدمي
الشخص المزمع السفر. وقد اتفق لنا وقت أن خرجنا من الصويرة في سنة 1902
لنقوم بجولة في المناطق الداخلية أن رأينا قريباً لأحد مرافقينا المسلمين
يخرج من داره ويهرق «سطلا» من الماء عند حوافر جواده.
أصول احتقار الكافر
لذلك
نعتقد أن الكراهية التي يحملها المسلم للكافر ليست سوى صورة لأسلمة للتخوف
البدائي الذي كان لديه من الأجنبي. فكلما كان سفرنا في الأصقاع التي هي
أقل نصيباً من المعرفة، إلا ولاحظنا أن هذه الأسلمة يسمها شيء من النقصان.
ثم تضعف في جهات أخرى، كما في جبال الأطلس؛ فالناس في هذه المناطق لا
يزالون يتخوفون من الأجنبي أكثر مما يكرهون المسيحي. وترى هذه الأسلمة قوية
في حواضر مثل فاس؛ حيث التجار الذين سافروا [إلى البلاد الأجنبية]، ولهم
معرفة واسعة بأوروبا؛ ويعرفون جيداً أننا لسنا أسوأ من بني البشر الآخرين،
لكنهم يكونوا أشد تعصباً. وليس ببعيد أن يكون أن يكون الخوف من الغازي عند
هؤلاء الأخيرين ينضاف إلى الكره الديني له ويعززه، وإن كنا لا نرى هذا
العنصر هو الغالب في مشاعر العداء المناوئة التي لا يزال المغاربة يحملونها
إلى الأوروبيين؛ فالدين يتفوق لديهم على ما عداه من شاعر الوطنية، حتى
ليكون هو الدافع الأول إلى كراهيتهم [للأجانب]. فهم لا يخشون أن يفقدوا
استقلالهم، بقدر خشيتهم أن يقعوا تحت حكم الكفار. فأكثر ما يخشون أن يتعرض
دينهم للتدنيس، وهذه صورة مؤسلمة للدنس الذي كانوا يلصقونه من قبل
بالأجنبي. وإنهم ليعرفون جيداً، خاصة أولئك منهم الذين سافروا [إلى البلاد
الأجنبية] بم في حضارتنا من محاسن، بل ويعلفرون كيف يسخرونها لأنفسهم،
لكننا نظل في أعينهم أناساً خارجين عن الشريعة الدينية، وأناس لا يُرجى لهم
خلاص، وأناس دسون، فإذا كل تلك الخرافات البدائية التي سبق لنا أن
تناولناها، قد انتقلت إليهم، وصارت اليوم تزيد في خوفهم من الكفار.
الخوف من التجديد
وهذا
هو السبب الذي يجعلهم مرتابين متشككين في كل ما نعمل لأجلهم ونروم منه
صالحهم. فلا تجد إصلاحاً واحداً من الإصلاحات التي قمنا بها في الجزائر قد
لقي في البداية الاستقبال الحسن من الأهالي؛ سواء ما دخل من تلك الإصلاحات
في إقرار الملكية الفردية وما تعلق منها بقانون الحالة المدنية وما اتصل
منها بإحصاءات السكان، وما هم منها الشركات التعاونية...، إلخ. فقد قوبلت
هذه التدابير في البداية بالحذر والارتياب. وقد كان بعض ذلك الحذر
والارتياب يشف لنا عن الفزع الساذج الذي كان يأخذ بنفوس البدائيين؛ فقد ظل
الجزائريون يمتنعون من التلقيح لقناعة لديهم أنه إنما جُعل لإضعافهم!.
وكذلك ظل عمل أطبائنا، ذلك العمل الحي، يقابل من المسلمين بالارتياب لوقت
طويل. وهذا أحد تلامذتنا السابقين في مدرسة تلمسان، وهو اليوم قد بات
مؤمناً بقضية التحضير، قد اعترف لي منذ وقت قريب جداً أنه قد كان من قبل
يعتقد، وأخوته في الدين أن التعليم الذي كنا نقدمه لهم لم يكن له هدف غير
العمل الممنهج لتحويلهم عن الطريق القويم، الذي هو سبيلهم الوحيدة إلى
الخلاص.
لذلك تجد بعض من خبروا تجربة الجزائر يقابلون بشيء من الارتياب
ما يقرأون في الروايات التي وضعها الرحالة عن المغرب، وأن المغاربة يرحبون
بمقدم الأوروبيين، ويرحبون خاصة بمقدم الفرنسيين إليهم. وليس من شك، فقد
كنا كثيراً ما نسمع نحن أيضاً، أن المغاربة إذا تقلوا الفرنسيين أعربوا لهم
عن متمنياتهم أن تمد فرنسا يديها إلى المغرب. لكن لا تعدو هذه التصريحات
أن تكون من ذلك الكلام الذي يطلقه المستاءون على سبيل النكاية، وإلا فهي
تكون من ذلك الإطراء المغرض، أو من قبيل تلك المجاملة المفرطة التي هي
مألوف المسلمين. ولئن صرح هؤلاء بأنهم يفضلون الفرنسيين، فلأنهم يكونون
يتوجهون بكلامهم إلى الفرنسيين، ولو تكلموا إلى الأنجليز لأعلنوا لهم عن
حبهم لأنجلترا، ولو كان كلامهم إلى الألمان، لأمدوا لهم أن الحضارة
الألمانية هي وحدها التي تحتل السويداء في قلوبهم، وإن هم إلا يشملون
بكراهيتهم سائر الأجانب. وإن أولئك منهم الذين زاروا الجزائر أو زاروا
أوروبا والذين كثيراً ما يحلو لنا أن نتبجح بأنهم يميلون إلى أن يرونا نبسط
سيطرتنا على بلدهم، وكثيرو الأسفار منهم الذين جابوا العالم، والمياومين
الذين يعملون لدى أبماء جلدتنا من المعمرين متفقون على الاعتراف بأن الناس
في بلداننا ينعم من الأمن ورغد العيش بأكثر مما يحدون مهما في المغرب، بيد
أنك لا تراهم يتمنون تدخلنا، وربما كانوا أكثر عداء لنا من إخوتهم الذين لا
يخرجون إلى البلاد الأجنبية، وإن بدوا ميالين إلى التسامح.
اتصال المسلم بالكافر
وربما
وقعت هذه الأسطر بيد أحد أولئك المسلمين المتنورين والمستقلين الذين هم
مفخرة مستعمرتنا، فأرجوا ألا يحملوها على التشاؤم الثابت المكين، بل هي
مجرد معاينة لحالة، وما هي بالشيء الذي يتأبي دون سواه من أمور هذا العالم
عن التبدل والتغير. وإنني لعلى اقتناع مكين بأن تقارباً صامتاً، لكن
محققاً، قد بدأ يحصل منذ وقت غير يسير بيننا والمسلمين، وأن التدابير
الإدارية الحكيمة ستزيد من تعزيزه، وأن مقاوماتنا لن تفلح في عرقلته، مثلما
أن تلهفنا واستعجالنا لن يكون لهما أن يزيدا من تسريعه. وحسبي أن أنوه
ههنا إلى وجوب أن نتوقع في علاقتنا مع المسلمين أن يكون أول اتصالنا بنا
على غير ما نحب ونؤمل. فعند أول اتصال لك بالإسلام تراه كيف ينكمش على نفسه
وينتفش، وكيف تبلغ سورة التعصب مداها. وهذه ظاهرة عرفناها كثيراً في
الجزائر، وهي من الأمور الجارية في المغرب. فأما في الجزائر فقد أمكن لنا
أن نسرع من وتيرة الأمور بمجرد وجودنا [الطويل] في هذا البلد وبفعل نوع من
المدافعة لدى كثير من الأقوام البربرية فيه لعملية الأسلمة. وأما المغرب
فمن المعروف أن سكانه المدينيين الذين لهم معرفة بالأوروبيين يكونون أكثر
تعصباً من سكان المناطق الداخلية. فكأننا بالمسلم لا يعي شخصيته الدينية
إلا متى وقع له الاتصال بشخصية أخرى. ومن المحتمل لهذه الظاهرة أن تكون
شيئاً مؤقتاً، وأغلب الظن أن يطول بها الوقت، لكن مآلها إلى تلاش بطول
الاتصال بين الشعبين.
المسلمون لا يخشون أن يفقدوا استقلالهم، بقدر ما يخشون أن يقعوا تحت حكم الكفار
مرض الجراد
ولاشك
أن الجزائريين يتذكرون ذلك النقاش الطويل الذي دار يومذاك في مدينة
الجزائر حول إمكانية القضاء على الجراد بتعريضه لجوائح لازهرية اصطناعية.
وهذه سؤال قديم، يعود فضل السبق في طرحه إلى السيدين كورنو وبرونيار في
مداخلاتهما التي قدماها في أكاديمية العلوم خلال سنوات 1878 و1879 و1881.
ثم جاء السيد لومول، بتجاربه في القضاء الدود الأبيض باستعمال الـ Botrylis
tenella، فأعاد من جديد طرح ذلك السؤال، الذي بات سؤالاً حارقاً في مدينة
الجزائر في سنة 1891. بل كان يحدث أن تبلغ النقاشات أقصى مبالغ الحدة؛ فقد
كان يجري استعمال لازهري شكِّيل، وهو مستحضر شديد المفعول، كان يُتداول in
ritro جهود العلماء. وفضلاً عن ذلك فإن تلك التجارب قد ظلت حبيسة، والناظر
إلى فلول الجراد التي اجتاحت عين كديد يتذكر بكثير من الحزن والأسى ذلك
الصراع العلم.
ظللنا نسير خلال الأجمات والأدغال، واجتزنا وادي أولاد
جرار الذي لم يكن يجري فيه من الماء إلا كخيط رقيق. وأولاد جرار فخدة من
قبيلة الكبرى مديونة التي تقوم على ترابها مدينة الدار البيضاء. وكانت
الأرجاء مخضرة بما يكسوها من نبات الترمس ووريقاته البديعة وينشر عليها
عناقيد أزهاره الزرقاء. ورأينا خلالها كذلك صليبية بيضاء عظيمة وزهرة
متفردة جميلة كأنها من فصيلة نبات العنصل. وقد كانت القوافل كثيرة،
والبادية معتملة بالنشاط، لكن الدواوير لم تكن تتلقى الكثير من الزوار. وفي
الساعة الثالثة وأربعين دقيقة جئنا إلى دار بن عبيد. وفي الساعة الرابعة
والنصف حططنا رحالنا في نزالة مولاي زيدان.
النزالات
تشكل
هذه النزالات، كما هو معلوم، دواوير صغيرة، وقد لا تزيد عن مسوَّر تحدد
السلطة الإدارية موقعه، ويجد فيه المسافر مأوى آمناً مقابل أجر زهيد.
والرسم يؤدى عن البهائم وليس عن الأشخاص، ويبدو أن اليهود والمسيحيين كانوا
من قبل يؤدون تلك الرسوم عن أشخاصهم، وأما على الصعيد العملي فما عاد
أصحاب تلك النزالات يجرؤون اليوم على مطالبة المسيحيين بشيء من تلك الرسوم،
وأما اليهود فلا يزالوا ملزمين بها إلى اليوم. وأصحاب النزالات مسؤولون عن
أمن المسافرين الذين يتوقفون عندهم، وأما من جهة أخرى فإنه كثيراً ما يخلي
نفسه من كل مسؤولية عن المسافرين الذين ينصبون خيامهم بمنأى عن النزالات
فيأتون للاشتكاء مما يتعرضون له من أنواع المنغصات. وقد يحدث في أوقات
الاضطرابات كذلك أن يمنع السلطان عن القوافل أن تتجاوز النزالات ولا تبيت
فيها، ولو عن لإحدى القوافل أن تتجاوز عن النزالة ولا تبيت فيها، فينبغي أن
يثبت القائمون على النزالة بمحضر أن القافلة لم تذعن إلى أوامرهم بالنزول
فيها، فتكون هي المسؤولة على ما يحدث لها.
التخييم في النزالات
وتوجد
النزالات على أطراف جميع الطرق التي يكثر سلوكها في المغرب. لكن النزول
فيها غير مريح، فليس على أرضها من غطاء سوى فضلات البهائم، فهي لذلك تعج
بالهوام والحشرات، وإذا خرج المرء منها لم يأمن على نفسه هجوم الكلاب
الشرسة. ولم نصب في مقامنا هذا المساء بوجه راحة كثيرة، فقد لبثنا طوال
الليل في انزعاج من المواشي التي كانت كانت تتجول من حول ذلك المكان
فتعلق قوائمها بحبال الخيام فتهزها هزاً عنيفاً يبعث الروح في نفوسنا. ثم
إننا لا نزال حديثي عهد بالترحال إلى المغرب، وقد صرنا في ما بعد ننتبه إلى
الفوائد التي سنصيبها من تلافي الإقامة في النزالات، وأن ننصب خيامنا في
العراء بجوار الدوار.
الخيمة العربية
لقد
باتت الجزائر وتونس اليوم معروفتين على أوسع نطاق، وبات الزائرون إليهما
كثرة كثيرة، ولقد أفاضوا في تصوير الدواوير والخيام فيهما، بما يجعلنا في
حل من أن نشرح للقارئ معنى الدوار ونعرِّفه كيف تكون الخيمة العربية. وأنت
تجد التطابق على هذا الصعيد، وعلى أصعدة أخرى، بين سائر أقطاع شمال
إفريقيا. لكن يجدر بالملاحظة أن الدواوير في المغرب تكون أكبر وأوسع من تلك
التي في الجزائر. وما أكثر ما ترى في الشاوية تلك الحلقات البديعة من
ثمانين إلى مائة خيمة ويتوسطها «مراح» صغير يمتلئ في المساء بقطعان الماشية
العائدة من المراعي، فيما الأهالي يزالون حياتهم في محيط تلك الخيام
المسمى في العربية «الريف». وما أكثر ما ترى في تلك الدواوير من الخيام
الجديدة المتخذة من شعر الماعز. وأما الخيام التي تقوم في معظم أنحاء
الشاوية، كما تقوم في دكالة، فإن معظمها يتخذ من «الليف»، وهي الألياف التي
تؤخذ من الأنسجة التي تكسو أصول النخل الصغير أو «الدوم». وكذلك ينتوعون
من أصول نبات البروق أو «لبرواك» أليافاً يقومون بدقها وترطيبها ونسجها.
ويسمونها «حيدلي»، ويستعملونها كذلك في صنع الخيام.
وفي مساء هذا اليوم
الجميل، عادت قطعان الماشية إلى الدوار فأشاعت فيه حركة وحيوية عارمتين.
وجاءتنا عجوز سوداء بماء في قربة عليها قطران، وهو، في ما يبدو، ماء مفضل
لديهم على الماء الذي اعتاد الناس شربه في هذه الناحية. غير أنها حرصت قبل
أن تدفع إلينا بتلك القربة على تنبيه رفاقي المسلمين والتأكد منهم إلى أنهم
لن يشركوني في الشرب منها.
تعصب المسلم
الأهالي
ههنا ليسوا متعصبين، بل إنهم لا يبخلون على الأوربيين بشيء من اللطف
والمودة، وأما الذي له بعض معرفة بالمسلمين فلا ينطلي عليه ما يحملون لنا
من احتقار مكين. ومهما يكن الاستقبال الذي يلقاه المسيحي في المغرب، فلابد
أن يشعر، إذا كان من أصحاب النفوس الرقيقة، بذلك الجو من الاحتقار الذي
يحيط به. ولئن أفلح كبار السن من المسلمين في إخفاء أسباب ذلك الاحتقار
عنه، فإن الأطفال، وهم بطبعهم أكثر تلقائية وأمعن سخرية، لا يفتأون يردونه
عن ذلك الوهم ويصرحوا له بالمشاعر التي ينقلها إليهم آباؤهم نحوه.
رحلة المسحي في المغرب
وفي
المغرب مدن، كسلا، لا يكاد الأجنبي يتجول فيها دون أن يطارده الأطفال
بالصياح أو يرموه بالحجارة. وقد وضعت اتفاقية دولية منذ ماءتين وخمسين سنة
بين الأقاليم المتحدة ومدينة سلا تشترط أن مراعاة جانب التجار وألا يتعرض
لهم «بسوء المعاملة بالقول أو بالضرب أو بالرمي بالحجارة أو بمختلف أنواع
الشتائم». وها إن الوضعية لا تزال إلى سنتنا هذه 1902، لم تعرف التغير
العميق. فالأجنبي لا يزال يشعر بنفسه في المغرب أنه «نصراني» (مسيحي)، بكل
ما في هذه الكلمة من معنى يقترن لدى المسلمين بحشد من المدلولات
الانتقاصية، أقرب إلى تلك المدلولات التي لا تزال تحفل بها عندنا إلى الوقت
الحالي كلمة «يهودي». وقد نبه الرسول في كثير من أحاديثه، وكذلك نبه علماء
الحديث كثيراً إلى تمييز اليهود والمسيحيين عن الوثنيين ورفع منزلتهم
عليهم، وأما العامة فلا تعمل بكل هذه التفيرقات ولو كانت عارفة بها، ولذلك
فكرهها للمسيحيون أو اليهود لا يقل عن كرهها للوثنيين.
نجاسة الكافر
ينبغي
للمسيحي الذي يسافر لدى الأقوام الجاهلة أن يظل مستحضراً، مهما يكن في هذا
الأمر من حط في كبريائهم، أننا معتبرون لديهم من الأنجاس، وأنهم يجدون من
أنفسهم شيئاً من التقزز من مجرد رؤية هيئاتنا. وهذه ملاحظة ربما كانت تنطبق
على كثير من المسلمين الآخرين، لكننا نخشى إن تمادينا في هذا الأمر أن
نجرح حساسيات الآخرين ونخرج عن إطار هذه الدراسة. لكن كذلك تصور الإسلام
القديم للأجانب في وقت من الأوقات؛ فهو يدخل جسم المسيحي في النجس، فإذا
لمسه المسلم وجب أن يتوضأ. ثم جاء علماء [الإسلام] بتصحيح لهذا المعتقد
البدائي المفرط، وقالوا إن نجاسة الكافر التي ينبه إليها القرآن إنما هي
نجاسة معنوية، وإنه يحسن بالمسلم أن يتوقى الاختلاط به لأنه لا يتوضأ ويمكن
أن ينقل إليه نجاسات أخرى. غير أن العامة لا تلقي بالاً هذه المناقشات
المذهبية، وما أكثر ما يتعرض الأجانب من الحوادث الصغيرة، غير ذات الأهمية،
لكن شديد الإيلام لذوي المشاعر الرقيقية منهم، ويزيد من إيلامها فرط
تكرارها؛ فهي تذكر الرحالة في كل لحظة وحين بأنه لا يعدو عن كافر. فيلزم
الرحالة الذي يسافر يزمع السفر إلى المغرب أن يتجرد من كل أنفة ويحصن
مشاعره من التأثر لأي شيء، إلا أن يكون من الشخصيات الرسمية الهامة، أو
يكون يدخل في حاشيته.
الخوف من الأجنبي
وينبغي
أن نميز بحق في مشاعر الكراهية التي يحملها المغاربة للأوروبيين بين كرههم
للكافر وخوفهم من المستعمر. فهم لا يستطيعون أن يفهموا أن حب العلم أو جرد
الفضول يمكن أن يكونا هما الدافعان الوحيدان للرحالة الأوروبيين من غير
التجار إلى زيارة بلدهم. ولا يرون في تلك الأبحاث وفي تلك الاستكشافات إلا
أنها وسائل وممهدات لتيسر على الحكومات الأجنبية استعمار بلدهم. ولربما كان
هذا الاعتقاد لديهم على شيء من الصواب. فقد نقل دو فوكو عنهم قولهم :
«إننا نخاف المستعمر أكثر مما نكره المسيحي».
آراء غريبة عن الأجنبي
وتأتي
– بدون شك – مخافة المستعمر أيضا لتعمق من إحساس كره المؤمن حيال الكافر،
لكن مظاهر المعارضة والكره هذه لها أسباب عميقة، وأعني مسالة الخوف من
الأجنبي كيفما كان. فكل بدائي يخاف كثيرا كمن تباين الأجناس، ونعلم كم يخاف
«البدائيون» من كل مظاهر التجديد. وقد امتد هذا التخوف (في أوساط المسلمين
تحت اسم «البدعة». فالأجنبي لا يخلق دائما للبدائي مصدر إزعاج وعدم ثقة
حيث يخاف أذاه، ويعتبره ساحرا، ويشك في أدنى تصرفاته. فالأهالي في المناطق
النائية في المغرب يراقبون الأجنبي بدقة وبطريقة مضحكة أحيانا بما في ذلك
كيفية جمعه لأوراقه وكتبه وأدواته، حيث يسبب لهم منظر عدم معرفتهم بأشياء
جديدة عليهم ألما واضحا. فنجنب النسبة لهم سحرة يخافون سحرهم، وهذا اعتقاد
عام عند كل البدائيين اتجاه الأجانب، كما أنهم ينسجون عن الغرباء في هذه
البلدان حكايات مطبوعة بمختلف أنواع الخرافات والغرائب. وهكذا نلاحظ أن عند
السكان المغاربة في المناطق النائية انطباعات خاصة عنا، فقد سألوا هاريس
هل عند المسيحيين رجال ونساء ؟. وسألوا فوكو هل الكافرون لا يسكنون الجزر.
ولا يركبون البحر..إلخ؟. فعندما كنت أمر بأعالي سهول الكندافي كنت أثير –
في هذه المداشر – فضولا مشوبا بكثير من الحذر إلى درجة الإضحاك. وكنت أرتدي
حينها بذلة وسروالا « إلى الركبتين» من قطيفة مخملية وكان هذا يزيد من
دهشة الأهالي وكان مرافقي المسلمين يتلقون كثيرا من الأسئلة عن منظري لكن
دون جدوى ودون أن يصلوا إلى درجة تقوية الشك والارتياب كانوا يجيبونهم :
«راجل بحالكم». وهذا لا يجب أن نعتبره شيئا غريبا، خاصة إذا علمنا أن هذا
التصرف نفسه هو الذي كان عند المسيحيين اتجاه المسلمين في القرون الوسطى أو
إلى حدود أزمنة قريبة.
الأجنبي والضيافة
إن
الإنسان المتخلف الذي يخاف الإذاية من الأجنبي تراه يسعى في تجنبه، خاصة
إذا كان مظهره منفراً، أو كان قبيح المنظر أو يشكو من عاهة. وذكر البكري أن
أهل الريف لا يحتملون بينهم من الأجانب من كان ذا عاهة. وسيكون من باب
الجهل بعادات البدائيين أن يذهب إلى الاعتقاد بأن هؤلاء الريفيين إنما
يخشون فساد أعراقهم؛ وإنما هم يريدون أن يبعدوا عنهم التأثيرات السيئة،
وأسباب الانحطاط التي يعتقدون أن الأجنبي لابد ملحقها بهم. وإذا كان
البدائي لا يبعد عنه الأجنبي فإنه يسعى إلى حماية نفسه منه، وقد يلزمه
أحياناً بالتطهر. وكثيراً ما تراه يسعى في استمالته إلى جانبه. فقد يدعوه
خاصة إلى مشاركته الأكل، لأن هنالك اعتقاداً كونياً بأن الأكل الذي يشترك
عليه أشخاص كثر من شأنه أن يوطد الروابط بينهم، وهذا هو مصدر ذلك الحرص على
نراه في القبايل على استضافة [الأجنبي]، وهو السبب في ذلك المزيج من اللطف
ومن الريبة الذي كثيراً ما يُتلقى به الأجنبي في المغرب على سبيل التمثيل
: hospes, hostes. نستقبل بهما أحيانا. فهم يعطونك «المونة» الوافرة، ولا
يسهون عليك بالمراقبة. ثم إن الواحد منهم متى استضافك عنده لا تراه يألو
جهداً في الاستفادة من مقامك لديه؛ فهو يريد أن يفيد مما يحسبه لديك مواهب
سحرية أو طبية (فهما صفتان يجمعانهما في الشخص الواحد)، ويأتون في طلب
الاستشارة منك، فإذا أنت قد صرت طبيباً برغم أنفك. وأما إذا كان الأجنبي
مسلماً فإنهم يرفعون إليه نزاعاتهم، ويجبرونه على أن يفصل في منازعاتهم
القديمة والمتشابكة؛ فلامناص له من أن يكون بينهم الحكم والقاضي.
وللخوف
من الأجنبي [عند المسلمين] وجه آخر يتجلى في الخوف من السفر. فإذا كان
البلد يخافون الرحالة الذي يقدم عليهم، فإن خوفهم يكون أشد وأعظم أن يذهبوا
هم أنفسهم إلى البلاد الأجنبية يعشوا بين أولئك الأجانب. فلذلك كان السفر
عند الإنسان القليل تحضر حافلاً بأسوإ التوقعات. ولذلك جاء الدين الإسلامي
بوجه خاص مشتملاً على الكثير من القواعد المتعلقة بالسفر. وجاءت كتب الحديث
وكتب الأدب مشتملة جميعاً على فصول خاصة بالسفر. وقد كان المسافر عند
الأقوام البدائية يقوم لحظة الاستعداد للسفر وأثناء ذلك السفر وبعده، بشتى
الطقوس التي يتطهر بها، وليخلص بها نفسه من كل الشرور السابق واللاحق. وهذا
هو حسب اعتقادي مدلول ذلك الماء الذي يرشونه في إفريقيا الشمالية عند قدمي
الشخص المزمع السفر. وقد اتفق لنا وقت أن خرجنا من الصويرة في سنة 1902
لنقوم بجولة في المناطق الداخلية أن رأينا قريباً لأحد مرافقينا المسلمين
يخرج من داره ويهرق «سطلا» من الماء عند حوافر جواده.
أصول احتقار الكافر
لذلك
نعتقد أن الكراهية التي يحملها المسلم للكافر ليست سوى صورة لأسلمة للتخوف
البدائي الذي كان لديه من الأجنبي. فكلما كان سفرنا في الأصقاع التي هي
أقل نصيباً من المعرفة، إلا ولاحظنا أن هذه الأسلمة يسمها شيء من النقصان.
ثم تضعف في جهات أخرى، كما في جبال الأطلس؛ فالناس في هذه المناطق لا
يزالون يتخوفون من الأجنبي أكثر مما يكرهون المسيحي. وترى هذه الأسلمة قوية
في حواضر مثل فاس؛ حيث التجار الذين سافروا [إلى البلاد الأجنبية]، ولهم
معرفة واسعة بأوروبا؛ ويعرفون جيداً أننا لسنا أسوأ من بني البشر الآخرين،
لكنهم يكونوا أشد تعصباً. وليس ببعيد أن يكون أن يكون الخوف من الغازي عند
هؤلاء الأخيرين ينضاف إلى الكره الديني له ويعززه، وإن كنا لا نرى هذا
العنصر هو الغالب في مشاعر العداء المناوئة التي لا يزال المغاربة يحملونها
إلى الأوروبيين؛ فالدين يتفوق لديهم على ما عداه من شاعر الوطنية، حتى
ليكون هو الدافع الأول إلى كراهيتهم [للأجانب]. فهم لا يخشون أن يفقدوا
استقلالهم، بقدر خشيتهم أن يقعوا تحت حكم الكفار. فأكثر ما يخشون أن يتعرض
دينهم للتدنيس، وهذه صورة مؤسلمة للدنس الذي كانوا يلصقونه من قبل
بالأجنبي. وإنهم ليعرفون جيداً، خاصة أولئك منهم الذين سافروا [إلى البلاد
الأجنبية] بم في حضارتنا من محاسن، بل ويعلفرون كيف يسخرونها لأنفسهم،
لكننا نظل في أعينهم أناساً خارجين عن الشريعة الدينية، وأناس لا يُرجى لهم
خلاص، وأناس دسون، فإذا كل تلك الخرافات البدائية التي سبق لنا أن
تناولناها، قد انتقلت إليهم، وصارت اليوم تزيد في خوفهم من الكفار.
الخوف من التجديد
وهذا
هو السبب الذي يجعلهم مرتابين متشككين في كل ما نعمل لأجلهم ونروم منه
صالحهم. فلا تجد إصلاحاً واحداً من الإصلاحات التي قمنا بها في الجزائر قد
لقي في البداية الاستقبال الحسن من الأهالي؛ سواء ما دخل من تلك الإصلاحات
في إقرار الملكية الفردية وما تعلق منها بقانون الحالة المدنية وما اتصل
منها بإحصاءات السكان، وما هم منها الشركات التعاونية...، إلخ. فقد قوبلت
هذه التدابير في البداية بالحذر والارتياب. وقد كان بعض ذلك الحذر
والارتياب يشف لنا عن الفزع الساذج الذي كان يأخذ بنفوس البدائيين؛ فقد ظل
الجزائريون يمتنعون من التلقيح لقناعة لديهم أنه إنما جُعل لإضعافهم!.
وكذلك ظل عمل أطبائنا، ذلك العمل الحي، يقابل من المسلمين بالارتياب لوقت
طويل. وهذا أحد تلامذتنا السابقين في مدرسة تلمسان، وهو اليوم قد بات
مؤمناً بقضية التحضير، قد اعترف لي منذ وقت قريب جداً أنه قد كان من قبل
يعتقد، وأخوته في الدين أن التعليم الذي كنا نقدمه لهم لم يكن له هدف غير
العمل الممنهج لتحويلهم عن الطريق القويم، الذي هو سبيلهم الوحيدة إلى
الخلاص.
لذلك تجد بعض من خبروا تجربة الجزائر يقابلون بشيء من الارتياب
ما يقرأون في الروايات التي وضعها الرحالة عن المغرب، وأن المغاربة يرحبون
بمقدم الأوروبيين، ويرحبون خاصة بمقدم الفرنسيين إليهم. وليس من شك، فقد
كنا كثيراً ما نسمع نحن أيضاً، أن المغاربة إذا تقلوا الفرنسيين أعربوا لهم
عن متمنياتهم أن تمد فرنسا يديها إلى المغرب. لكن لا تعدو هذه التصريحات
أن تكون من ذلك الكلام الذي يطلقه المستاءون على سبيل النكاية، وإلا فهي
تكون من ذلك الإطراء المغرض، أو من قبيل تلك المجاملة المفرطة التي هي
مألوف المسلمين. ولئن صرح هؤلاء بأنهم يفضلون الفرنسيين، فلأنهم يكونون
يتوجهون بكلامهم إلى الفرنسيين، ولو تكلموا إلى الأنجليز لأعلنوا لهم عن
حبهم لأنجلترا، ولو كان كلامهم إلى الألمان، لأمدوا لهم أن الحضارة
الألمانية هي وحدها التي تحتل السويداء في قلوبهم، وإن هم إلا يشملون
بكراهيتهم سائر الأجانب. وإن أولئك منهم الذين زاروا الجزائر أو زاروا
أوروبا والذين كثيراً ما يحلو لنا أن نتبجح بأنهم يميلون إلى أن يرونا نبسط
سيطرتنا على بلدهم، وكثيرو الأسفار منهم الذين جابوا العالم، والمياومين
الذين يعملون لدى أبماء جلدتنا من المعمرين متفقون على الاعتراف بأن الناس
في بلداننا ينعم من الأمن ورغد العيش بأكثر مما يحدون مهما في المغرب، بيد
أنك لا تراهم يتمنون تدخلنا، وربما كانوا أكثر عداء لنا من إخوتهم الذين لا
يخرجون إلى البلاد الأجنبية، وإن بدوا ميالين إلى التسامح.
اتصال المسلم بالكافر
وربما
وقعت هذه الأسطر بيد أحد أولئك المسلمين المتنورين والمستقلين الذين هم
مفخرة مستعمرتنا، فأرجوا ألا يحملوها على التشاؤم الثابت المكين، بل هي
مجرد معاينة لحالة، وما هي بالشيء الذي يتأبي دون سواه من أمور هذا العالم
عن التبدل والتغير. وإنني لعلى اقتناع مكين بأن تقارباً صامتاً، لكن
محققاً، قد بدأ يحصل منذ وقت غير يسير بيننا والمسلمين، وأن التدابير
الإدارية الحكيمة ستزيد من تعزيزه، وأن مقاوماتنا لن تفلح في عرقلته، مثلما
أن تلهفنا واستعجالنا لن يكون لهما أن يزيدا من تسريعه. وحسبي أن أنوه
ههنا إلى وجوب أن نتوقع في علاقتنا مع المسلمين أن يكون أول اتصالنا بنا
على غير ما نحب ونؤمل. فعند أول اتصال لك بالإسلام تراه كيف ينكمش على نفسه
وينتفش، وكيف تبلغ سورة التعصب مداها. وهذه ظاهرة عرفناها كثيراً في
الجزائر، وهي من الأمور الجارية في المغرب. فأما في الجزائر فقد أمكن لنا
أن نسرع من وتيرة الأمور بمجرد وجودنا [الطويل] في هذا البلد وبفعل نوع من
المدافعة لدى كثير من الأقوام البربرية فيه لعملية الأسلمة. وأما المغرب
فمن المعروف أن سكانه المدينيين الذين لهم معرفة بالأوروبيين يكونون أكثر
تعصباً من سكان المناطق الداخلية. فكأننا بالمسلم لا يعي شخصيته الدينية
إلا متى وقع له الاتصال بشخصية أخرى. ومن المحتمل لهذه الظاهرة أن تكون
شيئاً مؤقتاً، وأغلب الظن أن يطول بها الوقت، لكن مآلها إلى تلاش بطول
الاتصال بين الشعبين.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 3 -
المغربي إذا حيا الأوروبي قال له: «السُّم عليك»، لا «السلام عليك»!
تحية الإسلام
من
العلامات المصرحة بوضوح بالاحتقار الذي يلقاه المسيحي كما لا يلقه اليهودي
في المغرب، ذلك الرفض المطلق من أهله أن يقولوا «السلام» لمن هم من هاتين
الفئتين من الكفار. فلن يكون للرحالة المسيحي أياً كان وضعه ومهما بلغ
جهازه المسافر أن يسمع من أحد الأهالي عبارة «السلام عليكم»، وهي العبارة
الحقيقية للتحية في الإسلام. ومهما بلغ من التأدب وخاطبهم وظل يكرر عليهم
هو نفسه ويعيد : «السلام عليكم» سيكون فلن يحظى قط بسماع الرد المعتاد :
«وعليكم السلام». ولو كان المسلم الذي يحييه بهذه التحية أكثر روقاناً، فلن
يزيد في رده عليه عن القول : «السلامة»، أو أي عبارة أخرى في معنى نهارك
سعيد. ذلك بأن العبارة الأولى في التحية، أقصد «السلام عليكم» هي تحية
الإسلام التي يقولها المسلم لأخيه متمنياً له الخلاص في العالم الآخر.
فالسلام يعني سلام الروح، وأما السلامة فتعني سلامة الإنسان في الدنيا.
وأما
في الجزائر فالمسلمون أكثر تساهلاً في تحية الأوروبيين بتحية «السلام»،
لكن لا يبعد أن تلاقي بينهم بعض المتعصبين الذين يمتنعون بكل الوسائل من
التسليم أو رد السلام على الأوروبيين. فإذا دخل الواحد منهم مجلساً
للمسلمين وفيه مسيحي قال : «السلام على أهل السلام». لكنه أمر قد يتفطنون
أو لا يتفطنون إليه، حسب ما يكون لهم من التشبث بعصبيتهم، ومعنى هذه
العبارة «السلام على المسلمين دون الكفار». وقد تجد من المسلمين كذلك من
يغمغمون بتحية السلام ولا يصرحون بها، فكأنك تسمعهم يقولون : «السُّم
عليك». ومن المتعلمين الماكرون كذلك فهم يحرفون كلمة «السلام» فكأنهم
يلفظونها : «السم».
مجاملة الكافر
وما
بدأ المغاربة يضمنون مراسلاتهم الرسمية السلام للأوروبيين إلا منذ وقت
قريب؛ ثم إنهم لا يراعونه في جميع تلك المراسلات، علماً بأنهم في العادة
يبتدئون رسائلهم ويختمونها بالسلام. وقد كانوا من قبل يستبدلون عبارة
السلام في فواتح تلك المراسلات [إذا أرادوا بها الأجانب] بصيغة أخرى واضحة
الإساءة؛ وهي «السلام على من اتبع الهدى». وأما اليوم فقد صار المخزن يُبدل
هذه العبارة غير اللائقة بعبارات أخرى فيها من التحية والتهنئة، مع الحرص
عامة على لفظة «السلام». وكذلك يختم مراسلاته مع الأجانب بعبارة مهنئة،
ونادراً ما يختما بالسلام، بعد أن كان يختم تلك المراسلات بعبارة غير مهذبة
من قبيل «انتهى» أو «التمام» التي تفيد المعنى نفسه.
سيدي
والمغاربة
شديدو تحفظ كذلك في إطلاق لقب «سيدي»، ولا تراهم يجعلون هذا اللقب قط
للمسيحي، مهما بلغ من رفعة المقام، ولو كان سفيراً من السفراء. ولذلك تجد
المخزن لم يقبل إلا بعد طول مماطلة أن يوجه السلام إلى المناديب الأوروبيين
في ما يوجه إليهم من مراسلات، لكنه لا يزال إلى اليوم يمتنع أن يجعل لهم
لقب «سيدي»؛ بل يخاطبهم بألقاب غربية من قبيل : «السنيور» و»الكباييرو»
و»المسيو»، ولا يستنكف أن يخاطبهم من غير ألقاب. وكذلك يفعل المخزن في
المحادثات التي تجمعه بالأوروبيين، ولا يخص الواحد منهم بلقب «سيدي»، وهو
اللقب الذي تُجعل له بكل سهولة في الجزائر. ذلك بأن كلمة «السيد» في المغرب
كما في المشرق لقب ديني بالأساس، ولا يُقال بعد الأولياء إلا للأجلاء من
المسلمين. ومعناه الحقيقي «السيد». وأما لقب «سيدنا» فيُجعل في المغرب
للسلطان. ويُستعمل هذا اللقب في الجزائر بشكل أكثر توسعاً، حتى إنهم
يجعلونه في حديثهم العادي إذا خاطبوا الأشخاص المحترمين. ويستعملون كذلك
لقب «السي» التي هي أقرب إلى معنى «سيدي» عندنا [نحن الفرنسيين]، وهم يخصون
بها الأشخاص الذي حازوا مستوى من التعلم، ويقرنونها دائماً باسم العلماء.
ثم إن الغالب عندهم أن يختصروا «السي» إلى «س»، خاصة على مستوى الترخيم،
كقولهم : «نوض آسْ»؛ أي قم يا سيدي. وكذلك هو الشأن في جنوب المغرب، فيقال :
«إييس»، وهي «اختصار» لـ « إيه آ س»، ومعناها «نعم، سيدي».
التاجر
وأما
الألقاب «سنيور» و»كباييرو» و»مسيو» فلا يستعملها من الأهالي إلا الذين
اتصلوا بالأوروبيين، وأما الآخرون فهم يطلقون على المسيحي الذي يحل بالمغرب
لقب «التاجر»، وهو اللقب الوحيد الذي يُخص به. والمغاربة يستعملون هذا
اللقب في ما بينهم ويريدون به المشتغل بالتجارة. وأما إذا أرادوا به
الأوروبيين فإنهم يطلقونه عليهم من غير تمييز، وسواء أكانوا من التجار أو
من سواهم، ويكون هذا اللقب يتخذ في هذه الحالة معنى فيه شيء من القدح
والانتقاص. فتصير هذه الكلمة بهذا الاستعمال إلى معنى قدحي، يشار بها إلى
المسيحي، من قبيل قولنا [في الفرنسية] «سيدي» على سبيل الانتقاص. فإذا كنت
غير معروف لديهم اكتفوا بمناداتك «يا التاجر!»، وإذا كان اسمك معروفاً
لديهم لم يفتهم أن يسبقوه بكلمة «تاجر»، وذلك، ولنكرر القول، بغض النظر عن
طبيعة مهنتك. وأغلب الظن أن يكون المغاربة لم يعرفوا طول عدة قرون من
المسيحيين غير التجار الذين كانوا يأتون للمتاجرة عندهم، ومن هذا تفسير
للتغيير الذي صار إليه معنى كلمة «تاجر». وعلاوة على ذلك فليست هذه هي
المرة الأولى في تاريخ اللغة العربية التي يعرف فيها معنى هذه الكلمة؛ فقد
كانت هذه الكلمة تتعمل في الشعر الجاهلي بمعنى «بائع النبيذ»، وكلمة
«الحانوت» التي يعني اليوم في سائر [البلاد العربية] «الدكان والمستودع»
كان لها معنى «الحانة». والحال أن هؤلاء المتاجرين في الخمور الذين كان
معظمهم يفدون على الجزيرة العربية من سوريا قد كانوا في عمومهم من
المسيحيين، عدا أنهم قد كانوا هم الوسائط في دخول الكثير من الأفكار
المسيحية إلى الإسلام.
الطبيب
وأما
إذا كان المسافر إلى المغرب شديد الاعتداد بنفسه بحيث لا يرضى أن يُحط من
قدره إلى مجرد «تاجرا»، فإن له أن يتقمص صفة الطبيب أو صفة القنصل أو
الملحق بإحدى القنصليات؛ ففي الحالة الأولى يصير عند الأهالي يعرف بلقب
«الطبيب»، وفي الثانية «بالقونصو». وما أسهل ما تجد المغاربة، كما أسلفنا
القول، ينسبون صفة الطبيب إلى معظم المسيحيين، وهذه الصفة تعود على من
تُجعل له منهم بالكثير من الزبناء والمتداوين، لكنها تسبب للرحالة في
المقابل الكثير من المنغصات، بحيث إنها لا تدع له وقتاً يخصصه لدراساته، ثم
إنها لا تعود عليه بكثير اعتبار. وأما صفة «القنصل» التي لا يتورع الكثير
من الأوروبيين أن ينتحلوها لأنفسهم، فإنها تسعف المسافر ببعض التسهيلات في
بعض المناطق؛ خاصة تلك القريبة إلى الساحل. لكن يخطى الحامل لهذا اللقب
كثيراً لو بالغ به فوق حدوده.
الحكيم
وهناك
لقب آخر يمكن للأوروبي في المغرب أن يحصل عليه بشيء من الصبر وشيء من
العلم، وقد حملت هذا اللقب أنا أيضاً لبعض الوقت؛ أن ذلك هو لقب «الحكيم».
وهي كلمة تدل في اللغة الفصحى على «من امتلك الحكمة»، وقد كان يُجعل خاصة
للفلاسفة في العصر القديم. لكن انضاف إليه بطول الاستعمال معنى الطبيب
والساحر؛ فأصبح يطلق على الرجل أشبه بفرجيل في العصور الوسطى. فبينما تكون
كلمة «الطبيب» لا تزيد عن معنى المعالج بالعقاقير، تفيد كلمة «الحكيم» معنى
الحكيم الذي حاز علوم القدامى، وامتلك الخبرات الطاهرة والخفية؛ فهو يعالج
بالأدوية وبالمعارف الخفية.
لكن هذه الحيل جميعاً لا تساوي شيئاً بإزاء
ال ال والصبر والأناة؛ وأن يتحلى المرء بالاستقامة، والرصانة في الإجابة
عن السؤال، والاستقامة في المعاملات اليومية البسيطة، وأن يؤثر الهدوء،
ويتجنب الغصب، والثرثرة الزائدة، والتبسط المفرط في الحديث، وأن يتوخى
العدل، لكن لا يفرط في الحزم، وأن يتوخى التحرر، لكن من غير إفراط في
الكرم، وأن يتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إلى عادات المسلمين؛ فبهذه الخصال
يصير الأوروبي مع الوقت يحظى من الثقة بأكثر مما قد يحوز منها بادعاء
الألقاب والأقنعة وركوب مراكب الكذب.
السوالم
(26
مارس). جمعنا خيامنا في الساعة السادسة والنصف صباحاً، وهي عملية لم تخل
من صعاب؛ ولبث أهل النزالة مقرفصين من حولنا وهم ينظرون بهدوء إلى رجالنا
كيف يتخبطون في الأمر، لا يمدون إليهم يد المساعدة. وقد نادى أحد رجالنا
على واحد من أولئك المتفرجين : «آلراجل اعطينا يد الله باش نرفدو، آجي
تربح». ومن النادر أن ترى العربي ألا يستجيب إلى مثل هذا النداء، فلما تم
لنا تحميل أغراضنا، خرجنا من مولاي زيدان لندخل بعيده إلى الغابة.
إن
هذه الغابة هي ما يسميه الأوروبيون على سبيل التفخيم بغاية السوالم، وهو
اسم لفخدة من أولاد زيان يفصلها عن بقية قبيلتها سائر قبائل مديونة، وتمتد
أراضيها حتى الساحل. والغابة المذكورة تكونها أراض شاسعة تغطيها أشجار
عالية شديدة التفاف، يتكون معظمها من شجر المصطكا أو «الضرو»، وهي في طول
الرجل منا، أو أطول، ولها أوراق شديدة التفاف تجعل الغابة أدغالاً عسيرة
النفاذ. وفي وسط تلك الأشجار طريق الرابطة بين الدار البيضاء وأزمور في سبل
ضيقة ومتعرجة، كشأنها في بقية أنحاء البلاد، وتسير تتقاطع، فتشكل في ذلك
الخضم من النباتات جزيرات من شجر المصطكا. وقد توالت عليها الدواب في
القوافل التي تمر بها فقضمت فروعها وبراعمها حتى لتبدو كأنها قطعت عمداً،
كمثل تلك الأسيجة من الزعرور التي يؤثر الفرنسيون أن يحيطوا بها رياضهم ثم
يمعنون في تقطيعها ليجعلوا لها زوايا بارزة وأشكالاً مستطيلة. وتتخلل تلك
الشجيرات نباتات جميلة من بقلة الملك بتويجاتها الزخرفية المنيرة، فهي
تتسلق تلك النباتات الخضراء الداكنة وتلك الصليبيات البيضاء، التي سبق لنا
الحديث عنها، والتي تدفع سيقانها الطويلة وتطاول بأزهارها فوق تلك
النباتات.
الرث/الخنزير البري
يخيل
إلى المرء أن هذا الدغل الكثيف لابد أن تتردد عليه الخنازير البرية، وهو
بالفعل عامر بهذه الحيوانات، فترى أوروبيي الدار البيضاء كثيراً ما
يتواعدون على اللقاء في السوالم لاصطياده. وكذلك يصيده الأهالي ليبيعوه إلى
الأوروبيين، فمن المعلوم أن تعاليم الإسلام تحرم عليهم أكل لحمها.
فالخنزير والكلب يعتبران عند المسلمين حيوانين «نجسين» في المقام الأول.
غير أنك لا تجد أهل بالمغرب يلتزمون هذه التعاليم ولا يخرجون عنها. وإذا
كان أهل الشاوية، في الناحية التي تهمنا، يستنكفون من أكل لحم الخنزير
ويحتقرونه، فليس الأمر كذلك عند قبائل الشاوية من الزيايدة وبني ورا؛
فالثابت عندهم أنهم يأكلون لحم هذا الحيوان، بل ويزعمون أن لحمه مفيد
للأبدان وأن فيه علاجاً من مرض الزهري.
لحم الخنزير
وكذلك
تجد لحم «حلوف الغابة» يقبل عليه غالبية ساكنة شمال المغرب من أقلهم
استعراباً، بل يطعمونه حتى في فاس، خفية. ويذكر رحالة من القرن الماضي
[التاسع عشر] أن السلطان مولاي [أحمد] الذهبي، كان يؤثر في طعامه لحم
الخنزير والثعلب المشوي. وقد كان أوروبيو الرباط يتعاطون تربية الخنزير،
فكان أهالي القبائل البربرية المجاورة الذين يعملون لديهم في حراسته لا
يستنكفون البتة أن يطعموا لحوم هذه الحيوانات. ولجدير بالذكر أن تربية
الخنزير الشائعة في كثير من المدن الساحلية قد كانت من قبل تلقى محاربة
شديدة من لدن المخزن. فقد كان منظر هذا الحيوان النجس يثير سخط المسلمين
«السنيين»، فمنع على سكان المدينة أن يمتلكوا بعضه. بل لا تجد الأسرة
الواحدة حتى في البادية تربي أكثر من خنزير واحد، فهي تعزله في مسور خاص
به. لكن هذه التقنينات لم يعد لها مفعول منذ وقت طويل، كما هو الشأن على
سبيل التمثيل في الدار البيضاء؛ فأنت ترى قطعان الخنازير تأتي إلى أطراف
هذه المدينة للبحث عن طعامها في تلك المزابل العمومية الهائلة، وفي غيرها
من المزابل، التي تتكاثر في غفلة من الحكومة، وفي استخفاف بأبسط شروط
النظافة، عند أبواب سائر المدن الكبرى. والخنزير الذي نراه في هذه النواحي
أسود اللون، فهو من فصيلة خاصة، ولا يبعد أن يكون عرف تلاقحات كثيرة مع
أنواع من الرث.
الخنازير الأليفة
إن
أكل الخنزير ليس بالأمر المقصور على المغرب وحده، بل يحضر كذلك عند غير
قليل من القبائل المتخلفة في منطقة شمال إفريقيا. فهذا أمر وقفنا عليه في
القبايل الصغرى. وله وجود كذلك في منطقة الخميرية التونسية. وتجدر الإشارة
إلى أن معظم هذه القبائل الآكلة للحم النجس هي التي توجد في المناطق
الغابوية أو شبه الغابوية؛ حيث تصعب تربية الماشية، فلا يجد أهلها بديلاً
عن لحوم هذه الحيوانات.
وليس يندر أن تجد خاصة عند الأغنياء خنازير
صغيرة أليفة، تتجول في داخل البيوت لا يستكرهون الاتصال بها، وهي المعتبرة
في دينهم من النجس. وكذلك تجد هذه النزوة، إن صح أن نعتبره كذلك، عند بعض
الجزائريين. وهناك اعتقاد شائع في المغرب كما في الجزائر، ربما أسعف ببعض
تفسير لهذا الأمر؛ وهو أن وجود الخنزير البري وسط القطيع من الأغنام من
شأنه أن يبعد عنها العين. وليست هذه سوى حالة خاصة لنقل الشر من كائن حي
إلى آخر، وهو أمر يسلم به سائر الأقوام البدائية، ويعتبر العنصر الأساس في
كثير من طقوسهم السحري وشعائرهم الدينية. فهذا يحملنا على الافتراض أن
تدجين الخنزير الصغير، وإدخاله البيوت ليس له، أم لم يكن له في البداية، من
هدف غير دفع الشر الذي يمكن أن يقع على البيت وتحويله إلى هذا الحيوان
الحقير.
الغزال
لا
تجد في الشاوية مجالاً مخصوصاً يؤثره الصادون من السوالم دون سواه؛ فسائر
أراضيها عامرة بالطرائد. وإذا كان النعام الذي ذكر الإدريسي وجوده في هذه
المنطقة قد انقرض عنها بالكلية، فإنك لا تزال تجد فيها الطريدة الكبيرة،
كالغزال الذي هو فيها وافر كثير. فأنت تراه عند الزيايدة وأولاد بن داود
وبني مسكين في قطعان بين مائة وخمسين وماءتين من الرؤوس. وغزال بني مسكين
يعرف بقرنيه المقوسين، وهو لا ينزل حتى شاطئ البحر. وأما الغزال الآخر فإن
له قرنين مستقيمين، وهو دون شك مطابق لغزال السهول في الجزائر وقد يشرد
أحياناً حتى يصل إلى الساحل في الشاوية ودكالة. وتشيع عند الأهالي ههنا
خرافة غريبة تقول إن الغزال لا تضع مولودها إلا بعد أن يخرج ثعبان من البحر
ويأتي ليشهد عملية الوضع.
طرائد الشاوية
ولا
تجد في هذه المنطقة من الحيوانات المتوحشة الكبيرة، فإذا عن لك أن ترى
الفهود وجب أن تعبر وادي أبي رقراق وتصعد إلى أن تأتي إلى منبع وادي
النفيفيخ؛ حيث الجبال تكسوها أشجار البلوط والفلين والعفصية، وإليها تؤوي
بعض هذه الحيوانات. وأما الطيور، وفيها الحجل الأحمر والسمان والشنقب، فهي
المألوفة في الصيد. وهنالك طائر آخر يكثر عليه تهافتهم، وهو المسمى عند
الأهالي «الحْبْر»، ويتراوح وزنه ما بين 12 اثني عشر وثمانية عشر كلغ. ولا
ينبغي أن تفوتنا الإشارة كذلك إلى طائر آخر شبيه بما يعرف عندنا بديك مارس،
وهو في حجم سمنة غليظة، تزينة قنزعة جميلة فوق رأسه، والعرب يسمونه «قوبع
النصارى»، ويقولون إن في لحمه فوائد علاجية عظمية، فهم يزعمون له أنه يشفي
من «البرص»، وهو مرض يحدث بقعاً بيضاء على الجلد، يقولون إنه يختلف عن
الجذام؛ من حيث لا يقتصر مثله على الجلد، بل يتعداه إلى العظام. فالبرص
عندهم شيء شبيه بما يعرف عند أطبائنا بالوضَح.
دار الحاج قاسم
ها
إننا قد انتهينا الآن من الغابة، وصرنا نتقدم في حقول من «الرتم»، فتبدو
بما يقع عليها من أشعة شمس الثامنة صباحاً وقد اكتست إهاباً ساحراً. الأرض
حمراء تتخللها حجارة بيضاء. والغيضات التي يملؤها نبات الرتم تمتد على مرمى
البصر في علو الفارس، على طول مرمى البصر، وكلما وقعت عليها هبة ريح مهما
كانت هينة حنت لها فروعها الرخصة الطويلة والرقيقة كأنها الأسل، الناعمة
المتلامعة. ويمد نبات الحلتيت خلال هذه الطاقات سيقاناً غليظة، لكن خاوية،
تكاد توازي ذلك النبات طولاً، وقد ازدهت رؤوسها بأكاليل صفراء، فيما تكسو
الأرض بأوراقها البنفسجية بجزار بقع من نبات الصابون ذي التويجات الحمراء
الفاقعة. الطريق كثيرة السالكين، فلا نفتأ نلاقي فيها القوافل، فالواحدة
منها تمر بإزاء الأخرى دونما تحية، وفي كثير من التجاهل، وأنا أتحدث بطبيعة
الحال عن مسلمين، وأما موقف المسيحي فيكون هذه الحالة، وكما أسلفت القول،
استثنائياً من كل الوجوه. ثم عبرنا وادي الفوارة، ولم يكن به ماء كثير. وفي
الساعة التاسعة بلغنا عين حويرة، وبجوار تلك العين تقوم حويطة، أي ضريح
مكشوف لأحد الأولياء يحيط به سور قليل ارتفاع.
عند هذا الموضع تنتهي
حدود الشاوية، فنطرق بعده بلاد الشياظمة؛ فلا نرى بعد وجوداً للغابات، بل
كل ما حولنا حقول من حبوب وحناء، وأكثر ما يعمرها الذرة، التي تغطي مساحات
واسعة من التربة السوداء، التي تبدو في غاية الخصوبة. والمرجح أن يكون
الشياظمة التي نعبر بلادها الآن فخدة من القبيلة الكبرى المعروفة بالاسم
نفسه والموجودة شمالي مدينة الصويرة، والتي سنعود إليها بالحديث في ختام
هذا الكتاب. وقد جاءت هذه الفخدة لتتخذ مستقرها في المكان الذي هي فيه الآن
بضغط من محن ومصائب لا تزال غير معلومة لدينا.
وفي الساعة 9,45 وصلنا
إلى دار الحاج قاسم، وهي قصبة لأحد القياد السابقين قد باتت نصف متهدمة.
والمغرب تعمره أطلال لدور القياد، وسوف تسنح لنا فرصة العودة بالحديث إلى
هؤلاء الموظفين، الذين ينتهي معظمهم إلى أسوإ حال. فهم إذا عزِلوا كان
مآلهم جميعاً إلى السجن، وإلا فيعاقبون بمصادرة أموالهم. فما أن يُعتقل
الواحد من هؤلاء الموظفين السابقين حتى يأتي المخازنية ليفتشوا مساكنهم
ويقلبوا محتوياها رأساً على عقب، ويقتلعوا الزليج من أرضياتها ويطيحون
بجدرانها عساهم يقعون فيها على كنز [خبيء]، وترى الأسرة وقد انحدرت إلى بؤس
وضيق حال تتفرق في الأرض بحثاً عن وسائل تسعفها في العيش. وتلبث القصبة
خاوية تشخص بأسوارها ال... التي تصير مع الوقت إلى تآكل وانهيار. وإذا جاء
القايد الجديد ليقيم في الموضع نفسه حيث كان سلفه نفسه فلا تراه يسكن قط
القصبة التي كانت يسكنها؛ فلا يرممها لأن من شأنه أن يكون شؤماً عليه. وليس
يندر أن ترى ثلاث قصبات أو أربعاً لقياد سابقين تقوم جوار بعضها وقد باتت
أطلالاً. وليست هذه الكراهة في ترميم البيت الخرب الذي كان يسكنه الضحية
الخضم والسكن فيه بالأمر المقصور على القياد وحدهم، فحيثما وليت وجهك من
المغرب تلاقي البيوت المهجورة، فهذا المظهر أعطى رحالة كثراً الانطباع
يتجولون في بلد مهجور، وينسجوا حوله أسطورة «البلد التي تسير إلى انهيار».
ظللنا
نسير في أراض تكسوها المزروعات الجميلة، لكنها في هذا الوضع قد تعرضت
للإتلاف من الجراد، وقبل الساعة العاشرة بلغنا «إنجومة». وهنالك رأينا
نورية تقوم على جانب الطريق. ثم خرجنا من الشياظمة لندخل شتوكة. اجتاحها
قبل عشر ساعات منه مرورنا إلى انجومة، حيث هناك ناعورة على أطراف الطريقة.
وغادرنا
الشياظمة لندخل إلى شتوكة، وهي وحدها التي لا تزال تفصلنا عن أزمور. وهي
منطقة اشتهرت على الدوام بجودة حنائها؛ وقد سبق لعلي باي أن لاحظ ما وفرة
زراعتها في هذه المنطقة، وقد كانت لها في مدينة الجديدة تجارة رائجة لوقت
طويل، تراجع التصدير فيها تاما. لكن التصدير انحط فيها انحطاطاً. وقد أصبح
الأهالي يقبلون اليوم على زراعة الكتان. فبعد كانت هذه الفلاحة تلقى منهم
الإهمال، إذا هي قد صارت تشهد في ما بين 1900 و1903 ازدهاراً كبيراً، على
أثر بعض الطلبات التي وردت على بذور الكتان من قبل التجار الأوروبيين. حتى
إذا تبين للأهالي الأرباح التي يمكنهم أن يحنوها منها، صاروا يخصصون لها
الأراضي الشاسعة في شائر نواحي دكالة. لكن ليس ببعيد أن يعود عليهم هذا
الإقبال الواسع على زراعة الكتان بعكس ما ما كانوا يؤملون فيه؛ فبالإضافة
إلى التراجع لامحالة سيقع في الأسعار بسبب وفرة الإنتاج، ستتعرض الأراضي
التي إلى الإنهاك من كثرة ما أعطت من هذا المنتوج، مهما بلغ مخزونها منه،
ولن يتسنى أن يعاد استصلاحها، مع الافتقار إلى الأسمدة، إلا بعد وقت طويل.
تعقد مسألة القبيلة
والمخزن
يعد شتوكة، كما يعد الشياظمة، في جملة دكالة، وهي فخدة من قبيلة كبرى من
قبائل سوس قد تكون ارتحلت عن موطنها الأصلي لظروف سياسية. وقد عرف عن
السلاطين المسلمين في شمال إفريقيا جميعاً أنهم كانوا يعمدون إلى هذه
الوسيلة لمعاقبة القبائل المتمردة. وهذا نوع من العقاب لم نعدمه في
بلداننا؛ والكتابات تفيدنا أن الرومان قد كان من عادتهم أن [المعارضين
إليهم] إلى الأماكن القصية. ولقد تضافرت هذه التنقلات والتشرذم الذي يعتبر
من خصائص القبائل التي تنامت بشكل كبير حتى بات من المتعذر عليها أن تظل
مقيمة في مواطنها التقليدية، وانضاف إليهما النزوح الكبير للأقوام من
الرعاة لتصيِّر المجموعات الاجتماعية في شمال إفريقيا إلى أقصى مبالغ
الشتات. ولذلك فإذا رمنا دراسة تكوين القبيلة من هذه القبائل لم يكن لنا أن
نصورها، كما يفعل العرب، على شجرة نسب مستقيمة ابتداء من الجد الأول
وانتهاء إلى أصغر الأسر فيها في الوقت الراهن، بل ينبغي أن نجعلها على هيأة
جذع أصلي، كثيراً ما يكون هو نفسه يسمه التعقيد، ثم يصير هذا الجذع من جهة
تنضاف إليه ما لاعد له من الطعوم ويصير من جهة أخرى يفقد الكثير من فروعه.
ولئن كان هذا التعقد لم ينتبه إليه الكثيرون فإنه لم يغب عن عالم في مثل
حصافة ابن خلدون.
صار عدد القباب في تزايد، وسيظل كذلك شأنها وصولاً إلى
أزمور، وهنالك طالعتنا تلك القباب في مجموعات من أربع إلى خمس. وفي المكان
المسمى «التلال» الذي وصلنا إليه في الساعة الثانية عشرة والنصف، وجدنا
«كركورا» كبيراً وسط الطريق، فتوقفنا هنالك عند بئر ماؤها شديد الرداءة.
في
الساعة الواحدة والنصف عدنا لاستئناف المسير، خلال بلاد شتوكة الكثيرة
السكان والخصبة الممرعة. وظلت تتتالى قبب الأولياء المبيضة، وكثيراً ما
يطالعنا عش قد وضعه طائر اللقلاق فوقها، ووقف هذا الطائر الذي يقول عنه
المغاربة إنه من الأولياء فوق ضريح الولي على قدم واحدة في وضعة جامدة.
الدشر
بدأت
تتوالى أمامنا «النوايل»، وهي ضرب من الأكواخ الأسطوانية المخروطية، قد
أقيم معظمها على الطراز السوداني. وجئنا سيدي فارس في الساعة الثانية و45
دقيقة. وكانت النوايل كثيرة فبدت بهيأتها البدائية تخالف كثيراً منظر ذينك
الضريحين بجدرانهما المحززة وقبتيهما نصف الكروية المبيضة بالجير، واللذين
يمثلان مفخرة القرية أو «الدشر».
وهذه الكلمة الأخيرة هي التي يغلب
استعمالها في تسمية القرى الصغيرة التي سكانها من المقيمين أو من نصف
الرحل. وأما في الجزائر فيقال لها «الدشرة»، لكن الكلمتين تجمعان هما
الاثنتان على «دشور»، وقلما قال في جمعهما «مداشر». ويستعملون كلمة
«المشتى» يريدون بها المكان حيث يقضون فصل الشتاء، وتُستعمل هذه الكلمة في
القبايل الصغري ويراد بها، على سبيل التوسع في الدلالة، القرية من الأكواخ
والبيوت. ويطلقون كلمة «الزربية» على السياج يتخذ من القصب وغيره من
النباتات الشوكية فيحاط به الدوار. وكذلك تستعمل هذه الكلمة في القبايل
الصغرى وكثراً ما تكون مرادفاً لاسم القرية. ولا يزالون يطلقون كلمة
«الدوار» على الخيام تُجعَل في حلقة، لكن السلطات الفرنسية وسعت كثيراً من
دلالة هذه الكلمة في الجزائر، فصارت تطلقها على الفخدات من الجماعات
المختلطة والتي كثيراً ما تعمد إلى تقطيعها بصورة اعتباطية؛ فلا تفرق فيها
بين ذات الساكنة المقيمة والساكنة من الرحل، بما يوحي بوجود خلط في هذا
الأمر.
المغربي إذا حيا الأوروبي قال له: «السُّم عليك»، لا «السلام عليك»!
تحية الإسلام
من
العلامات المصرحة بوضوح بالاحتقار الذي يلقاه المسيحي كما لا يلقه اليهودي
في المغرب، ذلك الرفض المطلق من أهله أن يقولوا «السلام» لمن هم من هاتين
الفئتين من الكفار. فلن يكون للرحالة المسيحي أياً كان وضعه ومهما بلغ
جهازه المسافر أن يسمع من أحد الأهالي عبارة «السلام عليكم»، وهي العبارة
الحقيقية للتحية في الإسلام. ومهما بلغ من التأدب وخاطبهم وظل يكرر عليهم
هو نفسه ويعيد : «السلام عليكم» سيكون فلن يحظى قط بسماع الرد المعتاد :
«وعليكم السلام». ولو كان المسلم الذي يحييه بهذه التحية أكثر روقاناً، فلن
يزيد في رده عليه عن القول : «السلامة»، أو أي عبارة أخرى في معنى نهارك
سعيد. ذلك بأن العبارة الأولى في التحية، أقصد «السلام عليكم» هي تحية
الإسلام التي يقولها المسلم لأخيه متمنياً له الخلاص في العالم الآخر.
فالسلام يعني سلام الروح، وأما السلامة فتعني سلامة الإنسان في الدنيا.
وأما
في الجزائر فالمسلمون أكثر تساهلاً في تحية الأوروبيين بتحية «السلام»،
لكن لا يبعد أن تلاقي بينهم بعض المتعصبين الذين يمتنعون بكل الوسائل من
التسليم أو رد السلام على الأوروبيين. فإذا دخل الواحد منهم مجلساً
للمسلمين وفيه مسيحي قال : «السلام على أهل السلام». لكنه أمر قد يتفطنون
أو لا يتفطنون إليه، حسب ما يكون لهم من التشبث بعصبيتهم، ومعنى هذه
العبارة «السلام على المسلمين دون الكفار». وقد تجد من المسلمين كذلك من
يغمغمون بتحية السلام ولا يصرحون بها، فكأنك تسمعهم يقولون : «السُّم
عليك». ومن المتعلمين الماكرون كذلك فهم يحرفون كلمة «السلام» فكأنهم
يلفظونها : «السم».
مجاملة الكافر
وما
بدأ المغاربة يضمنون مراسلاتهم الرسمية السلام للأوروبيين إلا منذ وقت
قريب؛ ثم إنهم لا يراعونه في جميع تلك المراسلات، علماً بأنهم في العادة
يبتدئون رسائلهم ويختمونها بالسلام. وقد كانوا من قبل يستبدلون عبارة
السلام في فواتح تلك المراسلات [إذا أرادوا بها الأجانب] بصيغة أخرى واضحة
الإساءة؛ وهي «السلام على من اتبع الهدى». وأما اليوم فقد صار المخزن يُبدل
هذه العبارة غير اللائقة بعبارات أخرى فيها من التحية والتهنئة، مع الحرص
عامة على لفظة «السلام». وكذلك يختم مراسلاته مع الأجانب بعبارة مهنئة،
ونادراً ما يختما بالسلام، بعد أن كان يختم تلك المراسلات بعبارة غير مهذبة
من قبيل «انتهى» أو «التمام» التي تفيد المعنى نفسه.
سيدي
والمغاربة
شديدو تحفظ كذلك في إطلاق لقب «سيدي»، ولا تراهم يجعلون هذا اللقب قط
للمسيحي، مهما بلغ من رفعة المقام، ولو كان سفيراً من السفراء. ولذلك تجد
المخزن لم يقبل إلا بعد طول مماطلة أن يوجه السلام إلى المناديب الأوروبيين
في ما يوجه إليهم من مراسلات، لكنه لا يزال إلى اليوم يمتنع أن يجعل لهم
لقب «سيدي»؛ بل يخاطبهم بألقاب غربية من قبيل : «السنيور» و»الكباييرو»
و»المسيو»، ولا يستنكف أن يخاطبهم من غير ألقاب. وكذلك يفعل المخزن في
المحادثات التي تجمعه بالأوروبيين، ولا يخص الواحد منهم بلقب «سيدي»، وهو
اللقب الذي تُجعل له بكل سهولة في الجزائر. ذلك بأن كلمة «السيد» في المغرب
كما في المشرق لقب ديني بالأساس، ولا يُقال بعد الأولياء إلا للأجلاء من
المسلمين. ومعناه الحقيقي «السيد». وأما لقب «سيدنا» فيُجعل في المغرب
للسلطان. ويُستعمل هذا اللقب في الجزائر بشكل أكثر توسعاً، حتى إنهم
يجعلونه في حديثهم العادي إذا خاطبوا الأشخاص المحترمين. ويستعملون كذلك
لقب «السي» التي هي أقرب إلى معنى «سيدي» عندنا [نحن الفرنسيين]، وهم يخصون
بها الأشخاص الذي حازوا مستوى من التعلم، ويقرنونها دائماً باسم العلماء.
ثم إن الغالب عندهم أن يختصروا «السي» إلى «س»، خاصة على مستوى الترخيم،
كقولهم : «نوض آسْ»؛ أي قم يا سيدي. وكذلك هو الشأن في جنوب المغرب، فيقال :
«إييس»، وهي «اختصار» لـ « إيه آ س»، ومعناها «نعم، سيدي».
التاجر
وأما
الألقاب «سنيور» و»كباييرو» و»مسيو» فلا يستعملها من الأهالي إلا الذين
اتصلوا بالأوروبيين، وأما الآخرون فهم يطلقون على المسيحي الذي يحل بالمغرب
لقب «التاجر»، وهو اللقب الوحيد الذي يُخص به. والمغاربة يستعملون هذا
اللقب في ما بينهم ويريدون به المشتغل بالتجارة. وأما إذا أرادوا به
الأوروبيين فإنهم يطلقونه عليهم من غير تمييز، وسواء أكانوا من التجار أو
من سواهم، ويكون هذا اللقب يتخذ في هذه الحالة معنى فيه شيء من القدح
والانتقاص. فتصير هذه الكلمة بهذا الاستعمال إلى معنى قدحي، يشار بها إلى
المسيحي، من قبيل قولنا [في الفرنسية] «سيدي» على سبيل الانتقاص. فإذا كنت
غير معروف لديهم اكتفوا بمناداتك «يا التاجر!»، وإذا كان اسمك معروفاً
لديهم لم يفتهم أن يسبقوه بكلمة «تاجر»، وذلك، ولنكرر القول، بغض النظر عن
طبيعة مهنتك. وأغلب الظن أن يكون المغاربة لم يعرفوا طول عدة قرون من
المسيحيين غير التجار الذين كانوا يأتون للمتاجرة عندهم، ومن هذا تفسير
للتغيير الذي صار إليه معنى كلمة «تاجر». وعلاوة على ذلك فليست هذه هي
المرة الأولى في تاريخ اللغة العربية التي يعرف فيها معنى هذه الكلمة؛ فقد
كانت هذه الكلمة تتعمل في الشعر الجاهلي بمعنى «بائع النبيذ»، وكلمة
«الحانوت» التي يعني اليوم في سائر [البلاد العربية] «الدكان والمستودع»
كان لها معنى «الحانة». والحال أن هؤلاء المتاجرين في الخمور الذين كان
معظمهم يفدون على الجزيرة العربية من سوريا قد كانوا في عمومهم من
المسيحيين، عدا أنهم قد كانوا هم الوسائط في دخول الكثير من الأفكار
المسيحية إلى الإسلام.
الطبيب
وأما
إذا كان المسافر إلى المغرب شديد الاعتداد بنفسه بحيث لا يرضى أن يُحط من
قدره إلى مجرد «تاجرا»، فإن له أن يتقمص صفة الطبيب أو صفة القنصل أو
الملحق بإحدى القنصليات؛ ففي الحالة الأولى يصير عند الأهالي يعرف بلقب
«الطبيب»، وفي الثانية «بالقونصو». وما أسهل ما تجد المغاربة، كما أسلفنا
القول، ينسبون صفة الطبيب إلى معظم المسيحيين، وهذه الصفة تعود على من
تُجعل له منهم بالكثير من الزبناء والمتداوين، لكنها تسبب للرحالة في
المقابل الكثير من المنغصات، بحيث إنها لا تدع له وقتاً يخصصه لدراساته، ثم
إنها لا تعود عليه بكثير اعتبار. وأما صفة «القنصل» التي لا يتورع الكثير
من الأوروبيين أن ينتحلوها لأنفسهم، فإنها تسعف المسافر ببعض التسهيلات في
بعض المناطق؛ خاصة تلك القريبة إلى الساحل. لكن يخطى الحامل لهذا اللقب
كثيراً لو بالغ به فوق حدوده.
الحكيم
وهناك
لقب آخر يمكن للأوروبي في المغرب أن يحصل عليه بشيء من الصبر وشيء من
العلم، وقد حملت هذا اللقب أنا أيضاً لبعض الوقت؛ أن ذلك هو لقب «الحكيم».
وهي كلمة تدل في اللغة الفصحى على «من امتلك الحكمة»، وقد كان يُجعل خاصة
للفلاسفة في العصر القديم. لكن انضاف إليه بطول الاستعمال معنى الطبيب
والساحر؛ فأصبح يطلق على الرجل أشبه بفرجيل في العصور الوسطى. فبينما تكون
كلمة «الطبيب» لا تزيد عن معنى المعالج بالعقاقير، تفيد كلمة «الحكيم» معنى
الحكيم الذي حاز علوم القدامى، وامتلك الخبرات الطاهرة والخفية؛ فهو يعالج
بالأدوية وبالمعارف الخفية.
لكن هذه الحيل جميعاً لا تساوي شيئاً بإزاء
ال ال والصبر والأناة؛ وأن يتحلى المرء بالاستقامة، والرصانة في الإجابة
عن السؤال، والاستقامة في المعاملات اليومية البسيطة، وأن يؤثر الهدوء،
ويتجنب الغصب، والثرثرة الزائدة، والتبسط المفرط في الحديث، وأن يتوخى
العدل، لكن لا يفرط في الحزم، وأن يتوخى التحرر، لكن من غير إفراط في
الكرم، وأن يتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إلى عادات المسلمين؛ فبهذه الخصال
يصير الأوروبي مع الوقت يحظى من الثقة بأكثر مما قد يحوز منها بادعاء
الألقاب والأقنعة وركوب مراكب الكذب.
السوالم
(26
مارس). جمعنا خيامنا في الساعة السادسة والنصف صباحاً، وهي عملية لم تخل
من صعاب؛ ولبث أهل النزالة مقرفصين من حولنا وهم ينظرون بهدوء إلى رجالنا
كيف يتخبطون في الأمر، لا يمدون إليهم يد المساعدة. وقد نادى أحد رجالنا
على واحد من أولئك المتفرجين : «آلراجل اعطينا يد الله باش نرفدو، آجي
تربح». ومن النادر أن ترى العربي ألا يستجيب إلى مثل هذا النداء، فلما تم
لنا تحميل أغراضنا، خرجنا من مولاي زيدان لندخل بعيده إلى الغابة.
إن
هذه الغابة هي ما يسميه الأوروبيون على سبيل التفخيم بغاية السوالم، وهو
اسم لفخدة من أولاد زيان يفصلها عن بقية قبيلتها سائر قبائل مديونة، وتمتد
أراضيها حتى الساحل. والغابة المذكورة تكونها أراض شاسعة تغطيها أشجار
عالية شديدة التفاف، يتكون معظمها من شجر المصطكا أو «الضرو»، وهي في طول
الرجل منا، أو أطول، ولها أوراق شديدة التفاف تجعل الغابة أدغالاً عسيرة
النفاذ. وفي وسط تلك الأشجار طريق الرابطة بين الدار البيضاء وأزمور في سبل
ضيقة ومتعرجة، كشأنها في بقية أنحاء البلاد، وتسير تتقاطع، فتشكل في ذلك
الخضم من النباتات جزيرات من شجر المصطكا. وقد توالت عليها الدواب في
القوافل التي تمر بها فقضمت فروعها وبراعمها حتى لتبدو كأنها قطعت عمداً،
كمثل تلك الأسيجة من الزعرور التي يؤثر الفرنسيون أن يحيطوا بها رياضهم ثم
يمعنون في تقطيعها ليجعلوا لها زوايا بارزة وأشكالاً مستطيلة. وتتخلل تلك
الشجيرات نباتات جميلة من بقلة الملك بتويجاتها الزخرفية المنيرة، فهي
تتسلق تلك النباتات الخضراء الداكنة وتلك الصليبيات البيضاء، التي سبق لنا
الحديث عنها، والتي تدفع سيقانها الطويلة وتطاول بأزهارها فوق تلك
النباتات.
الرث/الخنزير البري
يخيل
إلى المرء أن هذا الدغل الكثيف لابد أن تتردد عليه الخنازير البرية، وهو
بالفعل عامر بهذه الحيوانات، فترى أوروبيي الدار البيضاء كثيراً ما
يتواعدون على اللقاء في السوالم لاصطياده. وكذلك يصيده الأهالي ليبيعوه إلى
الأوروبيين، فمن المعلوم أن تعاليم الإسلام تحرم عليهم أكل لحمها.
فالخنزير والكلب يعتبران عند المسلمين حيوانين «نجسين» في المقام الأول.
غير أنك لا تجد أهل بالمغرب يلتزمون هذه التعاليم ولا يخرجون عنها. وإذا
كان أهل الشاوية، في الناحية التي تهمنا، يستنكفون من أكل لحم الخنزير
ويحتقرونه، فليس الأمر كذلك عند قبائل الشاوية من الزيايدة وبني ورا؛
فالثابت عندهم أنهم يأكلون لحم هذا الحيوان، بل ويزعمون أن لحمه مفيد
للأبدان وأن فيه علاجاً من مرض الزهري.
لحم الخنزير
وكذلك
تجد لحم «حلوف الغابة» يقبل عليه غالبية ساكنة شمال المغرب من أقلهم
استعراباً، بل يطعمونه حتى في فاس، خفية. ويذكر رحالة من القرن الماضي
[التاسع عشر] أن السلطان مولاي [أحمد] الذهبي، كان يؤثر في طعامه لحم
الخنزير والثعلب المشوي. وقد كان أوروبيو الرباط يتعاطون تربية الخنزير،
فكان أهالي القبائل البربرية المجاورة الذين يعملون لديهم في حراسته لا
يستنكفون البتة أن يطعموا لحوم هذه الحيوانات. ولجدير بالذكر أن تربية
الخنزير الشائعة في كثير من المدن الساحلية قد كانت من قبل تلقى محاربة
شديدة من لدن المخزن. فقد كان منظر هذا الحيوان النجس يثير سخط المسلمين
«السنيين»، فمنع على سكان المدينة أن يمتلكوا بعضه. بل لا تجد الأسرة
الواحدة حتى في البادية تربي أكثر من خنزير واحد، فهي تعزله في مسور خاص
به. لكن هذه التقنينات لم يعد لها مفعول منذ وقت طويل، كما هو الشأن على
سبيل التمثيل في الدار البيضاء؛ فأنت ترى قطعان الخنازير تأتي إلى أطراف
هذه المدينة للبحث عن طعامها في تلك المزابل العمومية الهائلة، وفي غيرها
من المزابل، التي تتكاثر في غفلة من الحكومة، وفي استخفاف بأبسط شروط
النظافة، عند أبواب سائر المدن الكبرى. والخنزير الذي نراه في هذه النواحي
أسود اللون، فهو من فصيلة خاصة، ولا يبعد أن يكون عرف تلاقحات كثيرة مع
أنواع من الرث.
الخنازير الأليفة
إن
أكل الخنزير ليس بالأمر المقصور على المغرب وحده، بل يحضر كذلك عند غير
قليل من القبائل المتخلفة في منطقة شمال إفريقيا. فهذا أمر وقفنا عليه في
القبايل الصغرى. وله وجود كذلك في منطقة الخميرية التونسية. وتجدر الإشارة
إلى أن معظم هذه القبائل الآكلة للحم النجس هي التي توجد في المناطق
الغابوية أو شبه الغابوية؛ حيث تصعب تربية الماشية، فلا يجد أهلها بديلاً
عن لحوم هذه الحيوانات.
وليس يندر أن تجد خاصة عند الأغنياء خنازير
صغيرة أليفة، تتجول في داخل البيوت لا يستكرهون الاتصال بها، وهي المعتبرة
في دينهم من النجس. وكذلك تجد هذه النزوة، إن صح أن نعتبره كذلك، عند بعض
الجزائريين. وهناك اعتقاد شائع في المغرب كما في الجزائر، ربما أسعف ببعض
تفسير لهذا الأمر؛ وهو أن وجود الخنزير البري وسط القطيع من الأغنام من
شأنه أن يبعد عنها العين. وليست هذه سوى حالة خاصة لنقل الشر من كائن حي
إلى آخر، وهو أمر يسلم به سائر الأقوام البدائية، ويعتبر العنصر الأساس في
كثير من طقوسهم السحري وشعائرهم الدينية. فهذا يحملنا على الافتراض أن
تدجين الخنزير الصغير، وإدخاله البيوت ليس له، أم لم يكن له في البداية، من
هدف غير دفع الشر الذي يمكن أن يقع على البيت وتحويله إلى هذا الحيوان
الحقير.
الغزال
لا
تجد في الشاوية مجالاً مخصوصاً يؤثره الصادون من السوالم دون سواه؛ فسائر
أراضيها عامرة بالطرائد. وإذا كان النعام الذي ذكر الإدريسي وجوده في هذه
المنطقة قد انقرض عنها بالكلية، فإنك لا تزال تجد فيها الطريدة الكبيرة،
كالغزال الذي هو فيها وافر كثير. فأنت تراه عند الزيايدة وأولاد بن داود
وبني مسكين في قطعان بين مائة وخمسين وماءتين من الرؤوس. وغزال بني مسكين
يعرف بقرنيه المقوسين، وهو لا ينزل حتى شاطئ البحر. وأما الغزال الآخر فإن
له قرنين مستقيمين، وهو دون شك مطابق لغزال السهول في الجزائر وقد يشرد
أحياناً حتى يصل إلى الساحل في الشاوية ودكالة. وتشيع عند الأهالي ههنا
خرافة غريبة تقول إن الغزال لا تضع مولودها إلا بعد أن يخرج ثعبان من البحر
ويأتي ليشهد عملية الوضع.
طرائد الشاوية
ولا
تجد في هذه المنطقة من الحيوانات المتوحشة الكبيرة، فإذا عن لك أن ترى
الفهود وجب أن تعبر وادي أبي رقراق وتصعد إلى أن تأتي إلى منبع وادي
النفيفيخ؛ حيث الجبال تكسوها أشجار البلوط والفلين والعفصية، وإليها تؤوي
بعض هذه الحيوانات. وأما الطيور، وفيها الحجل الأحمر والسمان والشنقب، فهي
المألوفة في الصيد. وهنالك طائر آخر يكثر عليه تهافتهم، وهو المسمى عند
الأهالي «الحْبْر»، ويتراوح وزنه ما بين 12 اثني عشر وثمانية عشر كلغ. ولا
ينبغي أن تفوتنا الإشارة كذلك إلى طائر آخر شبيه بما يعرف عندنا بديك مارس،
وهو في حجم سمنة غليظة، تزينة قنزعة جميلة فوق رأسه، والعرب يسمونه «قوبع
النصارى»، ويقولون إن في لحمه فوائد علاجية عظمية، فهم يزعمون له أنه يشفي
من «البرص»، وهو مرض يحدث بقعاً بيضاء على الجلد، يقولون إنه يختلف عن
الجذام؛ من حيث لا يقتصر مثله على الجلد، بل يتعداه إلى العظام. فالبرص
عندهم شيء شبيه بما يعرف عند أطبائنا بالوضَح.
دار الحاج قاسم
ها
إننا قد انتهينا الآن من الغابة، وصرنا نتقدم في حقول من «الرتم»، فتبدو
بما يقع عليها من أشعة شمس الثامنة صباحاً وقد اكتست إهاباً ساحراً. الأرض
حمراء تتخللها حجارة بيضاء. والغيضات التي يملؤها نبات الرتم تمتد على مرمى
البصر في علو الفارس، على طول مرمى البصر، وكلما وقعت عليها هبة ريح مهما
كانت هينة حنت لها فروعها الرخصة الطويلة والرقيقة كأنها الأسل، الناعمة
المتلامعة. ويمد نبات الحلتيت خلال هذه الطاقات سيقاناً غليظة، لكن خاوية،
تكاد توازي ذلك النبات طولاً، وقد ازدهت رؤوسها بأكاليل صفراء، فيما تكسو
الأرض بأوراقها البنفسجية بجزار بقع من نبات الصابون ذي التويجات الحمراء
الفاقعة. الطريق كثيرة السالكين، فلا نفتأ نلاقي فيها القوافل، فالواحدة
منها تمر بإزاء الأخرى دونما تحية، وفي كثير من التجاهل، وأنا أتحدث بطبيعة
الحال عن مسلمين، وأما موقف المسيحي فيكون هذه الحالة، وكما أسلفت القول،
استثنائياً من كل الوجوه. ثم عبرنا وادي الفوارة، ولم يكن به ماء كثير. وفي
الساعة التاسعة بلغنا عين حويرة، وبجوار تلك العين تقوم حويطة، أي ضريح
مكشوف لأحد الأولياء يحيط به سور قليل ارتفاع.
عند هذا الموضع تنتهي
حدود الشاوية، فنطرق بعده بلاد الشياظمة؛ فلا نرى بعد وجوداً للغابات، بل
كل ما حولنا حقول من حبوب وحناء، وأكثر ما يعمرها الذرة، التي تغطي مساحات
واسعة من التربة السوداء، التي تبدو في غاية الخصوبة. والمرجح أن يكون
الشياظمة التي نعبر بلادها الآن فخدة من القبيلة الكبرى المعروفة بالاسم
نفسه والموجودة شمالي مدينة الصويرة، والتي سنعود إليها بالحديث في ختام
هذا الكتاب. وقد جاءت هذه الفخدة لتتخذ مستقرها في المكان الذي هي فيه الآن
بضغط من محن ومصائب لا تزال غير معلومة لدينا.
وفي الساعة 9,45 وصلنا
إلى دار الحاج قاسم، وهي قصبة لأحد القياد السابقين قد باتت نصف متهدمة.
والمغرب تعمره أطلال لدور القياد، وسوف تسنح لنا فرصة العودة بالحديث إلى
هؤلاء الموظفين، الذين ينتهي معظمهم إلى أسوإ حال. فهم إذا عزِلوا كان
مآلهم جميعاً إلى السجن، وإلا فيعاقبون بمصادرة أموالهم. فما أن يُعتقل
الواحد من هؤلاء الموظفين السابقين حتى يأتي المخازنية ليفتشوا مساكنهم
ويقلبوا محتوياها رأساً على عقب، ويقتلعوا الزليج من أرضياتها ويطيحون
بجدرانها عساهم يقعون فيها على كنز [خبيء]، وترى الأسرة وقد انحدرت إلى بؤس
وضيق حال تتفرق في الأرض بحثاً عن وسائل تسعفها في العيش. وتلبث القصبة
خاوية تشخص بأسوارها ال... التي تصير مع الوقت إلى تآكل وانهيار. وإذا جاء
القايد الجديد ليقيم في الموضع نفسه حيث كان سلفه نفسه فلا تراه يسكن قط
القصبة التي كانت يسكنها؛ فلا يرممها لأن من شأنه أن يكون شؤماً عليه. وليس
يندر أن ترى ثلاث قصبات أو أربعاً لقياد سابقين تقوم جوار بعضها وقد باتت
أطلالاً. وليست هذه الكراهة في ترميم البيت الخرب الذي كان يسكنه الضحية
الخضم والسكن فيه بالأمر المقصور على القياد وحدهم، فحيثما وليت وجهك من
المغرب تلاقي البيوت المهجورة، فهذا المظهر أعطى رحالة كثراً الانطباع
يتجولون في بلد مهجور، وينسجوا حوله أسطورة «البلد التي تسير إلى انهيار».
ظللنا
نسير في أراض تكسوها المزروعات الجميلة، لكنها في هذا الوضع قد تعرضت
للإتلاف من الجراد، وقبل الساعة العاشرة بلغنا «إنجومة». وهنالك رأينا
نورية تقوم على جانب الطريق. ثم خرجنا من الشياظمة لندخل شتوكة. اجتاحها
قبل عشر ساعات منه مرورنا إلى انجومة، حيث هناك ناعورة على أطراف الطريقة.
وغادرنا
الشياظمة لندخل إلى شتوكة، وهي وحدها التي لا تزال تفصلنا عن أزمور. وهي
منطقة اشتهرت على الدوام بجودة حنائها؛ وقد سبق لعلي باي أن لاحظ ما وفرة
زراعتها في هذه المنطقة، وقد كانت لها في مدينة الجديدة تجارة رائجة لوقت
طويل، تراجع التصدير فيها تاما. لكن التصدير انحط فيها انحطاطاً. وقد أصبح
الأهالي يقبلون اليوم على زراعة الكتان. فبعد كانت هذه الفلاحة تلقى منهم
الإهمال، إذا هي قد صارت تشهد في ما بين 1900 و1903 ازدهاراً كبيراً، على
أثر بعض الطلبات التي وردت على بذور الكتان من قبل التجار الأوروبيين. حتى
إذا تبين للأهالي الأرباح التي يمكنهم أن يحنوها منها، صاروا يخصصون لها
الأراضي الشاسعة في شائر نواحي دكالة. لكن ليس ببعيد أن يعود عليهم هذا
الإقبال الواسع على زراعة الكتان بعكس ما ما كانوا يؤملون فيه؛ فبالإضافة
إلى التراجع لامحالة سيقع في الأسعار بسبب وفرة الإنتاج، ستتعرض الأراضي
التي إلى الإنهاك من كثرة ما أعطت من هذا المنتوج، مهما بلغ مخزونها منه،
ولن يتسنى أن يعاد استصلاحها، مع الافتقار إلى الأسمدة، إلا بعد وقت طويل.
تعقد مسألة القبيلة
والمخزن
يعد شتوكة، كما يعد الشياظمة، في جملة دكالة، وهي فخدة من قبيلة كبرى من
قبائل سوس قد تكون ارتحلت عن موطنها الأصلي لظروف سياسية. وقد عرف عن
السلاطين المسلمين في شمال إفريقيا جميعاً أنهم كانوا يعمدون إلى هذه
الوسيلة لمعاقبة القبائل المتمردة. وهذا نوع من العقاب لم نعدمه في
بلداننا؛ والكتابات تفيدنا أن الرومان قد كان من عادتهم أن [المعارضين
إليهم] إلى الأماكن القصية. ولقد تضافرت هذه التنقلات والتشرذم الذي يعتبر
من خصائص القبائل التي تنامت بشكل كبير حتى بات من المتعذر عليها أن تظل
مقيمة في مواطنها التقليدية، وانضاف إليهما النزوح الكبير للأقوام من
الرعاة لتصيِّر المجموعات الاجتماعية في شمال إفريقيا إلى أقصى مبالغ
الشتات. ولذلك فإذا رمنا دراسة تكوين القبيلة من هذه القبائل لم يكن لنا أن
نصورها، كما يفعل العرب، على شجرة نسب مستقيمة ابتداء من الجد الأول
وانتهاء إلى أصغر الأسر فيها في الوقت الراهن، بل ينبغي أن نجعلها على هيأة
جذع أصلي، كثيراً ما يكون هو نفسه يسمه التعقيد، ثم يصير هذا الجذع من جهة
تنضاف إليه ما لاعد له من الطعوم ويصير من جهة أخرى يفقد الكثير من فروعه.
ولئن كان هذا التعقد لم ينتبه إليه الكثيرون فإنه لم يغب عن عالم في مثل
حصافة ابن خلدون.
صار عدد القباب في تزايد، وسيظل كذلك شأنها وصولاً إلى
أزمور، وهنالك طالعتنا تلك القباب في مجموعات من أربع إلى خمس. وفي المكان
المسمى «التلال» الذي وصلنا إليه في الساعة الثانية عشرة والنصف، وجدنا
«كركورا» كبيراً وسط الطريق، فتوقفنا هنالك عند بئر ماؤها شديد الرداءة.
في
الساعة الواحدة والنصف عدنا لاستئناف المسير، خلال بلاد شتوكة الكثيرة
السكان والخصبة الممرعة. وظلت تتتالى قبب الأولياء المبيضة، وكثيراً ما
يطالعنا عش قد وضعه طائر اللقلاق فوقها، ووقف هذا الطائر الذي يقول عنه
المغاربة إنه من الأولياء فوق ضريح الولي على قدم واحدة في وضعة جامدة.
الدشر
بدأت
تتوالى أمامنا «النوايل»، وهي ضرب من الأكواخ الأسطوانية المخروطية، قد
أقيم معظمها على الطراز السوداني. وجئنا سيدي فارس في الساعة الثانية و45
دقيقة. وكانت النوايل كثيرة فبدت بهيأتها البدائية تخالف كثيراً منظر ذينك
الضريحين بجدرانهما المحززة وقبتيهما نصف الكروية المبيضة بالجير، واللذين
يمثلان مفخرة القرية أو «الدشر».
وهذه الكلمة الأخيرة هي التي يغلب
استعمالها في تسمية القرى الصغيرة التي سكانها من المقيمين أو من نصف
الرحل. وأما في الجزائر فيقال لها «الدشرة»، لكن الكلمتين تجمعان هما
الاثنتان على «دشور»، وقلما قال في جمعهما «مداشر». ويستعملون كلمة
«المشتى» يريدون بها المكان حيث يقضون فصل الشتاء، وتُستعمل هذه الكلمة في
القبايل الصغري ويراد بها، على سبيل التوسع في الدلالة، القرية من الأكواخ
والبيوت. ويطلقون كلمة «الزربية» على السياج يتخذ من القصب وغيره من
النباتات الشوكية فيحاط به الدوار. وكذلك تستعمل هذه الكلمة في القبايل
الصغرى وكثراً ما تكون مرادفاً لاسم القرية. ولا يزالون يطلقون كلمة
«الدوار» على الخيام تُجعَل في حلقة، لكن السلطات الفرنسية وسعت كثيراً من
دلالة هذه الكلمة في الجزائر، فصارت تطلقها على الفخدات من الجماعات
المختلطة والتي كثيراً ما تعمد إلى تقطيعها بصورة اعتباطية؛ فلا تفرق فيها
بين ذات الساكنة المقيمة والساكنة من الرحل، بما يوحي بوجود خلط في هذا
الأمر.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 4 -
أكوام الحجارة المقدسة في الحوز وبعض الممارسات المتصلة بها(1\2)
المرابط
وأما
كلمة «مْرابط» في اللغة الدارجة فمن المعلوم أنها تُستعمل في القسم الأكبر
من بلدان المغرب، وحتى في الأسكندرية، بمعنى الولي، ويُستعمل توسيعاً،
بمعنى الضريح الذي يضم رفات الولي. لكننا نجد هذه الكلمة تُستعمل في المغرب
بمعنى أكثر تحديداً؛ فهم يغلِّبون في تسمية الولي كلمة «السيد»، يطلقونها
عامة على المباني التي تحوي رفات الأولياء. وأما كلمة «المرابط» فأكثر ما
يطلقونها على الأولياء من غير الشرفاء (من المعلوم أن كلمة «الشريف» تطلق
على من يعتبرون من سلالة النبي)، علاوة على أن كلمة «المرابط»، على نحو ما
يستعملها المغاربة الذي نهتم بعقد لهم هذا الكتاب، تنطوي على فكرة وراثة
الولاية ونقل «البركة»، أو الحظوة اللدنية المعقودة للمرابط. فإذا أفلح
حفدة الولي من غير الشرفاء في تكوين زاوية عدُّوا «مرابطين» بامتياز. ولذلك
كانت الزوايا على نوعين؛ زوايا للشرفاء وأخرى للمرابطين، ولا تجد هاتين
المؤسستين تشتركان في الخصائص أو تلتقي في التوجهات. والولي المفرد يسمى
«مرابطاً» ويمكنه أن يدخل في زمرة faire souche المرابطين، لكن هذه الكلمة
لا تُجعل للبناء الذي سيضم رفات هذا الرجل التقي. والشلوح يسون الولي
«أكرام»، ونفوذه يكون بوجه عام أكبر بكثير من نفوذ الشرفاء. ومن النادر أن
ترى القايد يأتي بما يسيء إلى «أكرام»، بينما لا يولي القدر نفسه من
الاحترام للشريف. فالذي يبدو إذن أن المرابط يمثل شكلاً من الولاية يحتمل
أن يكون له من الاستمرار ومن القدم أكثر مما للشريف.
ويُسمى الصلحاء
كذلك «أولياء»، وهو اسم إنما يدل على درجة معينة في العلاقات الصوفية التي
تقوم بين الله والولي. ولا تكون صفة الولي بالوراثية. وأما كلمة «صالح» فهي
بحق كلمة عامة للدلالة على الأولياء، وأما كلمة «الفقير» فإن لها معنى
واسعاً، فهي تدل على الأشخاص المنقطعين للعبادة وتطلق على الدراويش وعلى
الصلاَّح وعلى أعضاء الطرقية...
وفي الأخير، فإن المتعلمين تعني لديهم
كلمة «المرابط»، كما هو شأنها في المشرق، وفي اللغة الفصحى، «من يحارب
الكفار». وتراهم في منطقة أزمور التي يكثر فيها المتعلمون، يستعملون هذه
الكلمة يريدون بها في المقام الأول الأبطال المسلمين اشتهروا بمجاهدة
المسيحيين في القرن السادس عشر، وقت أن تحقق للمغرب الخلاص النهائي من
الهيمنة البرتغالية والهيمنة الاسبانية. فقد كانت أزمور مسرحاً لقتالات
بطولية الإسلامية ضد المسيحية التي أصبحت، بعد استعادتها الأندلس من
المسلمين، ولذلك فالأرض التي نطأها الآن أرض عامرة بالأولياء بامتياز،
بالمعنى الأول لهذه الكلمة؛ أي أولئك الذين قتلوا «في سبيل الله»، حسب
العبارة العربية التي تطلق على «الحرب المقدسة» أو الجهاد.
غير أننا نرى
العامة في المنطقة التي نحن فيها الآن لا يفهمون كلمة «المرابط» بغير
المعنى الأول من المعنيين السابقين الذين تناولناهما بالحديث، وتراهم
يقتصرون على تسمية «الولي» الذي يعرفه المتعلمون، وبطل الإسلام، باسم
«المجاهد»، فهم لا يعتبرون هذه الأرض أرض «المرابطين» بل هي أرض
«المجاهدين»، وهي الكلمة العامة التي يطلقونها على المحاربين [في سبيل
الإسلام]. ومن العسير استجلاء الأصل في هذين المعنيين والعلاقة بينهما في
تاريخ اللغة المتكلمة، وقد سبق لنا أن سعينا إلى تناول هذه المسألة، وسنعود
إليها بالحديث.
في الساعة الثالثة وعشر دقائق، تراءت لنا، بعد لأي،
مدينة أزمور، ببياضها الناصع، وهي تتكئ على هضبة خضراء غامقة، وترتقي
ببيوتها حتى ضريح الولي مولاي بوشعيب، ولي المدينة. والناظر إلى أزمور
يكنفها ذلك البياض الناصع الرقيق يستخفه أشبه بالسحر، وكأني به يود لو
يتهالك على نفسه في هذا المكان، وفي هذا الركن الميت من المغرب العتيق، وفي
البيوت الأليفة في هذه المدينة الصامتة التي لم يتصل بها الأوروبي بعد،
وفي الحياة الخاوية التي يحياها سكانها، تلك الحياة التي يصرفونها بين
جدران قد اعتنوا بتبييضها، وفوق الزرابي والحصر النقية الطاهرة، في الفناء
الذي تظله الكرمة المعترشة، بين حرارة الصلاة ودفء الأسرة، والاستماع بشمس
سخية بأنوارها.
في هذا الركن من الطريق تقوم غيضة من شجر الرتم. وإذا
أحد رفاقي المسلمين مل أن تراءت له أزمور حتى شرع يتوسل بمولاي بوشعيب، ثم
دنا من الغيضة وجمع بعض أغصان الرتم الشبيهة بالأسل وأخذ يفتلها. وقد أمكن
له أن يفتل على هذا النحو معظم تلك الأغصان. فقد جرت العادة على أن يقوم
الزائر إذا اقترب من أحد المزارات وفي نفسه لصاحبه رجاء أن يقوم فيما يفصح
عن ذلك الرجاء بعقد بضعة فروع من الشجيرات القائمة بإزائه. والناس في
الجزائر يعقدون، في ما يبدو، نبات الحلفاء أو الديس، وفي المغرب يعقدون
الرتم فهو أسلس بكثير لهذه الممارسة. وقلما تجد ولياً في هذه النواحي لا
يجعلون له هذه العقد متى وجدوا بجواره هذه النباتات. وقد رأينا كذلك في
أشجار الرتم التي مررنا بقربها قد علق فيها الكثير من الخرق، جرياً على
عادة شبيهة بالسابقة ولها شيوع في أنحاء العالم. وقد جرت العادة كذلك على
أن يطلب الزائر إلى أحد التقاة أن يزيد حجراً إلى الكركور المكرس للولي من
الأولياء؛ على نحو ما سنرى في الكركور الذي سينتصب أمامنا بعد قليل.
فالاقتراب من مولاي بوشعيب تدلنا عليه كومة حجارة من تلك الأكوام التي سبق
لنا الحديث عنها؛ إلا أن الكومة التي عند هذا الولي أكبر حجماً الحجارة،
ويمكن إدخالها في الأكوام التقليدية. وسنرى أن الحجارة تلعب في كل أرجاء
الجنوب المغرب الجنوبي دوراً هاماً في المجال الديني. ولا نريد أن نثقل على
القارئ بالكلام المكرور، ولذلك سنعمل ههنا على تجميع أهم الملاحظات التي
تكونت لدينا خلال هذه الرحلة ولملمة شعتها وتقديمها دفعة واحدة.
لا
يقتصر مدلول الكلمة «كركور»، التي كثر ورودها عندنا، على أكوام الحجارة
المقدسة، بل يشمل بوجه عام أكوام الحجارة على اختلاف أنواعها. وهذا معنى
يتفق ومعنى الجذر اللغوي الذي اشتق منه. وتنسحب كلمة الكركور كذلك على
الحجارة تُقتلع من الحقول ليسهل حرثها ثم تُجمَّع في أكوام. ولذلك ينبغي أن
نتحوط من التعجل في إسقاط الطابع الديني على ما نلاقي في طريقنا من أكوام
الحجارة؛ فقد لا تزيد عن أن تكون علامات أو مجرد إشارات؛ فقد تجد الشخصين
على سبيل التمثيل إذا أرادا أن يؤكدا لبعضهما أنهما قد مرا بالفعل بمكان من
الأمكنة، فيتفقان على أن أول من يمر بذلك المكان يضع فيه كركوراً صغيراً
أو «رجماً».
وهذه الكلمة الأخيرة أقرب إلى أن تكون مرادفة لكلمة
«كركور»، وهي تُستعمل عوضاً أحياناً حسب المناطق؛ فنحن نجدها كثيرة
الاستعمال على سبيل التمثيل في الصحراء الجزائرية. وكثيراً ما يُتخذ الرجم
في جنوب وهران علامات يُستدل بها على الآبار أو على اتجاهات الطرق. ومعظم
هذه الأكوام من الحجارة يكون على قدر كبير من التنسيق، وفي هيأة أعمدة بعلو
مترين إلى ثلاثة أمتار ُتجعل فوق القمم العالية.
وترى الناس في كثير من
الجهات في الجزائر إذا عن لهم أن يخصصوا القطعة من الأرض للرعي، أو ما
يسمى بـ «المكدل»، ويريدون أن يمنعوا خرفان غيرهم أن تأتي لترعى فيها،
وضعوا من حولها كومات حجارة لتنبيه الرعاة فلا يقودون إليها قطعانهم. وفي
البلاد التي يوجد فيها شجر الأركان، وتمتلئ منها بواديها، ترى الناس في
الفترات التي تنضج فيها ثمار هذه الشجرة الأثيرة على الماعز، يحيطون جميع
الأراضي بأكوام من الحجارة دلالة على أن أصحابها يمنعون عنها رعي الماعز
وهو الرعي الذي يسمحون به في غير تلك الفترة من السنة. فإذا فرغوا من جني
ثمار الأركان أطاحوا بتلك الحجارة وعادت الأراضي لتفتح في وجه الماعز.
العلامة
وتوجد
كذلك حالات كثيرة تكون فيها أكوام الحجارة لا تزيد عن نصب تذكاري؛ أي أنها
لا تزيد عن «علامة». وهذه العلامات تقام في الأماكن التي تكون مرت منها
بعض عظام الشخصيات؛ كمثل المكان الذي عسكر فيه السلطان. وقد لا يُقتصر في
هذه العلامات على أن تكون مجرد كومة من الحجارة؛ كمثل تلك العلامة التي
أقيمت تخليداً لمرور مولاي الحسن بتيط غير بعيد عن الجديدة، فهي عبارة عن
عمود مبيض بالجير. وعلاوة على ذلك فإن كل حدث هام يمكن أن يكون سبباً في
أقامة كركور. فمن المعلوم أن الجماعة في القبائل متى اتخذت قراراً هاماً
إلا وأقامت كركوراً لتخليده. ولا تزال ترى الكراكر تقيمها أهل المغرب وأهل
ولاية وهران في الموضع الذي يتم لهم فيه قتل الحيوان المتوحش. ويحكي
الجنرال ماركريت أن الأهالي رأوه يقتل غزالة من مسافة بعيدة، فأقاما له
رجمين؛ الأول في الموضع حيث سقط الحيوان، والثاني في الموضع الذي منه أطلق
الجنرال النار.
الحدادة
وهناك
نوع آخر من أكوام الحجارة لا يزال غير معروف للكثيرين، وهو المسمى
«الحدادة»؛ فلم نعرض له بالدراسة في المغرب. ويطلق هذا الاسم في ولاية
وهران على كومة الحجارة توضع عند الحدود الفاصلة بين عدة قبائل، وإليها
يأتي الأهالي لأداء اليمين ويحلفون على اسم أحد الأولياء. ويوجد نموذج لهذه
الأكوام من الحجارة في تمزورة، قرب وهران، وإليه يأتي الأهالي ليقسموا على
اسم سيدي بوتليسين، وذلك حسب قولهم لكي لا يتجشموا الذهاب إلى الولي
ويقتصدوا في المسافة. وقد جرت العادة على أن توضع «لحدادة» في المكان الذي
تُرى منه قبة الولي، وهي مقصورة على أداء اليمين.
لكن هذه الحالات التي
أتينا على ذكرها ههنا تختلف جميعاً عن الحالات التي سنتهتم ببحثها، بحكم أن
العادة لم تجر فيها على أن المارة بها يزيدون، كفعلهم في الأخرى التي
تهمنا، حجراً إلى كومة الحجارة القائمة.
المنزه
يرفع
الناس في الموضع من الحقل الذي يتوفى فيه الشخص كومة من الحجارة، وهو ما
يعرف عندهم باسم «المنزه». ويخبرنا أحد مخبرينا المغاربة أن «المنزه» هو
المكان جرى فيه تغسيل الميت وتطهيره، وهذا هو بالفعل معنى الجذر العربي
لهذه الكلمة. وتجد المنازه في كثير من الأمكنة، والناس شديدو توقير لها،
وحتى إنهم ليخشون المساس بها، فإذا تناولت منها حجراً عن غير قصد، سمع من
يقول لك : «لا تلمسه، وتوق الحذر، إنه منزه». وأكثر ما يقام هذا النوع من
النصب في الموضع الذي يُقتل فيه الشخص أو يلقي فيه الميتة العنيفة أو
الشنيعة، ويسمونه كذلك «مشهداً»، لأن الذي مات فيه، حسبما يقولون، إنما مات
شهيداً. ومن العلوم أن العرب قد وسعوا كثيراً من مفهوم المسيحي للشهادة
«الشهيد»، لأنهم يدخلون في الشهادة الشخص يُقتل من غير وجه حق، ويدخلون
فيها بوجه عام حالات الأشخاص الذين يلقون الميتة الجديرة بالشفقة. لكن يجدر
بالتذكير أن الكلمة العربية «مشهد» لها في العربية الفصحى معني القبر
المقدس، أو قبر التقي من الناس.
وسواء أكانوا يسمون كومة الحجارة التي
نهتم لها ههنا «منزها» أو «مشهداً»، أو جعلوا له اسماً أخر من بين تلك
الأسماء الشديدة العمومية كالكركور والرجم والجدار، فإنه يظل يتميز عنها
بخاصيتين لائحتين؛ أنه يقام في الموضع يتوفي فيه الشخص، الذي لا يكون
بالضرورة من الأولياء، وأن هذا الشخص كون قد لقي الميتة الشنيعة، فالمار به
يضع فوقه حجراً.
وقد ترى المعبر تحفه المخاطر، وقد جعلت فيه كراكر يشهد
كل واحد منها على مكان جريمة، وأكثر القتلة في هذه الأماكن يكونون أجانب
تعرضوا للاعتداء من قطاع الطرق، والشائع أن يسمى هذه النوع «كركور الغريب».
وعندما
تسأل المغاربة لماذا يرمون بحجر على أحد هذه الكراكر، يكون جوابهم بوجه
عام أنهم يفعلون لأبعاد «العائدين»، لأن روح الميت ربما عادت لترهق المارة
بهذا المكان في جن آخرين، ومنهم الجن الذين يؤثرون مثل هذه الأمكنة. ولا
يخفى عن أحد مبلغ الخوف الذي يجده أهالي شمال إفريقيا من الجن. علاوة على
أن الاعتقاد بأن روح الميت تظل تتردد على مكان الوفاة لتتعرض للمارة هو
اعتقاد قديم لدى الناس في سائر أنحاء العالم.
كركور على مشارف قبر ولي
ولننتقل
الآن إلى أكوام الحجارة ذات الصلة بالولي من الأولياء. وربما كان الكركور
الذي رأيناه على مقربة من أزمور هو النموذج الأتم الأكمل لهذه الكراكر؛ ذلك
النموذج التقليدي للكركور المقدس الذي يُجعل للولي. فهو أولاً يقوم في
الموضع الذي نرى منه المدينة أول مرة، ونرى منه بالتالي ضريح مولاي بوشعيب.
ثم إن هذا الركور شديد الارتفاع، فلا يقل علوه عن متر ونصف. وهو كركور
عظيم الحجم ومربع الزوايا قد أقيم في عرض الطريق يحكي هيكلاً بربارياً
barbare. وفوق هذا الكركور ينتصب الكثير من الأهرامات الصغيرة قد وضع
الزوار المتبركون، وقوامها خمسة أحجار أو ستة وضعت فوق بعضها في توازن، إذ
جُعلت كبراها في الأسفل وصغراها في الأعلى. وترى وسط المساحة المستوية في
الكركور حوشاً صغيراً، وهو مسور من الحجارة على هيأة حذوة الفرس، كما سنأتي
إلى تبيانه في ما يُقبل، قامت على أعداده أيدي الزوار. فإذا تجاوزنا عن
هذه الكومة الهائلة من الحجارة سرنا نلاقي بطول مائة متر على الطريق فيضاً
من الحجارة موضوعة على جانبي الطريق، على هيأة صفوف، وأكثرها على هيأة
أهرامات صغيرة من قبيل تلك الأهرامات التي تعلو الكركور الرئيسي. ومن
العادات المرعية عند الزوار الذين متى جاءوا إلى هذا المكان أن يزيدوا
حجراً إلى هذا الكركور، أو يقيمون أهرامات صغيرة فوقه أو بجواره، أو
يقتصرون على وضع حجر فوق أحد تلك الأهرامات القائمة، ومن هذا المكان
المبارك الذي تطالع الزائرَ مدينة مولاي بوشعيب.
ينطبق هذا الأمر على
جميع الأولياء؛ ففي الموضع الذي نراهم منه أول مرة، خاصة في الأماكن
المرتفعة، وبوجه أخص في المضايق، ينتصب كركور، أو إن الطريق على الأقل تكون
في هذا الموضع تتناثر فيها أهرامات صغيرة من الحجارة، وهذا شيء نراه في
«ركوبة» سيدي محمد العياشي التي سنمر بها في ما يقلبل. وكلمة «الركوبة»
تعني «المكان الذي ننظر أو نرقب منه»، وهي تُقال كذلك يراد بها الخُنق أو
المضيق، لكن يُقال عادة في اللغة الدارجة «ركوبة الولي الفلاني»، يريدون
بها المضيق حيث تقام الكراكر. ذاك الولي أو ذاك الآخر». غير أن هذا الذي
قلنا لا يعني أن على الزائر بالضرورة أن يرتقي ذلك المكان لكي يتأتى له
بالفعل أن يرى قبر الولي، بل حسبه أن يقترب منه؛ وعندما سنرتقي إلى الخنق
الضيق encaissé المؤدي إلى مولاي إبراهيم في جبال الأطلس جنوبي مراكش،
سنراه قد سُد في مواضع منه بكراكر صغيرة من بضع حجارة متراصة، بحيث يلزمنا
أن نتحوط عند مرورنا بها حتى لا نطيح بها.
وعلاوة على ذلك فإنك تجد بعض
تلك الكراكر قد أقيمت في الجبال وفي المضايق المرتفعة، وهي في تلك الموضع
تكون بعيدة جداً عن أضرحة الأولياء المنتسبة إليها. فهذا على سبيل التمثيل
مضيق تيزي ن ميري، في جنوب مراكش، الذي يرتفع بعلو 3.200 متر ويمر خلال
إحدى القمتين المتوازيتين اللتين تشكلان في هذا الموضع الأطلس؛ ففي هذا
المضيق يوجد كركور مكرس، حسب ما يفيدنا الأهالي، لسيدي احماد أو موسى،
الولي الأكبر لتازروالت وسوس. فإذا استفسرنا من المسافرين الذين يجوزون هذا
المضيق لماذا يزيدون حجراً إلى هذا الكركور، أجابوا، وهم يفعلون : «عْلىَ
سيدي احماد أو موسى»، أي إجلالاً لهذا الولي، وأنهم يعتقدون أنهم بهذا
الفعل يؤمنون لأنفسهم سفراً خلو من الخاطر ومن المنغصات.
أكوام الحجارة المقدسة في الحوز وبعض الممارسات المتصلة بها(1\2)
المرابط
وأما
كلمة «مْرابط» في اللغة الدارجة فمن المعلوم أنها تُستعمل في القسم الأكبر
من بلدان المغرب، وحتى في الأسكندرية، بمعنى الولي، ويُستعمل توسيعاً،
بمعنى الضريح الذي يضم رفات الولي. لكننا نجد هذه الكلمة تُستعمل في المغرب
بمعنى أكثر تحديداً؛ فهم يغلِّبون في تسمية الولي كلمة «السيد»، يطلقونها
عامة على المباني التي تحوي رفات الأولياء. وأما كلمة «المرابط» فأكثر ما
يطلقونها على الأولياء من غير الشرفاء (من المعلوم أن كلمة «الشريف» تطلق
على من يعتبرون من سلالة النبي)، علاوة على أن كلمة «المرابط»، على نحو ما
يستعملها المغاربة الذي نهتم بعقد لهم هذا الكتاب، تنطوي على فكرة وراثة
الولاية ونقل «البركة»، أو الحظوة اللدنية المعقودة للمرابط. فإذا أفلح
حفدة الولي من غير الشرفاء في تكوين زاوية عدُّوا «مرابطين» بامتياز. ولذلك
كانت الزوايا على نوعين؛ زوايا للشرفاء وأخرى للمرابطين، ولا تجد هاتين
المؤسستين تشتركان في الخصائص أو تلتقي في التوجهات. والولي المفرد يسمى
«مرابطاً» ويمكنه أن يدخل في زمرة faire souche المرابطين، لكن هذه الكلمة
لا تُجعل للبناء الذي سيضم رفات هذا الرجل التقي. والشلوح يسون الولي
«أكرام»، ونفوذه يكون بوجه عام أكبر بكثير من نفوذ الشرفاء. ومن النادر أن
ترى القايد يأتي بما يسيء إلى «أكرام»، بينما لا يولي القدر نفسه من
الاحترام للشريف. فالذي يبدو إذن أن المرابط يمثل شكلاً من الولاية يحتمل
أن يكون له من الاستمرار ومن القدم أكثر مما للشريف.
ويُسمى الصلحاء
كذلك «أولياء»، وهو اسم إنما يدل على درجة معينة في العلاقات الصوفية التي
تقوم بين الله والولي. ولا تكون صفة الولي بالوراثية. وأما كلمة «صالح» فهي
بحق كلمة عامة للدلالة على الأولياء، وأما كلمة «الفقير» فإن لها معنى
واسعاً، فهي تدل على الأشخاص المنقطعين للعبادة وتطلق على الدراويش وعلى
الصلاَّح وعلى أعضاء الطرقية...
وفي الأخير، فإن المتعلمين تعني لديهم
كلمة «المرابط»، كما هو شأنها في المشرق، وفي اللغة الفصحى، «من يحارب
الكفار». وتراهم في منطقة أزمور التي يكثر فيها المتعلمون، يستعملون هذه
الكلمة يريدون بها في المقام الأول الأبطال المسلمين اشتهروا بمجاهدة
المسيحيين في القرن السادس عشر، وقت أن تحقق للمغرب الخلاص النهائي من
الهيمنة البرتغالية والهيمنة الاسبانية. فقد كانت أزمور مسرحاً لقتالات
بطولية الإسلامية ضد المسيحية التي أصبحت، بعد استعادتها الأندلس من
المسلمين، ولذلك فالأرض التي نطأها الآن أرض عامرة بالأولياء بامتياز،
بالمعنى الأول لهذه الكلمة؛ أي أولئك الذين قتلوا «في سبيل الله»، حسب
العبارة العربية التي تطلق على «الحرب المقدسة» أو الجهاد.
غير أننا نرى
العامة في المنطقة التي نحن فيها الآن لا يفهمون كلمة «المرابط» بغير
المعنى الأول من المعنيين السابقين الذين تناولناهما بالحديث، وتراهم
يقتصرون على تسمية «الولي» الذي يعرفه المتعلمون، وبطل الإسلام، باسم
«المجاهد»، فهم لا يعتبرون هذه الأرض أرض «المرابطين» بل هي أرض
«المجاهدين»، وهي الكلمة العامة التي يطلقونها على المحاربين [في سبيل
الإسلام]. ومن العسير استجلاء الأصل في هذين المعنيين والعلاقة بينهما في
تاريخ اللغة المتكلمة، وقد سبق لنا أن سعينا إلى تناول هذه المسألة، وسنعود
إليها بالحديث.
في الساعة الثالثة وعشر دقائق، تراءت لنا، بعد لأي،
مدينة أزمور، ببياضها الناصع، وهي تتكئ على هضبة خضراء غامقة، وترتقي
ببيوتها حتى ضريح الولي مولاي بوشعيب، ولي المدينة. والناظر إلى أزمور
يكنفها ذلك البياض الناصع الرقيق يستخفه أشبه بالسحر، وكأني به يود لو
يتهالك على نفسه في هذا المكان، وفي هذا الركن الميت من المغرب العتيق، وفي
البيوت الأليفة في هذه المدينة الصامتة التي لم يتصل بها الأوروبي بعد،
وفي الحياة الخاوية التي يحياها سكانها، تلك الحياة التي يصرفونها بين
جدران قد اعتنوا بتبييضها، وفوق الزرابي والحصر النقية الطاهرة، في الفناء
الذي تظله الكرمة المعترشة، بين حرارة الصلاة ودفء الأسرة، والاستماع بشمس
سخية بأنوارها.
في هذا الركن من الطريق تقوم غيضة من شجر الرتم. وإذا
أحد رفاقي المسلمين مل أن تراءت له أزمور حتى شرع يتوسل بمولاي بوشعيب، ثم
دنا من الغيضة وجمع بعض أغصان الرتم الشبيهة بالأسل وأخذ يفتلها. وقد أمكن
له أن يفتل على هذا النحو معظم تلك الأغصان. فقد جرت العادة على أن يقوم
الزائر إذا اقترب من أحد المزارات وفي نفسه لصاحبه رجاء أن يقوم فيما يفصح
عن ذلك الرجاء بعقد بضعة فروع من الشجيرات القائمة بإزائه. والناس في
الجزائر يعقدون، في ما يبدو، نبات الحلفاء أو الديس، وفي المغرب يعقدون
الرتم فهو أسلس بكثير لهذه الممارسة. وقلما تجد ولياً في هذه النواحي لا
يجعلون له هذه العقد متى وجدوا بجواره هذه النباتات. وقد رأينا كذلك في
أشجار الرتم التي مررنا بقربها قد علق فيها الكثير من الخرق، جرياً على
عادة شبيهة بالسابقة ولها شيوع في أنحاء العالم. وقد جرت العادة كذلك على
أن يطلب الزائر إلى أحد التقاة أن يزيد حجراً إلى الكركور المكرس للولي من
الأولياء؛ على نحو ما سنرى في الكركور الذي سينتصب أمامنا بعد قليل.
فالاقتراب من مولاي بوشعيب تدلنا عليه كومة حجارة من تلك الأكوام التي سبق
لنا الحديث عنها؛ إلا أن الكومة التي عند هذا الولي أكبر حجماً الحجارة،
ويمكن إدخالها في الأكوام التقليدية. وسنرى أن الحجارة تلعب في كل أرجاء
الجنوب المغرب الجنوبي دوراً هاماً في المجال الديني. ولا نريد أن نثقل على
القارئ بالكلام المكرور، ولذلك سنعمل ههنا على تجميع أهم الملاحظات التي
تكونت لدينا خلال هذه الرحلة ولملمة شعتها وتقديمها دفعة واحدة.
لا
يقتصر مدلول الكلمة «كركور»، التي كثر ورودها عندنا، على أكوام الحجارة
المقدسة، بل يشمل بوجه عام أكوام الحجارة على اختلاف أنواعها. وهذا معنى
يتفق ومعنى الجذر اللغوي الذي اشتق منه. وتنسحب كلمة الكركور كذلك على
الحجارة تُقتلع من الحقول ليسهل حرثها ثم تُجمَّع في أكوام. ولذلك ينبغي أن
نتحوط من التعجل في إسقاط الطابع الديني على ما نلاقي في طريقنا من أكوام
الحجارة؛ فقد لا تزيد عن أن تكون علامات أو مجرد إشارات؛ فقد تجد الشخصين
على سبيل التمثيل إذا أرادا أن يؤكدا لبعضهما أنهما قد مرا بالفعل بمكان من
الأمكنة، فيتفقان على أن أول من يمر بذلك المكان يضع فيه كركوراً صغيراً
أو «رجماً».
وهذه الكلمة الأخيرة أقرب إلى أن تكون مرادفة لكلمة
«كركور»، وهي تُستعمل عوضاً أحياناً حسب المناطق؛ فنحن نجدها كثيرة
الاستعمال على سبيل التمثيل في الصحراء الجزائرية. وكثيراً ما يُتخذ الرجم
في جنوب وهران علامات يُستدل بها على الآبار أو على اتجاهات الطرق. ومعظم
هذه الأكوام من الحجارة يكون على قدر كبير من التنسيق، وفي هيأة أعمدة بعلو
مترين إلى ثلاثة أمتار ُتجعل فوق القمم العالية.
وترى الناس في كثير من
الجهات في الجزائر إذا عن لهم أن يخصصوا القطعة من الأرض للرعي، أو ما
يسمى بـ «المكدل»، ويريدون أن يمنعوا خرفان غيرهم أن تأتي لترعى فيها،
وضعوا من حولها كومات حجارة لتنبيه الرعاة فلا يقودون إليها قطعانهم. وفي
البلاد التي يوجد فيها شجر الأركان، وتمتلئ منها بواديها، ترى الناس في
الفترات التي تنضج فيها ثمار هذه الشجرة الأثيرة على الماعز، يحيطون جميع
الأراضي بأكوام من الحجارة دلالة على أن أصحابها يمنعون عنها رعي الماعز
وهو الرعي الذي يسمحون به في غير تلك الفترة من السنة. فإذا فرغوا من جني
ثمار الأركان أطاحوا بتلك الحجارة وعادت الأراضي لتفتح في وجه الماعز.
العلامة
وتوجد
كذلك حالات كثيرة تكون فيها أكوام الحجارة لا تزيد عن نصب تذكاري؛ أي أنها
لا تزيد عن «علامة». وهذه العلامات تقام في الأماكن التي تكون مرت منها
بعض عظام الشخصيات؛ كمثل المكان الذي عسكر فيه السلطان. وقد لا يُقتصر في
هذه العلامات على أن تكون مجرد كومة من الحجارة؛ كمثل تلك العلامة التي
أقيمت تخليداً لمرور مولاي الحسن بتيط غير بعيد عن الجديدة، فهي عبارة عن
عمود مبيض بالجير. وعلاوة على ذلك فإن كل حدث هام يمكن أن يكون سبباً في
أقامة كركور. فمن المعلوم أن الجماعة في القبائل متى اتخذت قراراً هاماً
إلا وأقامت كركوراً لتخليده. ولا تزال ترى الكراكر تقيمها أهل المغرب وأهل
ولاية وهران في الموضع الذي يتم لهم فيه قتل الحيوان المتوحش. ويحكي
الجنرال ماركريت أن الأهالي رأوه يقتل غزالة من مسافة بعيدة، فأقاما له
رجمين؛ الأول في الموضع حيث سقط الحيوان، والثاني في الموضع الذي منه أطلق
الجنرال النار.
الحدادة
وهناك
نوع آخر من أكوام الحجارة لا يزال غير معروف للكثيرين، وهو المسمى
«الحدادة»؛ فلم نعرض له بالدراسة في المغرب. ويطلق هذا الاسم في ولاية
وهران على كومة الحجارة توضع عند الحدود الفاصلة بين عدة قبائل، وإليها
يأتي الأهالي لأداء اليمين ويحلفون على اسم أحد الأولياء. ويوجد نموذج لهذه
الأكوام من الحجارة في تمزورة، قرب وهران، وإليه يأتي الأهالي ليقسموا على
اسم سيدي بوتليسين، وذلك حسب قولهم لكي لا يتجشموا الذهاب إلى الولي
ويقتصدوا في المسافة. وقد جرت العادة على أن توضع «لحدادة» في المكان الذي
تُرى منه قبة الولي، وهي مقصورة على أداء اليمين.
لكن هذه الحالات التي
أتينا على ذكرها ههنا تختلف جميعاً عن الحالات التي سنتهتم ببحثها، بحكم أن
العادة لم تجر فيها على أن المارة بها يزيدون، كفعلهم في الأخرى التي
تهمنا، حجراً إلى كومة الحجارة القائمة.
المنزه
يرفع
الناس في الموضع من الحقل الذي يتوفى فيه الشخص كومة من الحجارة، وهو ما
يعرف عندهم باسم «المنزه». ويخبرنا أحد مخبرينا المغاربة أن «المنزه» هو
المكان جرى فيه تغسيل الميت وتطهيره، وهذا هو بالفعل معنى الجذر العربي
لهذه الكلمة. وتجد المنازه في كثير من الأمكنة، والناس شديدو توقير لها،
وحتى إنهم ليخشون المساس بها، فإذا تناولت منها حجراً عن غير قصد، سمع من
يقول لك : «لا تلمسه، وتوق الحذر، إنه منزه». وأكثر ما يقام هذا النوع من
النصب في الموضع الذي يُقتل فيه الشخص أو يلقي فيه الميتة العنيفة أو
الشنيعة، ويسمونه كذلك «مشهداً»، لأن الذي مات فيه، حسبما يقولون، إنما مات
شهيداً. ومن العلوم أن العرب قد وسعوا كثيراً من مفهوم المسيحي للشهادة
«الشهيد»، لأنهم يدخلون في الشهادة الشخص يُقتل من غير وجه حق، ويدخلون
فيها بوجه عام حالات الأشخاص الذين يلقون الميتة الجديرة بالشفقة. لكن يجدر
بالتذكير أن الكلمة العربية «مشهد» لها في العربية الفصحى معني القبر
المقدس، أو قبر التقي من الناس.
وسواء أكانوا يسمون كومة الحجارة التي
نهتم لها ههنا «منزها» أو «مشهداً»، أو جعلوا له اسماً أخر من بين تلك
الأسماء الشديدة العمومية كالكركور والرجم والجدار، فإنه يظل يتميز عنها
بخاصيتين لائحتين؛ أنه يقام في الموضع يتوفي فيه الشخص، الذي لا يكون
بالضرورة من الأولياء، وأن هذا الشخص كون قد لقي الميتة الشنيعة، فالمار به
يضع فوقه حجراً.
وقد ترى المعبر تحفه المخاطر، وقد جعلت فيه كراكر يشهد
كل واحد منها على مكان جريمة، وأكثر القتلة في هذه الأماكن يكونون أجانب
تعرضوا للاعتداء من قطاع الطرق، والشائع أن يسمى هذه النوع «كركور الغريب».
وعندما
تسأل المغاربة لماذا يرمون بحجر على أحد هذه الكراكر، يكون جوابهم بوجه
عام أنهم يفعلون لأبعاد «العائدين»، لأن روح الميت ربما عادت لترهق المارة
بهذا المكان في جن آخرين، ومنهم الجن الذين يؤثرون مثل هذه الأمكنة. ولا
يخفى عن أحد مبلغ الخوف الذي يجده أهالي شمال إفريقيا من الجن. علاوة على
أن الاعتقاد بأن روح الميت تظل تتردد على مكان الوفاة لتتعرض للمارة هو
اعتقاد قديم لدى الناس في سائر أنحاء العالم.
كركور على مشارف قبر ولي
ولننتقل
الآن إلى أكوام الحجارة ذات الصلة بالولي من الأولياء. وربما كان الكركور
الذي رأيناه على مقربة من أزمور هو النموذج الأتم الأكمل لهذه الكراكر؛ ذلك
النموذج التقليدي للكركور المقدس الذي يُجعل للولي. فهو أولاً يقوم في
الموضع الذي نرى منه المدينة أول مرة، ونرى منه بالتالي ضريح مولاي بوشعيب.
ثم إن هذا الركور شديد الارتفاع، فلا يقل علوه عن متر ونصف. وهو كركور
عظيم الحجم ومربع الزوايا قد أقيم في عرض الطريق يحكي هيكلاً بربارياً
barbare. وفوق هذا الكركور ينتصب الكثير من الأهرامات الصغيرة قد وضع
الزوار المتبركون، وقوامها خمسة أحجار أو ستة وضعت فوق بعضها في توازن، إذ
جُعلت كبراها في الأسفل وصغراها في الأعلى. وترى وسط المساحة المستوية في
الكركور حوشاً صغيراً، وهو مسور من الحجارة على هيأة حذوة الفرس، كما سنأتي
إلى تبيانه في ما يُقبل، قامت على أعداده أيدي الزوار. فإذا تجاوزنا عن
هذه الكومة الهائلة من الحجارة سرنا نلاقي بطول مائة متر على الطريق فيضاً
من الحجارة موضوعة على جانبي الطريق، على هيأة صفوف، وأكثرها على هيأة
أهرامات صغيرة من قبيل تلك الأهرامات التي تعلو الكركور الرئيسي. ومن
العادات المرعية عند الزوار الذين متى جاءوا إلى هذا المكان أن يزيدوا
حجراً إلى هذا الكركور، أو يقيمون أهرامات صغيرة فوقه أو بجواره، أو
يقتصرون على وضع حجر فوق أحد تلك الأهرامات القائمة، ومن هذا المكان
المبارك الذي تطالع الزائرَ مدينة مولاي بوشعيب.
ينطبق هذا الأمر على
جميع الأولياء؛ ففي الموضع الذي نراهم منه أول مرة، خاصة في الأماكن
المرتفعة، وبوجه أخص في المضايق، ينتصب كركور، أو إن الطريق على الأقل تكون
في هذا الموضع تتناثر فيها أهرامات صغيرة من الحجارة، وهذا شيء نراه في
«ركوبة» سيدي محمد العياشي التي سنمر بها في ما يقلبل. وكلمة «الركوبة»
تعني «المكان الذي ننظر أو نرقب منه»، وهي تُقال كذلك يراد بها الخُنق أو
المضيق، لكن يُقال عادة في اللغة الدارجة «ركوبة الولي الفلاني»، يريدون
بها المضيق حيث تقام الكراكر. ذاك الولي أو ذاك الآخر». غير أن هذا الذي
قلنا لا يعني أن على الزائر بالضرورة أن يرتقي ذلك المكان لكي يتأتى له
بالفعل أن يرى قبر الولي، بل حسبه أن يقترب منه؛ وعندما سنرتقي إلى الخنق
الضيق encaissé المؤدي إلى مولاي إبراهيم في جبال الأطلس جنوبي مراكش،
سنراه قد سُد في مواضع منه بكراكر صغيرة من بضع حجارة متراصة، بحيث يلزمنا
أن نتحوط عند مرورنا بها حتى لا نطيح بها.
وعلاوة على ذلك فإنك تجد بعض
تلك الكراكر قد أقيمت في الجبال وفي المضايق المرتفعة، وهي في تلك الموضع
تكون بعيدة جداً عن أضرحة الأولياء المنتسبة إليها. فهذا على سبيل التمثيل
مضيق تيزي ن ميري، في جنوب مراكش، الذي يرتفع بعلو 3.200 متر ويمر خلال
إحدى القمتين المتوازيتين اللتين تشكلان في هذا الموضع الأطلس؛ ففي هذا
المضيق يوجد كركور مكرس، حسب ما يفيدنا الأهالي، لسيدي احماد أو موسى،
الولي الأكبر لتازروالت وسوس. فإذا استفسرنا من المسافرين الذين يجوزون هذا
المضيق لماذا يزيدون حجراً إلى هذا الكركور، أجابوا، وهم يفعلون : «عْلىَ
سيدي احماد أو موسى»، أي إجلالاً لهذا الولي، وأنهم يعتقدون أنهم بهذا
الفعل يؤمنون لأنفسهم سفراً خلو من الخاطر ومن المنغصات.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 5 -
أكوام الحجارة المقدسة في الحوز وبعض الممارسات المتصلة بها (2\2)
الكركور القبر
لقد
لاحظنا في الحالات السابقة أن الكركور لا يزيد، حسب التفسير الذي يقدمه له
المسلمون، عن أن يكون تمثيلاًً لمزارة ولي، وأن هذا الولي يكون في معظم
الأحيان مدفوناً في موضع يبعد كثيراً عن ذلك الكركور. كذلك هو الشأن في
كركور سيدي احماد أو موسى الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يقوم على بعد بعد
مائتي كيلومتر من قبر هذا الولي. لكن كثيراً ما يُحمل الكركور على القبر
نفسه، ولو لم يوجد فيه نصب يدل على أن الولي دفين فيه. فهذه الكراكر قد
أقيمت لأموات ليس للناس بهم معرفة كبيرة، وقد لا يكونون يعرفون بغير
اسمائهم. ولدينا مثال ناطق بهذا الأمر في الكركور المقام للالة عيشة
والموجود على جانب مقبرة تينمل في [بلاد] الكنتافي. فهذه مقبرة عظيمة تضيق
بما حوت من قبور. فبعضها قد أحيط بالكثير من التوقير وجُعل له حوش من
الحجارة من غير طين. وأما قبر لالة عيشة فهو على هيأة يشذ به كثيراً عن
سائر الأضرحة والمزارات. فهو عبارة عن كومة من الحجارة أقيمت على جانب
الطريق، وكلما مر به واحد من التبركين وضع عليه حجراً. وفي قمته حجران أو
ثلاثة أحجار غليظة على هيأة عمود. وتُرى بعض قطع الأخشاب متخللة تلك
الحجارة أو متناثرة من حول ذلك الكركور. فإذا سألت الأهالي من تكون هذه
الولية، وفي أي وقت عاشت، وهل إن رفاتها ترقد حقاً في هذا الفقر، لم يحروا
جواباً.
الكركور المجهول
وفي
الأخير فقد تسمع من يقول أحياناً إن الكركور قبر لولي لا يُعرف له اسم؛
فهو لا مجرد مزارة بسيطة؛ أي مكان يزوره المتبركون، ويزيدون حجراً إلى كومة
الحجارة القائمة فيه. وقد جئنا ههنا بصورة لواحد من تلك المزارات البدائية
(الصورة 15). وفيه نرى حيث كومة الحجارة، التي ليست مع ذلك بالكبيرة،
تعلوها كومتان من الحجارة تجد لها أشباهاً ونظائر في معظم الكراكر.
والمجموع قد أحيط بسياج من النباتات الشوكية والقصب. فمتى
حجارة على جدران الأضرحة
سألنا
الأهالي عن اسم الولي الذي يرقد تحت هذا النصب الصغير لم يحروا جواباً شفي
غليل الباحث، كمثل أولئك الجزائريين الذين استفسرناهم في شأن واحدة من
مزاراتهم العديدة والمجهولة الأسماء.
والحالة التي يُمثل فيها لضريح
الولي بكركور تقوم العرف الجاري على أن يزيد إليه المار به حجراً، تساعدنا
على الانتقال إلى حالة الولي الذي يعرفه الناس ويوقرونه لما له من كرامات،
والذي يكون له مزار تضع الزوار على حيطانه الحجارة كفعلهم بالكركور.
ومما
يُذكر في هذا الصدد، على سبيل حصر الأفكار، أن في الطريق من الصويرة إلى
مراكش، تنتصب أمام نزالة المقدم مسعود حويطة سيدي ديان، الغريبة بمظهرها
الوحشي العظيم والقديم، وأبراجها المتهدمة، وعلى حيطانها الكثير من الحجارة
وضعها المبركون برسم القرابين.
والأمر نفسه نلاقيه في ضريح سيدي علي
الشفاج الواقع بقرب باب اغمات في مراكش، فهو يشتمل على قبة وحويطة بها بئر
يعرف ماؤها بطبيعة الحال ذا خصائص عجيبة. وتكتسي جدران هذه الحويطة، كما
نرى في الصورة التي التقطناها لها، بأكوام صغيرة من الحجارة لا نعدمها في
أغلب الكراكر. والزائر يجوز سور [حرم] الولي ويشرب من ذلك الماء ويضع حجراً
فوق السور أو يضع ذلك الحجر فوق كومة من الحجارة، وقد يفعل ما هو أكثر من
ذلك فيقيم بنفسه كومة أخرى من الحجارة، ثم يدخل للصلاة. والأضرحة التي في
مراكش معظمها مسور بحوائط ذات علة نسبي، وكثيراً ما نرى عليها حجارة من
وضعها المتبركون.
نظرية القربان
بيد
أن هؤلاء الزوار لا يملكون بوجه عام تفسيراً لتلك الممارسات، وليس
بمستطاعهم أن يأتوا بتفسير لها؛ وحدهم المتنورون والمتعلمون من المسلمين
يأتوننا بتفسير لتلك الممارسات، متى وجدت منهم من يهتم لهذه الأمور، لأن
المتعلمين منهم لا يهتمون لهذه العادات، فمن قائل إن ذلك الحجر يقوم
تمثيلاً للقربان، وقائل إن ذلك الحجر يوضع في طلك المكان ليكون ضمانة
للأمنية التي عقدها الزائر على الولي.
ويجدر بالإشارة أن ما يسمى ههنا
بالقربان المقدم في صورة حجارة أمر شديد الشيوع ولاسيما في الأضرحة الأكثر
شعبية. ولا تكاد ترى لهذا الطقس وجوداً، أو لا ترى له وجوداً على الإطلاق
في أضرحة مشاهير الأولياء؛ من أمثال سيدي بلعباس السبتي ومولاي إدريس. بل
يمكننا أن نذهب إلى حد القول إن الطقوس المتعلقة بالحجارة يكون أكثر
انتشارها في أضرحة الأولياء من غير ذوي الانتساب القوي إلى العقيدة
الإسلامية. ومن قبيل ما نقول أن مغارة لالة تاقندوت، في حاحا، وهي المغارة
التي سنعود إليها بالحديث في ما يقبل، والتي نقف فيها على طقس وثني لم تبدل
منها عملية الأسلمة غير اسمها، هذه المغارة تكثر فيها أكوام الحجارة فلا
يخلو منها موضع من أولها إلى منتهاها، بحيث يتعين على الزائر أن يسير فيها
بحذر حتى لا يسقط كومة من تلك الأكوام. وأكثر ما تنتشر هذه العادات مجتمعة
في الحوز. والمؤكد أن الكراكر يقل وجودها كثيراً انتشار أيضا في الغرب،
وكذلك لا تجد العادة المتمثلة في حمل الحجارة إلى الأضرحة في منطقة الغرب
دون شيوعها في منطقة الجنوب من المغرب، وإن لم تكن بالمجهولة فيها. ويجدر
بالإشارة في الأخير أننا نجد الناس اعتادو في كثير من البلدان أن يرموا على
الكراكر أو على قبور الأولياء من أغصان الأشجار والعصي بموازاة لرميهم
عليها بالحجارة، أو يغرسون تلك العصي في أكوام الحجارة المقدسة أو يغرسونها
في القبور (الصورتان 14 و25).
وجهة نظر علماء الاجتماع
لقد
عرضنا للوقائع وسقنا التفسيرات التي يقدمها لها الأهالي في عين المكان.
ويسوغ لنا الآن أن نتساءل عن معاني كل هذه الطقوس وعن أصولها. ويجدر بنا أن
نلاحظ أولاً أن مثيلة لهذه الطقوس توجد عند معظم شعوب العالم، وأنها قد
لقيت الدراسة من علماء متخصصون.
لقد جيء بتفسيرات كثيرة لهذا الأمر.
فإذا رجعنا إلى معظم دارسي العراقة ودارسي الفولكلور، ورجعنا لايبرشت وإلى
أندري، اللذين أفردا مسألة رمي الحجارة ببحثين خاصين، وجدناهم يحلون هذا
الطقس محل التضحية أو القربان يقدم إلى الآلهة أو إلى الجن أو إلى أرواح
الأموات. وأما في بعض الحالات الخاصة، وأبرز نموذج لها هو رمي الحجارة
[الجمرات] الذي يؤمر به لمن يحج إلى مكة، فإن هذا الطقس يكون يرمز إلى
اللعنة التي تطوق بعض الآلهة المهجورة، أو الاحتقار الذي يتملك شخصاً بما
ارتكب من ذنوب. ويذهب هارتلاند إلى القول إن الحجر الذي يُزاد إلى كومة
الحجارة المقدسة يرمز إلى اتحاد المؤمن مع الروح أو الإله الذي في كومة
الحجارة المقدسة؛ من قبيل حبات الشعير التي كان اليونانيون يرمون بها في ما
يقدمون من قرابين على الضحية، كانت تُستبدل في بعض الأحيان بالحجارة.
وأما
الأطروحة التي جاء بها فريزر، وكانت أول أطروحة شاملة فيهذا الباب، فهي
تختلف عما ذكرنا. فهو يذهب في عمله الرائد الموسوم «الغصن الذهبي»، إلى أن
نقل الشر إلى في حجر أو إلى إنسان أو حيوان بواسطة الحجر هي ممارسة سحري
كانت شائعة عند سائر البدائيين في العالم، وانطلاقاً من هذا التصور يعمد
إلى تفسير الوقائع التي تهمنا في هذا الصدد. فأكوام الحجارة أو أغصان
الأشجار التي تلاقينا في الطرق ونراها خاصة في قمم الجبال، والتي يرمي
المار عليها بحجر أو يضع فوقها من أوراق الأشجار بعد أن يحك جسمه بها، أو
يرمي عليها بحجر بعد أن يبصق فيه، هي ممارسة جارية عند مختلف الشعوب؛ يجتمع
فيها شعوب إفريقيا وأمريكا وقيوانوسيا. ولا يتردد فريزر في التأكيد على أن
هذا الطقس يكون بغرض دفع التعب عن النفس. «فالبدائي يرمي بتعبه بما يرمي
ذلك الحجر، (أو Projecit بتعبير الرومان)... فهو يرمي بالحجر كأنما يبصق».
فالبدائي يرمي بتعبه مع الحجارة كما قال احد الرومان..: «إنه يرمي بحجارة
كما يبصق».
إلقاء الحجارة في المضايق
إنه
التفسير الوحيد الذي جيء به لهذا الطقس عند الشعوب البدائية. فقد كان
البدائي إذا ارتقى بعض آلاف الأمتار، وبلغ أحد المضايق الشاهقة، وهو يتميز
من التعب والإجهاد، فإذا انتهى من ذلك الصعود ذهب عنه الإعياء وشعر بذلك
الارتياح التلقائي الذي يجده جميع الناس؛ فتراه يعزو ذلك الارتياح إلى
الطقس المتمثل في رمي الحجارة. وفي هذا تفسير لتلك الأكوام من الحجارة لا
يخلو منها مكان من العالم وتكثر خاصة في المضايق العالية التي يرد عليها
الزائرون، كما نلاقيها بطول الطرق وفي ملتقياتها. تلك هي «المراجم» التي
ورد ذكرها في «سفر الأمثال» تحدث عنها وتشبه كتابة الأمثال على الحجارة عند
اليونان والتي ترجمها مارسيري والتي ذكرت في جميع بلدان العالم. وليسو
كلهم ناتجين عنا لرغبة في إزالة التعبن بل إن البدائي يدفع عنه بهذا التصرف
كل شيء سلبي. ويرى فرايزر – من اجل الدفع بنظريته إلى الأمام – أن البدائي
يصاب بهلع شديد في مكان جريمة ما أو مكان قاحل ويصبح ضحية لأحاسيس وذكريات
تحاصره، حيث يتخيل أشباحا مخيفة فيبدأ في البحث عن نقل هذه التمثلات إلى
أشياء الأرواح فيها مثل الحجارة أو فروع الأشجار التي يمكن أن تلبس الشر
بدله وبعد ذلك يفر. ومن هنا يأتي أصل وجود أكوام الحجر في المكان الذي
اغتيل فيه إنسان ما.
إلقاء الحجارة على القبور
وربما
كان هذا المكان هو نفسه قبر الضحية، لكنه أمر لا يكون إلا في القليل
الناذر. ومع ذلك فالعرف المتمثل في رمي الحجارة على القبر، من غير أن يكون
صاحبه مات قتيلاً، نراه شديد الشيوع. يقول فريزر في تفسيره إن الإنسان
البدائي ييريد به أن يدفع عن عدوى الموت التي تملك عليه نفسه ويتصورها
شيئاً ملموساً. وقد حكى لي أحد المسلمين أن له صديقاً «طالبْ» كلما ذهب
لزيارة قبر أبيه والدعاء له يضع فوقه رجماً صغيراً.
ويعتبر التطير من
الإصابة بعدوى الموت من الأمور الثابت وجودها عن سائر الناس في هذا العالم؛
وهو السبب نفسه الذي يدفع بالناس إلى النأي بأنفسهم عن القاتل. وبذلك يرد
فريزر إلى أطروحته الأسطورةَ التي تتحدث عن رجم الآلهة لهرمس قاتل أركوس.
ولا توقف الأمر عند هذا الحد. فقد أشار الباحث الأنجليزي إلى أن هذا الطقس
المتمثل في رمي الحجارة قد اكتسى بعدئذ صبغة دينية؛ فقد تطورت عبادة أرواح
الأموات لتحل محل تلك العادة البدائية، والمؤلف يسوق أمثلة كثيرة لرمي
الحجارة يصحبه تقديم قرابين وتلاوة أدعية...إلخ، وهو أمر يحدث حتى بإزاء
أكوام الحجارة الموضوعة عند مضايق الجبال. وفي الأخير عادت الغلبة إلى
تقديم القرابين وتلاوة الأدعية. وهذا مثال على تحول الطقوس السحري إلى طقوس
دينية.
ولا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلى أن هذه النظريات المختلفة
متناقضة بالضرورة، فلا نرى سبباً لأن يكون حمل الحجارة إلى كومة أحجار أو
وضعها فوق قبر لا يصدران عن أصل مختلف حسب المناطق، وسنرى أن في الإمكان
الجمع بين نظرية القربان ونظرية دفع الشر. فالأطروحة الأولى بين هاتين
الأطروحتين ليست سوى التفسير الشائع الذي يأتي به المتبركون للطقس المتمثل
في حمل الحجارة إلى ضريح الولي من الأولياء، وهي تكفي تكفي لتفسير هذه
الطقوس في الوقت الحالي، لكنها تبقى عاجزة عن تقديم تفسير السبب لرمي
الحجارة في المضايق العالية، وهو طقس نلاقيه عند الشعوب أشدها اختلافاً،
ولا تجد له في معظم الأحيان صلة بالدين. عدا أنه يبدو من المستبعد أن يكون
رمي الحجارة يعتبر وسيلة لاستمالة روح من الأرواح؛ وأما أن يكون ذلك الحجر
تمثيلاً لقربان فتلك عملية فكرية لاقدرة للإنسان البدائي عليها. فالإنسان
لم يلجأ يوماً إلى اصطناع الرمزية إلا لترجمة الطقوس التي لم يعد يستطيع
فهماً للغرض منها أو لم يعد يريد التصريح بها. وقد عبر فريزر عن هذا المعنى
ت عن الأذواق التي يمكن أن تكون لهذه الكائنات الروحية، تعبيراً فيه
الكثير من الذكاء قال فيه : «يصعب علينا أن نتحدث حديث المستيقن عن الأذواق
التي يمكن أن تكون للكائنات الروحية، لكن هذه الأذواق لها بوجه عام شبه
كبير بأذواق سائر الناس، ويمكننا أن تجزم، دونما خشية من اعتراض المعترضين،
على أنك لن تجد كثيراً من هؤلاء يقبلون أن يتعرضوا للرجم من كل عابر يمر
بهم تحت ستار تلقي قربان».
وفي المقابل فإن أطروحة فريزر تفسر لنا أصول
هذا الطقس أوفى تفسير وأكثره انسجاماً وما أفادنا العلم بشأن فكر
البدائيين. ثم إننا نجد في هذه الأطروحة تسعفنا عند اللزوم بتفسير للفعل
التمثل في وضع الحجارة فوق القبور. غير أنها تغدو أقل إقناعاً عندما نطلب
فيها تفسيراً للحجر يقدم إلى الولي برسم القربان، وإن تكن لها في هذه
الحالة قواسم اشتراك مع أطروحة القربان. ويمكن أن نأخذ كذلك بأطروحة طرد
الشر، ولو على سبيل التفسير الدزئي، حتى في الحالة التي تبدو فيها عملية
رمي الحجارة على القبر تمثيلاً للاحتقار. عدا التعبير عن الاحتقار يبدو في
هذه الحالة شيئاً لاحقاً على التفكير البدائي وغريباً عنه.
سنحاول أن
نُعمل نظرية فريزر على مجموع الوقائع التي سنتناولها بالدراسة، وسنرى أن
فريزر يأتي فيها بنظرية عامة، لكن في الإمكان تتميم هذا التفسير بآخر، وأن
في الإمكان الدفع بتفسيرات أخرى في ما يتعلق ببعض الجوانب والتفاصيل في تلك
الوقائع. ولقد أبانت الدراسة الاجتماعية التي تناولت البدائيين، كما هو
معلوم، عن وجود خليط كبير من المعتقدات والتناقضات المتعددة في ذهن الإنسان
البدائي وفي تفكير الإنسان الهمجي. وأبانت الدراسة المقارنة للخرافات أن
الإنسان البدائي والإنسان الهمجي تتعايش لديه مجموعة من المعتقدات الخرافية
في معزل عن بعضها، ولا يبدو أنهما قد اهتما للتوفيق بينها. والحقيقة أننا
لن يتأتى لنا قط أن نتمثل على وجه الدقة الحالة الذهنية للإنسان البدائي،
وسيظل يعسر علينا أن نبحث في معتقداته. والذي يبدو للوهلة الأولى أن
الدراسة المعمقة للطقوس [البدائية] سيكون فيها نفع كبير في هذا الباب،
بالنظر إلى أن تمثل، بوجه عام، التعبير الموضوعي عن حالات النفس البشرية.
بيد أن الأمر لا يخلو من التباس.
أولاً لأن الطقس الواحد يمكن أن يكون
بطبيعة الحال تعبيراً عن معتقدات مختلفة. فقد كان الاعتقاد سابقاً أن رمي
الحجارة يكون بغرض طرد الشر، وقد أصبح الاعتقاد اليوم أنه يُقدم برسم
القربان إلى الولي، ولا يبعد أن يأتي بعدئذ اعتقاد آخر ينسخ الاعتقاد
الحالي؛ وما دام الاعتقاد الأول قد طاله التغير فما الذي يضمن لنا أنه قد
كان هو الاعتقاد الأول بالفعل؟ ولذلك فإن في الإمكان أن يكون الطقس الواحد
يؤدي وظائف عدة في وقت واحد؛ فالوشم على سبيل التمثيل يمكن اعتباره شكلاً
من أشكال الزينة، أو وسيلة للاختبار، أو علامة دالة على القبيلة، ويمكن
اعتباره كذلك رقية سحرية أو مجرد وسيلة للوقاية من الأمراض؛ على نحو ما
يكون العضو الواحد في الجسم الحي، وليكن الكبد على سبيل التمثيل، يقوم
بوظائف على اختلاف كبير. كما أن الوظيفة الواحد قد تضطلع بها في الأجسام
الحية عدة أعضاء؛ من قبيل الاهتداء إلى الاتجاه، وإنتاج الكريات البيضاء.
وكذلك هو المعتقد الواحد يمكن التعبير عنه بطقوس شديد الاختلاف بينها، وإن
في الظاهر. وسنبين بعد قليل أن العُقد التي تُجعَل في أغضان الأشجار،
والخرق تُعلَّق فيها والحجر يُرمى على الكراكر هي طقوس مختلفة لكنها تجتمع
على طرد الشر.
وقد كان من شأن هذا الالتباس أن يثبط همتنا، ويصور لنا
أننا لن نخلص إلا إلى نظريات ناقصة؛ لو لم نكن نعرف أن العلم بحاجة إلى
فرضيات مؤقتة، بشرط أن نعود عليها بالتوسيع من نطاقها ونعمل بالتدريج على
استكمالها؛ وأن نأخذ بالقاعدة التي قال بها باكون، وما كنا لنسود هذه
الصفحات لو لم نكن متشبعين بهذا المبدإ.
أكوام الحجارة المقدسة في الحوز وبعض الممارسات المتصلة بها (2\2)
الكركور القبر
لقد
لاحظنا في الحالات السابقة أن الكركور لا يزيد، حسب التفسير الذي يقدمه له
المسلمون، عن أن يكون تمثيلاًً لمزارة ولي، وأن هذا الولي يكون في معظم
الأحيان مدفوناً في موضع يبعد كثيراً عن ذلك الكركور. كذلك هو الشأن في
كركور سيدي احماد أو موسى الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يقوم على بعد بعد
مائتي كيلومتر من قبر هذا الولي. لكن كثيراً ما يُحمل الكركور على القبر
نفسه، ولو لم يوجد فيه نصب يدل على أن الولي دفين فيه. فهذه الكراكر قد
أقيمت لأموات ليس للناس بهم معرفة كبيرة، وقد لا يكونون يعرفون بغير
اسمائهم. ولدينا مثال ناطق بهذا الأمر في الكركور المقام للالة عيشة
والموجود على جانب مقبرة تينمل في [بلاد] الكنتافي. فهذه مقبرة عظيمة تضيق
بما حوت من قبور. فبعضها قد أحيط بالكثير من التوقير وجُعل له حوش من
الحجارة من غير طين. وأما قبر لالة عيشة فهو على هيأة يشذ به كثيراً عن
سائر الأضرحة والمزارات. فهو عبارة عن كومة من الحجارة أقيمت على جانب
الطريق، وكلما مر به واحد من التبركين وضع عليه حجراً. وفي قمته حجران أو
ثلاثة أحجار غليظة على هيأة عمود. وتُرى بعض قطع الأخشاب متخللة تلك
الحجارة أو متناثرة من حول ذلك الكركور. فإذا سألت الأهالي من تكون هذه
الولية، وفي أي وقت عاشت، وهل إن رفاتها ترقد حقاً في هذا الفقر، لم يحروا
جواباً.
الكركور المجهول
وفي
الأخير فقد تسمع من يقول أحياناً إن الكركور قبر لولي لا يُعرف له اسم؛
فهو لا مجرد مزارة بسيطة؛ أي مكان يزوره المتبركون، ويزيدون حجراً إلى كومة
الحجارة القائمة فيه. وقد جئنا ههنا بصورة لواحد من تلك المزارات البدائية
(الصورة 15). وفيه نرى حيث كومة الحجارة، التي ليست مع ذلك بالكبيرة،
تعلوها كومتان من الحجارة تجد لها أشباهاً ونظائر في معظم الكراكر.
والمجموع قد أحيط بسياج من النباتات الشوكية والقصب. فمتى
حجارة على جدران الأضرحة
سألنا
الأهالي عن اسم الولي الذي يرقد تحت هذا النصب الصغير لم يحروا جواباً شفي
غليل الباحث، كمثل أولئك الجزائريين الذين استفسرناهم في شأن واحدة من
مزاراتهم العديدة والمجهولة الأسماء.
والحالة التي يُمثل فيها لضريح
الولي بكركور تقوم العرف الجاري على أن يزيد إليه المار به حجراً، تساعدنا
على الانتقال إلى حالة الولي الذي يعرفه الناس ويوقرونه لما له من كرامات،
والذي يكون له مزار تضع الزوار على حيطانه الحجارة كفعلهم بالكركور.
ومما
يُذكر في هذا الصدد، على سبيل حصر الأفكار، أن في الطريق من الصويرة إلى
مراكش، تنتصب أمام نزالة المقدم مسعود حويطة سيدي ديان، الغريبة بمظهرها
الوحشي العظيم والقديم، وأبراجها المتهدمة، وعلى حيطانها الكثير من الحجارة
وضعها المبركون برسم القرابين.
والأمر نفسه نلاقيه في ضريح سيدي علي
الشفاج الواقع بقرب باب اغمات في مراكش، فهو يشتمل على قبة وحويطة بها بئر
يعرف ماؤها بطبيعة الحال ذا خصائص عجيبة. وتكتسي جدران هذه الحويطة، كما
نرى في الصورة التي التقطناها لها، بأكوام صغيرة من الحجارة لا نعدمها في
أغلب الكراكر. والزائر يجوز سور [حرم] الولي ويشرب من ذلك الماء ويضع حجراً
فوق السور أو يضع ذلك الحجر فوق كومة من الحجارة، وقد يفعل ما هو أكثر من
ذلك فيقيم بنفسه كومة أخرى من الحجارة، ثم يدخل للصلاة. والأضرحة التي في
مراكش معظمها مسور بحوائط ذات علة نسبي، وكثيراً ما نرى عليها حجارة من
وضعها المتبركون.
نظرية القربان
بيد
أن هؤلاء الزوار لا يملكون بوجه عام تفسيراً لتلك الممارسات، وليس
بمستطاعهم أن يأتوا بتفسير لها؛ وحدهم المتنورون والمتعلمون من المسلمين
يأتوننا بتفسير لتلك الممارسات، متى وجدت منهم من يهتم لهذه الأمور، لأن
المتعلمين منهم لا يهتمون لهذه العادات، فمن قائل إن ذلك الحجر يقوم
تمثيلاً للقربان، وقائل إن ذلك الحجر يوضع في طلك المكان ليكون ضمانة
للأمنية التي عقدها الزائر على الولي.
ويجدر بالإشارة أن ما يسمى ههنا
بالقربان المقدم في صورة حجارة أمر شديد الشيوع ولاسيما في الأضرحة الأكثر
شعبية. ولا تكاد ترى لهذا الطقس وجوداً، أو لا ترى له وجوداً على الإطلاق
في أضرحة مشاهير الأولياء؛ من أمثال سيدي بلعباس السبتي ومولاي إدريس. بل
يمكننا أن نذهب إلى حد القول إن الطقوس المتعلقة بالحجارة يكون أكثر
انتشارها في أضرحة الأولياء من غير ذوي الانتساب القوي إلى العقيدة
الإسلامية. ومن قبيل ما نقول أن مغارة لالة تاقندوت، في حاحا، وهي المغارة
التي سنعود إليها بالحديث في ما يقبل، والتي نقف فيها على طقس وثني لم تبدل
منها عملية الأسلمة غير اسمها، هذه المغارة تكثر فيها أكوام الحجارة فلا
يخلو منها موضع من أولها إلى منتهاها، بحيث يتعين على الزائر أن يسير فيها
بحذر حتى لا يسقط كومة من تلك الأكوام. وأكثر ما تنتشر هذه العادات مجتمعة
في الحوز. والمؤكد أن الكراكر يقل وجودها كثيراً انتشار أيضا في الغرب،
وكذلك لا تجد العادة المتمثلة في حمل الحجارة إلى الأضرحة في منطقة الغرب
دون شيوعها في منطقة الجنوب من المغرب، وإن لم تكن بالمجهولة فيها. ويجدر
بالإشارة في الأخير أننا نجد الناس اعتادو في كثير من البلدان أن يرموا على
الكراكر أو على قبور الأولياء من أغصان الأشجار والعصي بموازاة لرميهم
عليها بالحجارة، أو يغرسون تلك العصي في أكوام الحجارة المقدسة أو يغرسونها
في القبور (الصورتان 14 و25).
وجهة نظر علماء الاجتماع
لقد
عرضنا للوقائع وسقنا التفسيرات التي يقدمها لها الأهالي في عين المكان.
ويسوغ لنا الآن أن نتساءل عن معاني كل هذه الطقوس وعن أصولها. ويجدر بنا أن
نلاحظ أولاً أن مثيلة لهذه الطقوس توجد عند معظم شعوب العالم، وأنها قد
لقيت الدراسة من علماء متخصصون.
لقد جيء بتفسيرات كثيرة لهذا الأمر.
فإذا رجعنا إلى معظم دارسي العراقة ودارسي الفولكلور، ورجعنا لايبرشت وإلى
أندري، اللذين أفردا مسألة رمي الحجارة ببحثين خاصين، وجدناهم يحلون هذا
الطقس محل التضحية أو القربان يقدم إلى الآلهة أو إلى الجن أو إلى أرواح
الأموات. وأما في بعض الحالات الخاصة، وأبرز نموذج لها هو رمي الحجارة
[الجمرات] الذي يؤمر به لمن يحج إلى مكة، فإن هذا الطقس يكون يرمز إلى
اللعنة التي تطوق بعض الآلهة المهجورة، أو الاحتقار الذي يتملك شخصاً بما
ارتكب من ذنوب. ويذهب هارتلاند إلى القول إن الحجر الذي يُزاد إلى كومة
الحجارة المقدسة يرمز إلى اتحاد المؤمن مع الروح أو الإله الذي في كومة
الحجارة المقدسة؛ من قبيل حبات الشعير التي كان اليونانيون يرمون بها في ما
يقدمون من قرابين على الضحية، كانت تُستبدل في بعض الأحيان بالحجارة.
وأما
الأطروحة التي جاء بها فريزر، وكانت أول أطروحة شاملة فيهذا الباب، فهي
تختلف عما ذكرنا. فهو يذهب في عمله الرائد الموسوم «الغصن الذهبي»، إلى أن
نقل الشر إلى في حجر أو إلى إنسان أو حيوان بواسطة الحجر هي ممارسة سحري
كانت شائعة عند سائر البدائيين في العالم، وانطلاقاً من هذا التصور يعمد
إلى تفسير الوقائع التي تهمنا في هذا الصدد. فأكوام الحجارة أو أغصان
الأشجار التي تلاقينا في الطرق ونراها خاصة في قمم الجبال، والتي يرمي
المار عليها بحجر أو يضع فوقها من أوراق الأشجار بعد أن يحك جسمه بها، أو
يرمي عليها بحجر بعد أن يبصق فيه، هي ممارسة جارية عند مختلف الشعوب؛ يجتمع
فيها شعوب إفريقيا وأمريكا وقيوانوسيا. ولا يتردد فريزر في التأكيد على أن
هذا الطقس يكون بغرض دفع التعب عن النفس. «فالبدائي يرمي بتعبه بما يرمي
ذلك الحجر، (أو Projecit بتعبير الرومان)... فهو يرمي بالحجر كأنما يبصق».
فالبدائي يرمي بتعبه مع الحجارة كما قال احد الرومان..: «إنه يرمي بحجارة
كما يبصق».
إلقاء الحجارة في المضايق
إنه
التفسير الوحيد الذي جيء به لهذا الطقس عند الشعوب البدائية. فقد كان
البدائي إذا ارتقى بعض آلاف الأمتار، وبلغ أحد المضايق الشاهقة، وهو يتميز
من التعب والإجهاد، فإذا انتهى من ذلك الصعود ذهب عنه الإعياء وشعر بذلك
الارتياح التلقائي الذي يجده جميع الناس؛ فتراه يعزو ذلك الارتياح إلى
الطقس المتمثل في رمي الحجارة. وفي هذا تفسير لتلك الأكوام من الحجارة لا
يخلو منها مكان من العالم وتكثر خاصة في المضايق العالية التي يرد عليها
الزائرون، كما نلاقيها بطول الطرق وفي ملتقياتها. تلك هي «المراجم» التي
ورد ذكرها في «سفر الأمثال» تحدث عنها وتشبه كتابة الأمثال على الحجارة عند
اليونان والتي ترجمها مارسيري والتي ذكرت في جميع بلدان العالم. وليسو
كلهم ناتجين عنا لرغبة في إزالة التعبن بل إن البدائي يدفع عنه بهذا التصرف
كل شيء سلبي. ويرى فرايزر – من اجل الدفع بنظريته إلى الأمام – أن البدائي
يصاب بهلع شديد في مكان جريمة ما أو مكان قاحل ويصبح ضحية لأحاسيس وذكريات
تحاصره، حيث يتخيل أشباحا مخيفة فيبدأ في البحث عن نقل هذه التمثلات إلى
أشياء الأرواح فيها مثل الحجارة أو فروع الأشجار التي يمكن أن تلبس الشر
بدله وبعد ذلك يفر. ومن هنا يأتي أصل وجود أكوام الحجر في المكان الذي
اغتيل فيه إنسان ما.
إلقاء الحجارة على القبور
وربما
كان هذا المكان هو نفسه قبر الضحية، لكنه أمر لا يكون إلا في القليل
الناذر. ومع ذلك فالعرف المتمثل في رمي الحجارة على القبر، من غير أن يكون
صاحبه مات قتيلاً، نراه شديد الشيوع. يقول فريزر في تفسيره إن الإنسان
البدائي ييريد به أن يدفع عن عدوى الموت التي تملك عليه نفسه ويتصورها
شيئاً ملموساً. وقد حكى لي أحد المسلمين أن له صديقاً «طالبْ» كلما ذهب
لزيارة قبر أبيه والدعاء له يضع فوقه رجماً صغيراً.
ويعتبر التطير من
الإصابة بعدوى الموت من الأمور الثابت وجودها عن سائر الناس في هذا العالم؛
وهو السبب نفسه الذي يدفع بالناس إلى النأي بأنفسهم عن القاتل. وبذلك يرد
فريزر إلى أطروحته الأسطورةَ التي تتحدث عن رجم الآلهة لهرمس قاتل أركوس.
ولا توقف الأمر عند هذا الحد. فقد أشار الباحث الأنجليزي إلى أن هذا الطقس
المتمثل في رمي الحجارة قد اكتسى بعدئذ صبغة دينية؛ فقد تطورت عبادة أرواح
الأموات لتحل محل تلك العادة البدائية، والمؤلف يسوق أمثلة كثيرة لرمي
الحجارة يصحبه تقديم قرابين وتلاوة أدعية...إلخ، وهو أمر يحدث حتى بإزاء
أكوام الحجارة الموضوعة عند مضايق الجبال. وفي الأخير عادت الغلبة إلى
تقديم القرابين وتلاوة الأدعية. وهذا مثال على تحول الطقوس السحري إلى طقوس
دينية.
ولا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلى أن هذه النظريات المختلفة
متناقضة بالضرورة، فلا نرى سبباً لأن يكون حمل الحجارة إلى كومة أحجار أو
وضعها فوق قبر لا يصدران عن أصل مختلف حسب المناطق، وسنرى أن في الإمكان
الجمع بين نظرية القربان ونظرية دفع الشر. فالأطروحة الأولى بين هاتين
الأطروحتين ليست سوى التفسير الشائع الذي يأتي به المتبركون للطقس المتمثل
في حمل الحجارة إلى ضريح الولي من الأولياء، وهي تكفي تكفي لتفسير هذه
الطقوس في الوقت الحالي، لكنها تبقى عاجزة عن تقديم تفسير السبب لرمي
الحجارة في المضايق العالية، وهو طقس نلاقيه عند الشعوب أشدها اختلافاً،
ولا تجد له في معظم الأحيان صلة بالدين. عدا أنه يبدو من المستبعد أن يكون
رمي الحجارة يعتبر وسيلة لاستمالة روح من الأرواح؛ وأما أن يكون ذلك الحجر
تمثيلاً لقربان فتلك عملية فكرية لاقدرة للإنسان البدائي عليها. فالإنسان
لم يلجأ يوماً إلى اصطناع الرمزية إلا لترجمة الطقوس التي لم يعد يستطيع
فهماً للغرض منها أو لم يعد يريد التصريح بها. وقد عبر فريزر عن هذا المعنى
ت عن الأذواق التي يمكن أن تكون لهذه الكائنات الروحية، تعبيراً فيه
الكثير من الذكاء قال فيه : «يصعب علينا أن نتحدث حديث المستيقن عن الأذواق
التي يمكن أن تكون للكائنات الروحية، لكن هذه الأذواق لها بوجه عام شبه
كبير بأذواق سائر الناس، ويمكننا أن تجزم، دونما خشية من اعتراض المعترضين،
على أنك لن تجد كثيراً من هؤلاء يقبلون أن يتعرضوا للرجم من كل عابر يمر
بهم تحت ستار تلقي قربان».
وفي المقابل فإن أطروحة فريزر تفسر لنا أصول
هذا الطقس أوفى تفسير وأكثره انسجاماً وما أفادنا العلم بشأن فكر
البدائيين. ثم إننا نجد في هذه الأطروحة تسعفنا عند اللزوم بتفسير للفعل
التمثل في وضع الحجارة فوق القبور. غير أنها تغدو أقل إقناعاً عندما نطلب
فيها تفسيراً للحجر يقدم إلى الولي برسم القربان، وإن تكن لها في هذه
الحالة قواسم اشتراك مع أطروحة القربان. ويمكن أن نأخذ كذلك بأطروحة طرد
الشر، ولو على سبيل التفسير الدزئي، حتى في الحالة التي تبدو فيها عملية
رمي الحجارة على القبر تمثيلاً للاحتقار. عدا التعبير عن الاحتقار يبدو في
هذه الحالة شيئاً لاحقاً على التفكير البدائي وغريباً عنه.
سنحاول أن
نُعمل نظرية فريزر على مجموع الوقائع التي سنتناولها بالدراسة، وسنرى أن
فريزر يأتي فيها بنظرية عامة، لكن في الإمكان تتميم هذا التفسير بآخر، وأن
في الإمكان الدفع بتفسيرات أخرى في ما يتعلق ببعض الجوانب والتفاصيل في تلك
الوقائع. ولقد أبانت الدراسة الاجتماعية التي تناولت البدائيين، كما هو
معلوم، عن وجود خليط كبير من المعتقدات والتناقضات المتعددة في ذهن الإنسان
البدائي وفي تفكير الإنسان الهمجي. وأبانت الدراسة المقارنة للخرافات أن
الإنسان البدائي والإنسان الهمجي تتعايش لديه مجموعة من المعتقدات الخرافية
في معزل عن بعضها، ولا يبدو أنهما قد اهتما للتوفيق بينها. والحقيقة أننا
لن يتأتى لنا قط أن نتمثل على وجه الدقة الحالة الذهنية للإنسان البدائي،
وسيظل يعسر علينا أن نبحث في معتقداته. والذي يبدو للوهلة الأولى أن
الدراسة المعمقة للطقوس [البدائية] سيكون فيها نفع كبير في هذا الباب،
بالنظر إلى أن تمثل، بوجه عام، التعبير الموضوعي عن حالات النفس البشرية.
بيد أن الأمر لا يخلو من التباس.
أولاً لأن الطقس الواحد يمكن أن يكون
بطبيعة الحال تعبيراً عن معتقدات مختلفة. فقد كان الاعتقاد سابقاً أن رمي
الحجارة يكون بغرض طرد الشر، وقد أصبح الاعتقاد اليوم أنه يُقدم برسم
القربان إلى الولي، ولا يبعد أن يأتي بعدئذ اعتقاد آخر ينسخ الاعتقاد
الحالي؛ وما دام الاعتقاد الأول قد طاله التغير فما الذي يضمن لنا أنه قد
كان هو الاعتقاد الأول بالفعل؟ ولذلك فإن في الإمكان أن يكون الطقس الواحد
يؤدي وظائف عدة في وقت واحد؛ فالوشم على سبيل التمثيل يمكن اعتباره شكلاً
من أشكال الزينة، أو وسيلة للاختبار، أو علامة دالة على القبيلة، ويمكن
اعتباره كذلك رقية سحرية أو مجرد وسيلة للوقاية من الأمراض؛ على نحو ما
يكون العضو الواحد في الجسم الحي، وليكن الكبد على سبيل التمثيل، يقوم
بوظائف على اختلاف كبير. كما أن الوظيفة الواحد قد تضطلع بها في الأجسام
الحية عدة أعضاء؛ من قبيل الاهتداء إلى الاتجاه، وإنتاج الكريات البيضاء.
وكذلك هو المعتقد الواحد يمكن التعبير عنه بطقوس شديد الاختلاف بينها، وإن
في الظاهر. وسنبين بعد قليل أن العُقد التي تُجعَل في أغضان الأشجار،
والخرق تُعلَّق فيها والحجر يُرمى على الكراكر هي طقوس مختلفة لكنها تجتمع
على طرد الشر.
وقد كان من شأن هذا الالتباس أن يثبط همتنا، ويصور لنا
أننا لن نخلص إلا إلى نظريات ناقصة؛ لو لم نكن نعرف أن العلم بحاجة إلى
فرضيات مؤقتة، بشرط أن نعود عليها بالتوسيع من نطاقها ونعمل بالتدريج على
استكمالها؛ وأن نأخذ بالقاعدة التي قال بها باكون، وما كنا لنسود هذه
الصفحات لو لم نكن متشبعين بهذا المبدإ.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 6 -
ما يسمى وساطة الأولياء، أو «الشفاعة»، تُجعَل لتسويغ حركة الزوايا في الإسلام
السحر ونقل الشر
إن
طرد الشر شيء خيِّر، وهو يقترب من السحر الخيِّر. ذلك بأن هذا النوع من
السحر يكون على وجه العموم بجعل ظاهرة تحدث ظاهرة أخرى مشابهة لها (كما
البدائي ينفخ لجلب الريح)، أو لجعل الجسم الملتحم بجسم آخر يظل متوادداً
وإياه (كما هو الحال في السحر يُجعل للشخص باستعمال قلامات أظافره). فيجوز
لنا الاعتقاد أنه متى قذف البدائي بحجر فإنما يقوم بفعل هو تمثيل لطرد
الشر، وهو فعل يكون، في تصور البدائيين عن السحر، كافياً لإبعاد ذلك الشر
في الواقع. لكن لا يكاد يوجد من فرق في تفكير البدائي بين اعتقاده بالنقل
الفعلي للشر عن طريق الحجارة واعتقاد بطرده باستعمال طقس سحري مشابه. وإذا
كنا نقيم ههنا تمييزاً منطقياً عميقاً، فالراجح أنه لا يوجد البتة من تمايز
بينهما. وأما من جهة أخرى فإن دفن شعر الشخص وأظافره والجزء المنتزع من
جسمه يكون فيه بطبيعة الحال تحصين لهذه الأشياء أن تقع بأيدي المشتغلين
بصنع الرقى المؤذية. لكن صون تلك الأشياء يكون فيه كذلك صون، بفعل السحر
الخيِّر، لجسم ذلك الشخص، فهذا يبين لنا مرة أخرى عن خلط في فكر الإنسان
البدائي [بين الأمرين]. وعليه فإن الطقوس التي نتناولها ههنا بالدراسة تبدو
لنا يطبعها التعقيد، بينما هي تبدو لمن يقومون بها في غاية البساطة؛ فلم
يتهيأ لهم الفكر المتطور الذي صار لنا؛ بما يتعذر عليهم إدراك تلك الفروق.
طقوس سحرية
وينبغي
إلى نزيد إلى ما ذكرنا مجموعة من الطقوس يبدو أنها ظهرت بمحض القياس؛ ومن
جملتها الطقس المتمثل في كتابة المرء دعاء على ورق ودفنه في قبر بغرض بث
الفرقة بين المتحابين، أو الطقس المتمثل في وضع شيء من الملح والشعير
والفحم في صرة ووضعها في قبر بغرض إلحاق العجز [الجنسي] بالشخص المراد بها.
فإذا أخرِجت هذه الأشياء من القبر زال عنها مفعولها؛ فنكون حينذاك بصدد
سحر خيِّر، وأما وضع تلك الأشياء في القبور فلا يمكن أن يكون إلا بمحض قياس
على الطقوس التي سبق لنا أن تناولناها بالوصف، ما دمنا قد سلمنا بأن تأثير
القبر أو تأثير الولي يكون في معظمه شيئاً خيراً، وإنما هو تحريف وقع في
المعتقد البدائي ما يجعل بعض الناس يتوسلون في إيقاع الضرر بالآخر.
تطهير وتقديس
وقد
بين هوبير وماوس أن القربان النموذجي، ذلك القربان الذي يتطهر به مقدمه من
الشر ويكتسي في الوقت نفسه طابعاً مقدساً بدرجات متساوية، أمر يكاد يكون
متعذر التحقق. فقد جرت العادة على أن تكون لأحد هذين التيارين، بتعبيرهما،
غلبة على التيار الآخر. فكذلك هو الشأن في قرابين التطهُّر وفي قرابين
التكريس، وكذلك هو الشأن في الأمر الذي نحن بصدده؛ فتارة يغلب طرد الشر على
اكتساب الخير وتارة أخرى يحدث العكس. وهنالك حالات يكون فيها الطقس خالصاً
لطرد الشر، كما نرى له نماذج في رمي الحجارة في الكركور الذي يوضع عند
أخناق الجبال، وربما كان التوضؤ لا يخرج عن طقس من هذا القبيل. كما أن فعل
البصق، وهو من الأفعال الشائعة في الطقوس السحرية، غالباً ما يكون يكتسي
الطابع نفسه. وفي أحيان أخرى لا يكون هذا الطقس يزيد عن اكتساب خصلة من
الخصال؛ فهو طقس تكريسي، نراه في رمي المؤمن أحد الشرفاء بحجر ثم يعود
فيلتقطه بعد أن يكون مس ذلك الشريف، ونراه في حالة الشخص يبتلع ريق الولي
من الأولياء، والماء الذي يتوضأ منه المؤمن، ونراه بوجه عام في الطقوس
المتعلقة برفات الأوليات والقديسين.
ويفضل سؤال : إلى مَ يصير الشر في
طقس الطرد؟ فنحن نلاحظ في طقس الاكتساب أن الخير يأتي من السلف، أو من
الولي، أو من أهل الله homme-dieu، وأنه يسكن الشخص الذي يقوم بذلك الطقس.
لكن متى طُرد الشر، وتطهر منه القائم بذلك الطقس بحكم هذا الفعل نفسه، فإلى
مَ يصير ذلك الشر؟
طرد الشر إلى النبات
وفي
حالة الرجم تعلق المناديل في فروع الأشجار، وتُعقد فيها [الخرق]، فالشر
يقيد في الحجر وفي المنديل وفي العقدة، فإذا مسه أحد أفلت منها، ولم يبعد
أن يصيب الشخص الذي أطلق سراحه. وترانا نذهب إلى الاعتقاد في حالة الشجرة
بوجه خاص، أن الشر يستبطنه روح النبات ويدمره. فالذي يبدو أن النبات كان
على الدوام مصرِّفاً ناجعاً. وقد ورد في حديث شديد الغرابة «أن الرسول مر
على قبرين فقال : إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير أما هذا فكان لا يستتر
من البول وأما هذا فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بعسيب رطب فشقه شقين ثم غرس
على هذا واحداً وعلى هذا واحداً وقال لعله يخفف بهما عليهما ما لم ييبسا».
بيد أن المفسرين لم يفهموا، بطبيعة الحال، هذا الأمر، وقد بذلوا جهوداً
عجيبة لشرح هذا الفعل من الرسول، وزعموا أن هذا الفعل خاص بالرسول، وأنه قد
منح بركته إلى الميتين، أو إن هذا الشيء الحي يسبح باسم الله، فيكون
النبات يجلب، ما دام حياً، التبريك إلى القبرين اللذين يوضع فوقهما...
طرد الشر بالقربان
الثابت
في شأن مسألة القربان أن الشر يذهب عن الضحية بما تفارق روحها الجسد،
ولذلك وجب أن تأْلم وتتعذب. والشر يلوذ كذلك ببعض الأقسام من الضحية، كالدم
والريش، وقد يسكن منها كذلك العظام والأحشاء. ولذلك جرت العادة على أن
يراق من دم الأضحية على مبعدة من الضريح، ويزال ريشها بكل عناية. وأنت ترى
في ضريح سيدي يعقوب، في تلمسان، وهو من بين أقدم المزارات، كيف يكوَّم
الريش في البراح الذي قام المقدم بذبح الأضحية فيهذ؛ فلا ينبغي أن يرمى
بهذا الريش في موضع آخر. وهو يلبث هناك، في ما يبدو، إلى أن تطوح به الريح،
أو يلبث في ذلك المكان، حسبما يؤكد لنا المقدم الشيخ الذي استفسرناه في
الأمر، إلى أن تقوم الأرواح التي تتجمع ليلا في هذا المكان، بتبديده فلا
يعود له وجود. ويُعرف المكان الذي يُدفع فيه الريش غالباً باسم «بيت
الريش».
تكفل الأولياء بالشرور
في
الحالة التي يقتصر فيها الأمر على تقديم قربان إلى الولي، كوضع شيء على
قبره غير أكيل، كمثل حجر أو دفع نقود إلى بعض أحفاد الولي المقيمين بجواره،
يجوز لنا الاعتقاد أن الولي الذي مات ولم تعد له صلة تربطه بالحياة
الدنيا، أو حفيده الذي لا يزال على قيد الحياة، يتكفلان بالأرجاس التي يرغب
المؤمن في التطهر منها. ذلك بأن الصدقة في المذهب الإسلامي تكون في المقام
الأول بغرض التطهُّر، و»العشور» أو «الزكاة»، التي هي في جوهرها تطهير،
كما يدلنا عليه اسمها (فالجذر «زكَّى» يعني تطهَّر)، يقوم تصور المسلمين
لها في المقام الأول على أنها قربان أو صدقة. فيكون الولي – حسب الاعتقاد
البدائي الذي صار من تحريفه بعدئذ إلى معاني شتى، يكون يتكفل بالشرور التي
يرغب المؤمن في التخلص منها. وها نحن نرى كيف نقرب ههنا بين فكرة خلاص بني
البشر وفكرة تضحية الإله. ويمكن أن نسوق وقائع شتى في تأكيد هذا التصور.
شفاعة الأولياء
يمكن
أن نسوق أولاً النظرية الصوفية القائلة بـ «الغوث»؛ ومن المعلوم أن
المسلمين يسمون به الولي الأكبر، «قطب» كل عصر، الذي يشترك مع أولياء آخرين
دونه منزلة، امتياز أن يتولى بجسده ليخلص أشباهه من الشرور التي تتكبدها
البشرية. ولئن لم يحظ هذا المعتقد في شكله الكامل بمكانة في صلب العقدية
الصارمة، فإن له مع ذلك واسع الانتشار. وسأذكر في هذا الصد كذلك بالممارسات
الدموية لدى عيساوة والجروح التي يلحقونها بأنفسهم. فالذي يبدو أن الأمر
يقوم ههنا كذلك بطرد الشر، إن لم يكن عن طريق الموت فعلى الأقل عن طريق
إراقة الدم والتعذيب الجسدي. وهذا أمر نقف عليه بوضح في مجيء أفراد هذه
الطائفة بطلب من أسرة الشخص المريض إلى مرقده ثم يجعلون يأتون بممارساتهم
الوحشية بهدف شفاء المريض. وعلاوة على ذلك فإن جسد الولي الذي يغدو حاوياً
للشرور لا يكون من طينة أجساد بقية الخلق؛ وهنالك اعتقاد شائعٌ أن «لحم
الأولياء مسموم». ونحن على اقتناع أنه متى أمكن تحقيق مزيد من التقدم في
بحث فلكلور شمال إفريقيا، فسنقف فيه على أدلة موثوقة بأن الأولياء في
اعتقاد العامة يتحملون الشرور عن الشخص الذي يلوذ بهم؛ وهذا اعتقاد سبق أن
لوحظ كذلك في الفولكلور الأوروبي.
وفي الأخير فإن ما يسمى وساطة
الأولياء، أو «الشفاعة»، التي تُجعَل نظرياً لتسويغ [حركة] الزوايا في
الإسلام، قد لا يكون معناها في المحصل غير اضطلاع الولي بالذنب المراد
التكفير عنه. ونحن لا نزعم في الحقيقة أننا قد أحطنا بما يكفي بمذهب
الشفاعة عند المسلمين؛ فكتب الفقه لا تتحدث إلا عن الشفاعة التي ستكون في
يوم الحساب، وأما كتب الأدب فإنما تتحدث عن الوساطة بكونها فضيلة اجتماعية
صرفة. لكن يمكن أن تسعفنا العقدية المسيحية ببعض التوضيحات في هذا الصدد؛
فالوساطة في العقيدة الكاثوليكية يختص بها القديسون كما تختص بها الملائكة.
وقد كان كريكوار الأكبر أول من قام بتنسيق مذهب شفاعة القديسين، وذلك
بردها إلى سلطة الوساطة التي يتمتع بها المسيح عن جدارة. ويجدر بالملاحظة
أن آباء الكنائس القدامى كانوا يقومون على أن الشفاعة إنما تُتوقع من
الشهداء، ويبدو أن فكرة القربان الدموي كانت لا تزال هي المهيمنة لدى هذه
الكنائس، فالشهيد الشفيع يكون ضحية لتطهير الجماعة المسيحية والتفكير عن
خطاياها. والقداس الكاثوليكي، الذي تتجدد فيه تضحية المسيح، يمثل في واقع
الأمر، وإن من وجهة معينة في أقل تقدير، عملية تكفير وتطهير، والكنيسة تحدد
التبرير للمذنب بإعمال مزايا المسيح الذي لقي حتفه من أجلنا، بانبثاث
العفو التكفيري. وإنه لموضوع جدير بالتأمل عند المفكر أن يرى كيف أن
المذاهب حتى أكثرها تسامياً في ديانة الحب لم تخرج عن أطر عتيقة متوحشة
يفرغ فيها الإنسان المتوحش تفكيره البسيط. فنقل الشر والسحر الخيِّر
والقرابين والتضحية والنعمة الإلهية، هذه المذاهب، من أكثرها سذاجة إلى
أشدها سمواً، تبدو لنا اليوم مقترنة ببعضها، وأنها قد صارت يقفو بعضها
بعضاً من غير أن يقع بينها تعارض على الإطلاق.
ما يسمى وساطة الأولياء، أو «الشفاعة»، تُجعَل لتسويغ حركة الزوايا في الإسلام
السحر ونقل الشر
إن
طرد الشر شيء خيِّر، وهو يقترب من السحر الخيِّر. ذلك بأن هذا النوع من
السحر يكون على وجه العموم بجعل ظاهرة تحدث ظاهرة أخرى مشابهة لها (كما
البدائي ينفخ لجلب الريح)، أو لجعل الجسم الملتحم بجسم آخر يظل متوادداً
وإياه (كما هو الحال في السحر يُجعل للشخص باستعمال قلامات أظافره). فيجوز
لنا الاعتقاد أنه متى قذف البدائي بحجر فإنما يقوم بفعل هو تمثيل لطرد
الشر، وهو فعل يكون، في تصور البدائيين عن السحر، كافياً لإبعاد ذلك الشر
في الواقع. لكن لا يكاد يوجد من فرق في تفكير البدائي بين اعتقاده بالنقل
الفعلي للشر عن طريق الحجارة واعتقاد بطرده باستعمال طقس سحري مشابه. وإذا
كنا نقيم ههنا تمييزاً منطقياً عميقاً، فالراجح أنه لا يوجد البتة من تمايز
بينهما. وأما من جهة أخرى فإن دفن شعر الشخص وأظافره والجزء المنتزع من
جسمه يكون فيه بطبيعة الحال تحصين لهذه الأشياء أن تقع بأيدي المشتغلين
بصنع الرقى المؤذية. لكن صون تلك الأشياء يكون فيه كذلك صون، بفعل السحر
الخيِّر، لجسم ذلك الشخص، فهذا يبين لنا مرة أخرى عن خلط في فكر الإنسان
البدائي [بين الأمرين]. وعليه فإن الطقوس التي نتناولها ههنا بالدراسة تبدو
لنا يطبعها التعقيد، بينما هي تبدو لمن يقومون بها في غاية البساطة؛ فلم
يتهيأ لهم الفكر المتطور الذي صار لنا؛ بما يتعذر عليهم إدراك تلك الفروق.
طقوس سحرية
وينبغي
إلى نزيد إلى ما ذكرنا مجموعة من الطقوس يبدو أنها ظهرت بمحض القياس؛ ومن
جملتها الطقس المتمثل في كتابة المرء دعاء على ورق ودفنه في قبر بغرض بث
الفرقة بين المتحابين، أو الطقس المتمثل في وضع شيء من الملح والشعير
والفحم في صرة ووضعها في قبر بغرض إلحاق العجز [الجنسي] بالشخص المراد بها.
فإذا أخرِجت هذه الأشياء من القبر زال عنها مفعولها؛ فنكون حينذاك بصدد
سحر خيِّر، وأما وضع تلك الأشياء في القبور فلا يمكن أن يكون إلا بمحض قياس
على الطقوس التي سبق لنا أن تناولناها بالوصف، ما دمنا قد سلمنا بأن تأثير
القبر أو تأثير الولي يكون في معظمه شيئاً خيراً، وإنما هو تحريف وقع في
المعتقد البدائي ما يجعل بعض الناس يتوسلون في إيقاع الضرر بالآخر.
تطهير وتقديس
وقد
بين هوبير وماوس أن القربان النموذجي، ذلك القربان الذي يتطهر به مقدمه من
الشر ويكتسي في الوقت نفسه طابعاً مقدساً بدرجات متساوية، أمر يكاد يكون
متعذر التحقق. فقد جرت العادة على أن تكون لأحد هذين التيارين، بتعبيرهما،
غلبة على التيار الآخر. فكذلك هو الشأن في قرابين التطهُّر وفي قرابين
التكريس، وكذلك هو الشأن في الأمر الذي نحن بصدده؛ فتارة يغلب طرد الشر على
اكتساب الخير وتارة أخرى يحدث العكس. وهنالك حالات يكون فيها الطقس خالصاً
لطرد الشر، كما نرى له نماذج في رمي الحجارة في الكركور الذي يوضع عند
أخناق الجبال، وربما كان التوضؤ لا يخرج عن طقس من هذا القبيل. كما أن فعل
البصق، وهو من الأفعال الشائعة في الطقوس السحرية، غالباً ما يكون يكتسي
الطابع نفسه. وفي أحيان أخرى لا يكون هذا الطقس يزيد عن اكتساب خصلة من
الخصال؛ فهو طقس تكريسي، نراه في رمي المؤمن أحد الشرفاء بحجر ثم يعود
فيلتقطه بعد أن يكون مس ذلك الشريف، ونراه في حالة الشخص يبتلع ريق الولي
من الأولياء، والماء الذي يتوضأ منه المؤمن، ونراه بوجه عام في الطقوس
المتعلقة برفات الأوليات والقديسين.
ويفضل سؤال : إلى مَ يصير الشر في
طقس الطرد؟ فنحن نلاحظ في طقس الاكتساب أن الخير يأتي من السلف، أو من
الولي، أو من أهل الله homme-dieu، وأنه يسكن الشخص الذي يقوم بذلك الطقس.
لكن متى طُرد الشر، وتطهر منه القائم بذلك الطقس بحكم هذا الفعل نفسه، فإلى
مَ يصير ذلك الشر؟
طرد الشر إلى النبات
وفي
حالة الرجم تعلق المناديل في فروع الأشجار، وتُعقد فيها [الخرق]، فالشر
يقيد في الحجر وفي المنديل وفي العقدة، فإذا مسه أحد أفلت منها، ولم يبعد
أن يصيب الشخص الذي أطلق سراحه. وترانا نذهب إلى الاعتقاد في حالة الشجرة
بوجه خاص، أن الشر يستبطنه روح النبات ويدمره. فالذي يبدو أن النبات كان
على الدوام مصرِّفاً ناجعاً. وقد ورد في حديث شديد الغرابة «أن الرسول مر
على قبرين فقال : إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير أما هذا فكان لا يستتر
من البول وأما هذا فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بعسيب رطب فشقه شقين ثم غرس
على هذا واحداً وعلى هذا واحداً وقال لعله يخفف بهما عليهما ما لم ييبسا».
بيد أن المفسرين لم يفهموا، بطبيعة الحال، هذا الأمر، وقد بذلوا جهوداً
عجيبة لشرح هذا الفعل من الرسول، وزعموا أن هذا الفعل خاص بالرسول، وأنه قد
منح بركته إلى الميتين، أو إن هذا الشيء الحي يسبح باسم الله، فيكون
النبات يجلب، ما دام حياً، التبريك إلى القبرين اللذين يوضع فوقهما...
طرد الشر بالقربان
الثابت
في شأن مسألة القربان أن الشر يذهب عن الضحية بما تفارق روحها الجسد،
ولذلك وجب أن تأْلم وتتعذب. والشر يلوذ كذلك ببعض الأقسام من الضحية، كالدم
والريش، وقد يسكن منها كذلك العظام والأحشاء. ولذلك جرت العادة على أن
يراق من دم الأضحية على مبعدة من الضريح، ويزال ريشها بكل عناية. وأنت ترى
في ضريح سيدي يعقوب، في تلمسان، وهو من بين أقدم المزارات، كيف يكوَّم
الريش في البراح الذي قام المقدم بذبح الأضحية فيهذ؛ فلا ينبغي أن يرمى
بهذا الريش في موضع آخر. وهو يلبث هناك، في ما يبدو، إلى أن تطوح به الريح،
أو يلبث في ذلك المكان، حسبما يؤكد لنا المقدم الشيخ الذي استفسرناه في
الأمر، إلى أن تقوم الأرواح التي تتجمع ليلا في هذا المكان، بتبديده فلا
يعود له وجود. ويُعرف المكان الذي يُدفع فيه الريش غالباً باسم «بيت
الريش».
تكفل الأولياء بالشرور
في
الحالة التي يقتصر فيها الأمر على تقديم قربان إلى الولي، كوضع شيء على
قبره غير أكيل، كمثل حجر أو دفع نقود إلى بعض أحفاد الولي المقيمين بجواره،
يجوز لنا الاعتقاد أن الولي الذي مات ولم تعد له صلة تربطه بالحياة
الدنيا، أو حفيده الذي لا يزال على قيد الحياة، يتكفلان بالأرجاس التي يرغب
المؤمن في التطهر منها. ذلك بأن الصدقة في المذهب الإسلامي تكون في المقام
الأول بغرض التطهُّر، و»العشور» أو «الزكاة»، التي هي في جوهرها تطهير،
كما يدلنا عليه اسمها (فالجذر «زكَّى» يعني تطهَّر)، يقوم تصور المسلمين
لها في المقام الأول على أنها قربان أو صدقة. فيكون الولي – حسب الاعتقاد
البدائي الذي صار من تحريفه بعدئذ إلى معاني شتى، يكون يتكفل بالشرور التي
يرغب المؤمن في التخلص منها. وها نحن نرى كيف نقرب ههنا بين فكرة خلاص بني
البشر وفكرة تضحية الإله. ويمكن أن نسوق وقائع شتى في تأكيد هذا التصور.
شفاعة الأولياء
يمكن
أن نسوق أولاً النظرية الصوفية القائلة بـ «الغوث»؛ ومن المعلوم أن
المسلمين يسمون به الولي الأكبر، «قطب» كل عصر، الذي يشترك مع أولياء آخرين
دونه منزلة، امتياز أن يتولى بجسده ليخلص أشباهه من الشرور التي تتكبدها
البشرية. ولئن لم يحظ هذا المعتقد في شكله الكامل بمكانة في صلب العقدية
الصارمة، فإن له مع ذلك واسع الانتشار. وسأذكر في هذا الصد كذلك بالممارسات
الدموية لدى عيساوة والجروح التي يلحقونها بأنفسهم. فالذي يبدو أن الأمر
يقوم ههنا كذلك بطرد الشر، إن لم يكن عن طريق الموت فعلى الأقل عن طريق
إراقة الدم والتعذيب الجسدي. وهذا أمر نقف عليه بوضح في مجيء أفراد هذه
الطائفة بطلب من أسرة الشخص المريض إلى مرقده ثم يجعلون يأتون بممارساتهم
الوحشية بهدف شفاء المريض. وعلاوة على ذلك فإن جسد الولي الذي يغدو حاوياً
للشرور لا يكون من طينة أجساد بقية الخلق؛ وهنالك اعتقاد شائعٌ أن «لحم
الأولياء مسموم». ونحن على اقتناع أنه متى أمكن تحقيق مزيد من التقدم في
بحث فلكلور شمال إفريقيا، فسنقف فيه على أدلة موثوقة بأن الأولياء في
اعتقاد العامة يتحملون الشرور عن الشخص الذي يلوذ بهم؛ وهذا اعتقاد سبق أن
لوحظ كذلك في الفولكلور الأوروبي.
وفي الأخير فإن ما يسمى وساطة
الأولياء، أو «الشفاعة»، التي تُجعَل نظرياً لتسويغ [حركة] الزوايا في
الإسلام، قد لا يكون معناها في المحصل غير اضطلاع الولي بالذنب المراد
التكفير عنه. ونحن لا نزعم في الحقيقة أننا قد أحطنا بما يكفي بمذهب
الشفاعة عند المسلمين؛ فكتب الفقه لا تتحدث إلا عن الشفاعة التي ستكون في
يوم الحساب، وأما كتب الأدب فإنما تتحدث عن الوساطة بكونها فضيلة اجتماعية
صرفة. لكن يمكن أن تسعفنا العقدية المسيحية ببعض التوضيحات في هذا الصدد؛
فالوساطة في العقيدة الكاثوليكية يختص بها القديسون كما تختص بها الملائكة.
وقد كان كريكوار الأكبر أول من قام بتنسيق مذهب شفاعة القديسين، وذلك
بردها إلى سلطة الوساطة التي يتمتع بها المسيح عن جدارة. ويجدر بالملاحظة
أن آباء الكنائس القدامى كانوا يقومون على أن الشفاعة إنما تُتوقع من
الشهداء، ويبدو أن فكرة القربان الدموي كانت لا تزال هي المهيمنة لدى هذه
الكنائس، فالشهيد الشفيع يكون ضحية لتطهير الجماعة المسيحية والتفكير عن
خطاياها. والقداس الكاثوليكي، الذي تتجدد فيه تضحية المسيح، يمثل في واقع
الأمر، وإن من وجهة معينة في أقل تقدير، عملية تكفير وتطهير، والكنيسة تحدد
التبرير للمذنب بإعمال مزايا المسيح الذي لقي حتفه من أجلنا، بانبثاث
العفو التكفيري. وإنه لموضوع جدير بالتأمل عند المفكر أن يرى كيف أن
المذاهب حتى أكثرها تسامياً في ديانة الحب لم تخرج عن أطر عتيقة متوحشة
يفرغ فيها الإنسان المتوحش تفكيره البسيط. فنقل الشر والسحر الخيِّر
والقرابين والتضحية والنعمة الإلهية، هذه المذاهب، من أكثرها سذاجة إلى
أشدها سمواً، تبدو لنا اليوم مقترنة ببعضها، وأنها قد صارت يقفو بعضها
بعضاً من غير أن يقع بينها تعارض على الإطلاق.
عدل سابقا من قبل izarine في الخميس 9 أغسطس 2012 - 14:17 عدل 1 مرات
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 7 -
أفضل ما يلاقي المسافر من الغربان أن تكون الأنثى يتبعها الذكر2 /1
من أزمور إلى كراندو
(27
مارس). المطر يغلف في هذا الصباح بمسحة من ضباب بيوت أزمور، فيزيدها حزناً
على حزن، فكأن ما كان فيها من سحر ومن جمال قد ذهب عنها بذهاب ضياء
الشمس؛ فإن هي إلا صورة لأطلال وخرائب. مدينة تكالب عليها الزمن وعوادي
الطبيعة فهي تقرضها رويداً رويداً، ونتصور أهلها هامدين سقماء، فهي تتجرع
موتها أن ضيقت على مدينتها، وقتلت فيها كل طاقة وكل حياة وأقبرتها في حياة
من الزهد العقيم. فإذا المدينة قد باتت تموت بين أسوارها المشققة وتحت
أسطحها المتداعية. غير أننا سنخطئ التقدير لو ذهبنا إلى الاعتقاد بأن هذه
الحال تنطبق على مستقبل هذا البلد، لكن يسهل علينا أن نتصور كيف أن هذه
الانطباعات قد كانت سبباً في نشوء تلك الخرافة التي تتحدث عن «مغرب بلد
يموت». فهذا هو الحال في سائر البلاد الإسلامية؛ فيكون المغرب قد بدأ يحتضر
منذ ما يزيد عن ألف سنة، وهو يعتبر في حد ذاته زمناً مديداً في حياة هذه
الدولة.
الانطلاق من أزمور
انطلقنا
مغتنمين فسحة قد انقشعت فيها الغيوم، في حوالي الساعة التاسعة والنصف
صباحاً، فمررنا مسرعين خلال الجنانات التي يعمرها الصبار من حول أزمور،
فيما أصحاب البغال يتصايحون بأعلى الأصوات : «آربي، آرجال البلاد آمولاي
بوشعيب وصلنا بخير وعلى خير». لكن الجو كان لا يزال ينذر بكل التقلبات،
فكانوا يتناولون بعض الفلوس، وهي عملة نحاسية زهيدة القيمة، وينثرونها على
الطريق ثم يكررون ذلك الدعاء عسى أن يدفعوا عنهم سوء أحوال الطقس. وهذه من
العادات شديدة الشيوع في منطقة شمال إفريقيا؛ فقد وقفنا عليها في الجزائر،
فمن الأهالي من يؤمنون بها. وعلى كل حال فإن هؤلاء القوم يرون من الأسباب
ما يرسخ لديهم هذه المعتقدات؛ فسرعان ما انقشع ستار السحاب كما لو بفعل سحر
ساحر. وإن مثل هذه المصادفات يكون من لها من السلطان عليهم فهو يرسخ في
أذهان هؤلاء الناس البسطاء من المسبقات ما لا تنفع مئة فشل بعد ذلك في
زعزعة إيمانهم بها. وزاتانا الحظ كذلك بأن وقعنا في طريقنا على حذوة حصان،
وهي في سائر بلدان العالم تعتبر فألاً حسناً. فالتجار المسلمون في هذه
البلدان يؤثرون أن يتخذوا لهم حذوة يعلقونها في موضع من محلاتهم.
نسير
فوق هضبة متموجه، تغطي أرضها تربة من طينية ورمل ضاربة إلى الحمرة، ثم زادت
حمرة بما انهمر عليها من الأمطار. غير أن هذه الأرض وإن تكن كثيرة الحصى
بسبب من وقع فيها من انحلال للطمي في العصر الحديث، فإنها مع ذلك خصبة
غنية. بيد أن المنطقة التي تمر بها الطريق قليلة ساكنة؛ فحيثما نظرت منها
رأيت نبات البرواك ينصب قصباته المتينة ويستقبل شمس الربيع بالأزهار
الرمادية التي تحملها عناقيده المتشابكة. ويقوم في بعض هذه الأماكن يمتد
سور طويل مستطيل من حجارة لا يلحم بينها طين، وما عاد يزيد علوه عن قدم،
فهو يحيط ببعض الثيران وبعض الأبقار التي ترعى في عشب قليل، ولا تفكر في
الهرب. وعلى جنبات الطريق تقوم نباتات القويس وأزهار السوسن والبنفسج
المتشجر؛ فهي تنشر جميعاً أزهاراً زرقاء، لكن تتفرد كل واحدة منها بميسم
خاص.
الحوزية
وعلى
وجه الإجمال فإن منظر الحوزية منظر شديد الرتابة. والحوزية هو الاسم الذي
جرت العادة على أن يسمى به الخليط من الأقوام الذي يعمرون البلاد التي نمر
بها الآن، والداخلون تحت إمرة قائد أزمور. وفي مواضع من تلك الناحية تقوم
بعض النزالات، والتي نمر بإزائها في هذه الأثناء قد أقامها السراغنة، وهي
من القبائل التي يُعملها المخزن لحفظ الأمن في البلاد.
سيدي محمد العياشي
كان
لنا توقف لمدة خمس وأربعين دقيقة، ثم سرنا بعده لدقائق، فلاحت لنا من فوق
بعض الهضاب القبتان الدالتان على [الولي] الشهير سيدي محمد العياشي.
ولربما
كانت الرتابة التي تطبع مسارنا هي التي تحملنا على نجعل للمواضع النادرة
والمهمة التي نلاقيها في طريقنا فوق ما لها من أهمية، وربما كانت ذكريات
الأمجاد التي كانت لهذا البطل الإسلامي تحرك فينا مشاعر المؤرخ، وربما كان
الإجلال والتعظيم الذي يحمله له مرافقونا من المسلمين قد انتقلت إلينا
عدواه، وربما كانت هذه الأسباب مجتمعة هي التي تجعلنا لا نمر بضريح هذه
المثال بين الأولياء المحاربين من غير أن تنفعل نفوسنا نحوه ببعض انفعال.
لقد
كان العياشي في زمنه شخصاً مرهوب الجانب، وكان كما أسماه الرائع الأب دان
«Laiasse». فقد حارب في البداية المسيحيين في نواحي أزمور. وإذا كانت كتب
المناقب تؤثر الحديث في خصاله وفضائله وورعه وتقواه، فإنني أجرؤ أن أقول
إنه قد كان رجل حرب ورجل دولة في المقام الأول. فهو قد «ولِد للخلافة»، كما
قال عنه بعض مترجميه. وقد ولي قيادة أزمور، فحقق انتصارات باهرة باتت مصدر
قلق لسلطان مراكش، فصار يسعى في التخلص منه. فلجأ إلى سلا حيث تلقاه
المغاربة المطرودون من إسبانيا. وقد أصبح هؤلاء الأندلسيون ذوي مال ونفوذ،
وصاروا يحكمون مدينة سلا، وقلما تجدهم في الاتفاقيات التي يبرمونها مع
القوى الأجنبية يذكرون السيادة لشريف مراكش. ولقد أقروا بالعياشي رئيساً
عليهم وصاروا يمعنون في التحرر من نفوذ السلطان. ثم قام «الولي العياشي» في
سنة 1637 بعقد اتفاقية بشكل مباشر مع بريطانيا. فقد صار يومها السلطان
الحقيقي على فاس، وكان نفوذه يشمل تامسنا مجتمعة، ويشمل الغرب وتازة. لكنه
لم يلبث أن انقلب عليه الأندلسيون بعنجهيتهم، فلم يسلم لهم في شيء، وما
غلبوا عليه إلا بعد أن خرجت عليه الزاوية الدلائية بعد ما كان منه نحوها من
إهانة. ثم إن أعداءه لم يتمكنوا منه إلا بالمباغتة. فكان مقتله في سنة
1051هـ (1641م)، غدراً بالليل بعين القصب في قبيلة الخلط. ويفيدنا الكتاب
العرب أن قبره يوجد بجوار ضريح مولاي بوشتى، ولي فشتالة الشهير في جبالة،
وأما القبة التي تطالعنا من بعد فإنما هي مزارة مكرسة له ولا تحوي رفاته.
والخرافة التي نسجت حوله ليست بالكبيرة، ومعظم الوقائع التي تروى بشأنه هي
ذات طبيعة تاريخية، ولا يُذكر له من الكرامات إلا قليل؛ فهي لا تزيد عن ذلك
الجواز العجيب الذي كان منه لوادي أم الربيع وهو حامل، ورأسه التي ظلت من
بعد مقتله تتلو القرآن... ويمكن إجمال أمجاده كلها في منجزاته الحربية قبل
أن يصير ولياً، وكان بوجه خاص، كما لقبه مترجموه، «زرب الإسلام»، وهي الصفة
التي امتدحه بها مؤبنوه من الشعراء.
وها نحن أولاء قد دخلنا الآن
بلاد أولاد بوعزيز، فإذا الدواوير كثيرة والأرض خصبة قد اعتُني بفلاحتها.
ويوحى إلينا أن هذه بلاد عامرة بالسكان، وأن أهلها يميزون حيوية ونشاطاً.
وبعد الساعة الرابعة وخمس عشرة دقيقة حططنا رحالنا في دوار حمو بن بريكة.
ركوبة سيد العياشي
(28
مارس). عدنا إلى استئناف المسير في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة من
صباح [اليوم الذي بعد]، وتوجهنا ناحية خنق صغير، وهو الموضع الذي منه
يتراءى للمسافرين القادمين من مراكش لأول مرة من بعيد ذلك النصبُ الدال على
سيدي محمد العياشي؛ إنها «ركوبة» الولي. وقد وجدنا الخنق غاصاً بالحجارة،
وتكون هذه الحجارة تتفاوت أعداداً وتتباين أحجاماً بطبيعة الحال حسب شهرة
الولي. وقد انتصب كركوران عظيمان في مقدم ذلك الخنق وفي مؤخره، فضلاً عن
ثلاثمائة رجم صغير وزيادة قد وضعت في الممرات العديدة والمتشابكة التي تشكل
ما يسمى طريقاً في المغرب. وقد لزمنا أن نحترز كثيراً فلا نطيح بتلك
الأهرامات الصغيرة التي يقيمها الزوار المتبركون؛ فمعظمها يوشك أن يتهاوى.
التطير من الغربان
لقد
صارت البلاد تزداد غنى وخصوبة وفلاحات تقوم عليها ساكنة شديدة الكثافة.
ويكثر الأولياء على امتداد الطريق، فقببهم البيضاء تطالعنا من بعيد وهي
تأتلق في تلك النواحي، ومعظم تلك الأضرحة تقوم وسط مسوراتها غيضات صغيرة من
العناب المشجر. الطريق تتوالى رتيبة، لكن زاهية بما يقع عليها من أشعة
الشمس الربيعية. والغربان الناعبة التي تنقض زرافات على الجيف المتناثرة
على جانبي الطريق لا تفلح في إفساد جمال هذه اللوحة. والطرق الكبرى في
المغرب تعمرها جيف الدواب المركوبة التي تنفق من الإجهاد، ثم لا تجد من
يفكر في دفنها أو حتى إزاحتها عن الطريق. والمغاربة، شأنهم شأن غيرهم من
سكان منطقة شمال إفريقيا، يتطيرون من ملاقاة الغربان. فإذا خرج الرجل في
سفره فصادف زوجاً من الغربان عده فألاً حسناً، وإذا كان العدد مفرداً عده
فالاً سيئاً. وأفضل ما يلاقي المسافر من الغربان من الهيئات أن تكون الأنثى
يتبعها الذكر. فالجزائري، ولا يبعد أن يكون المغربي كذلك، يقولان : «إلى
صبحتِ على مسعود تابع مسعودة وما ربحتيش حسبني من أولاد الحرام». والغرب
يطعم كل أنواع اللحوم، فهو لذلك لامحالة يكتسب جميع الصفات التي تكون
للحيوانات التي يطعم لحمها؛ وقد كانت من خصاله أنه يتنبأ بالمستقبل. ولعل
هذا الأمر هو الذي جعل الغراب، وطيوراً أخرى من الكواسر، يظل على الدوام
طائراً يتفائل بها الناس أو يتشاءمون. لكن لونه الأسود وطعامه الكريه
يجعلانه أكثر ما يكون مصدراً للشؤم. ولذلك تجد الناس يتحاشون تسميته في
محادثاتهم. والمثل الذي ذكرنا لم يرد فيه اسم «الغراب»، بل استعيض عنه باسم
«مسعود»، ومعناها سعيد الحظ. ويجدر بالملاحظة في هذا الصدد أن الكلمة التي
يُراد بها في العربية الدارجة الشؤم هي «الطِّيرة»؛ من الطير. وعلى هذا
النحو تدرجت الكلمة «» إلى أن صارت تعني «الطائر» وتعني «التطيُّر»
مجتمعين.
اللبن
والتقينا
في طريقنا فرقة من البهلوانيين الإسبان كانت عائدة من مراكش بعد أن أمضت
فيها شهوراً ترفه بألعابها على السلطان. وقد كانت الفرقة تتألف من رجال
ونساء وأطفال، وقد لبسوا جميعاً من رث الثياب، كما هو معهود في الغجر،
ويسيرون الهوينى بدوابهم لا يلقون بالاً إلى شيء، وكأنهم متعالون عن كل ما
يحيط بهم. وقد كانوا وهم الإسبان يحكون مع ذلك فرقة من بلاد الإسلام؛ فليس
في سيماهم شيء قد يشذ بهم عن هذا المكان. ثم برزت لنا صبية من الأهالي إحدى
الخيام القائمة على جانب الطريق، ودنت منا تبغي أن تقدم إلينا الحليب في
قصعة خشبية. والمسلم إذا كان بيده إناء به حليب ومر به آخر في الصباح وجب
عليه أن يقدم إليه منه؛ فالحليب ببياضه وعذوبته يعتبر فألاً حسناً على بقية
اليوم. والمراد بالحليب ههنا «اللبن». والناس في شمال إفريقيا كثيرو إقبال
عليه؛ فهم يجدونه شراباً منعشاً. ووحدهم أولئك الذين خبروا المسير في قيظ
الصيف ومما فيه من عنت، وقيض لهم أن يستمتعوا باحتساء من ذلك اللبن ولو
قدم إليهم في إناء لم يطمئنوا إلى نظافته، لدى مرورهم بأحد الدواوير كلما
مررنا قرب دوار من الدواوير؛ هؤلاء وحدهم يقدرون هذا المشروب اللذيذ حق
قدره. والأهالي يفرطون في الصيف في شرب اللبن، فيصيبهم، وهو الذي كثيراً ما
يكون يمازجه تخمر، بالهياج، فتكثر بينهم النزاعات والمشاجرات، وهو أمر
يلاحظه الموظفون القائمون على شؤونهم. ويقول أحدهم إنه «لذلك ترى الأهالي
في ذلك الوقت من السنة يصفحون عن بعضهم في ما يبدر نحو بعضهم من الإساءة،
ويرددون قولهم إنها «دعوة اللبن»؛ مرادهم أنه ليس بالأمر الجلل. ولما كان
اللبن فالاً حسناً فلا يفوت الأهالي أن يقدموه إلى الضيف أو إلى من يمر بهم
من عابري السبيل في كل مناسبة؛ فليس من الأدب أن يمتنع الضيف من شربه.
وأما علية القوم والأولياء فإن الواحد منهم يقتصر في معظم الأحيان على أن
يغمس أصبع في ذلك اللبن، فينقل إليه بركته والقداسة يتحلى بها شخصه.
أفضل ما يلاقي المسافر من الغربان أن تكون الأنثى يتبعها الذكر2 /1
من أزمور إلى كراندو
(27
مارس). المطر يغلف في هذا الصباح بمسحة من ضباب بيوت أزمور، فيزيدها حزناً
على حزن، فكأن ما كان فيها من سحر ومن جمال قد ذهب عنها بذهاب ضياء
الشمس؛ فإن هي إلا صورة لأطلال وخرائب. مدينة تكالب عليها الزمن وعوادي
الطبيعة فهي تقرضها رويداً رويداً، ونتصور أهلها هامدين سقماء، فهي تتجرع
موتها أن ضيقت على مدينتها، وقتلت فيها كل طاقة وكل حياة وأقبرتها في حياة
من الزهد العقيم. فإذا المدينة قد باتت تموت بين أسوارها المشققة وتحت
أسطحها المتداعية. غير أننا سنخطئ التقدير لو ذهبنا إلى الاعتقاد بأن هذه
الحال تنطبق على مستقبل هذا البلد، لكن يسهل علينا أن نتصور كيف أن هذه
الانطباعات قد كانت سبباً في نشوء تلك الخرافة التي تتحدث عن «مغرب بلد
يموت». فهذا هو الحال في سائر البلاد الإسلامية؛ فيكون المغرب قد بدأ يحتضر
منذ ما يزيد عن ألف سنة، وهو يعتبر في حد ذاته زمناً مديداً في حياة هذه
الدولة.
الانطلاق من أزمور
انطلقنا
مغتنمين فسحة قد انقشعت فيها الغيوم، في حوالي الساعة التاسعة والنصف
صباحاً، فمررنا مسرعين خلال الجنانات التي يعمرها الصبار من حول أزمور،
فيما أصحاب البغال يتصايحون بأعلى الأصوات : «آربي، آرجال البلاد آمولاي
بوشعيب وصلنا بخير وعلى خير». لكن الجو كان لا يزال ينذر بكل التقلبات،
فكانوا يتناولون بعض الفلوس، وهي عملة نحاسية زهيدة القيمة، وينثرونها على
الطريق ثم يكررون ذلك الدعاء عسى أن يدفعوا عنهم سوء أحوال الطقس. وهذه من
العادات شديدة الشيوع في منطقة شمال إفريقيا؛ فقد وقفنا عليها في الجزائر،
فمن الأهالي من يؤمنون بها. وعلى كل حال فإن هؤلاء القوم يرون من الأسباب
ما يرسخ لديهم هذه المعتقدات؛ فسرعان ما انقشع ستار السحاب كما لو بفعل سحر
ساحر. وإن مثل هذه المصادفات يكون من لها من السلطان عليهم فهو يرسخ في
أذهان هؤلاء الناس البسطاء من المسبقات ما لا تنفع مئة فشل بعد ذلك في
زعزعة إيمانهم بها. وزاتانا الحظ كذلك بأن وقعنا في طريقنا على حذوة حصان،
وهي في سائر بلدان العالم تعتبر فألاً حسناً. فالتجار المسلمون في هذه
البلدان يؤثرون أن يتخذوا لهم حذوة يعلقونها في موضع من محلاتهم.
نسير
فوق هضبة متموجه، تغطي أرضها تربة من طينية ورمل ضاربة إلى الحمرة، ثم زادت
حمرة بما انهمر عليها من الأمطار. غير أن هذه الأرض وإن تكن كثيرة الحصى
بسبب من وقع فيها من انحلال للطمي في العصر الحديث، فإنها مع ذلك خصبة
غنية. بيد أن المنطقة التي تمر بها الطريق قليلة ساكنة؛ فحيثما نظرت منها
رأيت نبات البرواك ينصب قصباته المتينة ويستقبل شمس الربيع بالأزهار
الرمادية التي تحملها عناقيده المتشابكة. ويقوم في بعض هذه الأماكن يمتد
سور طويل مستطيل من حجارة لا يلحم بينها طين، وما عاد يزيد علوه عن قدم،
فهو يحيط ببعض الثيران وبعض الأبقار التي ترعى في عشب قليل، ولا تفكر في
الهرب. وعلى جنبات الطريق تقوم نباتات القويس وأزهار السوسن والبنفسج
المتشجر؛ فهي تنشر جميعاً أزهاراً زرقاء، لكن تتفرد كل واحدة منها بميسم
خاص.
الحوزية
وعلى
وجه الإجمال فإن منظر الحوزية منظر شديد الرتابة. والحوزية هو الاسم الذي
جرت العادة على أن يسمى به الخليط من الأقوام الذي يعمرون البلاد التي نمر
بها الآن، والداخلون تحت إمرة قائد أزمور. وفي مواضع من تلك الناحية تقوم
بعض النزالات، والتي نمر بإزائها في هذه الأثناء قد أقامها السراغنة، وهي
من القبائل التي يُعملها المخزن لحفظ الأمن في البلاد.
سيدي محمد العياشي
كان
لنا توقف لمدة خمس وأربعين دقيقة، ثم سرنا بعده لدقائق، فلاحت لنا من فوق
بعض الهضاب القبتان الدالتان على [الولي] الشهير سيدي محمد العياشي.
ولربما
كانت الرتابة التي تطبع مسارنا هي التي تحملنا على نجعل للمواضع النادرة
والمهمة التي نلاقيها في طريقنا فوق ما لها من أهمية، وربما كانت ذكريات
الأمجاد التي كانت لهذا البطل الإسلامي تحرك فينا مشاعر المؤرخ، وربما كان
الإجلال والتعظيم الذي يحمله له مرافقونا من المسلمين قد انتقلت إلينا
عدواه، وربما كانت هذه الأسباب مجتمعة هي التي تجعلنا لا نمر بضريح هذه
المثال بين الأولياء المحاربين من غير أن تنفعل نفوسنا نحوه ببعض انفعال.
لقد
كان العياشي في زمنه شخصاً مرهوب الجانب، وكان كما أسماه الرائع الأب دان
«Laiasse». فقد حارب في البداية المسيحيين في نواحي أزمور. وإذا كانت كتب
المناقب تؤثر الحديث في خصاله وفضائله وورعه وتقواه، فإنني أجرؤ أن أقول
إنه قد كان رجل حرب ورجل دولة في المقام الأول. فهو قد «ولِد للخلافة»، كما
قال عنه بعض مترجميه. وقد ولي قيادة أزمور، فحقق انتصارات باهرة باتت مصدر
قلق لسلطان مراكش، فصار يسعى في التخلص منه. فلجأ إلى سلا حيث تلقاه
المغاربة المطرودون من إسبانيا. وقد أصبح هؤلاء الأندلسيون ذوي مال ونفوذ،
وصاروا يحكمون مدينة سلا، وقلما تجدهم في الاتفاقيات التي يبرمونها مع
القوى الأجنبية يذكرون السيادة لشريف مراكش. ولقد أقروا بالعياشي رئيساً
عليهم وصاروا يمعنون في التحرر من نفوذ السلطان. ثم قام «الولي العياشي» في
سنة 1637 بعقد اتفاقية بشكل مباشر مع بريطانيا. فقد صار يومها السلطان
الحقيقي على فاس، وكان نفوذه يشمل تامسنا مجتمعة، ويشمل الغرب وتازة. لكنه
لم يلبث أن انقلب عليه الأندلسيون بعنجهيتهم، فلم يسلم لهم في شيء، وما
غلبوا عليه إلا بعد أن خرجت عليه الزاوية الدلائية بعد ما كان منه نحوها من
إهانة. ثم إن أعداءه لم يتمكنوا منه إلا بالمباغتة. فكان مقتله في سنة
1051هـ (1641م)، غدراً بالليل بعين القصب في قبيلة الخلط. ويفيدنا الكتاب
العرب أن قبره يوجد بجوار ضريح مولاي بوشتى، ولي فشتالة الشهير في جبالة،
وأما القبة التي تطالعنا من بعد فإنما هي مزارة مكرسة له ولا تحوي رفاته.
والخرافة التي نسجت حوله ليست بالكبيرة، ومعظم الوقائع التي تروى بشأنه هي
ذات طبيعة تاريخية، ولا يُذكر له من الكرامات إلا قليل؛ فهي لا تزيد عن ذلك
الجواز العجيب الذي كان منه لوادي أم الربيع وهو حامل، ورأسه التي ظلت من
بعد مقتله تتلو القرآن... ويمكن إجمال أمجاده كلها في منجزاته الحربية قبل
أن يصير ولياً، وكان بوجه خاص، كما لقبه مترجموه، «زرب الإسلام»، وهي الصفة
التي امتدحه بها مؤبنوه من الشعراء.
وها نحن أولاء قد دخلنا الآن
بلاد أولاد بوعزيز، فإذا الدواوير كثيرة والأرض خصبة قد اعتُني بفلاحتها.
ويوحى إلينا أن هذه بلاد عامرة بالسكان، وأن أهلها يميزون حيوية ونشاطاً.
وبعد الساعة الرابعة وخمس عشرة دقيقة حططنا رحالنا في دوار حمو بن بريكة.
ركوبة سيد العياشي
(28
مارس). عدنا إلى استئناف المسير في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة من
صباح [اليوم الذي بعد]، وتوجهنا ناحية خنق صغير، وهو الموضع الذي منه
يتراءى للمسافرين القادمين من مراكش لأول مرة من بعيد ذلك النصبُ الدال على
سيدي محمد العياشي؛ إنها «ركوبة» الولي. وقد وجدنا الخنق غاصاً بالحجارة،
وتكون هذه الحجارة تتفاوت أعداداً وتتباين أحجاماً بطبيعة الحال حسب شهرة
الولي. وقد انتصب كركوران عظيمان في مقدم ذلك الخنق وفي مؤخره، فضلاً عن
ثلاثمائة رجم صغير وزيادة قد وضعت في الممرات العديدة والمتشابكة التي تشكل
ما يسمى طريقاً في المغرب. وقد لزمنا أن نحترز كثيراً فلا نطيح بتلك
الأهرامات الصغيرة التي يقيمها الزوار المتبركون؛ فمعظمها يوشك أن يتهاوى.
التطير من الغربان
لقد
صارت البلاد تزداد غنى وخصوبة وفلاحات تقوم عليها ساكنة شديدة الكثافة.
ويكثر الأولياء على امتداد الطريق، فقببهم البيضاء تطالعنا من بعيد وهي
تأتلق في تلك النواحي، ومعظم تلك الأضرحة تقوم وسط مسوراتها غيضات صغيرة من
العناب المشجر. الطريق تتوالى رتيبة، لكن زاهية بما يقع عليها من أشعة
الشمس الربيعية. والغربان الناعبة التي تنقض زرافات على الجيف المتناثرة
على جانبي الطريق لا تفلح في إفساد جمال هذه اللوحة. والطرق الكبرى في
المغرب تعمرها جيف الدواب المركوبة التي تنفق من الإجهاد، ثم لا تجد من
يفكر في دفنها أو حتى إزاحتها عن الطريق. والمغاربة، شأنهم شأن غيرهم من
سكان منطقة شمال إفريقيا، يتطيرون من ملاقاة الغربان. فإذا خرج الرجل في
سفره فصادف زوجاً من الغربان عده فألاً حسناً، وإذا كان العدد مفرداً عده
فالاً سيئاً. وأفضل ما يلاقي المسافر من الغربان من الهيئات أن تكون الأنثى
يتبعها الذكر. فالجزائري، ولا يبعد أن يكون المغربي كذلك، يقولان : «إلى
صبحتِ على مسعود تابع مسعودة وما ربحتيش حسبني من أولاد الحرام». والغرب
يطعم كل أنواع اللحوم، فهو لذلك لامحالة يكتسب جميع الصفات التي تكون
للحيوانات التي يطعم لحمها؛ وقد كانت من خصاله أنه يتنبأ بالمستقبل. ولعل
هذا الأمر هو الذي جعل الغراب، وطيوراً أخرى من الكواسر، يظل على الدوام
طائراً يتفائل بها الناس أو يتشاءمون. لكن لونه الأسود وطعامه الكريه
يجعلانه أكثر ما يكون مصدراً للشؤم. ولذلك تجد الناس يتحاشون تسميته في
محادثاتهم. والمثل الذي ذكرنا لم يرد فيه اسم «الغراب»، بل استعيض عنه باسم
«مسعود»، ومعناها سعيد الحظ. ويجدر بالملاحظة في هذا الصدد أن الكلمة التي
يُراد بها في العربية الدارجة الشؤم هي «الطِّيرة»؛ من الطير. وعلى هذا
النحو تدرجت الكلمة «» إلى أن صارت تعني «الطائر» وتعني «التطيُّر»
مجتمعين.
اللبن
والتقينا
في طريقنا فرقة من البهلوانيين الإسبان كانت عائدة من مراكش بعد أن أمضت
فيها شهوراً ترفه بألعابها على السلطان. وقد كانت الفرقة تتألف من رجال
ونساء وأطفال، وقد لبسوا جميعاً من رث الثياب، كما هو معهود في الغجر،
ويسيرون الهوينى بدوابهم لا يلقون بالاً إلى شيء، وكأنهم متعالون عن كل ما
يحيط بهم. وقد كانوا وهم الإسبان يحكون مع ذلك فرقة من بلاد الإسلام؛ فليس
في سيماهم شيء قد يشذ بهم عن هذا المكان. ثم برزت لنا صبية من الأهالي إحدى
الخيام القائمة على جانب الطريق، ودنت منا تبغي أن تقدم إلينا الحليب في
قصعة خشبية. والمسلم إذا كان بيده إناء به حليب ومر به آخر في الصباح وجب
عليه أن يقدم إليه منه؛ فالحليب ببياضه وعذوبته يعتبر فألاً حسناً على بقية
اليوم. والمراد بالحليب ههنا «اللبن». والناس في شمال إفريقيا كثيرو إقبال
عليه؛ فهم يجدونه شراباً منعشاً. ووحدهم أولئك الذين خبروا المسير في قيظ
الصيف ومما فيه من عنت، وقيض لهم أن يستمتعوا باحتساء من ذلك اللبن ولو
قدم إليهم في إناء لم يطمئنوا إلى نظافته، لدى مرورهم بأحد الدواوير كلما
مررنا قرب دوار من الدواوير؛ هؤلاء وحدهم يقدرون هذا المشروب اللذيذ حق
قدره. والأهالي يفرطون في الصيف في شرب اللبن، فيصيبهم، وهو الذي كثيراً ما
يكون يمازجه تخمر، بالهياج، فتكثر بينهم النزاعات والمشاجرات، وهو أمر
يلاحظه الموظفون القائمون على شؤونهم. ويقول أحدهم إنه «لذلك ترى الأهالي
في ذلك الوقت من السنة يصفحون عن بعضهم في ما يبدر نحو بعضهم من الإساءة،
ويرددون قولهم إنها «دعوة اللبن»؛ مرادهم أنه ليس بالأمر الجلل. ولما كان
اللبن فالاً حسناً فلا يفوت الأهالي أن يقدموه إلى الضيف أو إلى من يمر بهم
من عابري السبيل في كل مناسبة؛ فليس من الأدب أن يمتنع الضيف من شربه.
وأما علية القوم والأولياء فإن الواحد منهم يقتصر في معظم الأحيان على أن
يغمس أصبع في ذلك اللبن، فينقل إليه بركته والقداسة يتحلى بها شخصه.
عدل سابقا من قبل izarine في الخميس 9 أغسطس 2012 - 14:16 عدل 1 مرات
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 8 -
أفضل ما يلاقي المسافر من الغربان أن تكون الأنثى يتبعها الذكر 2/2
الخوف من الصورة
وما
أكثر ما ترى الأهالي يغطون رؤوسهم أو يديرون ظهورهم إلى السائح إذا رأوه
يوجه إليهم مصورته. وقد رأيت من النساء والأطفال من كانوا يولون من وجوهنا
هاربين مستصرخين. ومن المعلوم أن تحريم الصور من الأمور المرعية بشدة عند
المسلمين، لكننا لا نعتقد أن الخوف من انتهاك أمر قرآني هو الذي يمكن أن
يكون المفسر الوحيد للفزع من الصور الذي نراه عند المغاربة، ونراه بصفة
عامة عند المسلمين عامة. فهؤلاء الناس، مثلهم مثل البدائيين، يعتبرون
الرسم، و - بدرجة أعلى - النحت من السحر. وعند البدائي اعتقاد راسخ أن الظل
والصورة المنعكسة على الماء أو المنعكسة على المرآة، وكذا الرسوم
والمنحوتات هي بمثابة مضاعف للروح، بل هي الروح نفسها، وأن مصير الروح
مقرون بمصير مضاعفها لا ينفصل عنه. ولذلك فهم يخشون أن يقوم الممتلك لذلك
المضاعف ببعض الممارسات السحرية، أو مجرد أن يضيع هذا المضاعف بوجه من
الوجوه، أو أن هذا المضاعف المتحصل عليه من الفن قد يذهب بالروح خارج
الجسد. وهذا هو مبعث خوفهم من التصوير، غير أنه خوف لا يقتصر على المسلمين
وحدهم. ولو أردنا أن نلتزم الحديث عن المغرب ولا نخرج عنه، فيمكننا أن
نلاحظ أن اليهود الذين لا يزالون يعيشون في حالة أشبه بالبدائيين، يجدون من
الرسوم والمنحوتات الخوف نفسه الذي يجده المسلمون. وقد سمعت من أفواه بعض
الأوروبيين في المغرب أن اليهود إنما يقلدون المسلمين في هذا الأمر، غير
أنني لا أرى لهذا السبب من أساس يقوم عليه. علاوة على أن الخوف من الصورة
أمر وقف عليه الرحالة وعلماء العراقة [الأوروبيون] عند سائر شعوب المعمور،
وكل من درس شيئاً مهما كان يسيراً من معتقدات البدائيين لن يساوره من شك في
أن تحريم تصوير الكائنات الحية عند المسلمين لا يعدو أن يكون نتيجة لأسلمة
للخوف القديم من الصورة الذي كان يجده البدائي. وإن التمثيلات التي جئنا
بها في ما تقدم لكره الكافر والخوف من الأجنبي يمكن أن تكون هيأت القارئ
للتسليم بمثل هذه التحولات في المعتقدات، ويبدو لنا أن من الجدير بنا أن
نذكر بهذه الملاحظات، ولاسيما أن الخوف من الأجنبي والخوف من الصورة في
الحالة التي تعنينا يلتقيان تماماً في شكل الكره للأجنبي والخوف الذي يجده
المسلم من أشكال التشخيص والتمثيل. والكوكني الأنجليزي الساذج الذي لم يمض
على وصوله إلى المغرب وقت يسير ثم إذا هو يوجه مصورته بفضول إلى المغاربة،
يعتبره هؤلاء غريباً يريد أن يسحرهم وكافراً وثنياً مراده أن يستنسخ ما خلق
الله وجاسوساً يشتغل بالتمهيد لغزو بلادهم. وأما الرحالة الذي يطرق
المناطق الداخلية بأجهزة يراها الأهالي غريبة عنهم وكتب، ويسعى في
الاستعلام حولهم وتصويرهم، فإنهيلقى من الريبة والاحتراز منهم فوق ما يلاقي
الرحالة [في المدن الساحلية].
رفاهية الساكنة
توالت
علينا الطريق يكنفها نبات البرواك بسيقانه النحيلة ونبات الحلتيت بسيقانه
الغليظة، وتلاقينا بما لاعد له من السبل المتشابكة والمتقاطعة مع شبكة أخرى
أوضح منها وأبين ترتسم فوق بساط أخضر من الأرض الموشاة بالورورد. وكثرت
الخيام في الدواوير، فهي تلوح لنا واضحة جلية على خلفية من تلال تأتلق
قممها بالقبب البيضاء، والحقول غاصة بالمزارعين والرعاة يدفعون أمامهم
قطعان الأغنام والثيران. وحيثما وليت وجهك من هذه البداية رأيت العلامات
ناطقة بالخصب وبالرخاء. والمؤكد أن أهل هذه البلدان جميعاً يتمتعون من
الثراء بأكثر مما نجد عند متوسط الجزائريين سكان منطقة التل، على الرغم من
القهر والاستغلال الذي يقع عليهم من القياد ومن المخزن. ومهما اعترض
المعترضون على هذا القول ، فإن الناظر إلى أحوال هذه البلاد لا يعدم الأدلة
الصارخة بها. وليس علينا أن نبحث عن الآراء الدالة على هذا الأمر في
الشكاة والتوجه الدائمين اللذين يتوجه بهما الأهالي إلى كل من يلاقون من
الأوروبيين؛ فهذه الشكاة إنما تدل على أن أصحابها غير راضين عن أوضاعهم،
وما هم بمختلفين في هذا الأمر سائر البشر. ونحن لا نزعم أن أهل هذه البلاد
ينعمون من السعادة بأكثر مما يعرف منها سكان منطقة التل في الجزائر؛ فهذه
مسألة نفسية نحرص على عدم الخوض فيها. بيد أننا نرى أنهم أكثر غنى، وهنالك
مجموعة من المؤشرات المادية الدالة على هذه الحقيقة. فالأسر تكثر من تناول
اللحم، فهي تطعمه مرتين على الأقل في الأسبوع، والناس في متوسطهم أحسن
ثياباً [من الجزائريين]، وأكثر خيامهم جديدة وجميلة والخيام البالية
المرقعة عندهم أقل عدداً مما في الدواوير الجزائرية.
السراب
في
حوالي الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة لاح لنا من بعيد خلال الضباب جبل
فطناسة ومن ورائه الجبل الأخضر. وبعيد ذلك ارتقينا تلعة من الأرض بعلو
عشرين متراً، تلته هضبة تقوم على هيأة عمودية تماماً وهي تتميز خصوبة. فهي
تعرف نشاط فلاحياً كمثل ما نرى في السهول الفلاحية الكبرى في فرنسا. وعلى
الرغم من أن السنة لا تزال في أولها فإن الشمس كانت شديدة الحارة والهواء
شديد السخونة، فلا تكاد تلمس له انسياباً خافتاً فوق سنابل القمح الخضراء.
وتقوم قبالتي بعض الغيضات و»إدير» كبير يقصده قطيع من الثيران ليرد منه.
وغددت دابتي إلى ذلك المكان، حتى إذا وصلت إليه لم أر غير السهل مترامياً
لا يحيط به البصر والثيران التي تسير متثاقلة. فما كان إلا سراباً.
والرحالة يعرفون هذا الموضع بأنه يظل في فترة الحرارة الشديدة مسرحاً لمثل
هذه الرؤى والخيالات الغريبة.
توقفنا من الثانية عشرة والربع إلى
الواحدة وعشر دقائق في الموضع المسمى «المطفي»، ومعناه خزان الماء. وبالفعل
ففي هذا المكان يوجد بالفعل خزان جميل يجعل لهذا الموضع من الطريق أهمية
كبرى. ثم عدنا إلى مواصلة مسيرنا في الهضبة التي صارت ترعى فيها الآن قطعان
عظمية من الماشية، ثم إذا التربة قد صارت يغلب عليها الرمل وبات العشب
قليلاً والنباتات فقيرة؛ والأرض توشيها أزهار الربيع البيضاء والصفراء،
فتبدو بها بستاناً فاتناً لا يحده البصر.
سوق سيدي بنور
وها
إننا قد جئنا بعد لأي، في حوالي الساعة الثالثة، إلى سوق سيدي بنور، وهي
سوق تنعقد كل ثلاثاء ويعتبر أهم مركز للمعاملات التجارية بين الجديدة
ومراكش. والعادة في الأسواق المغربية أنها تنعقد من الزوال إلى نهاية
اليوم، على خلاف الأسواق الجزائرية التي تنعقد من بداية النهار وتبلغ ذروة
نشاطها في ما بين الساعة الثامنة والساعة العاشرة، ثم تختتم في الزوال.
وعلى وجه العموم فالمغاربة في هذه المناطق التي نمر بها الآن يكثرون من
النوم ويستيقظون في ولا يبكرون بالاستيقاظ مثل الجزائريين. ثم إنه لا يبدو
أن المغاربة يواظبون على ارتياد الأسواق بقدر ما نرى عند الجزائريين. وتجد
الرأي الشائع في بعض المناطق من الجزائر في الحط من شأن الرجل الذي لا يذهب
إلى السوق ويقعد في الدوار، ولا تجد هذا التصور بمثل هذه الحدة في منطقة
الحوز. ومن المعلوم أن بعض القوانين في منطقة القبايل الكبرى تفرض غرامات
على أولئك الذين يمتنعون من المشاركة في السوق بذريعة أنهم لا يملكون ما
يبيعون فيها أو ما به يشترون منها. ولا يبعد أن تجد قبيلاً بهذه الأمور عند
الساكنة البربرية في المغرب.
تحريم الأكل في الأماكن العمومية
والمغاربة،
أو على الأقل أولئك الذين نمر الآن بمناطقهم – يتناولون طعام الغذاء في
السوق، وهذا شيءٌ يعتبر معيباً عند الجزائريين. ذلك بأن لدى الجزائريين
اعتقاداً شديد الشيوع، وربما كان هذا الاعتقاد لدى المغاربة أيضاً، في
تسفيه الأكل في الأماكن العمومية. ونحن نجد آثاراً لقبيل من هذه المعتقدات
كذلك في البادية الفرنسية، كما نجدها عند كثير من الأقوام الأخرى. ونقف في
هذه المناطق كذلك عادة أخرى من العادات البدائية، والعراقة التي تهتم
بالبدائيين هي التي تسعفنا بتفسير لها. فالبدائي يعتقد أن الروح يزهق من
الجسم من إحدى فتحاته، وتزهق خاصة من الفم، ولاسيما إذا كان هنالك عدو يسعى
في استلالها بحيله ومكائده. ثم إن الروح يمكن أن يلحقها عند خروجها من
الفم بعض التأثيرات السيئة. وإن معظم الممارسات التي تصاحب العطاس والتثاؤب
واستعمال الحجاب، في كثير من الحالات، لها صلة بهذا الاعتقاد. وقد كانت
الأقوام البدائية بوجه خاص تعتبر الأكل والشرب فعلين في غاية الخطورة، لأن
الروح تكون أثناءهما عرضة لشتى المخاطر. لذلك كان البدائي إذا رغب في الأكل
يختفي عن الأنظار ويتخذ شتى الاحتياطات. وقد كاد الإسلام أن يجعل الأكل
داخل البيت وفي منأى عن أعين الغرباء من الواجبات. فقد جاء في الحديث «إن
الذي يأكل وعينان تنظران إليه لا يأكل غير السم». وهنالك حديث آخر أدق من
السابق في إفادة المعنى الذي نريد، وهو «الأكل في السوق دناءة». غير أن
هذين الحديثين لم يردا، في حدود علمي، في كتب من الكتب المعتمدة في باب
الحديث.
ويمكننا القول، فوق ذلك، إن المغربي يلزم نفسه من التحفظ
والتهذب والاستحياء أكثر مما يفعل الجزائري، وحتى ليحدث الآخرين عن نفسه
ويفشي لهم من تفاصيل حياته ما يعتبر من الأسرار الخاصة؛ ولا يحرج من الحديث
عما يصيبه من الأمراض المخجلة، ولا يجد غضاضة في الحديث عن إصابته ببعض
الأمراض الطارئة من قبيل القبض، وهي التي يرى الجزائري الموت أهون من
إفشائها. ويتجلى انعدام الحياء في المغرب في مدنه خاصة في الحمامات، وحتى
إنك لترى الجزائريين والتونسيين إذا زاروا المغرب يستحيون من دخول هذه
الأماكن.
الخروف المشوي
ولما
كانت العادة جارية على الأكل في الأسواق في المغرب، فهذا جعل الأسواق
تمتلئ باللحم الذي يباع فيها جاهزاً للأكل، والناس كثيرو إقبال عليه. وأكل
ما يطعمون لحم الخروف، وأما المشوي الجزائري المشهور، أو الخروف الذي يشوى
كاملاً محمولاً على السفود، فيكاد يكون شيئاً مجهولاً في المغرب، وإنما
الغالب عندهم أن يشووا الخروف في الفرن. وقد جعلت في الأسواق أفرنة خاصة،
وهي على هيأة قبة وبها فتحة في الأسفل وأخرى في الأعلى. وهي تُحمى بشدة
طوال الصباح، فإذا خمدت النار أدخلوا من الفتحة العلوية خرافاً كثيرة، ربما
كانت عشرة أو اثني عشر إذا كان الفرن كبيراً، وتدلونها فيها، ويسدون فور
ذلك الفتحتين بالطين والأعشاب، ويتركون الخراف هنالك مدة معلومة ليجهز فيها
اللحم. ثم يعمدون إلى تلك الأفرنة عند الزوال فيفتحونها من قسمها العلوي
ويخرجون اللحم ويجعلون يقطعونه وهو لا يزال حامياً. واللحم المشوي على هذه
الطريقة يكون لذيذاً حقاً، ولو جاز لنا أن نبدي رأياً في شؤون الطبخ فلن
نتردد في القول إن المشوي المغربي يفوق بكثير المشوي عندنا نحن الفرنسيين.
التصوير
لم
تفطن الدكالية الصغيرة إلى أنني كنت ألتقط لها صورة، بيد أن هواة التصوير
لا يتيسر لهم دائماً أن يمارسوا هوايتهم في هذا البلد. وقد تحقق لمصورات
كوداك الأنجليزية الانتشار الواسع في مدينة مراكش في المدن الساحلية التي
يكثر توقف القوارب التابعة لشركة فوروود فيها وإنزالها الحشود من السياح
ذوي اللثامات الخضراء؛ بحيث إن من المغاربة قد أصبحوا اليوم يعرفون
بالتصوير، وهم يلاقونه بكثير من الخوف والفزع. والسياح الذين لا يلتزمون
التكتم الشديد وهم يقومون بالتصوير يجرون على أنفسهم في الكثير من الأماكن
بعض المنغصات.
تسول
وأما
اللبن الذي يقدم إلينا [نحن الأجانب] فلا نكن فيه من الواهمين؛ فلم يقدم
إليَّ إناء اللبن أنا الأول بغرض الترحيب؛ حقاً إن البراءة والكرم يدفعان
تلك الصبية إلى أن تقدم اللبن «فابور» إلى هذا الكافر، لكنني لا ألبث أن
ألمح خلفها امرأة عجوزاً تقف هنالك مرادها بطبيعة أن تتحقق مما ستقبض مني
الصبية. إنها طريقة في التسول يشجع عليها بعض الرحالة والمسافرين المفرطون
في الكرم، لكنهم لا يدركون هذا السلوك الخير منهم لا يخفف في شيء من
الاحتقار الذي يحمله لهم الأهالي. ثم يظل هذا الأسلوب في التسول يتكرر ما
امتدت الطريق بالرحالة والمسافر، ألى أن يصير في بعض الأحيان محنة حقيقية.
ثم قدمت إناء اللبن إلى مرافقي المسلم، وجعلت في تلك الأثناء أحاول أن
ألتقط صورة للصبية الدكالية. إنها بحق فتاة تضفي عليها عفويتها سحراً
وجاذبية، والأسمال التي تغطي جسمها لا تمنع سهولة حركاتها، ولا هي تنتقص من
رقتها ولطافتها الفطرية. وما أن أدرت ظهري للصبية حتى جعلت كالمتوحشة
تعارك المرأة العجوز على اقتسام النقود القليلة التي حصلت عليها منا.
أفضل ما يلاقي المسافر من الغربان أن تكون الأنثى يتبعها الذكر 2/2
الخوف من الصورة
وما
أكثر ما ترى الأهالي يغطون رؤوسهم أو يديرون ظهورهم إلى السائح إذا رأوه
يوجه إليهم مصورته. وقد رأيت من النساء والأطفال من كانوا يولون من وجوهنا
هاربين مستصرخين. ومن المعلوم أن تحريم الصور من الأمور المرعية بشدة عند
المسلمين، لكننا لا نعتقد أن الخوف من انتهاك أمر قرآني هو الذي يمكن أن
يكون المفسر الوحيد للفزع من الصور الذي نراه عند المغاربة، ونراه بصفة
عامة عند المسلمين عامة. فهؤلاء الناس، مثلهم مثل البدائيين، يعتبرون
الرسم، و - بدرجة أعلى - النحت من السحر. وعند البدائي اعتقاد راسخ أن الظل
والصورة المنعكسة على الماء أو المنعكسة على المرآة، وكذا الرسوم
والمنحوتات هي بمثابة مضاعف للروح، بل هي الروح نفسها، وأن مصير الروح
مقرون بمصير مضاعفها لا ينفصل عنه. ولذلك فهم يخشون أن يقوم الممتلك لذلك
المضاعف ببعض الممارسات السحرية، أو مجرد أن يضيع هذا المضاعف بوجه من
الوجوه، أو أن هذا المضاعف المتحصل عليه من الفن قد يذهب بالروح خارج
الجسد. وهذا هو مبعث خوفهم من التصوير، غير أنه خوف لا يقتصر على المسلمين
وحدهم. ولو أردنا أن نلتزم الحديث عن المغرب ولا نخرج عنه، فيمكننا أن
نلاحظ أن اليهود الذين لا يزالون يعيشون في حالة أشبه بالبدائيين، يجدون من
الرسوم والمنحوتات الخوف نفسه الذي يجده المسلمون. وقد سمعت من أفواه بعض
الأوروبيين في المغرب أن اليهود إنما يقلدون المسلمين في هذا الأمر، غير
أنني لا أرى لهذا السبب من أساس يقوم عليه. علاوة على أن الخوف من الصورة
أمر وقف عليه الرحالة وعلماء العراقة [الأوروبيون] عند سائر شعوب المعمور،
وكل من درس شيئاً مهما كان يسيراً من معتقدات البدائيين لن يساوره من شك في
أن تحريم تصوير الكائنات الحية عند المسلمين لا يعدو أن يكون نتيجة لأسلمة
للخوف القديم من الصورة الذي كان يجده البدائي. وإن التمثيلات التي جئنا
بها في ما تقدم لكره الكافر والخوف من الأجنبي يمكن أن تكون هيأت القارئ
للتسليم بمثل هذه التحولات في المعتقدات، ويبدو لنا أن من الجدير بنا أن
نذكر بهذه الملاحظات، ولاسيما أن الخوف من الأجنبي والخوف من الصورة في
الحالة التي تعنينا يلتقيان تماماً في شكل الكره للأجنبي والخوف الذي يجده
المسلم من أشكال التشخيص والتمثيل. والكوكني الأنجليزي الساذج الذي لم يمض
على وصوله إلى المغرب وقت يسير ثم إذا هو يوجه مصورته بفضول إلى المغاربة،
يعتبره هؤلاء غريباً يريد أن يسحرهم وكافراً وثنياً مراده أن يستنسخ ما خلق
الله وجاسوساً يشتغل بالتمهيد لغزو بلادهم. وأما الرحالة الذي يطرق
المناطق الداخلية بأجهزة يراها الأهالي غريبة عنهم وكتب، ويسعى في
الاستعلام حولهم وتصويرهم، فإنهيلقى من الريبة والاحتراز منهم فوق ما يلاقي
الرحالة [في المدن الساحلية].
رفاهية الساكنة
توالت
علينا الطريق يكنفها نبات البرواك بسيقانه النحيلة ونبات الحلتيت بسيقانه
الغليظة، وتلاقينا بما لاعد له من السبل المتشابكة والمتقاطعة مع شبكة أخرى
أوضح منها وأبين ترتسم فوق بساط أخضر من الأرض الموشاة بالورورد. وكثرت
الخيام في الدواوير، فهي تلوح لنا واضحة جلية على خلفية من تلال تأتلق
قممها بالقبب البيضاء، والحقول غاصة بالمزارعين والرعاة يدفعون أمامهم
قطعان الأغنام والثيران. وحيثما وليت وجهك من هذه البداية رأيت العلامات
ناطقة بالخصب وبالرخاء. والمؤكد أن أهل هذه البلدان جميعاً يتمتعون من
الثراء بأكثر مما نجد عند متوسط الجزائريين سكان منطقة التل، على الرغم من
القهر والاستغلال الذي يقع عليهم من القياد ومن المخزن. ومهما اعترض
المعترضون على هذا القول ، فإن الناظر إلى أحوال هذه البلاد لا يعدم الأدلة
الصارخة بها. وليس علينا أن نبحث عن الآراء الدالة على هذا الأمر في
الشكاة والتوجه الدائمين اللذين يتوجه بهما الأهالي إلى كل من يلاقون من
الأوروبيين؛ فهذه الشكاة إنما تدل على أن أصحابها غير راضين عن أوضاعهم،
وما هم بمختلفين في هذا الأمر سائر البشر. ونحن لا نزعم أن أهل هذه البلاد
ينعمون من السعادة بأكثر مما يعرف منها سكان منطقة التل في الجزائر؛ فهذه
مسألة نفسية نحرص على عدم الخوض فيها. بيد أننا نرى أنهم أكثر غنى، وهنالك
مجموعة من المؤشرات المادية الدالة على هذه الحقيقة. فالأسر تكثر من تناول
اللحم، فهي تطعمه مرتين على الأقل في الأسبوع، والناس في متوسطهم أحسن
ثياباً [من الجزائريين]، وأكثر خيامهم جديدة وجميلة والخيام البالية
المرقعة عندهم أقل عدداً مما في الدواوير الجزائرية.
السراب
في
حوالي الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة لاح لنا من بعيد خلال الضباب جبل
فطناسة ومن ورائه الجبل الأخضر. وبعيد ذلك ارتقينا تلعة من الأرض بعلو
عشرين متراً، تلته هضبة تقوم على هيأة عمودية تماماً وهي تتميز خصوبة. فهي
تعرف نشاط فلاحياً كمثل ما نرى في السهول الفلاحية الكبرى في فرنسا. وعلى
الرغم من أن السنة لا تزال في أولها فإن الشمس كانت شديدة الحارة والهواء
شديد السخونة، فلا تكاد تلمس له انسياباً خافتاً فوق سنابل القمح الخضراء.
وتقوم قبالتي بعض الغيضات و»إدير» كبير يقصده قطيع من الثيران ليرد منه.
وغددت دابتي إلى ذلك المكان، حتى إذا وصلت إليه لم أر غير السهل مترامياً
لا يحيط به البصر والثيران التي تسير متثاقلة. فما كان إلا سراباً.
والرحالة يعرفون هذا الموضع بأنه يظل في فترة الحرارة الشديدة مسرحاً لمثل
هذه الرؤى والخيالات الغريبة.
توقفنا من الثانية عشرة والربع إلى
الواحدة وعشر دقائق في الموضع المسمى «المطفي»، ومعناه خزان الماء. وبالفعل
ففي هذا المكان يوجد بالفعل خزان جميل يجعل لهذا الموضع من الطريق أهمية
كبرى. ثم عدنا إلى مواصلة مسيرنا في الهضبة التي صارت ترعى فيها الآن قطعان
عظمية من الماشية، ثم إذا التربة قد صارت يغلب عليها الرمل وبات العشب
قليلاً والنباتات فقيرة؛ والأرض توشيها أزهار الربيع البيضاء والصفراء،
فتبدو بها بستاناً فاتناً لا يحده البصر.
سوق سيدي بنور
وها
إننا قد جئنا بعد لأي، في حوالي الساعة الثالثة، إلى سوق سيدي بنور، وهي
سوق تنعقد كل ثلاثاء ويعتبر أهم مركز للمعاملات التجارية بين الجديدة
ومراكش. والعادة في الأسواق المغربية أنها تنعقد من الزوال إلى نهاية
اليوم، على خلاف الأسواق الجزائرية التي تنعقد من بداية النهار وتبلغ ذروة
نشاطها في ما بين الساعة الثامنة والساعة العاشرة، ثم تختتم في الزوال.
وعلى وجه العموم فالمغاربة في هذه المناطق التي نمر بها الآن يكثرون من
النوم ويستيقظون في ولا يبكرون بالاستيقاظ مثل الجزائريين. ثم إنه لا يبدو
أن المغاربة يواظبون على ارتياد الأسواق بقدر ما نرى عند الجزائريين. وتجد
الرأي الشائع في بعض المناطق من الجزائر في الحط من شأن الرجل الذي لا يذهب
إلى السوق ويقعد في الدوار، ولا تجد هذا التصور بمثل هذه الحدة في منطقة
الحوز. ومن المعلوم أن بعض القوانين في منطقة القبايل الكبرى تفرض غرامات
على أولئك الذين يمتنعون من المشاركة في السوق بذريعة أنهم لا يملكون ما
يبيعون فيها أو ما به يشترون منها. ولا يبعد أن تجد قبيلاً بهذه الأمور عند
الساكنة البربرية في المغرب.
تحريم الأكل في الأماكن العمومية
والمغاربة،
أو على الأقل أولئك الذين نمر الآن بمناطقهم – يتناولون طعام الغذاء في
السوق، وهذا شيءٌ يعتبر معيباً عند الجزائريين. ذلك بأن لدى الجزائريين
اعتقاداً شديد الشيوع، وربما كان هذا الاعتقاد لدى المغاربة أيضاً، في
تسفيه الأكل في الأماكن العمومية. ونحن نجد آثاراً لقبيل من هذه المعتقدات
كذلك في البادية الفرنسية، كما نجدها عند كثير من الأقوام الأخرى. ونقف في
هذه المناطق كذلك عادة أخرى من العادات البدائية، والعراقة التي تهتم
بالبدائيين هي التي تسعفنا بتفسير لها. فالبدائي يعتقد أن الروح يزهق من
الجسم من إحدى فتحاته، وتزهق خاصة من الفم، ولاسيما إذا كان هنالك عدو يسعى
في استلالها بحيله ومكائده. ثم إن الروح يمكن أن يلحقها عند خروجها من
الفم بعض التأثيرات السيئة. وإن معظم الممارسات التي تصاحب العطاس والتثاؤب
واستعمال الحجاب، في كثير من الحالات، لها صلة بهذا الاعتقاد. وقد كانت
الأقوام البدائية بوجه خاص تعتبر الأكل والشرب فعلين في غاية الخطورة، لأن
الروح تكون أثناءهما عرضة لشتى المخاطر. لذلك كان البدائي إذا رغب في الأكل
يختفي عن الأنظار ويتخذ شتى الاحتياطات. وقد كاد الإسلام أن يجعل الأكل
داخل البيت وفي منأى عن أعين الغرباء من الواجبات. فقد جاء في الحديث «إن
الذي يأكل وعينان تنظران إليه لا يأكل غير السم». وهنالك حديث آخر أدق من
السابق في إفادة المعنى الذي نريد، وهو «الأكل في السوق دناءة». غير أن
هذين الحديثين لم يردا، في حدود علمي، في كتب من الكتب المعتمدة في باب
الحديث.
ويمكننا القول، فوق ذلك، إن المغربي يلزم نفسه من التحفظ
والتهذب والاستحياء أكثر مما يفعل الجزائري، وحتى ليحدث الآخرين عن نفسه
ويفشي لهم من تفاصيل حياته ما يعتبر من الأسرار الخاصة؛ ولا يحرج من الحديث
عما يصيبه من الأمراض المخجلة، ولا يجد غضاضة في الحديث عن إصابته ببعض
الأمراض الطارئة من قبيل القبض، وهي التي يرى الجزائري الموت أهون من
إفشائها. ويتجلى انعدام الحياء في المغرب في مدنه خاصة في الحمامات، وحتى
إنك لترى الجزائريين والتونسيين إذا زاروا المغرب يستحيون من دخول هذه
الأماكن.
الخروف المشوي
ولما
كانت العادة جارية على الأكل في الأسواق في المغرب، فهذا جعل الأسواق
تمتلئ باللحم الذي يباع فيها جاهزاً للأكل، والناس كثيرو إقبال عليه. وأكل
ما يطعمون لحم الخروف، وأما المشوي الجزائري المشهور، أو الخروف الذي يشوى
كاملاً محمولاً على السفود، فيكاد يكون شيئاً مجهولاً في المغرب، وإنما
الغالب عندهم أن يشووا الخروف في الفرن. وقد جعلت في الأسواق أفرنة خاصة،
وهي على هيأة قبة وبها فتحة في الأسفل وأخرى في الأعلى. وهي تُحمى بشدة
طوال الصباح، فإذا خمدت النار أدخلوا من الفتحة العلوية خرافاً كثيرة، ربما
كانت عشرة أو اثني عشر إذا كان الفرن كبيراً، وتدلونها فيها، ويسدون فور
ذلك الفتحتين بالطين والأعشاب، ويتركون الخراف هنالك مدة معلومة ليجهز فيها
اللحم. ثم يعمدون إلى تلك الأفرنة عند الزوال فيفتحونها من قسمها العلوي
ويخرجون اللحم ويجعلون يقطعونه وهو لا يزال حامياً. واللحم المشوي على هذه
الطريقة يكون لذيذاً حقاً، ولو جاز لنا أن نبدي رأياً في شؤون الطبخ فلن
نتردد في القول إن المشوي المغربي يفوق بكثير المشوي عندنا نحن الفرنسيين.
التصوير
لم
تفطن الدكالية الصغيرة إلى أنني كنت ألتقط لها صورة، بيد أن هواة التصوير
لا يتيسر لهم دائماً أن يمارسوا هوايتهم في هذا البلد. وقد تحقق لمصورات
كوداك الأنجليزية الانتشار الواسع في مدينة مراكش في المدن الساحلية التي
يكثر توقف القوارب التابعة لشركة فوروود فيها وإنزالها الحشود من السياح
ذوي اللثامات الخضراء؛ بحيث إن من المغاربة قد أصبحوا اليوم يعرفون
بالتصوير، وهم يلاقونه بكثير من الخوف والفزع. والسياح الذين لا يلتزمون
التكتم الشديد وهم يقومون بالتصوير يجرون على أنفسهم في الكثير من الأماكن
بعض المنغصات.
تسول
وأما
اللبن الذي يقدم إلينا [نحن الأجانب] فلا نكن فيه من الواهمين؛ فلم يقدم
إليَّ إناء اللبن أنا الأول بغرض الترحيب؛ حقاً إن البراءة والكرم يدفعان
تلك الصبية إلى أن تقدم اللبن «فابور» إلى هذا الكافر، لكنني لا ألبث أن
ألمح خلفها امرأة عجوزاً تقف هنالك مرادها بطبيعة أن تتحقق مما ستقبض مني
الصبية. إنها طريقة في التسول يشجع عليها بعض الرحالة والمسافرين المفرطون
في الكرم، لكنهم لا يدركون هذا السلوك الخير منهم لا يخفف في شيء من
الاحتقار الذي يحمله لهم الأهالي. ثم يظل هذا الأسلوب في التسول يتكرر ما
امتدت الطريق بالرحالة والمسافر، ألى أن يصير في بعض الأحيان محنة حقيقية.
ثم قدمت إناء اللبن إلى مرافقي المسلم، وجعلت في تلك الأثناء أحاول أن
ألتقط صورة للصبية الدكالية. إنها بحق فتاة تضفي عليها عفويتها سحراً
وجاذبية، والأسمال التي تغطي جسمها لا تمنع سهولة حركاتها، ولا هي تنتقص من
رقتها ولطافتها الفطرية. وما أن أدرت ظهري للصبية حتى جعلت كالمتوحشة
تعارك المرأة العجوز على اقتسام النقود القليلة التي حصلت عليها منا.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 9 -
قتل الزوجة بدعوى الخيانة الزوجية شيء يكاد يكون مجهولاً عند دكالة
المجتمع المغربي
تمثل
السوق عنصراً بالغ الأهمية في الحياة العربية، وحتى ليمكن القول إن تاريخ
القبيلة يكاد يجري برمته في سوقها. فهو يعتبر المكان الوحيد الذي يجتمع
فيه الأهالي، فهم لا يقصدونها لمجرد أن يبيعوا فيها منتجاتهم ويتزودوا
منها بأقواتهم اليويمة، بل إن السوق كذلك فضاء يتبادلون فيه الآراء
والأفكار، ويتزودون فيها من الأخبار السياسية، ويتلقون فيها البلاغات من
السلطة ويتداولون في المواقف التي ستكون منهم نحوها، ويقررون في أمور السلم
وفي أمور الحرب. وفي السوق مجال تحاك فيه جميع الدسائس وتُطرح جميع
القضايا، وتُتخذ جميع قرارات الصلح ويُدبَّر لجميع الجرائم. والسوق تعتبر
أكبر التسليات عند الأهالي وربما كانت هي تسليتهم الوحيدة. فهم يترقبون
موعده الأسبوعي بشوق عارم، فإذا كان يوم السوق لم يبق في الدوار أحياناً
غير النساء والأطفال؛ فهو يوم اليمن على الساعين وراء المغامرات النسائية.
وحسبنا أن نقرأ تاريخ الجزائر لنتبين أن معظم التمردات التي شهدها هذا
البلد قد اندلعت شراراتها في الأسواق، ولذلك فالمراقبة الشديدة لها قد كانت
على الدوام من الشروط الأساسية لضمان الأمن والسلامة لنا في بالجزائر.
ويمكن القول إن المراقبة الجيدة والذكية للأسواق وسيلة أكثر فعالية من كافة
التدابير والإجراءات الأخرى من لحفظ الهدوء والحد من الإجرام في أي بلد
عربي.
مراقبة الأسواق
لقد
وعت جميع الحكومات التي تعاقبت على هذا البلد بضرورة أن توطد لنفسها في
الأسواق. والسلطة تلمس لها حضوراً في الأسواق المغربية على وجهين؛ أولهما
في الرسوم أو «المكوس» التي تتم جبايتها لفائدة الحكومة، والثاني في حضور
مندوب عن القوة العمومية. فأما الرسوم فيقوم بتحصيلها أحد المزارعين، وأما
القوة العمومية فيمثلها أحد الشيوخ، وبعض أعضاء الجماعة، وإذا أريد لهذا
الأمر أن يكون أكثر فعالية زيد إليهم بعض المخازنية يرسل بهم قايد القبيلة،
وقد يحضر القايد بشخصه في بعض الأحيان. وأما في المناطق غير الخاضعة
للمخزن في المغرب فإن القبائل التي تنعقد السوق داخل ترابها تتكفل بضمان
الأمن فيها. وأما المناطق من الصحراء المغربية التي ينعدم فيها الأمن وتصعب
فيها المعاملات التجارية بكثرة قطاع الطرق، فتنعقد فيها ثلاثة أسواق كبرى،
بل هي مواسم حقيقية تدوم وقتاً غير يسير، فهي تنعقد عند آيت تيوسا
ومغيميما وتازروالت. فيسود النظام ويصير بمقدور القوافل أن تقصد تلك
الأسواق لا تخشى على نفسها شيئاً، فإذا تعرضت الواحدة منها للنهب تم القبض
في السوق على أفراد القبيلة التي وقع منها النهب وغرِّموا مبلغ الخسائر
التي نزلت بتلك القافلة. ولم تكن شرطة السوق توكَل قديماً في منطقة القبايل
الكبرى إلى السلطة المحلية، بل إلى بعض كبار الشخصيات، الذين إليهم وحدهم
تعود السلطة العليا ويُعرفون باسم «قادة السوق». وعليه فإن إزالة إحدى هذه
الأسواق أو مجرد نقلها إلى غير موضعها الأصلي سيبدو، بعد كل ما ذكرنا،
إجراء أمنياً بالغاً، وربما كان إجراء ناجعاً في الأوقات الضطربة، فقد
يتسنى به إذا أُعمل في أوانه أن يحول دون قيام بعض التمردات. وما كان
القياد المغاربة يمنعون من إعمال هذا الإجراء، بل وتراهم يبالغون ويشتطون
فيه؛ فليس هنالك إجراءٌ أبلغ منه إضراراً بالتجارة وبازدهار منطقة من
المناطق. وإن طبيعة المعاملات التجارية التي تجري داخل السوق من هذه
الأسواق تفرض هي نفسها أن تكون السوق في موضع لا تتبدل عنه لأجل أن يتحقق
لها الازدهار والإشعاع. وربما أمكن للسوق بفضل موقعها المواتي وما تتهيأ
لها من الظروف السياسية المواتية أن أن تغدو نواة لتجمع حضري.
المدينة والسوق
كتب
بعض المؤرخين من العصور الوسطى الأوروبية أن «المدينة سوق دائم». ولا نملك
أن ندلي برأي في هذه الأطروحة حتى في ما يختص بالمغرب، غير أنه ليس ببعيد
أن تكون على نصيب كبير من الصحة، وربما كان فيها بعض تفسير لمنشإ كثير من
الحواضر المغربية، وأولها مراكش. ولا تزال تجد بعض المدن التي باتت اليوم
خرائب وأطلالاً، كالمدينة، تنعقد فيها بعض الأسواق. ثم إن القانون التجاري
عندنا يكاد يكون برمته مستمداً من قانون الأسواق في العصور الوسطى. غير
أننا لا يمكننا أن نتمادى في هذه المقارنة بين [البلاد الأوروبية من جهة]
والمغرب والبلاد الإسلامية [من جهة ثانية]؛ فالقانون التجاري في صورته
عندنا يكاد ينعدم لدى المسلمين، وبتعبير آخر إن القانون الإسلامي ينعدم فيه
تشريع يختص بالتجار. وإنما هم يخضعون للقانون العام، ثم أنه يطبق عليهم
بصورة فورية من لدن قاض أو عدل يكون يتجول في السوق. ولذلك فالمسلمون لا
قبل لهم بالنزاعات التشريعية العنيفة التي كانت تعيق التجارة في العصر
الوسيط، كانت دافعاً للأوروبيين إلى وضع قانون تجاري وسبباً في التطور الذي
تحقق لمؤسساتنا القضائية والإدارية الخاصة. وما نشب مثل هذا النزاع في
غير المناطق الساحلية بين المسلمين والأوروبيين، وكان سبباً في سن مجموعة
من الاتفاقيات وسن القانون القنصلي الخاص بما كان يسمى من قبل بلادَ
البرابرة.
فزع في الأسواق
سوف
لا أجشم نفسي أن أجيء برسم للسوق العربية بعد التصاوير الرائعة الكثيرة
التي وضعها لها آخرون. ولو أردت أن أجيء لهذه السوق بوصف علمي فيلزمي أن
أتناولها بالدراسة المتأنية، وهو شيء لم يسعني أن أقوم به في هذا الكتاب.
لكن يمكن لهذه الدراسة أن تقدم عرضاً ضافياً بالأطاريح الأخاذة التي نوقشت
في الآونة الأخيرة في موضوع علم نفس الجماعات والجذب الجماعي. والفرصة
مواتية لنا في هذا المقام لدراسة حشد ذي طابع بدائي، ولا يبعد أن نجده لا
يختلف كثيراً عن تجمع من المتحضرين. لكن يبدو لنا أن حركيته وانفعاليته
واستعداده لقبول الاقتراحات يفوقان بكثير ما نجد منها عند حشودنا من
الأوربيين. فمن المألوف في الأسواق في المغرب، كما الأسواق في الجزائر، أن
تشهد تلك الشجارات الغريبة التي تسمى في الجزائر «نفراعة». ومن المعلوم أن
هذا الاسم يُطلق على الفزع الذي ينشأ فجأة لأتفه الأسباب، ثم لا يُهتدى بعد
ذلك في معظم الأحيان قط إلى معرفة السبب فيه. فقد تنطلق شائعة كأنها نثار
من البارود أن السوق يتعرض للنهب، وما أن يسمع بعض التجار بهذه الشائعة حتى
يبادروا إلى إغلاق دكاكينهم في جو من الفوضى ويطيحون بالسلع والبضائع.
وسرعان ما تعم الضوضاء والجلبة، فأما خيار القوم فيفرون بأنفسهم، وإذا سائر
الأشرار الذين لا تخلو منهم الأسواق، يشرعون بالفعل في السرقة والنهب، في
خضم من الفوضى العارمة، وإن يكونوا لم يقصدوا السوق بنية السرقة. وتختتم
السوق في جو من الهلع والفرار في جميع الأنحاء، لا يفيد منه غير ذوي
النوايا السيئة. وبطبيعة الحال فإن بعض هذه «النفراعات» يتم التدبير لها
بنية السرقة، غير أن معظمها يحدث بصورة أقرب إلى أن تكون عفوية، ثم إنه
يندر أن تفلح السلطة في إنهاء ذلك الجو من الفوضى في الحال. وتُعرف
النفراعة في المغرب باسم «الكسرة»، فهم يقولون : «السوق نْكسَرْ»، وعناها
أن السوق انفضت؛ أي أنه قد حدث فزع أو نفراعة انفضت لها السوق.
الشيخات عند دكالة
يمثل
سوق سيدي بنور ملتقى أسبوعياً يأتلف فيه المغنيون، وتأتيه خاصة الشيخات من
هذه المنطقة. والناس يقصدونهن إلى هذه السوق من الأماكن البعيدة للاتفاق
وإياهن على إحياء ما يزمعون من حفلات وزيجات أو ختانات، إلخ. وتوجد هؤلاء
الشيخات بأعداد كبيرة في دكالة وحتى في الشياظمة، ولهن وجود كذلك في
الشاوية. وهن يعشن وسط أسرهن التي تعيش على ما يكسبن من تعاطي الفن وتعاطي
المجون. والشيخة يكون لها في معظم الأحيان إخوة أو أقارب يقومون لها
بالحماية والمساندة، فهم يرافقونها في جولاتها ويداومون على مصاحبتها
ليقوموا لها بالحماية عند الاقتضاء. ثم إن هؤلاء يعيشون في ود مع أصدقاء
الفنانة الكثيرين، ويعرفون أن ينسحبوا فلا يزعجون زائريها. والرأي العام لا
يتحرج من القبول بهذه العادات، ولا هو يحط من قدر هؤلاء النساء. ويمكن
للشيخة أن ينعمن بعيش رغد على وجه العموم، ما لم يكن يتعرضن للاستغلال أو
للتغرمي من القياد، الذين يسلبونهن معظم ما يكسبن.
وقد لا يجرؤ عامة
الناس في دكالة على التدخل القاسي في الحياة الخاصة للشيخات، بحيث إن
الدكاليات هن أبعد من يكن نموذجاً في هذا الإطار. فإن ما تتصف به هؤلاء
النساء من غنج ودلال، بله سفة ومجانة، أمور تثير انتباه الرحالة والمسافر
الأقل تحاملاً. فهن يكلمن الرجال وسط الحقول، ويخضن وإياهم في الأحاديث
الجريئة والفاحشة من حول البئر، ولا يتحرجن من النداء عليهم من بعيد
ومراودتهم على أنفسهم. والبغاء شيء شائع داخل الأسر، وما أكثر الأزواج
المتساهلين المتغاضين. وقلما يحدث عند الدكاليين الطلاق بسبب الخيانة
الزوجية، وأما قتل الزوجة بدعوى الخيانة الزوجية فشيء يكاد يكون عندهم
مجهولاً.
الضيافة
إن
العادة الشائعة في بعض المناطق من الجزائر في دعوة الضيف إلى قضاء ليلة مع
إحدى فتيات البيت تجدها كذلك عند كثير من قبائل دكالة، وتكاد تجدها كذلك
عند سائر قبائل الشاوية. والناس في هذه القبائل المغربية، تماماً كما هو
الشأن عند بعض القبائل في منطقة القبايل، يسألون الرجل الذي يطلب ضيافتهم،
هل هو «ضيف الجماعة» أم «ضيف الخيمة»، ففي الحالة الأولى يُذهب به إلى خيمة
جماعية تقوم في كل دوار، وإليها يُحمل إليه الأكل فيقضي فيها الليلة من
غير أن يُلزَم بشيء نحو أحد [من أفراد القبيلة]. وأما في الحالة الثانية
فإن أحد أفراد الدوار يذهب بالضيف إلى خيمته فيقدم إليه الطعام ويحيطه
بالرعاية والعناية، ثم يعرض عليه أن يتخير من فتيات الأسرة، ولا يعرض عليهن
من المتزوجات، ليقضي معها الليلة. ويكون ملزماً في اليوم الذي بعد بتقديم
هدية إلى رب البيت، كأن يدفع إليه بقرش أو اثنين. والقياد العارفون بهذه
العادة يفرضون من الغرامات على الخيام التي تضم من حسان الفتيات أكثر بكثير
مما يفعلون بالخيام الأخرى التي لا يوجدن فيها. والأرامل من النساء يفعلن
كما تفعل الفتيات، ويوحى إلينا أنهن ليسوا دونهن نزقاً وطيشاً.
التعليم الإسلامي
غادرنا
سيدي بنور وضريحها ذا القبة المربعة المكتسية من القرميد الأخضر. وبأخذ
يتراءى لنا الجبل الأخضر، غير أننا سوف لا نصل إليه، كما نؤمل، في هذا
المساء، ذلك بأننا كنا حتى الساعة الرابعة وعشر دقائق لم نجاوز دار القايد
السابق الحاج بن عبد الله، فكنا نرى أن قافلتنا البطيئة لن تبلغنا ذلك
الجبل إلا بعد مسير ساعتين ونصف. وها إن منظر البلاد قد تبدل تماماً؛ فنحن
نسير الآن في حصى دقيق لا تزال تكسوه أزهار الربيع ويتخلله نبات الحلتيت
تحت الأرجل، لكن ما عدنا نرى من حولنا الأراضي العامرة بالزراعات، فالبلاد
معظم أراضيها تُتخذ للرعي، بله تُتخذ للرعي الواسع.
ومررنا بقرب دشر به
مدرسة، فتناهت إلى مسامعنا أصوات التلاميذ المخنخنة الرتيبة وهو يتلون آيات
من القرآن. وقد سبق لابن خلدون أن جاء قبل خمسمائة سنة بوصف للطريقة التي
كان يجري بها التعليم في بلدان المغرب (وهو يمايز بين بلدان المغرب
وإفريقية)، فلاحظ أن التعليم في المغرب كان يقوم أساساً على حفظ القرآن، من
غير فهم ولا استيعاب للمعاني. والطالب المغربي الذي يفلح بعد سنين عديدة،
والتنكيل الذي يقع عليه من شربات السوط، في أن يخزن في ذاكرته القرآن
بآياته الستة آلاف ومائتين يُفرَغ عليه لقب فقيه، الذي له عندهم حظوة
ومنزلة، غير أنه لقب قد لا يكون له بستحق، ذلك بأن هذا اللقب يعني في
الحقيقة «العالم الشرعي». وأما إذا جمع إلى حفظ القرآن لمعرفة بأصول اللغة
وألم بعض إلمام بالمختصر الفقهي لسيدي خليل، وحفظ بعض القصائد التي قيلت في
مدح الرسول، من قبيل «البردة» و»الهمزية» للشيخ البوصيري فيحق له أن يكتسب
لقب «العالم». وأياً ما يكن فإن المعرفة الحقيقية ليس لها دور كبير [في
حياة هؤلاء الناس]. وقد أصبح التعليم الإسلامي لا يزيد اليوم عن اجترار
وترديد عقيمين. وقد سبق لابن خلدون أن ذكر أن المغاربة كانوا يعتقدون يظنون
أن «المعرفة إنما تكون بحشو الأذهان». فلا يزيد العلم عندهم عن الحفظ.
ولذلك فالمستشرق الأوربي مهما بلغ من العلم يدخله المغاربة في الجهال لأنه
لا يحفظ شيئاً. ولفظ «العاقل» في الدارجة العربية يعني «شديد الحفظ» كما
يعني «النبيه». ولذلك فأشهر الأساتذة عندهم من لا يحتاج في الدرس إلى كتاب
أو تقاييد. والتلميذ إذا رغب في الحفظ، ولم يكن لديه ملكته، التجأ إلى شتى
الوسائل، ولم يقعد عن استعمال المخدرات والطلاسم. ولهذه الغاية تراهم في
بعض الجهات يفرطون في تناول نبات الأطرب، المسمى عندهم «البلايدور»، لأن
ثمار هذا النبات معروف لديهم بأنه يزيد في ملكة الحفظ.
التسول المدرسي
وقد
كنا بين الفينة والأخرى نلاقي على الطريق بعض التلاميذ في رث الثياب، فهم
يأتون ليعرضوا علينا الألواح التي كتبوا عليها بكثير من المشقة بعض الآيات
القرآنية باستعمال «بالسمق». وتلك طريقة في طلب الصدقة. ومنهم من يلاحق أحد
مرافقينا المسلمين وهو يقول له : «حررنا يحررك الله»، ذلك بأن الفقيه يمنح
تلاميذه العطلة أحياناً مقابل نقود يدفعونها إليه. وقد ظل بعض الصبة
الصغار يطاردوننا طوال الظهيرة مشهرين ألواحهم الصغيرة لكنهم لم يحصلوا منا
على شيء. وكذلك يقومون بهذه الجولات في الدواوير، وهي غير الجولات التي
يقومون بها بمناسبة الاحتفال بالختمة، أي الانتهاء من حفظ بعض أجزاء
القرآن.
ولا ترى الطلبة من كبار السن والمتقدمين في الدراسة يستنكفون من
التسول. فإذا مررنا أمام إحدى هذه المدارس خرج إلينا هؤلاء الطلبة ليطلبوا
إلينا «التحريرة» دون استحياء. منا بدون استحياء، قائلين : «باش نصبنو».
وتلك عبارة راسخة عندهم؛ وحتى إن المخزني العامل لدى أحد كبار الشخصيات
الذي حظينا عنده بالضيافة قد جاء في اليوم الذي بعد يرددها على مسامعنا،
ليطلب إلينا إكرامية لم يكن لنا منها مفر. فالمغربي مستول في المقام الأول،
ولا يستنكف أن يطلب الصدقة حتى من عند أولئك الذين يحمل لهم الاحتقار
الدفين، وهذه من أحط الصفات التي يتصف بها، غير أننا لا نريد بحديثنا ههنا
غير السواد من العامة المغلوبة على أمرها.
وفي الساعة الخامسة وخمس
وثلاثين دقيقة حططنا رحالنا في دشر صغير، أي مجموعة من النوايل والخيام
الثابتة في مكانها. ويُعرف هذا الدشر باسم دشر الحاج محمد بن رحال. وقد
تحدثنا إلى أكبر الملاك في هذا المكان، وهو مخالط فلاحي لأحد كبار التجار
اليهود الأنجليز في آسفي، وعلى الرغم من ذلك فقد قابلنا بسورة من التعصب
وقابلنا بكثير من الازدراء. ولقد سألته بضعة أسئلة فكان يرد عليها بكلمات
مقتضبة. ثم بدا لي كأنما يبغي بدوره أن يطلب مني شيئاً ما، وسرعان ما
انفرجت أساريره، وانتحى بي جانباً وهو يتبسم ليطلب مني بكثير من التذلل
والخنوع شيئاً من النقود. ولقد لبثت تعقد لساني الدهشة والاستغراب كيف لهذا
العجوز الكثير المال أن يطلب إليَّ الصدقة بكثير من الصغار كأنه بائس من
البؤساء. فاهتبلت تلك الفرصة لأنتزع منه بعض المعلومات من قبل أن أعطيه أي
شيء، فإذا هو يمدني بها في سهولة كبيرة، ثم نفحته قرشاً. فتبسم في حينه
دلالة على الارتياح، وسرعان ما نهض من غير أن يشكرني، وابتعد عني وجعل
يسير كأنه نبيل من النبلاء، ثم لم يعد يهتم لأمري فكأنني لم أعد موجوداً.
ولاشك أنه واحد من أولئك المحميين الذين يقولون عن التاجر الذي كان سبباً
في ما حازوا من ثراء : «إن عندي كلباً جيداً من الكفار ليحميني من القايد».
فيا له من طبع معقد هذا الذي نراه من هذا المسلم المتعصب الذي يخالط
يهودياً ويطلب الصدقة من مسيحي!
أشغال البدو
تنبهنا
من نومنا في الليل، قبل الفجر بكثير، بفعل جلبة غريبة. فقد كانت الأصوات
ترتفع في الدواوير بالغناء، يرافقها قرع مصم متواصل. وكانت تلك الجلبة
تنتقل من خيمة إلى أخرى، وتتلاقى في ذلك الجو الهادئ وفي صمت لا تكاد يقطعه
غير صياح بعض البهائم. فماذا يكون ذلك الغناء الرتيب الذي يخالطه شجى،
والذي لولا إيقاعه المتسارع لكان أقرب إلى الشكاة أو النواح؟ فهل هي أدعية؟
أم أغان للحب؟ كلا، بل هي أغاني العمل تتغنى بها النساء وقد شرعن في عملهن
اليومي الشاق بطحن القمح في الأرحى يديرونها بالأيدي ليضنعن منه الخبز
اليومي. ويا لهن من مخلوقات بائسة تفني زهرة العمر في العمل البيتي الشاق،
فهن يشرعن في العمل قبل أن ينبلج نور النهار بتحسس الأشياء، فيما يكون
أفراد الأسرة لا يزالون نياماً. فإذا انبلج الفجر بعد قليل، ونهض الرجال
وأدوا الصلوات وجدوا «الحسوة»جاهزة، وهي وهي حساء الشعير، التي تكون هي
فطورهم الأول. فالمرأة تعجل بإيقاد النار، وفي انتظار أن يغلي الماء في
القدر تذهب لحلب الأبقار. وها إنها تدير «الحسوة» على سائر من في الخيمة،
وبعد ذلك ستذهب لتقدم الكلأ للماشية، ثم تسارع إلى تهييء الخبز غير المخمر
الذي سيحمل منه الرجال الذين سيتغيبون عن البيت طوال اليوم، إما للاشتغال
بالأرض أو الاشتغال بالرعي. وبعد ذلك تحلب النعاج أو العنزات حسب الفصول،
وتخرج المواشي، ثم يكون لها أن تستريح قليلاً. ثم يكون أفضل أوقات اليوم
عندها. فهي تخرج مع رفيقاتها من الخيام المجاورة لجلب الماء من العين
القريبة. وقد تكون العين بعيدة جداً، فلا تكثر عليها النساء، ويطول بهن ملأ
الجرار كثيراً، فهن يطلقن العنان للثرثرة ويدبرن للمكائد وتحتذ الغيرات
وينسجن الصداقات. ثم يمضين مثنى مثنى أو في مجموعات صغيرة إلى الأراضي غير
المزروعة لحمع الحطب لأجل المواقد. فالخشب نادر، وأكثر ما يستعملن النباتات
الشوكية الفقيرة ومعظمها من الأشواك. فكل واحدة من النساء تتخذ لها منه
كومة تجعلها على ظهرها ثم تعود إلى الدوار. ويكون الوقت حينذاك لإعداد
الوجبة الثانية، وقوامها «عصيدة» من دقيق الدرة يسقى باللبن، أو «الدشيش»،
وهو دقيق الشعير الذي يهيأ على البخار ويزاد إليه البصل والقرع. ثم تعود
المرأة الحبوب، ثم يتعين عليها بعد ذلك أن تهيء وجبة المساء (في حوالي
الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الزوال)، وهي تتألف عادة من «رغايف» تهيأ
فوق صحن أو «طاجين». وأما الوجبة الأخيرة فهي تكون في حوالي الساعة التاسعة
أو العاشرة ليلاً، وهي تشرع في تهييئه مع مغرب الشمس، وتتألف هذه الوجبة
عند الأسرة الميسورة من كسكس باللحم، وإلا فكسكس بالبصل والقرع. وقد تشتغل
النساء خلال أشغال البيت بمخض الحليب، فتفصل الزبدة عن اللبن. وقد أو تحوك
الصوف لصنع منه ألبسة، أو تنسج الزرابي، أو تصنع الأواني الفخارية وتقوم
على تجفيفها. والمرأة تشتغل بكثير من النشاط، حسب الفصول، بالأشغال
الفلاحية التي يقع معظمها على النساء، في ما خلا أعمال الحرث التي يتولاها
الرجال وأعمال الحصاد التي يتكاتف لها الجميع. فالمرأة هي من تزيل الأعشاب
الطفيلية، وهي وحدها التي تلتقط السنبل من الأرض بعد الحصاد. وهي التي في
بلاد الأركان تعنى بقطف ثماره واستخراج الزيت منه، وتكتفي به عن سائر
الأعمال الفلاحية. تلك صورة للحياة القاسية التي تحياها البدويات.
أناشيد الرحى
والنساء
يروحن على أنفسن في هذه الحياة الشاقة التي يحيينها بأغان من قبيل تلك
الأغاني التي كن يتغنين بها في هذه الليلة فيما يطحن القمح بالأرحى. وها هو
نموذج لتلك الأغاني :
«حمقتني يا الرحى وطول الليالي معذباني.
حمقتني يا الرحى ويديا معياني
ما نسمح لمي واللي زوجوني
وجاوا بالقاضي والشهود!؟
بعصايب بحال اليهود
وهذا نموذج ثان :
وآفينك آخيرة، غبرت تحت الأرض في الظلام
سجنوك في دار ما فيها غير الظلام
خليتي أحمد وأختو محجوبة
غبرت يالزينة مارجعت
يا لغزال مولات الصاك الزين.
وهذا
كلام لا يفيد كبير شيء، والأغنية التالية أوضح معاني. وهي أغنية تتردد بين
الخيام؛ فامرأة تتغنى بالمقاطع المؤلفة لهذه الأغنية وأخرى تردد دون تبديل
لازمة أوردها ههنا مرة واحدة دون تكرار :
كال الفار عليها نموت (لازمة)
آش جرى للفارة؟
ولا يقتلوني
زينة ومن دار كبيرة
عمرها ما خرجت من الدوار
وما حضرت عرسات
دزتها كادة للحايك
وشايط ليها بش الدير قراب
وديناها لطرف الدوار
وحسبوها شفارة
وكانت بكرة فأول الصيف
تضاربوا عليها الكزارة
ولاشك
أن أغاني العمل تعود إلى عصور قديمة، ولذلك اهتم دارسو الفولكلور في
السنوات الأخيرة بجمعها وتدوينها. وإن من شأن هذه الأغاني أن تجلو لنا
وجهات النظر الخبيرة التي أطلقت منذ بضع سنوات عن العلاقات بين الإيقاعات
والعمل والفن؛ فكلما كان العمل موزوناً إلا وتحقق له الانتظام، والحال أن
الانتظام هو الجمال. ثم إنني يساورني اعتقاد أن الغناء يبعث عليه شيء يفوق
الإيقاع، حتى وإن لم يكن إلا المجهود الذي يُبذل في الغناء، الذي أفاضت
الدراسات التشريحية المعاصرة في تناول أحد تدريباته العذبة المتواترة في
الأعضاء، يزيد من يزيد من القدرة على العمل. وكذلك فالغناء محرك نفسي؛ فقد
كان الشهداء المسيحيون ينتظرون الحيوانات في السيرك وهم ينشدون، وكذلك كان
الرهبان يصعدون منشدين إلى المحارق أو يصعد إلى منصات الإعدام. والذي يبدو
لي أن الإنشاد في مثل هذه الحالات المشابهة لا يفعل فعل المخدر أو المبنج
فحسب. ونشيد العمل يأتي بوجه عام بروح المنشد. ولا تتأثر هذه الأناشيد أولا
تكاد تتأثر بالتنوعات الفردية، وإنما هي تعكس في المقام الأول الحالة
الذهنية للجماعة برمتها. وكلمات الأناشيد التي يتغنى بها المغاربة تكون على
وجه العموم عذبة وحزينة ومطبوعة بطابع ديني. وها هو ذا نموذج للنشيد الذي
يتغنى به دكاك الأسطح :
باسم الله ألواحد أياربي
آ ربي الحافظ من كلشي
وعليك معول أسيدي ربي
يا من جعل تو كالوا في الله العلي
يسافر في النجا
ويروح في النجا.
وتشير
هذه الكلمات الأخيرة إلى المأساة التي يكابدها العامل يجبر على الرحيل عن
بلده سعياً وراء لقمة العيش، فالابتعاد عن البلد يكون عند المسلم دائماً
مصدراً للكثير من المعاناة. والنشيد التالي، وهو خاص بالدكاكين وسائر
العاملين في البناء، فيه ترجمة للمشاعر نفسها. ويتحدث المنشد عن ولي البلاد
التي يعمل فيها :
أنا ضيف الله أمولاي بوشعيب
أضامن المؤمنين وأهل الله
أمولا بوشعيب
يا إمام الحجاج أمول العكب
أنا طالبك ضيف الله.
وادعي معايا أمولاي بوشعيب.
فهذا العامل يشتغل في أزمور. والنشيد التالي يتغنى به عامل آخر في الصويرة، فهو يتوجه بالدعاء إلى ولي هذه المدينة.
أنا طالب ضيف الله أسيدي مكدول
آلركراكي أنا في حماك
راني مضيوم
وقاصدك يا سيدي
تعيني وتعاوني
وتراه يتذكر أحياناً مسقط رأسه ويتذكر الولي الذي يؤمن ببركاته.
اللي بغا حاجتو تقضا لو
يمشي لوزان يزور
تفاجى عليه الأحزان وتخفف عظامه
وتقضى لو حاجته في نهاره
وأحيانا يكون التذكر لا يطلب منه المنشد شيئاً، كما في النشيد التالي :
يا جبل العلم
يا جبل الورد
آمولاي عبد السلام
يا غاني الزوار
وكذلك
العمال الذين يشتغلون بحفر الآيبار الجوفية المعروفة بالخطارات العجيبة،
والتي سنعود إليها بالحديث في ما بعد، يتغنون بشبيهة بهذه الأناشيد مشابهة،
ولا نرى حاجة إلى إيراد نماذج لهذه الأناشيد غير زيادة صفحات هذا الكتاب.
وسأقتصر منها على إيراد نشيدين اثنين ذوي طابع ديني خالص، ومطبوعين بطابع
الإسلام «الحقيقي»، ومعناها الحرفي «الاستسلام لله». ومؤشرات إسلامية من
قبيلا :
باسم الله وبالله
وعلى الله عولنا
يا ربي سهل علينا ولا تحاشمنا
يا من جدنا بيك تعرف
يا مولانا حقق رجانا
يا مولانا
الصلاة والسلام عليك أرسول الله
لا إلاه إلا الله محمد رسول الله».
وعلى
هذا النحو يحصر الإسلام شخصية المنشدين المساكين في دائرة الإرادة الإلهية
الصارمة التي لا تلين، مثلما تحكم عليهم ظروف حياتهم البائسة بحياة ملؤها
الشقاء.
قتل الزوجة بدعوى الخيانة الزوجية شيء يكاد يكون مجهولاً عند دكالة
المجتمع المغربي
تمثل
السوق عنصراً بالغ الأهمية في الحياة العربية، وحتى ليمكن القول إن تاريخ
القبيلة يكاد يجري برمته في سوقها. فهو يعتبر المكان الوحيد الذي يجتمع
فيه الأهالي، فهم لا يقصدونها لمجرد أن يبيعوا فيها منتجاتهم ويتزودوا
منها بأقواتهم اليويمة، بل إن السوق كذلك فضاء يتبادلون فيه الآراء
والأفكار، ويتزودون فيها من الأخبار السياسية، ويتلقون فيها البلاغات من
السلطة ويتداولون في المواقف التي ستكون منهم نحوها، ويقررون في أمور السلم
وفي أمور الحرب. وفي السوق مجال تحاك فيه جميع الدسائس وتُطرح جميع
القضايا، وتُتخذ جميع قرارات الصلح ويُدبَّر لجميع الجرائم. والسوق تعتبر
أكبر التسليات عند الأهالي وربما كانت هي تسليتهم الوحيدة. فهم يترقبون
موعده الأسبوعي بشوق عارم، فإذا كان يوم السوق لم يبق في الدوار أحياناً
غير النساء والأطفال؛ فهو يوم اليمن على الساعين وراء المغامرات النسائية.
وحسبنا أن نقرأ تاريخ الجزائر لنتبين أن معظم التمردات التي شهدها هذا
البلد قد اندلعت شراراتها في الأسواق، ولذلك فالمراقبة الشديدة لها قد كانت
على الدوام من الشروط الأساسية لضمان الأمن والسلامة لنا في بالجزائر.
ويمكن القول إن المراقبة الجيدة والذكية للأسواق وسيلة أكثر فعالية من كافة
التدابير والإجراءات الأخرى من لحفظ الهدوء والحد من الإجرام في أي بلد
عربي.
مراقبة الأسواق
لقد
وعت جميع الحكومات التي تعاقبت على هذا البلد بضرورة أن توطد لنفسها في
الأسواق. والسلطة تلمس لها حضوراً في الأسواق المغربية على وجهين؛ أولهما
في الرسوم أو «المكوس» التي تتم جبايتها لفائدة الحكومة، والثاني في حضور
مندوب عن القوة العمومية. فأما الرسوم فيقوم بتحصيلها أحد المزارعين، وأما
القوة العمومية فيمثلها أحد الشيوخ، وبعض أعضاء الجماعة، وإذا أريد لهذا
الأمر أن يكون أكثر فعالية زيد إليهم بعض المخازنية يرسل بهم قايد القبيلة،
وقد يحضر القايد بشخصه في بعض الأحيان. وأما في المناطق غير الخاضعة
للمخزن في المغرب فإن القبائل التي تنعقد السوق داخل ترابها تتكفل بضمان
الأمن فيها. وأما المناطق من الصحراء المغربية التي ينعدم فيها الأمن وتصعب
فيها المعاملات التجارية بكثرة قطاع الطرق، فتنعقد فيها ثلاثة أسواق كبرى،
بل هي مواسم حقيقية تدوم وقتاً غير يسير، فهي تنعقد عند آيت تيوسا
ومغيميما وتازروالت. فيسود النظام ويصير بمقدور القوافل أن تقصد تلك
الأسواق لا تخشى على نفسها شيئاً، فإذا تعرضت الواحدة منها للنهب تم القبض
في السوق على أفراد القبيلة التي وقع منها النهب وغرِّموا مبلغ الخسائر
التي نزلت بتلك القافلة. ولم تكن شرطة السوق توكَل قديماً في منطقة القبايل
الكبرى إلى السلطة المحلية، بل إلى بعض كبار الشخصيات، الذين إليهم وحدهم
تعود السلطة العليا ويُعرفون باسم «قادة السوق». وعليه فإن إزالة إحدى هذه
الأسواق أو مجرد نقلها إلى غير موضعها الأصلي سيبدو، بعد كل ما ذكرنا،
إجراء أمنياً بالغاً، وربما كان إجراء ناجعاً في الأوقات الضطربة، فقد
يتسنى به إذا أُعمل في أوانه أن يحول دون قيام بعض التمردات. وما كان
القياد المغاربة يمنعون من إعمال هذا الإجراء، بل وتراهم يبالغون ويشتطون
فيه؛ فليس هنالك إجراءٌ أبلغ منه إضراراً بالتجارة وبازدهار منطقة من
المناطق. وإن طبيعة المعاملات التجارية التي تجري داخل السوق من هذه
الأسواق تفرض هي نفسها أن تكون السوق في موضع لا تتبدل عنه لأجل أن يتحقق
لها الازدهار والإشعاع. وربما أمكن للسوق بفضل موقعها المواتي وما تتهيأ
لها من الظروف السياسية المواتية أن أن تغدو نواة لتجمع حضري.
المدينة والسوق
كتب
بعض المؤرخين من العصور الوسطى الأوروبية أن «المدينة سوق دائم». ولا نملك
أن ندلي برأي في هذه الأطروحة حتى في ما يختص بالمغرب، غير أنه ليس ببعيد
أن تكون على نصيب كبير من الصحة، وربما كان فيها بعض تفسير لمنشإ كثير من
الحواضر المغربية، وأولها مراكش. ولا تزال تجد بعض المدن التي باتت اليوم
خرائب وأطلالاً، كالمدينة، تنعقد فيها بعض الأسواق. ثم إن القانون التجاري
عندنا يكاد يكون برمته مستمداً من قانون الأسواق في العصور الوسطى. غير
أننا لا يمكننا أن نتمادى في هذه المقارنة بين [البلاد الأوروبية من جهة]
والمغرب والبلاد الإسلامية [من جهة ثانية]؛ فالقانون التجاري في صورته
عندنا يكاد ينعدم لدى المسلمين، وبتعبير آخر إن القانون الإسلامي ينعدم فيه
تشريع يختص بالتجار. وإنما هم يخضعون للقانون العام، ثم أنه يطبق عليهم
بصورة فورية من لدن قاض أو عدل يكون يتجول في السوق. ولذلك فالمسلمون لا
قبل لهم بالنزاعات التشريعية العنيفة التي كانت تعيق التجارة في العصر
الوسيط، كانت دافعاً للأوروبيين إلى وضع قانون تجاري وسبباً في التطور الذي
تحقق لمؤسساتنا القضائية والإدارية الخاصة. وما نشب مثل هذا النزاع في
غير المناطق الساحلية بين المسلمين والأوروبيين، وكان سبباً في سن مجموعة
من الاتفاقيات وسن القانون القنصلي الخاص بما كان يسمى من قبل بلادَ
البرابرة.
فزع في الأسواق
سوف
لا أجشم نفسي أن أجيء برسم للسوق العربية بعد التصاوير الرائعة الكثيرة
التي وضعها لها آخرون. ولو أردت أن أجيء لهذه السوق بوصف علمي فيلزمي أن
أتناولها بالدراسة المتأنية، وهو شيء لم يسعني أن أقوم به في هذا الكتاب.
لكن يمكن لهذه الدراسة أن تقدم عرضاً ضافياً بالأطاريح الأخاذة التي نوقشت
في الآونة الأخيرة في موضوع علم نفس الجماعات والجذب الجماعي. والفرصة
مواتية لنا في هذا المقام لدراسة حشد ذي طابع بدائي، ولا يبعد أن نجده لا
يختلف كثيراً عن تجمع من المتحضرين. لكن يبدو لنا أن حركيته وانفعاليته
واستعداده لقبول الاقتراحات يفوقان بكثير ما نجد منها عند حشودنا من
الأوربيين. فمن المألوف في الأسواق في المغرب، كما الأسواق في الجزائر، أن
تشهد تلك الشجارات الغريبة التي تسمى في الجزائر «نفراعة». ومن المعلوم أن
هذا الاسم يُطلق على الفزع الذي ينشأ فجأة لأتفه الأسباب، ثم لا يُهتدى بعد
ذلك في معظم الأحيان قط إلى معرفة السبب فيه. فقد تنطلق شائعة كأنها نثار
من البارود أن السوق يتعرض للنهب، وما أن يسمع بعض التجار بهذه الشائعة حتى
يبادروا إلى إغلاق دكاكينهم في جو من الفوضى ويطيحون بالسلع والبضائع.
وسرعان ما تعم الضوضاء والجلبة، فأما خيار القوم فيفرون بأنفسهم، وإذا سائر
الأشرار الذين لا تخلو منهم الأسواق، يشرعون بالفعل في السرقة والنهب، في
خضم من الفوضى العارمة، وإن يكونوا لم يقصدوا السوق بنية السرقة. وتختتم
السوق في جو من الهلع والفرار في جميع الأنحاء، لا يفيد منه غير ذوي
النوايا السيئة. وبطبيعة الحال فإن بعض هذه «النفراعات» يتم التدبير لها
بنية السرقة، غير أن معظمها يحدث بصورة أقرب إلى أن تكون عفوية، ثم إنه
يندر أن تفلح السلطة في إنهاء ذلك الجو من الفوضى في الحال. وتُعرف
النفراعة في المغرب باسم «الكسرة»، فهم يقولون : «السوق نْكسَرْ»، وعناها
أن السوق انفضت؛ أي أنه قد حدث فزع أو نفراعة انفضت لها السوق.
الشيخات عند دكالة
يمثل
سوق سيدي بنور ملتقى أسبوعياً يأتلف فيه المغنيون، وتأتيه خاصة الشيخات من
هذه المنطقة. والناس يقصدونهن إلى هذه السوق من الأماكن البعيدة للاتفاق
وإياهن على إحياء ما يزمعون من حفلات وزيجات أو ختانات، إلخ. وتوجد هؤلاء
الشيخات بأعداد كبيرة في دكالة وحتى في الشياظمة، ولهن وجود كذلك في
الشاوية. وهن يعشن وسط أسرهن التي تعيش على ما يكسبن من تعاطي الفن وتعاطي
المجون. والشيخة يكون لها في معظم الأحيان إخوة أو أقارب يقومون لها
بالحماية والمساندة، فهم يرافقونها في جولاتها ويداومون على مصاحبتها
ليقوموا لها بالحماية عند الاقتضاء. ثم إن هؤلاء يعيشون في ود مع أصدقاء
الفنانة الكثيرين، ويعرفون أن ينسحبوا فلا يزعجون زائريها. والرأي العام لا
يتحرج من القبول بهذه العادات، ولا هو يحط من قدر هؤلاء النساء. ويمكن
للشيخة أن ينعمن بعيش رغد على وجه العموم، ما لم يكن يتعرضن للاستغلال أو
للتغرمي من القياد، الذين يسلبونهن معظم ما يكسبن.
وقد لا يجرؤ عامة
الناس في دكالة على التدخل القاسي في الحياة الخاصة للشيخات، بحيث إن
الدكاليات هن أبعد من يكن نموذجاً في هذا الإطار. فإن ما تتصف به هؤلاء
النساء من غنج ودلال، بله سفة ومجانة، أمور تثير انتباه الرحالة والمسافر
الأقل تحاملاً. فهن يكلمن الرجال وسط الحقول، ويخضن وإياهم في الأحاديث
الجريئة والفاحشة من حول البئر، ولا يتحرجن من النداء عليهم من بعيد
ومراودتهم على أنفسهم. والبغاء شيء شائع داخل الأسر، وما أكثر الأزواج
المتساهلين المتغاضين. وقلما يحدث عند الدكاليين الطلاق بسبب الخيانة
الزوجية، وأما قتل الزوجة بدعوى الخيانة الزوجية فشيء يكاد يكون عندهم
مجهولاً.
الضيافة
إن
العادة الشائعة في بعض المناطق من الجزائر في دعوة الضيف إلى قضاء ليلة مع
إحدى فتيات البيت تجدها كذلك عند كثير من قبائل دكالة، وتكاد تجدها كذلك
عند سائر قبائل الشاوية. والناس في هذه القبائل المغربية، تماماً كما هو
الشأن عند بعض القبائل في منطقة القبايل، يسألون الرجل الذي يطلب ضيافتهم،
هل هو «ضيف الجماعة» أم «ضيف الخيمة»، ففي الحالة الأولى يُذهب به إلى خيمة
جماعية تقوم في كل دوار، وإليها يُحمل إليه الأكل فيقضي فيها الليلة من
غير أن يُلزَم بشيء نحو أحد [من أفراد القبيلة]. وأما في الحالة الثانية
فإن أحد أفراد الدوار يذهب بالضيف إلى خيمته فيقدم إليه الطعام ويحيطه
بالرعاية والعناية، ثم يعرض عليه أن يتخير من فتيات الأسرة، ولا يعرض عليهن
من المتزوجات، ليقضي معها الليلة. ويكون ملزماً في اليوم الذي بعد بتقديم
هدية إلى رب البيت، كأن يدفع إليه بقرش أو اثنين. والقياد العارفون بهذه
العادة يفرضون من الغرامات على الخيام التي تضم من حسان الفتيات أكثر بكثير
مما يفعلون بالخيام الأخرى التي لا يوجدن فيها. والأرامل من النساء يفعلن
كما تفعل الفتيات، ويوحى إلينا أنهن ليسوا دونهن نزقاً وطيشاً.
التعليم الإسلامي
غادرنا
سيدي بنور وضريحها ذا القبة المربعة المكتسية من القرميد الأخضر. وبأخذ
يتراءى لنا الجبل الأخضر، غير أننا سوف لا نصل إليه، كما نؤمل، في هذا
المساء، ذلك بأننا كنا حتى الساعة الرابعة وعشر دقائق لم نجاوز دار القايد
السابق الحاج بن عبد الله، فكنا نرى أن قافلتنا البطيئة لن تبلغنا ذلك
الجبل إلا بعد مسير ساعتين ونصف. وها إن منظر البلاد قد تبدل تماماً؛ فنحن
نسير الآن في حصى دقيق لا تزال تكسوه أزهار الربيع ويتخلله نبات الحلتيت
تحت الأرجل، لكن ما عدنا نرى من حولنا الأراضي العامرة بالزراعات، فالبلاد
معظم أراضيها تُتخذ للرعي، بله تُتخذ للرعي الواسع.
ومررنا بقرب دشر به
مدرسة، فتناهت إلى مسامعنا أصوات التلاميذ المخنخنة الرتيبة وهو يتلون آيات
من القرآن. وقد سبق لابن خلدون أن جاء قبل خمسمائة سنة بوصف للطريقة التي
كان يجري بها التعليم في بلدان المغرب (وهو يمايز بين بلدان المغرب
وإفريقية)، فلاحظ أن التعليم في المغرب كان يقوم أساساً على حفظ القرآن، من
غير فهم ولا استيعاب للمعاني. والطالب المغربي الذي يفلح بعد سنين عديدة،
والتنكيل الذي يقع عليه من شربات السوط، في أن يخزن في ذاكرته القرآن
بآياته الستة آلاف ومائتين يُفرَغ عليه لقب فقيه، الذي له عندهم حظوة
ومنزلة، غير أنه لقب قد لا يكون له بستحق، ذلك بأن هذا اللقب يعني في
الحقيقة «العالم الشرعي». وأما إذا جمع إلى حفظ القرآن لمعرفة بأصول اللغة
وألم بعض إلمام بالمختصر الفقهي لسيدي خليل، وحفظ بعض القصائد التي قيلت في
مدح الرسول، من قبيل «البردة» و»الهمزية» للشيخ البوصيري فيحق له أن يكتسب
لقب «العالم». وأياً ما يكن فإن المعرفة الحقيقية ليس لها دور كبير [في
حياة هؤلاء الناس]. وقد أصبح التعليم الإسلامي لا يزيد اليوم عن اجترار
وترديد عقيمين. وقد سبق لابن خلدون أن ذكر أن المغاربة كانوا يعتقدون يظنون
أن «المعرفة إنما تكون بحشو الأذهان». فلا يزيد العلم عندهم عن الحفظ.
ولذلك فالمستشرق الأوربي مهما بلغ من العلم يدخله المغاربة في الجهال لأنه
لا يحفظ شيئاً. ولفظ «العاقل» في الدارجة العربية يعني «شديد الحفظ» كما
يعني «النبيه». ولذلك فأشهر الأساتذة عندهم من لا يحتاج في الدرس إلى كتاب
أو تقاييد. والتلميذ إذا رغب في الحفظ، ولم يكن لديه ملكته، التجأ إلى شتى
الوسائل، ولم يقعد عن استعمال المخدرات والطلاسم. ولهذه الغاية تراهم في
بعض الجهات يفرطون في تناول نبات الأطرب، المسمى عندهم «البلايدور»، لأن
ثمار هذا النبات معروف لديهم بأنه يزيد في ملكة الحفظ.
التسول المدرسي
وقد
كنا بين الفينة والأخرى نلاقي على الطريق بعض التلاميذ في رث الثياب، فهم
يأتون ليعرضوا علينا الألواح التي كتبوا عليها بكثير من المشقة بعض الآيات
القرآنية باستعمال «بالسمق». وتلك طريقة في طلب الصدقة. ومنهم من يلاحق أحد
مرافقينا المسلمين وهو يقول له : «حررنا يحررك الله»، ذلك بأن الفقيه يمنح
تلاميذه العطلة أحياناً مقابل نقود يدفعونها إليه. وقد ظل بعض الصبة
الصغار يطاردوننا طوال الظهيرة مشهرين ألواحهم الصغيرة لكنهم لم يحصلوا منا
على شيء. وكذلك يقومون بهذه الجولات في الدواوير، وهي غير الجولات التي
يقومون بها بمناسبة الاحتفال بالختمة، أي الانتهاء من حفظ بعض أجزاء
القرآن.
ولا ترى الطلبة من كبار السن والمتقدمين في الدراسة يستنكفون من
التسول. فإذا مررنا أمام إحدى هذه المدارس خرج إلينا هؤلاء الطلبة ليطلبوا
إلينا «التحريرة» دون استحياء. منا بدون استحياء، قائلين : «باش نصبنو».
وتلك عبارة راسخة عندهم؛ وحتى إن المخزني العامل لدى أحد كبار الشخصيات
الذي حظينا عنده بالضيافة قد جاء في اليوم الذي بعد يرددها على مسامعنا،
ليطلب إلينا إكرامية لم يكن لنا منها مفر. فالمغربي مستول في المقام الأول،
ولا يستنكف أن يطلب الصدقة حتى من عند أولئك الذين يحمل لهم الاحتقار
الدفين، وهذه من أحط الصفات التي يتصف بها، غير أننا لا نريد بحديثنا ههنا
غير السواد من العامة المغلوبة على أمرها.
وفي الساعة الخامسة وخمس
وثلاثين دقيقة حططنا رحالنا في دشر صغير، أي مجموعة من النوايل والخيام
الثابتة في مكانها. ويُعرف هذا الدشر باسم دشر الحاج محمد بن رحال. وقد
تحدثنا إلى أكبر الملاك في هذا المكان، وهو مخالط فلاحي لأحد كبار التجار
اليهود الأنجليز في آسفي، وعلى الرغم من ذلك فقد قابلنا بسورة من التعصب
وقابلنا بكثير من الازدراء. ولقد سألته بضعة أسئلة فكان يرد عليها بكلمات
مقتضبة. ثم بدا لي كأنما يبغي بدوره أن يطلب مني شيئاً ما، وسرعان ما
انفرجت أساريره، وانتحى بي جانباً وهو يتبسم ليطلب مني بكثير من التذلل
والخنوع شيئاً من النقود. ولقد لبثت تعقد لساني الدهشة والاستغراب كيف لهذا
العجوز الكثير المال أن يطلب إليَّ الصدقة بكثير من الصغار كأنه بائس من
البؤساء. فاهتبلت تلك الفرصة لأنتزع منه بعض المعلومات من قبل أن أعطيه أي
شيء، فإذا هو يمدني بها في سهولة كبيرة، ثم نفحته قرشاً. فتبسم في حينه
دلالة على الارتياح، وسرعان ما نهض من غير أن يشكرني، وابتعد عني وجعل
يسير كأنه نبيل من النبلاء، ثم لم يعد يهتم لأمري فكأنني لم أعد موجوداً.
ولاشك أنه واحد من أولئك المحميين الذين يقولون عن التاجر الذي كان سبباً
في ما حازوا من ثراء : «إن عندي كلباً جيداً من الكفار ليحميني من القايد».
فيا له من طبع معقد هذا الذي نراه من هذا المسلم المتعصب الذي يخالط
يهودياً ويطلب الصدقة من مسيحي!
أشغال البدو
تنبهنا
من نومنا في الليل، قبل الفجر بكثير، بفعل جلبة غريبة. فقد كانت الأصوات
ترتفع في الدواوير بالغناء، يرافقها قرع مصم متواصل. وكانت تلك الجلبة
تنتقل من خيمة إلى أخرى، وتتلاقى في ذلك الجو الهادئ وفي صمت لا تكاد يقطعه
غير صياح بعض البهائم. فماذا يكون ذلك الغناء الرتيب الذي يخالطه شجى،
والذي لولا إيقاعه المتسارع لكان أقرب إلى الشكاة أو النواح؟ فهل هي أدعية؟
أم أغان للحب؟ كلا، بل هي أغاني العمل تتغنى بها النساء وقد شرعن في عملهن
اليومي الشاق بطحن القمح في الأرحى يديرونها بالأيدي ليضنعن منه الخبز
اليومي. ويا لهن من مخلوقات بائسة تفني زهرة العمر في العمل البيتي الشاق،
فهن يشرعن في العمل قبل أن ينبلج نور النهار بتحسس الأشياء، فيما يكون
أفراد الأسرة لا يزالون نياماً. فإذا انبلج الفجر بعد قليل، ونهض الرجال
وأدوا الصلوات وجدوا «الحسوة»جاهزة، وهي وهي حساء الشعير، التي تكون هي
فطورهم الأول. فالمرأة تعجل بإيقاد النار، وفي انتظار أن يغلي الماء في
القدر تذهب لحلب الأبقار. وها إنها تدير «الحسوة» على سائر من في الخيمة،
وبعد ذلك ستذهب لتقدم الكلأ للماشية، ثم تسارع إلى تهييء الخبز غير المخمر
الذي سيحمل منه الرجال الذين سيتغيبون عن البيت طوال اليوم، إما للاشتغال
بالأرض أو الاشتغال بالرعي. وبعد ذلك تحلب النعاج أو العنزات حسب الفصول،
وتخرج المواشي، ثم يكون لها أن تستريح قليلاً. ثم يكون أفضل أوقات اليوم
عندها. فهي تخرج مع رفيقاتها من الخيام المجاورة لجلب الماء من العين
القريبة. وقد تكون العين بعيدة جداً، فلا تكثر عليها النساء، ويطول بهن ملأ
الجرار كثيراً، فهن يطلقن العنان للثرثرة ويدبرن للمكائد وتحتذ الغيرات
وينسجن الصداقات. ثم يمضين مثنى مثنى أو في مجموعات صغيرة إلى الأراضي غير
المزروعة لحمع الحطب لأجل المواقد. فالخشب نادر، وأكثر ما يستعملن النباتات
الشوكية الفقيرة ومعظمها من الأشواك. فكل واحدة من النساء تتخذ لها منه
كومة تجعلها على ظهرها ثم تعود إلى الدوار. ويكون الوقت حينذاك لإعداد
الوجبة الثانية، وقوامها «عصيدة» من دقيق الدرة يسقى باللبن، أو «الدشيش»،
وهو دقيق الشعير الذي يهيأ على البخار ويزاد إليه البصل والقرع. ثم تعود
المرأة الحبوب، ثم يتعين عليها بعد ذلك أن تهيء وجبة المساء (في حوالي
الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الزوال)، وهي تتألف عادة من «رغايف» تهيأ
فوق صحن أو «طاجين». وأما الوجبة الأخيرة فهي تكون في حوالي الساعة التاسعة
أو العاشرة ليلاً، وهي تشرع في تهييئه مع مغرب الشمس، وتتألف هذه الوجبة
عند الأسرة الميسورة من كسكس باللحم، وإلا فكسكس بالبصل والقرع. وقد تشتغل
النساء خلال أشغال البيت بمخض الحليب، فتفصل الزبدة عن اللبن. وقد أو تحوك
الصوف لصنع منه ألبسة، أو تنسج الزرابي، أو تصنع الأواني الفخارية وتقوم
على تجفيفها. والمرأة تشتغل بكثير من النشاط، حسب الفصول، بالأشغال
الفلاحية التي يقع معظمها على النساء، في ما خلا أعمال الحرث التي يتولاها
الرجال وأعمال الحصاد التي يتكاتف لها الجميع. فالمرأة هي من تزيل الأعشاب
الطفيلية، وهي وحدها التي تلتقط السنبل من الأرض بعد الحصاد. وهي التي في
بلاد الأركان تعنى بقطف ثماره واستخراج الزيت منه، وتكتفي به عن سائر
الأعمال الفلاحية. تلك صورة للحياة القاسية التي تحياها البدويات.
أناشيد الرحى
والنساء
يروحن على أنفسن في هذه الحياة الشاقة التي يحيينها بأغان من قبيل تلك
الأغاني التي كن يتغنين بها في هذه الليلة فيما يطحن القمح بالأرحى. وها هو
نموذج لتلك الأغاني :
«حمقتني يا الرحى وطول الليالي معذباني.
حمقتني يا الرحى ويديا معياني
ما نسمح لمي واللي زوجوني
وجاوا بالقاضي والشهود!؟
بعصايب بحال اليهود
وهذا نموذج ثان :
وآفينك آخيرة، غبرت تحت الأرض في الظلام
سجنوك في دار ما فيها غير الظلام
خليتي أحمد وأختو محجوبة
غبرت يالزينة مارجعت
يا لغزال مولات الصاك الزين.
وهذا
كلام لا يفيد كبير شيء، والأغنية التالية أوضح معاني. وهي أغنية تتردد بين
الخيام؛ فامرأة تتغنى بالمقاطع المؤلفة لهذه الأغنية وأخرى تردد دون تبديل
لازمة أوردها ههنا مرة واحدة دون تكرار :
كال الفار عليها نموت (لازمة)
آش جرى للفارة؟
ولا يقتلوني
زينة ومن دار كبيرة
عمرها ما خرجت من الدوار
وما حضرت عرسات
دزتها كادة للحايك
وشايط ليها بش الدير قراب
وديناها لطرف الدوار
وحسبوها شفارة
وكانت بكرة فأول الصيف
تضاربوا عليها الكزارة
ولاشك
أن أغاني العمل تعود إلى عصور قديمة، ولذلك اهتم دارسو الفولكلور في
السنوات الأخيرة بجمعها وتدوينها. وإن من شأن هذه الأغاني أن تجلو لنا
وجهات النظر الخبيرة التي أطلقت منذ بضع سنوات عن العلاقات بين الإيقاعات
والعمل والفن؛ فكلما كان العمل موزوناً إلا وتحقق له الانتظام، والحال أن
الانتظام هو الجمال. ثم إنني يساورني اعتقاد أن الغناء يبعث عليه شيء يفوق
الإيقاع، حتى وإن لم يكن إلا المجهود الذي يُبذل في الغناء، الذي أفاضت
الدراسات التشريحية المعاصرة في تناول أحد تدريباته العذبة المتواترة في
الأعضاء، يزيد من يزيد من القدرة على العمل. وكذلك فالغناء محرك نفسي؛ فقد
كان الشهداء المسيحيون ينتظرون الحيوانات في السيرك وهم ينشدون، وكذلك كان
الرهبان يصعدون منشدين إلى المحارق أو يصعد إلى منصات الإعدام. والذي يبدو
لي أن الإنشاد في مثل هذه الحالات المشابهة لا يفعل فعل المخدر أو المبنج
فحسب. ونشيد العمل يأتي بوجه عام بروح المنشد. ولا تتأثر هذه الأناشيد أولا
تكاد تتأثر بالتنوعات الفردية، وإنما هي تعكس في المقام الأول الحالة
الذهنية للجماعة برمتها. وكلمات الأناشيد التي يتغنى بها المغاربة تكون على
وجه العموم عذبة وحزينة ومطبوعة بطابع ديني. وها هو ذا نموذج للنشيد الذي
يتغنى به دكاك الأسطح :
باسم الله ألواحد أياربي
آ ربي الحافظ من كلشي
وعليك معول أسيدي ربي
يا من جعل تو كالوا في الله العلي
يسافر في النجا
ويروح في النجا.
وتشير
هذه الكلمات الأخيرة إلى المأساة التي يكابدها العامل يجبر على الرحيل عن
بلده سعياً وراء لقمة العيش، فالابتعاد عن البلد يكون عند المسلم دائماً
مصدراً للكثير من المعاناة. والنشيد التالي، وهو خاص بالدكاكين وسائر
العاملين في البناء، فيه ترجمة للمشاعر نفسها. ويتحدث المنشد عن ولي البلاد
التي يعمل فيها :
أنا ضيف الله أمولاي بوشعيب
أضامن المؤمنين وأهل الله
أمولا بوشعيب
يا إمام الحجاج أمول العكب
أنا طالبك ضيف الله.
وادعي معايا أمولاي بوشعيب.
فهذا العامل يشتغل في أزمور. والنشيد التالي يتغنى به عامل آخر في الصويرة، فهو يتوجه بالدعاء إلى ولي هذه المدينة.
أنا طالب ضيف الله أسيدي مكدول
آلركراكي أنا في حماك
راني مضيوم
وقاصدك يا سيدي
تعيني وتعاوني
وتراه يتذكر أحياناً مسقط رأسه ويتذكر الولي الذي يؤمن ببركاته.
اللي بغا حاجتو تقضا لو
يمشي لوزان يزور
تفاجى عليه الأحزان وتخفف عظامه
وتقضى لو حاجته في نهاره
وأحيانا يكون التذكر لا يطلب منه المنشد شيئاً، كما في النشيد التالي :
يا جبل العلم
يا جبل الورد
آمولاي عبد السلام
يا غاني الزوار
وكذلك
العمال الذين يشتغلون بحفر الآيبار الجوفية المعروفة بالخطارات العجيبة،
والتي سنعود إليها بالحديث في ما بعد، يتغنون بشبيهة بهذه الأناشيد مشابهة،
ولا نرى حاجة إلى إيراد نماذج لهذه الأناشيد غير زيادة صفحات هذا الكتاب.
وسأقتصر منها على إيراد نشيدين اثنين ذوي طابع ديني خالص، ومطبوعين بطابع
الإسلام «الحقيقي»، ومعناها الحرفي «الاستسلام لله». ومؤشرات إسلامية من
قبيلا :
باسم الله وبالله
وعلى الله عولنا
يا ربي سهل علينا ولا تحاشمنا
يا من جدنا بيك تعرف
يا مولانا حقق رجانا
يا مولانا
الصلاة والسلام عليك أرسول الله
لا إلاه إلا الله محمد رسول الله».
وعلى
هذا النحو يحصر الإسلام شخصية المنشدين المساكين في دائرة الإرادة الإلهية
الصارمة التي لا تلين، مثلما تحكم عليهم ظروف حياتهم البائسة بحياة ملؤها
الشقاء.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 10 -
الأهالي في منطقة شمال إفريقيا ينفرون من كل ما يدخل في الإحصاء والعد والتقدير
جبل فطناسة
(29
مارس). كان انطلاقنا في الساعة الخامسة وخمس وثلاثين دقيقة صباحاً ووصولنا
في الساعة السادسة واثنتي عشرة دقيقة إلى سيدي رحال، وهو دشر جميل به
مجموعة من النوايل، وقطعان عظيمة من الماشية ويسوده جو من الحيوية العارمة.
وبعد خمس دقائق طرقنا الشعاب التي يشيع عند الناس أنها شعاب الجبل الخضر،
وهي في الحقيقة شعاب جبل فطناسة. وأما الجبل الأخضر فهو إنما يأتي امتداداً
لهذه السلسلة على بعد نصف مرحلة في اتجاه الشمال الشرقي. والشِّعب ليس
بالواضح جداً، والجبال قليلة ارتفاع (فلا يزيد ارتفاعها عن 100 متر فوق
الهضبة)، وهي كلها مزروعة، ولا تكاد ترى فيها أثراً لغابات، وتبدو الأرض
على هيأة سلسلة من التلال الخضراء. وبعد ثلاثة أرباع الساعة مررنا بقرب دشر
كبير ولاحت لنا قبة وليه، سيدي عبد الله الحواوي بقرب الطريق، وقد جعل له
كركور على جان
الطريق. واسم هذا الولي، الذي يعني «المنتسب إلى أولاد
حواء» (فحوَّاء في العربية الفصحى تعني ابن حواء) مثار لتوريات مخلة
بالحياء أو أخطاء فادحة من لدن المسلمين الأميين، لأنهم ينطقونها «حوَّاي»،
أو يحرفونها متعمدين على هذا الوجه. ذلك بأن هذه الكلمة لها في المغرب
معنى فاحش، وقد سمع بعض الأوروبيين هذه الحماقات فوقعوا في هذا الصدد في
كثير من الأخطاء الغريبة. ويُعرف باسم أولاد حواء كثير من الفخدات
والقبائل، وهذا الاسم شديد الشيوع في منطقة شمال إفريقيا. وما كدنا نجاوز
هذا الموضع حتى تراءت لنا كراندو.
2. بلاد دكالة
يطلق
العرب اسم «حوز مراكش» على المساحات الواسعة والرتيبة من الأراضي التي
تكون ما يسميه ، أو يسمونه اختصاراً «الحوز»، أي بمعنى أقرب إلى «الإقليم».
وقد كانت هذه المناطق في السنين الأخيرة موضوعاً لمجموعة من الدراسات
الجيولوجية والجغرافية أكثر عمقاً من الدراسات التي تناولت سائر الجهات
والمناطق في المغرب. فالرسوم التي وضعها القبطان لاراس قد أرست خرائط بجميع
الخطوط الأساسية لهذه المنطقة. وجاءنا فايشر في رحلاته الممتعة بتصور
إجمالي لجغرافيتها المادية، بالمعنى الأوسع والحديث لهذه العبارة. ثم جاءنا
بريف في جولاته الجيولوجية بتصوير بليغ لطبقاتها الجيولوجية. وأما فيما
يخصني شخصياً فإنني لم أزد على أن أفدنا خلال رحلاتنا من النتائج التي
تحصلت لهؤلاء العلماء، ولا نزعم أن نأتي لها ههنا بما يتممها. ووحدها
الملاحظات ذات الصبغة العراقية والاجتماعية التي سنأتي بها في ما يقبل من
هذا الكتاب يمكن اعتبارها في قسط كبير منها من بنات أبحاثنا الخاصة. بل إن
هذا الأمر لا ينطبق حتى على هذا القسم الحالي من كتابنا، لكن يجدر بنا أن
نشير إلى أن الصفحات القابلة كانت، في ما عدا الأسطر القليلة التي جئنا
فيها بعرض جيولوجي مختصر، قد أنشأناها في عندنا ولم نرجع فيها إلى سوانا من
المؤلفين.
وتشكل المنطقة القائمة بين جبال الأطلس الكبير في الجنوب
والأطلس المتوسط في الشرق والبحر المحيط ما يسميه فايشر «مقدم البلاد»، أو
«Vorland» الأطلسية، وهو ما نسميه في الجزائر بـ «الهضبة الواقعة جنوب
الأطلسي». وهي مساحة شاسعة تتكون من منخفضين متراكبين قد انتبه إليهما جميع
الرحالة، حتى أولئك منهم قليلي اهتمام بشؤون الجيولوجيا. فأما المنخفض
الأول فهو دون 300م، وأما الثاني فدون 600م. ويفصل بين المنخفضين رصيف
يتكون من سلسلة مرتفعات، يدخل فيها الجبل الخضر وجبل فطناسة. ومن فوق
المنخفض الثاني تقوم بقايا منخفض ثالث، خاصة عند الجبل الأخضر ثم عن جبل
بني مسكين، وأخيراً عند سلسلة الجبيلات الرائعة.
جيولوجية الهضبة
يتكون
المنخفض الأول حسب بريف من سلسلة الأراضي التالية : ج : الكثبان الحالية. ب
: الدهر الرابع : صلصال رملي في هيليس. الإرسابات الأفقية الكلس - أ –
العصر القريب – الصلصال - الحشَّاد (فجوة مشابهة التعريات التي أحدثتها
البحار السابقة). 1-الترسبات المستخرجة : النضيد السيلوري شديد التموج،
وشديد النتوء وقد يكون أحياناً شديد الاختلاط.
وهذا النضيد القديم تتجه
ثناياه شمالاً 20° شرقاً. وهو يمثل مخلفات سلسلة هرسينية قديمة كانت تمتد
من الجنوب وحتى الصحراء، وتشكل ثناياها، التي كان فلامان أول من اكتشفها في
أقصى الجنوب الشرقي من مدينة وهران، وفي آخر المطاف تناولها بريف
بالدراسة على صعيد المغرب وأ. فـ. كوتيي على صعيد الصحراء. ومن المعلوم أن
اليابسة الهرسينية قد بلغ أوج اتساعها في العصر الكربوني. وعلى جوانب هذه
اليابسة أو في بحيراتها الداخلية تكون الفحم الحجري. وكذلك كان في اكتشاف
الثنايا الهرسينية في منطقة شمال إفريقيا ما بعث آمالا جديدة بعض الأمل في
احتمال وجود مناجم للفحم الحجري. والذي يبدو أنه كان في الإمكان أن يوجد
الفحم الحجري في بعض الجهات من هذه البلدان، فينبغي أن نبحث عنه في المغرب
وفي الصحراء. وإذا كنا لم نقع في المنطقة التي تهمنا على أرض حاوية للفحم،
فالأمر لا ينطبق على الجنوب وعلى الصحراء. فقد وقف فورو في أزدجر الصحراء
ووقف فيشور في الصحراء ولينز في درعة على هذه النوعية من الأراضي.
وبينما
يقع البيلوسين في السطح الأول مباشرة فوق النضيد القديم، فإنه في السطح
الثاني فإن الميساني هو الذي يغطي السلسة الأولية، إلا من بعض الأطراف
الأوسينية والجوراسية التي تتبدى في بعض الجوانب منه.
وفي الأخير فإن
الجزيرات التي في الجبل الأخضر وفي بني مسكين والجبيلات قد تشكلت من ترسبات
أيسونية فجرية. وتغطي السلسلة الهرسينية. وعليه فإن هذه الجزيرات قد
انبثقت من البحر الميساني الذي كان يصل حتى جبال الأطلس، فأزال عن الهضة
الهرسينية غطاءها الثاني والأيسوني ووضع عليها ترسبات جديدة. وأما في العصر
البليوسيني فقد صار البحر لا يطول غير السطح الأول.
وتقوم بلاد دكالة
على قسم من هذا السطح الأول، وتمتد على قسم كبير من السطح الثاني، ناحية
الجبل الأخضر. فهذا جعل دكالة تبدو في مظهرين مختلفين، يسهل أن نجد لهما
تفسيراً في الوصف الأثري المقتضب السالف.
تلال وكلس
والمنطقة
الساحلية المتكونة من كثبان ومن كلس هلسيني هي التي نوجد فيها الآن بين
الدار البيضاء وأزمور. ولقد أشرنا إلى وجود غابات المصطكا في هذه المنطقة،
وأما أبرز نباتها فهو «الرتم»، وهو ينتشر بطول الساحل الأطلسي. والتربة في
هذه سائر هذه النواحي رملية، وفي معظمها حمراء، وتكون في بعض الجهات منها
يخالطها شيء من الحصى. وهي مواتية للفلاحة. وقد رأينا أن الأهالي يقبلون
فيها خاصة على زراعة الحناء. ولا تفتقر المنطقة إلى عيون الماء، وإن لم تكن
بالكثيرة المياه. وقد ذكر بريف، الذي خص هذه المنطقة بالدراسة، أن المياه
فيها عذبة على الدوام. وأنا أورد رأي هذا العالم، لأن سوء الحظ قد شاء لي
ألا أشرب في المنطقة بين الدار البيضاء وأزمور إلا من ماء واحد، في عين
كديد، وقد وجدته شديد الملوحة والمرارة. ولربما كانت هذه الناحية استثاء،
ذلك بأني وجدت الماء في غير هذه المنطقة من الساحل كله من ذلك العذب
الزلال.
الساحل
وأكثر
ما تجد في المناطق الداخلية من هذه البلاد التربة متحجرة ورملية وحمراء.
وتلك هي التربة التي يسميها المغاربة «الحمري»، ومعظمها يتحصل من تحلل
الحجر الرملي والصخر الميساني. وإن ساحل الدار البيضاء يتكون في معظمه من
هذه التربة، وهي تربة ملائمة كثيراً لزراعة الكرم. ويعتبر البرواك أهم
النباتات التي تصلح لهذا النوع من التربة. وها هو ذا تحليل لعينة من هذه
التربة، أخذتها من ضواحي الدار البيضاء.
الخلاء، التيرس
لقد
صمدت أنواع التربة الكلسية المسانية [(هـ. م) نسبة إلى العصر الثلاثي
المتوسط] في معظم الأحيان لعوامل التعرية، فهذا جعل التربة تكتسي طابعاً
صخرياً، فقلما تصلح للزراعة. وذلك هو الشأن في مناطق عديدة، حيث نرى القشرة
الكلسية الشائعة في منطقة شمال إفريقيا وقد غطت التربة بغشاء خشن. فالبلاد
التي تتعرض التربة فيها لهذه الظاهرة لا تعود تصلح لغير الرعي. ويكون
النبات الغالب في هذه الحالة هو النخل الصغير، وهو نبات نراه كذلك في
الأراضي التي يغطيها الحمري. وهذا أمر نراه أوضح ما يكون في «الخلاء»
الواسع، أو المساحات الشاسعة غير المزروعة، التي توجد في نواحي زاوية سايس.
وأخيرا،
فغن عوامل التعرية المتعددة قد عرت السلسة الهرسينية وتسببت ي تفكك الشيست
القديم على الأرض الأكثر طينية ذات اللون الأسود المائلة أحيانا إلى
الزرقة وذات الخصوبية اللافتة والاستثنائية المعروفة تحت اسم «التيرس» الذي
كان فايشر اول من وصف خصائصه.
أصول التربة السوداء
غير
أن هذا العالم لم ينظر إلى المسالة كما نظر إلهيا بريف بان أصل هذه التربة
السوداء يعود خصيصا إلى تفكك الشيست القديم. فقد لاحظ أولا أن تقيسمات
التيرس تماثل نتوءات الشيست، ووقف في عدة أماكن بدكالة وعبدة على أنت
التربة السوداء تتموضع سواء فوق تكوين رسوبي كلسي أو فوق صلصال رملي
بليوسيني، أو حتى فوق قشرة كلسية وحسب مجالات التيرس التي لم تكن بالضرورة
منخفضات واستنتج في الخير أن الكميات الهامة من الرمل المستديرة تماما التي
ظهرت في التحاليل تؤكد أن الرياح وحدها هي التي كونت هذه التوضعات. لكن
بريف يذهب عكس هذا الاتجاه ويقول بان القطع التي يوجد بها التيرس هي بقايا
«غدير» كما يقال في إفريقيا الشمالية، ويذهب إلى أن في كل مكان تظهر فيه
الشيسات القديمة يتكون التيرس، وأكبر نسبة من المواد العضوية الموجودة في
هذه التربة تجعله يقارن بشيء مشابه لما يحدث في ترباتنا، ويضيف إلى انه
يوجد التيرس خارج المناطق التي نهتم بها نحن الآن، ويشير إلى سبخة بني حسن.
ومن
المحرج جدا بالنسبة لغير المختص أن يكون له موقف في هذا النقاش. فإذا كان
بريف يؤكد بطريقة حاسمة بأنه لا يمكن أن نجد التيرس إلا في المناطق التي
بها شيست قديم، فسيكون الأمر قد حسم له نهائيا. لكن فايشر يعارض هذا الرأي
تماما، حيث يستخلصن انطلاقا من الوجود الغامض لحبات الكاورتز في التحليل،
دليلا لصالح أطروحته، فقد لاحظ هذا العالم الجزائري أن هذه الحبات لا تمثل
في المجهر الخديدات الخاصة بالرمال الإيولينية فقد تكون المياه هي التي كان
وراء استدارتها. لكن فايشر ينفي هذه الفرضية بدعوى أن طبيعة جريان المياه
في المناطق الواسعة والأفقية لا يسمح بذلك. فوجود التربة السوداء المكونة
طبيعيا بالسبخات في مناطق أخرى مثل بني حسن ليس أمرا حاسما أيضا، لأنه حسب
فايشر أن ترابا أسود لا يعني أنه الأصل نفسه الموجود في تيرس الشاوية
ودكالة، وأن تسمية التراب الأسود تيرس والأحمر حمري لا علاقة له بالبحث
الجيولوجي. ولجل ذلك فإن تنوع مكونات التيرس كما ظهر من تجارب فايشر ليست
مقنعة أيضا. فغياب التيرس في الشريط الممتد على الساحل وأيضا على طول ام
الربيع يذهب في صالح الفرضية الألمانية، فالمياه في هذه المناطق يمكن أن
تكون قد جرفت التيرس. ولا يمكن استخلاص أي نتيجة حاسمة بكون أن التيرس يظهر
فقط في هذه الأماكن، وأن هذه الرياح بعثرته بطريقة غير منتظمة. ولا يمكننا
أن نقدم معطيات صحيحة في موضوع أصل الطمي الإيوليني.
ويجدر بي أن أعترف
بأننا قد لفت انتباهنا خلال رحلتنا في سنة 1901 لدى مرورنا بالشاوية،
الوضعة الأفقية التامة التي يوجد عليها العديد من صفائح التيرس. وهو شيء
رأيناه في منطقة «الصخور»، وهي تتكون من صخور ترتفع أفقياً عن سطح الأرض،
وتبدو في صورة حشاف البحر. فالتيرس يصطدم بصورة أفقية بسفوح هذه «الصخور»
ولا تتراكم عندها كما يحدث في الكثيب الرملي. ومما أذكر في هذا الصدد أنه
قد كان في تامركشيِّيت، عند الشاوية، مخيم أقمناه بجوار هذه الصخور، وقد
كان مظهر التربة الذي جئنا له بذلك التصوير لائحاً للعيان. وينبغي أن نزيد
إلى ما قلنا أننا رأينا بقرب التيرس قد تكوَّن منخفض صغير وفيه غدير تأتيه
قطعان الماشية لترد منه. وقد بدا لنا أن هذه العوامل تصب مجتمعة في التصور
الذي جاء به بريف. بيد أننا لا يسعنا أن نعول على هذه الانطباعات للجزم في
قضية معقدة لم يخلص فيها كبار المتخصصين إلى اتفاق.
وقد كنت أخذت خلال
رحلتي في سنة 1901 ثلاث عينات من تربة التيرس، تعرف كذلك بخصوبتها، وقد
استقيتها من ثلاث مناطق مختلفة. فأنا العينة الأولى فقد أخذتها من تربة
التيرس في الشاوية، وقد أخذتها يوم 10 يونيو 1901 من عند أولاد سعيد، غير
بعيد عن ضريح سيدي عمارة السمامي. والعينة الثانية أخدتها من عند بني احسن،
وهي التربة التي تحدث عنها بريف، وقد أخدت هذه العينة في يوم 23 يونيو
[1901] من التربة المتكونة من المرجات على مقربة من وادي سبو في الموضع
«القنيطرة» (عدي وعلي)، في الشطر الأول من الطريق الرابطة بين المهدية
ومكناس. وأما العينة الثالثة فقد أخذتها في يوم 8 يوليوز من قبيلة الغرب،
شمالي فاس، في الموضع المسمى «الكلابة»، على وادي سبو
وقام ج. فوف بفايل
بجمع عينات من التربة السوداء في الشاوية. وسنورد ههنا المقادير التي قام
بنشرها. فالتربة «أ» كثيب رملي أسود يستمد خصوبته مما يقوم فيه من نبات.
والتربة «ب» تربة سوداء وقع عليها المؤلف في أهم مناطق الغرب والحوز التي
مر بها. والتربة «ج» تربة سوداء وقع عليها في الأجزاء المرتفعة من المناطق
الداخلية في الشاوية، وهي تربة شديدة كثافة وصلابة. والتربة «د» تربة شديدة
السواد وقليلة الشيوع، تتكون حسب بفايل من تحلل الميلوفير. والنوع الأخير،
التربة «هـ»، هي التربة المألوفة الشائعة في سائر مناطق الشاوية. ويذهب
الجغرافي الألماني إلى أن أنواع التربة السوداء التي في المغرب تشترك في
مجموعة من الخصائص المتشابهة، لكنها تختلف كثيراً في أصولها؛ فهو لا يؤيد
الأطروحة القائلة بالأصل الريحي في تكون هذه الأنواع من التربة.
واللافت
في تحاليل بفايل المقدار الوافر من الآزوت. غير أن بفايل لم يبين على وجه
الدقة، كما فعل فايشر، الأماكن التي منها استمد هذه العينات. ولذلك فمع
أننا لا ننوي أن نحط بأي حال من القيمة العالية للمواد التي جاء بها بفايل،
فإن التقديرات التي سنأتي بها في ما بعد لم نرجع فيها إلى غير تحليلاتنا
الخاصة :
خصوبة التيرس
فالتربات
التي قمنا بالتقاطها قد كانت في سائر المناطق ذات خصوبة متوسطة، وقد أخذنا
هذه العينات من أماكن تشغل فيها الفلاحة نطاقاً واسعاً ومتجانساً وفي حقول
تداوم عليها الفلاحة وفي وقت تال على موسم الحصاد. وقد أخذنا التربة
بكميات كبيرة ومن عمق مناسب وفي مواضع عدة من الحقل الواحد. وعنينا كثيراً
بخلطها، كما قمنا بإرسال ثلاثة كيلوغرامات من كل نوع من أنواع هذه التربة
لأجل التحليل.
لم تكن نتائج تلك التحاليل بالمشجعة كثيراً بالقياس إلى
الحماس الذي طبع الحديث عن أنواع التربة السوداء في هذه الآونة الأخيرة.
فنحن أولاً إذا قارنا التيرس الذي في المناطق الداخلية من الشاوية بالتربة
الحمراء (الحمري) التي في الأراضي الساحلية في الساحل تبين لنا أنها أن
النوع الثاني لا يقل [خصوبة] مةن كثير من الجوانب عن النوع الأول. وإنما
يختلف الحمري عن التيرس بالدرجة الأولى بكثرة اشتمال الأول على الصوان؛
فالحمري تربة رملية، فيما التيرس تربة طينية تعسر فيها الفلاحة. لكن
التربتين اثنتيهما متناسبتان كثيراً في نسبة الدبال فيهما، وفي ضعف نسبة
الآزوت فيهما. إلا أن الحمري يمكن اعتباره غنياً بالحامض الفوسفوري، فيما
هو ينقص في التيرس، وكذلك ينقص فيه الجير، وهو عنصر له أهميته على بعض
الزراعات، من جملتها الكروم. وإذا ما انتقلنا الآن إلى مقارنة هذه التربة
السوداء بأنواع التربة في الجزائر فسنرى أن نسبة الآزوت فيها قليلة بالقياس
إلى التربة في معظم الأراضي الفلاحية في الجزائر. كما وأنها تشبهها من حيث
نقص الحامض الفوسفوري فيهما وغناها من البوتاس. وأما إذا نظرنا إلى
التربتين من حيث مقدار الجير فيهما فإن المقارنة تصير إلى صعوبة كبيرة؛
بحكم التنوع الشديد الذي يطبع هذا العنصر الأخير. وبودي الآن أن أقدم، على
سبيل حصر الحديث، المقادير التي توجد بها العناصر الأربعة في تربة متوسطة
الخصوبة في جهة ميتيجا. فمقدار الآزوت فيها 1.70، ومقدار الحامض الفسفوري
0.54 ومقدار البوطاس 3.93 ومقدار الجير 5.81. وهذه مقادير تزيد عن قريناتها
في التربة التي في الشاوية من زاوية التحليل الكيميائي. ونورد كذلك عينة
من تربة أخرى من المنطقة نفسها، وهي تربة على قدر كبير جداً من الخصوبة:
فمقدار
الآزوت فيها 2.08 ومقدار الحامض الفوسفوري 2.60 ومقدار البوطاس 6.23
ومقدار الجير 24.63، وهذه مستويات تفوق بكثير م نجد منها في تربة التيرس في
الجزائر [في بلادنا؟؟]. لكنها هذه المقادير لا تزال مع ذلك دون المستويات
التي يجعلها لها بفايل. فما السبيل إلى تفسير هذا التناقض؟ لست أدري. وحسبي
أن ألاحظ أن التحليل الذي جاء به ثـ. فايشر يتفق كثيراً وتحليلي. غير أننا
مهما ارتضينا التحليل الذي جاء به ثـ. فايشر للتربة التي في عبدة من حيث
متوسط الخصوبة فيها، فإنه يظل مع ذلك دون ما يقال عن مقدار الخصوبة الهائل
في التيرس. أفيكون بفايل قد اختار أنواعاً من التربة على قدر عظيم من
الخصوبة؟
ومهما يكن فالذي نرى أن الاقتصار على تحليل التربة وحدها لا
يمكن أن يمدنا بما يكفي من الأسس المسعفة لنا على تقدير يكفي مستوى الخصوبة
في أرض من الأراضي. فينبغي لنا أن نلاحظ أنه إذا كانت طبقة التيرس شديدة
العمق، وأن سطح التربة تتوفر له الخصائص الكيميائية نفسها التي تدخل في
تكوين باطن التربة، فإن في الإمكان أن توجد احتياطيات كبيرة من العناصر
المخصبة، وهذا أمر ثابت في بعض الأراضي في مصر؛ فهي على قدر هائل من
الخصوبة، لكن التحليل الكيميائية يميل إلى أن يظهرها في صورة الأراضي
الفقيرة. وقد بات معلوماً لدينا اليوم أن الحبوب، من قمح وشعير ودرة
وسُلْت، تضرب بجذورها حتى متر ونصف في باطن الأرض، وربما تجازوت هذا العمق
فيها. وللظروف المناخية كذلك تأثير راجح على النباتات، وهي تعتبر عاملاً من
الأهمية بقدر ما هي العناصر الداخلة في تكوين التربة. فأنت ترى بعض
الأراضي الجيدة، الزاخرة بالمواد المخصبة، من قبيل أراضي الضايات في
الجزائر، ثم إن محصولها يكون دون ما يتوقع منها، بسبب من عدم انتظام
التساقطات عليها. ثم إن «البيولوجيا الخاصة» لأنواع التربة في منطقة شمال
إفريقيا وما يقع في سطحها وجوفها؛ حيث المكونات الصالحة للزرعة، من الظواهر
الفيزيائية والكيميائية، التي تطرأ على السطح في العمق صالحة للزراعة،
بفعل ظروف مناخية خاصة من كل الوجوه، هذه العوامل لا تزال المعرفة بها
قليلة، بما لا يسعف على التوسل بها في تقدير مستوى الخصوبة في أرض من
الأراضي.
إن الوسيلة الحقيقة للتثبت من مردودية أراضي الشاوية، وهو
المشهورة بمردوديتها الكبيرة، تكون بمعرفة مقدار الإنتاج في الهكتار
الواحد، أو معرفة كم تغل البذور في العادة من المحاصيل. بيد أنه مؤشر يكاد
يكون من المستحيل الحصول عليه من الأهالي، ولم نجد تاجراً واحداً من أولئك
الذين يتاجرون وإياهم في الحبوب على السواحل، فيفيدنا في هذا الأمر.
فالريبة والحذر الشديد اللذين يتصف بهما المغاربة، والنفور الذي يجدون،
كمثل سائر الأهالي في منطقة شمال إفريقيا، من كل ما يدخل في الإحصاء أو يمت
بصلة إلى العد والتقدير بوجه عام، تجعلهم يمتنعون امتناعاً من الإجابة عن
هذا النوع من الأسئلة. وكل ما يمكننا قوله أننا رأينا تربة الترسة تزخر من
أجود المحاصيل؛ فسيقان السنبل طويلة وقوية وصلبة، والسنابل متساوية في
الارتفاع، وتشكل من فوق الحقل بساطاً منسرحاً ليس فيه إقواء، بهجة لناظري
الفلاح، لكن ربما كان يجدر بنا أن نتفحص تلك السنابل، لكن يلزمنا أن نعترف
بافتقارنا إلى الكفاءة المسعفة لنا على هذا الافتحاص.
ويمكننا القول،
بالعودة إلى المسألة التي تدارسها كل فايشر وبريف، بشأن أصل التيرس، إن
تحليلات التربة ليست هي القمينة بأن تأتينا بحل لهذه الأمر. وإذا أجزنا
لأنفسنا أن ندلي برأينا في هذا النزاع، فبودنا أن نلاحظ أولاً أن الخلافات
بين هذين الباحثين إنما تقع على صعيد التربة السوداء في كل من الشاوية
ودكالة وعبدة، وليس بينهم خلاف بشأن أنواع التربة في منطقة بني حسن أو في
غيرها من المناطق؛ فهي تربة لا يجادل ثـ. فايشر في أصلها الرسوبي. ثم إننا
سنلاحظ بعد ذلك أن بريف قد كتب : «بقدر ما يحدث التجفيف (في البحيرات
الشاطئية حيث يوجد التيرس)، إلا ويختلط الدبال الناشئ ببعض أنواع الطمي، ما
تحمل منه الرياح، وما تزخر به المياه التي تسيح على وجه الأرض، فيشكل بذلك
أنواعاً من التربة الطينية السوداء» (ص. 5، من «t» إلى «p»). ومن جهة أخرى
فإن ثـ. فايشر يوافق على «أن الترسبات العضوية التي تزخر بها الأرض يأتيها
معظمها من الغبار الذي تحمله الريح، ويأتيها بعضها من بكميات هامة، تنتج
في جزء منها التوضعات من غبار الريح، وفي جزء آخر الدبال المتخلق في الموضع
نفسه»، ثم «تسم الرطوبة الناشئة عن التساقطات كما تسهم النباتات في تثبيت
الغبار ومراكمته». فالذي يبدو أن كلا التفسيرين يمكن يكونا صحيحين، وأن
العالمين كليهما قد كانا على صواب.
معنى كلمة تيرس
وبودي،
قبل أترك هذا المجال الوعر الشائك، أن أدلي بملاحظة، وهي أن كلمة «تيرس»
لا تعني من الناحية الاشتقاقية «التربة السوداء»؛ فلا وجود لفكرة السواد في
جذر هذه الكلمة. وكلمة «التيرس» واسعة الاستعمال في الجزائر، ويراد بها
التربة الطينية العسير على الفلاحة، فهي تكون صلبة في الصيف وموحلة في
الشتاء. وكثيراً ما تُستعمل هذه الكلمة كذلك في صيغة الجمع فيقولون
«توراس». فقد سمعنا بعض الأهالي ممن انتزعت أراضيهم في منطقة سيدي بلعباس
يقولون : «خذاو لينا التوراس»، والمعنى أنهم «انتزعوا منا أراضينا الترسية
الجيدة»، يريدون الفرنسيين. وفي الجزائر بلاد عديدة تُعرف باسم التوارس،
خاصة ناحية عمي موسى. والاسم نفسه تعرف به فخدة من قبيلة المراحبة (وهي
جماعة مختلطة في البراز). ثم إن من اليسير أن نرد الكلمتين «الترس»
و»التوراس» إلى الجذر «ت. ر. س»، الذي يعني الدرع، وتشتق منه «التل»
و»الأكمة» و»الصخرة» و»الأرض الصلبة والمقشرة...».
الأهالي في منطقة شمال إفريقيا ينفرون من كل ما يدخل في الإحصاء والعد والتقدير
جبل فطناسة
(29
مارس). كان انطلاقنا في الساعة الخامسة وخمس وثلاثين دقيقة صباحاً ووصولنا
في الساعة السادسة واثنتي عشرة دقيقة إلى سيدي رحال، وهو دشر جميل به
مجموعة من النوايل، وقطعان عظيمة من الماشية ويسوده جو من الحيوية العارمة.
وبعد خمس دقائق طرقنا الشعاب التي يشيع عند الناس أنها شعاب الجبل الخضر،
وهي في الحقيقة شعاب جبل فطناسة. وأما الجبل الأخضر فهو إنما يأتي امتداداً
لهذه السلسلة على بعد نصف مرحلة في اتجاه الشمال الشرقي. والشِّعب ليس
بالواضح جداً، والجبال قليلة ارتفاع (فلا يزيد ارتفاعها عن 100 متر فوق
الهضبة)، وهي كلها مزروعة، ولا تكاد ترى فيها أثراً لغابات، وتبدو الأرض
على هيأة سلسلة من التلال الخضراء. وبعد ثلاثة أرباع الساعة مررنا بقرب دشر
كبير ولاحت لنا قبة وليه، سيدي عبد الله الحواوي بقرب الطريق، وقد جعل له
كركور على جان
الطريق. واسم هذا الولي، الذي يعني «المنتسب إلى أولاد
حواء» (فحوَّاء في العربية الفصحى تعني ابن حواء) مثار لتوريات مخلة
بالحياء أو أخطاء فادحة من لدن المسلمين الأميين، لأنهم ينطقونها «حوَّاي»،
أو يحرفونها متعمدين على هذا الوجه. ذلك بأن هذه الكلمة لها في المغرب
معنى فاحش، وقد سمع بعض الأوروبيين هذه الحماقات فوقعوا في هذا الصدد في
كثير من الأخطاء الغريبة. ويُعرف باسم أولاد حواء كثير من الفخدات
والقبائل، وهذا الاسم شديد الشيوع في منطقة شمال إفريقيا. وما كدنا نجاوز
هذا الموضع حتى تراءت لنا كراندو.
2. بلاد دكالة
يطلق
العرب اسم «حوز مراكش» على المساحات الواسعة والرتيبة من الأراضي التي
تكون ما يسميه ، أو يسمونه اختصاراً «الحوز»، أي بمعنى أقرب إلى «الإقليم».
وقد كانت هذه المناطق في السنين الأخيرة موضوعاً لمجموعة من الدراسات
الجيولوجية والجغرافية أكثر عمقاً من الدراسات التي تناولت سائر الجهات
والمناطق في المغرب. فالرسوم التي وضعها القبطان لاراس قد أرست خرائط بجميع
الخطوط الأساسية لهذه المنطقة. وجاءنا فايشر في رحلاته الممتعة بتصور
إجمالي لجغرافيتها المادية، بالمعنى الأوسع والحديث لهذه العبارة. ثم جاءنا
بريف في جولاته الجيولوجية بتصوير بليغ لطبقاتها الجيولوجية. وأما فيما
يخصني شخصياً فإنني لم أزد على أن أفدنا خلال رحلاتنا من النتائج التي
تحصلت لهؤلاء العلماء، ولا نزعم أن نأتي لها ههنا بما يتممها. ووحدها
الملاحظات ذات الصبغة العراقية والاجتماعية التي سنأتي بها في ما يقبل من
هذا الكتاب يمكن اعتبارها في قسط كبير منها من بنات أبحاثنا الخاصة. بل إن
هذا الأمر لا ينطبق حتى على هذا القسم الحالي من كتابنا، لكن يجدر بنا أن
نشير إلى أن الصفحات القابلة كانت، في ما عدا الأسطر القليلة التي جئنا
فيها بعرض جيولوجي مختصر، قد أنشأناها في عندنا ولم نرجع فيها إلى سوانا من
المؤلفين.
وتشكل المنطقة القائمة بين جبال الأطلس الكبير في الجنوب
والأطلس المتوسط في الشرق والبحر المحيط ما يسميه فايشر «مقدم البلاد»، أو
«Vorland» الأطلسية، وهو ما نسميه في الجزائر بـ «الهضبة الواقعة جنوب
الأطلسي». وهي مساحة شاسعة تتكون من منخفضين متراكبين قد انتبه إليهما جميع
الرحالة، حتى أولئك منهم قليلي اهتمام بشؤون الجيولوجيا. فأما المنخفض
الأول فهو دون 300م، وأما الثاني فدون 600م. ويفصل بين المنخفضين رصيف
يتكون من سلسلة مرتفعات، يدخل فيها الجبل الخضر وجبل فطناسة. ومن فوق
المنخفض الثاني تقوم بقايا منخفض ثالث، خاصة عند الجبل الأخضر ثم عن جبل
بني مسكين، وأخيراً عند سلسلة الجبيلات الرائعة.
جيولوجية الهضبة
يتكون
المنخفض الأول حسب بريف من سلسلة الأراضي التالية : ج : الكثبان الحالية. ب
: الدهر الرابع : صلصال رملي في هيليس. الإرسابات الأفقية الكلس - أ –
العصر القريب – الصلصال - الحشَّاد (فجوة مشابهة التعريات التي أحدثتها
البحار السابقة). 1-الترسبات المستخرجة : النضيد السيلوري شديد التموج،
وشديد النتوء وقد يكون أحياناً شديد الاختلاط.
وهذا النضيد القديم تتجه
ثناياه شمالاً 20° شرقاً. وهو يمثل مخلفات سلسلة هرسينية قديمة كانت تمتد
من الجنوب وحتى الصحراء، وتشكل ثناياها، التي كان فلامان أول من اكتشفها في
أقصى الجنوب الشرقي من مدينة وهران، وفي آخر المطاف تناولها بريف
بالدراسة على صعيد المغرب وأ. فـ. كوتيي على صعيد الصحراء. ومن المعلوم أن
اليابسة الهرسينية قد بلغ أوج اتساعها في العصر الكربوني. وعلى جوانب هذه
اليابسة أو في بحيراتها الداخلية تكون الفحم الحجري. وكذلك كان في اكتشاف
الثنايا الهرسينية في منطقة شمال إفريقيا ما بعث آمالا جديدة بعض الأمل في
احتمال وجود مناجم للفحم الحجري. والذي يبدو أنه كان في الإمكان أن يوجد
الفحم الحجري في بعض الجهات من هذه البلدان، فينبغي أن نبحث عنه في المغرب
وفي الصحراء. وإذا كنا لم نقع في المنطقة التي تهمنا على أرض حاوية للفحم،
فالأمر لا ينطبق على الجنوب وعلى الصحراء. فقد وقف فورو في أزدجر الصحراء
ووقف فيشور في الصحراء ولينز في درعة على هذه النوعية من الأراضي.
وبينما
يقع البيلوسين في السطح الأول مباشرة فوق النضيد القديم، فإنه في السطح
الثاني فإن الميساني هو الذي يغطي السلسة الأولية، إلا من بعض الأطراف
الأوسينية والجوراسية التي تتبدى في بعض الجوانب منه.
وفي الأخير فإن
الجزيرات التي في الجبل الأخضر وفي بني مسكين والجبيلات قد تشكلت من ترسبات
أيسونية فجرية. وتغطي السلسلة الهرسينية. وعليه فإن هذه الجزيرات قد
انبثقت من البحر الميساني الذي كان يصل حتى جبال الأطلس، فأزال عن الهضة
الهرسينية غطاءها الثاني والأيسوني ووضع عليها ترسبات جديدة. وأما في العصر
البليوسيني فقد صار البحر لا يطول غير السطح الأول.
وتقوم بلاد دكالة
على قسم من هذا السطح الأول، وتمتد على قسم كبير من السطح الثاني، ناحية
الجبل الأخضر. فهذا جعل دكالة تبدو في مظهرين مختلفين، يسهل أن نجد لهما
تفسيراً في الوصف الأثري المقتضب السالف.
تلال وكلس
والمنطقة
الساحلية المتكونة من كثبان ومن كلس هلسيني هي التي نوجد فيها الآن بين
الدار البيضاء وأزمور. ولقد أشرنا إلى وجود غابات المصطكا في هذه المنطقة،
وأما أبرز نباتها فهو «الرتم»، وهو ينتشر بطول الساحل الأطلسي. والتربة في
هذه سائر هذه النواحي رملية، وفي معظمها حمراء، وتكون في بعض الجهات منها
يخالطها شيء من الحصى. وهي مواتية للفلاحة. وقد رأينا أن الأهالي يقبلون
فيها خاصة على زراعة الحناء. ولا تفتقر المنطقة إلى عيون الماء، وإن لم تكن
بالكثيرة المياه. وقد ذكر بريف، الذي خص هذه المنطقة بالدراسة، أن المياه
فيها عذبة على الدوام. وأنا أورد رأي هذا العالم، لأن سوء الحظ قد شاء لي
ألا أشرب في المنطقة بين الدار البيضاء وأزمور إلا من ماء واحد، في عين
كديد، وقد وجدته شديد الملوحة والمرارة. ولربما كانت هذه الناحية استثاء،
ذلك بأني وجدت الماء في غير هذه المنطقة من الساحل كله من ذلك العذب
الزلال.
الساحل
وأكثر
ما تجد في المناطق الداخلية من هذه البلاد التربة متحجرة ورملية وحمراء.
وتلك هي التربة التي يسميها المغاربة «الحمري»، ومعظمها يتحصل من تحلل
الحجر الرملي والصخر الميساني. وإن ساحل الدار البيضاء يتكون في معظمه من
هذه التربة، وهي تربة ملائمة كثيراً لزراعة الكرم. ويعتبر البرواك أهم
النباتات التي تصلح لهذا النوع من التربة. وها هو ذا تحليل لعينة من هذه
التربة، أخذتها من ضواحي الدار البيضاء.
الخلاء، التيرس
لقد
صمدت أنواع التربة الكلسية المسانية [(هـ. م) نسبة إلى العصر الثلاثي
المتوسط] في معظم الأحيان لعوامل التعرية، فهذا جعل التربة تكتسي طابعاً
صخرياً، فقلما تصلح للزراعة. وذلك هو الشأن في مناطق عديدة، حيث نرى القشرة
الكلسية الشائعة في منطقة شمال إفريقيا وقد غطت التربة بغشاء خشن. فالبلاد
التي تتعرض التربة فيها لهذه الظاهرة لا تعود تصلح لغير الرعي. ويكون
النبات الغالب في هذه الحالة هو النخل الصغير، وهو نبات نراه كذلك في
الأراضي التي يغطيها الحمري. وهذا أمر نراه أوضح ما يكون في «الخلاء»
الواسع، أو المساحات الشاسعة غير المزروعة، التي توجد في نواحي زاوية سايس.
وأخيرا،
فغن عوامل التعرية المتعددة قد عرت السلسة الهرسينية وتسببت ي تفكك الشيست
القديم على الأرض الأكثر طينية ذات اللون الأسود المائلة أحيانا إلى
الزرقة وذات الخصوبية اللافتة والاستثنائية المعروفة تحت اسم «التيرس» الذي
كان فايشر اول من وصف خصائصه.
أصول التربة السوداء
غير
أن هذا العالم لم ينظر إلى المسالة كما نظر إلهيا بريف بان أصل هذه التربة
السوداء يعود خصيصا إلى تفكك الشيست القديم. فقد لاحظ أولا أن تقيسمات
التيرس تماثل نتوءات الشيست، ووقف في عدة أماكن بدكالة وعبدة على أنت
التربة السوداء تتموضع سواء فوق تكوين رسوبي كلسي أو فوق صلصال رملي
بليوسيني، أو حتى فوق قشرة كلسية وحسب مجالات التيرس التي لم تكن بالضرورة
منخفضات واستنتج في الخير أن الكميات الهامة من الرمل المستديرة تماما التي
ظهرت في التحاليل تؤكد أن الرياح وحدها هي التي كونت هذه التوضعات. لكن
بريف يذهب عكس هذا الاتجاه ويقول بان القطع التي يوجد بها التيرس هي بقايا
«غدير» كما يقال في إفريقيا الشمالية، ويذهب إلى أن في كل مكان تظهر فيه
الشيسات القديمة يتكون التيرس، وأكبر نسبة من المواد العضوية الموجودة في
هذه التربة تجعله يقارن بشيء مشابه لما يحدث في ترباتنا، ويضيف إلى انه
يوجد التيرس خارج المناطق التي نهتم بها نحن الآن، ويشير إلى سبخة بني حسن.
ومن
المحرج جدا بالنسبة لغير المختص أن يكون له موقف في هذا النقاش. فإذا كان
بريف يؤكد بطريقة حاسمة بأنه لا يمكن أن نجد التيرس إلا في المناطق التي
بها شيست قديم، فسيكون الأمر قد حسم له نهائيا. لكن فايشر يعارض هذا الرأي
تماما، حيث يستخلصن انطلاقا من الوجود الغامض لحبات الكاورتز في التحليل،
دليلا لصالح أطروحته، فقد لاحظ هذا العالم الجزائري أن هذه الحبات لا تمثل
في المجهر الخديدات الخاصة بالرمال الإيولينية فقد تكون المياه هي التي كان
وراء استدارتها. لكن فايشر ينفي هذه الفرضية بدعوى أن طبيعة جريان المياه
في المناطق الواسعة والأفقية لا يسمح بذلك. فوجود التربة السوداء المكونة
طبيعيا بالسبخات في مناطق أخرى مثل بني حسن ليس أمرا حاسما أيضا، لأنه حسب
فايشر أن ترابا أسود لا يعني أنه الأصل نفسه الموجود في تيرس الشاوية
ودكالة، وأن تسمية التراب الأسود تيرس والأحمر حمري لا علاقة له بالبحث
الجيولوجي. ولجل ذلك فإن تنوع مكونات التيرس كما ظهر من تجارب فايشر ليست
مقنعة أيضا. فغياب التيرس في الشريط الممتد على الساحل وأيضا على طول ام
الربيع يذهب في صالح الفرضية الألمانية، فالمياه في هذه المناطق يمكن أن
تكون قد جرفت التيرس. ولا يمكن استخلاص أي نتيجة حاسمة بكون أن التيرس يظهر
فقط في هذه الأماكن، وأن هذه الرياح بعثرته بطريقة غير منتظمة. ولا يمكننا
أن نقدم معطيات صحيحة في موضوع أصل الطمي الإيوليني.
ويجدر بي أن أعترف
بأننا قد لفت انتباهنا خلال رحلتنا في سنة 1901 لدى مرورنا بالشاوية،
الوضعة الأفقية التامة التي يوجد عليها العديد من صفائح التيرس. وهو شيء
رأيناه في منطقة «الصخور»، وهي تتكون من صخور ترتفع أفقياً عن سطح الأرض،
وتبدو في صورة حشاف البحر. فالتيرس يصطدم بصورة أفقية بسفوح هذه «الصخور»
ولا تتراكم عندها كما يحدث في الكثيب الرملي. ومما أذكر في هذا الصدد أنه
قد كان في تامركشيِّيت، عند الشاوية، مخيم أقمناه بجوار هذه الصخور، وقد
كان مظهر التربة الذي جئنا له بذلك التصوير لائحاً للعيان. وينبغي أن نزيد
إلى ما قلنا أننا رأينا بقرب التيرس قد تكوَّن منخفض صغير وفيه غدير تأتيه
قطعان الماشية لترد منه. وقد بدا لنا أن هذه العوامل تصب مجتمعة في التصور
الذي جاء به بريف. بيد أننا لا يسعنا أن نعول على هذه الانطباعات للجزم في
قضية معقدة لم يخلص فيها كبار المتخصصين إلى اتفاق.
وقد كنت أخذت خلال
رحلتي في سنة 1901 ثلاث عينات من تربة التيرس، تعرف كذلك بخصوبتها، وقد
استقيتها من ثلاث مناطق مختلفة. فأنا العينة الأولى فقد أخذتها من تربة
التيرس في الشاوية، وقد أخذتها يوم 10 يونيو 1901 من عند أولاد سعيد، غير
بعيد عن ضريح سيدي عمارة السمامي. والعينة الثانية أخدتها من عند بني احسن،
وهي التربة التي تحدث عنها بريف، وقد أخدت هذه العينة في يوم 23 يونيو
[1901] من التربة المتكونة من المرجات على مقربة من وادي سبو في الموضع
«القنيطرة» (عدي وعلي)، في الشطر الأول من الطريق الرابطة بين المهدية
ومكناس. وأما العينة الثالثة فقد أخذتها في يوم 8 يوليوز من قبيلة الغرب،
شمالي فاس، في الموضع المسمى «الكلابة»، على وادي سبو
وقام ج. فوف بفايل
بجمع عينات من التربة السوداء في الشاوية. وسنورد ههنا المقادير التي قام
بنشرها. فالتربة «أ» كثيب رملي أسود يستمد خصوبته مما يقوم فيه من نبات.
والتربة «ب» تربة سوداء وقع عليها المؤلف في أهم مناطق الغرب والحوز التي
مر بها. والتربة «ج» تربة سوداء وقع عليها في الأجزاء المرتفعة من المناطق
الداخلية في الشاوية، وهي تربة شديدة كثافة وصلابة. والتربة «د» تربة شديدة
السواد وقليلة الشيوع، تتكون حسب بفايل من تحلل الميلوفير. والنوع الأخير،
التربة «هـ»، هي التربة المألوفة الشائعة في سائر مناطق الشاوية. ويذهب
الجغرافي الألماني إلى أن أنواع التربة السوداء التي في المغرب تشترك في
مجموعة من الخصائص المتشابهة، لكنها تختلف كثيراً في أصولها؛ فهو لا يؤيد
الأطروحة القائلة بالأصل الريحي في تكون هذه الأنواع من التربة.
واللافت
في تحاليل بفايل المقدار الوافر من الآزوت. غير أن بفايل لم يبين على وجه
الدقة، كما فعل فايشر، الأماكن التي منها استمد هذه العينات. ولذلك فمع
أننا لا ننوي أن نحط بأي حال من القيمة العالية للمواد التي جاء بها بفايل،
فإن التقديرات التي سنأتي بها في ما بعد لم نرجع فيها إلى غير تحليلاتنا
الخاصة :
خصوبة التيرس
فالتربات
التي قمنا بالتقاطها قد كانت في سائر المناطق ذات خصوبة متوسطة، وقد أخذنا
هذه العينات من أماكن تشغل فيها الفلاحة نطاقاً واسعاً ومتجانساً وفي حقول
تداوم عليها الفلاحة وفي وقت تال على موسم الحصاد. وقد أخذنا التربة
بكميات كبيرة ومن عمق مناسب وفي مواضع عدة من الحقل الواحد. وعنينا كثيراً
بخلطها، كما قمنا بإرسال ثلاثة كيلوغرامات من كل نوع من أنواع هذه التربة
لأجل التحليل.
لم تكن نتائج تلك التحاليل بالمشجعة كثيراً بالقياس إلى
الحماس الذي طبع الحديث عن أنواع التربة السوداء في هذه الآونة الأخيرة.
فنحن أولاً إذا قارنا التيرس الذي في المناطق الداخلية من الشاوية بالتربة
الحمراء (الحمري) التي في الأراضي الساحلية في الساحل تبين لنا أنها أن
النوع الثاني لا يقل [خصوبة] مةن كثير من الجوانب عن النوع الأول. وإنما
يختلف الحمري عن التيرس بالدرجة الأولى بكثرة اشتمال الأول على الصوان؛
فالحمري تربة رملية، فيما التيرس تربة طينية تعسر فيها الفلاحة. لكن
التربتين اثنتيهما متناسبتان كثيراً في نسبة الدبال فيهما، وفي ضعف نسبة
الآزوت فيهما. إلا أن الحمري يمكن اعتباره غنياً بالحامض الفوسفوري، فيما
هو ينقص في التيرس، وكذلك ينقص فيه الجير، وهو عنصر له أهميته على بعض
الزراعات، من جملتها الكروم. وإذا ما انتقلنا الآن إلى مقارنة هذه التربة
السوداء بأنواع التربة في الجزائر فسنرى أن نسبة الآزوت فيها قليلة بالقياس
إلى التربة في معظم الأراضي الفلاحية في الجزائر. كما وأنها تشبهها من حيث
نقص الحامض الفوسفوري فيهما وغناها من البوتاس. وأما إذا نظرنا إلى
التربتين من حيث مقدار الجير فيهما فإن المقارنة تصير إلى صعوبة كبيرة؛
بحكم التنوع الشديد الذي يطبع هذا العنصر الأخير. وبودي الآن أن أقدم، على
سبيل حصر الحديث، المقادير التي توجد بها العناصر الأربعة في تربة متوسطة
الخصوبة في جهة ميتيجا. فمقدار الآزوت فيها 1.70، ومقدار الحامض الفسفوري
0.54 ومقدار البوطاس 3.93 ومقدار الجير 5.81. وهذه مقادير تزيد عن قريناتها
في التربة التي في الشاوية من زاوية التحليل الكيميائي. ونورد كذلك عينة
من تربة أخرى من المنطقة نفسها، وهي تربة على قدر كبير جداً من الخصوبة:
فمقدار
الآزوت فيها 2.08 ومقدار الحامض الفوسفوري 2.60 ومقدار البوطاس 6.23
ومقدار الجير 24.63، وهذه مستويات تفوق بكثير م نجد منها في تربة التيرس في
الجزائر [في بلادنا؟؟]. لكنها هذه المقادير لا تزال مع ذلك دون المستويات
التي يجعلها لها بفايل. فما السبيل إلى تفسير هذا التناقض؟ لست أدري. وحسبي
أن ألاحظ أن التحليل الذي جاء به ثـ. فايشر يتفق كثيراً وتحليلي. غير أننا
مهما ارتضينا التحليل الذي جاء به ثـ. فايشر للتربة التي في عبدة من حيث
متوسط الخصوبة فيها، فإنه يظل مع ذلك دون ما يقال عن مقدار الخصوبة الهائل
في التيرس. أفيكون بفايل قد اختار أنواعاً من التربة على قدر عظيم من
الخصوبة؟
ومهما يكن فالذي نرى أن الاقتصار على تحليل التربة وحدها لا
يمكن أن يمدنا بما يكفي من الأسس المسعفة لنا على تقدير يكفي مستوى الخصوبة
في أرض من الأراضي. فينبغي لنا أن نلاحظ أنه إذا كانت طبقة التيرس شديدة
العمق، وأن سطح التربة تتوفر له الخصائص الكيميائية نفسها التي تدخل في
تكوين باطن التربة، فإن في الإمكان أن توجد احتياطيات كبيرة من العناصر
المخصبة، وهذا أمر ثابت في بعض الأراضي في مصر؛ فهي على قدر هائل من
الخصوبة، لكن التحليل الكيميائية يميل إلى أن يظهرها في صورة الأراضي
الفقيرة. وقد بات معلوماً لدينا اليوم أن الحبوب، من قمح وشعير ودرة
وسُلْت، تضرب بجذورها حتى متر ونصف في باطن الأرض، وربما تجازوت هذا العمق
فيها. وللظروف المناخية كذلك تأثير راجح على النباتات، وهي تعتبر عاملاً من
الأهمية بقدر ما هي العناصر الداخلة في تكوين التربة. فأنت ترى بعض
الأراضي الجيدة، الزاخرة بالمواد المخصبة، من قبيل أراضي الضايات في
الجزائر، ثم إن محصولها يكون دون ما يتوقع منها، بسبب من عدم انتظام
التساقطات عليها. ثم إن «البيولوجيا الخاصة» لأنواع التربة في منطقة شمال
إفريقيا وما يقع في سطحها وجوفها؛ حيث المكونات الصالحة للزرعة، من الظواهر
الفيزيائية والكيميائية، التي تطرأ على السطح في العمق صالحة للزراعة،
بفعل ظروف مناخية خاصة من كل الوجوه، هذه العوامل لا تزال المعرفة بها
قليلة، بما لا يسعف على التوسل بها في تقدير مستوى الخصوبة في أرض من
الأراضي.
إن الوسيلة الحقيقة للتثبت من مردودية أراضي الشاوية، وهو
المشهورة بمردوديتها الكبيرة، تكون بمعرفة مقدار الإنتاج في الهكتار
الواحد، أو معرفة كم تغل البذور في العادة من المحاصيل. بيد أنه مؤشر يكاد
يكون من المستحيل الحصول عليه من الأهالي، ولم نجد تاجراً واحداً من أولئك
الذين يتاجرون وإياهم في الحبوب على السواحل، فيفيدنا في هذا الأمر.
فالريبة والحذر الشديد اللذين يتصف بهما المغاربة، والنفور الذي يجدون،
كمثل سائر الأهالي في منطقة شمال إفريقيا، من كل ما يدخل في الإحصاء أو يمت
بصلة إلى العد والتقدير بوجه عام، تجعلهم يمتنعون امتناعاً من الإجابة عن
هذا النوع من الأسئلة. وكل ما يمكننا قوله أننا رأينا تربة الترسة تزخر من
أجود المحاصيل؛ فسيقان السنبل طويلة وقوية وصلبة، والسنابل متساوية في
الارتفاع، وتشكل من فوق الحقل بساطاً منسرحاً ليس فيه إقواء، بهجة لناظري
الفلاح، لكن ربما كان يجدر بنا أن نتفحص تلك السنابل، لكن يلزمنا أن نعترف
بافتقارنا إلى الكفاءة المسعفة لنا على هذا الافتحاص.
ويمكننا القول،
بالعودة إلى المسألة التي تدارسها كل فايشر وبريف، بشأن أصل التيرس، إن
تحليلات التربة ليست هي القمينة بأن تأتينا بحل لهذه الأمر. وإذا أجزنا
لأنفسنا أن ندلي برأينا في هذا النزاع، فبودنا أن نلاحظ أولاً أن الخلافات
بين هذين الباحثين إنما تقع على صعيد التربة السوداء في كل من الشاوية
ودكالة وعبدة، وليس بينهم خلاف بشأن أنواع التربة في منطقة بني حسن أو في
غيرها من المناطق؛ فهي تربة لا يجادل ثـ. فايشر في أصلها الرسوبي. ثم إننا
سنلاحظ بعد ذلك أن بريف قد كتب : «بقدر ما يحدث التجفيف (في البحيرات
الشاطئية حيث يوجد التيرس)، إلا ويختلط الدبال الناشئ ببعض أنواع الطمي، ما
تحمل منه الرياح، وما تزخر به المياه التي تسيح على وجه الأرض، فيشكل بذلك
أنواعاً من التربة الطينية السوداء» (ص. 5، من «t» إلى «p»). ومن جهة أخرى
فإن ثـ. فايشر يوافق على «أن الترسبات العضوية التي تزخر بها الأرض يأتيها
معظمها من الغبار الذي تحمله الريح، ويأتيها بعضها من بكميات هامة، تنتج
في جزء منها التوضعات من غبار الريح، وفي جزء آخر الدبال المتخلق في الموضع
نفسه»، ثم «تسم الرطوبة الناشئة عن التساقطات كما تسهم النباتات في تثبيت
الغبار ومراكمته». فالذي يبدو أن كلا التفسيرين يمكن يكونا صحيحين، وأن
العالمين كليهما قد كانا على صواب.
معنى كلمة تيرس
وبودي،
قبل أترك هذا المجال الوعر الشائك، أن أدلي بملاحظة، وهي أن كلمة «تيرس»
لا تعني من الناحية الاشتقاقية «التربة السوداء»؛ فلا وجود لفكرة السواد في
جذر هذه الكلمة. وكلمة «التيرس» واسعة الاستعمال في الجزائر، ويراد بها
التربة الطينية العسير على الفلاحة، فهي تكون صلبة في الصيف وموحلة في
الشتاء. وكثيراً ما تُستعمل هذه الكلمة كذلك في صيغة الجمع فيقولون
«توراس». فقد سمعنا بعض الأهالي ممن انتزعت أراضيهم في منطقة سيدي بلعباس
يقولون : «خذاو لينا التوراس»، والمعنى أنهم «انتزعوا منا أراضينا الترسية
الجيدة»، يريدون الفرنسيين. وفي الجزائر بلاد عديدة تُعرف باسم التوارس،
خاصة ناحية عمي موسى. والاسم نفسه تعرف به فخدة من قبيلة المراحبة (وهي
جماعة مختلطة في البراز). ثم إن من اليسير أن نرد الكلمتين «الترس»
و»التوراس» إلى الجذر «ت. ر. س»، الذي يعني الدرع، وتشتق منه «التل»
و»الأكمة» و»الصخرة» و»الأرض الصلبة والمقشرة...».
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 11 -
سكان عبدة لا يسكنون الخيام ويفضلون عليها «الدشور»
جولة في دكالة
لا
نروم الإتيان ههنا بوصف لبلاد دكالة، فقد جاء ثـ. فايشر لقسم من هذه
المنطقة بمجموعة من الإفادات ذات القيمة العلمية الكبيرة. لكن الفرصة قد
واتتنا بعبور بلاد دكالة مراراً وتكراراً ومن أقصاها إلى أقصاها. فأفضل ما
يمكن أن نفعل ههنا لتقديم تصور على شيء من الدقة لهذه البلاد هو أن نعيد
ههنا إيراد الأقسام من مذكراتنا التي تهم مختلف هذه المسارات. ولقد جئنا في
القسم الأول من هذا الفصل بتصوير لطريق الجديدة أو طريق أزمور، في القسم
منها الذي يمر بدكالة، أي ذلك القسم الذي يمتد إلى كراندو. وسنأتي ههنا
بتصوير لمجموعة من المسارات الممتالية. فمسار (في أكتوبر 11902) من كراندو
إلى الغربية ومن الغربية إلى الجديدة، وهو المسار الذي يمر في قسمه الأول
بأخصب الأراضي في هذا الإقليم، ثم يتواصل من بعد الغربية في خلاء مترامي
الأطراف وينتهي إلى فحص (ضاحية) الجديدة. ومسار آخر (في يونيو 1901) من
آسفي إلى الغربية ومن الغربية إلى الوليدية، ويقترب بنا من بعض الأطلال
والخرائب ذات الأهمية الكبيرة في إعادة تكوين تاريخ هذه البلاد. وسنترخص في
التفاصيل المتعلقة بالقسم من هذا المسار الذي يمر بعبدة. ومسار أخير (في
يونيو 1901) من أزمور إلى بولعوان، بطول وادي أم الربيع.
الطريق من كراندو إلى الغربية ومن الغربية إلى مازكان
(15
أكتوبر 1902). خرجنا في الزوال (في الساعة الثانية وخمس وأرعين دقيقة)
نريد كراندو. وجعلنا نميل في مسيرنا جهة الشمال الغربي. وإن هو إلا وقت
الساعة الثالثة وخمس وعشرين دقيقة وصلنا إلى دوار السي الصديق قصير حتى
وصلنا (في الساعة الثالثة وخمس وعشرين دقيقة) دوار سي الصديق، المتألف من
ثماني نوايل. ثم مررنا بعد ذلك بقرب الضريح الجميل لسيدي محمد العالم، وإنه
لبناء طريف قد أحاطت بقبته أربع قباب صغيرة على هيأة مربعة، فهي يضفي عليه
فخامة وعظمة، وتجعل من اليسير التعرف عليه من بعيد. وبعد أن كنا نضرب في
تلك البلاد القاحلة والقاسية والوعرة (الرحامنة)، ها نحن أولاء قد دخلنا
بلاداً مستوية تنعم بالخصوب، قد امتلأت أرجاؤها من المزروعات وتلوح عليها
سيماء الرخاء والرفاه. وقد طلع في تلك الناحية عشب أخضر كثيف غب الأمطار
الأخيرة، فهو يغطي الطريق، وترعى فيه الجمال في كل جانب. ورأينا قرى عديدة
من أكواخ أستطوانية مخروطية تقوم وسط أطلال وخرائب لأبنية قديمة من
الحجارة. وإنه لمنظر أخاذ في بعض أنحائه؛ فالنوايل تنتصب وسط خرائب البيوت
ووسط بقايا أسوار قد تهاوى عنها نصفها، وتحت أروقة لا تزال بعد قائمة؛
فكأنها الهمجية قائمة على أنقاض الحضارة. ولئن كانت هذه العبارة على شيء من
الشدة والقسوة، فإنها تشتمل، كما سنبين في ما يقبل من هذا الكتاب، على
نصيب غير يسير من الحقيقة. فمن قبل كانت بعض التجمعات السكنية الثابتة تقوم
في هذا المكان الذي أضحت تنتصب فيه اليوم نوايل أشد تخلفاً من الأكواخ
البدائية. وها نحن نطرق الآن سوق الأربعاء، والطريق إليه واسعة لا ينقطع
عنها المارة، كما هو معهود في البلاد المزدهرة. وبعد وقت يسير تركنا خلفنا
دواوير الغوالم، وهي بلاد قد امتلأت أرجاؤها من أشجار الصبار. وبعد مسير
ساعتين نصبنا خيامنا في دوار الفلالحة، في بني دغوغ، وغير بعيد عن هذا
المكان تقوم زاوية بني دغوغ، وهم أولياء لهم شهرة في كتب المناقب المغربية.
وتتكون معظم دواوير بني دغوغ من النوايل، وأما الخيام فيها فقليلة. وبني
دغوغ، كمثل سائر سكان هذه المنطقة، مستقرون بالضرورة، بحكم إقبالهم الكبير
على الفلاحة.
حدود بلاد عبدة
(16
أكتوبر). انطلقنا في الساعة السادسة صباحاً. وإن هو إلا وقت يسير حتى
بلغنا الحدود بين دكالة وعبدة. فجعلنا نسير في ذلك النطاق، فتارة نميل إلى
البلاد الأولى وتارة نطرق البلاد الثانية. وأهل دكالة يؤون في هذه الناحية
إلى الأكواخ، وتوجد في بعض النواحي من بلادهم بعض البيوت، لكنها قليلة
جداً، فليس غير المحميين من بمقدورهم أن يبتنوا لهم البيوت من غير أن
يثيروا إليهم طمع القايد أو يخاطروا بفقدان بالتعرض للحبس. ولا ترى في هذه
الناحية من خيام، وإلا فهي في غاية الندرة. وأما بلاد عبدة، التي يسوسها
القايد العظيم سي عيسى بن عمر أحد رجالات المغرب ومن أكثرهم استنارة، فأنت
تجد الكثير من أهاليها يسكنون البيوت كما يسكنون «الدشور» ويجمعون إليها
النوايل، وأما الخيام فهي تندر كذلك في هذا القسم من بلاد عبدة. وتكثر
لديهم الزراعات فلا تترك لهم سبيلاً إلى غير حياة الاستقرار. فلا تجد لديهم
الأراضي الخالية، ولا الفلاحة يخلو منها شبر من تلك الأراضي. وليس في هذه
البلاد قد يقع المستعمرون للمغرب على الأراضي الخالية. ونحن لا نزال نتجه
في مسيرنا جهة الشمال الغربي، ثم انحرفنا بعد ذلك جهة غرب الشمال الغربي.
ثم مررنا (في الساعة 8) بإزاء ضريح سيدي محمد المخوَّض. وهذه بلاد تغطيها
تربة التيرس، وفي كل جانب منها تنتصب أكداس التبن؛ فهم إذا درسوا الزرع
أخذوا منه التبن فجعلوه في أكداس عظيمة وغطوه بطبقات من التراب، ذلك التراب
الطيني يصير مع الوقت إلى صلابة ومناعة فيحفظ التبن من الرطوبة في فصل
الشتاء. وقد حفر الأهالي في غير قليل من المواضع في هذه البلاد الكثير من
الآبار، ومعظمها غوير (لا يقل عمقها عن 20 إلى 30 متراً)، فهم يسقون منها
الماء بواسطة بهائم تسحبه بما تسير في سبيل. والمياه في سائر أنحاء هذه
البلاد غاية في العذوبة.
نشاط فلاحي زاهر
دار
الحافظي التي وصلنا إليها الآن (9 صباحاً) كانت من قبل مقراً لأحد القياد
السابقين. والبلاد ههنا مما يسر ناظر الفلاح؛ فالنشاط الفلاحي جار فيها على
قدم وساق، والمشتغلون في الحقول كثر. وقد دفعت الأمطار التي هطلت في تلك
الأثناء بالأهالي إلى الشروع في أعمال الحرث، فكنت المحاريث المغربية
تتنافس على تلك الأراضي من كل حدب وصوب، وصارت تشقها بسكتها الصغيرة
الخفيفة، واستعملوا في جر تلك المحاريث الثيران والخيول والحمير والجمال
بين جامع لبضعها ببعض أو مقتصر على نوع واحد منها. ولقد أثار استغرابي لدى
مروري بذلك المكان أن أرى بعضهم قد جمع في صورة شاذة غريبة بين حمار وجمل،
وشدهما إلى المحراث الواحد. ونحن نمر الآن بقرب دوار صغير من أولاد فرج،
وهي فخدة صغيرة من قبيلة كبيرة تعرف بالاسم نفسه وتقوم على الطرف الآخر من
دكالة، على مقربة من وادي أم الربيع. فقد سمعنا أنهم لجأوا إلى عبدة
(لأننا الآن في بلاد عبدة، لكن على مقربة من بلاد دكالة)، فراراً بأنفسهم
من العسف والتسلط الذي كانوا يلقونه من قايدهم، ثم إنهم وجدوا حماية في
آسفي، فأقاموا لهم مجموعة من الخيام وسط السكان الذين يعيشون حياة
الاستقرار. ومررنا (في الساعة العاشرة وخمس عشرة دقيقة) بإزاء سيدي مسعود،
وهو يقوم وسط غابة كثيفة من نبات الصبار، وتوالت علينا دشور عديدة، وقد بدت
عليها جميعاً سيماء الغنى، ثم دخلنا بلاد دكالة؛ فنحن الآن عند فخدة
الغربية. وفي الساعة الحادية عشرة وصلنا إلى سيدي محمد الأبيض؛ حيث سنمكث
انهار كله. وقد قطعانا من كراندو إلى هذا المكان مسافة بين 35 و40 كلم.
وكانت لنا جولة الجنوب سرنا فيها خلال أراض غاية في الخصوبة، بل سمعنا من
بعض الأفواه أنها أغنى أراضي الأراضي في سائر بلاد دكالة.
سايس
(18
أكتوبر). انطلقنا في الساعة السادسة وعشرين دقيقة، وها نحن بعد مسير غددنا
فيه الخطى لقرابة الساعتين قد جئنا إلى أولاد سبيطة. ثم مررنا بجوار
الحارة، وهي الحي المخصص للجذمى في هذه القبيلة. وقد كان لأولاد سبيطة
هؤلاء دور لا يستهان به في التاريخ. فهم عرب وقد كان لهم إسهام في جميع
الصراعات التي جمعت البرتغاليين بالأهالي. وعندما شارفنا على زاوية سايس،
توقفنا قليلاً، في حوالي الساعة الحادية عشرة، تحت بعض الأشجار بجوار إحدى
الآبار. إنها بئر شديدة الغور، فقد رأينا الحبال التي تستعمل في سحب الماء،
فقدرنا أن عمقها لا يقل عن 45 متراً. ولقد تغيرت طبيعة الأرض كثيراً منذ
هذا الصباح؛ فقد صارت تغلب عليها التربة الرملية وتكثر فيها الحجارة. فما
عادت من تلك الأراضي التي تكثر فيها الزراعات، وصرت ترى فيها المراعي
الشاسعة، وكذلك تكثر فيها الخيام فوق ما رأينا في البلاد التي قبلها. غير
أن سكانها ليسوا مع ذلك من الرحل. ثم كان لنا توقف قليل، سرنا بعده لنصف
ساعة، ثم توقفنا في سوق السبت الكبيرة التي تنعقد على مقربة من هذه
الزاوية. وهي زاوية عظيمة، فقد ضمت جمعاً كبيراً من المباني، وبرزت من
فوقها أربع قباب أو خمس، والمكان من حولها ليس فيه خيام ولا أكواخ.
استأنفنا
مسيرنا (في الساعة الثالثة)، بعد أن أبدلنا حذوات بهائمنا، على تحسباً
للطوارئ، فقد بات المسير يزداد عليها مشقة بتوالي الطريق؛ فهي تضرب الآن في
أرض رملية تملؤها الحجارة الكبيرة.
الخلاء
وفي
بعض الأنحاء من هذا المكان توجد آبار، غير أن طبيعة التربة تجعلها متعذرة
على الزراعة. فهي «خلاء»، أي منطقة شاسعة وعقيم، تمتد حتى مشارف الساحل،
ولا ترى في ذلك المجال غير بعض الخيام السوداء المتفرقة. وليس في هذه
الناحية غير الرحل، فأنت تراهم في فصل الربيع تنقلون لساعة أو ساعتين في
هذه المراعي الشاسعة، وأما في الخريف، وهو الفصل الآن، فقليلاً ما يرحلون،
بل يلبثون بقرب بساتينهم الفقيرة من أشجار التين التي سوَّروها بالحجارة من
غير طين، ولا تراهم يبرحون حقولهم الفقيرة؛ ويلاقون في حرثها المشاق
الكثيرة. فالنخل القصير يغطي هذه المساحات الواسعة لا ينافسه فيه نبات آخر.
ذلك هو «الدوم» الذي يتنافس الأطفال في الظفر بثماره، «الغاز». ثم داهمنا
الليل ونحن وسط هذه الخلاءات الموحشة، فما وسعنا إلا أن ننصب خيامنا بإزاء
خيمتين أو ثلاث في دوار الحاج محمد بن علو، وإن لم نجد عند أهله حفاوة في
الضيافة (كانت الساعة الخامسة وعشر دقائق).
(19 أكتوبر). واصلنا مسيرنا
في اليوم الذي بعد في أرض من ذلك الخلاء نفسه، وقد زادت صارت تزداد وعورد
فقد سرنا فيها من من السابعة وخمس عشرة دقيقة إلى التاسعة وخمسين دقيقة،
فلم نكد نقطع منها أربعة كيلومترات إلى خمسة في الساعة. ثم إذا نحن ندخل
بعد لأي منخفضاً من نحو ثلاثين متراً، وتنفسنا الصعداء أن خرجنا من ذلك
الخلاء الموحش. فما عادت تلاقينا تلك الحجارة ولا ذلك الدوم، فقد دخلنا من
جديد «بلاد العمارة»، بلاد الرخاء والأراضي الزراعية الغناء. فالأرض التي
نسير فيها الآن تربتها رمادية ضربة إلى السواد، ويخالطا رمل، لكنها لكنها
تربة خصبة. وتمهدت لنا الطريق، فعدنا إلى معهود إيقاعنا في السير. فمررنا
بسوق السبت (في الساعة العاشرة وأربعين دقيقة)، وتوقفنا بقرب إحدى الآبار
(في الساعة الحادية عشرة). وإن هي إلا سثم ساعة حتى عدنا إلى استئناف
مسيرنا، تخذونا اللهفة لرؤية مدينة الجديدة. وها إن المنظر الفلاحي قد صار
يعتمل أكثر نشاطاً وحيوية. والمراعي امتلأت في سائر الأنحاء من الثيران
والأغنام، ولم تخل كذلك من بعض الإبل. فهذه بلاد كثيرة الفلاحة توحي لمن
يراها بالغنى والرفاه. وقد نصبت في ذلك المكان الخيام الكثيرة، وهي خيام
جميلة، معظمها جديد يوحي باليسار، وأما الأكواخ فنادرة. وعلى خلافها
البيوت، فهي كثيرة في سائر تلك النواحي، وكذلك تكثر فيها الأضرحة، فهي تضفي
بقبابها مع تلك البيوت البيضاء على المكان إهاباً من البياض مسحة من
الفرح. ولا تعدم في ذلك الموضع أشجار التين، فهي تخفف من رتابة ذلك السهل.
وها إن مدينة الجديدة قد لاحت لأنظارنا (في الساعة الرابعة بعد الزوال)
مكللة من ذلك البياض الناصع الذي تطالعنا به في العادة من بعيد المدن
الإسلامية.
(المسار من آسفي إلى الغربيةومن الغربية إلى الوليدية والجديدة). الخروج من آسفي
(31
ماي 1901). خرجنا من آسفي من باب الرباط، وسرنا في هضبة كثيرة الزراعة،
لكنها رأيناها في هذا الفصل خلواً من تلك المحاصيل، في ما خلا بعض النواحي
منها قد طلع فيها شيء الدرة، والطريق يحفها نبات الرتم، فتبدو ذلك المكان
وقد اكتسى مسحة من كآبة. وإن هو إلا بعض حين حتى جئنا (في الساعة الثامنة
وخمس وعشرين دقيقة) إلى لالة زبوجة، فتوقفنا هنالك نجيل الأبصار في تلك
الزيتونة العظيمة التي تعبر المقصد الأثير الذي على أوروبيي آسفي إذا خرجوا
يطلبون النزهة. والسهل من حولها تعمره المزروعات، وفي موضع من تلك قد تر
للاستراحة تُرى غابة صغيرة من أشجار «الكندول»ونبات الرتم المكللة أغضانه
بحلازين بيضاء، وتُرى الهضبة من بعيد وقد تناثرت فيها الأراضي الفلاحية، أو
«العزيب». فقد ضم منها ذلك المكان ما لا يقل عن عشرين عزبة لبعض الأنجليز
وأربع أو خمس لبعض الألمان، وأما البيت الفرنسي الوحيد القائم في تلك
الناحية فهو ليهودي من آسفي يدعى إسرائيل لالوز، وهو المحمي الفرنسي الوحيد
في هذه الجهة، وقد نزلنا ضيوفاً عليه، فوجدنا منه ما لا يسعنا المقام ههنا
أن نوفي الثناء بما وجدنا لديه من الحفاوة واللطف. ثم سرنا (في التاسعة
صباحاً) من لالة زبوجة في اتجاه الشمال لنصل بعد نصف ساعة (في التاسعة
والنصف) إلى فخدة الزغاكرة. وجئنا بعد ذلك (في الساعة العاشرة) إلى مجموعة
من المساكن الداخلة في فخدة عليوات. ثم مررنا من بعدها (في العاشرة وخمس
وأربعين دقيقة) بإزاء الضريح الشهير للولي سيدي مبارك مول الوليد. وقد
سمعنا من بعض الأفواه أن السبب في هذا الاسم الذي يعرف به الولي راجع إلى
أن الناس يقبلون عليه خاصة في طلب الأولاد الذكران. وللضريح قبة على غير
الهيأة المعهودة في الأضرحة؛ فهي قبة منخفضة الوسط ومرتفعة بسن مخروطية. ثم
لم يكد يمضي علينا وقت يسير حتى جئنا إلى بساتين التين في سرنو.
سرنو
ولقد
أخذت بألبابنا هذه البلدة التي تحدث عنها مارمول، ولم يأت لها ذكر عند
الحسن الوزان. فقد جاء عند مارمول أنها مدينة صغيرة مغلقة، توجد على مسير
ثلاث ساعات من آسفي، وأنه قد كان لها بعض إسهام في الحروب التي قامت بين
البرتغال والمغاربة. ففي أثناء الحملة العسكرية أرسل بها المرينيون من فاس
في سنة 1514 على برتغاليي أزمو، وقد كانت للمدعو يحيى بن تعفوفا [(هـ. م)
كذا ! وهو يحيى بن تعفوفت، أو يحيى أوتعفوفت وهو الأرجح] مشاركته في تلك
الواقعة، ثم انسحب بعدها إلى آسفي، وأوشك يقع في أيدي طالبيه على مقربة من
سرنو حيث نزل لبعض الوقت، ثم أفلح في دخول آسفي، بيد أن الجنود الذين أرسل
بهم فاس قاموا باجتياح «المدينة»، وأعملوا الخراب كذلك في سرنو. لكن يحيى
بن تعفوفا تلقى المكافأة بسيرته الباهرة في تلك الواقعة بأن مُنح سرنو
وخوّؤل مداخيلها لا يشاركها فيه أحد.
إن تلك المدن الصغيرة التي يصورها
لنا كل من الحسن الوزان ومارمول (وهي سرنو والمدينة وتيط والمدن القائمة
بطول وادي أم الربيع)، قد وقعت بإزاء الطرفين المتحاربين في وضع شاذ غريب؛
فمهما كان الموقف الذي تقفه لم تكن تسلم من التخريب يقع عليها من أيديهما
معاً. وقد سار الاحتلال البرتغالي بعكس الاحتلال الإسباني الذي اتجه إلى
السواحل الشمالية من المغرب؛ فالبرتغاليون قد اتجهوا إلى المنطق الداخلية،
غير أنهم لم يفلحوا في التوطيد لأنفسهم فيها لنقص الإمكانيات لديهم وعدم
استمرار الحكومة المركزية في الاهتمام بالأمر، فهذا أعاق الغزو البرتغالي،
وقد كان فيه تهديد دائم لازدهار البلاد الذي كان لا يفتأ يتعرض للتقويض،
فتارة باسم ملك البرتغال وأخرى باسم سلطان فاس، ما لم يقع عليها ذلك
التخريب من الشرفاء السعديين. ولا يفتأ مارمول يذكر لبنا البلاد التي تعرض
للتخريب على عهد البرتغالين، ثم أعيد إعمارها.
أطلال سرنو
توجد
أطلال سرنو في المكان المسمى المرس، فنحن نرى هنالك سوراً من التراب
عريضاً، وقد كان يمكن بطبيعة الحال أن تقام عليه التحصينات، وهو يحيط بما
يقرب من اثني عشر هكتاراً. وقد كانت حفرت فيه في ذلك الزمان المئات من
المطامير، وقد باتت اليوم مهجورة؛ فكأننا بتربة ذلك المكان قد لغمت تلغيماً
الآن كلها يبدو أنه تعرض لهجومات. ويبدو أن الأرض هنا ملغمة. ومن هذه
المطامير يستمد المكان اسمه الحالي «المرس»، فالكلمة تدل في الدارجة
المغربية على الموضع الذي توجد فيه مطامير. فهل تكون هذه الأهراء أقيمت بعد
أن صارت المدينة مكاناً مهجوراً؟ وأي شأن قد كان لهذه المدينة على وجه
التحديد؟ يتعذر علينا اليوم أن نأتي بجواب لهذا السؤال. فنحن نرى ذلك السور
قد أحاط بعدد من الحفر المتفاوتة أحجاماً بفواصل بينها من 25 متراً. ويلوح
كأنما هذه الحفر قد كانت تستخرج منها المواد المستعملة في بناء تلك
الأسوار، وإن كنت غير مستيقن من هذا التفسير. وتُرى في أنحاء ذلك المكان
آثار لأبراج كانت تقوم خارج تلك الأسوار قد تخللتها فواصل من نحو 60 متراً.
ولم نسمع من أفواه الناس في هذا المكان حديثاً أو حكاية تعود إلى سرنو
القديمة. القديمة. لكن ليس ببعيد أن تكون الخرائب والأطلال التي في هذا
المكان تعود إلى المدينة التي صورها مارمول.
سيدي قاضي حاجة
غادرنا
سرنو وأخذنا وجهتنا إلى قصبة قايد عبدة الشهير سي عيسى بن عمر، ومررنا في
الطريق إليها بكل من دار ولد العياشي ودار ولد الكوري، وكنا نسير وسط بلاد
تزخر بالزراعات وتظهر عليها سيماء الغنى. وعندما صرنا على مشارف القصبة
مررنا بحويطة قد قد صبغت من البياض الناصع، وقد استفسرنا عن اسم الولي دفين
هذا الموضع، فقيل لنا إنه سيدي قاضي الحاجة؛ فهو يقضي حوائج المتبركين به،
أقرب شبهاً إلى القديس إكسبيدي عند الكاثوليك. ومن المستبعد أن يكون سيدي
قاضي الحاجة هو الاسم الحقيقي لهذا الولي، وأغلب الظن أن يكون من أولئك
الأولياء أمثال سيدي معروف وسيدي الغريب وسيدي صاحب الطريق وسيدي المخفي،
الذين نجدهم في مواضع أخرى.
ميات بير
ثم
تركنا قصبة سي عيسى بن عمر (في الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة)، وسرنا
نتجه صوب «ميات بير»، التي تعرف كذلك باسم «ميات بير وبير»، وقد جاء
تصويرها عند الحسن الوزان، التي أسماها «Centopozzi»، ووردت عند مارمول
باسمها الذي تعرف به عند الأهالي. واتفق لنا أن ضللنا الطريق عدة مرات لدى
مسيرنا إلى ميات بير، وما جئنا إليها، من خلال غابة عظيمة من الدوم
والكندول والرتم، إلا في الساعة الرابعة وخمس عشرة دقيقة.
وميات بير
وبير تقوم في واد منحفر في أرض من الكلس الحُثي، فإذا هبت عليها الريح
تناثرت لها تلك الحجارة. والماء يوجد غير كثير الغور، والآبار فيها كثيرة،
ويوحى إلينا أن معظم هذه الآبار قد وجد في هذا المكان بصورة طبيعية، وأن يد
الإنسان لم تزد على أن تولتها بالإصلاح والتهييء. من هذه الآبار اشتق
بطبيعة الحال اسم هذا المكان. ولا تجد في هذا الوادي من غابة، وإنما تعمره
بل الحجار، فهي تتناثر فيبدو بها في صورة شاذة غريبة. فتضفي عليه هيأة
غريبة متناثرة فقط تعطي طابعا غريبا للمشهد. والمكان الأكثر رطوبة في هذه
الناحية هو القائم في مواجهة ضريح سيدي محمد بن عبَّاد، الذي يقوم في مرتفع
يشرف على ذلك الوادي. وإنه ليعصب أن نجد اتفاقاً بين الصورة التي توجد
عليها ميات بير اليوم وتلك الصورة التي جاء لها بها كل من الحسن الوزان
ومارمول. فقد تحدث كلاهما عن وجود كانت تحفظ فيها الحبوب لقرون دون أن
يطولها الفساد [(هـ. م) كتب الوزان : «ويقول سكان هذه البلاد بأن القمح
يحفظ في هذه الطامير مائة سنة دون أن يفسد أو تتغير رائحته». فهي مائة سنة
وليست قروناً!]. والحال أن الحفر التي في ميات بير إنما هي آبار للمياه
وليست مطامير [للزروع]. ثم إن اسم «البير» لا يمكن أن ينطبق على الموضع
الذي تحفظ فيه الحبوب، ويسمى في العربية «مطمورة»، وهو كان مألوفاً لدى
الوزان ومارمول نفسيهما. وإذا أخذنا في الحسبان أن الوزان لم يشر بشيء إلى
سرنو، وهي موضع قد كان له مع ذلك شأن وأهمية، وأن الوصف الذي جاء به
للمطامير التي في ميات بير يصح من كل الوجوه على الحفر التي وقفنا عليها في
سرنو، غلب عندنا الاعتقاد أنه لم يزر أياً من هذين الموضعين، وإنما كتب
عنهما بطريق السمع، فجمعهما هما الاثنان تحت اسم «ميات بير»، ولاسيما أن
الموضعين متجاوران. ثم جاء مارمول بعد ذلك فقام، كما هي عادته، بالنقل عن
الوزان، لكنه زاد الحديث عن سرنو، ومن المحتمل أن يكون استند في حديثه عنها
إلى بعض المصادر البرتغالية. ونحن نميل إلى الأخذ بهذا الاستنتاج، ولاسيما
أن الفصل الذي تحدث فيه مارمول عن سرنو وعن مواضع أخرى عديدة يغيب كلياً
عند الوزان.
وقد ذكر لنا فقيه ذلك الموضع أنه توجد غير بعيد من المكان
حيث نصبنا خيامنا أطلال مدينتين صغيرتين قال إنهما تسميان «ويرس»
و»تيغوين»، لكن لم يسعفنا الوقت بزيارتهما، ولم نر في اسميهما ما ييسر لنا
التعرف عليهما. وقد تحدث الوزان ومارمول عن وجود بعض اليهود في ميات بير
[(هـ. م) كتب الوزان : «والسكان فيها قليلون جدا، لأنه لا يوجد فيها أي
صانع باستثناء بعض الحدادين اليهود»، الوصف، م. ذ.، ص. 153-154].، لكن لم
يعد لهم وجود في أي مكان من دكالة أو في عبدة، ولا تجد بعضهم في غير قصبة
سي عيسى، ومن الواضح أنهم إنما التحقوا بها منذ وقت قريب. وفوق ذلك فإن
مارمول يذكر أن سكان ميات بير كانوا من البربر المستقرين، لكن يصعب علينا
اليوم أن نجزم بشيء في هذه المسألة المتعلقة بالأعراق. لكن بالإمكان أن
نقول إنه إذا كان لما الوزان ومارمول قد خلطا بين ميات بير وسرنو فإن
التفاصيل التي جاءا بها في شأنهما يمكن أن تنسحب على أي من هذين الموضعين.
ويجدر بالتذكير مع ذلك، في ما يتعلق بمسالة الأعراق تلك، أننا عندنما ضرنا
على بعد عشرين دقيقة من ميات بير مررنا بقرية من الأكواخ، تسمى «الشلوح»،
لكن أهلها يزعمون مع ذلك أنهم عرب، وهو أمر وجدته مبعثاً لكثير من الشكوك.
سيدي معاشو وداء الكلب
توجد
ميات بير بفخذة الغنيميين، التي شاع تحريف الناس لها، كما هو معهود في
اللهجات المغاربية؛ فيجعلونها «الغليميين». وبين الغنيميين وقصبة سي عيسى
يقوم المعاشات، الذين مررنا ببلادهم. وهم أقرباء المعاشات الموجودين عند
الشاوية وعند الشياظمة، ناحية سوق جوار سوق الحد، على مقربة من عين الحجر،
غير بعيد عن مدينة الصويرة، وهنالك يوجد ضريح سيدي معاشو وزاوية المعاشات.
ويشتهر أحفاد هذا الولي بأن لهم بركة العلاج من داء الكلب؛ فهم يجعلون
المصابين بهذا الداء يشربون ماء يخفونه في آنية، ويجعلونهم يشربونه بواسطة
قناة من القصب؛ فلا ينبغي للمرضى أن ينظروا في الماء الذي يشربون. ثم
يلازمون المكان إلى جوار ذلك الضريح أربعة أيام لاستكمال العلاج، ثم إنهم
يضعون بعض الملح على موضع العضة التي كانت سبباً في ابتلائهم بذلك الداء.
ويجدر بي أن أشير ههنا إلى أن في ولاية وهران يوجد كذلك ولي يقال له سيدي
امعاشو يشتهر بالمداواة من داء الكلب.
زيارة مغارة
(فاتح
يونيو). انطلقنا في الساعة السادسة وخمس دقائق في اتجاه الغربية ببلاد
دكالة. فمررننا أولاً بالبساتين المزينة بالنخيل من حول [ضريح] سيدي عبد
العزيز المنور، وهو رصيف لسيدي محمد المذكور، وسرعان ما جئن إلى مجموعة
البيوت التي تخص الزاح. وفي الساعة السابعة تركنا قافلتنا تواصل مسيرها صوب
الغربية، وانحرفنا إلى اليسار لزيارة مغارة قد أشير علينا بزيارتها،
وسمعنا عنها العجائب من أفواه مخبرينا المسلمين؛ فقد زعموا أن بداخلها
آباراً ونهراً جارياً وتماثيل من نحاس!... ومع أن الاعتقاد عندنا كان أن
محدثينا قد غلب الخيال عندهم على ما صوروا لنا من تلك الأشياء، فإن ذلك لم
يكن ليثنيا عن الذهاب لرؤية هذه المغارة. فسرنا في هضاب أشبه ما تكون بتلك
التي مررنا بها في اليوم الذي قبل؛ فليس فيها أثر لنبت والصخور انتشرت منها
في كل مكان، والطريق إليها شاقة قد امتلأت من الحجارة الكبيرة. بيد أن
الماء ليس بالغوير، كما يدلنا عليه غير قليل من الآبار. وترى في تلك
النواحي منخفضات أشبه ما تكون بتلك التي أسميناها وادي ميات بير، وقد
تخللتها بعض الآبار. وفي الساعة التاسعة أمكن لنا أن نصل بعد لأي إلى سيدي
عزوز، وعلى بعد خمسين متراً من ذلك الموضع توجد، بقرب شجرة تين، باب
المغارة.
دخلنا تلك المغارة مستضيئين بالشموع، فوجدناها عبارة عن ممر
بعلو ستة أمتار إلى ثمانية وبعرض اثنى عشر متراً إلى عشرين حسب الأماكن،
وتمتد على طول مائة وأربعين أو نحوها، مع شيء من الميلان. وقد جعلنا نسير
متلمسين طريقنا إذ لم تعد الشموع تجدي فتيلاً. وكنا نرى بعض الأجسام
البيضاء تتحرك على الأرض؛ إنها صغار الطيور الليلية. ثم جئنا إلى منحدر صلب
الوعورة وشديد الانزلاق، فقد اكتسى أرضه طيناً غليظاً ورطباً. ثم صارت
القبة الجبلية إلى اتساع، فما عدنا نميز شيئاً في تلك المغارة، وما عدنا
نسمع غير أصوات كأنها الهدير. والأهالي أناس شجعان، لكنهم شديدو إيمان
بالخرافات، فلم يجرؤوا على المضي أبعد في تلك الموضع. ثم جعلنا ننزلق مع
ذلك المنحدر الذي ينتهي إلى الموضع حيث كنا نقف، وسرنا نجوس في وحل كثيف،
إلى أن انتهينا إلى قاع تلك المغارة. فما وجدنا فيها شيئاً مثيراً، وما
فيها غير بعض البرك التي يتقطر فيها الماء من السقف. فلاوجود فيها لعين
خارقة، ولا وجود فيها لجرف ولا أنهار أو تماثيل... فلما رجعت من تلك
المغارة قلت للأهالي إنه ليس فيها شيء مما يزعمون، وإن بوسعهم أن يدخلوها
فيروا بأنفسهم كما رأينا، فما وجدت بينهم من يصدق حديثي. فقد وعموا أنني
إنما توهمت أنني بلغت منتهى تلك المغارة، وأن فيها مخرجاً لم أستبنه؛ وإن
هي إلا حاجتهم في أن يؤمنوا بأن تلك المغارة لا يحدها شيء. فلما يئست من
إقناعهم توقفت عن ذلك الجدال العقيم الذي لانفع فيه. وليس من شك أن الناس
سيتحدون في البلد أن مسيحياً قد سعى في دخول تلك المغارة فخاب مسعاه، لأن
الجن منعه من الوصول إليها، أو ما أشبه من هذه الحكايات... ثم إن هذه
المغارة ليست موضوعاً لأي شعيرة دينية خاصة. فليس فيها من فائدة، وما حوت
غير قشرة رقيقة من الغواندو.
سكان عبدة لا يسكنون الخيام ويفضلون عليها «الدشور»
جولة في دكالة
لا
نروم الإتيان ههنا بوصف لبلاد دكالة، فقد جاء ثـ. فايشر لقسم من هذه
المنطقة بمجموعة من الإفادات ذات القيمة العلمية الكبيرة. لكن الفرصة قد
واتتنا بعبور بلاد دكالة مراراً وتكراراً ومن أقصاها إلى أقصاها. فأفضل ما
يمكن أن نفعل ههنا لتقديم تصور على شيء من الدقة لهذه البلاد هو أن نعيد
ههنا إيراد الأقسام من مذكراتنا التي تهم مختلف هذه المسارات. ولقد جئنا في
القسم الأول من هذا الفصل بتصوير لطريق الجديدة أو طريق أزمور، في القسم
منها الذي يمر بدكالة، أي ذلك القسم الذي يمتد إلى كراندو. وسنأتي ههنا
بتصوير لمجموعة من المسارات الممتالية. فمسار (في أكتوبر 11902) من كراندو
إلى الغربية ومن الغربية إلى الجديدة، وهو المسار الذي يمر في قسمه الأول
بأخصب الأراضي في هذا الإقليم، ثم يتواصل من بعد الغربية في خلاء مترامي
الأطراف وينتهي إلى فحص (ضاحية) الجديدة. ومسار آخر (في يونيو 1901) من
آسفي إلى الغربية ومن الغربية إلى الوليدية، ويقترب بنا من بعض الأطلال
والخرائب ذات الأهمية الكبيرة في إعادة تكوين تاريخ هذه البلاد. وسنترخص في
التفاصيل المتعلقة بالقسم من هذا المسار الذي يمر بعبدة. ومسار أخير (في
يونيو 1901) من أزمور إلى بولعوان، بطول وادي أم الربيع.
الطريق من كراندو إلى الغربية ومن الغربية إلى مازكان
(15
أكتوبر 1902). خرجنا في الزوال (في الساعة الثانية وخمس وأرعين دقيقة)
نريد كراندو. وجعلنا نميل في مسيرنا جهة الشمال الغربي. وإن هو إلا وقت
الساعة الثالثة وخمس وعشرين دقيقة وصلنا إلى دوار السي الصديق قصير حتى
وصلنا (في الساعة الثالثة وخمس وعشرين دقيقة) دوار سي الصديق، المتألف من
ثماني نوايل. ثم مررنا بعد ذلك بقرب الضريح الجميل لسيدي محمد العالم، وإنه
لبناء طريف قد أحاطت بقبته أربع قباب صغيرة على هيأة مربعة، فهي يضفي عليه
فخامة وعظمة، وتجعل من اليسير التعرف عليه من بعيد. وبعد أن كنا نضرب في
تلك البلاد القاحلة والقاسية والوعرة (الرحامنة)، ها نحن أولاء قد دخلنا
بلاداً مستوية تنعم بالخصوب، قد امتلأت أرجاؤها من المزروعات وتلوح عليها
سيماء الرخاء والرفاه. وقد طلع في تلك الناحية عشب أخضر كثيف غب الأمطار
الأخيرة، فهو يغطي الطريق، وترعى فيه الجمال في كل جانب. ورأينا قرى عديدة
من أكواخ أستطوانية مخروطية تقوم وسط أطلال وخرائب لأبنية قديمة من
الحجارة. وإنه لمنظر أخاذ في بعض أنحائه؛ فالنوايل تنتصب وسط خرائب البيوت
ووسط بقايا أسوار قد تهاوى عنها نصفها، وتحت أروقة لا تزال بعد قائمة؛
فكأنها الهمجية قائمة على أنقاض الحضارة. ولئن كانت هذه العبارة على شيء من
الشدة والقسوة، فإنها تشتمل، كما سنبين في ما يقبل من هذا الكتاب، على
نصيب غير يسير من الحقيقة. فمن قبل كانت بعض التجمعات السكنية الثابتة تقوم
في هذا المكان الذي أضحت تنتصب فيه اليوم نوايل أشد تخلفاً من الأكواخ
البدائية. وها نحن نطرق الآن سوق الأربعاء، والطريق إليه واسعة لا ينقطع
عنها المارة، كما هو معهود في البلاد المزدهرة. وبعد وقت يسير تركنا خلفنا
دواوير الغوالم، وهي بلاد قد امتلأت أرجاؤها من أشجار الصبار. وبعد مسير
ساعتين نصبنا خيامنا في دوار الفلالحة، في بني دغوغ، وغير بعيد عن هذا
المكان تقوم زاوية بني دغوغ، وهم أولياء لهم شهرة في كتب المناقب المغربية.
وتتكون معظم دواوير بني دغوغ من النوايل، وأما الخيام فيها فقليلة. وبني
دغوغ، كمثل سائر سكان هذه المنطقة، مستقرون بالضرورة، بحكم إقبالهم الكبير
على الفلاحة.
حدود بلاد عبدة
(16
أكتوبر). انطلقنا في الساعة السادسة صباحاً. وإن هو إلا وقت يسير حتى
بلغنا الحدود بين دكالة وعبدة. فجعلنا نسير في ذلك النطاق، فتارة نميل إلى
البلاد الأولى وتارة نطرق البلاد الثانية. وأهل دكالة يؤون في هذه الناحية
إلى الأكواخ، وتوجد في بعض النواحي من بلادهم بعض البيوت، لكنها قليلة
جداً، فليس غير المحميين من بمقدورهم أن يبتنوا لهم البيوت من غير أن
يثيروا إليهم طمع القايد أو يخاطروا بفقدان بالتعرض للحبس. ولا ترى في هذه
الناحية من خيام، وإلا فهي في غاية الندرة. وأما بلاد عبدة، التي يسوسها
القايد العظيم سي عيسى بن عمر أحد رجالات المغرب ومن أكثرهم استنارة، فأنت
تجد الكثير من أهاليها يسكنون البيوت كما يسكنون «الدشور» ويجمعون إليها
النوايل، وأما الخيام فهي تندر كذلك في هذا القسم من بلاد عبدة. وتكثر
لديهم الزراعات فلا تترك لهم سبيلاً إلى غير حياة الاستقرار. فلا تجد لديهم
الأراضي الخالية، ولا الفلاحة يخلو منها شبر من تلك الأراضي. وليس في هذه
البلاد قد يقع المستعمرون للمغرب على الأراضي الخالية. ونحن لا نزال نتجه
في مسيرنا جهة الشمال الغربي، ثم انحرفنا بعد ذلك جهة غرب الشمال الغربي.
ثم مررنا (في الساعة 8) بإزاء ضريح سيدي محمد المخوَّض. وهذه بلاد تغطيها
تربة التيرس، وفي كل جانب منها تنتصب أكداس التبن؛ فهم إذا درسوا الزرع
أخذوا منه التبن فجعلوه في أكداس عظيمة وغطوه بطبقات من التراب، ذلك التراب
الطيني يصير مع الوقت إلى صلابة ومناعة فيحفظ التبن من الرطوبة في فصل
الشتاء. وقد حفر الأهالي في غير قليل من المواضع في هذه البلاد الكثير من
الآبار، ومعظمها غوير (لا يقل عمقها عن 20 إلى 30 متراً)، فهم يسقون منها
الماء بواسطة بهائم تسحبه بما تسير في سبيل. والمياه في سائر أنحاء هذه
البلاد غاية في العذوبة.
نشاط فلاحي زاهر
دار
الحافظي التي وصلنا إليها الآن (9 صباحاً) كانت من قبل مقراً لأحد القياد
السابقين. والبلاد ههنا مما يسر ناظر الفلاح؛ فالنشاط الفلاحي جار فيها على
قدم وساق، والمشتغلون في الحقول كثر. وقد دفعت الأمطار التي هطلت في تلك
الأثناء بالأهالي إلى الشروع في أعمال الحرث، فكنت المحاريث المغربية
تتنافس على تلك الأراضي من كل حدب وصوب، وصارت تشقها بسكتها الصغيرة
الخفيفة، واستعملوا في جر تلك المحاريث الثيران والخيول والحمير والجمال
بين جامع لبضعها ببعض أو مقتصر على نوع واحد منها. ولقد أثار استغرابي لدى
مروري بذلك المكان أن أرى بعضهم قد جمع في صورة شاذة غريبة بين حمار وجمل،
وشدهما إلى المحراث الواحد. ونحن نمر الآن بقرب دوار صغير من أولاد فرج،
وهي فخدة صغيرة من قبيلة كبيرة تعرف بالاسم نفسه وتقوم على الطرف الآخر من
دكالة، على مقربة من وادي أم الربيع. فقد سمعنا أنهم لجأوا إلى عبدة
(لأننا الآن في بلاد عبدة، لكن على مقربة من بلاد دكالة)، فراراً بأنفسهم
من العسف والتسلط الذي كانوا يلقونه من قايدهم، ثم إنهم وجدوا حماية في
آسفي، فأقاموا لهم مجموعة من الخيام وسط السكان الذين يعيشون حياة
الاستقرار. ومررنا (في الساعة العاشرة وخمس عشرة دقيقة) بإزاء سيدي مسعود،
وهو يقوم وسط غابة كثيفة من نبات الصبار، وتوالت علينا دشور عديدة، وقد بدت
عليها جميعاً سيماء الغنى، ثم دخلنا بلاد دكالة؛ فنحن الآن عند فخدة
الغربية. وفي الساعة الحادية عشرة وصلنا إلى سيدي محمد الأبيض؛ حيث سنمكث
انهار كله. وقد قطعانا من كراندو إلى هذا المكان مسافة بين 35 و40 كلم.
وكانت لنا جولة الجنوب سرنا فيها خلال أراض غاية في الخصوبة، بل سمعنا من
بعض الأفواه أنها أغنى أراضي الأراضي في سائر بلاد دكالة.
سايس
(18
أكتوبر). انطلقنا في الساعة السادسة وعشرين دقيقة، وها نحن بعد مسير غددنا
فيه الخطى لقرابة الساعتين قد جئنا إلى أولاد سبيطة. ثم مررنا بجوار
الحارة، وهي الحي المخصص للجذمى في هذه القبيلة. وقد كان لأولاد سبيطة
هؤلاء دور لا يستهان به في التاريخ. فهم عرب وقد كان لهم إسهام في جميع
الصراعات التي جمعت البرتغاليين بالأهالي. وعندما شارفنا على زاوية سايس،
توقفنا قليلاً، في حوالي الساعة الحادية عشرة، تحت بعض الأشجار بجوار إحدى
الآبار. إنها بئر شديدة الغور، فقد رأينا الحبال التي تستعمل في سحب الماء،
فقدرنا أن عمقها لا يقل عن 45 متراً. ولقد تغيرت طبيعة الأرض كثيراً منذ
هذا الصباح؛ فقد صارت تغلب عليها التربة الرملية وتكثر فيها الحجارة. فما
عادت من تلك الأراضي التي تكثر فيها الزراعات، وصرت ترى فيها المراعي
الشاسعة، وكذلك تكثر فيها الخيام فوق ما رأينا في البلاد التي قبلها. غير
أن سكانها ليسوا مع ذلك من الرحل. ثم كان لنا توقف قليل، سرنا بعده لنصف
ساعة، ثم توقفنا في سوق السبت الكبيرة التي تنعقد على مقربة من هذه
الزاوية. وهي زاوية عظيمة، فقد ضمت جمعاً كبيراً من المباني، وبرزت من
فوقها أربع قباب أو خمس، والمكان من حولها ليس فيه خيام ولا أكواخ.
استأنفنا
مسيرنا (في الساعة الثالثة)، بعد أن أبدلنا حذوات بهائمنا، على تحسباً
للطوارئ، فقد بات المسير يزداد عليها مشقة بتوالي الطريق؛ فهي تضرب الآن في
أرض رملية تملؤها الحجارة الكبيرة.
الخلاء
وفي
بعض الأنحاء من هذا المكان توجد آبار، غير أن طبيعة التربة تجعلها متعذرة
على الزراعة. فهي «خلاء»، أي منطقة شاسعة وعقيم، تمتد حتى مشارف الساحل،
ولا ترى في ذلك المجال غير بعض الخيام السوداء المتفرقة. وليس في هذه
الناحية غير الرحل، فأنت تراهم في فصل الربيع تنقلون لساعة أو ساعتين في
هذه المراعي الشاسعة، وأما في الخريف، وهو الفصل الآن، فقليلاً ما يرحلون،
بل يلبثون بقرب بساتينهم الفقيرة من أشجار التين التي سوَّروها بالحجارة من
غير طين، ولا تراهم يبرحون حقولهم الفقيرة؛ ويلاقون في حرثها المشاق
الكثيرة. فالنخل القصير يغطي هذه المساحات الواسعة لا ينافسه فيه نبات آخر.
ذلك هو «الدوم» الذي يتنافس الأطفال في الظفر بثماره، «الغاز». ثم داهمنا
الليل ونحن وسط هذه الخلاءات الموحشة، فما وسعنا إلا أن ننصب خيامنا بإزاء
خيمتين أو ثلاث في دوار الحاج محمد بن علو، وإن لم نجد عند أهله حفاوة في
الضيافة (كانت الساعة الخامسة وعشر دقائق).
(19 أكتوبر). واصلنا مسيرنا
في اليوم الذي بعد في أرض من ذلك الخلاء نفسه، وقد زادت صارت تزداد وعورد
فقد سرنا فيها من من السابعة وخمس عشرة دقيقة إلى التاسعة وخمسين دقيقة،
فلم نكد نقطع منها أربعة كيلومترات إلى خمسة في الساعة. ثم إذا نحن ندخل
بعد لأي منخفضاً من نحو ثلاثين متراً، وتنفسنا الصعداء أن خرجنا من ذلك
الخلاء الموحش. فما عادت تلاقينا تلك الحجارة ولا ذلك الدوم، فقد دخلنا من
جديد «بلاد العمارة»، بلاد الرخاء والأراضي الزراعية الغناء. فالأرض التي
نسير فيها الآن تربتها رمادية ضربة إلى السواد، ويخالطا رمل، لكنها لكنها
تربة خصبة. وتمهدت لنا الطريق، فعدنا إلى معهود إيقاعنا في السير. فمررنا
بسوق السبت (في الساعة العاشرة وأربعين دقيقة)، وتوقفنا بقرب إحدى الآبار
(في الساعة الحادية عشرة). وإن هي إلا سثم ساعة حتى عدنا إلى استئناف
مسيرنا، تخذونا اللهفة لرؤية مدينة الجديدة. وها إن المنظر الفلاحي قد صار
يعتمل أكثر نشاطاً وحيوية. والمراعي امتلأت في سائر الأنحاء من الثيران
والأغنام، ولم تخل كذلك من بعض الإبل. فهذه بلاد كثيرة الفلاحة توحي لمن
يراها بالغنى والرفاه. وقد نصبت في ذلك المكان الخيام الكثيرة، وهي خيام
جميلة، معظمها جديد يوحي باليسار، وأما الأكواخ فنادرة. وعلى خلافها
البيوت، فهي كثيرة في سائر تلك النواحي، وكذلك تكثر فيها الأضرحة، فهي تضفي
بقبابها مع تلك البيوت البيضاء على المكان إهاباً من البياض مسحة من
الفرح. ولا تعدم في ذلك الموضع أشجار التين، فهي تخفف من رتابة ذلك السهل.
وها إن مدينة الجديدة قد لاحت لأنظارنا (في الساعة الرابعة بعد الزوال)
مكللة من ذلك البياض الناصع الذي تطالعنا به في العادة من بعيد المدن
الإسلامية.
(المسار من آسفي إلى الغربيةومن الغربية إلى الوليدية والجديدة). الخروج من آسفي
(31
ماي 1901). خرجنا من آسفي من باب الرباط، وسرنا في هضبة كثيرة الزراعة،
لكنها رأيناها في هذا الفصل خلواً من تلك المحاصيل، في ما خلا بعض النواحي
منها قد طلع فيها شيء الدرة، والطريق يحفها نبات الرتم، فتبدو ذلك المكان
وقد اكتسى مسحة من كآبة. وإن هو إلا بعض حين حتى جئنا (في الساعة الثامنة
وخمس وعشرين دقيقة) إلى لالة زبوجة، فتوقفنا هنالك نجيل الأبصار في تلك
الزيتونة العظيمة التي تعبر المقصد الأثير الذي على أوروبيي آسفي إذا خرجوا
يطلبون النزهة. والسهل من حولها تعمره المزروعات، وفي موضع من تلك قد تر
للاستراحة تُرى غابة صغيرة من أشجار «الكندول»ونبات الرتم المكللة أغضانه
بحلازين بيضاء، وتُرى الهضبة من بعيد وقد تناثرت فيها الأراضي الفلاحية، أو
«العزيب». فقد ضم منها ذلك المكان ما لا يقل عن عشرين عزبة لبعض الأنجليز
وأربع أو خمس لبعض الألمان، وأما البيت الفرنسي الوحيد القائم في تلك
الناحية فهو ليهودي من آسفي يدعى إسرائيل لالوز، وهو المحمي الفرنسي الوحيد
في هذه الجهة، وقد نزلنا ضيوفاً عليه، فوجدنا منه ما لا يسعنا المقام ههنا
أن نوفي الثناء بما وجدنا لديه من الحفاوة واللطف. ثم سرنا (في التاسعة
صباحاً) من لالة زبوجة في اتجاه الشمال لنصل بعد نصف ساعة (في التاسعة
والنصف) إلى فخدة الزغاكرة. وجئنا بعد ذلك (في الساعة العاشرة) إلى مجموعة
من المساكن الداخلة في فخدة عليوات. ثم مررنا من بعدها (في العاشرة وخمس
وأربعين دقيقة) بإزاء الضريح الشهير للولي سيدي مبارك مول الوليد. وقد
سمعنا من بعض الأفواه أن السبب في هذا الاسم الذي يعرف به الولي راجع إلى
أن الناس يقبلون عليه خاصة في طلب الأولاد الذكران. وللضريح قبة على غير
الهيأة المعهودة في الأضرحة؛ فهي قبة منخفضة الوسط ومرتفعة بسن مخروطية. ثم
لم يكد يمضي علينا وقت يسير حتى جئنا إلى بساتين التين في سرنو.
سرنو
ولقد
أخذت بألبابنا هذه البلدة التي تحدث عنها مارمول، ولم يأت لها ذكر عند
الحسن الوزان. فقد جاء عند مارمول أنها مدينة صغيرة مغلقة، توجد على مسير
ثلاث ساعات من آسفي، وأنه قد كان لها بعض إسهام في الحروب التي قامت بين
البرتغال والمغاربة. ففي أثناء الحملة العسكرية أرسل بها المرينيون من فاس
في سنة 1514 على برتغاليي أزمو، وقد كانت للمدعو يحيى بن تعفوفا [(هـ. م)
كذا ! وهو يحيى بن تعفوفت، أو يحيى أوتعفوفت وهو الأرجح] مشاركته في تلك
الواقعة، ثم انسحب بعدها إلى آسفي، وأوشك يقع في أيدي طالبيه على مقربة من
سرنو حيث نزل لبعض الوقت، ثم أفلح في دخول آسفي، بيد أن الجنود الذين أرسل
بهم فاس قاموا باجتياح «المدينة»، وأعملوا الخراب كذلك في سرنو. لكن يحيى
بن تعفوفا تلقى المكافأة بسيرته الباهرة في تلك الواقعة بأن مُنح سرنو
وخوّؤل مداخيلها لا يشاركها فيه أحد.
إن تلك المدن الصغيرة التي يصورها
لنا كل من الحسن الوزان ومارمول (وهي سرنو والمدينة وتيط والمدن القائمة
بطول وادي أم الربيع)، قد وقعت بإزاء الطرفين المتحاربين في وضع شاذ غريب؛
فمهما كان الموقف الذي تقفه لم تكن تسلم من التخريب يقع عليها من أيديهما
معاً. وقد سار الاحتلال البرتغالي بعكس الاحتلال الإسباني الذي اتجه إلى
السواحل الشمالية من المغرب؛ فالبرتغاليون قد اتجهوا إلى المنطق الداخلية،
غير أنهم لم يفلحوا في التوطيد لأنفسهم فيها لنقص الإمكانيات لديهم وعدم
استمرار الحكومة المركزية في الاهتمام بالأمر، فهذا أعاق الغزو البرتغالي،
وقد كان فيه تهديد دائم لازدهار البلاد الذي كان لا يفتأ يتعرض للتقويض،
فتارة باسم ملك البرتغال وأخرى باسم سلطان فاس، ما لم يقع عليها ذلك
التخريب من الشرفاء السعديين. ولا يفتأ مارمول يذكر لبنا البلاد التي تعرض
للتخريب على عهد البرتغالين، ثم أعيد إعمارها.
أطلال سرنو
توجد
أطلال سرنو في المكان المسمى المرس، فنحن نرى هنالك سوراً من التراب
عريضاً، وقد كان يمكن بطبيعة الحال أن تقام عليه التحصينات، وهو يحيط بما
يقرب من اثني عشر هكتاراً. وقد كانت حفرت فيه في ذلك الزمان المئات من
المطامير، وقد باتت اليوم مهجورة؛ فكأننا بتربة ذلك المكان قد لغمت تلغيماً
الآن كلها يبدو أنه تعرض لهجومات. ويبدو أن الأرض هنا ملغمة. ومن هذه
المطامير يستمد المكان اسمه الحالي «المرس»، فالكلمة تدل في الدارجة
المغربية على الموضع الذي توجد فيه مطامير. فهل تكون هذه الأهراء أقيمت بعد
أن صارت المدينة مكاناً مهجوراً؟ وأي شأن قد كان لهذه المدينة على وجه
التحديد؟ يتعذر علينا اليوم أن نأتي بجواب لهذا السؤال. فنحن نرى ذلك السور
قد أحاط بعدد من الحفر المتفاوتة أحجاماً بفواصل بينها من 25 متراً. ويلوح
كأنما هذه الحفر قد كانت تستخرج منها المواد المستعملة في بناء تلك
الأسوار، وإن كنت غير مستيقن من هذا التفسير. وتُرى في أنحاء ذلك المكان
آثار لأبراج كانت تقوم خارج تلك الأسوار قد تخللتها فواصل من نحو 60 متراً.
ولم نسمع من أفواه الناس في هذا المكان حديثاً أو حكاية تعود إلى سرنو
القديمة. القديمة. لكن ليس ببعيد أن تكون الخرائب والأطلال التي في هذا
المكان تعود إلى المدينة التي صورها مارمول.
سيدي قاضي حاجة
غادرنا
سرنو وأخذنا وجهتنا إلى قصبة قايد عبدة الشهير سي عيسى بن عمر، ومررنا في
الطريق إليها بكل من دار ولد العياشي ودار ولد الكوري، وكنا نسير وسط بلاد
تزخر بالزراعات وتظهر عليها سيماء الغنى. وعندما صرنا على مشارف القصبة
مررنا بحويطة قد قد صبغت من البياض الناصع، وقد استفسرنا عن اسم الولي دفين
هذا الموضع، فقيل لنا إنه سيدي قاضي الحاجة؛ فهو يقضي حوائج المتبركين به،
أقرب شبهاً إلى القديس إكسبيدي عند الكاثوليك. ومن المستبعد أن يكون سيدي
قاضي الحاجة هو الاسم الحقيقي لهذا الولي، وأغلب الظن أن يكون من أولئك
الأولياء أمثال سيدي معروف وسيدي الغريب وسيدي صاحب الطريق وسيدي المخفي،
الذين نجدهم في مواضع أخرى.
ميات بير
ثم
تركنا قصبة سي عيسى بن عمر (في الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة)، وسرنا
نتجه صوب «ميات بير»، التي تعرف كذلك باسم «ميات بير وبير»، وقد جاء
تصويرها عند الحسن الوزان، التي أسماها «Centopozzi»، ووردت عند مارمول
باسمها الذي تعرف به عند الأهالي. واتفق لنا أن ضللنا الطريق عدة مرات لدى
مسيرنا إلى ميات بير، وما جئنا إليها، من خلال غابة عظيمة من الدوم
والكندول والرتم، إلا في الساعة الرابعة وخمس عشرة دقيقة.
وميات بير
وبير تقوم في واد منحفر في أرض من الكلس الحُثي، فإذا هبت عليها الريح
تناثرت لها تلك الحجارة. والماء يوجد غير كثير الغور، والآبار فيها كثيرة،
ويوحى إلينا أن معظم هذه الآبار قد وجد في هذا المكان بصورة طبيعية، وأن يد
الإنسان لم تزد على أن تولتها بالإصلاح والتهييء. من هذه الآبار اشتق
بطبيعة الحال اسم هذا المكان. ولا تجد في هذا الوادي من غابة، وإنما تعمره
بل الحجار، فهي تتناثر فيبدو بها في صورة شاذة غريبة. فتضفي عليه هيأة
غريبة متناثرة فقط تعطي طابعا غريبا للمشهد. والمكان الأكثر رطوبة في هذه
الناحية هو القائم في مواجهة ضريح سيدي محمد بن عبَّاد، الذي يقوم في مرتفع
يشرف على ذلك الوادي. وإنه ليعصب أن نجد اتفاقاً بين الصورة التي توجد
عليها ميات بير اليوم وتلك الصورة التي جاء لها بها كل من الحسن الوزان
ومارمول. فقد تحدث كلاهما عن وجود كانت تحفظ فيها الحبوب لقرون دون أن
يطولها الفساد [(هـ. م) كتب الوزان : «ويقول سكان هذه البلاد بأن القمح
يحفظ في هذه الطامير مائة سنة دون أن يفسد أو تتغير رائحته». فهي مائة سنة
وليست قروناً!]. والحال أن الحفر التي في ميات بير إنما هي آبار للمياه
وليست مطامير [للزروع]. ثم إن اسم «البير» لا يمكن أن ينطبق على الموضع
الذي تحفظ فيه الحبوب، ويسمى في العربية «مطمورة»، وهو كان مألوفاً لدى
الوزان ومارمول نفسيهما. وإذا أخذنا في الحسبان أن الوزان لم يشر بشيء إلى
سرنو، وهي موضع قد كان له مع ذلك شأن وأهمية، وأن الوصف الذي جاء به
للمطامير التي في ميات بير يصح من كل الوجوه على الحفر التي وقفنا عليها في
سرنو، غلب عندنا الاعتقاد أنه لم يزر أياً من هذين الموضعين، وإنما كتب
عنهما بطريق السمع، فجمعهما هما الاثنان تحت اسم «ميات بير»، ولاسيما أن
الموضعين متجاوران. ثم جاء مارمول بعد ذلك فقام، كما هي عادته، بالنقل عن
الوزان، لكنه زاد الحديث عن سرنو، ومن المحتمل أن يكون استند في حديثه عنها
إلى بعض المصادر البرتغالية. ونحن نميل إلى الأخذ بهذا الاستنتاج، ولاسيما
أن الفصل الذي تحدث فيه مارمول عن سرنو وعن مواضع أخرى عديدة يغيب كلياً
عند الوزان.
وقد ذكر لنا فقيه ذلك الموضع أنه توجد غير بعيد من المكان
حيث نصبنا خيامنا أطلال مدينتين صغيرتين قال إنهما تسميان «ويرس»
و»تيغوين»، لكن لم يسعفنا الوقت بزيارتهما، ولم نر في اسميهما ما ييسر لنا
التعرف عليهما. وقد تحدث الوزان ومارمول عن وجود بعض اليهود في ميات بير
[(هـ. م) كتب الوزان : «والسكان فيها قليلون جدا، لأنه لا يوجد فيها أي
صانع باستثناء بعض الحدادين اليهود»، الوصف، م. ذ.، ص. 153-154].، لكن لم
يعد لهم وجود في أي مكان من دكالة أو في عبدة، ولا تجد بعضهم في غير قصبة
سي عيسى، ومن الواضح أنهم إنما التحقوا بها منذ وقت قريب. وفوق ذلك فإن
مارمول يذكر أن سكان ميات بير كانوا من البربر المستقرين، لكن يصعب علينا
اليوم أن نجزم بشيء في هذه المسألة المتعلقة بالأعراق. لكن بالإمكان أن
نقول إنه إذا كان لما الوزان ومارمول قد خلطا بين ميات بير وسرنو فإن
التفاصيل التي جاءا بها في شأنهما يمكن أن تنسحب على أي من هذين الموضعين.
ويجدر بالتذكير مع ذلك، في ما يتعلق بمسالة الأعراق تلك، أننا عندنما ضرنا
على بعد عشرين دقيقة من ميات بير مررنا بقرية من الأكواخ، تسمى «الشلوح»،
لكن أهلها يزعمون مع ذلك أنهم عرب، وهو أمر وجدته مبعثاً لكثير من الشكوك.
سيدي معاشو وداء الكلب
توجد
ميات بير بفخذة الغنيميين، التي شاع تحريف الناس لها، كما هو معهود في
اللهجات المغاربية؛ فيجعلونها «الغليميين». وبين الغنيميين وقصبة سي عيسى
يقوم المعاشات، الذين مررنا ببلادهم. وهم أقرباء المعاشات الموجودين عند
الشاوية وعند الشياظمة، ناحية سوق جوار سوق الحد، على مقربة من عين الحجر،
غير بعيد عن مدينة الصويرة، وهنالك يوجد ضريح سيدي معاشو وزاوية المعاشات.
ويشتهر أحفاد هذا الولي بأن لهم بركة العلاج من داء الكلب؛ فهم يجعلون
المصابين بهذا الداء يشربون ماء يخفونه في آنية، ويجعلونهم يشربونه بواسطة
قناة من القصب؛ فلا ينبغي للمرضى أن ينظروا في الماء الذي يشربون. ثم
يلازمون المكان إلى جوار ذلك الضريح أربعة أيام لاستكمال العلاج، ثم إنهم
يضعون بعض الملح على موضع العضة التي كانت سبباً في ابتلائهم بذلك الداء.
ويجدر بي أن أشير ههنا إلى أن في ولاية وهران يوجد كذلك ولي يقال له سيدي
امعاشو يشتهر بالمداواة من داء الكلب.
زيارة مغارة
(فاتح
يونيو). انطلقنا في الساعة السادسة وخمس دقائق في اتجاه الغربية ببلاد
دكالة. فمررننا أولاً بالبساتين المزينة بالنخيل من حول [ضريح] سيدي عبد
العزيز المنور، وهو رصيف لسيدي محمد المذكور، وسرعان ما جئن إلى مجموعة
البيوت التي تخص الزاح. وفي الساعة السابعة تركنا قافلتنا تواصل مسيرها صوب
الغربية، وانحرفنا إلى اليسار لزيارة مغارة قد أشير علينا بزيارتها،
وسمعنا عنها العجائب من أفواه مخبرينا المسلمين؛ فقد زعموا أن بداخلها
آباراً ونهراً جارياً وتماثيل من نحاس!... ومع أن الاعتقاد عندنا كان أن
محدثينا قد غلب الخيال عندهم على ما صوروا لنا من تلك الأشياء، فإن ذلك لم
يكن ليثنيا عن الذهاب لرؤية هذه المغارة. فسرنا في هضاب أشبه ما تكون بتلك
التي مررنا بها في اليوم الذي قبل؛ فليس فيها أثر لنبت والصخور انتشرت منها
في كل مكان، والطريق إليها شاقة قد امتلأت من الحجارة الكبيرة. بيد أن
الماء ليس بالغوير، كما يدلنا عليه غير قليل من الآبار. وترى في تلك
النواحي منخفضات أشبه ما تكون بتلك التي أسميناها وادي ميات بير، وقد
تخللتها بعض الآبار. وفي الساعة التاسعة أمكن لنا أن نصل بعد لأي إلى سيدي
عزوز، وعلى بعد خمسين متراً من ذلك الموضع توجد، بقرب شجرة تين، باب
المغارة.
دخلنا تلك المغارة مستضيئين بالشموع، فوجدناها عبارة عن ممر
بعلو ستة أمتار إلى ثمانية وبعرض اثنى عشر متراً إلى عشرين حسب الأماكن،
وتمتد على طول مائة وأربعين أو نحوها، مع شيء من الميلان. وقد جعلنا نسير
متلمسين طريقنا إذ لم تعد الشموع تجدي فتيلاً. وكنا نرى بعض الأجسام
البيضاء تتحرك على الأرض؛ إنها صغار الطيور الليلية. ثم جئنا إلى منحدر صلب
الوعورة وشديد الانزلاق، فقد اكتسى أرضه طيناً غليظاً ورطباً. ثم صارت
القبة الجبلية إلى اتساع، فما عدنا نميز شيئاً في تلك المغارة، وما عدنا
نسمع غير أصوات كأنها الهدير. والأهالي أناس شجعان، لكنهم شديدو إيمان
بالخرافات، فلم يجرؤوا على المضي أبعد في تلك الموضع. ثم جعلنا ننزلق مع
ذلك المنحدر الذي ينتهي إلى الموضع حيث كنا نقف، وسرنا نجوس في وحل كثيف،
إلى أن انتهينا إلى قاع تلك المغارة. فما وجدنا فيها شيئاً مثيراً، وما
فيها غير بعض البرك التي يتقطر فيها الماء من السقف. فلاوجود فيها لعين
خارقة، ولا وجود فيها لجرف ولا أنهار أو تماثيل... فلما رجعت من تلك
المغارة قلت للأهالي إنه ليس فيها شيء مما يزعمون، وإن بوسعهم أن يدخلوها
فيروا بأنفسهم كما رأينا، فما وجدت بينهم من يصدق حديثي. فقد وعموا أنني
إنما توهمت أنني بلغت منتهى تلك المغارة، وأن فيها مخرجاً لم أستبنه؛ وإن
هي إلا حاجتهم في أن يؤمنوا بأن تلك المغارة لا يحدها شيء. فلما يئست من
إقناعهم توقفت عن ذلك الجدال العقيم الذي لانفع فيه. وليس من شك أن الناس
سيتحدون في البلد أن مسيحياً قد سعى في دخول تلك المغارة فخاب مسعاه، لأن
الجن منعه من الوصول إليها، أو ما أشبه من هذه الحكايات... ثم إن هذه
المغارة ليست موضوعاً لأي شعيرة دينية خاصة. فليس فيها من فائدة، وما حوت
غير قشرة رقيقة من الغواندو.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 12 -
البرتغاليون كانوا يعتبرون الأقاليم الغريبة مناجم يجب استنزافها، وما كان يدفعهم إلى الغارات غير السلب والنهب!
الطريق إلى المدينة
عدنا
إلى مواصلة مسيرنا (في الساعة العاشرة وأربعين دقيقة) في اتجاه المدينة.
فإذا تلك الهضبة قد صارت أشد وعورة من ذي قبل؛ فالصخور قد ملأت معظم
أنحائها، حتى ما عاد ينبت فيها غير غيضات ضامرة من شجيرات الكندول. وترى في
بعض الأنحاء من ذلك المكان منخفضات كثيفة العشب، ومعظمها ترى فيه غدران
وهي بعد لم يجف عنها ماؤها. فلاشك أن هذه الهضبة، حيث الماء في سائر
أنحائها على عمق قليل، ستكون في فصل الشتاء مجالاً رائعاً لتربية الماشيىة.
وفي الساعة الساعة الحادية عشرة لاحت لأنظارنا البيوت الأولى من بلاد
أولاد بن يفو. والمساكن في هذه البلاد تتكون من سور من الحجارة دون طين،
يحيط بالبيت قد شيدت حيطانه كذلك من حجارة لابشدها طين، ودعل فوقها سقف من
فروع الأشجار أو من القصب والقش. وكذلك تنصب خيمة في كل من تلك المسوَّرات؛
فالسكان من أنصاف الرحل. ثم سرنا ناحية اليسار مسافة كيلومترين، فلاح لنا
من خلال الكثير من البنايات ضريح سيدي عبد العزيز بن يفو. ثم سرنا ساعة
أخرى فإذا الأرض قد صارت أكثر غنى، فنحن الآن نقترب من بلاد الترس التي
تناولناها بالحديث خلال المسار السابق. وفي الزوال وصلنا إلى سوق الاثنين
التي تقوم بقربه المدينة، أو «لمدينة»، حسب النطق المغربي.
المدينة
كانت
المدينة في الماضي هي العاصمة الحقيقية لدكالة الغرب، أو الغربية، وهو
الاسم الذي كان يقوم في ذلك الزمان مقابلاً لـ[دكالة] الشرقية، ثم كتب
البقاء للاسم الأول دون الاسم الثاني. ولا تزال المدينة تعرف اليوم كذلك
باسم «المدينة الغربية». والحديث يرد عنها كثيراً في الوثائق البرتغالية
ولدى مارمول ودييغو دي طوريس، فقد كان لها دور ريادي في الحملات
[البرتغالية] التي شهدتها تلك الحقبة البطولية. فقد رحل عنها سكانها بعد
سقوط أزمور، ثم أعيد إعمارها على يدي يحيى بن تعفوفا. وقد كانت من جملة
الأماكن التي احتلها البرتغاليون ولقي عليها الملك ض.[ون] منويل التهنئة من
البابا ليون العاشر في إحدى رسائله البابوية. ولاشك أن المدينة قد عانت
كذلك من الثورة التي أشعل فتيلها الشرفاء السعديون في سنة 1510 على
البرتغاليين. وقد ألمعنا من قبل إلى النهب لذي وقع على المدينة من أخي
سلطان فاس، الذي نزح بسكانها إلىى مدينته ليخلصهم من نير المسيحيين. ثم
عادت المدينة بعد ذلك إلى الإعمار، غير أن الحالة الدائمة من الفوضى
والاضطرابات التي تردت إليها المدينة من جراء الصراعات التي اندلعت بين
السعديين، علاوة على ما وقع من المجاعات الماحقة كلها عوامل قد تردت
بالسكان إلى حالة من البؤس أن صاروا لا يربأون أن يبيعوا أنفسهم إلى
المسيحيين لقاء لقمة خبز. ثم لم يلبث العرب أن استقروا بالمدينة، ذلك بأن
سكانها الأوائل كانوا من البربر. فلما استولى العرب صارت إلى خراب كما وقع
لسائر البلاد التي وقعت في أيدي هذا القوم المنحوس من منطقة شمال إفريقيا.
فقد جاء في الترجمة الفرنسية لكتاب مارمول : «[إنهم] لا يريدون أن يعاد
تعميرها، ولا يريدون أن يقطنوا بها، لأنهم لا يحبون أن يسجنوا في منازل
(...) إن القلب ليرق لرؤية مدينة بهذا القدر من الجمال في موقع حسن تكتنفها
البساتين وهي الآن خربة».
نحن نشرف الآن على سور المدينة القديمة، وهو
سور أقرب في شكله إلى أن يكون مربعاً، قد أحاط بثلاثين هكتاراً. وقد شيد
هذا السور بالتراب وهولا يزال في حالة جيدة. وتشير التقطعات في هذا السور
من خلال التصميم [أسفله] إلى المواضع المهدمة منه، سواء أكان من تلقائها أو
بأدي بني البشر. ومن ذلك
أنه لما استولى نونو فرناديش دي أطايدي على
المدينة في سنة 1513، وأوكل حكمها إلى يحيى بن تعفوفا، قام بهدم جانبين من
ذلك السور ليمنع سكانها أسباب التحصن في أوقات التمرد والعصيان. وقد أكد
المستقبل أنه كان مصيياً في مخاوفه. ونحسب أن المدينة لم تكن لها غير باب
واحدة حقيقية، فالمدن الصغيرة في ذلك الوقت لم تكن لها غير باب واحدة، كما
هو حال مدينة الجديدة إلى اليوم. ومن اليسير علينا أن نتعرف على بقايا تلك
الباب في الناحية الجنوبية الغربية من السور. وقد كانت باباً مقوسة، كما لا
يزال الشأن إلى الآن في الأبواب المغربية القديمة. ولا يبدو أنه قد كان من
خندق يحف بذلك السور؛ فما كانت الخنادق تُجعل من حول الأسوار من العادات
المتبعة عند البربر المغاربة. بيد أننا نلاحظ من حول الأسوار بعض المنخفضات
التي ربما كان مأتاها من تلك الخنادق. غير أنني أميل إلى الاعتقاد – كما
هو الشأن في سرنو – أن هذه المنخفضات إنما السبب فيها الحفر التي كانت
تستخرج منها مواد البناء. وقد لا يُستبعد أن تكون تلك المنخفضات إنما أحدثت
لتأمين الحماية للمدينة؛ فما كان تحصين المدينة يزيد عن بعض الأبراج التي
كانت تقوم على فواصل من عشرين متراً، ولا تزال ترى لها بعض البقايا.
ويعيش
اليوم في بعض الأنحاء داخل أسوار المدينة أهل الغربية. ومن المحتمل أن
يكونوا هم ذرية أولئك العرب الذين تحدث عنهم مارمول في ذلك الوصف المغم
الذي جاء به للمدينة. لكنهم صاروا يغلب عليهم الاستقرارأكثر مما كان في
السابق. فهم يسكنون اليوم بيوتاً مشيدة من الحجارة ومن مواد بناء جاءوا بها
من المدينة القديمة، غير أنها بيوت تفتقر إلى التنسيق والنظام، وبإزائها
يقيمون الخيام. وتقوم في بعض المواضع من ذلك المكان بساتين من أشجار التين،
وأما الزاوية الشمالية من السور فلا تكاد ترى فيها غير أكوام عظية من
الحجارة، متأتية دون شك من الخراب الذي حاق بالمدينة. ويجدر بنا أن نضيف
أننا علمنا من بعض المصادر في ذلك المكان أنه قد كانت يقوم هنالك، إلى عهد
غير بعيد، أطلال أحد المساجد داخل ذلك السور.
يهود المدينة
وخارج
ذلك السور يقوم في الناحية الغربية سور آخر قد أحاط بحوالي أربعة هكتارات،
وليست له باب على الخارج، وإنما يتصل بداخل السور الأول. وأما النطاق
الداخلي من السور الثاني فهو قفر خلاء، إلا من ضريح قد أقيم هنالك منذ عهد
قريب بطبيعة الحال. والعادة الجارية في هذه البلاد أن هذا السور الثاني
يُجعل من حول للملاح، وهو الحي الذي يقطنه اليهود من المدينة. وأما اليوم
فما عاد لليهود وجود في المدينة، ولا عاد لهم وجود في سائر أنحاء دكالة،
لكن الراجح أن شأنهم في الماضي كان على خلافه اليوم. وهناك أسباب عديدة
تحملنا على الاعتقاد أن المسوَّر الثاني قد كان من قبل ملاحاً. ويجدر بنا
أن نلاحظ أولاً أن هذا المسور يقع تحديداً في الموضع المعهود أن تقام فيه
الملاحات؛ فهي تُجعل في العادة بإزاء السور الخارجي، ولا يكون غير باب
واحدة تنفتح على المدينة، لكن يقام بإزاء الأسوار، والغالب فيه أن يجعل
بقرب إحدى الأبواب التي تنفتح في هذا السور؛ فكذلك شأنه في فاس وفي مراكش
وفي الصويرة... وثانياً ستسنح لنا الفرصة في ما يقبل من هذا الكتاب لنثبت
أن اليهود كانوا يبوؤون داخل المجتمع المغربي خلال العصور الوسطى مكانة
أعظم مما لهم فيه الآن. وقد وجدنا الوزان ومارمول في ما يتعلق خاصة بالبلاد
التي تعنينا في هذا المقام، يكثران من الحديث عن وجود اليهود، كما في حديث
[مارمول خاصة!] عن سرنو. وليس الأمر بمقتصر على ما ذكرنا، وإنما تجد
الذاكرة الشعبية قد احتفظت بذكرى لزمن كان اليهود يحظون بمكانة اجتماعية
أين هي من الوضع الذي صاروا إليه اليوم.
أسطورة ابن مشعل
وأما
سكان المدينة في الوقت الحالي فإذا سألتهم عن تاريخ المدينة لم يجدوا ما
يحدثونك به، إلا عن يهودي يدعى ابن مشعل، قد ظل يستأثر بالسيادة على تلك
المدينة لوقت طويل. ويقولون إن كنزه لا يزال بطبيعة الحال في ذلك المكان،
مخبَّأ في «طوفي»، أي في قبو. ذلك بأن القشرة القشرة الكلسية التي تغطي
التربة في هذا الموضع تسعف على حفر الأقباء، لتُتخذ مخازن، وقد تُجعل كذلك
إسطبلات للبهائم. وعلاوة على كل ما ذكرنا فإن على مقربة من المدينة يوجد
موضع لم أتمكن لسوء حظي من الوقوف عليه، ويعرف باسم «سور موسى»، وقد سمعنا
أنه من بقايا قصبة كان يقيم فيها يهودي يدعى موسى، وأنه قد كان هو الآخر من
الملوك الذين حكموا هذه البلاد.
ومما يزيد في استغرابنا أن نجد هذه
القصة التي تتحدث عن ابن مشعل، اليهودي، السيد على بلاد، وصاحب الكنوز، قد
تناقلتها الكتب التي تناولت تاريخ بلدان المغرب لدى حديثها عن السلطان
مولاي رشيد. فالقصة تحكي أن مبتدأ السلطان في تكوين ثروته كان بالاستيلاء
بالحيلة على [أموال] شخص يدعى ابن مشعل، وهو يهودي شديد النفوذ كان يعيش في
قصبة بالقرب من مدينة تازة، وقد كانت لديه أموال وذخائر طائلة قد خبأها
فيها. وسيكون من الغريب، وأظن أنه سيكون من غير المحتمل، حسب الانطباع الذي
تكون لديَّ في ذلك المكان، أن تكون هذه الحكاية انفلتت من [كتب] الأدب
العربي لتنحفر في ذاكرة العامة. ولكم أود أن أحمل نفسي على الاعتقاد بأن
المدعو ابن المشعل، اليهودي، هو من تلك الشخصيات الأسطورية، من أمثال
السلطان الأكحل الذي يلصق اسمه بكل بناء قديم في المغرب. ويمكن أن نحتج في
دعم هذه الأطروحة بأن الروايات التي تركها لنا المؤلفون المغاربة تعطينا
الانطباع بقلة توخيها الدقة بأن قصة ابن مشعل لا تعدو أن تكون من الأساطير.
ووحده أحمد بن خالد [الناصري] من أشار إلى وجود قصبة ابن مشعل في بني
يزناسن [(هـ. م) الواضح من الاستشهاد السابق أن الإشارة إلى وجود القصبة في
بني يزناسن قد جاءت عند القادري. وأما الناصري فلم يزد عن الأخذ عن صاحب
النزهة وصاحب النشر!]. ويجدر بالملاحظة كذلك أن هذه القصبة، كما هو الشأن
في المدينة، بناء قديم من قبيل تلك القصبات التي يرجح أنها تحرك بأطلالها
خيال الناس. وأشار محمد بن رحال الذي زار بني يزناسن إلى أن لهذه الرواية
ذيوعاً وانتشاراً في المغرب. ففي بني يزناسن حيث يموضع هذه الحكاية موضع
يقال له دار بن مشعل. وهنالك فخدة أخرى رأى المؤلف أن اسمها ذو أصل يهودي.
وحسبنا أن نلاحظ أن وجود أسطورة ابن مشعل في المدينة كما في بني يزناسن
يتفق وحكايات شعبية أخرى تتعلق باليهود. فإذا جمعنا هذه الأمر إلى التشابه
الواضح الذي نراه بين المسور الصغير في المدينة وبين الملاحات في صورتها
الحالية وأسوار المدينة صرنا إلى الاعتقاد أنه قد كان يوجد في هذه البلاد
يهود كثر في الماضي وأنهم قد كانوا يضطلعون بدور اجتماعي هام. وسنرى في ما
يقبل من هذا الكتاب أن التحليل الذي سنأتي به لبعض المؤسسات الدينية في
المغرب سيكون فيه تأكيد لهذه الخلاصات.
(2 يونيو). انطلقنا من جديد
وجهتنا شمالي الشمال الغربي في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة. فمررنا
بإزاء ناعورة قديمة، والنواعير توجد بكثرة في هذا البلد، وجميعها متهالكة
توحي بأنها تعود إلى قديم العهود. فإذا المشهد قد صار يفقد من جماله؛
فالصخور الجرداء تملأ الأرجاء، ولا تقع على شيء من الرمل في غير المنخفضات،
وقد اختلط هذا الرمل بالدُّبال، فصار يشكل تربة نباتية في غاية الخصوبة،
من شأنها أن تسفر عن مناطق رعوية كثيفة. والغابة ههنا يكونها نبات الكندول
والدوم والبرواق ذي السيقان الطويلة والجميلة، وتتخللها كلها نباتات النجيل
الطويلة، التي نراها الآن جافة، وسيقان الخرطال الطويلة التي لا يزال
يطالعنا في الأرض حشافها. بل إن بساط الأرض أكثره يكونه نبات الدمويات؛
ولاشك أنها في فصل الربيع تكون كلأ طيب المذاق للماشية؛ فهي لا تزال تجد
فيه مطعماً حتى الآن وقد طال الجفاف كل هذه النباتات. والصورة العامة للأرض
ههنا تتألف من سلسلة تموجات موازية لساحل البحر وقد حوت في ما بينها أودية
على غير عمق كبير (فلا يزيد عمقها عن 30 إلى 50 متراً). وفي هذه المنخفضات
مواضع رطيبة كثيرة، يغمرها ماء الشتاء فتكون في شهر أبريل مروجاً شاسعة؛
فكنا لا نزال تطالعنا فيها مجموعة من الغدران المتفرقة. فهي بلاد مواتية
للرعي. وأكثر ما يميز هذا المجال يأتيه من تلك الصخور الجرداء التي تملأ كل
ناحية فيه، بحيث لا يشكل الدُّبال غير قشرة متقطعة فوقها. وحيثما انعدم
الدُّبال تخلفه نباتات صخرية صفراء وسوداء وزرقاء. ولقد صيرت عوامل الطبيعة
هذه الصخور إلى كثير من الأشكال الغريبة؛ فهي تارة طاولة مقطعة ومحذوذبة،
وتارة أخرى سطح متصل تتخلله نتوءات صخرية، فهي تتقاطع فيه لتشكل شتى أنواع
الرسوم. فالرحالة الذي يضرب في هذه الهضاب الشاسعة يشطح به الخيال كثيراً
وعلى نحو أقرب إلى ال بما يطالعه من تلك الرسوم؛ ويخيل إليه كأنه يرى فيها
أشكالاً من الفسيفساء أو تمثيلات لأشياء مألوفة لديه من قبيل الحذوات
والسنادين والأقداح والكراسي... ثم إن السير في هذه التربة أمر في غاية
الصعوبة؛ فلم يسعنا أن نقطع منها أكثر من خمسة كيلومترات في الساعة.
بين المدينة والوليدية
في
الساعة الثامنة والنصف تركنا الكور على بعد خمسة كيلومترات إلى اليسار.
وفي حوالي الساعة التاسعة صباحاً ها نحن بإزاء ضريح يسمى سيدي بلعباس.
وداخل مسور الضريح لا تزال تنتصب بعض الأقواس قيل لنا إنها أطلال مدرسية
قديمة. وبجانب الضريح غدير وبئر. وليس ببعيد أن يكون هذا المكان ضم من قبل
مركزاً صغيراً يكاد اليوم يكون أثراً بعد عين. ونحن نقف الآن في واحد من
تلك الأودية الموازية للبحر، والتي سبق لنا الحديث عنها. وفي هذا الوادي
يقوم إلى اليمين على بعد كيلومترين أو نحوهما قبة فقراء أولاد بن عميرة،
وعلى بعد ستة كيلومترات من هذا المكان تقوم قبة سيدي المعطي، وعلى بعد سبعة
كيلومترات تقوم قبة سيدي عبد النبي. وهؤلاء الأولياء موجودون جميعاً داخل
تراب عبدة. فلما ارتقينا الهضبة التي أمامنا وجدنا أنفسنا أمام تجمعين
للسكان قد اختلطت فيهما النوايل والخيام ويقدم أحدهما على الآخر؛ إنهما
لفخدة الحميطات (التي بلغناها في الساعة التاسعة والنصف)؛ ومن ذلك الموضع
كنا نستبين البحر. ويجدر بالملاحظة أن السفح البحري لجميع هذه التضاريس
أكثر تشبعاً بالرمل من السفح الآخر، فتكون تربة النباتية التي تغطي الصخر
في هذا الموضع ذات تكوين هوائي. وبعد ذلك صارت الأرض التي تزداد وعورة، فقد
صارت الأرض تغص بالحجارة المقطَّعة المناثرة، حتى لقد صارت البهائم لا
تهتدي فيها إلى موطئ لقوائمها. وأما الساعة الأخيرة التي كانت تفصلنا عن
قبل ساحل البحر في الوليدية (التي جئناها في الساعة الحادية عشرة وخمس
دقائق)، فإن المسافة التي قطعناها خلالها لم تزد عن ثلاثة كيلومترات.
آثار رفاه قديم
سرنا
في طريقنا من الوليدية إلى مازكان فقد بمحاذاة الشاطئ. وإن وصف هذا
الشاطئ شيء أرجئه، كما سبق لي أن قلت، إلى موضع آخر من هذا الكتاب، ولذلك
أعفي نفسي ههنا من الإتيان له بتصوير. إن مرحلة يوم 2 يونيو تنتهي إلى
زاوية سيدي أحمد بن مبارك، وأما مرحلة بعد الغد فسيكون منتهاها إلى مزكان.
وسوف لا أستقي من مذكرتي إلا المقطع التالي، والذي من شأنه أن يساعدنا على
تجلية مسألة مهمة؛ أريد بها الرفاه الذي كانت تنعم به في الماضي بلاد
دكالة، ونعمت به المناطق التي نمر بها الآن بوجه عام. «في الساعة السادسة
وخمس وثلاثين دقيقة مررنا بقرب أطلال سانية بومهدي». وكلمة» سانية»، التي
تدل في العادة على «العجلة المائية الرافعة ذات القواديس»، وهي النورية،
كثيراً ما تطلق في هذه البلاد يراد بها لها «البستان». ثم إننا نرى
النواعير حيثما ولينا بأوجهنا من هذه الناحية؛ فهي فيها كثرة كثيرة. وليس
من باب المبالغة أن نقول إن النوريات تملأ، حقيقة لامجازاً، الوادي الذي
نسلكه الآن؛ حتى لا يكاد يخلو منها موضع فيه. وليس ببعيد أن هذا المكان كان
من قبل بستاناً مترامي الأطراف». إنها كلمات كتبتها في عين المكان، ولذلك
أعيدها ههنا من غير نقصان ولا زيادة.
فيكون قد مر زمن على هذه البوادي
كانت فيه تغطيها كلها الزراعات، وليس ببعيد أن تكون العناية التي كانت
تلقاها في السقي قد مكن فيها للأشجار، ويخيل إلينا أنه قد وجدت بساتين
للخضار في الأماكن التي نراها اليوم لا تزيد عن زراعة الحبوب. وقد كان هذا
الموضع يمتلئ من تلك المدن الصغيرة؛ على غرار سرنو والمدينة. وجملة القول
إن هذه البلاد قد نعمت بقدر من الرفاه لم تعرف إليه سبيلاً في ما تلا من
الزمان. ولاشك أن هذه البلاد لا تزال تعرف الزراعة، لكنها باتت فيها دون
سالف عهدها من الكثافة. وليس ببعيد أن يكون زوال المدن قد أدى إلى اندثار
الصنائع؛ فليس لها حظ في البقاء إلا مع حياة الاستقرار في المدن.
السيطرة البرتغالية
القول
إن المدن كانت كثيرة من قبل في دكالة فليس هو بالأمر الشكوك فيه؛ فقد
وجدنا حديثاً عنها وتصويراً لها عند كل من الوزان ومارمول. ومنها ما كان
معروفاً على نطاق واسع، فلا تفتأ تطالعنا الخرائط بأسمائها؛ من قبيل «أيير»
و»تيط» و»بولعوان»، وبعضها لا نلاقي مشقة في الاهتداء إليها؛ من قبيل
«المدينة» و»سرنو» و»ميات بير». بل إننا يوم أن يُشرع في الأبحاث سنقع على
المدن التي يذكرها الوزان ومارمول وكذلك تذكرها الوثائق البرتغالية بأسماء
شديدة التباين في رسمها؛ من قبيل «السبيت» و»تامراكشت» و»تركا» و»كيا»
و»بني قصيز» و»تلمز» و»أوميز»، و»أوكيريز» و»خورجيدان» و»نومار» وسواها.
وقولهم إن هذه المدن قد عرفت نشاطاً كبيراً في مجالي التجارة والحرف، فهو
أمر ربما أمكن أن نقع له على تأكيد في وجود اليهود، الذي سعينا إلى التحقق
منه، في هذه المدن. لكن الثابت أن البرتغاليين قد أفادوا من هذه المدن
الخيرات الكثيرة، بما يحملنا على الاعتقاد أنهم كانوا من أسباب الخراب الذي
حاق بهذه البلاد، لفرط النهب والاستنزاف الذي وقع منهم على خيراتها.
ومن
المعلوم أنه عندما تم لنونو فرنانديش الاستيلاء على مدينة آسفي قام بإعمال
النهب والتخريب في سائر أنحاء البلاد، ثم قام الشرفاء السعديون فحشدوا
السكان في ثورة عليهم لم يكتب لها النجاح. وعلى أثر ذلك شن برتغاليو آسفي
غارات غنموا فهيا الكثير. فقد ورد في الترجمة الفرنسية لكتاب مارمول :
«وأسر خمسمائة وسبعة وستين، سواء من الصغار والكبار، وغنمت خمسة آلاف رأس
من الماشية وألف ثور أو بقرة، وثلاثمائة جمل، مع عدد من الخيل والدواب،
وعادوا بها إلى آسفي منتصرين». ولو أن البرتغاليون لم يقوموا بهذه الغارات
إلا بدفع الانتقام لقد كان يمكن للبلاد أن تنهض من جديد، وواقع الأمر أنهم
كانوا يعتبرون الأقاليم الغريبة مناجم يجب استنزافها، وما كان يدفعهم إلى
تلك الغارات غير السلب والنهب. ولأجل تحقيق هذا المراد قاموا باستمالة قسم
من سكان هذه البلاد إلى جانبهم، واجتذبوا إليهم رؤساءهم، ويظل يحيى بن
تعفوفا [يحيى بن تعففت] الشخصية الأبرز بين هؤلاء الرؤساء الأهالي.
وما
كان البرتغاليون يقتصرون بالنهب والاستنزاف على الموارد الطبيعية للبلاد،
بل أوقعوا ساكنتها في براثن الفقر. ومن المعلوم أن الرق كان شيئاً شائعاً
في مدينة لشبونة، وقد كان حكام آسفي من بين المزودين لأسواق الرقيق في
البرتغال. وما أكثر ما نقرأ لهذين الكاتبين قولهما : «وأرسل عدداً من
الأسرى ليباعوا ليباعوا في البرتغال». وكتب المؤلف عن مدينة «حيا» )والقصود
بها حاحا(، والتي لا تزال بحاجة إلى تحديد : «هاجم نونو فرنانديث المدينة
في سنة 1514 ومعه يحيى بن تعففت، وجاء منها بأسيرات لم تشهد البرتغال
مثيلات لهن في الجمال منذ وقت طويل». ويفيدنا المؤلف كذلك أن في تلك السنة
نفسها، وخلال المعركة التي كانت فيها هزيمة أخي ملك فاس، «نهب المسيحيون
المعسكر، وأسروا فيه خمسمائة وثمانين رجلاً وجميع النساء والأطفال والشيوخ
الذين عثر عليهم بالمعركة. فكان الأسرى من نصيب المسيحيين، والغنيمة من
نصيب الحلفاء». تلك هي الصورة التي كان يدري بها اقتسام الغنائم، ولاشك أن
مثل هذا الاستنزاف من شأنه أن ينحدر بالبلاد إلى الفقر في وقت وجيز؛ فلا
يعود مجال للاستغراب أن نرى من تبقى سكان «المدينة» يأتون بدافع البؤس
ليجعلوا من أنفسهم عبيداً [عند البرتغاليين]. وبعد أن ذكر مارمول الأتاوات
التي كان الحلفاء يدفعونها إلى ملك البرتغال، زاد قائلاً : «وزيادة على
هذا، كان البرتغاليون يشنون غارات على داخل البلاد بصحبة حلفائهم، ويقبضون
الإتاوات من الأقاليم المجاورة أو ينهبونها ويأسرون السكان». فصار السكان
يفرون طواعية من المدن بعد أن حُرموا فيها الأمن والأمان. فخلال الحملة
التي قام أخو ملك فاس، والتي سبق لنا الحديث عنها، نزح عن تيط والمدينة
والسبيت وبلعوان وميات بير سكانها وبقيت من بعدهم فارغة، وتلقى ملك فاس
الهاربين. ويتحدث مارمول كثيراً عن المدن التي فرغت من سكانها وقت أن وقعت
في قبضة البرتغاليين، ثم عاد إليها السكان بعد أن تخلصت من قبضة
البرتغاليين، في ما خلا مازكان التي لا يزالون لم يتركوها.
البرتغاليون كانوا يعتبرون الأقاليم الغريبة مناجم يجب استنزافها، وما كان يدفعهم إلى الغارات غير السلب والنهب!
الطريق إلى المدينة
عدنا
إلى مواصلة مسيرنا (في الساعة العاشرة وأربعين دقيقة) في اتجاه المدينة.
فإذا تلك الهضبة قد صارت أشد وعورة من ذي قبل؛ فالصخور قد ملأت معظم
أنحائها، حتى ما عاد ينبت فيها غير غيضات ضامرة من شجيرات الكندول. وترى في
بعض الأنحاء من ذلك المكان منخفضات كثيفة العشب، ومعظمها ترى فيه غدران
وهي بعد لم يجف عنها ماؤها. فلاشك أن هذه الهضبة، حيث الماء في سائر
أنحائها على عمق قليل، ستكون في فصل الشتاء مجالاً رائعاً لتربية الماشيىة.
وفي الساعة الساعة الحادية عشرة لاحت لأنظارنا البيوت الأولى من بلاد
أولاد بن يفو. والمساكن في هذه البلاد تتكون من سور من الحجارة دون طين،
يحيط بالبيت قد شيدت حيطانه كذلك من حجارة لابشدها طين، ودعل فوقها سقف من
فروع الأشجار أو من القصب والقش. وكذلك تنصب خيمة في كل من تلك المسوَّرات؛
فالسكان من أنصاف الرحل. ثم سرنا ناحية اليسار مسافة كيلومترين، فلاح لنا
من خلال الكثير من البنايات ضريح سيدي عبد العزيز بن يفو. ثم سرنا ساعة
أخرى فإذا الأرض قد صارت أكثر غنى، فنحن الآن نقترب من بلاد الترس التي
تناولناها بالحديث خلال المسار السابق. وفي الزوال وصلنا إلى سوق الاثنين
التي تقوم بقربه المدينة، أو «لمدينة»، حسب النطق المغربي.
المدينة
كانت
المدينة في الماضي هي العاصمة الحقيقية لدكالة الغرب، أو الغربية، وهو
الاسم الذي كان يقوم في ذلك الزمان مقابلاً لـ[دكالة] الشرقية، ثم كتب
البقاء للاسم الأول دون الاسم الثاني. ولا تزال المدينة تعرف اليوم كذلك
باسم «المدينة الغربية». والحديث يرد عنها كثيراً في الوثائق البرتغالية
ولدى مارمول ودييغو دي طوريس، فقد كان لها دور ريادي في الحملات
[البرتغالية] التي شهدتها تلك الحقبة البطولية. فقد رحل عنها سكانها بعد
سقوط أزمور، ثم أعيد إعمارها على يدي يحيى بن تعفوفا. وقد كانت من جملة
الأماكن التي احتلها البرتغاليون ولقي عليها الملك ض.[ون] منويل التهنئة من
البابا ليون العاشر في إحدى رسائله البابوية. ولاشك أن المدينة قد عانت
كذلك من الثورة التي أشعل فتيلها الشرفاء السعديون في سنة 1510 على
البرتغاليين. وقد ألمعنا من قبل إلى النهب لذي وقع على المدينة من أخي
سلطان فاس، الذي نزح بسكانها إلىى مدينته ليخلصهم من نير المسيحيين. ثم
عادت المدينة بعد ذلك إلى الإعمار، غير أن الحالة الدائمة من الفوضى
والاضطرابات التي تردت إليها المدينة من جراء الصراعات التي اندلعت بين
السعديين، علاوة على ما وقع من المجاعات الماحقة كلها عوامل قد تردت
بالسكان إلى حالة من البؤس أن صاروا لا يربأون أن يبيعوا أنفسهم إلى
المسيحيين لقاء لقمة خبز. ثم لم يلبث العرب أن استقروا بالمدينة، ذلك بأن
سكانها الأوائل كانوا من البربر. فلما استولى العرب صارت إلى خراب كما وقع
لسائر البلاد التي وقعت في أيدي هذا القوم المنحوس من منطقة شمال إفريقيا.
فقد جاء في الترجمة الفرنسية لكتاب مارمول : «[إنهم] لا يريدون أن يعاد
تعميرها، ولا يريدون أن يقطنوا بها، لأنهم لا يحبون أن يسجنوا في منازل
(...) إن القلب ليرق لرؤية مدينة بهذا القدر من الجمال في موقع حسن تكتنفها
البساتين وهي الآن خربة».
نحن نشرف الآن على سور المدينة القديمة، وهو
سور أقرب في شكله إلى أن يكون مربعاً، قد أحاط بثلاثين هكتاراً. وقد شيد
هذا السور بالتراب وهولا يزال في حالة جيدة. وتشير التقطعات في هذا السور
من خلال التصميم [أسفله] إلى المواضع المهدمة منه، سواء أكان من تلقائها أو
بأدي بني البشر. ومن ذلك
أنه لما استولى نونو فرناديش دي أطايدي على
المدينة في سنة 1513، وأوكل حكمها إلى يحيى بن تعفوفا، قام بهدم جانبين من
ذلك السور ليمنع سكانها أسباب التحصن في أوقات التمرد والعصيان. وقد أكد
المستقبل أنه كان مصيياً في مخاوفه. ونحسب أن المدينة لم تكن لها غير باب
واحدة حقيقية، فالمدن الصغيرة في ذلك الوقت لم تكن لها غير باب واحدة، كما
هو حال مدينة الجديدة إلى اليوم. ومن اليسير علينا أن نتعرف على بقايا تلك
الباب في الناحية الجنوبية الغربية من السور. وقد كانت باباً مقوسة، كما لا
يزال الشأن إلى الآن في الأبواب المغربية القديمة. ولا يبدو أنه قد كان من
خندق يحف بذلك السور؛ فما كانت الخنادق تُجعل من حول الأسوار من العادات
المتبعة عند البربر المغاربة. بيد أننا نلاحظ من حول الأسوار بعض المنخفضات
التي ربما كان مأتاها من تلك الخنادق. غير أنني أميل إلى الاعتقاد – كما
هو الشأن في سرنو – أن هذه المنخفضات إنما السبب فيها الحفر التي كانت
تستخرج منها مواد البناء. وقد لا يُستبعد أن تكون تلك المنخفضات إنما أحدثت
لتأمين الحماية للمدينة؛ فما كان تحصين المدينة يزيد عن بعض الأبراج التي
كانت تقوم على فواصل من عشرين متراً، ولا تزال ترى لها بعض البقايا.
ويعيش
اليوم في بعض الأنحاء داخل أسوار المدينة أهل الغربية. ومن المحتمل أن
يكونوا هم ذرية أولئك العرب الذين تحدث عنهم مارمول في ذلك الوصف المغم
الذي جاء به للمدينة. لكنهم صاروا يغلب عليهم الاستقرارأكثر مما كان في
السابق. فهم يسكنون اليوم بيوتاً مشيدة من الحجارة ومن مواد بناء جاءوا بها
من المدينة القديمة، غير أنها بيوت تفتقر إلى التنسيق والنظام، وبإزائها
يقيمون الخيام. وتقوم في بعض المواضع من ذلك المكان بساتين من أشجار التين،
وأما الزاوية الشمالية من السور فلا تكاد ترى فيها غير أكوام عظية من
الحجارة، متأتية دون شك من الخراب الذي حاق بالمدينة. ويجدر بنا أن نضيف
أننا علمنا من بعض المصادر في ذلك المكان أنه قد كانت يقوم هنالك، إلى عهد
غير بعيد، أطلال أحد المساجد داخل ذلك السور.
يهود المدينة
وخارج
ذلك السور يقوم في الناحية الغربية سور آخر قد أحاط بحوالي أربعة هكتارات،
وليست له باب على الخارج، وإنما يتصل بداخل السور الأول. وأما النطاق
الداخلي من السور الثاني فهو قفر خلاء، إلا من ضريح قد أقيم هنالك منذ عهد
قريب بطبيعة الحال. والعادة الجارية في هذه البلاد أن هذا السور الثاني
يُجعل من حول للملاح، وهو الحي الذي يقطنه اليهود من المدينة. وأما اليوم
فما عاد لليهود وجود في المدينة، ولا عاد لهم وجود في سائر أنحاء دكالة،
لكن الراجح أن شأنهم في الماضي كان على خلافه اليوم. وهناك أسباب عديدة
تحملنا على الاعتقاد أن المسوَّر الثاني قد كان من قبل ملاحاً. ويجدر بنا
أن نلاحظ أولاً أن هذا المسور يقع تحديداً في الموضع المعهود أن تقام فيه
الملاحات؛ فهي تُجعل في العادة بإزاء السور الخارجي، ولا يكون غير باب
واحدة تنفتح على المدينة، لكن يقام بإزاء الأسوار، والغالب فيه أن يجعل
بقرب إحدى الأبواب التي تنفتح في هذا السور؛ فكذلك شأنه في فاس وفي مراكش
وفي الصويرة... وثانياً ستسنح لنا الفرصة في ما يقبل من هذا الكتاب لنثبت
أن اليهود كانوا يبوؤون داخل المجتمع المغربي خلال العصور الوسطى مكانة
أعظم مما لهم فيه الآن. وقد وجدنا الوزان ومارمول في ما يتعلق خاصة بالبلاد
التي تعنينا في هذا المقام، يكثران من الحديث عن وجود اليهود، كما في حديث
[مارمول خاصة!] عن سرنو. وليس الأمر بمقتصر على ما ذكرنا، وإنما تجد
الذاكرة الشعبية قد احتفظت بذكرى لزمن كان اليهود يحظون بمكانة اجتماعية
أين هي من الوضع الذي صاروا إليه اليوم.
أسطورة ابن مشعل
وأما
سكان المدينة في الوقت الحالي فإذا سألتهم عن تاريخ المدينة لم يجدوا ما
يحدثونك به، إلا عن يهودي يدعى ابن مشعل، قد ظل يستأثر بالسيادة على تلك
المدينة لوقت طويل. ويقولون إن كنزه لا يزال بطبيعة الحال في ذلك المكان،
مخبَّأ في «طوفي»، أي في قبو. ذلك بأن القشرة القشرة الكلسية التي تغطي
التربة في هذا الموضع تسعف على حفر الأقباء، لتُتخذ مخازن، وقد تُجعل كذلك
إسطبلات للبهائم. وعلاوة على كل ما ذكرنا فإن على مقربة من المدينة يوجد
موضع لم أتمكن لسوء حظي من الوقوف عليه، ويعرف باسم «سور موسى»، وقد سمعنا
أنه من بقايا قصبة كان يقيم فيها يهودي يدعى موسى، وأنه قد كان هو الآخر من
الملوك الذين حكموا هذه البلاد.
ومما يزيد في استغرابنا أن نجد هذه
القصة التي تتحدث عن ابن مشعل، اليهودي، السيد على بلاد، وصاحب الكنوز، قد
تناقلتها الكتب التي تناولت تاريخ بلدان المغرب لدى حديثها عن السلطان
مولاي رشيد. فالقصة تحكي أن مبتدأ السلطان في تكوين ثروته كان بالاستيلاء
بالحيلة على [أموال] شخص يدعى ابن مشعل، وهو يهودي شديد النفوذ كان يعيش في
قصبة بالقرب من مدينة تازة، وقد كانت لديه أموال وذخائر طائلة قد خبأها
فيها. وسيكون من الغريب، وأظن أنه سيكون من غير المحتمل، حسب الانطباع الذي
تكون لديَّ في ذلك المكان، أن تكون هذه الحكاية انفلتت من [كتب] الأدب
العربي لتنحفر في ذاكرة العامة. ولكم أود أن أحمل نفسي على الاعتقاد بأن
المدعو ابن المشعل، اليهودي، هو من تلك الشخصيات الأسطورية، من أمثال
السلطان الأكحل الذي يلصق اسمه بكل بناء قديم في المغرب. ويمكن أن نحتج في
دعم هذه الأطروحة بأن الروايات التي تركها لنا المؤلفون المغاربة تعطينا
الانطباع بقلة توخيها الدقة بأن قصة ابن مشعل لا تعدو أن تكون من الأساطير.
ووحده أحمد بن خالد [الناصري] من أشار إلى وجود قصبة ابن مشعل في بني
يزناسن [(هـ. م) الواضح من الاستشهاد السابق أن الإشارة إلى وجود القصبة في
بني يزناسن قد جاءت عند القادري. وأما الناصري فلم يزد عن الأخذ عن صاحب
النزهة وصاحب النشر!]. ويجدر بالملاحظة كذلك أن هذه القصبة، كما هو الشأن
في المدينة، بناء قديم من قبيل تلك القصبات التي يرجح أنها تحرك بأطلالها
خيال الناس. وأشار محمد بن رحال الذي زار بني يزناسن إلى أن لهذه الرواية
ذيوعاً وانتشاراً في المغرب. ففي بني يزناسن حيث يموضع هذه الحكاية موضع
يقال له دار بن مشعل. وهنالك فخدة أخرى رأى المؤلف أن اسمها ذو أصل يهودي.
وحسبنا أن نلاحظ أن وجود أسطورة ابن مشعل في المدينة كما في بني يزناسن
يتفق وحكايات شعبية أخرى تتعلق باليهود. فإذا جمعنا هذه الأمر إلى التشابه
الواضح الذي نراه بين المسور الصغير في المدينة وبين الملاحات في صورتها
الحالية وأسوار المدينة صرنا إلى الاعتقاد أنه قد كان يوجد في هذه البلاد
يهود كثر في الماضي وأنهم قد كانوا يضطلعون بدور اجتماعي هام. وسنرى في ما
يقبل من هذا الكتاب أن التحليل الذي سنأتي به لبعض المؤسسات الدينية في
المغرب سيكون فيه تأكيد لهذه الخلاصات.
(2 يونيو). انطلقنا من جديد
وجهتنا شمالي الشمال الغربي في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة. فمررنا
بإزاء ناعورة قديمة، والنواعير توجد بكثرة في هذا البلد، وجميعها متهالكة
توحي بأنها تعود إلى قديم العهود. فإذا المشهد قد صار يفقد من جماله؛
فالصخور الجرداء تملأ الأرجاء، ولا تقع على شيء من الرمل في غير المنخفضات،
وقد اختلط هذا الرمل بالدُّبال، فصار يشكل تربة نباتية في غاية الخصوبة،
من شأنها أن تسفر عن مناطق رعوية كثيفة. والغابة ههنا يكونها نبات الكندول
والدوم والبرواق ذي السيقان الطويلة والجميلة، وتتخللها كلها نباتات النجيل
الطويلة، التي نراها الآن جافة، وسيقان الخرطال الطويلة التي لا يزال
يطالعنا في الأرض حشافها. بل إن بساط الأرض أكثره يكونه نبات الدمويات؛
ولاشك أنها في فصل الربيع تكون كلأ طيب المذاق للماشية؛ فهي لا تزال تجد
فيه مطعماً حتى الآن وقد طال الجفاف كل هذه النباتات. والصورة العامة للأرض
ههنا تتألف من سلسلة تموجات موازية لساحل البحر وقد حوت في ما بينها أودية
على غير عمق كبير (فلا يزيد عمقها عن 30 إلى 50 متراً). وفي هذه المنخفضات
مواضع رطيبة كثيرة، يغمرها ماء الشتاء فتكون في شهر أبريل مروجاً شاسعة؛
فكنا لا نزال تطالعنا فيها مجموعة من الغدران المتفرقة. فهي بلاد مواتية
للرعي. وأكثر ما يميز هذا المجال يأتيه من تلك الصخور الجرداء التي تملأ كل
ناحية فيه، بحيث لا يشكل الدُّبال غير قشرة متقطعة فوقها. وحيثما انعدم
الدُّبال تخلفه نباتات صخرية صفراء وسوداء وزرقاء. ولقد صيرت عوامل الطبيعة
هذه الصخور إلى كثير من الأشكال الغريبة؛ فهي تارة طاولة مقطعة ومحذوذبة،
وتارة أخرى سطح متصل تتخلله نتوءات صخرية، فهي تتقاطع فيه لتشكل شتى أنواع
الرسوم. فالرحالة الذي يضرب في هذه الهضاب الشاسعة يشطح به الخيال كثيراً
وعلى نحو أقرب إلى ال بما يطالعه من تلك الرسوم؛ ويخيل إليه كأنه يرى فيها
أشكالاً من الفسيفساء أو تمثيلات لأشياء مألوفة لديه من قبيل الحذوات
والسنادين والأقداح والكراسي... ثم إن السير في هذه التربة أمر في غاية
الصعوبة؛ فلم يسعنا أن نقطع منها أكثر من خمسة كيلومترات في الساعة.
بين المدينة والوليدية
في
الساعة الثامنة والنصف تركنا الكور على بعد خمسة كيلومترات إلى اليسار.
وفي حوالي الساعة التاسعة صباحاً ها نحن بإزاء ضريح يسمى سيدي بلعباس.
وداخل مسور الضريح لا تزال تنتصب بعض الأقواس قيل لنا إنها أطلال مدرسية
قديمة. وبجانب الضريح غدير وبئر. وليس ببعيد أن يكون هذا المكان ضم من قبل
مركزاً صغيراً يكاد اليوم يكون أثراً بعد عين. ونحن نقف الآن في واحد من
تلك الأودية الموازية للبحر، والتي سبق لنا الحديث عنها. وفي هذا الوادي
يقوم إلى اليمين على بعد كيلومترين أو نحوهما قبة فقراء أولاد بن عميرة،
وعلى بعد ستة كيلومترات من هذا المكان تقوم قبة سيدي المعطي، وعلى بعد سبعة
كيلومترات تقوم قبة سيدي عبد النبي. وهؤلاء الأولياء موجودون جميعاً داخل
تراب عبدة. فلما ارتقينا الهضبة التي أمامنا وجدنا أنفسنا أمام تجمعين
للسكان قد اختلطت فيهما النوايل والخيام ويقدم أحدهما على الآخر؛ إنهما
لفخدة الحميطات (التي بلغناها في الساعة التاسعة والنصف)؛ ومن ذلك الموضع
كنا نستبين البحر. ويجدر بالملاحظة أن السفح البحري لجميع هذه التضاريس
أكثر تشبعاً بالرمل من السفح الآخر، فتكون تربة النباتية التي تغطي الصخر
في هذا الموضع ذات تكوين هوائي. وبعد ذلك صارت الأرض التي تزداد وعورة، فقد
صارت الأرض تغص بالحجارة المقطَّعة المناثرة، حتى لقد صارت البهائم لا
تهتدي فيها إلى موطئ لقوائمها. وأما الساعة الأخيرة التي كانت تفصلنا عن
قبل ساحل البحر في الوليدية (التي جئناها في الساعة الحادية عشرة وخمس
دقائق)، فإن المسافة التي قطعناها خلالها لم تزد عن ثلاثة كيلومترات.
آثار رفاه قديم
سرنا
في طريقنا من الوليدية إلى مازكان فقد بمحاذاة الشاطئ. وإن وصف هذا
الشاطئ شيء أرجئه، كما سبق لي أن قلت، إلى موضع آخر من هذا الكتاب، ولذلك
أعفي نفسي ههنا من الإتيان له بتصوير. إن مرحلة يوم 2 يونيو تنتهي إلى
زاوية سيدي أحمد بن مبارك، وأما مرحلة بعد الغد فسيكون منتهاها إلى مزكان.
وسوف لا أستقي من مذكرتي إلا المقطع التالي، والذي من شأنه أن يساعدنا على
تجلية مسألة مهمة؛ أريد بها الرفاه الذي كانت تنعم به في الماضي بلاد
دكالة، ونعمت به المناطق التي نمر بها الآن بوجه عام. «في الساعة السادسة
وخمس وثلاثين دقيقة مررنا بقرب أطلال سانية بومهدي». وكلمة» سانية»، التي
تدل في العادة على «العجلة المائية الرافعة ذات القواديس»، وهي النورية،
كثيراً ما تطلق في هذه البلاد يراد بها لها «البستان». ثم إننا نرى
النواعير حيثما ولينا بأوجهنا من هذه الناحية؛ فهي فيها كثرة كثيرة. وليس
من باب المبالغة أن نقول إن النوريات تملأ، حقيقة لامجازاً، الوادي الذي
نسلكه الآن؛ حتى لا يكاد يخلو منها موضع فيه. وليس ببعيد أن هذا المكان كان
من قبل بستاناً مترامي الأطراف». إنها كلمات كتبتها في عين المكان، ولذلك
أعيدها ههنا من غير نقصان ولا زيادة.
فيكون قد مر زمن على هذه البوادي
كانت فيه تغطيها كلها الزراعات، وليس ببعيد أن تكون العناية التي كانت
تلقاها في السقي قد مكن فيها للأشجار، ويخيل إلينا أنه قد وجدت بساتين
للخضار في الأماكن التي نراها اليوم لا تزيد عن زراعة الحبوب. وقد كان هذا
الموضع يمتلئ من تلك المدن الصغيرة؛ على غرار سرنو والمدينة. وجملة القول
إن هذه البلاد قد نعمت بقدر من الرفاه لم تعرف إليه سبيلاً في ما تلا من
الزمان. ولاشك أن هذه البلاد لا تزال تعرف الزراعة، لكنها باتت فيها دون
سالف عهدها من الكثافة. وليس ببعيد أن يكون زوال المدن قد أدى إلى اندثار
الصنائع؛ فليس لها حظ في البقاء إلا مع حياة الاستقرار في المدن.
السيطرة البرتغالية
القول
إن المدن كانت كثيرة من قبل في دكالة فليس هو بالأمر الشكوك فيه؛ فقد
وجدنا حديثاً عنها وتصويراً لها عند كل من الوزان ومارمول. ومنها ما كان
معروفاً على نطاق واسع، فلا تفتأ تطالعنا الخرائط بأسمائها؛ من قبيل «أيير»
و»تيط» و»بولعوان»، وبعضها لا نلاقي مشقة في الاهتداء إليها؛ من قبيل
«المدينة» و»سرنو» و»ميات بير». بل إننا يوم أن يُشرع في الأبحاث سنقع على
المدن التي يذكرها الوزان ومارمول وكذلك تذكرها الوثائق البرتغالية بأسماء
شديدة التباين في رسمها؛ من قبيل «السبيت» و»تامراكشت» و»تركا» و»كيا»
و»بني قصيز» و»تلمز» و»أوميز»، و»أوكيريز» و»خورجيدان» و»نومار» وسواها.
وقولهم إن هذه المدن قد عرفت نشاطاً كبيراً في مجالي التجارة والحرف، فهو
أمر ربما أمكن أن نقع له على تأكيد في وجود اليهود، الذي سعينا إلى التحقق
منه، في هذه المدن. لكن الثابت أن البرتغاليين قد أفادوا من هذه المدن
الخيرات الكثيرة، بما يحملنا على الاعتقاد أنهم كانوا من أسباب الخراب الذي
حاق بهذه البلاد، لفرط النهب والاستنزاف الذي وقع منهم على خيراتها.
ومن
المعلوم أنه عندما تم لنونو فرنانديش الاستيلاء على مدينة آسفي قام بإعمال
النهب والتخريب في سائر أنحاء البلاد، ثم قام الشرفاء السعديون فحشدوا
السكان في ثورة عليهم لم يكتب لها النجاح. وعلى أثر ذلك شن برتغاليو آسفي
غارات غنموا فهيا الكثير. فقد ورد في الترجمة الفرنسية لكتاب مارمول :
«وأسر خمسمائة وسبعة وستين، سواء من الصغار والكبار، وغنمت خمسة آلاف رأس
من الماشية وألف ثور أو بقرة، وثلاثمائة جمل، مع عدد من الخيل والدواب،
وعادوا بها إلى آسفي منتصرين». ولو أن البرتغاليون لم يقوموا بهذه الغارات
إلا بدفع الانتقام لقد كان يمكن للبلاد أن تنهض من جديد، وواقع الأمر أنهم
كانوا يعتبرون الأقاليم الغريبة مناجم يجب استنزافها، وما كان يدفعهم إلى
تلك الغارات غير السلب والنهب. ولأجل تحقيق هذا المراد قاموا باستمالة قسم
من سكان هذه البلاد إلى جانبهم، واجتذبوا إليهم رؤساءهم، ويظل يحيى بن
تعفوفا [يحيى بن تعففت] الشخصية الأبرز بين هؤلاء الرؤساء الأهالي.
وما
كان البرتغاليون يقتصرون بالنهب والاستنزاف على الموارد الطبيعية للبلاد،
بل أوقعوا ساكنتها في براثن الفقر. ومن المعلوم أن الرق كان شيئاً شائعاً
في مدينة لشبونة، وقد كان حكام آسفي من بين المزودين لأسواق الرقيق في
البرتغال. وما أكثر ما نقرأ لهذين الكاتبين قولهما : «وأرسل عدداً من
الأسرى ليباعوا ليباعوا في البرتغال». وكتب المؤلف عن مدينة «حيا» )والقصود
بها حاحا(، والتي لا تزال بحاجة إلى تحديد : «هاجم نونو فرنانديث المدينة
في سنة 1514 ومعه يحيى بن تعففت، وجاء منها بأسيرات لم تشهد البرتغال
مثيلات لهن في الجمال منذ وقت طويل». ويفيدنا المؤلف كذلك أن في تلك السنة
نفسها، وخلال المعركة التي كانت فيها هزيمة أخي ملك فاس، «نهب المسيحيون
المعسكر، وأسروا فيه خمسمائة وثمانين رجلاً وجميع النساء والأطفال والشيوخ
الذين عثر عليهم بالمعركة. فكان الأسرى من نصيب المسيحيين، والغنيمة من
نصيب الحلفاء». تلك هي الصورة التي كان يدري بها اقتسام الغنائم، ولاشك أن
مثل هذا الاستنزاف من شأنه أن ينحدر بالبلاد إلى الفقر في وقت وجيز؛ فلا
يعود مجال للاستغراب أن نرى من تبقى سكان «المدينة» يأتون بدافع البؤس
ليجعلوا من أنفسهم عبيداً [عند البرتغاليين]. وبعد أن ذكر مارمول الأتاوات
التي كان الحلفاء يدفعونها إلى ملك البرتغال، زاد قائلاً : «وزيادة على
هذا، كان البرتغاليون يشنون غارات على داخل البلاد بصحبة حلفائهم، ويقبضون
الإتاوات من الأقاليم المجاورة أو ينهبونها ويأسرون السكان». فصار السكان
يفرون طواعية من المدن بعد أن حُرموا فيها الأمن والأمان. فخلال الحملة
التي قام أخو ملك فاس، والتي سبق لنا الحديث عنها، نزح عن تيط والمدينة
والسبيت وبلعوان وميات بير سكانها وبقيت من بعدهم فارغة، وتلقى ملك فاس
الهاربين. ويتحدث مارمول كثيراً عن المدن التي فرغت من سكانها وقت أن وقعت
في قبضة البرتغاليين، ثم عاد إليها السكان بعد أن تخلصت من قبضة
البرتغاليين، في ما خلا مازكان التي لا يزالون لم يتركوها.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 13 -
العرب والمسلمون كانوا هم الصناع الحقيقون للخراب الذي ناب دكالة!
وتنتهي القصبة في الجانب الشمالية الغربي إلى منحدرات أشد وعورة من تلك
التي في القسم الجنوبي الشرقي. فلم يكن بد من إقامة جدار ساند في هذا
الجانب. والهضبة تنغمس مباشرة في المياه الكدرة للنهر المضطرب الهائج. فأنت
ترى أمواجه بعض المواضع تتحطم وسط الصخور في الجرف فتسمع لها قرقعة
وانقصافاً، وترى المياه في مواضع أخرى سطحاً مستوياً من غير تموجات، فتدلك
على أن النهر هنالك غوير. ولا تزال ترى الضفاف القريبة من النهر يمازجها
شيء من الخضرة، وأما ما تبقى من جوانب الوادي فقد عمها الجفاف. وإن هذا
الجفاف والنهر الضارب بلونه إلى الدم وتلك المنحدرات القاسية الوعرة تضفي
على ذلك المشهد مسحة من الكآبة. ثم ترى نخلة؛ فكأنها نقطة دقيقة وسط تلك
اللوحة الغريبة. وفي الجهة المقابلة تقوم على الجانب الآخر من النهر بيوت
من الحجارة لا يشدها شيء، فتطالعنا بزواياها الحادة (الصورة 46)، وهي
والبيوت القائمة خلف القصبة تؤلف دوار بولعوان، والبيوت المأهولة منها دون
الخمسين. وبين تلك الخرائب لا تزال تنتصب ثلاثة أقواس؛ فهي توحي بالأسى وسط
تلك اللوحة من الخراب والدمار. وها إننا تطالعنا في هذا الموضع كذلك صورة
أخرى مؤلمة لما سبق لنا أن ذكرنا من الانحطاط الذي تردت إليه الحضارة في
هذه البلدان الغنية بداية من القرن السادس عشر.
وباب القصبة على شيء من
التعقيد، فهي عدة محاطة بالكثير من الغرف والزوايا، كما يتجلى من مجسمنا
السابق. فإذا دخلنا وجدنا إلى اليسار درجاً يرتقي بنا إلى ما فوق الباب.
فإذا جزنا هذه الباب وصرنا إلى داخل القصبة وجدنا إلى اليمين القسم الرئيسي
من المنزل الذي يعرف اليوم باسم «دار السلطان»، ومن الواضح أنه قد كان
السكن الخاص لسيد القصبة. ويتكون هذه الدار من حوش مستطيل تنفتح على جوانبه
غرف طويلة على الطراز الإسلامي. وتقوم من حول ذلك الحوش سلسلة من اثنتي
عشرة سارية ذات تيجان في غاية البساطة، وأما الزوايا فتسندها أعمدة مزدوجة.
وفي كل غرفة وكل جانب رواق مقوس تزينه تشبيكات من الجبص المقولب وشريط من
الكتابات العربية. وهذه الكتابات متماثلة في جميع الأروقة ولا تزيد عن
كلمتين تتكرران فيها وهما : «العافية الباقية» (الصورة 44 مكرر). وقد كانت
الأرض وأسفل الجدران يزينها الزليج، لكن لم يتبق منه غير الحطام، عدا أنه
يبدو زليجاً شديد الابتذال. وقد كانت السواري التي تحف بالحوش تزينها
الزخارف نفسها من الجبص والكتابات نفسها التي نطالعها على أروقة الغرف.
وأما الأسقف فقد كانت من الخشب المصبوغ، لكنها صارت لا تكاد تستبين فيها
آثاراً لتلك الصباغة.
وقد كانت تقوم في القسم الجنوبي الشرقي من القصبة
مجموعة من المخازن الواسعة والعميقة، لكن يبدو أنها قد تعمقت بعد أن ارتفع
التراب من حولها، وقد كان يوجد منها نحو اثنتي عشرة حفرة. وأما الحفر التي
كانت في تلك الجانب الشمالي الشرقي فقد انطمرت؛ لقد كانت مجموعة من القباب
الطويلة المتوازية ينفذ إليها الضوء من القسم العلوي، يبلغ طول الواحدة
منها حوالي 20 متراً وعلوها بين 6 و7 أمتار. وقد باتت تلك القباب اليوم
متهدمة من جوانب عديدة.
وإلى جهة الزاوية الشمالية من السور كان يقوم
بناء بطول 33 متراً، وهو الآن من غير سقف. وقد جعلت في داخل ذلك البناء
حواجز من جدران شديدة الارتفاع ومفصولة عن بعضها. والرواية المحلية تقول إن
المكان كان من قبل سجناً، وقد رأينا هنالك بعض المراحيض، لكن الدراسة
المعمقة لمعمار القصبات المغربية هي الكفيلة بالإتيان بجواب لهذه القضية.
وفي وسط السور الشمالي الشرقي من القصبة ينتصب برج دفاعي مستدير، وأما
الأبراج الأخرى فمربعة كلها.
وفي
الجانب الشرقي لا يزال المسجد قائماً، وهو في حالة جيدة. ولا تزال الصومعة
بوجه خاص تنتصب بالتمام والكمال، ولا يزال بالإمكان الصعود إليها. وداخل
المسجد قد شيد على طراز شديد الخشونة، فالأقواس لا يزينها زخرف، وهي تقوم
فوق أعمدة مربعة وغليظة. وفي الفناء المجاور يقوم ضريح سيدي منصر (حسب
النطق المحلي) تعلوه قبة واحدة مخروطية، وبداخلها نعش، وجميعها تبدو في
حالة لابأس بها. وفي الجهة الجنوبية الشرقية من القصبة يقوم خارج ذلك
المسوَّر ضريح آخر صغير من الحجارة لا يشدها طين، ويعرف باسم سيدي علي
بناصر، ومن الجانب الشمالي الغربي في موضع بعيد عن القرية وراء القصبة،
تلتمع على بعد بعضة آلاف الأمتار من هذا الموضع قبة سيدي عمارة بهيأتها
البيضانية.
والذي يبدو لنا من الوصف الذي جئنا به لهذه القصبة أن تاريخ
بنائها يعود إلى بداية القرن الثامن عشر، لكن وجدنا الحسن الوزان ومارمول
ينسبان بناء القصبة إلى عبد المومن. وربما ذهبنا إلى الافتراض أن مولاي
إسماعيل قد اقتصر عمله في هذه القصبة على الترميم، فليس في الكتابة التي
على القصبة ما يدل على أنه الباني لها. لكن يبدو لنا أن التمعن في هذا
البناء سيجعلنا نستبعد الفرضية القائلة بأن عمل مولاي إسماعيل قد اقتصر منه
على الترميم السطحي. بل يغلب علينا الاعتقاد أنه قد جاء لها بإعادة
البناء. ثم إننا يغلب علينا الاعتقاد، وكما ذكر ثـ. فايشر، أن تلك العملية
من إعادة البناء قد قام بها، أو قام بنصيب منها، الأسرى المسيحيون.
فالحجارة الكبيرة المقدودة التي استعملت في البناء تدل على أنها قد تولاها
الكثير من الأيدي الماهرة. ومن المعلوم أن مولاي إسماعيل قد سخر للأبنية
العظيمة التي كان ولوعاً بتشييدها الآلاف من الأسرى المسيحيين. والراجح أن
تكون هذه المدينة قد هجرها سكانها فراراً بأنفسهم من البرتغاليين، حسبما
يفيدنا الوزان، فصارت إلى تهدم وانهيار. وعلى الرغم من المدينة قد أعيد
تعميرها على زمن مارمول، فإن القصبة بقيت دون شك خربة ولو في أجزاء منها،
إلى عهد مولاي إسماعيل، وأنه قد تنبه إلى القيمة الإستراتيجية لبولعوان
فأعاد بناءها من جديد. والقصبة تقوم في موقع حصين، فكانت الحكومات التي
تعاقبت على المغرب تجد جميعاً ضرورة لاحتلالها كلما تحققت لها السيطرة
الفعلية على البلاد.
إن الرواية التي كانت شائعة من قبل على أن عبد
المومن هو من بنى [قصبة] بولعوان لم تعد تجد الآن من يقول بها بين سكان هذه
الناحية؛ بل إنك لا تجد بينهم من لا يزال يعرف حتى باسم ذلك السلطان
الموحدي الشهير. بل يقولون إن من بنى القصبة هو «السلطان الأكحل». فهذا
يمدنا بسبيل رابعة ربما ساعدتنا على التعرف إلى هذا السلطان الأكحل الشهير
الذي سبق لنا الحديث عنه. ولا يبدو لنا هذا التحديد ببعيد كلياً عن
الاحتمال؛ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مولاي إسماعيل كان يميل بسحنته
إلى السواد، وأنه قد كان من كبار البناة.
ولا تزال تسمع سكان بولعوان
يقولون إن القرية التي تقوم على الضفة اليمنى للنهر، قبالة القصبة، أقدم
عهداً من تلك القائمة خلفها. ويقولون كذلك إنهم يعودون بأصولهم إلى سوس،
ويحكون أن أحد سلاطين المغرب قد تزوج من فتاة من سوس واسمها بولعوان. وقد
طلبت منه العروس أن يخصها بأرض لتقيم عليها والديها. فصعد بها السلطان حتى
جاء إلى الربوة التي تقوم عليها هذه القصبة، وقال لها : «إن هذه الأرض كلها
لك ما وسع منها بصرك». وهنالك أقام قصبة لأسرة زوجته.
مشرع الكرمة
(10
يونيو). انطلقنا في حوالي الساعة الثالثة بعد الزوال نريد المعبر الذي في
مشرع الكرمة، والمسمى كذلك مشرع بولعوان، فسلكنا لأجل ذلك الطريق نفسها
التي سرنا فيها في اليوم الذي قبلُ، لكن في الاتجاه المعكوس. وقد سبق لنا
القول إنه معبر مزدوج؛ فالناس يعبرون وأمتعتهم في موضع يكون فيه النهر
ضيقاً، لكن عميقاً، على متن معدية من القِرب، فيما تجوز الدواب النهر في
موضع أقل عمقاً، هو المعبر الحقيقي، يركبها أهالي تلك الناحية. ويبذل
السكان الجهد الجهيد في التناوب من على ضفة النهر على مساعدة العابرين له
ويقبضون منهم رسماً يصعب تحديد مبلغه، لأن عملية التحصيل تبدو لي في غاية
الاعتباط. وقد طالبونا بعشرين بسيطة مقابل عبورنا نحن الثمانية وما بأيدينا
من الدواب؛ وهي حصانان وخمسة بغال وحماران، فكان لمرافقي المسلم معهم
مساومة طويلة ونبيهة، تم الاتفاق بعدها على أن يكون المقابل دوروين اثنين،
وهو سعر لا يبدو لي باهظاً، علماً بأنهم سيقومون بنقل الأمتعة التي بحوزتنا
بتقسيمها إلى أحمال صغيرة. وقد أخبرنا المأمورون بالعبور في ذلك اليوم أن
ما النقود التي يحصلونها من هذه العملية يسلمونها إلى القايد الذي يدفع بها
إلى المخزن. ولا حاجة إلى القول إن جميع المشتركين في هذه العملية يحتفظون
منها بشيء من ذلك المال. وسكان هذه الناحية في غاية الحذق والدهاء؛ وقد
اهتبلت عملية العبور التي طالت ساعتين ونصف الساعة لأتجاذب وإياهم أطراف
الحديث. ولقد أعجبهم سكيني ذو الشفرات الكثيرة، كما أثار فضولهم لباسي من
القطيفة، وسمعت أحدهم، وكان أنبه من الآخرين، يقول لهم إنه هذا اللباس
مصنوع من خيوط الدوم، وإن المسيحيين يتقنون صناعة الدوم، فهم يصيرونه إلى
حرير!
عبور أم الربيع
وقد
كان في نية المخزن أن ينشئ في مخاضة مشرع الكرمة القنطرة التي سبق لنا
الحديث عنها، وبالفعل فقد رأينا في طريقنا بعد عبورنا للنهر مجموعة من
الحجارة التي شرِع في قدِّها، غير أن هذا المشروع لم يكتب له التحقق، ناهيك
عن معارضة الأهالي لبناء هذه القنطرة التي ستحرمهم مصدراً للعيش. وقد عدنا
لننصب خيامنا قبالة قصبة بولعوان، على الجانب الآخر من الوادي. إنه قرية
مماثلة للقرية التي تقوم وراء القصبة. فسكان القريتين يرتبطون بعلائق
القرابة فهم لا يفتأون يعبرون الوادي للتزاور. وقد وجدت هنالك الأهالي
الذين رافقوني صباح هذا اليوم وأنا أضع تصميما للقصبة، فقد رأوا خيمتي في
هذا الموضع فأسرعوا إلى عبور النهر. وقبل مغيب الشمس ذهبنا لرؤية الأروقة
شبة المهدمة التي أشرنا إليها في ما سبق. إنها أبنية في غاية البساطة لكن
متقنة البناء قد استعملت فيها حجارة قدت اعتُني بتقطيعها وزينت بتشبيكات
المستقيمة من الجبص. وأما ما تبقى من المسجد فهو من حجارة كبيرة لا يلحم
بينها لاحم وتبين عن كثير من الخشونة. والمحراب بالغ الصغر قد شيد من نوع
من التراب، والمسجد قد جعل على نظام سيء، فهو يقوم على صف واحد من الأقواس
ولا تقوم فيه غير سارية واحدة غليظة قبالة المحراب تماماً. وتوحي لنا هذه
المكونات مجتمعة بأن في هذا الموضع كان يقوم في الماضي بناء أكثر أتقاناً
وأوسع مساحة، لكن ناله الخراب ثم أعيد ترميمه على هذه الصورة الخشنة.
في بلاد الشاوية
(11
يونيو) واصلنا مسيرنا في بلاد الشاوية، وسوف لا نعيد الحديث عنه في هذا
الفصل الخاص ببلاد دكالة. وحسبي أن أذكُّر بأن الرغبة في الوقوف على المدن
القديمة التي ذكرها الحسن الوزان بطول وادي أم الربيع قد وجهت خطاي صوب
موضع من الشاوية يعرف اليوم باسم تامراكشييت [كذا يجعلها تامراكشييت
Tâmerrâkchyiet]. فالحسن الوزان يتحدث عن مدينة باسم «تامراكوست»
(Temeracost)، وترد عند مارمول باسم «تامراكوش» (Tamarracox) ، والواضح أن
هذا الاسم إنما هو صيغة بربرية لاسم مراكش. وعلى الرغم من أن هذين المؤلفين
يجعلان موقع المدينة على الضفة اليسرى من وادي أم الربيع، فإن التشابه
الحاصل في هذا الاسم يوحي إليَّ بأنهما ربما يكونان قد أخطآ القصد، وأنهما
يريدان مدينة أخرى في الشاوية تعرف بالاسم نفسه تمراكشيِّيت. ويزيد من هذا
الاعتقاد لدينا أننا سمعنا في الوقت نفسه أن «تاركا توجد غير بعيد عن هذا
المكان. والحال أن من بين القرى التي ذكر الوزان ومارمول وجودها على أم
الربيع توجد كذلك «تاركا». لكن الخيبة التي كانت تنتظرنا يمكن أن تقوم لنا
دليلاً إضافياً على مدى عبثية التحديدات التي يؤتى بها بالاعتماد على مجرد
أسماء الأعلام.
تامركشت
فتاركا،
وهي موضع يقوم على الحدود بين المزامزة وأولاد الصامد، إحدى فخدات أولاد
سعيد، وإن هي إلا عين ماء جميلة زاخرة بالماء تحيط بها الصخور، لكن لا تجد
بها أثراً لأطلال أو خرائب. وأما تامراكشييت فهي توجد في بلاد صامد، على
بعد حوالي عشرة كيلومترات إلى اثني عشر كيلومتراً من تاركا، وهي لا تزيد عن
موضع تقوم وسط السهل منه صخرة لافتة للأنظار قد سبق لنا أن تحدثنا عنها
على سبيل التمثيل، ويوجد بها كذلك غدير ودوار. ولذلك فما كان أعظم خيبتنا
عندما جئنا إلى ذلك المكان! فلم نلق هنالك أطلالاً، ولا وجدنا شيئاً يدلنا
على المدينة المنسية التي كانت تحمل اسماً مجانساً لاسم مراكش الحمراء، تلك
المدينة المحصنة التي صورها لنا كل من الوزان ومارمول. وعبثاً كابرت في
البحث، وأمضيت نهاراً كاملاً أستكشف تلك النواحي، فما وقعت على حجر يدلني
على أي بيت يكون قد أقيم في هذا المكان. وكل ما سمعنا أنه توجد على مقربة
من هذا المكان بئر حفرها البرتغاليون، لكنني منذ شهور وهم يشيرون إليَّ على
آبار بزعم أنها من فعل البرتغاليين، وقد سئمت من هذا النوع من الاكتشافات
التي سأعود إليها بالحديث في ما يقبل من هذا الكتاب. وقد سألنا عن السبب في
تسمية هذا الموضع تامركشيِّيت، فحصلنا على هذا الجواب : «مراكس ما بغات
تبنى هنا». وقد استفهمنا من مستجوبِنا، فقص علينا هذه الخرافة : عندما
اعتزم مؤسسو مراكش بناء هذه المدينة وقع اختيارهم على الموضع حيث توجد
اليوم تامركشيِّيت، وهنالك ارتقبوا «الفال»، فأول صوت سمعوه كان لرجل ينادي
أو خاله بقوله : «لا خالي». والحال أن «خالي» تعني «قفراً، وخالياً»، بما
يعني أنه فأل سيئ، فرحل مؤسسو عاصمة الحوز هذه الناحية وزادوا إمعاناً في
الاتجاه إلى الجنوب. فلما جاءوا إلى سهل تانسيفت أعجبوا بذلك الموقف،
فتوقفوا من جديد في انتظار فأل. وقد كان أول صوت يسمعونه لرجل ينادي على
آخر بقوله : «آلعامر». وكلمة «عامر» كلمة واسعة الانتشار، وهي متأتية من
جذر تجتمع مختلف مشتقاته على معنى «الفلاحة والازدهار والحضارة...». ولذلك
قر قرارهم على اختيار ذلك الموضع، وفيه ابتنوا مدينة مراكش.
الجبل الأخضر
يوجد
الأجبل الأخضر على حدود بلاد دكالة إلى الجنوب الشرقي، وهي القسم الوحيد
من هذه المنطقة الذي لم يسعفنا الوقت بزيارته، وقد أسفنا للأمر كثيراً.
فهذا الجبل له شهرة في التاريخ وفي الأساطير. فهو أولاً جبل مبارك، وقد
أفرد له كل من الحسن الوزان ومارمول فصولاً غير قليلة من كتابيهما، وقالا
عنه إنه مأوى للكثير من العبادة والنساك. ولا يزال هذا الجبل إلى اليوم،
حسبما يذكر لنا الأهالي، مقاماً للكثير من أولياء؛ فهم فيه يحيون حياة
العزلة، ولا ينزلون منه إلا لطلب الصدقات. والسبب في عدم زيارتنا له أننا
كنا كلما أعربنا لرفاقنا في هذه الرحلة عن رغبتنا في زيارة هذا الجبل لم
نلق منهم رضاً ولا قبولاً. وما أكثر ما سمعنا منهم أن المسيحيين لا ينبغي
لهم أن يصعدوا هذا الجبل. وكذلك يذكر الأفراد المكونون للبعثة التي رافقت
فايشر في سنة 1901 أن الجبل له طابع مقدس، وأنه يسكنه الزهاد والنساك.
والناس لا يفتأون يحجون إليه، ويكثر الزائرون له خاصة في العيد الكبير. وقد
كان في نية فايشر أن يقوم باستكشاف لهذا الجبل، فصرفه عنه مرافقوه، ثم
التقى غير بعيد عنه عدة زرافات كبيرة من الزائرين له وقد بدت عليهم سيماء
التعصب، وكانوا عائدين منه في وقت العيد الكبير على وجه التحديد. مع ذلك
فقد أفلح العالم الأثري الفرنسي بريف في أواخر تلك السنة في عبور أو المرور
إلى الجبل الأخضر من غير أن يلقى معيقاً. وما وجدناه تحدث بشيء عن قداسة
الجبل، ولا تحدث عن النساك الذين سمعنا أنهم لا يزالون يقيمون فيه. وفوق
ذلك، فسواء أكان أولئك الصُّلاح لا يزالون مقيمين في هذا الجبل المقدس، أو
إنهم ما عادوا سوى ذكرى من ذكريات الماضي، فلا يغير من الأمر شيئاً؛ فلا
يزال للجبل الأخضر، كما سنرى في ما يقبل من هذا الكتاب، يحتل مكانة مهمة في
الكتابات المناقبية المغربية. وما أكثر الأولياء الذين يُرد نسبهم إلى هذا
الجبل، والثابت أن الجبل الأخضر قد اضطلع بدور المركز للإشعاع الديني.
وقد
ذهب معظم المؤلفين إلى أن الجبل الأخضر لم يعد يستحق، على الأقل في الوقت
الحاضر، أن يسمى بهذا الاسم؛ والحقيقة أنه لم يكن بالأخضر في جميع الأوقات،
وهذا أمر نقف عليه بالعودة إلى ما كتب الوزان ومارمول؛ فهذان المؤلفان
اللذان يصوران لنا الجبل الأخضر تكسوه غابات، وقد زالت عنه اليوم فما عاد
لها وجود. وإذا أشجار أشجار البلوط والصنوبر التي كانت تعمره في الماضي قد
حلت محلها غيضات منفرة من الطلح والرتم.
بحيرة الجبل لخضر
ولا
يزال الجبل الأخضر يحفل، في ما يبدو، بالكثير من عيون الماء، ولا يزال في
سفوحه الكثير من الضايات، لكن أين يا ترى تلك البحيرة العظيمة التي صورها
الحسن الوزان، والتي قال عنها إنها تعج من الأسماك بحيث يستطيع المرء أن
يصيد فيها بيديه الأنقليس وغيره من أنواع السمك؟ وقد ذكر الوزان أن تلك
البحيرة كانت كبيرة بقدر بحيرة بولزينا [(هـ. م) بحيرة Bolsena بحيرة
بركانية وسط إيطاليا]. وقد خرج إليها أحد السلاطين المرينيين من مدينة فاس،
وأقام بها ثمانية أيام، فكان يوزع وقته بين مقامه الصيد والقنص الممتعين،
إذ كانت الغابات وكان الجبل حافلين بشتى أنواع الطرائد الطائرة و السائرة.
ونميل اليوم إلى الاعتقاد بأن هذه الروايات الجميلة لا تعدو أن تكون من
بنات الخيال إذ لم تخلص الأبحاث الهامة التي أنجزها بريف إلى ما يجعلها
قريبة إلى الاجتمال. فقد درس هذا العالم الأثري نظام المياه في الجبل
الأخضر وخلص من ملاحظاته إلى أن المياه فيه كانت إلى وقت غير بعيد تصل إلى
وادي أم الربيع، وأنه قد كان من المفترض أن تكون المياه الآتية من الجبل
أكثر من ذلك المقدار، ويحتمل أن يكون السبب راجعاً إلى كثرة الغابات فيه.
وأما اليوم فقد بات الجبل لا يدفق فيه من المياه ما يكفي ليجعل فيوضها تشق
لها مساراً [نحو وادي أم الربيع]، فهذا أدى إلى تكون فرشاة ن الطمي
والحجارة الملساء التي صارت تكتسح الأراضي الفلاحية. فالمياه التي تنزل على
هذه التربة الصوانية تنفذ إليها بسرعة وتترك السطح جافاً أجدب. ويمكن أن
نخلص من هذه الملاحظات الهامة التي جاء بها بريف إلى أن بين الزمن الذي
كانت فيه أودية الجبل الأخضر تصل إلى وادي أم الربيع والوقت الحالي الذي
صارت فيه لا تزيد عن فيض من غير مخرج، مر زمن صارت فيه المياه دونما قدرة
على البلوغ إلى النهر، بيد أنها كانت لا تزال وافرة فكانت تنتشر إلى بحيرات
عند سفح الجبل؛ وإلى ذلك الوقت يعود حديث الحسن الوزان عن تلك البحيرة
العجيبة والصيد الذي كان يصيب فيها.
مناخ دكالة
لا
نملك معطيات منسجمة بشأن المناخ في دكالة، غير أن المعطيات التي أمكن لنا
الوصول إليها في الدار البيضاء تسمح لنا بتكوين تصور عن مناخ هذه المنطقة.
فالمناطق الساحلية نفسها تعرف حرارة على كثير من الاستقرار؛ فهي لا تنخفض
إلى ما دون + 5° شتاء، وقلما ترتفع إلى ما فوق + 30° صيفاً. لكن هذا الفرق
يسير إلى اتساع بما نبتعد عن البحر. ومن المحتمل أن تكون المناطق التي
تنتهي عندها الهضبتان تشهد فترات من الصقيع الأبيض الذي يتواتر عليها شتاء
وتبلغ حرارتها القصوى 45° صيفاً. وقد أشار وايسجربر وفايشر إلى الجفاف
الشديد الذي يطبع الهواء على الهضبة العليا. ويبتدئ موسم الأمطار في شهر
أكتوبر وينتهي في شهر أبريل. وتتخلل فصل الشتاء، وعادة ما تقع في شهر
يناير، فترة جفاف قصيرة، وهي شيء مألوف في الجزائر، وقلما تغيب عن هذه
المناطق. ومن الحسنات التي يتميز بها مناخ الحوز، ويتميز بها مناخ
المنطقتين الوسطى والشمالية من المغرب بوجه عام قياساً إلى المناخ في
الجزائر، أنه مناخ تندر فيه تلك الظاهرة المناخية الغريبة والغامضة التي
تعرف باسم «السيروكو».
العرب والمسلمون كانوا هم الصناع الحقيقون للخراب الذي ناب دكالة!
وتنتهي القصبة في الجانب الشمالية الغربي إلى منحدرات أشد وعورة من تلك
التي في القسم الجنوبي الشرقي. فلم يكن بد من إقامة جدار ساند في هذا
الجانب. والهضبة تنغمس مباشرة في المياه الكدرة للنهر المضطرب الهائج. فأنت
ترى أمواجه بعض المواضع تتحطم وسط الصخور في الجرف فتسمع لها قرقعة
وانقصافاً، وترى المياه في مواضع أخرى سطحاً مستوياً من غير تموجات، فتدلك
على أن النهر هنالك غوير. ولا تزال ترى الضفاف القريبة من النهر يمازجها
شيء من الخضرة، وأما ما تبقى من جوانب الوادي فقد عمها الجفاف. وإن هذا
الجفاف والنهر الضارب بلونه إلى الدم وتلك المنحدرات القاسية الوعرة تضفي
على ذلك المشهد مسحة من الكآبة. ثم ترى نخلة؛ فكأنها نقطة دقيقة وسط تلك
اللوحة الغريبة. وفي الجهة المقابلة تقوم على الجانب الآخر من النهر بيوت
من الحجارة لا يشدها شيء، فتطالعنا بزواياها الحادة (الصورة 46)، وهي
والبيوت القائمة خلف القصبة تؤلف دوار بولعوان، والبيوت المأهولة منها دون
الخمسين. وبين تلك الخرائب لا تزال تنتصب ثلاثة أقواس؛ فهي توحي بالأسى وسط
تلك اللوحة من الخراب والدمار. وها إننا تطالعنا في هذا الموضع كذلك صورة
أخرى مؤلمة لما سبق لنا أن ذكرنا من الانحطاط الذي تردت إليه الحضارة في
هذه البلدان الغنية بداية من القرن السادس عشر.
وباب القصبة على شيء من
التعقيد، فهي عدة محاطة بالكثير من الغرف والزوايا، كما يتجلى من مجسمنا
السابق. فإذا دخلنا وجدنا إلى اليسار درجاً يرتقي بنا إلى ما فوق الباب.
فإذا جزنا هذه الباب وصرنا إلى داخل القصبة وجدنا إلى اليمين القسم الرئيسي
من المنزل الذي يعرف اليوم باسم «دار السلطان»، ومن الواضح أنه قد كان
السكن الخاص لسيد القصبة. ويتكون هذه الدار من حوش مستطيل تنفتح على جوانبه
غرف طويلة على الطراز الإسلامي. وتقوم من حول ذلك الحوش سلسلة من اثنتي
عشرة سارية ذات تيجان في غاية البساطة، وأما الزوايا فتسندها أعمدة مزدوجة.
وفي كل غرفة وكل جانب رواق مقوس تزينه تشبيكات من الجبص المقولب وشريط من
الكتابات العربية. وهذه الكتابات متماثلة في جميع الأروقة ولا تزيد عن
كلمتين تتكرران فيها وهما : «العافية الباقية» (الصورة 44 مكرر). وقد كانت
الأرض وأسفل الجدران يزينها الزليج، لكن لم يتبق منه غير الحطام، عدا أنه
يبدو زليجاً شديد الابتذال. وقد كانت السواري التي تحف بالحوش تزينها
الزخارف نفسها من الجبص والكتابات نفسها التي نطالعها على أروقة الغرف.
وأما الأسقف فقد كانت من الخشب المصبوغ، لكنها صارت لا تكاد تستبين فيها
آثاراً لتلك الصباغة.
وقد كانت تقوم في القسم الجنوبي الشرقي من القصبة
مجموعة من المخازن الواسعة والعميقة، لكن يبدو أنها قد تعمقت بعد أن ارتفع
التراب من حولها، وقد كان يوجد منها نحو اثنتي عشرة حفرة. وأما الحفر التي
كانت في تلك الجانب الشمالي الشرقي فقد انطمرت؛ لقد كانت مجموعة من القباب
الطويلة المتوازية ينفذ إليها الضوء من القسم العلوي، يبلغ طول الواحدة
منها حوالي 20 متراً وعلوها بين 6 و7 أمتار. وقد باتت تلك القباب اليوم
متهدمة من جوانب عديدة.
وإلى جهة الزاوية الشمالية من السور كان يقوم
بناء بطول 33 متراً، وهو الآن من غير سقف. وقد جعلت في داخل ذلك البناء
حواجز من جدران شديدة الارتفاع ومفصولة عن بعضها. والرواية المحلية تقول إن
المكان كان من قبل سجناً، وقد رأينا هنالك بعض المراحيض، لكن الدراسة
المعمقة لمعمار القصبات المغربية هي الكفيلة بالإتيان بجواب لهذه القضية.
وفي وسط السور الشمالي الشرقي من القصبة ينتصب برج دفاعي مستدير، وأما
الأبراج الأخرى فمربعة كلها.
وفي
الجانب الشرقي لا يزال المسجد قائماً، وهو في حالة جيدة. ولا تزال الصومعة
بوجه خاص تنتصب بالتمام والكمال، ولا يزال بالإمكان الصعود إليها. وداخل
المسجد قد شيد على طراز شديد الخشونة، فالأقواس لا يزينها زخرف، وهي تقوم
فوق أعمدة مربعة وغليظة. وفي الفناء المجاور يقوم ضريح سيدي منصر (حسب
النطق المحلي) تعلوه قبة واحدة مخروطية، وبداخلها نعش، وجميعها تبدو في
حالة لابأس بها. وفي الجهة الجنوبية الشرقية من القصبة يقوم خارج ذلك
المسوَّر ضريح آخر صغير من الحجارة لا يشدها طين، ويعرف باسم سيدي علي
بناصر، ومن الجانب الشمالي الغربي في موضع بعيد عن القرية وراء القصبة،
تلتمع على بعد بعضة آلاف الأمتار من هذا الموضع قبة سيدي عمارة بهيأتها
البيضانية.
والذي يبدو لنا من الوصف الذي جئنا به لهذه القصبة أن تاريخ
بنائها يعود إلى بداية القرن الثامن عشر، لكن وجدنا الحسن الوزان ومارمول
ينسبان بناء القصبة إلى عبد المومن. وربما ذهبنا إلى الافتراض أن مولاي
إسماعيل قد اقتصر عمله في هذه القصبة على الترميم، فليس في الكتابة التي
على القصبة ما يدل على أنه الباني لها. لكن يبدو لنا أن التمعن في هذا
البناء سيجعلنا نستبعد الفرضية القائلة بأن عمل مولاي إسماعيل قد اقتصر منه
على الترميم السطحي. بل يغلب علينا الاعتقاد أنه قد جاء لها بإعادة
البناء. ثم إننا يغلب علينا الاعتقاد، وكما ذكر ثـ. فايشر، أن تلك العملية
من إعادة البناء قد قام بها، أو قام بنصيب منها، الأسرى المسيحيون.
فالحجارة الكبيرة المقدودة التي استعملت في البناء تدل على أنها قد تولاها
الكثير من الأيدي الماهرة. ومن المعلوم أن مولاي إسماعيل قد سخر للأبنية
العظيمة التي كان ولوعاً بتشييدها الآلاف من الأسرى المسيحيين. والراجح أن
تكون هذه المدينة قد هجرها سكانها فراراً بأنفسهم من البرتغاليين، حسبما
يفيدنا الوزان، فصارت إلى تهدم وانهيار. وعلى الرغم من المدينة قد أعيد
تعميرها على زمن مارمول، فإن القصبة بقيت دون شك خربة ولو في أجزاء منها،
إلى عهد مولاي إسماعيل، وأنه قد تنبه إلى القيمة الإستراتيجية لبولعوان
فأعاد بناءها من جديد. والقصبة تقوم في موقع حصين، فكانت الحكومات التي
تعاقبت على المغرب تجد جميعاً ضرورة لاحتلالها كلما تحققت لها السيطرة
الفعلية على البلاد.
إن الرواية التي كانت شائعة من قبل على أن عبد
المومن هو من بنى [قصبة] بولعوان لم تعد تجد الآن من يقول بها بين سكان هذه
الناحية؛ بل إنك لا تجد بينهم من لا يزال يعرف حتى باسم ذلك السلطان
الموحدي الشهير. بل يقولون إن من بنى القصبة هو «السلطان الأكحل». فهذا
يمدنا بسبيل رابعة ربما ساعدتنا على التعرف إلى هذا السلطان الأكحل الشهير
الذي سبق لنا الحديث عنه. ولا يبدو لنا هذا التحديد ببعيد كلياً عن
الاحتمال؛ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مولاي إسماعيل كان يميل بسحنته
إلى السواد، وأنه قد كان من كبار البناة.
ولا تزال تسمع سكان بولعوان
يقولون إن القرية التي تقوم على الضفة اليمنى للنهر، قبالة القصبة، أقدم
عهداً من تلك القائمة خلفها. ويقولون كذلك إنهم يعودون بأصولهم إلى سوس،
ويحكون أن أحد سلاطين المغرب قد تزوج من فتاة من سوس واسمها بولعوان. وقد
طلبت منه العروس أن يخصها بأرض لتقيم عليها والديها. فصعد بها السلطان حتى
جاء إلى الربوة التي تقوم عليها هذه القصبة، وقال لها : «إن هذه الأرض كلها
لك ما وسع منها بصرك». وهنالك أقام قصبة لأسرة زوجته.
مشرع الكرمة
(10
يونيو). انطلقنا في حوالي الساعة الثالثة بعد الزوال نريد المعبر الذي في
مشرع الكرمة، والمسمى كذلك مشرع بولعوان، فسلكنا لأجل ذلك الطريق نفسها
التي سرنا فيها في اليوم الذي قبلُ، لكن في الاتجاه المعكوس. وقد سبق لنا
القول إنه معبر مزدوج؛ فالناس يعبرون وأمتعتهم في موضع يكون فيه النهر
ضيقاً، لكن عميقاً، على متن معدية من القِرب، فيما تجوز الدواب النهر في
موضع أقل عمقاً، هو المعبر الحقيقي، يركبها أهالي تلك الناحية. ويبذل
السكان الجهد الجهيد في التناوب من على ضفة النهر على مساعدة العابرين له
ويقبضون منهم رسماً يصعب تحديد مبلغه، لأن عملية التحصيل تبدو لي في غاية
الاعتباط. وقد طالبونا بعشرين بسيطة مقابل عبورنا نحن الثمانية وما بأيدينا
من الدواب؛ وهي حصانان وخمسة بغال وحماران، فكان لمرافقي المسلم معهم
مساومة طويلة ونبيهة، تم الاتفاق بعدها على أن يكون المقابل دوروين اثنين،
وهو سعر لا يبدو لي باهظاً، علماً بأنهم سيقومون بنقل الأمتعة التي بحوزتنا
بتقسيمها إلى أحمال صغيرة. وقد أخبرنا المأمورون بالعبور في ذلك اليوم أن
ما النقود التي يحصلونها من هذه العملية يسلمونها إلى القايد الذي يدفع بها
إلى المخزن. ولا حاجة إلى القول إن جميع المشتركين في هذه العملية يحتفظون
منها بشيء من ذلك المال. وسكان هذه الناحية في غاية الحذق والدهاء؛ وقد
اهتبلت عملية العبور التي طالت ساعتين ونصف الساعة لأتجاذب وإياهم أطراف
الحديث. ولقد أعجبهم سكيني ذو الشفرات الكثيرة، كما أثار فضولهم لباسي من
القطيفة، وسمعت أحدهم، وكان أنبه من الآخرين، يقول لهم إنه هذا اللباس
مصنوع من خيوط الدوم، وإن المسيحيين يتقنون صناعة الدوم، فهم يصيرونه إلى
حرير!
عبور أم الربيع
وقد
كان في نية المخزن أن ينشئ في مخاضة مشرع الكرمة القنطرة التي سبق لنا
الحديث عنها، وبالفعل فقد رأينا في طريقنا بعد عبورنا للنهر مجموعة من
الحجارة التي شرِع في قدِّها، غير أن هذا المشروع لم يكتب له التحقق، ناهيك
عن معارضة الأهالي لبناء هذه القنطرة التي ستحرمهم مصدراً للعيش. وقد عدنا
لننصب خيامنا قبالة قصبة بولعوان، على الجانب الآخر من الوادي. إنه قرية
مماثلة للقرية التي تقوم وراء القصبة. فسكان القريتين يرتبطون بعلائق
القرابة فهم لا يفتأون يعبرون الوادي للتزاور. وقد وجدت هنالك الأهالي
الذين رافقوني صباح هذا اليوم وأنا أضع تصميما للقصبة، فقد رأوا خيمتي في
هذا الموضع فأسرعوا إلى عبور النهر. وقبل مغيب الشمس ذهبنا لرؤية الأروقة
شبة المهدمة التي أشرنا إليها في ما سبق. إنها أبنية في غاية البساطة لكن
متقنة البناء قد استعملت فيها حجارة قدت اعتُني بتقطيعها وزينت بتشبيكات
المستقيمة من الجبص. وأما ما تبقى من المسجد فهو من حجارة كبيرة لا يلحم
بينها لاحم وتبين عن كثير من الخشونة. والمحراب بالغ الصغر قد شيد من نوع
من التراب، والمسجد قد جعل على نظام سيء، فهو يقوم على صف واحد من الأقواس
ولا تقوم فيه غير سارية واحدة غليظة قبالة المحراب تماماً. وتوحي لنا هذه
المكونات مجتمعة بأن في هذا الموضع كان يقوم في الماضي بناء أكثر أتقاناً
وأوسع مساحة، لكن ناله الخراب ثم أعيد ترميمه على هذه الصورة الخشنة.
في بلاد الشاوية
(11
يونيو) واصلنا مسيرنا في بلاد الشاوية، وسوف لا نعيد الحديث عنه في هذا
الفصل الخاص ببلاد دكالة. وحسبي أن أذكُّر بأن الرغبة في الوقوف على المدن
القديمة التي ذكرها الحسن الوزان بطول وادي أم الربيع قد وجهت خطاي صوب
موضع من الشاوية يعرف اليوم باسم تامراكشييت [كذا يجعلها تامراكشييت
Tâmerrâkchyiet]. فالحسن الوزان يتحدث عن مدينة باسم «تامراكوست»
(Temeracost)، وترد عند مارمول باسم «تامراكوش» (Tamarracox) ، والواضح أن
هذا الاسم إنما هو صيغة بربرية لاسم مراكش. وعلى الرغم من أن هذين المؤلفين
يجعلان موقع المدينة على الضفة اليسرى من وادي أم الربيع، فإن التشابه
الحاصل في هذا الاسم يوحي إليَّ بأنهما ربما يكونان قد أخطآ القصد، وأنهما
يريدان مدينة أخرى في الشاوية تعرف بالاسم نفسه تمراكشيِّيت. ويزيد من هذا
الاعتقاد لدينا أننا سمعنا في الوقت نفسه أن «تاركا توجد غير بعيد عن هذا
المكان. والحال أن من بين القرى التي ذكر الوزان ومارمول وجودها على أم
الربيع توجد كذلك «تاركا». لكن الخيبة التي كانت تنتظرنا يمكن أن تقوم لنا
دليلاً إضافياً على مدى عبثية التحديدات التي يؤتى بها بالاعتماد على مجرد
أسماء الأعلام.
تامركشت
فتاركا،
وهي موضع يقوم على الحدود بين المزامزة وأولاد الصامد، إحدى فخدات أولاد
سعيد، وإن هي إلا عين ماء جميلة زاخرة بالماء تحيط بها الصخور، لكن لا تجد
بها أثراً لأطلال أو خرائب. وأما تامراكشييت فهي توجد في بلاد صامد، على
بعد حوالي عشرة كيلومترات إلى اثني عشر كيلومتراً من تاركا، وهي لا تزيد عن
موضع تقوم وسط السهل منه صخرة لافتة للأنظار قد سبق لنا أن تحدثنا عنها
على سبيل التمثيل، ويوجد بها كذلك غدير ودوار. ولذلك فما كان أعظم خيبتنا
عندما جئنا إلى ذلك المكان! فلم نلق هنالك أطلالاً، ولا وجدنا شيئاً يدلنا
على المدينة المنسية التي كانت تحمل اسماً مجانساً لاسم مراكش الحمراء، تلك
المدينة المحصنة التي صورها لنا كل من الوزان ومارمول. وعبثاً كابرت في
البحث، وأمضيت نهاراً كاملاً أستكشف تلك النواحي، فما وقعت على حجر يدلني
على أي بيت يكون قد أقيم في هذا المكان. وكل ما سمعنا أنه توجد على مقربة
من هذا المكان بئر حفرها البرتغاليون، لكنني منذ شهور وهم يشيرون إليَّ على
آبار بزعم أنها من فعل البرتغاليين، وقد سئمت من هذا النوع من الاكتشافات
التي سأعود إليها بالحديث في ما يقبل من هذا الكتاب. وقد سألنا عن السبب في
تسمية هذا الموضع تامركشيِّيت، فحصلنا على هذا الجواب : «مراكس ما بغات
تبنى هنا». وقد استفهمنا من مستجوبِنا، فقص علينا هذه الخرافة : عندما
اعتزم مؤسسو مراكش بناء هذه المدينة وقع اختيارهم على الموضع حيث توجد
اليوم تامركشيِّيت، وهنالك ارتقبوا «الفال»، فأول صوت سمعوه كان لرجل ينادي
أو خاله بقوله : «لا خالي». والحال أن «خالي» تعني «قفراً، وخالياً»، بما
يعني أنه فأل سيئ، فرحل مؤسسو عاصمة الحوز هذه الناحية وزادوا إمعاناً في
الاتجاه إلى الجنوب. فلما جاءوا إلى سهل تانسيفت أعجبوا بذلك الموقف،
فتوقفوا من جديد في انتظار فأل. وقد كان أول صوت يسمعونه لرجل ينادي على
آخر بقوله : «آلعامر». وكلمة «عامر» كلمة واسعة الانتشار، وهي متأتية من
جذر تجتمع مختلف مشتقاته على معنى «الفلاحة والازدهار والحضارة...». ولذلك
قر قرارهم على اختيار ذلك الموضع، وفيه ابتنوا مدينة مراكش.
الجبل الأخضر
يوجد
الأجبل الأخضر على حدود بلاد دكالة إلى الجنوب الشرقي، وهي القسم الوحيد
من هذه المنطقة الذي لم يسعفنا الوقت بزيارته، وقد أسفنا للأمر كثيراً.
فهذا الجبل له شهرة في التاريخ وفي الأساطير. فهو أولاً جبل مبارك، وقد
أفرد له كل من الحسن الوزان ومارمول فصولاً غير قليلة من كتابيهما، وقالا
عنه إنه مأوى للكثير من العبادة والنساك. ولا يزال هذا الجبل إلى اليوم،
حسبما يذكر لنا الأهالي، مقاماً للكثير من أولياء؛ فهم فيه يحيون حياة
العزلة، ولا ينزلون منه إلا لطلب الصدقات. والسبب في عدم زيارتنا له أننا
كنا كلما أعربنا لرفاقنا في هذه الرحلة عن رغبتنا في زيارة هذا الجبل لم
نلق منهم رضاً ولا قبولاً. وما أكثر ما سمعنا منهم أن المسيحيين لا ينبغي
لهم أن يصعدوا هذا الجبل. وكذلك يذكر الأفراد المكونون للبعثة التي رافقت
فايشر في سنة 1901 أن الجبل له طابع مقدس، وأنه يسكنه الزهاد والنساك.
والناس لا يفتأون يحجون إليه، ويكثر الزائرون له خاصة في العيد الكبير. وقد
كان في نية فايشر أن يقوم باستكشاف لهذا الجبل، فصرفه عنه مرافقوه، ثم
التقى غير بعيد عنه عدة زرافات كبيرة من الزائرين له وقد بدت عليهم سيماء
التعصب، وكانوا عائدين منه في وقت العيد الكبير على وجه التحديد. مع ذلك
فقد أفلح العالم الأثري الفرنسي بريف في أواخر تلك السنة في عبور أو المرور
إلى الجبل الأخضر من غير أن يلقى معيقاً. وما وجدناه تحدث بشيء عن قداسة
الجبل، ولا تحدث عن النساك الذين سمعنا أنهم لا يزالون يقيمون فيه. وفوق
ذلك، فسواء أكان أولئك الصُّلاح لا يزالون مقيمين في هذا الجبل المقدس، أو
إنهم ما عادوا سوى ذكرى من ذكريات الماضي، فلا يغير من الأمر شيئاً؛ فلا
يزال للجبل الأخضر، كما سنرى في ما يقبل من هذا الكتاب، يحتل مكانة مهمة في
الكتابات المناقبية المغربية. وما أكثر الأولياء الذين يُرد نسبهم إلى هذا
الجبل، والثابت أن الجبل الأخضر قد اضطلع بدور المركز للإشعاع الديني.
وقد
ذهب معظم المؤلفين إلى أن الجبل الأخضر لم يعد يستحق، على الأقل في الوقت
الحاضر، أن يسمى بهذا الاسم؛ والحقيقة أنه لم يكن بالأخضر في جميع الأوقات،
وهذا أمر نقف عليه بالعودة إلى ما كتب الوزان ومارمول؛ فهذان المؤلفان
اللذان يصوران لنا الجبل الأخضر تكسوه غابات، وقد زالت عنه اليوم فما عاد
لها وجود. وإذا أشجار أشجار البلوط والصنوبر التي كانت تعمره في الماضي قد
حلت محلها غيضات منفرة من الطلح والرتم.
بحيرة الجبل لخضر
ولا
يزال الجبل الأخضر يحفل، في ما يبدو، بالكثير من عيون الماء، ولا يزال في
سفوحه الكثير من الضايات، لكن أين يا ترى تلك البحيرة العظيمة التي صورها
الحسن الوزان، والتي قال عنها إنها تعج من الأسماك بحيث يستطيع المرء أن
يصيد فيها بيديه الأنقليس وغيره من أنواع السمك؟ وقد ذكر الوزان أن تلك
البحيرة كانت كبيرة بقدر بحيرة بولزينا [(هـ. م) بحيرة Bolsena بحيرة
بركانية وسط إيطاليا]. وقد خرج إليها أحد السلاطين المرينيين من مدينة فاس،
وأقام بها ثمانية أيام، فكان يوزع وقته بين مقامه الصيد والقنص الممتعين،
إذ كانت الغابات وكان الجبل حافلين بشتى أنواع الطرائد الطائرة و السائرة.
ونميل اليوم إلى الاعتقاد بأن هذه الروايات الجميلة لا تعدو أن تكون من
بنات الخيال إذ لم تخلص الأبحاث الهامة التي أنجزها بريف إلى ما يجعلها
قريبة إلى الاجتمال. فقد درس هذا العالم الأثري نظام المياه في الجبل
الأخضر وخلص من ملاحظاته إلى أن المياه فيه كانت إلى وقت غير بعيد تصل إلى
وادي أم الربيع، وأنه قد كان من المفترض أن تكون المياه الآتية من الجبل
أكثر من ذلك المقدار، ويحتمل أن يكون السبب راجعاً إلى كثرة الغابات فيه.
وأما اليوم فقد بات الجبل لا يدفق فيه من المياه ما يكفي ليجعل فيوضها تشق
لها مساراً [نحو وادي أم الربيع]، فهذا أدى إلى تكون فرشاة ن الطمي
والحجارة الملساء التي صارت تكتسح الأراضي الفلاحية. فالمياه التي تنزل على
هذه التربة الصوانية تنفذ إليها بسرعة وتترك السطح جافاً أجدب. ويمكن أن
نخلص من هذه الملاحظات الهامة التي جاء بها بريف إلى أن بين الزمن الذي
كانت فيه أودية الجبل الأخضر تصل إلى وادي أم الربيع والوقت الحالي الذي
صارت فيه لا تزيد عن فيض من غير مخرج، مر زمن صارت فيه المياه دونما قدرة
على البلوغ إلى النهر، بيد أنها كانت لا تزال وافرة فكانت تنتشر إلى بحيرات
عند سفح الجبل؛ وإلى ذلك الوقت يعود حديث الحسن الوزان عن تلك البحيرة
العجيبة والصيد الذي كان يصيب فيها.
مناخ دكالة
لا
نملك معطيات منسجمة بشأن المناخ في دكالة، غير أن المعطيات التي أمكن لنا
الوصول إليها في الدار البيضاء تسمح لنا بتكوين تصور عن مناخ هذه المنطقة.
فالمناطق الساحلية نفسها تعرف حرارة على كثير من الاستقرار؛ فهي لا تنخفض
إلى ما دون + 5° شتاء، وقلما ترتفع إلى ما فوق + 30° صيفاً. لكن هذا الفرق
يسير إلى اتساع بما نبتعد عن البحر. ومن المحتمل أن تكون المناطق التي
تنتهي عندها الهضبتان تشهد فترات من الصقيع الأبيض الذي يتواتر عليها شتاء
وتبلغ حرارتها القصوى 45° صيفاً. وقد أشار وايسجربر وفايشر إلى الجفاف
الشديد الذي يطبع الهواء على الهضبة العليا. ويبتدئ موسم الأمطار في شهر
أكتوبر وينتهي في شهر أبريل. وتتخلل فصل الشتاء، وعادة ما تقع في شهر
يناير، فترة جفاف قصيرة، وهي شيء مألوف في الجزائر، وقلما تغيب عن هذه
المناطق. ومن الحسنات التي يتميز بها مناخ الحوز، ويتميز بها مناخ
المنطقتين الوسطى والشمالية من المغرب بوجه عام قياساً إلى المناخ في
الجزائر، أنه مناخ تندر فيه تلك الظاهرة المناخية الغريبة والغامضة التي
تعرف باسم «السيروكو».
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 14 -
كلما لوحظ في القبيلة أن شخصاً قد أصيب بالجذام، أو بمرض مشابه، إلا ويجبر على الذهاب للعيش في الحارة، فإذا امتنع عن الذهاب اشتُكي إلى القايد، فأكرهه عليه!
المياه في دكالة
لقد
سبق لنا أن أشرنا في مناسبات عديدة إلى أن المياه في معظم مناطق دكالة
توجد في مستوى شديد العمق؛ فنحن نصل إليه في العادة على عمق 20 إلى 30
متراً في المتوسط، وأكثر ما يكون على عمق بين 40 و50، بله 60 متراً. ومن
اليسير قياس هذا العمق، فلا نحتاج فيه إلى مسبار، وإنما نتبينه بصورة
تلقائية من على السبيل المهيأة بقرب البئر، وإليكم تفسير هذا الأمر. يقوم
على جانبي المثابة عمودان من الإسمنت ثبتت فوقهما شجرة بشكل أفقي، وعليها
يُزلق الحبل. وفي أحد طرفي هذا الحبل يشد إناء ليملأ بالماء، ويشد طرفه
الآخر إلى بهيمة، فهي تجذب ذلك الحبل وتسير تبتعد عن البئر في تلك السبيل.
فتكون المسافة التي تقطعها البهيمة هي عمق البئر. وهذا العمق الكبير الذي
يوجد فيه الماء يجعل من العسير توريد البهائم، إلا أن تتوفر الضايات بكثرة
في تلك الأنحاء. والماء الذي ينزل أثناء موسم الأمطار على هذه الأرض
المنبسطة الخالية من التضاريس يتجمع في بعض المنخفضات الواسعة منها وغير
العميقة، ويركد فيها مدة غير يسيرة من السنة. وقد رأينا أن بريف يرجع تشكل
التيرس على وجه التحديد إلى الاتساع الذي صارت إليه هذه الضايات في وقت
سابق. وتكون المياه في هذه الضايات صالحة للشرب في فصل الشتاء، ثم يصير
ماؤها إلى تكدر بما تطؤها البهائم وتتبرز فيها، إلى أن تصير متعفنة نتنة في
أوقات، ثم تتبخر فلا تعود ترى لها أثراً في فصل الصيف. وتتفرق هذه المياه
في معظم أنحاء الهضبة الجنوبالأطلنتية، ونجد بعضها كذلك قرب الجبيلات.
فالبحيرة التي في سفوح هذه الجبال لا تعدو أن تكون ضاية هائلة. والضايات
يلجأ إليها الأهالي لغسل الملابس ويلجأون إليها في فترة الاجتزاز لغسل
الأصواف. وإنه لمنظر عجيب نظل نلاقيه بطول الطريق؛ فالنساء منغمسات في
الضايات حتى الركب، وهن منكبات على غسل الأصواف التي جزت للتو في تلك
المياه الغامرة.
فلاحة دكالة
تعتبر
أراضي دكالة مضرب المثل في الخصوبة، بحيث إنهم في شمال المغرب إذا أرادوا
أن يصفوا تربة إحدى القبائل بالخصوبة قالوا إنها «دكالة الغرب». والدكالي
فوق ذلك فلاح خبير، وهو عرف بقيمة أرضه، غير أنه لا يعول على خصوبتها ويعرف
كيف يخدمها ليزيد إنتاجها. وتتمثل أهم زراعات دكالة في القمح والشعير
والحمص والفول والعدس. وقد أصبحت تدخل فيها كذلك منذ بضع سنوات زراعة
الكتان. وهم يقسمون الأراضي إلى أراض للقمح وأخرى أراض للشعير. فهم يزرعون
في الأولى القمح، وتبعونه بالدرة أو بالبقول، التي هي زراعات ربيعية أو
صيفية ليتيحوا للأرض أن تستريح لبعض الوقت بين الزراعتين. غير أن الكتان
يزرع في شهر أكتوبر فيؤدي إلى إنهاك الأرض في من جميع الوجوه. وأما الأراضي
الفقيرة، المسماة أراضي الشعير، فإن مدة الاستراحة فيها سنتان. فشعير
يزرع، ثم تكون استراحة، وهكذا دواليك. وينبغي أن نضيف إلى الزراعات
المذكورة شجر العنب، فهي زراعة تلائمها الظروف الطبيعية في دكالة، وتنتج
عنباً أسود كبيراً، يعتبر من أهم مصادر التغذية في هذه المنطقة الفقيرة من
الفاكهة. ثم إن الأهالي يعتنون كثيراً بأعنابهم، ويعرفون بالفوائد العظيمة
التي تعود عليها من النكش المتقن الذي يكون في أوانه. تراهم يأخذون في ذلك
بالمثل القائل : «الأحمق يسقي والعاقل ينقش»؟
أشجار التين
لقد
ألمحنا إلى قلة أشجار الفاكهة في دكالة. وهذا طابع سائد في سائر أنحاء هذه
الهضبة، لا يستثن منه غير شجر العنب والتين والصبار. وأما أشجار التفاح
وأشجار اللوز وأشجار الرمان وأشجار البرتقال فليس لها عندهم وجود. وكذلك
تغيب لديهم أشجار الزيتون، إلا من بعض الأشجار المتفرقة العجفاء. والسبب في
هذه الحالة يعود بطبيعة الحال إلى جفاف التربة التي يتعذر سقيها لبعد غور
الفرشاة المائية. وتكاد أشجار التين تكون هي الأشجار الوحيدة التي تلطف من
وحشة هذه الأمداء الشاسعة من أراضي دكالة، وتتيح للرحالة والمسافر أن يفيء
إليها من قيظ الزوال. غير أنها لا تلبث أن تصير إلى نقص شديد على الطريق
إلى مراكش، عدا أن ظلها الثقيل لا يجد فيه المسافر نداوة كثيرة. وجميع
أولئك الذين جابوا هذه البلاد في الصيف يحتفظون بذكريات لوجبة الغذاء التي
تناولوها تحت تلك الأوراق السميكة المتدلية حتى لتكاد تلامس الأرض، بحيث لا
يمكن للواحد منهم أن يتفيأها إلا أن يكون جالساً أو مضطجعاً، ولا تترك
منفذاً لهبة هواء من شأنها أن تلطف من ثقل الحر الذي يحدثه انعكاسه على
التراب.
الصبار
غير
أن القيلولة تحت ظلال أشجار التين أفضل بما لا يقاس من القيلولة التي يمكن
أن يتخذها المرء تحت ظلال أشجار الصبار. غير أن هذه الأشجار القاسية لا
تمنح من الظل بالضرورة إلا بتقتير شديد، والأشواك المتناثرة منها على الأرض
تتكالب مع القشرة الشائكة التي تغلف ثمار الصبار وتطير أشواكها في كل
الأنحاء فتتأكل الجلد ولا تترك سبيلاً للراحة ينعم بها المسافر الذي يحب أن
يصيب قيلولة هانئة. ومع ذلك فإن أشجار الصبار تعتبر ذخيرة حقيقية عند
الأهالي؛ فهي شديدة تحمل للجفاف، وتمثل أوراقها طعاماً غذاء جيداً للمواشي
مزيلاً للعطش في فصل الصيف، ولثمارها إيثار خاص عند الأهالي. غير أن
استهلاك هذه الفاكهة يتسبب للدكاليين في بعض المضار التي يعرف بها أهل
الجزائر، والتي لا يسعني أن أطيل فيها الحديث. لكن يجدر بالقول مع ذلك
الإفراط في تناول ثمار الصبار كثيراً ما ينجم عنه إمساك ليس من اليسير
التخلص منه. وإن هذا الأمر ليكثر في موسم الصبار، بحيث يصير الناس، في ما
يبدو، يعالجون منه في الأسواق. فالطبيب المتجول يستعمل في علاجه حقنة تتكون
في هذه البلاد من جلد الماعز وقصبة مجوفة. وينبطح المريض على بطنه، حتى
إذا أحكم الطبيب تسديد تلك الآلة قفز رجل أو اثنان فوق جلد الماعز، فتحصلت
الضغط الهائل الذي يتوقف عليه نجاح تلك العملية. وإذا كنا نسوق هذا
التفاصيل، ونعتذر من القارئ عليها، فالجدير بالملاحظة مع ذلك أنها تأتي
لتؤكد ما سبق لنا أن ذكرنا من قلة الحياء التي يتصف بها أهل دكالة، بالقياس
إلى الأهالي في الجزائر. فإن من الصعوبة تصور أن تقع مثل عملية في سوق
جزائرية.
وتشكل تربية الماشية، بالإضافة إلى زراعة الحبوب، [وهما
يتوزعان مناطق دكالة] حسب طبيعة التربة، أخد مظاهر الثراء في هذه البلاد.
وتغلب على أهل دكالة تربية الأغنام، لكنك تجد لديهم بعض الخيول أيضاً. بيد
أن تربية الخيول شيء يختص به عبدة، ولهم فيه شهرة واسعة في سائر أنحاء
المغرب. ولذلك فالدكالي إذا التقى أحد جيرانه من عبدة، وأراد أن يمتدحه، لم
يفته أن يسلم عليه قائلاً : «العبدي مول العود». ففي بلاد دكالة فخدة من
عبدة تسمى البخاتي تسكن المنطقة بين الوليدية والجديدة، وهم، كسائر
المكلفين منهم، يشتغلون بتربية الخيول. ولهم منها الخيول البديعة، خاصة بعض
الخيول السوداء. وتحكي أسطورة لها رسوخ في أذهان هؤلاء أن في ليلة من كل
سنة يخرج «العود البحري» من البحر ويأتي ليسافد أفراس البخاتي. وهذا هو
المفسر عندهم لجمال الخيول التي نراها تخطر في مراعي هذه القبيلة. ولقد
تحدثنا من قبل أعلاه، تدرجاً مع المسارات التي سارت فيها رحلتنا، عن مختلف
المسارات، عن المناطق التي تزدهر فيها تربية الماشية، وحسبنا أن نزيد ههنا
إلى ما ذكرنا أن المراعي عند دكالة تكون كلها جماعية، فيما لا تكون
الأراضي المخصصة للزراعة إلا فردية.
دكالة أصل دكالة
يشير
ابن خلدون إلى أن التعرف على أصل دكالة لا يزال مشكلة تحتاج إلى حل، فبعض
يدخلهم في المصامدة وبعض يعتبرهم من صنهاجة. ثم إننا لا نجد البكري ذكرهم
بشيء. ويجعل الإدريسي مكانهم في موضع أقرب إلى الموضع الذي يوجدون به في
الوقت الحالي، إلا أن الذي يبدو أنهم كانوا من قبل أكثر انتشاراً في ناحية
الجنوب، بل وكنت تجدهم في ما وراء جبال الأطلس أيضاً، حسب ما تؤكد فقرة
أخرى عند ابن خلدون، وهو المؤلف الوحيد الذي يسلم بأن أصلهم يعود إلى
صنهاجة. وأما الإدريسي والمراكشي فيدخلانهم في من مصمودة، وهي في ما يبدو
الأطروحة الأقرب إلى الاحتمال. ويتجمع دكالة اليوم في المنطقة بين وادي
تانسيفت ووادي أم الربيع. وهم يشغلون مع عبدة المنبسط السفلي من الهضبة
الجنوبأطلسية الواقعة بين هذين الواديين، وتوجد فخدة منهم في منطقة الغرب
بضواحي القصر الكبير. ودكالة خليط من البربر والعرب. وقد دخل هؤلاء إلى
المغرب على يد المنصور الموحدي، وقد انصهروا مع السكان الذين سبقوهم إلى
هذه البلاد. وقد كان لا يزال بالإمكان التمييز بينهما بسهولة على عهد الحسن
الوزان ومارمول، ويبدو أن هذا التمييز كان شيئاً شائعاً في ذلك الزمان.
أسماء عرقية
لا
نعرف أصلاً اشتقاقياً لكلمة «دكالة». فبينما تعتبر الأسماء العرقية الأخرى
مثل الشاوية والسراغنة والرحامنة كلمات عربية ذات معنى وشكل صرفي معروف،
تبدو أسماء أخرى مثل دكالة وعبدة واحمر وحاحة وصنهاجة ومصمودة، على الأقل
في الوقت الحالي، وكأنها أسماء أعلام حقيقية، يتأبى علينا أصلها الاشتقاقي
في الكثير من الحالات. فلا يعود معظم هذه الأسماء إلى أي شكل صرفي مألوف في
اللغة العربية، ومن مميزاتها كذلك أنها لا ترد معرفة أبداً، فنحن نقول
«الشاوية» و»الرحامنة» و»الشياظمة» و»السراغنة»، غير أننا لا نقول :
«الدكالة» و»الحاحة» و»المصمودة»... فسيكون خطأ فادحاً. ثم إنه ليس هنالك
من شك في أن هذه الكلمات هي في المقام الأول أسماء عرقية، فأغلب الظن أن
تكون تدل على البلاد التي سكنها أقوام فسميت باسمهم. لكن العادة الغالبة في
هذه الكلمات أن تُسبق في هذه الحالات باسم جنسي، كقولهم : «بلاد حاحة».
وعليه فإن هذه الأسماء شبيهة بمثيلاتها التي نعرف في الشرق القديم، من قبيل
«هاشم» و»قريش»، إلخ... وأكثر ما تطلق هذه الأسماء في منطقة شمال إفريقيا
على تجمعات أكبر من القبيلة، وهي التجمعات التي لا تجد لها عبارة معروفة
تدل عليها بشكل واضح. وإن شكلها الصرفي لعلى تعارض كبير مع الشكل الصرفي في
أسماء من قبيل «الشاوية» و»الرحامنة»، إلخ... بما يتعذر معه أن تشتق منها
أسماء عرقية تأخذ هيأة هذه الأسماء الأخيرة. فلكمة مصمودة من غير تعريف
يشتق منها الشكل «المصامدة»، وهو جمع عربي قديم ويتحمل أداة التعريف. وأما
نحن فسنستمر في ما يأتي من هذا الكتاب في القول في الفرنسية : «Les
Doukkâla» و» les Masmoûda»، إلخ.، كقولنا : «Les chaouia» و»Les
Rehâmna»، خشية أن نزيد في تشويش المصطلحية العراقية، غير أنها صيغ لا
توافق الاستعمال العربي.
الهيئة البدنية لدكالة
أهل
دكالة في عمومهم طوال القامة مشيقو القوام (الصورة 51). ونجد كذلك إلى
جانب هذا النوع الطويل منهم نوعاً آخر قصيراً وسميناً وقوياً، والنوعان
كلاهما
سمرا السحنة. كما أن الشقر بينهم كثرون. وما أكثر الدكاليين كذلك من ذوي
العيون الزرق والشعر الأشقر. وهؤلاء الشقر أكثرهم هؤلاء طوال القامة، فهن
يشكلون نوعاً ثالثاً نراه كثيراً في هذه البلاد (الصورة 63). ولاحاجة ههنا
إلى التذكير بالنقاشات التي أثيرت حول وجود الشقر في شمال إفريقيا. ولقد
أصاب كدينفلت في ملاحظته التي قال فيها إن الشقر قليلون جداً في المناطق
الوسطى والمناطق الجنوبية من المغرب؛ لكن ينبغي أن نضيف أنهم على سبيل
الاستثناء يوجدون بكثرة بين أهل دكالة.
الجذمى
والتقينا
في دكالة كذلك الكثير من الجذمى، فهم معزولون في قرية خاصة، هي قرية أولاد
سبيطة، وهي فخدة سبق لنا أن تناولناها بالحديث. وقد جرت العادة في كل
أنحاء المغرب على تسمية [المكان] الذي يتجمع فيه الجذامى «حارة». وهو يتألف
من عشرات النوايل، قد أحيطت بسور من الحجارة لا يشدها طين. وأغلب الظن أن
عددهم في هذا المكان من دكالة لا يزيد عن أربعين شخصاً. فكلما لوحظ في
القبيلة أن شخصاً ما قد أصيب بالجذام، أو بمرض مشابه، إلا ويجبر على الذهاب
للعيش في الحارة، فإذا امتنع من الذهاب اشتُكي إلى القايد، فأكرهه عليه.
والشائع عند الناس ههنا أن أبناء الجذمى لا يلحقهم شيء من ذلك
المرض إلا
أن يكونوا ولدوا في الحارة، لكن المرض يلحقهم إذا ولدوا لأبوين أجذمين لم
يُسكَنا الحارة. لكن هل جميع من يسكن الحارة هم فعلاً من الجذامى؟ فلا يبعد
أن يكون أمر الجذام يختلط على الناس بأمراض كثيرة. والواقع أنهم يرسلون
إلى الحارة بكل من تلحقه مرض من الأمراض الجلدية ولو لم يكن بشديد القبح.
والجذامى في دكالة، كما في مراكش التي توجد لهم فيها حارة خاصة، يتنقبون
ويضعون فوق رؤوسهم قبعة عريضة الحواشي، تسمى «ترازة».
وحارة سبيطة هي
الحارة الوحيدة الموجودة اليوم في دكالة؛ وقد كانت هنالك حارة أخرى في
مدينة الجديدة، وذكر لنا الأب برنو أنه وقف عليها، لكن لم يعد لها اليوم
وجود. ولاشك أن هذا المرض الفتاك يسير إلى تراجع بفعل ما يطرأ على حياة
الناس من يسار ومن نظافة. والنظافة ليست بالكلمة الجوفاء عند دكالة، الذين
يتميزون عن سائر قبائل الحوز بالعناية التي يحيطون بها أشخاصهم؛ فأنت تراهم
لا يكفون عن الاغتسال. ولاشك أن هنالك غير قليل من الشعوب المتحضرة التي
لا تبلغ مبلغهم من النظافة.
طعام دكالة
يتكون
طعام دكالة في أغلبه من الشعير والذرة، وأما القمح فلا يطعمه غير
الأغنياء. وأشهر أكلاتهم هي المسماة «الدشيشية»، وهي نوع من كسكس الشعير.
وأما كسكس القمح، أو «كسكسو» أو «سكسو»، فهو وجبة لا يتيسر الوصول إليها.
وهذا الاسم تعرف به خاصة في منطقة الحوز، وأما في الغرب فهي تعرف باسم
«الطعام» (وهو عموم الغذاء). وأما اللحم الذي يكثر أكله عندهم فهو لحم
الغنم ولحم البقر. ودكالة ليسوا خبراء في فن تجفيف اللحم، فلا يقومون بهذه
العملية في غير العيد الكبير. كما وأنهم يأكلون «القديد» الذي هيأوه على
هذه الطريقة في مدة قصيرة. وهم كسائر المغاربة يكثرون من شرب الشاي، وقلما
تجد بينهم من يدخن الكيف، فعادة التدخين معدودة عند القبيلة من الرذائل.
معرف دكالة
يجدر
بنا أن نشير ههنا بشأن التغذية عند دكالة إلى أنهم يستعملون المحارات
مغارف يتناولون بها «الحسوة»، وهي حساء من دقيق الشعير، كما يستعملونها في
تناول غيرها من المواد السائلة أو شبه السائلة. وأهل دكالة يشتركون في هذا
الاستعمال للمحار مع بعض القبائل من ساكنة المناطق االساحلية من الحوز، وم ن
جملتها الشاوية. وعبدة... فكلمة «محارة» تعني لديهم، كشأنها في سائر مناطق
شمال إفريقيا، الصدفة كما تعني المغرفة. والمحار الذي يكثر استعماله لهذا
الغرض هو نوع من أشبه بالصحن الطيني patelles، وهو المسمى «Patella
ferruginea» (لامارك) و»Patella sefiana» (لامارك). وهذا اختيار شاذ، لأن
هذه patelles ذات الأشكال شبه المستديرة ليست مما يفترض أن يسهل استعماله
في غرف العصيدة، وسيكون أفضل منها استعمال أنواع أخرى من المحار، إذا كانت
كبيرة نسبياً، وتلك هي المحارات التي كان أناس ما قبل التاريخ يستعملونها
في نواحي وهران لشرب الحساء. ثم إن المغارف مستدقة الرأس أكثر شيوعاً في
سائر أنحاء العالم من المغارف المستديرة. بيد أن المغارف التي اعتاد
الأهالي استعمالها في الجزائر هي المغارف المستديرة، وهم يستعملونها – إلا
من بعض الاستثناءات – في أكل الكسكس والعصيدة من غير تمييز، وأما قبائل
الحوز التي تستعمل المحارة فهي تحرص أكراماً للكسكس ألا تأكله إلا
بالأصابع. وقد أصاب مورتاي في ملاحظته التي قال فيها إن البلاد التي تغلب
في تغذية أهلها العجائن أو أنواع السميد الغليظ لا تستعمل المغارف. ولذلك
فأهل المشرق الذين تكاد تغذيتهم تقتصر على الأرز ليس لهم قِبَلٌ بالمغارف.
وكذلك ينطبق هذا الأمر إلى حد كبير على المسلمين الذين أكثر أكلهم الكسكس.
ومن غريب أن نرى دكالة قد شرعوا يصنعون المغارف حسب النموذج الأوربي
الصحيح؛ فهي مغارف مقرَّنة بمقبض شديد القصر، ثم تراهم لا يزالون مستمرين
على تسمية هذه الأدوات الجديدة «محارة»! وأما كلمة «مغرفة»، التي يراد بها
في العادة المعلقة في بقية منطقة شمال إفريقيا، فهي غير معروفة عندهم.
والمحارات عندهم نوعان؛ «محارة نتاعت البحر»، يريدون بها «مغرفة البحر»،
و»المحارة نتاعت الكرن»، وهي المغرفة التي يتخذونها من قرون الحيوان، وهذا
النوع الأخير من المغارف يعرض في الأسواق بخمسة قروش مغربية.
تزين دكالة
والنساء
الدكاليات على قدر كبير من الجمال، فهن يخضبن خدودهن بالخضاب الأحمر الذي
يباع في مراكش وفي الأسواق [الدكالية] في صحينات من الطين، ويسمى «العكر».
ويصبغن شفاههن بالسواك، ويجئن بشريط ذي لون أسود حيواني دقيق نسبياً، من
تحت الحاجبين، ويمر على الجبين كله وينزل بطول الصدغين ومن خلف الخدين
لينغلق عند الذقن.
الوشم
ويكثر
عندهن الوشم، وتوجد لديهن «معلمات» متخصصات يتنقلن في القبائل لهذا الغرض.
والنساء يضعن في العادة وشماً عمودياً على الجبين يتوسط الحاجبين، وخطاً
آخر عمودياً على الذقن، ويمتد إلى العنق، ويصير تتخلله بعض الرسوم على شيء
من التعقيد، ويستطيل إلى ما بين الثديين، ثم يمتد على البطن لينتهي عند
الصرة. وكثيرات منهن يحملن وشماً آخر على العانة. وكذلك يزين أذرعهن
وسواعدهن ومعاصمهن وأيديهن بأوشام أخرى على شيء ممن التعقيد، وكذلك يزين
بها سيقانهن حتى العراقيب. وأما الرجال فإنهم يقتصرون بالوشم عامة على
باطن الذراع اليمنى، ومن فوق الكتف ومن تحته. وإن من شأن الأوشام أن تدلنا
إلى حد كبير على أصل الشخص. ومن ذلك أن أهل الشاوية الذين يضعون من الأوشام
فوق ما يضع منها أهل دكالة، كثيراً ما يأتون على ظاهر الذراعين معاً
برسوم، وهي رسوم تبتدئ من الكتف وتستطيل إلى المعاصم وإلى الأيدي وتنتهي
عند منابت الأصابع، وقد تتجاوزها. والعبديون يضعون جميعاً وشماً على يده
الذي يقوم بين الإبهام والسبابة، على ظهر الكف. ومنهم من يجعلون أوشاماً
على ظاهر الكف كله. وأما الرحامنة فقليلو وشم، وأكثر أوشامهم تكون على ظهر
مفاصل الأصابع الأولى. وكثيراً ما نرى لديهم كذلك وشماً صغيراً على الجبين
وأسفل منبت الأنف، وهو شيء شائع عند الشاوية، ونجد عند هؤلاء من الرجال من
يشمون صدورهم، وربما كانت نساؤهم أكثر أوشاماً من الدكاليات، وكذلك تكثر
نساء عبدة من الوشم، وأما نشاء الشياظمة فالوشم عندهن قليل.
حلي دكالة
تستعمل
أقراط الأذن في العالم كله على صورة واحدة؛ وكذلك فالميسورات من نساء
دكالة يتحلين بالأقراط الطويلة المسماة «الدواح»، وأما الفقيرات منهن فإنهن
يضعن في آذانهن «أخراصاً»، وهي أقراط صغيرة. وأما الرجال فلا يضعون في
آذانهم شيئاً. ووحدهم الأثرياء يجعلون في آذان مواليدهم أقراطاً. والنساء
إذا أردن التزين وضعن في أعناقهن عقداً أو «مدجة» تتكون من القطع النقدية
من فئة نصف الدورو وربع الدورو الحسني، أو من النقود الإسبانية الفضية، ولا
ترى عليهن من الذهب أبداً، إلا أن يكن من نساء الأعيان. لكن يتزين في
المقابل بالكثير من المرجان. والدكاليات كثيرات إقبال على المرجان، ما يجعل
له الانتشار المفرط عندهن. فجميعهن يجتهدن في الحصول عليه؛ فإذا كان الزوج
ثرياً ادخرت المرأة على حسابه مبلغاً صغيراً لتقتني به الحلي من المرجان،
وأما إذا كان فقيراً ولم يهدها شيئاً من تلك الحلي فقد يحد للمرأة أن تضع
في عنقها شيئاً على هيأة المرجان يدل على قلة نبله. وتزين النساء جباههن
بحلية من النقود القديمة. وهنالك حلية واسعة الانتشار في المناطق الأخرى من
المغرب، لكن تبدو نادرة الاستعمال في دكالة، ونريد بها الكف الصغيرة من
الفضة، المسماة «خمساً» أو «خامسة». والنساء الدكاليات يضعن في أيديهن
«الدبليج»، وهو سوار غليظ من قطعة واحدة، قليل زخارف. وأما الأساور الأكبر
حجماً والكثيرة الزخرفة فهي ناذرة الاستعمال عندهن لغلائها. وأما وضع
الحلقات في الأرجل فهو شيء غير معروف في دكالة.
كلما لوحظ في القبيلة أن شخصاً قد أصيب بالجذام، أو بمرض مشابه، إلا ويجبر على الذهاب للعيش في الحارة، فإذا امتنع عن الذهاب اشتُكي إلى القايد، فأكرهه عليه!
المياه في دكالة
لقد
سبق لنا أن أشرنا في مناسبات عديدة إلى أن المياه في معظم مناطق دكالة
توجد في مستوى شديد العمق؛ فنحن نصل إليه في العادة على عمق 20 إلى 30
متراً في المتوسط، وأكثر ما يكون على عمق بين 40 و50، بله 60 متراً. ومن
اليسير قياس هذا العمق، فلا نحتاج فيه إلى مسبار، وإنما نتبينه بصورة
تلقائية من على السبيل المهيأة بقرب البئر، وإليكم تفسير هذا الأمر. يقوم
على جانبي المثابة عمودان من الإسمنت ثبتت فوقهما شجرة بشكل أفقي، وعليها
يُزلق الحبل. وفي أحد طرفي هذا الحبل يشد إناء ليملأ بالماء، ويشد طرفه
الآخر إلى بهيمة، فهي تجذب ذلك الحبل وتسير تبتعد عن البئر في تلك السبيل.
فتكون المسافة التي تقطعها البهيمة هي عمق البئر. وهذا العمق الكبير الذي
يوجد فيه الماء يجعل من العسير توريد البهائم، إلا أن تتوفر الضايات بكثرة
في تلك الأنحاء. والماء الذي ينزل أثناء موسم الأمطار على هذه الأرض
المنبسطة الخالية من التضاريس يتجمع في بعض المنخفضات الواسعة منها وغير
العميقة، ويركد فيها مدة غير يسيرة من السنة. وقد رأينا أن بريف يرجع تشكل
التيرس على وجه التحديد إلى الاتساع الذي صارت إليه هذه الضايات في وقت
سابق. وتكون المياه في هذه الضايات صالحة للشرب في فصل الشتاء، ثم يصير
ماؤها إلى تكدر بما تطؤها البهائم وتتبرز فيها، إلى أن تصير متعفنة نتنة في
أوقات، ثم تتبخر فلا تعود ترى لها أثراً في فصل الصيف. وتتفرق هذه المياه
في معظم أنحاء الهضبة الجنوبالأطلنتية، ونجد بعضها كذلك قرب الجبيلات.
فالبحيرة التي في سفوح هذه الجبال لا تعدو أن تكون ضاية هائلة. والضايات
يلجأ إليها الأهالي لغسل الملابس ويلجأون إليها في فترة الاجتزاز لغسل
الأصواف. وإنه لمنظر عجيب نظل نلاقيه بطول الطريق؛ فالنساء منغمسات في
الضايات حتى الركب، وهن منكبات على غسل الأصواف التي جزت للتو في تلك
المياه الغامرة.
فلاحة دكالة
تعتبر
أراضي دكالة مضرب المثل في الخصوبة، بحيث إنهم في شمال المغرب إذا أرادوا
أن يصفوا تربة إحدى القبائل بالخصوبة قالوا إنها «دكالة الغرب». والدكالي
فوق ذلك فلاح خبير، وهو عرف بقيمة أرضه، غير أنه لا يعول على خصوبتها ويعرف
كيف يخدمها ليزيد إنتاجها. وتتمثل أهم زراعات دكالة في القمح والشعير
والحمص والفول والعدس. وقد أصبحت تدخل فيها كذلك منذ بضع سنوات زراعة
الكتان. وهم يقسمون الأراضي إلى أراض للقمح وأخرى أراض للشعير. فهم يزرعون
في الأولى القمح، وتبعونه بالدرة أو بالبقول، التي هي زراعات ربيعية أو
صيفية ليتيحوا للأرض أن تستريح لبعض الوقت بين الزراعتين. غير أن الكتان
يزرع في شهر أكتوبر فيؤدي إلى إنهاك الأرض في من جميع الوجوه. وأما الأراضي
الفقيرة، المسماة أراضي الشعير، فإن مدة الاستراحة فيها سنتان. فشعير
يزرع، ثم تكون استراحة، وهكذا دواليك. وينبغي أن نضيف إلى الزراعات
المذكورة شجر العنب، فهي زراعة تلائمها الظروف الطبيعية في دكالة، وتنتج
عنباً أسود كبيراً، يعتبر من أهم مصادر التغذية في هذه المنطقة الفقيرة من
الفاكهة. ثم إن الأهالي يعتنون كثيراً بأعنابهم، ويعرفون بالفوائد العظيمة
التي تعود عليها من النكش المتقن الذي يكون في أوانه. تراهم يأخذون في ذلك
بالمثل القائل : «الأحمق يسقي والعاقل ينقش»؟
أشجار التين
لقد
ألمحنا إلى قلة أشجار الفاكهة في دكالة. وهذا طابع سائد في سائر أنحاء هذه
الهضبة، لا يستثن منه غير شجر العنب والتين والصبار. وأما أشجار التفاح
وأشجار اللوز وأشجار الرمان وأشجار البرتقال فليس لها عندهم وجود. وكذلك
تغيب لديهم أشجار الزيتون، إلا من بعض الأشجار المتفرقة العجفاء. والسبب في
هذه الحالة يعود بطبيعة الحال إلى جفاف التربة التي يتعذر سقيها لبعد غور
الفرشاة المائية. وتكاد أشجار التين تكون هي الأشجار الوحيدة التي تلطف من
وحشة هذه الأمداء الشاسعة من أراضي دكالة، وتتيح للرحالة والمسافر أن يفيء
إليها من قيظ الزوال. غير أنها لا تلبث أن تصير إلى نقص شديد على الطريق
إلى مراكش، عدا أن ظلها الثقيل لا يجد فيه المسافر نداوة كثيرة. وجميع
أولئك الذين جابوا هذه البلاد في الصيف يحتفظون بذكريات لوجبة الغذاء التي
تناولوها تحت تلك الأوراق السميكة المتدلية حتى لتكاد تلامس الأرض، بحيث لا
يمكن للواحد منهم أن يتفيأها إلا أن يكون جالساً أو مضطجعاً، ولا تترك
منفذاً لهبة هواء من شأنها أن تلطف من ثقل الحر الذي يحدثه انعكاسه على
التراب.
الصبار
غير
أن القيلولة تحت ظلال أشجار التين أفضل بما لا يقاس من القيلولة التي يمكن
أن يتخذها المرء تحت ظلال أشجار الصبار. غير أن هذه الأشجار القاسية لا
تمنح من الظل بالضرورة إلا بتقتير شديد، والأشواك المتناثرة منها على الأرض
تتكالب مع القشرة الشائكة التي تغلف ثمار الصبار وتطير أشواكها في كل
الأنحاء فتتأكل الجلد ولا تترك سبيلاً للراحة ينعم بها المسافر الذي يحب أن
يصيب قيلولة هانئة. ومع ذلك فإن أشجار الصبار تعتبر ذخيرة حقيقية عند
الأهالي؛ فهي شديدة تحمل للجفاف، وتمثل أوراقها طعاماً غذاء جيداً للمواشي
مزيلاً للعطش في فصل الصيف، ولثمارها إيثار خاص عند الأهالي. غير أن
استهلاك هذه الفاكهة يتسبب للدكاليين في بعض المضار التي يعرف بها أهل
الجزائر، والتي لا يسعني أن أطيل فيها الحديث. لكن يجدر بالقول مع ذلك
الإفراط في تناول ثمار الصبار كثيراً ما ينجم عنه إمساك ليس من اليسير
التخلص منه. وإن هذا الأمر ليكثر في موسم الصبار، بحيث يصير الناس، في ما
يبدو، يعالجون منه في الأسواق. فالطبيب المتجول يستعمل في علاجه حقنة تتكون
في هذه البلاد من جلد الماعز وقصبة مجوفة. وينبطح المريض على بطنه، حتى
إذا أحكم الطبيب تسديد تلك الآلة قفز رجل أو اثنان فوق جلد الماعز، فتحصلت
الضغط الهائل الذي يتوقف عليه نجاح تلك العملية. وإذا كنا نسوق هذا
التفاصيل، ونعتذر من القارئ عليها، فالجدير بالملاحظة مع ذلك أنها تأتي
لتؤكد ما سبق لنا أن ذكرنا من قلة الحياء التي يتصف بها أهل دكالة، بالقياس
إلى الأهالي في الجزائر. فإن من الصعوبة تصور أن تقع مثل عملية في سوق
جزائرية.
وتشكل تربية الماشية، بالإضافة إلى زراعة الحبوب، [وهما
يتوزعان مناطق دكالة] حسب طبيعة التربة، أخد مظاهر الثراء في هذه البلاد.
وتغلب على أهل دكالة تربية الأغنام، لكنك تجد لديهم بعض الخيول أيضاً. بيد
أن تربية الخيول شيء يختص به عبدة، ولهم فيه شهرة واسعة في سائر أنحاء
المغرب. ولذلك فالدكالي إذا التقى أحد جيرانه من عبدة، وأراد أن يمتدحه، لم
يفته أن يسلم عليه قائلاً : «العبدي مول العود». ففي بلاد دكالة فخدة من
عبدة تسمى البخاتي تسكن المنطقة بين الوليدية والجديدة، وهم، كسائر
المكلفين منهم، يشتغلون بتربية الخيول. ولهم منها الخيول البديعة، خاصة بعض
الخيول السوداء. وتحكي أسطورة لها رسوخ في أذهان هؤلاء أن في ليلة من كل
سنة يخرج «العود البحري» من البحر ويأتي ليسافد أفراس البخاتي. وهذا هو
المفسر عندهم لجمال الخيول التي نراها تخطر في مراعي هذه القبيلة. ولقد
تحدثنا من قبل أعلاه، تدرجاً مع المسارات التي سارت فيها رحلتنا، عن مختلف
المسارات، عن المناطق التي تزدهر فيها تربية الماشية، وحسبنا أن نزيد ههنا
إلى ما ذكرنا أن المراعي عند دكالة تكون كلها جماعية، فيما لا تكون
الأراضي المخصصة للزراعة إلا فردية.
دكالة أصل دكالة
يشير
ابن خلدون إلى أن التعرف على أصل دكالة لا يزال مشكلة تحتاج إلى حل، فبعض
يدخلهم في المصامدة وبعض يعتبرهم من صنهاجة. ثم إننا لا نجد البكري ذكرهم
بشيء. ويجعل الإدريسي مكانهم في موضع أقرب إلى الموضع الذي يوجدون به في
الوقت الحالي، إلا أن الذي يبدو أنهم كانوا من قبل أكثر انتشاراً في ناحية
الجنوب، بل وكنت تجدهم في ما وراء جبال الأطلس أيضاً، حسب ما تؤكد فقرة
أخرى عند ابن خلدون، وهو المؤلف الوحيد الذي يسلم بأن أصلهم يعود إلى
صنهاجة. وأما الإدريسي والمراكشي فيدخلانهم في من مصمودة، وهي في ما يبدو
الأطروحة الأقرب إلى الاحتمال. ويتجمع دكالة اليوم في المنطقة بين وادي
تانسيفت ووادي أم الربيع. وهم يشغلون مع عبدة المنبسط السفلي من الهضبة
الجنوبأطلسية الواقعة بين هذين الواديين، وتوجد فخدة منهم في منطقة الغرب
بضواحي القصر الكبير. ودكالة خليط من البربر والعرب. وقد دخل هؤلاء إلى
المغرب على يد المنصور الموحدي، وقد انصهروا مع السكان الذين سبقوهم إلى
هذه البلاد. وقد كان لا يزال بالإمكان التمييز بينهما بسهولة على عهد الحسن
الوزان ومارمول، ويبدو أن هذا التمييز كان شيئاً شائعاً في ذلك الزمان.
أسماء عرقية
لا
نعرف أصلاً اشتقاقياً لكلمة «دكالة». فبينما تعتبر الأسماء العرقية الأخرى
مثل الشاوية والسراغنة والرحامنة كلمات عربية ذات معنى وشكل صرفي معروف،
تبدو أسماء أخرى مثل دكالة وعبدة واحمر وحاحة وصنهاجة ومصمودة، على الأقل
في الوقت الحالي، وكأنها أسماء أعلام حقيقية، يتأبى علينا أصلها الاشتقاقي
في الكثير من الحالات. فلا يعود معظم هذه الأسماء إلى أي شكل صرفي مألوف في
اللغة العربية، ومن مميزاتها كذلك أنها لا ترد معرفة أبداً، فنحن نقول
«الشاوية» و»الرحامنة» و»الشياظمة» و»السراغنة»، غير أننا لا نقول :
«الدكالة» و»الحاحة» و»المصمودة»... فسيكون خطأ فادحاً. ثم إنه ليس هنالك
من شك في أن هذه الكلمات هي في المقام الأول أسماء عرقية، فأغلب الظن أن
تكون تدل على البلاد التي سكنها أقوام فسميت باسمهم. لكن العادة الغالبة في
هذه الكلمات أن تُسبق في هذه الحالات باسم جنسي، كقولهم : «بلاد حاحة».
وعليه فإن هذه الأسماء شبيهة بمثيلاتها التي نعرف في الشرق القديم، من قبيل
«هاشم» و»قريش»، إلخ... وأكثر ما تطلق هذه الأسماء في منطقة شمال إفريقيا
على تجمعات أكبر من القبيلة، وهي التجمعات التي لا تجد لها عبارة معروفة
تدل عليها بشكل واضح. وإن شكلها الصرفي لعلى تعارض كبير مع الشكل الصرفي في
أسماء من قبيل «الشاوية» و»الرحامنة»، إلخ... بما يتعذر معه أن تشتق منها
أسماء عرقية تأخذ هيأة هذه الأسماء الأخيرة. فلكمة مصمودة من غير تعريف
يشتق منها الشكل «المصامدة»، وهو جمع عربي قديم ويتحمل أداة التعريف. وأما
نحن فسنستمر في ما يأتي من هذا الكتاب في القول في الفرنسية : «Les
Doukkâla» و» les Masmoûda»، إلخ.، كقولنا : «Les chaouia» و»Les
Rehâmna»، خشية أن نزيد في تشويش المصطلحية العراقية، غير أنها صيغ لا
توافق الاستعمال العربي.
الهيئة البدنية لدكالة
أهل
دكالة في عمومهم طوال القامة مشيقو القوام (الصورة 51). ونجد كذلك إلى
جانب هذا النوع الطويل منهم نوعاً آخر قصيراً وسميناً وقوياً، والنوعان
كلاهما
سمرا السحنة. كما أن الشقر بينهم كثرون. وما أكثر الدكاليين كذلك من ذوي
العيون الزرق والشعر الأشقر. وهؤلاء الشقر أكثرهم هؤلاء طوال القامة، فهن
يشكلون نوعاً ثالثاً نراه كثيراً في هذه البلاد (الصورة 63). ولاحاجة ههنا
إلى التذكير بالنقاشات التي أثيرت حول وجود الشقر في شمال إفريقيا. ولقد
أصاب كدينفلت في ملاحظته التي قال فيها إن الشقر قليلون جداً في المناطق
الوسطى والمناطق الجنوبية من المغرب؛ لكن ينبغي أن نضيف أنهم على سبيل
الاستثناء يوجدون بكثرة بين أهل دكالة.
الجذمى
والتقينا
في دكالة كذلك الكثير من الجذمى، فهم معزولون في قرية خاصة، هي قرية أولاد
سبيطة، وهي فخدة سبق لنا أن تناولناها بالحديث. وقد جرت العادة في كل
أنحاء المغرب على تسمية [المكان] الذي يتجمع فيه الجذامى «حارة». وهو يتألف
من عشرات النوايل، قد أحيطت بسور من الحجارة لا يشدها طين. وأغلب الظن أن
عددهم في هذا المكان من دكالة لا يزيد عن أربعين شخصاً. فكلما لوحظ في
القبيلة أن شخصاً ما قد أصيب بالجذام، أو بمرض مشابه، إلا ويجبر على الذهاب
للعيش في الحارة، فإذا امتنع من الذهاب اشتُكي إلى القايد، فأكرهه عليه.
والشائع عند الناس ههنا أن أبناء الجذمى لا يلحقهم شيء من ذلك
المرض إلا
أن يكونوا ولدوا في الحارة، لكن المرض يلحقهم إذا ولدوا لأبوين أجذمين لم
يُسكَنا الحارة. لكن هل جميع من يسكن الحارة هم فعلاً من الجذامى؟ فلا يبعد
أن يكون أمر الجذام يختلط على الناس بأمراض كثيرة. والواقع أنهم يرسلون
إلى الحارة بكل من تلحقه مرض من الأمراض الجلدية ولو لم يكن بشديد القبح.
والجذامى في دكالة، كما في مراكش التي توجد لهم فيها حارة خاصة، يتنقبون
ويضعون فوق رؤوسهم قبعة عريضة الحواشي، تسمى «ترازة».
وحارة سبيطة هي
الحارة الوحيدة الموجودة اليوم في دكالة؛ وقد كانت هنالك حارة أخرى في
مدينة الجديدة، وذكر لنا الأب برنو أنه وقف عليها، لكن لم يعد لها اليوم
وجود. ولاشك أن هذا المرض الفتاك يسير إلى تراجع بفعل ما يطرأ على حياة
الناس من يسار ومن نظافة. والنظافة ليست بالكلمة الجوفاء عند دكالة، الذين
يتميزون عن سائر قبائل الحوز بالعناية التي يحيطون بها أشخاصهم؛ فأنت تراهم
لا يكفون عن الاغتسال. ولاشك أن هنالك غير قليل من الشعوب المتحضرة التي
لا تبلغ مبلغهم من النظافة.
طعام دكالة
يتكون
طعام دكالة في أغلبه من الشعير والذرة، وأما القمح فلا يطعمه غير
الأغنياء. وأشهر أكلاتهم هي المسماة «الدشيشية»، وهي نوع من كسكس الشعير.
وأما كسكس القمح، أو «كسكسو» أو «سكسو»، فهو وجبة لا يتيسر الوصول إليها.
وهذا الاسم تعرف به خاصة في منطقة الحوز، وأما في الغرب فهي تعرف باسم
«الطعام» (وهو عموم الغذاء). وأما اللحم الذي يكثر أكله عندهم فهو لحم
الغنم ولحم البقر. ودكالة ليسوا خبراء في فن تجفيف اللحم، فلا يقومون بهذه
العملية في غير العيد الكبير. كما وأنهم يأكلون «القديد» الذي هيأوه على
هذه الطريقة في مدة قصيرة. وهم كسائر المغاربة يكثرون من شرب الشاي، وقلما
تجد بينهم من يدخن الكيف، فعادة التدخين معدودة عند القبيلة من الرذائل.
معرف دكالة
يجدر
بنا أن نشير ههنا بشأن التغذية عند دكالة إلى أنهم يستعملون المحارات
مغارف يتناولون بها «الحسوة»، وهي حساء من دقيق الشعير، كما يستعملونها في
تناول غيرها من المواد السائلة أو شبه السائلة. وأهل دكالة يشتركون في هذا
الاستعمال للمحار مع بعض القبائل من ساكنة المناطق االساحلية من الحوز، وم ن
جملتها الشاوية. وعبدة... فكلمة «محارة» تعني لديهم، كشأنها في سائر مناطق
شمال إفريقيا، الصدفة كما تعني المغرفة. والمحار الذي يكثر استعماله لهذا
الغرض هو نوع من أشبه بالصحن الطيني patelles، وهو المسمى «Patella
ferruginea» (لامارك) و»Patella sefiana» (لامارك). وهذا اختيار شاذ، لأن
هذه patelles ذات الأشكال شبه المستديرة ليست مما يفترض أن يسهل استعماله
في غرف العصيدة، وسيكون أفضل منها استعمال أنواع أخرى من المحار، إذا كانت
كبيرة نسبياً، وتلك هي المحارات التي كان أناس ما قبل التاريخ يستعملونها
في نواحي وهران لشرب الحساء. ثم إن المغارف مستدقة الرأس أكثر شيوعاً في
سائر أنحاء العالم من المغارف المستديرة. بيد أن المغارف التي اعتاد
الأهالي استعمالها في الجزائر هي المغارف المستديرة، وهم يستعملونها – إلا
من بعض الاستثناءات – في أكل الكسكس والعصيدة من غير تمييز، وأما قبائل
الحوز التي تستعمل المحارة فهي تحرص أكراماً للكسكس ألا تأكله إلا
بالأصابع. وقد أصاب مورتاي في ملاحظته التي قال فيها إن البلاد التي تغلب
في تغذية أهلها العجائن أو أنواع السميد الغليظ لا تستعمل المغارف. ولذلك
فأهل المشرق الذين تكاد تغذيتهم تقتصر على الأرز ليس لهم قِبَلٌ بالمغارف.
وكذلك ينطبق هذا الأمر إلى حد كبير على المسلمين الذين أكثر أكلهم الكسكس.
ومن غريب أن نرى دكالة قد شرعوا يصنعون المغارف حسب النموذج الأوربي
الصحيح؛ فهي مغارف مقرَّنة بمقبض شديد القصر، ثم تراهم لا يزالون مستمرين
على تسمية هذه الأدوات الجديدة «محارة»! وأما كلمة «مغرفة»، التي يراد بها
في العادة المعلقة في بقية منطقة شمال إفريقيا، فهي غير معروفة عندهم.
والمحارات عندهم نوعان؛ «محارة نتاعت البحر»، يريدون بها «مغرفة البحر»،
و»المحارة نتاعت الكرن»، وهي المغرفة التي يتخذونها من قرون الحيوان، وهذا
النوع الأخير من المغارف يعرض في الأسواق بخمسة قروش مغربية.
تزين دكالة
والنساء
الدكاليات على قدر كبير من الجمال، فهن يخضبن خدودهن بالخضاب الأحمر الذي
يباع في مراكش وفي الأسواق [الدكالية] في صحينات من الطين، ويسمى «العكر».
ويصبغن شفاههن بالسواك، ويجئن بشريط ذي لون أسود حيواني دقيق نسبياً، من
تحت الحاجبين، ويمر على الجبين كله وينزل بطول الصدغين ومن خلف الخدين
لينغلق عند الذقن.
الوشم
ويكثر
عندهن الوشم، وتوجد لديهن «معلمات» متخصصات يتنقلن في القبائل لهذا الغرض.
والنساء يضعن في العادة وشماً عمودياً على الجبين يتوسط الحاجبين، وخطاً
آخر عمودياً على الذقن، ويمتد إلى العنق، ويصير تتخلله بعض الرسوم على شيء
من التعقيد، ويستطيل إلى ما بين الثديين، ثم يمتد على البطن لينتهي عند
الصرة. وكثيرات منهن يحملن وشماً آخر على العانة. وكذلك يزين أذرعهن
وسواعدهن ومعاصمهن وأيديهن بأوشام أخرى على شيء ممن التعقيد، وكذلك يزين
بها سيقانهن حتى العراقيب. وأما الرجال فإنهم يقتصرون بالوشم عامة على
باطن الذراع اليمنى، ومن فوق الكتف ومن تحته. وإن من شأن الأوشام أن تدلنا
إلى حد كبير على أصل الشخص. ومن ذلك أن أهل الشاوية الذين يضعون من الأوشام
فوق ما يضع منها أهل دكالة، كثيراً ما يأتون على ظاهر الذراعين معاً
برسوم، وهي رسوم تبتدئ من الكتف وتستطيل إلى المعاصم وإلى الأيدي وتنتهي
عند منابت الأصابع، وقد تتجاوزها. والعبديون يضعون جميعاً وشماً على يده
الذي يقوم بين الإبهام والسبابة، على ظهر الكف. ومنهم من يجعلون أوشاماً
على ظاهر الكف كله. وأما الرحامنة فقليلو وشم، وأكثر أوشامهم تكون على ظهر
مفاصل الأصابع الأولى. وكثيراً ما نرى لديهم كذلك وشماً صغيراً على الجبين
وأسفل منبت الأنف، وهو شيء شائع عند الشاوية، ونجد عند هؤلاء من الرجال من
يشمون صدورهم، وربما كانت نساؤهم أكثر أوشاماً من الدكاليات، وكذلك تكثر
نساء عبدة من الوشم، وأما نشاء الشياظمة فالوشم عندهن قليل.
حلي دكالة
تستعمل
أقراط الأذن في العالم كله على صورة واحدة؛ وكذلك فالميسورات من نساء
دكالة يتحلين بالأقراط الطويلة المسماة «الدواح»، وأما الفقيرات منهن فإنهن
يضعن في آذانهن «أخراصاً»، وهي أقراط صغيرة. وأما الرجال فلا يضعون في
آذانهم شيئاً. ووحدهم الأثرياء يجعلون في آذان مواليدهم أقراطاً. والنساء
إذا أردن التزين وضعن في أعناقهن عقداً أو «مدجة» تتكون من القطع النقدية
من فئة نصف الدورو وربع الدورو الحسني، أو من النقود الإسبانية الفضية، ولا
ترى عليهن من الذهب أبداً، إلا أن يكن من نساء الأعيان. لكن يتزين في
المقابل بالكثير من المرجان. والدكاليات كثيرات إقبال على المرجان، ما يجعل
له الانتشار المفرط عندهن. فجميعهن يجتهدن في الحصول عليه؛ فإذا كان الزوج
ثرياً ادخرت المرأة على حسابه مبلغاً صغيراً لتقتني به الحلي من المرجان،
وأما إذا كان فقيراً ولم يهدها شيئاً من تلك الحلي فقد يحد للمرأة أن تضع
في عنقها شيئاً على هيأة المرجان يدل على قلة نبله. وتزين النساء جباههن
بحلية من النقود القديمة. وهنالك حلية واسعة الانتشار في المناطق الأخرى من
المغرب، لكن تبدو نادرة الاستعمال في دكالة، ونريد بها الكف الصغيرة من
الفضة، المسماة «خمساً» أو «خامسة». والنساء الدكاليات يضعن في أيديهن
«الدبليج»، وهو سوار غليظ من قطعة واحدة، قليل زخارف. وأما الأساور الأكبر
حجماً والكثيرة الزخرفة فهي ناذرة الاستعمال عندهن لغلائها. وأما وضع
الحلقات في الأرجل فهو شيء غير معروف في دكالة.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 15 -
أهل دكالة إذا أعوزتهم الخيول أقبلوا على الفروسية يلعبونها بالأرجل
لباس دكالة
يقتصر
لباس أهل دكالة في العادة على «الحايك» الصوفي، يلبسونه لوحده دون ثياب،
وقد يجعلونه أحياناً من فوق قميص، لكنهم قليلاً ما يفعلون. والحايك الصوفي
تقوم على حياكته النساء الدكاليات، وكذلك تُصنع منه الكثرة الكثيرة في
أزمور وفي الجديدة. والسفن التي تتردد على مرسى الجديدة قد دأبت على التزود
من هذه الألبسة في طرود وحزمات مخططة بالرمادي والأسود وتتوجه بها إلى
السنغال وإلى مصر. وقد سبق للحسن الوزان أن ذكر في حديثه عن مدينة من مدن
دكالة قد أطلنا في الحديث عنها، نقصد «المدينة»، أن «سكان هذه المدينة جهال
يرتدون بعض الملابس الصوفية المصنوعة في عين المكان. تتحلى نساؤهم بكثير
من حلي الفضة والعقيق الأحمر». فهذا الحديث نستفيد منه سمتين من أبرز
السمات التي تدلنا منذ الوهلة الأولى على أهل دكالة؛ أقصد لبس الرجال
للحايك والسحر والفتنة اللذين تتصف بهما نساؤهم. ولنعرض ههنا لبعض خصائص
الحايك، وهو لباس واسع الانتشار في منطقة شمال إفريقيا، ومن المفيد أن
نتناوله بالدراسة، لأنه بساطته تحمل على الاعتقاد أنه يعود بأصوله إلى
العصور القديمة الغابرة، ولأنه قد ظل إلى وقتنا الحالي اللباس الأكثر أناقة
عند المسلمين في بلدان المغرب. والحايك، حسبما نستفيد من حديث الحسن
الوزان، عبارة عن قطعة من الكتان في غاية البساطة، وهي قطعة مستطيلة
ومستطيلة وطويلة، لم يدخل فيها خيط ولا إبرة، يُلف بها الجسم ولا تشد من
حوله برباط أو حزام. وليس من الخطل أن يذهب المرء إلى الاعتقاد بأن مثل هذا
اللباس قد سبق وجوداً على اللباس المخيط. وعلى مل حال فإن لف الجسم في
قطعة ثوب مستيطلة شيء يعود إلى العصور الغابرة. فبعض التماثيل التي تعود
إلى أقدم العصور في بلاد المشرق تصور لنا البدو وهم يلبسون معطفاً مربعاً
يلفون به أجسامهم ويبزر طرفه الأخير من تحت الذراع اليمنى ويتدلى من فوق
الكتف اليسرى. وأما في الوقت الحالي فإن الحايك قد أصبح لباساً لسكان هم
بطبيعة الحال من الممعنين في البداوة أو من هم في غاية الفقر. ولذلك فالاسم
الشائع الذي يعرف به الحايك في المغرب، كما في سائر بلاد البربر، هو
«الكسا». وهي كلمة تدل على اللباس بامتياز.
أصول الحايك
وكذلك
تدل كلمة «الحايك» عامة على الثوب، ويؤخذ خاصة بالمعنى يهمنا في هذا
الصدد. وأن تكون الكلمة الدالة على هذا اللباس الخاص في الحالتين لفظاً
عاماً يؤخذ بمفهوم خاص أمر يدل في رأينا بوضوح على أن الحايك لباس كان
يستعمل في القديم بمفرده. والحقيقة أن خلطاً كبيراً لا يزال يسود مصطلحية
أسماء الألبسة من قبيل الحايك، والمقالات العلمية التي أفردها له دوزي لم
تكد تسهم بشيء في تجلية هذا الأمر. وينبغي التمييز في أنواع الحايك بين :
1) الحايك الرجالي، وهو لباس من الصوف يرتديه الرجال لوحده، أو يكون عندهم
هو اللباس الأساسي، وهو يُعرف باسم «الكسا» أكثر مما يعرف باسم «الحايك»،
و2) الحايك الفوقي الذي يتخذ من الحرير، ويجعله الحضريون من فوق كل الملابس
الأخرى، فهو يكون عندهم علامة على التأنق، وأكثر ما يعرف كذلك باسم
«الكسا»، و3) «الإزار»، وهو قطعة من القماش تكون كذلك مستطيلة من غير
خياطة، ويتخذ في العادة من الكتان أو من القطن، ويعتبر اللباس الذي تجتمع
عليه سائر نساء القبائل في شمال إفريقيا، وهو يعرف كذلك باسم «الملحفة»
و»تاملحفت»، خاصة عند كثير من القبائل الأمازيغية في الجزائر. غير أن كلمة
«الملحفة» قد كانت تستعمل، بل إنها لا تزال تستعمل إلى اليوم، في بعض
المناطق يراد بها الحايك الذي تخرج به النساء. والذي يبدو أن الإزار قد كان
عند العرب القدامى أولاً لباساً للرجال. ثم أن هذا الاسم، كمثل سائر
الأسماء الدالة على الألبسة غير المحيطة، يستعمل في معظم الأحيان لا يزيد
عن الدلالة على «القطعة من القماش». و4) الحايك الذي ترتديه النساء، خاصة
منهن المدينيات، لأجل الخروج، فيجعلنه فوق ملابسهن، وسنعود إليه بالحديث في
ما يقبل من هذا الكتاب. وهذا اللباس نفسه يغلب في تسميته «الإزار»، وهو
يتخذ من الصوف أو من الحرير أو من القطن. ومما يزيد هذا الأمر غموضاً أن
هذه الكلمات قد وقع فيها الخلط جميعاً، بحيث يكاد يكون من المتعذر معرفة
المترادفات بينها، وهي التي تتغاير حسب الأزمنة والأمكنة، بل وتتغاير حسب
المؤلفين. ويتجه اهتمامنا ههنا إلى الحايك الرجالي، أو «الكسا»، الذي يتخذ
لباساً وحيداً، كشأنه عند دكالة على سبيل التمثيل، أو يُجعل لباساً فوقياً،
كشأنه عند سكان المدن.
ا
لإحرام
تظهر
لنا التمثيلات القديمة التي أشرنا إليها من قبل أن بعض الأقوام التي عاشت
قديماً في منطقة المشرق، والتي يمكن أن نحملها على العرب يلبسون تارة وزرة
ولا يزيدون إليها شيئاً، وقد يجعلون من فوق هذه الوزرة رداء يمررونه من تحت
الذراع اليمنى التي يتركونها بالتالي شبه عارية، ثم يلقونه على الكتف
اليسرى. وأما في عصر محمد وحتى من قبله، فقد طرأ تغير على هذا اللباس،
فأصبح يُقتصر على معطف واحد يسمى تارة إزاراً وتارة أخرى «رداء»، وهذا كذلك
اسم شديد التعميم يُدل به على مطلق اللباس. ويفيدنا بارتن أن بعض القبائل
من ساكنة المنطقة الغربية من البحر الأحمر قد استمرت على ارتداء اللباس
البدائي. فيكون الجمع بين الوزرة والمعطف في قطعة واحدة يشكل تطوراً في هذا
الباب، وربما لم يتسن للناس أن يحيكوا قطعاً من الثوب تكون طويلة كفاية.
وعلى كل حال فإن الإزار المتكون من قطعة واحدة قد كان أكثر إراحة من الوزرة
الصغيرة ومن المعطف الصغير المعروضين في قاعات العرش من قصر بيرزيبوليس.
وأغلب الظن أن يكون استعمال هذا اللباس قد اقتصر على عهد الرسول، لأننا
نراه في أحاديث كثيرة يدخل الثياب الأخرى، وخاصة منها الثياب المخيطة كما
يُدخل الثياب الأخرى التي كانت ملونة ببعض الألوان، في المبتدعات، وأنه كان
يحظر على الحجاج في مكة ارتداءها. فما أن يصير الحاج على مسافة قريبة من
مكة حتى يتعين عليه أن يرتدي لباس الإحرام، الذي لا يعدو على وجه التحديد
أن يكون اللباس القديم الذي جئنا بوصفه والمتألف من الوزرة والمعطف. فسميت
الوزرة حينئذ إزاراً والمعطف «رداء». ونحن نرى في هذا المجال، كما في غيره
من المجالات الأخرى، كيف أن مجموعة من الأعراف والعادات القديمة التي لم
يعد لها استعمال في غير الاحتفالات الدينية قد صارت تُفرغ عليها مجموعة من
الأشكال الدينية. وكذلك هو الشأن عندنا؛ فالثياب التي يلبسها القس
الكاثوليكي والحلة التي يتزين بها تعتبر من مخلفات اللباس الذي عرفه الناس
في العصور القديمة. وأغلب الظن أن يكون هذا اللباس قد عرفاه كذلك أقوام
أخرى من غير العرب أيضاً. فأهل حاحا قد كانوا إلى زمن الحسن الوزان لا
يزالون يلبسونه. فقد كتب أن لباس معظم هؤلاء الناس قطعة من الصوف يسمونها
«كساء»، يشبه القماش الذي يُتخذ أغطية للفرش في إيطاليا، فهم يلفون به
أجسامهم جيداً، ويأتزرون بنوع من الأشرطة الصوفية فهم يغطون بها الأجزاء
الخاصة من أجسامهم. فالذي يبد م هذا الذي ذكرنا أن اللباس الوحيد إنما ظهر
في وقت لاحق، مثلما أن اللباس المخيط قد جاء من بعد اللباس غير المخيط. وقد
استمر الرجال في المغرب على ارتداء اللباس غير المخيط، على هيأة كساء أو
حايك.
لبس الحايك
وأما
طريقة المغاربة من الحضريين لبس الحايك، فتكون عامة بأن يجعل الرجل إحدى
قرنات هذه القطعة من الثوب على كتفه اليسرى ويقبض بطرفه باليد اليسرى،
ويلقي ببقية الحايك وراء ظهره، ويسنده مؤقتاً بكتفه اليمنى، فيما يتدلى
طرفه على الأرض (الصورة 56، الوضعة رقم 1). ثم يرفعه فوق هذه الكتف ويمرره
من تحت الذراع اليمنى، ويرفعه ناحية اليسار، ويرفعه مؤقتاً بيديه فوق رأسه
(الوضعة رقم 2). وفي تلك اللحظة يصوبه فوق رأسه، ويرخي القماش بحيث يغطي
الذراع اليسرى كلها، وتكون الذراع اليمنى متدلية بطبيعة الحال، بحيث تتيح
للحايك أن يتدلى على الجانب الأيمن (الوضعة رقم 3). ثم يخفض ذراعه اليسرى
وهو يشد الحايك، بحيث يثبته من هذا الجانب (الوضعة رقم 4). وحينذاك لا يبقى
له إلا أن يرسل بيده اليمنى من فوق كتفه اليسرى الحايك الذي يتدلى على
الجانب الأيمن (الوضعة رقم 5). وعندئذ يكتمل التحليف؛ فالحايك يُلف على
الجسم مرتين، ويمرر فوق الرأس، وما تبقى منه تنسدل على الظهر إلى أن يلامس
الأرض (رقم 7). فإذا نظرت إلى هذا اللباس من قبُل رأيته لا يغطي غير مثلث
في وسط الجسم (الوضعة رقم 6)، لكن إذا رفع الحايك إلى أعلى في لفته الأولى
لم يترك شيئاً من الجسم كشيفاً. بل يمكن تدبر الحايك بحيث يُجعل هذا القسم
منه الذي يُلف اللفة الأولى من حول القسم العلوي من الجسم على هيأة جيب
يتدلى جزء منه، ويكشف عن الذراع اليسرى (الصورة 57). وأما إذا رغب المغربي
في أن يترك يديه طليقتين، فإنه يبدأ بارتداء الحايك على الصورة التي بينا،
لكن بدلاً من أن يمرره من فوق رأسه تراه يمرره من تحت عنقه ثم من تحت ذراعه
اليمنى، ويلقي بما تبقى من فوق كتفه اليسرى (الصورة 56، الوضعة رقم 9).
ويمكنه كذلك ألا يلقي ببقية الحايك من فوق كتفه اليسرى وأن يلقي بها من فوق
كتفه اليمنى (الوضعة رقم 8)، وهذه الكيفية في ارتداء الحايك تراها خاصة
عند الشبان المتأنقين، وعند العشاق، وتراها في المحصل عند أولاد الأعيان.
غير أن الحايك الذي يلبس على هذا الوجه لا يثبت جيداً على الجسم، ومع أن
يدي لابسه تكونان طليقتين اثنتاهما، فإن الذي يلبس الحايك على هذه الصورة
لا يكون بوسعه أن يقوم بأي عمل يتطلبه المجهود الكبير.
وما أكثر
المسلمين في شمال إفريقيا، خاصة من الجزائريين، من يجعلون حايكاً رقيقاً
تحت ملابسهم، وهم يديرون في العادة من حول القطعة من هذا الحايك التي تغطي
الرأس خيطاً من الوبر يلفونها حول رؤوسهم عد لفات. والحايك هو أيضاً لباس
يشيع لبسه فوق الثياب. وسأصف ههنا كيفية ارتداء التلمسانيين للحايك.
فالصورة 58 تبين تلمسانياً يرتدي حايكاً من فوق ثيابه، وقد لفه حول جسده
على صورة أشبه بالحايك الفوقي عند المغاربة، ونرى جوانبه كيف تتدلى على
الوجه. والتلمساني يرتدي فوق الحايك التحتي ثيابه المعتادة، ثم تراه إذا
أزمع الخروج إلى المدينة يزيد إليها حايكاً فوقياً. وهو يجعل يلبس هذا
الحايك على نحو ما رأينا قبل قليل عند الرجل المغربي؛ فهو يجعل جانباً منه
يتدلى فوق كتفه اليسرى، ثم يجعل في هذا الطرف عقدة يشد إليها منديلاً
مطوياً من طرفيه، وكثيراً ما يعلق في هذا المنديل المطوي على هذه الصورة
خنجراً أو أي شيء آخر يكون له بمثابة الموازن. وكثيراً ما يقتصر كذلك على
ذلك المنديل وحده كما يظهر في الصورة. لكنه يكون في العادة منديلاً كبيراً
(الوضعة رقم 1). ثم يرتدي التلمساني الحايك كما نحو ما يفعل المغربي. نراه
في رقم 2 في الوضعة نفسها التي يكون رأينا عليها المغربي في الوضعة رقم 4
من الصورة 56. لكن في ذلك الحين بدلاً من أن يلقي التلمساني ببقية ذلك
الطرف من فوق الكتف اليسرى تراه لا يلقي خلف هذه الكتف غير نصف ذلك الطرف،
أي بمقدار ما يتدلى من الطرف السفلي. ويحتفظ في يده بالطرف الموافق للطرف
الفوقي (الوضعة رقم 3)، ويلقيه من فوق رأسه من اليسار إلى اليمين، بحيث
يتدلى طرف ذلك القسم على الكتف الأيمن. ثم ينزل ذراعه اليسرى فتتدلى اللفة
الأخيرة من الحايك بكاملها على الصدر المشمر (رقم 4). وهكذا فطريقة اللباس
التلمسانية، وهي أقل أناقة من طريقة اللباس المغربية، فالقسم الأعلى من
الجسد يغطى بشدة وبصورة كاملة من قبُل، والرأس يغطى بالحايك مرتين. وإذا
أراد التلمساني إطلاق يديه تناول الطرف من الحايك التي نراه في الوضعية
(رقم 4) متدلياً في مقدم أعلى الجسم فثناها في يديه ثم رفعها ومرَّرها من
فوق رأسه بحيث تتدلى خلف رقبته. ثم يزيد من طلاقة حركاته بأن يرفع إلى
مستوى صدره قطعة الحايك التي بقيت متدلية قدامه، متشكلة أشبه بوشاح (الصورة
50)، وهكذا يكن قد تحرر أعضاءه الأربعة.
الحايك عند دكالة
ولنرجع
إلى لباس دكالة. وهو لباس لا يزيد عن حايك من الصوف يرتدونه على نحو ما
يرتدي الحضريون الحايك الحريري الخفيف. والصورة 60 في الوضعة رقم 1 تظهر
دكالياً يرتدي الحايك على هذه الصورة، إلا أنه لا يمد الحايك إلى مقدم
جبينه وإنما يقصره خلف رأسه. وإذا أراد الدكالي أن يكون مرتاحاً في لباسه
لم يجعل اللفة الأخيرة من الحايك على كتفه اليمنى وإنما يلقيه على الكتف
اليسرى، ثم إنه يمرره من تحت الكتف اليمنى ويلقيه، كما رأينا سابقاً، على
الكتف اليسرى، بحيث تلبث ذراعه اليمنى عارية، على نحو ما يفعلون في
الإحرام (الوضعة رقم 2). والدكاليون يغدون ويروحون ويعملون وهم في راحة
تامة في هذا اللباس الذي لا يشده إلى أجسامهم شيء.
لكن هنالك بعض
الأشغال، مثل نكش الحقول بالمعول، فهي أشغال لم يأمنوا إذا قاموا بها أن
ينحل عنهم لباسهم ويسقط، ولذلك فإذا أزمعوا القيام ببعض الأشغال التي تتطلب
منهم المجهود الكبير عمدوا إلى تثبيت ذلك اللباس على أجسامهم على الصورة
التالية : فالرجل إذا لبس الحايك على الصورة التي بيَّنا (الوضعة رقم 2)،
جذب بيده اليسرى الطرف الأول، ذلك الطرف الذي تركه حين شروعه في لف جسمه
بهذا اللباس متدلياً قدامه من فوق كتفه اليسرى (انظر الوضعة رقم 1 في
الصورتين 56 و58)، ثم يعقده تحت عنقه بعقدتين إلى الطرف الآخر من الحايك
الذي يتدلى خلف ظهره والذي يرده بذلك إلى الأمام حول عنقه من فوق كتفه
الأيمن. وبذا يتأتى له أن يثبت الحايك بطريقة جيدة (الصورة 60، الوضعة رقم
3)، ويصير بمقدوره أن ينكب على العمل بكل اطمئنان. ويبقى الرأس في تلك
الأثناء عارياً معرضاً لأشعة الشمس، كما في الإحرام، ولن تسمع دكالة يشتكون
من هذا الأمر كما يشتكي معظم الحجاج قلة الراحة في هذا اللباس المقدس.
وقلما تجد منهم الدكاليين من يلف رأسه برزة صغيرة، ثم إن هذه الزينة لا
تنفعهم شيئاً في اتقاء الحرارة.
الحايك والباليوم والتوجة
والحايك
على شبه كبير بالباليوم، كما يسمى عند اليونان. وكلمة «الباليوم» يُراد
بها بوجه عام، كما هي الكلمات «حايك» و»ملحفة» و»إزار» و»رداء» في العربية
كل قطعة من ثوب كبيرة ومستطيلة؛ سواء أكانت غطاء أو نقاباً يتنقب به
العروسان أو ثوباً للحمام أو ستارة... ويُراد بالحايك في المعنى الضيق تلك
القطعة من القماش التي تتخذ لباساً. فهم يجعلون ذلك القماش على الرقبة
ويتركون معظمه على الجانب الأيمن، ويمررونها من تحت الذراع اليمنى، على نحو
ما يفعلون في الإحرام، وكما يظهر في الصورة 56 الوضعة 9، وفي الصورة 60
الوضعة 2، ثم يرخونه على الكتف الأيسر. وأما التوجة الرومانية فهي أكثر
تعقيداً. فـ»التوجا فوسا»، التي شاع ارتداؤها في زمن الإمبراطورية لم تكن
مستطيلة، بل نصف دائرية، وقد كانت تُلبس مبدئياً كما يُلبس الباليوم، إلا
أن طرفها الأول، الذي يُجعل على الجانب الأيسر، كان يتدلى حتى الأرجل، وأن
طرفها الآخر، الذي يجعل تحت الذراع الأيمن ويمرر على مقدم الجسم، قد كان
يطوى إلى قسمين بالطول على هيأة جيب مزدوج، ثم تلقى بقية الثوب من على
الكتف ويتدلى إلى العقبين. وتشترك التوجة والباليوم والرداء والإحرام في
أنها كلها لا تزيد عن قطع من الثوب تمرر من تحت الذراع اليمنى وتغطي الذراع
اليسرى، وأما الحايك فهو يغطي الذراعين، إلا من بعض الاستثناءات التي
ذكرنا، عدا أنه يُلف حول الجسم لفتين، فيكون بذلك يشكل توليفاً بين قطعتي
الإحرام، الذي لا يبعد أن يكون هو أصله المباشر.
ولقد بقي الحايك هو
اللباس الأكثر أناقة عند المسلمين؛ فهو لذلك يتعارض مع «الجلابة» الرهيبة
التي سنعود إليها بالحديث في موضع آخر من كتابنا، فهي لباس فاقد لأي طعم
خاص. ثم إنك لا ترى في المدينة شخصاً متأنقاً لا يلبس الحايك. فهو لا يقتصر
على أن يكون علامة مميزة لعلية القوم من جميع الأصناف، وإنما هو إلى ذلك
لباس خاص بالعلماء والأتقياء المتصفين في حياتهم بالذوق الرفيع. ولا يعدم
فائدة أن نذكر في هذا الصدد بأن الباليوم الذي كان يعتبر في زمن
الإمبراطورية لباس الحكماء قد كان يقوم علامة على الحياة العلمية
والمستقيمة، ولذلك وجدنا تارتوليين يتخلى فجأة عن التوجة ويرتدي هذا اللباس
الشبيه بالمعطف، وليجعل منه، بوجه من الوجوه، لباس النساك المسيحيين. ولقد
أثار هذا التغيير ضجة كبرى في في قرطاج، بحيث رأى تيرتوليان من الواجب أن
ينشئ في هذا الصدد كتابه «الباليوم»، الذي لم يعد أن يكون، في حقيقة
الأمر، وكما يرى العلماء المقتدرون، دفاعاً عن التقاليد وعند الزهد. أفليس
من قبيل الطرافة أن نرى في هذا الصدد إلى هذا الشكل القديم من اللباس يُتخذ
رمزاً للتشدد والورع، على نحو ما يقع في الإسلام؟ ثم ألست ترى تشابهاً بين
الطابع الخاص الذي يفرغه الحايك على العالم وعلى المتشدد الفاسي المتبختر
بهذا اللباس الأنيق في بساطته في أزقة العاصمة المغربية؟
الحفلات العائلية
سوف
لا نطيل الحديث في الحفلات العائلية عند دكالة ولا في الأفراح والمتع التي
يصيبونها خارج البيوت، لأننا نبغي أن نفصل الحديث في هذه الأمور عند
تناولنا للقبائل الأخرى التي سنلاقيها في رحلتنا في مملكة مراكش. لكننا
سنتوقف عند رياضة تكاد أن تكون هي الخاصية المميزة التي يُعرف بها دكالة
بين المغاربة؛ تلك هي البيزرة [أو الصيد بالبيزان].
فأما الختان فإنه
يقع عندهم عادة في اليوم السابع أو الثامن من الولادة، وهذا هو الشائع
عندهم، لكن منهم من يؤخره كثيراً، ولذلك فإن بعض الأولاد قد يبلغون سن
الثانية عشرة أو الثالثة عشرة ولما يختنوا بعد. والفتيات يذهبن وهن صغيرات،
على غرار الأولاد، لرعي الماشية، ومتى بلغن انقطعن عن هذا الأمر.
الزواج
وأما
الزواج فلا يُذهب فيه عند القاضي (وهو الذي لا تجده في غير مدينة الجديد)،
وإنما يُكتفى فيه بالشهود، ولا يحرَّر به عقد، بل يُكتفى بقراءة الفاتحة،
وعلى الصورة نفسها يتم الطلاق. وقد جرت العادة على أن تُحمل العروس إلى بيت
زوجها فوق جمل، وقد جعلت تحتها زربية، لأن «العطوش» أو الهودج الذي يحمل
فوق ظهر البعير شيء غير معروف في هذا البلد. وإذا جاء أقارب العريس ليأخذوا
العروس أطلقوا عند باب بيتها بضع طلقات نارية، بحيث يكون ذلك المشهد كأنه
عملية اختطاف. ولا ترى الأعراس يقيمها إلا الميسورون من الناس، وأما السواد
الأعظم فلا حظ لهم فيها، وإنما هم يكتفون بأعداد كسكس أو «طعام» لجميع
أفراد الدوار، ويذبحون خروفاً واحداً على الأقل. وإذا قاموا بحفل صغير فلا
يزيدون به في معظم الأحيان عن يوم واحد، وفي اليوم السابع يقفون عليه بحفل
ثان. وفي تلك الأيام المتخللة للحفلين يلبث العروسان داخل الخيمة، ولا يمكن
لأي شيء أن يجبر الزوج على الخروج. والعادية جارية في معظم مناطق شمال
إفريقيا على أنه يذاف بعد الزفاف بقميص العروس المدمى في أنحاء الدوار. غير
أن الانحلال الذي يطبع المجتمع الدكالي لا يكون معه ذلك الدم على القميص
دليلاً كافياً على عذرية العروس، فقد يجرح العريس في فخذها وبذلك الدم
يصطبغ قميصاً للعذرية. والعادة جارية في الجزائر كما في تونس على أن المدعو
إلى العرس يأتي بهدية نقدية، وهي إمما تكون سلفة للعريس ويلزمه أن يردها
عندما يُدعى في وقت لاحق إلى عرس تقيمه أسرة الرجل الذي هو اليوم ضيفه.
وتعرف هذه السلفة عامة في الجزائر باسم «الطاوسة» أو «الكنبوش»، وأما عند
دكالة فهي تسمى «غرامة»، وهو الاسم الذي تعرف به كذلك في تلمسان. – وكذلك
لا تجد في المراسيم التي ترافق الدفن عند دكالة اختلافاً كبيراً عن
مثيلاتها في البلدان الأخرى، فهي على شبه بالمراسيم التي سيقيض لنا أن نعود
إليها بالحديث في موضع آخر من هذا الكتاب؛ فلا تبدو شعائر الموت لديهم على
قدر كبير من التطور.
الرقص والفروسية
يكثر
الرقص في الحفلات والأعراس كما يكثر في «المواسم» (وهي الاحتفالات التي
تقام لولي الدوار من الدواوير أو القبيلة من القبائل). فالنساء يرقصن
مختلطات بالرجال في غير قليل من النظام، وأحياناً يرقص الرجل والمرأة
متقابلين، رجل مع امرأة في الرقص، ويتنافسان أيهما يرقص أطول مدة. وكثيراً
ما ترى الرجال والنساء يرقصون في صفين متقابلين، وقد يكون أفراد كل صف بين
ثلاثين وأربعين راقصاً وراقصة. وهم يرقصون على إيقاع الطعريجة، يضربون
عليها ضرباً موزوناً. فإذا أعوزتهم الطعريجة في اتخذوا القوارير التي يسقون
بها الماء، أو الآنية الكبيرة التي يتناولون فيها الكسكس [كذا، وهي
الجفنات!]، فهم يضربون عليها بأحذيتهم. فلا قبل لهم بـ»الغبطة» ولا «الدف»
ولا «الطر». ويكثر عند دكالة المغنون المحترفون، وتكثر عندهم خاصة
المغنيات، كما سبق لنا أن ذكرنا بشأن سوق سيدي بنور الذي يأتيه هؤلاء
الفنانون ليعرضوا فيه خدماتهم. ويكاد دوار أولاد حمادي، في أولاد مسلم،
يكون سكانه جميعهم من المغنين وأسرهم. وإذا كان من غير الممكن أن يقام
الحفل من غير غناء ولا رقص، فكذلك لا تقوم للحفل قائمة بدون الفروسية. و
الفروسية التي يسميها العرب «لعبة البارود» أو «لعبة الخيل»، تعتبر من أكبر
المتع عندهم. وأهل دكالة إذا أعوزتهم الخيول، وكثيراً ما تعوزهم الخيول،
أقبلوا على الفروسية يلعبونها بالأرجل؛ ورأيتهم يلوحون ببنادقهم ويقلبونها
في الهواء على شتى الأوجه، ثم يطلقونها وقد وجهوا فوهاتها إلى الأرض.
أهل دكالة إذا أعوزتهم الخيول أقبلوا على الفروسية يلعبونها بالأرجل
لباس دكالة
يقتصر
لباس أهل دكالة في العادة على «الحايك» الصوفي، يلبسونه لوحده دون ثياب،
وقد يجعلونه أحياناً من فوق قميص، لكنهم قليلاً ما يفعلون. والحايك الصوفي
تقوم على حياكته النساء الدكاليات، وكذلك تُصنع منه الكثرة الكثيرة في
أزمور وفي الجديدة. والسفن التي تتردد على مرسى الجديدة قد دأبت على التزود
من هذه الألبسة في طرود وحزمات مخططة بالرمادي والأسود وتتوجه بها إلى
السنغال وإلى مصر. وقد سبق للحسن الوزان أن ذكر في حديثه عن مدينة من مدن
دكالة قد أطلنا في الحديث عنها، نقصد «المدينة»، أن «سكان هذه المدينة جهال
يرتدون بعض الملابس الصوفية المصنوعة في عين المكان. تتحلى نساؤهم بكثير
من حلي الفضة والعقيق الأحمر». فهذا الحديث نستفيد منه سمتين من أبرز
السمات التي تدلنا منذ الوهلة الأولى على أهل دكالة؛ أقصد لبس الرجال
للحايك والسحر والفتنة اللذين تتصف بهما نساؤهم. ولنعرض ههنا لبعض خصائص
الحايك، وهو لباس واسع الانتشار في منطقة شمال إفريقيا، ومن المفيد أن
نتناوله بالدراسة، لأنه بساطته تحمل على الاعتقاد أنه يعود بأصوله إلى
العصور القديمة الغابرة، ولأنه قد ظل إلى وقتنا الحالي اللباس الأكثر أناقة
عند المسلمين في بلدان المغرب. والحايك، حسبما نستفيد من حديث الحسن
الوزان، عبارة عن قطعة من الكتان في غاية البساطة، وهي قطعة مستطيلة
ومستطيلة وطويلة، لم يدخل فيها خيط ولا إبرة، يُلف بها الجسم ولا تشد من
حوله برباط أو حزام. وليس من الخطل أن يذهب المرء إلى الاعتقاد بأن مثل هذا
اللباس قد سبق وجوداً على اللباس المخيط. وعلى مل حال فإن لف الجسم في
قطعة ثوب مستيطلة شيء يعود إلى العصور الغابرة. فبعض التماثيل التي تعود
إلى أقدم العصور في بلاد المشرق تصور لنا البدو وهم يلبسون معطفاً مربعاً
يلفون به أجسامهم ويبزر طرفه الأخير من تحت الذراع اليمنى ويتدلى من فوق
الكتف اليسرى. وأما في الوقت الحالي فإن الحايك قد أصبح لباساً لسكان هم
بطبيعة الحال من الممعنين في البداوة أو من هم في غاية الفقر. ولذلك فالاسم
الشائع الذي يعرف به الحايك في المغرب، كما في سائر بلاد البربر، هو
«الكسا». وهي كلمة تدل على اللباس بامتياز.
أصول الحايك
وكذلك
تدل كلمة «الحايك» عامة على الثوب، ويؤخذ خاصة بالمعنى يهمنا في هذا
الصدد. وأن تكون الكلمة الدالة على هذا اللباس الخاص في الحالتين لفظاً
عاماً يؤخذ بمفهوم خاص أمر يدل في رأينا بوضوح على أن الحايك لباس كان
يستعمل في القديم بمفرده. والحقيقة أن خلطاً كبيراً لا يزال يسود مصطلحية
أسماء الألبسة من قبيل الحايك، والمقالات العلمية التي أفردها له دوزي لم
تكد تسهم بشيء في تجلية هذا الأمر. وينبغي التمييز في أنواع الحايك بين :
1) الحايك الرجالي، وهو لباس من الصوف يرتديه الرجال لوحده، أو يكون عندهم
هو اللباس الأساسي، وهو يُعرف باسم «الكسا» أكثر مما يعرف باسم «الحايك»،
و2) الحايك الفوقي الذي يتخذ من الحرير، ويجعله الحضريون من فوق كل الملابس
الأخرى، فهو يكون عندهم علامة على التأنق، وأكثر ما يعرف كذلك باسم
«الكسا»، و3) «الإزار»، وهو قطعة من القماش تكون كذلك مستطيلة من غير
خياطة، ويتخذ في العادة من الكتان أو من القطن، ويعتبر اللباس الذي تجتمع
عليه سائر نساء القبائل في شمال إفريقيا، وهو يعرف كذلك باسم «الملحفة»
و»تاملحفت»، خاصة عند كثير من القبائل الأمازيغية في الجزائر. غير أن كلمة
«الملحفة» قد كانت تستعمل، بل إنها لا تزال تستعمل إلى اليوم، في بعض
المناطق يراد بها الحايك الذي تخرج به النساء. والذي يبدو أن الإزار قد كان
عند العرب القدامى أولاً لباساً للرجال. ثم أن هذا الاسم، كمثل سائر
الأسماء الدالة على الألبسة غير المحيطة، يستعمل في معظم الأحيان لا يزيد
عن الدلالة على «القطعة من القماش». و4) الحايك الذي ترتديه النساء، خاصة
منهن المدينيات، لأجل الخروج، فيجعلنه فوق ملابسهن، وسنعود إليه بالحديث في
ما يقبل من هذا الكتاب. وهذا اللباس نفسه يغلب في تسميته «الإزار»، وهو
يتخذ من الصوف أو من الحرير أو من القطن. ومما يزيد هذا الأمر غموضاً أن
هذه الكلمات قد وقع فيها الخلط جميعاً، بحيث يكاد يكون من المتعذر معرفة
المترادفات بينها، وهي التي تتغاير حسب الأزمنة والأمكنة، بل وتتغاير حسب
المؤلفين. ويتجه اهتمامنا ههنا إلى الحايك الرجالي، أو «الكسا»، الذي يتخذ
لباساً وحيداً، كشأنه عند دكالة على سبيل التمثيل، أو يُجعل لباساً فوقياً،
كشأنه عند سكان المدن.
ا
لإحرام
تظهر
لنا التمثيلات القديمة التي أشرنا إليها من قبل أن بعض الأقوام التي عاشت
قديماً في منطقة المشرق، والتي يمكن أن نحملها على العرب يلبسون تارة وزرة
ولا يزيدون إليها شيئاً، وقد يجعلون من فوق هذه الوزرة رداء يمررونه من تحت
الذراع اليمنى التي يتركونها بالتالي شبه عارية، ثم يلقونه على الكتف
اليسرى. وأما في عصر محمد وحتى من قبله، فقد طرأ تغير على هذا اللباس،
فأصبح يُقتصر على معطف واحد يسمى تارة إزاراً وتارة أخرى «رداء»، وهذا كذلك
اسم شديد التعميم يُدل به على مطلق اللباس. ويفيدنا بارتن أن بعض القبائل
من ساكنة المنطقة الغربية من البحر الأحمر قد استمرت على ارتداء اللباس
البدائي. فيكون الجمع بين الوزرة والمعطف في قطعة واحدة يشكل تطوراً في هذا
الباب، وربما لم يتسن للناس أن يحيكوا قطعاً من الثوب تكون طويلة كفاية.
وعلى كل حال فإن الإزار المتكون من قطعة واحدة قد كان أكثر إراحة من الوزرة
الصغيرة ومن المعطف الصغير المعروضين في قاعات العرش من قصر بيرزيبوليس.
وأغلب الظن أن يكون استعمال هذا اللباس قد اقتصر على عهد الرسول، لأننا
نراه في أحاديث كثيرة يدخل الثياب الأخرى، وخاصة منها الثياب المخيطة كما
يُدخل الثياب الأخرى التي كانت ملونة ببعض الألوان، في المبتدعات، وأنه كان
يحظر على الحجاج في مكة ارتداءها. فما أن يصير الحاج على مسافة قريبة من
مكة حتى يتعين عليه أن يرتدي لباس الإحرام، الذي لا يعدو على وجه التحديد
أن يكون اللباس القديم الذي جئنا بوصفه والمتألف من الوزرة والمعطف. فسميت
الوزرة حينئذ إزاراً والمعطف «رداء». ونحن نرى في هذا المجال، كما في غيره
من المجالات الأخرى، كيف أن مجموعة من الأعراف والعادات القديمة التي لم
يعد لها استعمال في غير الاحتفالات الدينية قد صارت تُفرغ عليها مجموعة من
الأشكال الدينية. وكذلك هو الشأن عندنا؛ فالثياب التي يلبسها القس
الكاثوليكي والحلة التي يتزين بها تعتبر من مخلفات اللباس الذي عرفه الناس
في العصور القديمة. وأغلب الظن أن يكون هذا اللباس قد عرفاه كذلك أقوام
أخرى من غير العرب أيضاً. فأهل حاحا قد كانوا إلى زمن الحسن الوزان لا
يزالون يلبسونه. فقد كتب أن لباس معظم هؤلاء الناس قطعة من الصوف يسمونها
«كساء»، يشبه القماش الذي يُتخذ أغطية للفرش في إيطاليا، فهم يلفون به
أجسامهم جيداً، ويأتزرون بنوع من الأشرطة الصوفية فهم يغطون بها الأجزاء
الخاصة من أجسامهم. فالذي يبد م هذا الذي ذكرنا أن اللباس الوحيد إنما ظهر
في وقت لاحق، مثلما أن اللباس المخيط قد جاء من بعد اللباس غير المخيط. وقد
استمر الرجال في المغرب على ارتداء اللباس غير المخيط، على هيأة كساء أو
حايك.
لبس الحايك
وأما
طريقة المغاربة من الحضريين لبس الحايك، فتكون عامة بأن يجعل الرجل إحدى
قرنات هذه القطعة من الثوب على كتفه اليسرى ويقبض بطرفه باليد اليسرى،
ويلقي ببقية الحايك وراء ظهره، ويسنده مؤقتاً بكتفه اليمنى، فيما يتدلى
طرفه على الأرض (الصورة 56، الوضعة رقم 1). ثم يرفعه فوق هذه الكتف ويمرره
من تحت الذراع اليمنى، ويرفعه ناحية اليسار، ويرفعه مؤقتاً بيديه فوق رأسه
(الوضعة رقم 2). وفي تلك اللحظة يصوبه فوق رأسه، ويرخي القماش بحيث يغطي
الذراع اليسرى كلها، وتكون الذراع اليمنى متدلية بطبيعة الحال، بحيث تتيح
للحايك أن يتدلى على الجانب الأيمن (الوضعة رقم 3). ثم يخفض ذراعه اليسرى
وهو يشد الحايك، بحيث يثبته من هذا الجانب (الوضعة رقم 4). وحينذاك لا يبقى
له إلا أن يرسل بيده اليمنى من فوق كتفه اليسرى الحايك الذي يتدلى على
الجانب الأيمن (الوضعة رقم 5). وعندئذ يكتمل التحليف؛ فالحايك يُلف على
الجسم مرتين، ويمرر فوق الرأس، وما تبقى منه تنسدل على الظهر إلى أن يلامس
الأرض (رقم 7). فإذا نظرت إلى هذا اللباس من قبُل رأيته لا يغطي غير مثلث
في وسط الجسم (الوضعة رقم 6)، لكن إذا رفع الحايك إلى أعلى في لفته الأولى
لم يترك شيئاً من الجسم كشيفاً. بل يمكن تدبر الحايك بحيث يُجعل هذا القسم
منه الذي يُلف اللفة الأولى من حول القسم العلوي من الجسم على هيأة جيب
يتدلى جزء منه، ويكشف عن الذراع اليسرى (الصورة 57). وأما إذا رغب المغربي
في أن يترك يديه طليقتين، فإنه يبدأ بارتداء الحايك على الصورة التي بينا،
لكن بدلاً من أن يمرره من فوق رأسه تراه يمرره من تحت عنقه ثم من تحت ذراعه
اليمنى، ويلقي بما تبقى من فوق كتفه اليسرى (الصورة 56، الوضعة رقم 9).
ويمكنه كذلك ألا يلقي ببقية الحايك من فوق كتفه اليسرى وأن يلقي بها من فوق
كتفه اليمنى (الوضعة رقم 8)، وهذه الكيفية في ارتداء الحايك تراها خاصة
عند الشبان المتأنقين، وعند العشاق، وتراها في المحصل عند أولاد الأعيان.
غير أن الحايك الذي يلبس على هذا الوجه لا يثبت جيداً على الجسم، ومع أن
يدي لابسه تكونان طليقتين اثنتاهما، فإن الذي يلبس الحايك على هذه الصورة
لا يكون بوسعه أن يقوم بأي عمل يتطلبه المجهود الكبير.
وما أكثر
المسلمين في شمال إفريقيا، خاصة من الجزائريين، من يجعلون حايكاً رقيقاً
تحت ملابسهم، وهم يديرون في العادة من حول القطعة من هذا الحايك التي تغطي
الرأس خيطاً من الوبر يلفونها حول رؤوسهم عد لفات. والحايك هو أيضاً لباس
يشيع لبسه فوق الثياب. وسأصف ههنا كيفية ارتداء التلمسانيين للحايك.
فالصورة 58 تبين تلمسانياً يرتدي حايكاً من فوق ثيابه، وقد لفه حول جسده
على صورة أشبه بالحايك الفوقي عند المغاربة، ونرى جوانبه كيف تتدلى على
الوجه. والتلمساني يرتدي فوق الحايك التحتي ثيابه المعتادة، ثم تراه إذا
أزمع الخروج إلى المدينة يزيد إليها حايكاً فوقياً. وهو يجعل يلبس هذا
الحايك على نحو ما رأينا قبل قليل عند الرجل المغربي؛ فهو يجعل جانباً منه
يتدلى فوق كتفه اليسرى، ثم يجعل في هذا الطرف عقدة يشد إليها منديلاً
مطوياً من طرفيه، وكثيراً ما يعلق في هذا المنديل المطوي على هذه الصورة
خنجراً أو أي شيء آخر يكون له بمثابة الموازن. وكثيراً ما يقتصر كذلك على
ذلك المنديل وحده كما يظهر في الصورة. لكنه يكون في العادة منديلاً كبيراً
(الوضعة رقم 1). ثم يرتدي التلمساني الحايك كما نحو ما يفعل المغربي. نراه
في رقم 2 في الوضعة نفسها التي يكون رأينا عليها المغربي في الوضعة رقم 4
من الصورة 56. لكن في ذلك الحين بدلاً من أن يلقي التلمساني ببقية ذلك
الطرف من فوق الكتف اليسرى تراه لا يلقي خلف هذه الكتف غير نصف ذلك الطرف،
أي بمقدار ما يتدلى من الطرف السفلي. ويحتفظ في يده بالطرف الموافق للطرف
الفوقي (الوضعة رقم 3)، ويلقيه من فوق رأسه من اليسار إلى اليمين، بحيث
يتدلى طرف ذلك القسم على الكتف الأيمن. ثم ينزل ذراعه اليسرى فتتدلى اللفة
الأخيرة من الحايك بكاملها على الصدر المشمر (رقم 4). وهكذا فطريقة اللباس
التلمسانية، وهي أقل أناقة من طريقة اللباس المغربية، فالقسم الأعلى من
الجسد يغطى بشدة وبصورة كاملة من قبُل، والرأس يغطى بالحايك مرتين. وإذا
أراد التلمساني إطلاق يديه تناول الطرف من الحايك التي نراه في الوضعية
(رقم 4) متدلياً في مقدم أعلى الجسم فثناها في يديه ثم رفعها ومرَّرها من
فوق رأسه بحيث تتدلى خلف رقبته. ثم يزيد من طلاقة حركاته بأن يرفع إلى
مستوى صدره قطعة الحايك التي بقيت متدلية قدامه، متشكلة أشبه بوشاح (الصورة
50)، وهكذا يكن قد تحرر أعضاءه الأربعة.
الحايك عند دكالة
ولنرجع
إلى لباس دكالة. وهو لباس لا يزيد عن حايك من الصوف يرتدونه على نحو ما
يرتدي الحضريون الحايك الحريري الخفيف. والصورة 60 في الوضعة رقم 1 تظهر
دكالياً يرتدي الحايك على هذه الصورة، إلا أنه لا يمد الحايك إلى مقدم
جبينه وإنما يقصره خلف رأسه. وإذا أراد الدكالي أن يكون مرتاحاً في لباسه
لم يجعل اللفة الأخيرة من الحايك على كتفه اليمنى وإنما يلقيه على الكتف
اليسرى، ثم إنه يمرره من تحت الكتف اليمنى ويلقيه، كما رأينا سابقاً، على
الكتف اليسرى، بحيث تلبث ذراعه اليمنى عارية، على نحو ما يفعلون في
الإحرام (الوضعة رقم 2). والدكاليون يغدون ويروحون ويعملون وهم في راحة
تامة في هذا اللباس الذي لا يشده إلى أجسامهم شيء.
لكن هنالك بعض
الأشغال، مثل نكش الحقول بالمعول، فهي أشغال لم يأمنوا إذا قاموا بها أن
ينحل عنهم لباسهم ويسقط، ولذلك فإذا أزمعوا القيام ببعض الأشغال التي تتطلب
منهم المجهود الكبير عمدوا إلى تثبيت ذلك اللباس على أجسامهم على الصورة
التالية : فالرجل إذا لبس الحايك على الصورة التي بيَّنا (الوضعة رقم 2)،
جذب بيده اليسرى الطرف الأول، ذلك الطرف الذي تركه حين شروعه في لف جسمه
بهذا اللباس متدلياً قدامه من فوق كتفه اليسرى (انظر الوضعة رقم 1 في
الصورتين 56 و58)، ثم يعقده تحت عنقه بعقدتين إلى الطرف الآخر من الحايك
الذي يتدلى خلف ظهره والذي يرده بذلك إلى الأمام حول عنقه من فوق كتفه
الأيمن. وبذا يتأتى له أن يثبت الحايك بطريقة جيدة (الصورة 60، الوضعة رقم
3)، ويصير بمقدوره أن ينكب على العمل بكل اطمئنان. ويبقى الرأس في تلك
الأثناء عارياً معرضاً لأشعة الشمس، كما في الإحرام، ولن تسمع دكالة يشتكون
من هذا الأمر كما يشتكي معظم الحجاج قلة الراحة في هذا اللباس المقدس.
وقلما تجد منهم الدكاليين من يلف رأسه برزة صغيرة، ثم إن هذه الزينة لا
تنفعهم شيئاً في اتقاء الحرارة.
الحايك والباليوم والتوجة
والحايك
على شبه كبير بالباليوم، كما يسمى عند اليونان. وكلمة «الباليوم» يُراد
بها بوجه عام، كما هي الكلمات «حايك» و»ملحفة» و»إزار» و»رداء» في العربية
كل قطعة من ثوب كبيرة ومستطيلة؛ سواء أكانت غطاء أو نقاباً يتنقب به
العروسان أو ثوباً للحمام أو ستارة... ويُراد بالحايك في المعنى الضيق تلك
القطعة من القماش التي تتخذ لباساً. فهم يجعلون ذلك القماش على الرقبة
ويتركون معظمه على الجانب الأيمن، ويمررونها من تحت الذراع اليمنى، على نحو
ما يفعلون في الإحرام، وكما يظهر في الصورة 56 الوضعة 9، وفي الصورة 60
الوضعة 2، ثم يرخونه على الكتف الأيسر. وأما التوجة الرومانية فهي أكثر
تعقيداً. فـ»التوجا فوسا»، التي شاع ارتداؤها في زمن الإمبراطورية لم تكن
مستطيلة، بل نصف دائرية، وقد كانت تُلبس مبدئياً كما يُلبس الباليوم، إلا
أن طرفها الأول، الذي يُجعل على الجانب الأيسر، كان يتدلى حتى الأرجل، وأن
طرفها الآخر، الذي يجعل تحت الذراع الأيمن ويمرر على مقدم الجسم، قد كان
يطوى إلى قسمين بالطول على هيأة جيب مزدوج، ثم تلقى بقية الثوب من على
الكتف ويتدلى إلى العقبين. وتشترك التوجة والباليوم والرداء والإحرام في
أنها كلها لا تزيد عن قطع من الثوب تمرر من تحت الذراع اليمنى وتغطي الذراع
اليسرى، وأما الحايك فهو يغطي الذراعين، إلا من بعض الاستثناءات التي
ذكرنا، عدا أنه يُلف حول الجسم لفتين، فيكون بذلك يشكل توليفاً بين قطعتي
الإحرام، الذي لا يبعد أن يكون هو أصله المباشر.
ولقد بقي الحايك هو
اللباس الأكثر أناقة عند المسلمين؛ فهو لذلك يتعارض مع «الجلابة» الرهيبة
التي سنعود إليها بالحديث في موضع آخر من كتابنا، فهي لباس فاقد لأي طعم
خاص. ثم إنك لا ترى في المدينة شخصاً متأنقاً لا يلبس الحايك. فهو لا يقتصر
على أن يكون علامة مميزة لعلية القوم من جميع الأصناف، وإنما هو إلى ذلك
لباس خاص بالعلماء والأتقياء المتصفين في حياتهم بالذوق الرفيع. ولا يعدم
فائدة أن نذكر في هذا الصدد بأن الباليوم الذي كان يعتبر في زمن
الإمبراطورية لباس الحكماء قد كان يقوم علامة على الحياة العلمية
والمستقيمة، ولذلك وجدنا تارتوليين يتخلى فجأة عن التوجة ويرتدي هذا اللباس
الشبيه بالمعطف، وليجعل منه، بوجه من الوجوه، لباس النساك المسيحيين. ولقد
أثار هذا التغيير ضجة كبرى في في قرطاج، بحيث رأى تيرتوليان من الواجب أن
ينشئ في هذا الصدد كتابه «الباليوم»، الذي لم يعد أن يكون، في حقيقة
الأمر، وكما يرى العلماء المقتدرون، دفاعاً عن التقاليد وعند الزهد. أفليس
من قبيل الطرافة أن نرى في هذا الصدد إلى هذا الشكل القديم من اللباس يُتخذ
رمزاً للتشدد والورع، على نحو ما يقع في الإسلام؟ ثم ألست ترى تشابهاً بين
الطابع الخاص الذي يفرغه الحايك على العالم وعلى المتشدد الفاسي المتبختر
بهذا اللباس الأنيق في بساطته في أزقة العاصمة المغربية؟
الحفلات العائلية
سوف
لا نطيل الحديث في الحفلات العائلية عند دكالة ولا في الأفراح والمتع التي
يصيبونها خارج البيوت، لأننا نبغي أن نفصل الحديث في هذه الأمور عند
تناولنا للقبائل الأخرى التي سنلاقيها في رحلتنا في مملكة مراكش. لكننا
سنتوقف عند رياضة تكاد أن تكون هي الخاصية المميزة التي يُعرف بها دكالة
بين المغاربة؛ تلك هي البيزرة [أو الصيد بالبيزان].
فأما الختان فإنه
يقع عندهم عادة في اليوم السابع أو الثامن من الولادة، وهذا هو الشائع
عندهم، لكن منهم من يؤخره كثيراً، ولذلك فإن بعض الأولاد قد يبلغون سن
الثانية عشرة أو الثالثة عشرة ولما يختنوا بعد. والفتيات يذهبن وهن صغيرات،
على غرار الأولاد، لرعي الماشية، ومتى بلغن انقطعن عن هذا الأمر.
الزواج
وأما
الزواج فلا يُذهب فيه عند القاضي (وهو الذي لا تجده في غير مدينة الجديد)،
وإنما يُكتفى فيه بالشهود، ولا يحرَّر به عقد، بل يُكتفى بقراءة الفاتحة،
وعلى الصورة نفسها يتم الطلاق. وقد جرت العادة على أن تُحمل العروس إلى بيت
زوجها فوق جمل، وقد جعلت تحتها زربية، لأن «العطوش» أو الهودج الذي يحمل
فوق ظهر البعير شيء غير معروف في هذا البلد. وإذا جاء أقارب العريس ليأخذوا
العروس أطلقوا عند باب بيتها بضع طلقات نارية، بحيث يكون ذلك المشهد كأنه
عملية اختطاف. ولا ترى الأعراس يقيمها إلا الميسورون من الناس، وأما السواد
الأعظم فلا حظ لهم فيها، وإنما هم يكتفون بأعداد كسكس أو «طعام» لجميع
أفراد الدوار، ويذبحون خروفاً واحداً على الأقل. وإذا قاموا بحفل صغير فلا
يزيدون به في معظم الأحيان عن يوم واحد، وفي اليوم السابع يقفون عليه بحفل
ثان. وفي تلك الأيام المتخللة للحفلين يلبث العروسان داخل الخيمة، ولا يمكن
لأي شيء أن يجبر الزوج على الخروج. والعادية جارية في معظم مناطق شمال
إفريقيا على أنه يذاف بعد الزفاف بقميص العروس المدمى في أنحاء الدوار. غير
أن الانحلال الذي يطبع المجتمع الدكالي لا يكون معه ذلك الدم على القميص
دليلاً كافياً على عذرية العروس، فقد يجرح العريس في فخذها وبذلك الدم
يصطبغ قميصاً للعذرية. والعادة جارية في الجزائر كما في تونس على أن المدعو
إلى العرس يأتي بهدية نقدية، وهي إمما تكون سلفة للعريس ويلزمه أن يردها
عندما يُدعى في وقت لاحق إلى عرس تقيمه أسرة الرجل الذي هو اليوم ضيفه.
وتعرف هذه السلفة عامة في الجزائر باسم «الطاوسة» أو «الكنبوش»، وأما عند
دكالة فهي تسمى «غرامة»، وهو الاسم الذي تعرف به كذلك في تلمسان. – وكذلك
لا تجد في المراسيم التي ترافق الدفن عند دكالة اختلافاً كبيراً عن
مثيلاتها في البلدان الأخرى، فهي على شبه بالمراسيم التي سيقيض لنا أن نعود
إليها بالحديث في موضع آخر من هذا الكتاب؛ فلا تبدو شعائر الموت لديهم على
قدر كبير من التطور.
الرقص والفروسية
يكثر
الرقص في الحفلات والأعراس كما يكثر في «المواسم» (وهي الاحتفالات التي
تقام لولي الدوار من الدواوير أو القبيلة من القبائل). فالنساء يرقصن
مختلطات بالرجال في غير قليل من النظام، وأحياناً يرقص الرجل والمرأة
متقابلين، رجل مع امرأة في الرقص، ويتنافسان أيهما يرقص أطول مدة. وكثيراً
ما ترى الرجال والنساء يرقصون في صفين متقابلين، وقد يكون أفراد كل صف بين
ثلاثين وأربعين راقصاً وراقصة. وهم يرقصون على إيقاع الطعريجة، يضربون
عليها ضرباً موزوناً. فإذا أعوزتهم الطعريجة في اتخذوا القوارير التي يسقون
بها الماء، أو الآنية الكبيرة التي يتناولون فيها الكسكس [كذا، وهي
الجفنات!]، فهم يضربون عليها بأحذيتهم. فلا قبل لهم بـ»الغبطة» ولا «الدف»
ولا «الطر». ويكثر عند دكالة المغنون المحترفون، وتكثر عندهم خاصة
المغنيات، كما سبق لنا أن ذكرنا بشأن سوق سيدي بنور الذي يأتيه هؤلاء
الفنانون ليعرضوا فيه خدماتهم. ويكاد دوار أولاد حمادي، في أولاد مسلم،
يكون سكانه جميعهم من المغنين وأسرهم. وإذا كان من غير الممكن أن يقام
الحفل من غير غناء ولا رقص، فكذلك لا تقوم للحفل قائمة بدون الفروسية. و
الفروسية التي يسميها العرب «لعبة البارود» أو «لعبة الخيل»، تعتبر من أكبر
المتع عندهم. وأهل دكالة إذا أعوزتهم الخيول، وكثيراً ما تعوزهم الخيول،
أقبلوا على الفروسية يلعبونها بالأرجل؛ ورأيتهم يلوحون ببنادقهم ويقلبونها
في الهواء على شتى الأوجه، ثم يطلقونها وقد وجهوا فوهاتها إلى الأرض.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 16 -
جري النعام وطيران البازي هما من أمتع أنواع القنص التي يمكن للمرء أن يشتغل بها في هذا العالم!
البيزرة
يعتبر
الصيد رياضة تشريفية عند دكالة؛ فهم يمتلكون الكثير من السلاقي، ويجدون
متعة كبيرة في مطاردة الأرانب. وإذا كانوا ولوعين بالصيد فلأنهم يتخذونه
ذريعة للسباق بالخيول، بقدر ما يهمهم فيه تقنياته الخاصة. وهم لم يجعلوه
لهم علماً قائماً، مثلما كنا كان الأوروبيون يفعلون في العصور الوسطى في
صيد الأيائل والخنازير، وإنما الصيد عندهم هو في المقام الأول، فرصة
للتباهي وركوب الخيل، كما يفعل المولعون بصيد الثعلب في أنجلترا. ومع ذلك
فقد برعوا كثيراً في ترويض الطيور، وعند دكالة يوجد أشهر البيازرة
المغاربة. فأنت تجد بين كبار الأعيان، أمثال قايد عبدة الشهير سي عيسى بن
عمر [(هـ.م) ورد أنه سي عمر بن عيسى!]، بعض كبار المولعين بالبزاة، فلا
يقعدون عن دفع المبالغ الطائلة في سبيل الحصول على هذه الطيور. فقد كان،
كما يقال، شغوفاً كل الشغف بطيران البزاة، وهو شغف يعسر على بسطاء الناس
مثلها أن يدركوا مغازيها، لكنه شعف تؤكده الكثير من الأمثلة الشهيرة. فهذا
الجنرال ماركريت، وهو أحد كبار الصيادين الجزائريين، قد قال : «إنني أؤكد
أن جري النعام وطيران البازي هما من أمتع أنواع القنص التي يمكن للمرء أن
يشتغل بها في هذا العالم. وهواة هاتين الرياضتين يقولون إنهما يعيدان للمرء
شبابه، وإنني لمؤمن بهذا الأمر، بفضل المتعة العارمة التي يعودان بها على
متعاطيهما، وأنهما تدفعان بالملكات المحركة إلى حدودها القصوى».
البزاة
وأهل
دكالة يميزون بين نوعين من البزاة : «البحري» و»النبلي». ولا تكون سبيل
إلى التفريق بين هذين النوعين إذا كانا فرخين صغيرين. لكن النبلي يصير بعد
ذلك أطول من البحري وأحمل منه، بعينين كبيرتين سوداوين، ويغدو صدره مع
تقدمه في السن مرقط بالكامل كأنه فرو النمر. وهم يستعملون البحري في الصيد
في العنصرة (24 يونيو) إلى مارس، ويستعملون النبلي في الصيد من أكتوبر إلى
العنصرة، وفي ما تبقى من السنة يبقون عليهما مشدودين إلى وثاقهما. ولا يصيد
أي من هذين الطائرين الحبارى، كما يفعل نوع آخر من البزاة في الجزائر.
ونجد البزاة الوحشية لدى دكالة، لكن أكثر ما نقع عليها إذا اتجهنا صوب
الجنوب، وتزداد أعدادها ابتداء من آسفي. وقد سبق لدييكو دي طوريس أن تحدث
قبل أربعة قرون عن «الجبال البيضاء»، يريد بها «الأطلس الكبير»، بأنها بلاد
توجد فيها أنواع شهيرة من البزاة. وأما في الوقت الحالي فقد أصبح البزاة
أكثر ما تُصطاد في كهوف الأطلس. وعي تكثر في المنطقة بين آسفي والصويرة
القديمة، ولا تخلو منها حتى ضواحي الصويرة، عند مصب وادي القصب. وسمعنا أن
البزاة تكثر بطول وادي سوس، خاصة في موضع يسمى تاراست.
اصطياد البيزان
يسمى
البازي الصغير فرخاً، وهو الذي كان يعرف باسم «الأبله» في البيزرة
القديمة. فإذا أتم السنة سمي «بوبيت»، وهو المعروف في البيزرة القديمة باسم
sors. فإذا أتم السنتين سُمي «بوبيتين». وبصفة عامة فالبازي البالغ يسمى
«مكرنص»!، والبازي العجوز يسمى «ماسح». والمغاربة يصطادون البازي بواسطة
شباك؛ فهم تشدون أطرافها بثلاثة أوتاد يجلونها على هيأة جوانب المثلث
المستطيل. فتكون فتحة المثلث إلى جانب وتر ذلك المستطيل. ثم تضعون حمامة،
والأفضل أن تكون حمامة برية، داخل ذلك الشباك، يشدونها بخيط بطول قرابة
ذراع، يجعلون أحد طرفيه بإحدى قائمتيها ويشدون طرفه الآخر إلى حجر، بحيث
يتيحون للحمامة أن تقفز هنا وهناك. فإذا لمحها البازي جل يحوم فوقها، ثم
يهبط حتى يوشك يلمس الأرض ويدخل في الشباك، ثم لا يخرج منه إلا ليدخل في
سلة القصب التي يحملها القناص فوق ظهره.
ويقول البيازرة المغاربة إن
البازي له كبد كبير طافح على جانب جسمه، فينبغي التحرز من لمسه في ذلك
الموضع، فإن من شأنه أن يلحق به الضرر البالغ، وقد ربما أهلكه. فينبغي أن
يُشد من قائمتيه، ومتى أحكم شده وجب أن يوضع على رأسه برقع أو «قُبُّيل».
أساطير بخصوص البيزان
ويحكي البيازرة المغاربة أسطورة في هذا الباب تقول
: «إن سيدي علي بن بلقاسم، جدهم، قد كانت تخدمه جنية تسمى «آها». فإذا عزم
على الصيد أخبر آها فتجمع له كل بيزان الغابة، فيخرج بها للصيد. فكلما
اصطاد البازي شيئاً من الطرائد أكله، ولم يقرب الولي منها شيئاً. وعندما
استشعر دنو أجله، وتوقع للبيزان ألا تطيع أبناءه من بعده، قام باستدعاء تلك
الطيور يوما وقيدها من قوائمها، وقد سألته البزاة عن السبب في ما فعل بها،
فقال لإنه موقن من أنها لن تطيعوا أبناءه من بعده. فإذا أحدها يقول له :
«غطي لينا عينينا، عين ما شافت، قلب ما يوجع». وكان ذلك هو السبب في ابتكار
البرقع. والبازي يحمله صاحبه في سائر البلدان وقد غطى يده بقفاز. ويطعَم
باللحم دون ملح، لأن اللحم، حسب ما يفيدنا البيزري الذي أمدنا بهذه
المعلومات، لو خالطه ملح، مهما كن قليلاً، فربما أهلك البازي.
تدريب الباز
والبازي
إذا اصطيد امتنع عن الأكل لمدة تتراوح بين ثلاثة أيام وثمانية. ثم يميل
بعدها إلى أن يطعم اللحم. ويُتحاشى أن تقدم إليه الشحوم، وإن كانت شحوم
الطرائد لا تضر به. ثم يُشرع في تدريبه على ضوء شمعة، ويزيل عنه المدرب
البرقع الذي يغطي عينيه ويأخذ يلمسه بيده في رفق؛ فالطائر إذا كان في الضوء
الاصطناعي لم يبد مقاومة. ثم إنه متى قبل أن يأكل لم يعد يبدر منه عدوان.
فإذا بدأ يتعود على صاحبه أزال البرقع عن عينيه، إلا متى أراد أن يُعمله في
الصيد. ويصير الطائر يتعلم أن يعود ليحط فوق معصم صاحبه إذا نادى عليه
ببعض الأصوات المحاكية، من قبيل : «هش، ها، هش...» ؛ فقد قال سيد علي :
غوتة تردوا ولو في جو السما». وببركة الولي يعود من الأماكن القصية. ويعمر
الباز في العادة ثمان سنين. وتُدرَّب كباره على نحو ما تُدرَّب صغار.
وينبغي مراقبته، فبدون ذلك تراه كثيراً ما يسعى في استعادة حريته. وقد يتفق
أحياناً أن تكون الطريدة أسرع بكثير من المعتاد، بحيث يعجز راكبو الخيل عن
اللحاق بها، فتضيع منهم، ويمعن البازي في ملاحقتها، فيبتعد كثيراً عن
صاحبه ثم لا يعود إليه. ويقول البيازرة إنه يمكث بقرب فريسته أياماً، ثم
يعود إلى موطنه الأصلي. وقد حرت العادة في الجزائر على أن يطلقوا سراح
البازي بعد الانتهاء من موسم القنص، فإذا حان موسم القنص الجديد سعوا في
البحث عن طيور أخرى، وما أكثر ما تراهم يستعيدون الطيور نفسها التي كانت
لديهم، ويظل هذا الأمر يتكرر لسنين عديدة. ولا يحتفظ البيزار إلا في النادر
بالطائر المميز من هذه الطيور.
البيازرة المغاربة
يكوِّن
البيازرة، أو «البيازة»، المغاربة ما يشبه الطائفة يرأسها سيدي علي بن
بلقاسم. وقد كان هذا الولي يعيش في مراكش، وفيها كانت وفاته سنة 946هـ،
وذكر آخرون أنه توفي سنة 951هـ. وله اليوم ضريح وراء مسجد الكتبية. ويفيدنا
مخبرونا أنه ينتسب إلى مولاي إدريس. وقد كان له ولدان، هما سيدي عثمان
وسيدي إسماعيل، الملقب بـ «بوسجدة»، لأنه كان يختم القرآن في سجدة واحدة.
والبيازرة الذين يدعون اليوم الانتساب إلى هذا الولي يعرفون باسم «القواسم»
تيمناً باسمه، ويتوزعون على أربعة مراكز، أو أربع زوايا، هي : قواسم أولاد
فرج، وزاوية واهلة، وزاوية أوراغ وزاوية سيدي علال لدى أولاد بوعزيز. بيد
أن القواسم لا يشكلون زاوية بالمعنى الحقيقي؛ فلس لديهم «ذكر» خاص بهم.
ولهم أتباع من بني احسن، غير أنهم لا يُعدون من المنتسبين إلى الولي؛ وإنما
شأنهم أنهم خدَّام.
لقد كان للبيزرة عند المسلمين، كما كان لها في
البلاد الأوروبية، شأن عظيم في الماضي، وأما في الوقت الحالي فما عاد
السلاطين في المغرب يقبلون على القنص، لكن لا يزال البيزارون، أو البيازة،
يحظون بالاعتبار ويُحسبون على المخزن، ويخصص لهم «مونة» خفيفة. وقد كانوا
على عهد مولاي الحسن كثرة كثيرة، وقد أنقصهم الصدر الأعظم راتبهم، ثم
اشتكوه إلى السلطان فرده عليهم. وقد حرمهم باحماد الشهير منذ وقت قريب
المونة أيضاً، ثم ألزمهم بدفع الضرائب، ويؤكد لنا أحد البيازة أنه قد ظهر
حينها سيدي علي بلقاسم للصدر الأعظم في المنام، فتملكه خوف شديد، ولم يتماك
نفسه في ذلك اليوم أن يذبح ثلاثة عشر ثوراً استرضاء لذلك الولي، ثم رد إلى
البيازة المونة وأسقط عنهم الضرائب. وفي السنة التي سمعت فيها هذه
الأخبار، أعني 1902، كان السلطان في الرباط يعطي كل واحد منهم بسيطة في كل
يوم. وسمعنا من بعض الأفواه أن عدد البيازة أصبح اليوم لا يكاد يزيد عن
الخمسة عشر نفراً.
فيكون المخزن له بيَّازوه [(هـ. م) يسمون في العربية
«بيزارون»]، مثلما كان لشارلمان بيازوه ومثلما كان لملوك فرنسا الضباط
العديدون في مجال البيزرة. وبذلك تبدو البيزرة في صورة رياضة ملكية،
فالمشتغلون بها في المغرب أو الجزائر كانوا من الملوك، وإلا فمن كبار
السادة. ونحن نعرف مدى الحرص الشديد الذي كان النبلاء في فرنسا يحيطون به
هذا الامتياز المقصور عليهم، ولذلك بقي اسم «الكونج» مقصوراً على المميزين.
وقد كانت البزاة معدودة في الأتاوات الإقطاعية. فكانت بعض المدن البربرية
الصغيرة، مثل أكير وأكوز، وهي الداخلة اليوم في ناحية آسفي، تدفع إلى
المحتل البرتغالي، فضلاً عن الضرائب، ببعض طيور البازي. وكذلك فالإسبان وقت
أن كانوا يتعاملون مع ملوك تلمسان كانوا يلزمونهم بأن يمدوهم سنوياً بعدد
معلوم من هذه الطيور. ولاشك أن البيزرة قد كانت نشاطاً مزدهراً في بلدان
المغرب؛ كما يدلنا عليها أن المسيحيين كانوا يجلبون إلى هذه البلدان الطيور
الكواسر، وأما اليوم فقد نقصت فيها أثمنة البيزان، فصار سعر النبلي غير
المدرب لا يزيد عن 75 بسيطة وسعر المدرَّب لا تعدى 100 بسيطة. وأما البحري
فهو أقل منها سعراً؛ إذ يتراوح بين 35 بسيطة لغير المدرب و75 بسيطة للمدرب.
أصول البيزرة
ربما
صح أن نعتبر هذه السلالة من البزازرة المنتسبين إلى الأولياء، والهيأة
التي تنتظمهم، وهي هيأة ذات طابع أرستقراطي وديني من مخلفات عصر قديم كان
لا يزال للبازي فيه يحظى بالتقديس. ولا تزال تجد العرب إلى اليوم يسمون هذه
الطائر الكاسر باسم جنسي هو «الطير الحر»؛ ومعناها الطائر النبيل، حسب
المعنى الحرفي لهذه العبارة. وقد جاء شتوم والمهتمون بالحضارة المصرية
بمقارنة لهذه الكلمة المصرية «الحر» وعلامته الهيروغليفية، البازي المقدس.
ومهما بدا لنا في هذه المقاربات من شطط، فلا يجدر بنا استبعادها من قبل أن
نتدبر فيها. فقد كان للطيور الكواسر في معظم الخرافات الكبرى طابع إلهي،
وهو يقترن في الديانة المصرية [الفرعونية] خاصة بعلاقة وثيقة بإله قديم
جداً، يدعى حورس. وقد كانت القوانين الأوروبية القديمة تقضي على من يقتل
البازي أو يسرقه بأشد العقوبات، وكثيراً ما تحكم عليه بالقتل. وجاء في أحد
القوانين: «أن من حاول أخذ البازي من صاحبه أكل هذا البازي ست أوقيات من
اللحم من صدره». وما أيسر أن نجد تفسيراً لهذا التفاوت بين العقوبات
والجنحة المقترفة بافتراض الطابع البدائي المقدس الذي كان يُجعل للبازي. ثم
إن هذا الطائر قد ظل في كل الآداب الشعبية نموذجاً للنبل والشهامة. وهذا
أمر لا يجلنا عليه الاسم نفسه الذي يُعرف به؛ «الطير الحر»،، بل تدلنا عليه
كذلك الأمثال التي تتحدث عنه، من قبيل قولهم : «الطير الحر إلى حصل ما
يتخبطشي»، وقولهم : «الطير الحر يشكر مباتو»، وغيرهما من الأمثال الداخلة
في هذا المعنى... ويجوز لنا أن نستخلص من هذه الوقائع أن التقدير الذي يحاط
به البازي والاعتبار الخاص الذي يتمتع به البيازرة يعود بأصوله إلى بعض
المعتقدات الدينية القديمة.
الدين عند دكالة
إن
دكالة مسلمون حسنو الإسلام، لكن يميلون إلى شيء من الارتخاء عن القيام
بالفرائض والشعائر. ويُحكى أن سيدي علي بن بلقاسم، شيخ البزازرة، الذي
تحدثنا عنه، قد أرسل بولديه إلى حاحا والشياظمة ودكالة للاستطلاع حول كيف
توقر تلك القبائل أولياءها. فلما رجعا إليه سألهما : «كيف هم أولياء
الشياظمة وحاحا؟». فكان جوابهما : «بحال الموس إلا دزت عليهم يذبحوك»،
وقالا فيهم كذلك : «بحال النحلة إلا دزت عليها تضربك». ومعنى كلامهما أن
أولياء هذه المناطق مرهوبو الجانب، وأنهم ينزلون العقاب الشديد بمن يحط من
قدرهم. ثم سألهما عن دكالة، فكان جوابهما : «دايرين مع صلاحهم كالحمير، ما
يتفكروهوم حتى يبغيوا يبردعوهم»، بمعنى أنهم لا يسألون في أوليائهم إلا متى
دعتهم الحاجة إليهم. ففي هذه الحكاية بيان واضح بالتفكير الديني عند
دكالة؛ فهم مسلمون متراخون، وحتى ليبلغ منهم ذلك الارتخاء إلى إهمال أمور
الدين، وهذه من الأمور الشائعة عند برابر شمال إفريقيا. ولا يبدو أن
للزوايا عندهم حضور كبير؛ فلا تجد لديهم غير بغض قليلة الأفراد من جيلالة
وعيساوة ودرقاوة. ولا يلقى هؤلاء الأخيرون قبولاً لدى دكالة؛ فالتشدد الذي
يطبع سلوكهم لا يكون مما يتماشى دائماً وطبائع السكان. ولذلك فكثيراً ما
تسمعهم يقولون : «درقاوة وطابا ما جابهوم كتاب».
التقسيم الإداري لدكالة
تتوزع
دكالة من الناحية الإدارية إلى أربعة «أرباع». وقد جعلت هذه الدوائر
الأربع لتقسم عليها، وجُعل عليها العديد من القياد، فلا يقلون عن عشرة. وقد
كانوا قبل حوالي ثلاثين أو أربعين سنة لا يزيدون عن قايدين اثنين. ومن
المعلوم أن تقسيم البلاد إلى قيادات كبرى قد كان من العناصر الأساسية التي
قامت عليها سياسة مولاي الحسن الأول. وقد أصبح القياد يوزعون في الوقت
الحالي على الصورة التالية : خمسة في الربع الأول، اثنان منهم على أولاد
عمران واثنان على المنطقة المسماة «العونات»، وواحد على أولاد فرج. وثلاثة
في الربع الثاني؛ على أولاد بوزرارة، وأما الربع الثالث فيكونه أولاد عامر
وليس عليهم غير قايد واحد، وكذلك هو الشأن في الربع الرابع؛ فهو يضم أولاد
بوعزيز وليس عليهم كذلك غير قائد واحد. وينبغي أن نزيد إلى هذه الدوائر
العشر الدائرة التي تكونها مدينة الجديدة والدائرة التي تكونها مدينة
أزمور. فأما الأولى فلا تضم غير المدينة وضاحيتها القريبة، وأما الثانية
فتضم أزمور والحوزية وأولاد سالم.
طباع دكالة
لقد
ظل دكالة منذ قرون يرزحون تحت الهيمنة والاحتلال. وهم يدخلون في قبائل
الحوز المجبولين على العبودية، ولذلك فكثيراً ما نالهم ابن خلدون بالمشين
من القول. وقد غلب عليهم التعاطي للفلاحة حتى صاروا إلى ما يشبه الاستقرار.
وهم نشيطون ونبهاء، بل منهم المتبصرون، ولهم مقدرة على شؤون التجارة،
ويجيدون الحصول فيها على الأرباح. وهم سهلو الاتصال، وإن يكونوا على شيء من
الحيطة والتحرز، فلذلك كان يسهل عليهم الاتصال بالأوربيين. وكما يحدث في
سائر مناطق إفريقيا الصغرى، يحدث للذين اتصلوا بالمتحضرين أن يفقدوا بعض
الصفات التي لها عند البدائيين منزلة كبيرة، من قبيل الضيافة. فليسوا هم من
سيحظى عندهم الجوعى من الرحالة، وقد عرفنا منهم الكثيرين في المغرب،
بالضيافة في سائر أنحاء بلدهم، أو يصيبوا لديهم المونة السخية التي جرت
العادة أن يخص بها الأهالي الأجانبَ. لكن المال يفتح جميع الأبواب هناك،
وكذلك تُعرف نساء دكالة في سائر أنحاء المغرب بأنهن سهلات المنال. وليس من
شك في أن هذه البلاد قد كانت من قبل شديدة الغنى. ومن أسف أنها وقعت على
عهد الملوك المتأخرين فريسة للنهب من القياد، فإذا هي قد باتت منذ بضع سنين
من أفقر المناطق في المغرب. ولا ينعم فيها الأجنبي بالأمان إلا أن يكون من
المحميين الأوروبيين. ولكن على الرغم من ذلك، فالبلاد لا تشهد قط تمردات
أو ثورات، وهي شديدة الغنى، بحيث لم لا تزال أهلها بأسباب العيش على الرغم
من صنوف القهر والاستغلال التي تقع عليهم من المخزن. ثم إن المخزن قد بات
منذ حوالي أربع سنين فاقداً لأي سلطان، وحتى ليعجز عن جباية الضرائب. فهذا
كان سبباً في تحسن أوضاع الناس في هذه البلاد، فإذا هم شرعوا يبتنون
المنازل بالحجارة في كل الأنحاء.
-1من كراندو إلى الجبيلات
(29
مارس 1901). توقفنا في منتصف الطريق إلى مراكش، بكراندو التي تقع عند مخرج
مضيق جبل فطناسة. إن هذا الموضع يشكل «نزالة» تعرف الإقبال الكبير من
الزوار، ويعرف خاصة بالأطلال التي لا تزال شاخصة فوق بعض المرتفعات في تلك
الناحية.
أطلال كراندو
تعود
هذه الأطلال إلى قلعة محلية قديمة قد كانت تقوم فوق مساحة يمكن تقديرها
بعشرين آراً أو نحوها، ولم يبق شاخصاً منها غير جانب من أحد الأسوار، وما
عداه حجارة غير متناسقة تتناثر في كل جانب. وأما المحاجر التي منها أخذت
تلك الحجارة فلا تزال ترى على مقربة من هذا المكان. ويدلنا الجانب من السور
الذي لا يزال قائماً، وكما يظهر من الصورة التي التقطناها له، على أنه بني
على الطريقة المحلية الخالصة؛ فقد جُعل من التابية، أو التراب المدكوك.
ولا تزال تطالعنا فيه الثقوب التي تركتها فيه الدعامات التي استعملت في شد
التراب أثناء ما كانت تجري عملية البناء. بل إن بعض تلك الدعامات قد تركت
في عين المكان، ثم نالها التلف، فلا تزال ترى بعضها في تلك الأنحاء. ومع
أننا قد تفحصنا تلك الأطلال من كل جانب فإننا لم تستبن فيها ما يدلنا على
ذلك البرج الذي ورد الحديث عنه لدى رحالة كثر.
وليس من الغريب أن يكون
سلاطين المغرب فكروا في تحصين هذا الموضع؛ فهو بشهادات العسكريين ذوي
الخبرة لا يعدم أهمية استراتيجية. ومن موضع تلك الأطلال يتبدى لنا المضيق،
ويطالعنا حيثما ولينا أوجهنا في الطريق إلى مراكش سهل الرحامنة، عند
أقدامنا يتحدر وادي كراندو شاقاً له سبيلاً في ذلك السهل. وعلى ضفتي ذلك
الوادي تطالعنا أطلال سور مربع وبئر قد أحكم لها البناء يقال إنها من فعل
البرتغاليين. فأما الأطلال فهي تمثل بطبيعة الحال بقايا من سور حديث العهد،
وأما البئر فهي من تلك المنشآت التي نلاقيها حيثما حللنا من منطقة الحوز،
وهي إنما تدل على أن هذا البلد قد كان بلغ في وقت من الأوقات شأواً بعيداً
في التحضر.
ولقد كان اسم كراندو مثاراً للبحث والاهتمام من رحالة كثر،
وإنهم ليجمعون، لما لا أعرف من الأسباب، على نسبة هذا الاسم إلى
البرتغاليين، علماً بأن هذه الكلمة ليس لها معنى في هذه اللغة. ثم إننا قد
وقفنا على وثيقة برتغالية تعود إلى القرن السادس عشر وفيها إشارة إلى «قلعة
كراندو المهجورة»، من غير أن تأتي في أي موضع منها بما يدفع إلى الافتراض
أنه قد كان يقوم في هذا الموضع بناء برتغالي أو أي [شيء يحمل] اسماً
برتغالياً. كما أننا نلاقي هذا الاسم نفسه [كراندو] في موضع آخر على الأقل
من المغرب، وذلك بحوض وادي زيز. فهنالك موضع يحمل الاسم نفسه، ما لم يكن هو
الموضع نفسه المراد بهذا الاسم [في سواه]؛ نريد الموضع الذي يقال له
كرانطة؛ حيث نزل عبد المومن في سنة 533هـ/1138-1139م، وقد كان، حسبما
يفيدنا ابن الأثير، جبلاً وارف الأشجار يشرف على سهل قفر من نبات. فأما
السهل الخالي من النبات فالمرجح أن يكون هو سهل الرحامنة، وأن الجبل هو جبل
«فطناسة» من قبل أن تعمره الأشجار، مثلما سبق لنا أن دفعنا بمثل هذا
الاحتمال في ما يختص بالجبل الأخضر.
فإذا صح أن اسم كراندو ليس
برتغالياً، فلقد رأينا كذلك أن ذلك البناء ليس هو الآخر ببرتغالي. ومع ذلك
فالشائع في الأذهان أن كراندو أنشأه البرتغاليون في القرن السادس عشر.
لكن
الفقرة التي سبق لنا أن استشهدنا بها للمؤلف البرتغالي المجهول تفيد نسبة
هذا الموضع إلى البرتغاليين. والرحالة الذين ذهبوا هذا المذهب في حديثهم عن
كراندو إنما أضلهم ما كانوا يسمعون من أفواه الأهالي، هم الذين يجمعون في
الحوز على رد سائر البنايات القديمة إلى الرتغاليين. وبطبيعة الحال فقد نسج
الأهالي من حول أطلال كراندو، كما نسجوا من حول كل ما اتفق لهم من أطلال
ومن خرائب، جملة من الخرافات والأساطير. فلم نعدم من يقول إنه قد كانت
هنالك مسالك من تحت ذلك الجبل، وهو شيء لن يستغرب له جماعة الفولكلور، لكن
ما يزيدنا استغراباً على استغراب أن نجد بعض الرحالة يزعمون أن مرافقيهم قد
جازوا تلك الهضبة من خلال تلك الممرات الأرضية، بل إن منهم من أوشك فيها
يضيع.
جري النعام وطيران البازي هما من أمتع أنواع القنص التي يمكن للمرء أن يشتغل بها في هذا العالم!
البيزرة
يعتبر
الصيد رياضة تشريفية عند دكالة؛ فهم يمتلكون الكثير من السلاقي، ويجدون
متعة كبيرة في مطاردة الأرانب. وإذا كانوا ولوعين بالصيد فلأنهم يتخذونه
ذريعة للسباق بالخيول، بقدر ما يهمهم فيه تقنياته الخاصة. وهم لم يجعلوه
لهم علماً قائماً، مثلما كنا كان الأوروبيون يفعلون في العصور الوسطى في
صيد الأيائل والخنازير، وإنما الصيد عندهم هو في المقام الأول، فرصة
للتباهي وركوب الخيل، كما يفعل المولعون بصيد الثعلب في أنجلترا. ومع ذلك
فقد برعوا كثيراً في ترويض الطيور، وعند دكالة يوجد أشهر البيازرة
المغاربة. فأنت تجد بين كبار الأعيان، أمثال قايد عبدة الشهير سي عيسى بن
عمر [(هـ.م) ورد أنه سي عمر بن عيسى!]، بعض كبار المولعين بالبزاة، فلا
يقعدون عن دفع المبالغ الطائلة في سبيل الحصول على هذه الطيور. فقد كان،
كما يقال، شغوفاً كل الشغف بطيران البزاة، وهو شغف يعسر على بسطاء الناس
مثلها أن يدركوا مغازيها، لكنه شعف تؤكده الكثير من الأمثلة الشهيرة. فهذا
الجنرال ماركريت، وهو أحد كبار الصيادين الجزائريين، قد قال : «إنني أؤكد
أن جري النعام وطيران البازي هما من أمتع أنواع القنص التي يمكن للمرء أن
يشتغل بها في هذا العالم. وهواة هاتين الرياضتين يقولون إنهما يعيدان للمرء
شبابه، وإنني لمؤمن بهذا الأمر، بفضل المتعة العارمة التي يعودان بها على
متعاطيهما، وأنهما تدفعان بالملكات المحركة إلى حدودها القصوى».
البزاة
وأهل
دكالة يميزون بين نوعين من البزاة : «البحري» و»النبلي». ولا تكون سبيل
إلى التفريق بين هذين النوعين إذا كانا فرخين صغيرين. لكن النبلي يصير بعد
ذلك أطول من البحري وأحمل منه، بعينين كبيرتين سوداوين، ويغدو صدره مع
تقدمه في السن مرقط بالكامل كأنه فرو النمر. وهم يستعملون البحري في الصيد
في العنصرة (24 يونيو) إلى مارس، ويستعملون النبلي في الصيد من أكتوبر إلى
العنصرة، وفي ما تبقى من السنة يبقون عليهما مشدودين إلى وثاقهما. ولا يصيد
أي من هذين الطائرين الحبارى، كما يفعل نوع آخر من البزاة في الجزائر.
ونجد البزاة الوحشية لدى دكالة، لكن أكثر ما نقع عليها إذا اتجهنا صوب
الجنوب، وتزداد أعدادها ابتداء من آسفي. وقد سبق لدييكو دي طوريس أن تحدث
قبل أربعة قرون عن «الجبال البيضاء»، يريد بها «الأطلس الكبير»، بأنها بلاد
توجد فيها أنواع شهيرة من البزاة. وأما في الوقت الحالي فقد أصبح البزاة
أكثر ما تُصطاد في كهوف الأطلس. وعي تكثر في المنطقة بين آسفي والصويرة
القديمة، ولا تخلو منها حتى ضواحي الصويرة، عند مصب وادي القصب. وسمعنا أن
البزاة تكثر بطول وادي سوس، خاصة في موضع يسمى تاراست.
اصطياد البيزان
يسمى
البازي الصغير فرخاً، وهو الذي كان يعرف باسم «الأبله» في البيزرة
القديمة. فإذا أتم السنة سمي «بوبيت»، وهو المعروف في البيزرة القديمة باسم
sors. فإذا أتم السنتين سُمي «بوبيتين». وبصفة عامة فالبازي البالغ يسمى
«مكرنص»!، والبازي العجوز يسمى «ماسح». والمغاربة يصطادون البازي بواسطة
شباك؛ فهم تشدون أطرافها بثلاثة أوتاد يجلونها على هيأة جوانب المثلث
المستطيل. فتكون فتحة المثلث إلى جانب وتر ذلك المستطيل. ثم تضعون حمامة،
والأفضل أن تكون حمامة برية، داخل ذلك الشباك، يشدونها بخيط بطول قرابة
ذراع، يجعلون أحد طرفيه بإحدى قائمتيها ويشدون طرفه الآخر إلى حجر، بحيث
يتيحون للحمامة أن تقفز هنا وهناك. فإذا لمحها البازي جل يحوم فوقها، ثم
يهبط حتى يوشك يلمس الأرض ويدخل في الشباك، ثم لا يخرج منه إلا ليدخل في
سلة القصب التي يحملها القناص فوق ظهره.
ويقول البيازرة المغاربة إن
البازي له كبد كبير طافح على جانب جسمه، فينبغي التحرز من لمسه في ذلك
الموضع، فإن من شأنه أن يلحق به الضرر البالغ، وقد ربما أهلكه. فينبغي أن
يُشد من قائمتيه، ومتى أحكم شده وجب أن يوضع على رأسه برقع أو «قُبُّيل».
أساطير بخصوص البيزان
ويحكي البيازرة المغاربة أسطورة في هذا الباب تقول
: «إن سيدي علي بن بلقاسم، جدهم، قد كانت تخدمه جنية تسمى «آها». فإذا عزم
على الصيد أخبر آها فتجمع له كل بيزان الغابة، فيخرج بها للصيد. فكلما
اصطاد البازي شيئاً من الطرائد أكله، ولم يقرب الولي منها شيئاً. وعندما
استشعر دنو أجله، وتوقع للبيزان ألا تطيع أبناءه من بعده، قام باستدعاء تلك
الطيور يوما وقيدها من قوائمها، وقد سألته البزاة عن السبب في ما فعل بها،
فقال لإنه موقن من أنها لن تطيعوا أبناءه من بعده. فإذا أحدها يقول له :
«غطي لينا عينينا، عين ما شافت، قلب ما يوجع». وكان ذلك هو السبب في ابتكار
البرقع. والبازي يحمله صاحبه في سائر البلدان وقد غطى يده بقفاز. ويطعَم
باللحم دون ملح، لأن اللحم، حسب ما يفيدنا البيزري الذي أمدنا بهذه
المعلومات، لو خالطه ملح، مهما كن قليلاً، فربما أهلك البازي.
تدريب الباز
والبازي
إذا اصطيد امتنع عن الأكل لمدة تتراوح بين ثلاثة أيام وثمانية. ثم يميل
بعدها إلى أن يطعم اللحم. ويُتحاشى أن تقدم إليه الشحوم، وإن كانت شحوم
الطرائد لا تضر به. ثم يُشرع في تدريبه على ضوء شمعة، ويزيل عنه المدرب
البرقع الذي يغطي عينيه ويأخذ يلمسه بيده في رفق؛ فالطائر إذا كان في الضوء
الاصطناعي لم يبد مقاومة. ثم إنه متى قبل أن يأكل لم يعد يبدر منه عدوان.
فإذا بدأ يتعود على صاحبه أزال البرقع عن عينيه، إلا متى أراد أن يُعمله في
الصيد. ويصير الطائر يتعلم أن يعود ليحط فوق معصم صاحبه إذا نادى عليه
ببعض الأصوات المحاكية، من قبيل : «هش، ها، هش...» ؛ فقد قال سيد علي :
غوتة تردوا ولو في جو السما». وببركة الولي يعود من الأماكن القصية. ويعمر
الباز في العادة ثمان سنين. وتُدرَّب كباره على نحو ما تُدرَّب صغار.
وينبغي مراقبته، فبدون ذلك تراه كثيراً ما يسعى في استعادة حريته. وقد يتفق
أحياناً أن تكون الطريدة أسرع بكثير من المعتاد، بحيث يعجز راكبو الخيل عن
اللحاق بها، فتضيع منهم، ويمعن البازي في ملاحقتها، فيبتعد كثيراً عن
صاحبه ثم لا يعود إليه. ويقول البيازرة إنه يمكث بقرب فريسته أياماً، ثم
يعود إلى موطنه الأصلي. وقد حرت العادة في الجزائر على أن يطلقوا سراح
البازي بعد الانتهاء من موسم القنص، فإذا حان موسم القنص الجديد سعوا في
البحث عن طيور أخرى، وما أكثر ما تراهم يستعيدون الطيور نفسها التي كانت
لديهم، ويظل هذا الأمر يتكرر لسنين عديدة. ولا يحتفظ البيزار إلا في النادر
بالطائر المميز من هذه الطيور.
البيازرة المغاربة
يكوِّن
البيازرة، أو «البيازة»، المغاربة ما يشبه الطائفة يرأسها سيدي علي بن
بلقاسم. وقد كان هذا الولي يعيش في مراكش، وفيها كانت وفاته سنة 946هـ،
وذكر آخرون أنه توفي سنة 951هـ. وله اليوم ضريح وراء مسجد الكتبية. ويفيدنا
مخبرونا أنه ينتسب إلى مولاي إدريس. وقد كان له ولدان، هما سيدي عثمان
وسيدي إسماعيل، الملقب بـ «بوسجدة»، لأنه كان يختم القرآن في سجدة واحدة.
والبيازرة الذين يدعون اليوم الانتساب إلى هذا الولي يعرفون باسم «القواسم»
تيمناً باسمه، ويتوزعون على أربعة مراكز، أو أربع زوايا، هي : قواسم أولاد
فرج، وزاوية واهلة، وزاوية أوراغ وزاوية سيدي علال لدى أولاد بوعزيز. بيد
أن القواسم لا يشكلون زاوية بالمعنى الحقيقي؛ فلس لديهم «ذكر» خاص بهم.
ولهم أتباع من بني احسن، غير أنهم لا يُعدون من المنتسبين إلى الولي؛ وإنما
شأنهم أنهم خدَّام.
لقد كان للبيزرة عند المسلمين، كما كان لها في
البلاد الأوروبية، شأن عظيم في الماضي، وأما في الوقت الحالي فما عاد
السلاطين في المغرب يقبلون على القنص، لكن لا يزال البيزارون، أو البيازة،
يحظون بالاعتبار ويُحسبون على المخزن، ويخصص لهم «مونة» خفيفة. وقد كانوا
على عهد مولاي الحسن كثرة كثيرة، وقد أنقصهم الصدر الأعظم راتبهم، ثم
اشتكوه إلى السلطان فرده عليهم. وقد حرمهم باحماد الشهير منذ وقت قريب
المونة أيضاً، ثم ألزمهم بدفع الضرائب، ويؤكد لنا أحد البيازة أنه قد ظهر
حينها سيدي علي بلقاسم للصدر الأعظم في المنام، فتملكه خوف شديد، ولم يتماك
نفسه في ذلك اليوم أن يذبح ثلاثة عشر ثوراً استرضاء لذلك الولي، ثم رد إلى
البيازة المونة وأسقط عنهم الضرائب. وفي السنة التي سمعت فيها هذه
الأخبار، أعني 1902، كان السلطان في الرباط يعطي كل واحد منهم بسيطة في كل
يوم. وسمعنا من بعض الأفواه أن عدد البيازة أصبح اليوم لا يكاد يزيد عن
الخمسة عشر نفراً.
فيكون المخزن له بيَّازوه [(هـ. م) يسمون في العربية
«بيزارون»]، مثلما كان لشارلمان بيازوه ومثلما كان لملوك فرنسا الضباط
العديدون في مجال البيزرة. وبذلك تبدو البيزرة في صورة رياضة ملكية،
فالمشتغلون بها في المغرب أو الجزائر كانوا من الملوك، وإلا فمن كبار
السادة. ونحن نعرف مدى الحرص الشديد الذي كان النبلاء في فرنسا يحيطون به
هذا الامتياز المقصور عليهم، ولذلك بقي اسم «الكونج» مقصوراً على المميزين.
وقد كانت البزاة معدودة في الأتاوات الإقطاعية. فكانت بعض المدن البربرية
الصغيرة، مثل أكير وأكوز، وهي الداخلة اليوم في ناحية آسفي، تدفع إلى
المحتل البرتغالي، فضلاً عن الضرائب، ببعض طيور البازي. وكذلك فالإسبان وقت
أن كانوا يتعاملون مع ملوك تلمسان كانوا يلزمونهم بأن يمدوهم سنوياً بعدد
معلوم من هذه الطيور. ولاشك أن البيزرة قد كانت نشاطاً مزدهراً في بلدان
المغرب؛ كما يدلنا عليها أن المسيحيين كانوا يجلبون إلى هذه البلدان الطيور
الكواسر، وأما اليوم فقد نقصت فيها أثمنة البيزان، فصار سعر النبلي غير
المدرب لا يزيد عن 75 بسيطة وسعر المدرَّب لا تعدى 100 بسيطة. وأما البحري
فهو أقل منها سعراً؛ إذ يتراوح بين 35 بسيطة لغير المدرب و75 بسيطة للمدرب.
أصول البيزرة
ربما
صح أن نعتبر هذه السلالة من البزازرة المنتسبين إلى الأولياء، والهيأة
التي تنتظمهم، وهي هيأة ذات طابع أرستقراطي وديني من مخلفات عصر قديم كان
لا يزال للبازي فيه يحظى بالتقديس. ولا تزال تجد العرب إلى اليوم يسمون هذه
الطائر الكاسر باسم جنسي هو «الطير الحر»؛ ومعناها الطائر النبيل، حسب
المعنى الحرفي لهذه العبارة. وقد جاء شتوم والمهتمون بالحضارة المصرية
بمقارنة لهذه الكلمة المصرية «الحر» وعلامته الهيروغليفية، البازي المقدس.
ومهما بدا لنا في هذه المقاربات من شطط، فلا يجدر بنا استبعادها من قبل أن
نتدبر فيها. فقد كان للطيور الكواسر في معظم الخرافات الكبرى طابع إلهي،
وهو يقترن في الديانة المصرية [الفرعونية] خاصة بعلاقة وثيقة بإله قديم
جداً، يدعى حورس. وقد كانت القوانين الأوروبية القديمة تقضي على من يقتل
البازي أو يسرقه بأشد العقوبات، وكثيراً ما تحكم عليه بالقتل. وجاء في أحد
القوانين: «أن من حاول أخذ البازي من صاحبه أكل هذا البازي ست أوقيات من
اللحم من صدره». وما أيسر أن نجد تفسيراً لهذا التفاوت بين العقوبات
والجنحة المقترفة بافتراض الطابع البدائي المقدس الذي كان يُجعل للبازي. ثم
إن هذا الطائر قد ظل في كل الآداب الشعبية نموذجاً للنبل والشهامة. وهذا
أمر لا يجلنا عليه الاسم نفسه الذي يُعرف به؛ «الطير الحر»،، بل تدلنا عليه
كذلك الأمثال التي تتحدث عنه، من قبيل قولهم : «الطير الحر إلى حصل ما
يتخبطشي»، وقولهم : «الطير الحر يشكر مباتو»، وغيرهما من الأمثال الداخلة
في هذا المعنى... ويجوز لنا أن نستخلص من هذه الوقائع أن التقدير الذي يحاط
به البازي والاعتبار الخاص الذي يتمتع به البيازرة يعود بأصوله إلى بعض
المعتقدات الدينية القديمة.
الدين عند دكالة
إن
دكالة مسلمون حسنو الإسلام، لكن يميلون إلى شيء من الارتخاء عن القيام
بالفرائض والشعائر. ويُحكى أن سيدي علي بن بلقاسم، شيخ البزازرة، الذي
تحدثنا عنه، قد أرسل بولديه إلى حاحا والشياظمة ودكالة للاستطلاع حول كيف
توقر تلك القبائل أولياءها. فلما رجعا إليه سألهما : «كيف هم أولياء
الشياظمة وحاحا؟». فكان جوابهما : «بحال الموس إلا دزت عليهم يذبحوك»،
وقالا فيهم كذلك : «بحال النحلة إلا دزت عليها تضربك». ومعنى كلامهما أن
أولياء هذه المناطق مرهوبو الجانب، وأنهم ينزلون العقاب الشديد بمن يحط من
قدرهم. ثم سألهما عن دكالة، فكان جوابهما : «دايرين مع صلاحهم كالحمير، ما
يتفكروهوم حتى يبغيوا يبردعوهم»، بمعنى أنهم لا يسألون في أوليائهم إلا متى
دعتهم الحاجة إليهم. ففي هذه الحكاية بيان واضح بالتفكير الديني عند
دكالة؛ فهم مسلمون متراخون، وحتى ليبلغ منهم ذلك الارتخاء إلى إهمال أمور
الدين، وهذه من الأمور الشائعة عند برابر شمال إفريقيا. ولا يبدو أن
للزوايا عندهم حضور كبير؛ فلا تجد لديهم غير بغض قليلة الأفراد من جيلالة
وعيساوة ودرقاوة. ولا يلقى هؤلاء الأخيرون قبولاً لدى دكالة؛ فالتشدد الذي
يطبع سلوكهم لا يكون مما يتماشى دائماً وطبائع السكان. ولذلك فكثيراً ما
تسمعهم يقولون : «درقاوة وطابا ما جابهوم كتاب».
التقسيم الإداري لدكالة
تتوزع
دكالة من الناحية الإدارية إلى أربعة «أرباع». وقد جعلت هذه الدوائر
الأربع لتقسم عليها، وجُعل عليها العديد من القياد، فلا يقلون عن عشرة. وقد
كانوا قبل حوالي ثلاثين أو أربعين سنة لا يزيدون عن قايدين اثنين. ومن
المعلوم أن تقسيم البلاد إلى قيادات كبرى قد كان من العناصر الأساسية التي
قامت عليها سياسة مولاي الحسن الأول. وقد أصبح القياد يوزعون في الوقت
الحالي على الصورة التالية : خمسة في الربع الأول، اثنان منهم على أولاد
عمران واثنان على المنطقة المسماة «العونات»، وواحد على أولاد فرج. وثلاثة
في الربع الثاني؛ على أولاد بوزرارة، وأما الربع الثالث فيكونه أولاد عامر
وليس عليهم غير قايد واحد، وكذلك هو الشأن في الربع الرابع؛ فهو يضم أولاد
بوعزيز وليس عليهم كذلك غير قائد واحد. وينبغي أن نزيد إلى هذه الدوائر
العشر الدائرة التي تكونها مدينة الجديدة والدائرة التي تكونها مدينة
أزمور. فأما الأولى فلا تضم غير المدينة وضاحيتها القريبة، وأما الثانية
فتضم أزمور والحوزية وأولاد سالم.
طباع دكالة
لقد
ظل دكالة منذ قرون يرزحون تحت الهيمنة والاحتلال. وهم يدخلون في قبائل
الحوز المجبولين على العبودية، ولذلك فكثيراً ما نالهم ابن خلدون بالمشين
من القول. وقد غلب عليهم التعاطي للفلاحة حتى صاروا إلى ما يشبه الاستقرار.
وهم نشيطون ونبهاء، بل منهم المتبصرون، ولهم مقدرة على شؤون التجارة،
ويجيدون الحصول فيها على الأرباح. وهم سهلو الاتصال، وإن يكونوا على شيء من
الحيطة والتحرز، فلذلك كان يسهل عليهم الاتصال بالأوربيين. وكما يحدث في
سائر مناطق إفريقيا الصغرى، يحدث للذين اتصلوا بالمتحضرين أن يفقدوا بعض
الصفات التي لها عند البدائيين منزلة كبيرة، من قبيل الضيافة. فليسوا هم من
سيحظى عندهم الجوعى من الرحالة، وقد عرفنا منهم الكثيرين في المغرب،
بالضيافة في سائر أنحاء بلدهم، أو يصيبوا لديهم المونة السخية التي جرت
العادة أن يخص بها الأهالي الأجانبَ. لكن المال يفتح جميع الأبواب هناك،
وكذلك تُعرف نساء دكالة في سائر أنحاء المغرب بأنهن سهلات المنال. وليس من
شك في أن هذه البلاد قد كانت من قبل شديدة الغنى. ومن أسف أنها وقعت على
عهد الملوك المتأخرين فريسة للنهب من القياد، فإذا هي قد باتت منذ بضع سنين
من أفقر المناطق في المغرب. ولا ينعم فيها الأجنبي بالأمان إلا أن يكون من
المحميين الأوروبيين. ولكن على الرغم من ذلك، فالبلاد لا تشهد قط تمردات
أو ثورات، وهي شديدة الغنى، بحيث لم لا تزال أهلها بأسباب العيش على الرغم
من صنوف القهر والاستغلال التي تقع عليهم من المخزن. ثم إن المخزن قد بات
منذ حوالي أربع سنين فاقداً لأي سلطان، وحتى ليعجز عن جباية الضرائب. فهذا
كان سبباً في تحسن أوضاع الناس في هذه البلاد، فإذا هم شرعوا يبتنون
المنازل بالحجارة في كل الأنحاء.
-1من كراندو إلى الجبيلات
(29
مارس 1901). توقفنا في منتصف الطريق إلى مراكش، بكراندو التي تقع عند مخرج
مضيق جبل فطناسة. إن هذا الموضع يشكل «نزالة» تعرف الإقبال الكبير من
الزوار، ويعرف خاصة بالأطلال التي لا تزال شاخصة فوق بعض المرتفعات في تلك
الناحية.
أطلال كراندو
تعود
هذه الأطلال إلى قلعة محلية قديمة قد كانت تقوم فوق مساحة يمكن تقديرها
بعشرين آراً أو نحوها، ولم يبق شاخصاً منها غير جانب من أحد الأسوار، وما
عداه حجارة غير متناسقة تتناثر في كل جانب. وأما المحاجر التي منها أخذت
تلك الحجارة فلا تزال ترى على مقربة من هذا المكان. ويدلنا الجانب من السور
الذي لا يزال قائماً، وكما يظهر من الصورة التي التقطناها له، على أنه بني
على الطريقة المحلية الخالصة؛ فقد جُعل من التابية، أو التراب المدكوك.
ولا تزال تطالعنا فيه الثقوب التي تركتها فيه الدعامات التي استعملت في شد
التراب أثناء ما كانت تجري عملية البناء. بل إن بعض تلك الدعامات قد تركت
في عين المكان، ثم نالها التلف، فلا تزال ترى بعضها في تلك الأنحاء. ومع
أننا قد تفحصنا تلك الأطلال من كل جانب فإننا لم تستبن فيها ما يدلنا على
ذلك البرج الذي ورد الحديث عنه لدى رحالة كثر.
وليس من الغريب أن يكون
سلاطين المغرب فكروا في تحصين هذا الموضع؛ فهو بشهادات العسكريين ذوي
الخبرة لا يعدم أهمية استراتيجية. ومن موضع تلك الأطلال يتبدى لنا المضيق،
ويطالعنا حيثما ولينا أوجهنا في الطريق إلى مراكش سهل الرحامنة، عند
أقدامنا يتحدر وادي كراندو شاقاً له سبيلاً في ذلك السهل. وعلى ضفتي ذلك
الوادي تطالعنا أطلال سور مربع وبئر قد أحكم لها البناء يقال إنها من فعل
البرتغاليين. فأما الأطلال فهي تمثل بطبيعة الحال بقايا من سور حديث العهد،
وأما البئر فهي من تلك المنشآت التي نلاقيها حيثما حللنا من منطقة الحوز،
وهي إنما تدل على أن هذا البلد قد كان بلغ في وقت من الأوقات شأواً بعيداً
في التحضر.
ولقد كان اسم كراندو مثاراً للبحث والاهتمام من رحالة كثر،
وإنهم ليجمعون، لما لا أعرف من الأسباب، على نسبة هذا الاسم إلى
البرتغاليين، علماً بأن هذه الكلمة ليس لها معنى في هذه اللغة. ثم إننا قد
وقفنا على وثيقة برتغالية تعود إلى القرن السادس عشر وفيها إشارة إلى «قلعة
كراندو المهجورة»، من غير أن تأتي في أي موضع منها بما يدفع إلى الافتراض
أنه قد كان يقوم في هذا الموضع بناء برتغالي أو أي [شيء يحمل] اسماً
برتغالياً. كما أننا نلاقي هذا الاسم نفسه [كراندو] في موضع آخر على الأقل
من المغرب، وذلك بحوض وادي زيز. فهنالك موضع يحمل الاسم نفسه، ما لم يكن هو
الموضع نفسه المراد بهذا الاسم [في سواه]؛ نريد الموضع الذي يقال له
كرانطة؛ حيث نزل عبد المومن في سنة 533هـ/1138-1139م، وقد كان، حسبما
يفيدنا ابن الأثير، جبلاً وارف الأشجار يشرف على سهل قفر من نبات. فأما
السهل الخالي من النبات فالمرجح أن يكون هو سهل الرحامنة، وأن الجبل هو جبل
«فطناسة» من قبل أن تعمره الأشجار، مثلما سبق لنا أن دفعنا بمثل هذا
الاحتمال في ما يختص بالجبل الأخضر.
فإذا صح أن اسم كراندو ليس
برتغالياً، فلقد رأينا كذلك أن ذلك البناء ليس هو الآخر ببرتغالي. ومع ذلك
فالشائع في الأذهان أن كراندو أنشأه البرتغاليون في القرن السادس عشر.
لكن
الفقرة التي سبق لنا أن استشهدنا بها للمؤلف البرتغالي المجهول تفيد نسبة
هذا الموضع إلى البرتغاليين. والرحالة الذين ذهبوا هذا المذهب في حديثهم عن
كراندو إنما أضلهم ما كانوا يسمعون من أفواه الأهالي، هم الذين يجمعون في
الحوز على رد سائر البنايات القديمة إلى الرتغاليين. وبطبيعة الحال فقد نسج
الأهالي من حول أطلال كراندو، كما نسجوا من حول كل ما اتفق لهم من أطلال
ومن خرائب، جملة من الخرافات والأساطير. فلم نعدم من يقول إنه قد كانت
هنالك مسالك من تحت ذلك الجبل، وهو شيء لن يستغرب له جماعة الفولكلور، لكن
ما يزيدنا استغراباً على استغراب أن نجد بعض الرحالة يزعمون أن مرافقيهم قد
جازوا تلك الهضبة من خلال تلك الممرات الأرضية، بل إن منهم من أوشك فيها
يضيع.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 17 -
التجار المسلمون يقبلون بكثرة على أسواق السبت لأنهم لا يخشون فيها المنافسة من اليهود
الصهريج
(30
مارس). بدأنا مسيرنا هذا الصباح في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة.
وامتد بنا المسير في أرض مستوية. فكنا نرى سلسلة الجبيلات كيف ترتسم
خيالاتها بوضوح وسط مساء زرقاء، ومن ورائها تشكل جبال الأطلس خلفية بعيدة
بقممها التي اكتست من الثلوج حلة فضية. الأرض تغطيها تربة صوانية تسلس
للسير، وقد امتد فوقها ما يشبه البساط من أزهار السوسن البنفسجية متعددة
الأشكال. ثم لم يكد يمضي علينا نصف ساعة حتى جئنا إلى «الصهريج» الذي يسمه
مرافقونا «الشَّريج»، وهو دشر من حوالي أربعين نوالة، ويتميز باشتماله على
خزان جميل مقبب («الصهريج» في العربية معناه «الخزان»)، لكنه صهريج لا
ينقصه إلا الماء. وبطبيعة الحال فإن هذا المورد الذي يمكن عند الحاجة أن
يفي بتوريد قطيع من خمسمائة من البهائم، لا يلقى عناية، وربما يكون اعتورته
الشقوق فما عاد للماء أن يتجمع فيه.
حب السهول
واصلنا
مسيرنا في ذلك السهل الذي يعرف عندهم في هذا الموضع باسم «البحيرة»، علماً
بأن هذا الاسم يقتصرون به على الأقسام الواقعة إلى الشرق من الناحية التي
نجتازها الآن، وهي تشكل في سفوح الجبيلات منخفضاً حقيقياً، فالماء يتجمع
فيه خلال فصل الشتاء. إن هذا اليوم هو أجمل ما شهدنا إلى الآن من أيام
الربيع في هذه البلاد؛ وينبغي للمرء أن يكون قد جال في هذه السهول الشاسعة
المترامية لكي يدرك الشعور الممتع بالهناء والحرية الذي يجده الرحالة
المتجول على صهوة حصانه في هذا المجال الممتع إلا ما لانهاية. وإن هذا لهو
مصدر الولع الذي نراه من ضباط وموظفين كثر من الجزائر بالخلاءات الشاسعة
المترامية في الهضاب العليا وفي الصحراء، وهو المفسر كذلك لتلك الذكريات
الجميلة التي احتفظوا بها من تجوالاتهم في تلك الأنحاء. فكأنك تسمعهم
جميعاً ولسان حالهم أن الشعور بالحرية الذي يبعثه في النفس هذا المجال
الفارغ والوضاء لهو من أجمل المشاعر التي يمكن أن تتفق للإنسان على وجه
الإطلاق.
تتشكل طريقنا الآن من خمسين سبيلاً صغيرة؛ فهي تتقاطع في شبكة
كأنها المتاهة، تتخللها فواصل مخضرة يزينها السوسن بتويجاته
البنفسجية وتلقي عليها نوارة الكحيلة ذات التويجات الداكنة الموسومة
بالأسود حاشية بديعة. الأرض يكسوها رمل غليظ مستوٍ فكنت أجد متعة لسماع
هسيس ذلك الحصى إذ تصطك بها حوافر الحصان. وقد كنت لدى أول مروري بهذه
الطريق لا أفتأ أفكر كم ستكون مواتية لعبور الجنود. لم نكن قد بدأنا يومها
في التفكير في التعاون مع المخزن، ولا كنا نرى ضرورة للعمل بمبدإ الاختراق
السلمي، وهو الأمر الذي صرنا بعدئذ إلى الاقتناع به من كثرة ما قمنا له نحن
أنفسنا بالدعم والمساندة.
أشجار السدر
تراءت لنا عن مسافة بعيدة في
ذلك السهل سدرة كبيرة، ومن نافل القول إنها تقوم لديهم مقام الولي. ثم
تراءت لنا دزينة من تلك الأشجار الكثيرة الفروع والأغصان؛ إنه شجر مقدس.
وتوجد في ذلك الموضع حويطة وكركور وشلاليك، وهي كلها أشياء تقوم تمثيلاً
للأولياء. وقد رأينا أشجار السدر لا تزال من غير أوراق وما يشبه الرتم
يتسلق أغصانها ويمد خلالها باقات من أوراقه الشبيهة بالأسل. وإن هذه
السدرات القصيرة لهي أعز ما يطلب الرحالة الباحث في هذه البلاد عن شيء من
الظل، وفي ما عدا أشجار التين والصبار التي رأيناها في السميرة يشكل السدر
النبات الوحيد في هذه الناحية. غير أنك لا تعدم فيها كذلك زراعة الشعير،
وما هي بالقليلة، وقد نصبوا فيها الفزاعات والأطفال يظلون طوال النهار
يركضون خلالها متصايحين لإبعاد الطيور التي تهجم زرافات على تلك الزراعات.
وتتخلل تلك الناحية عدة «غدران»، فالنسوة يأتينها لغسل الأصواف، وتدلنا تلك
الغدران على أن أرض هذه البلاد أكثر رواء وأنها لابد أن تحمل بعض
الزراعات. وها نحن الآن قد جئنا إلى «السوينية»، في سفوح الجبيلات، حيث
ضريح سيدي أحمد [بن] الفضيل الذي يدلنا على مدخل المضيق الذي منه سنجوز تلك
السلسلة الجبلية الصغيرة.
-2بلاد الرحامنة
لقد
سبق لنا أن جئنا بعرض للتكوين التضاريسي لسطحي الهضبة الأطلنتية الجنوبية
حسب ما ورد عند كل من بريف وفيشر. وسنرسم ههنا، على سبيل إضفاء جانب من
التصوير على حديثنا، المسار من القلعة إلى كراندو، وهو المسار الذي سلكناه
في سنة 1902 والذي يصل بين طرفيّ بلاد الرحامنة.
(13 أكتوبر 1902). سرنا
لأربع ساعات في مسير قد غددنا فيه الخطى، لنصل في الصباح الباكر إلى سوق
الإثنين الذي ينعقد على مقربة من دوار أولاد إبراهيم لدى بني حسن، إحدى
فخدات قبيلة البرابش. والغالب عند الناس أنهم يسمون هذا الدوار، وأحرى أن
نقول دشر، لأنه يكاد لا يوجد فيه غير النوايل، [دوار] سيدي أحمد بن
الجيلالي، وهو اسم قايد كان قد تعرض للعزل، وهو ينحدر من هذا الدوار ويعتبر
إحدى أهم الشخصيات في هذا التجمع السكني. وقد كان حُبس لسنتين، ثم عاد بعد
ذلك إلى موطنه فصار فيه يتمتع بنفوذ كبير.
القشرة الكلسية
لاشك
أن هذه الطريق التي سلكناها هذا الصباح تكون مخضرة في فصل الصيف؛ فلا نزال
تطالعنا فيها بعض الزراعات من حول القلعة. فإذا ابتعدنا قليلاً وجدنا
القشرة الجيرية تغطي التربة فتقتل فيها منابع الخصوبة. وقد ذكر بريف أنه لو
كان هنالك فلاحون أكثر نشاطاً وأكثر نباهة من الأهالي لأمكن لهم أن ينشئوا
زراعات لا يستهان بها في هذه الأراضي. غير أن الأهالي لم يفتهم مع ذلك أن
يتنبهوا إلى المياه فهم يجمعون جداولها عند الموضع من الأرض التي يبتغون
فلاحته، فأمكن لهم أن يغمروا بتلك المياه سطح الأرض فيسهل فيها مرور
المحراث. بيد أن هذا الفضاء الشاسع الممتد بين السراغنة والرحامنة والذي
اجتزناه هذا الصباح قد وجدناه أشبه بالفارغ. وكذلك هو الشأن في سائر
المناطق من المغرب الواقعة على حدود القبائل والتجمعات السكنية الكبيرة؛
فتلك مناطق تكون في عمومها قليلة حظ من الأمن وكثيرة المخاطر على الرحالة
والمسافرين.
دوار من الرحامنة
نصبنا
خيمتنا بين السوق والدشر، على مقربة من الطريق التي تقود من هذا الأخير
إلى إحدى الآبار. إن هذه النظام الذي أعده معالي سي علال بطريقة ماكيافيلية
قد مكن لنا أن نخوض في الحديث مع عدد من النساء من [دوار] أولاد إبراهيم
قد خرجن لسقي الماء، فتجاسرن بغياب الرجال الذين ذهبوا كلهم أو جلهم إلى
السوق، فلم يترددن في إشباع فضولهن الطبيعي بالتوقف لبرهة أمام خيمتنا. غير
أنهن لم ينتبهن تحت الخيمة إلى آلة التصوير التي أخفيناها بكل دهاء ببعض
البهارج فكانت تلتقط الصور من غير أن يُسمع له صوت. فقد التقطت صوراً فورية
لفتيات وعجائز، من دون أن تفسدها حشود الأطفال الرحمانيين المتحلقين من
حولنا. وزارنا كذلك «فقيه» الدوار، وهو شخص غير مود ينظر إلى الناس نظرة
ازدراء وينغلق بنفسه في علومه. وقد بادرنا إلى نفحه بالقطعة البيضاء التي
جاء متلهفاً إليها لكي نتخلص منه ومن حذلقته. وكذلك جاء لزيارتنا ابن
القايد المخلوع، وهو شخص لا يعدم تميزاً وجاذبية. ولقد أرسِل إلينا عساه
يظفر منا بأخبار بشأن ما كان يجري في مراكش. والحقيقة أن الرحامنة كانوا
جميعاً في شدة تأثر لوفاة قائدهم القوي عبد الحميد، الذي كان في الوقت نفسه
باشا على مدينة مراكش، فكانوا مترقبين لما يستجد من أحداث. وقد وجدنا
هؤلاء الرحامنة أناساً متحفظين، لكن حفيين مرحبين على وجه الإجمال.
البحيرة
(13
أكتوبر). انطلقنا في الساعة الخامسة وخمسة وأربعين دقيقة، وسرعان وجدنا
أنفسنا نسير وسط «البحيرة». وهم يطلقون اسم «البحيرة» على السهول شديدة
الانبساط التي تغمرها المياه في فصل الشتاء. وتتشكل البحيرة في الحوز من
منخفض من نحو 20 كيلومتراً طولاً وكيلومترين اثنين إلى ثلاثة عرضاً، وهي
تمتد في سفوح الجبيلات على منخفض قد نجم، حسب ما يفيدنا بريف، عن قعيرة
سويسرية. والموضع الذي يلبث فيه الماء أكثر مما في غيره يسمونه «المسجول».
وهو الموضع الذي نجتازه في هذا الصباح، ولكننا وجدناه جافاً لاأثر فيه
لماء، إذ الوقت الآن أواخر فصل الصيف. إنها أرض شديدة الملوحة تغطيها
عفونات ضاربة لوناً إلى البياض، فهي أرض عقيم لا يطلع فيها غير الأشنان.
فإذا كان فصل الشتاء تجمع فيها الماء؛ فقد رآها بريف خلال شهر دجنبر تجمع
فيها من المياه بعلو 30 سنتيمتراً، بما جعل اجتيازها أمراً شاقاً عسيراً.
ولاحاجة إلى القول إن جنبات هذا «المسجول» تأتيها القطعان الكثيرة من
الأغنام لترد منها، فهي لذلك تكون بحق أغناماً ظاهرة السمنة. ثم إننا نوجد
الآن في بلاد الرحامنة، لأن القسم الأكبر من بلاد الرحامنة، خاصة نواحي بني
مسكين ونواحي أم الربيع، تكونها «خلاءات» مترامية ترعى فيها القطعان
العظيمة من الأغنام.
وما أن خرجنا من البحيرة حتى دخلنا «الغابة». وهي
تتكون من أشجار سدر تتراوح ارتفاعاً بين مترين وثلاثة أمتار وفي صورة تسر
الناظر. ومن اليسير علينا أن نتصور الحلة القشيبة التي تلبسها هذه الناحية
في فصليّ الشتاء والربيع، بما يعمها من الخضرة فوق ما نرى فيها الآن. وتشكل
الغابة، حسب ما يفيدنا بريف كذلك، نقطة التقاء واتصال بين التربتين
المتشكلتين في العصر الثلاثي والعصر القديم والتي سبق أن تناولناهما
بالحديث. ثم إن هذه الغابة ليست بالكبيرة، إذ لم نستغرق في اجتيازها ثلاثة
أرباع الساعة، جئنا بعدها، في الساعة السابعة وثلاثين دقيقة، إلى «نزالة
الغابة». فما عاد يطالعنا في تلك الناحية غير بعض أشجار السدر الصغيرة
والنحيلة والمتباعدة، وسرعان ما اختفى حتى ذلك السدر الهزيل.
الهضبة الهرسينية
ها
نحن الآن نجوس مترجلين في الأراضي القديمة من السلسلة الهرسينية القديمة،
فأصبحت الأرض يكسوها حجر الصوان، والحصى الدقيق نفسه الذي سبق لنا أن
رأيناه على الطريق من الجديدة إلى مراكش ها هو يطالعنا في سهل السميرة،
ومعظمه من حُتات الكوارتز الناجم عن تفتت الصخور البركانية وهي فيه كثيرة
كثيرة. وستظل الأرض على تلك الصورة لن تتبدل عنها حتى إلى كراندو.
ولاحاجة
بنا إلى القول إن منطقة هذا شأنها تكون قاحلة ماحلة، فحيثما تضرب فيها لا
تكاد تلاقي إلا بعض الزراعات الفقيرة تقوم على فواصل بعيدة جداً بإزاء عين
للماء. غير أننا يغلب علينا الاعتقاد أن هذه الهضبة الشاسعة التي نراها
الآن في غاية الجدب والإيحاش تكون يملؤها العشب في الفصل الرطيب. وفي
الساعة الثامنة وخمس وعشرين دقيقة جئنا إلى نزالة بن محمد، وساعة بعدها
مررنا بإزاء شعفة صخرية تتخللها في سائر أنحائها سلسلة من الصخور يسمونها
«الحجر البارك» [Hajer barek]، ومعناها «الحجر الراقد» [كذا!]، وهي تبدو في
صورة غريبة قمينة بأن تحرك خيالات الأهالي بلاحدود. لقد تركنا على ميمنتنا
الكنطور الذي تحدثنا عنه في ما سلف من هذا الكتاب. ثم مررنا بإزاء قرية
للأولياء سليلي سيدي عبد الرحمان، وجئنا في الساعة العاشرة إلى بن جرير.
بن جرير
يستمد
هذا المكان شهرته من القباب الخمس التي تنتصب فيه على مقربة من القرية،
وهي قبة سيدي عبد الرحمان وقبة سيدي بن عزوز وقبة سيدي أحمد بناصر وقبة
سيدي أحمد المراكشي وقبة سيدي أحمد بن عبد الصادق. وهي قباب بديعة كثيرة
النقوش تزينها زخارف حمراء جميلة، وهي تشكل مجموعة غريبة في هذه البلاد
الماحلة الموحشة. وعلى مقربة من هذا المكان توجد عدة آبار يقصدها الناس من
الأماكن البعيدة لسقي الماء لمواشيهم. وبن جرير تشكل نقطة التقاء هامة من
الناحية العسكرية والناحية التجارية والناحية الاجتماعية.
في الساعة
الواحدة وخمس وأربعين دقيقة تركنا بن جرير، وسرنا نضرب في أرض من الطبيعة
نفسها، بله أقسى وأشد، لو أمكن أن يكون ما يفوقها قسوة وشدة. فهي أرض
متحجرة قفر خلاء يعمرها حجر الصوان فتسمع له تحت أقدامنا صريراً وصريفاً.
ثم لا يقع ناظرك في هذا المجال على أثر لخضرة، وليس غير الشعف الصخرية
الرتيبة. ثم صرنا نقترب من قمم جبل أوزرن الذي كنا نراه منذ اليوم الذي
قبلُ، ثم صرنا نعبره بعد أن مررنا بجماعة الطوالب التي تقوم في سفحه.
والسفح الآخر لا يختلف في شيء عن السفح الذي اجتزناه؛ فهو على قدره خشونة
وتحجراً. فما أسرع ما تفسد حذوات الدواب من السير في مثل هذه الأرض، ولا
نأمن عليها العواقب أن ندعها تخب فيها بالحوافر المجردة. ولم نجد بداً في
الساعة الثالثة وخمس عشرة دقيقة من التوقف في قرية بن الجيلالي لثلاث أرباع
الساعة عسانا نقع فيها على مصفح بعد أن فقدت اثنتان من دوابنا حدواتهما.
ثم جئنا نصف ساعة بعدُ إلى القبتين التوأمين لسيدي امحمَّد وسيدي امحمَّد
الجراري. وقد رأينا هنالك منخفضاً صغيراً به عين سرعان ما يختفي ماءؤها في
أحد الأودية، كما طالعتنا بعض الزراعات القليلة في القرية المسماة
البريكيين، ولاحت لأنظارنا كذلك سوق السبت. وسنلاحظ أن الأسواق التي تنعقد
أيام السبت يكثر عليها إقبال الناس في الحوز. غير أنها لا تكون بالمواتية
للأهالي لاعتبارات عديدة بقدر ما تواتي التجار منهم؛ ذلك بأن اليهود الذين
يكاد يعود إليهم وحدهم احتكار عدد من السلع لا يحضرون الأسواق التي تنعقد
في ذلك اليوم. فترى التجار المسلمين يقبلون بكثرة على أسواق السبت لا يخشون
فيها منافسة.
(15 أكتوبر). تركنا سوق السبت في الساعة السادسة وأربعين
دقيقة، وعدنا إلى مواصلة مسيرنا الشاق الطويل خلال أحجار النضيد والسماق
والصوان القديمة. ثم إذا الأرض قد صارت شديدة الوعورة، لكن المياه غدت أوفر
مما رأينا في الأيام التي قبلُ. وطالعتنا في أنحاء من تلك المنطقة بعض
الأراضي الصغيرة قد طلعت فيها سيقان الشعير. ورأينا بعض المنخفضات بها عيون
من الماء يحف بها الأسل والقصب، وتلك أشياء يندر أن تراها في بلاد
الرحامنة. وفي الساعة السابعة والنصف أو نحوها جئنا إلى روضة صغيرة غناء
يقال لها «عين البريدية»، وهو الاسم نفسه الذي تعرف به العين التي تسقي
القسم الأعظم من مدينة وهران، والمساة «البريدية».
في هذا الموضع مبتدأ
القمم الصغيرة في جبل الشويخان التي جعلنا نجوس خلالها في عسر ومشقة. ثم
أخذت الدواوير تتكاثر دلالة على أننا نقترب من دكالة. ففي الساعة الثامنة
وخمس عشرة دقيقة جئنا إلى دوار أولاد ناجي. ونصف ساعة بعدُ مررنا على مقربة
من دوارين؛ واحد منهما هو دوار محمد الشاوي، ورأينا تلك الناحية قد امتلأت
عشباً أخضر يانعاً قد طلع كما لو بسحر ساحر غب الأمطار التي تساقطت عليها
ثمانية أيام قبلُ. ورأينا أزهار النرجس البيضاء البديعة، المسماة عندهم
«رنجس»، برائحتها الذكية المميزة تكنف جنبات الطريق بتويجاتها المتفتحة
الجميلة، وتخللت ذلك النرجس نثارات بنفسجية؛ تلك هي زهرة الخريف قد طلعت في
تلك الأرض الصلصالية.
ثم صارت الزراعات إلى تكاثر بالتدريج، وأخذ يطرق
أسماعنا خرير المياه في بعض العيون الصغيرة المتفرقة في هذه الناحية. فنحن
الآن في بلاد الرحامنة وهي بحق أكثر مناطق هذه البلاد ماء. ولكن على الرغم
من ذلك فإن تربتها من طبيعة صوانية، بما [يحرمها الفلاحة و] يجعل تربية
الماشية هي المورد الوحيد والمهم لعيش السكان. وبعد أن لبثنا ساعتين نضرب
في الثنيات الكثيرة والرتيبة المتخللة جبل الشويخان، ها نحن قد جئنا إلى
سفح مرتفع صخري كبير لم نعد نتذكر اسمه. وهنالك رأينا على مقربة من أحد
الدشور سبع حويطات وبإزاء كل واحدة منها مقبرة صغيرة. ويسمى عندهم هذا
الموضع «سبع رواضي»، أي سبع مقابر. ومن المؤكد أن هذا المكان يضم تجمعاً
للأولياء، على غرار «سبعة رجال» في مراكش، والذين سنعود إليهم بالحديث في
ما يقبل من هذا الكتاب. ولو أن الوقت أسعفنا بالتوقف في هذا المكان فلاشك
أننا كنا سنسمع من أفواه أهله بعض الأساطير، لولا أننا كنا في شدة عجلة.
فاجتزنا ذلك المرتفع الصخري. ثم لاح لأنظارنا دوار آخر، فمرتفع آخر، وإذا
البلاد قد صارت تعمرها الزراعات. ثم طالعتنا من بعيد قصبة كبيرة ناحية
اليمين، ثم إذا الطريق قد صارت تمتلئ بالسابلة، وصارت الوجوه غير الوجوه؛
فقد خرجنا من بلاد إلى أخرى؛ ونحن الآن في دكالة. وفي حوالي الساعة الحادية
عشرة تبدت لنا بعد لأي «كدية» كراندو والأطلال الشهيرة المشرفة عليها
والتي يقال إنها تعود إلى البرتغاليين.
إن المسار الذي جئنا له بهذا
التصوير المقتضب يحيط بالقسم الأكبر من الرحامنة كما نعرفهم اليوم، وأما
مجالهم الترابي فإنه يمتد كثيراً إلى الجنوب، فيشمل الجبيلات ويصل حتى
مشارف مدينة مراكش.
-3الرحامنة
يطلق
اسم «الرحامنة» على أعراق عديدة استوطنت سائر مناطق شمال إفريقيا، وهو اسم
علم عربي بصيغه جمع. ومن قبيل ذلك أننا نجدهن في الجزائر يقولون داودة من
داود ويقولون المناصر من منصور ويقولون الغنانم من غنام، إلخ... وفي المغرب
يقولون الرحامنة من عبد الرحمان ويقولون المناصرة من منصور ويقولون
الرواشد من راشد... ثم إن هذه الطريقة في التسمية ليست مقصورة على التجمعات
الكبرى من الناس، فإنك تجد حتى الدشور والدواوير لها أسماء من قبيل
الغوانم والنواصر والفوارس، وهي مشتقة بطبيعة الحال من غانم وناصر وفارس.
ومعظم الأهالي يقولون في تفسير اسم الرحامنة إنه من جدهم المسمى عبد
الرحمان...إلخ.، غير أن هذا التفسير لا يتفق والتصور الذي كوناه عن
المجموعات الاجتماعية في هذه البلدان. فلا يمكننا القبول بأن قبائل
الرحامنة تعود بنسبها جميعاً إلى جد واحد. ويجدر بالملاحظة أن فكرة القرابة
وفكرة السيادة كانتا عند البدائيين شيئين شديدي التداخل، ولذلك وجب
التسليم بأن المجموعة البدائية الرحامنة التي صارت في ما بعد إلى تنام
واتساع، سواء بتكاثرها الطبيعي أو بانضياف عناصر جديدة إليها، قد كان لها
في وقت من الأوقات زعيم يسمى عبد الرحمان، وأنه قد صارت تعرف منذئذ بهذا
الاسم. فإن من العادات الشائعة عند الأقوام البدائية والهمجية أنهم يسمون
القبيلة أو الفخدة باسم قائدها أو زعيمها. ومن المألوف كذلك في منطقة شمال
إفريقيا نفسها أن تجد الدوار أو الدشر يتسمى باسم الوليّ فيه، وهذا شيء
رأينا له أمثلة عديدة في الصفحات السابقة.
أصل الرحامنة
لم
يكن الرحامنة يستوطنون في مبتدئهم المجال حيث يوجدون اليوم. فقد كنت حتى
القرن السادس عشر لا ترى لهم بعد وجوداً في هذا المكان. والموضع حيث
مستقرهم الحالي كان يدخل في المجال الواسع الذي تشغله هسكورة، وهي قبائل
بربرية تنتسب إلى مصمودة، وكانت تشغل مجالاً ترابياً يمتد حتى سفوح الأطلس
الكبير، ولا يزال لها فيه وجود إلى اليوم. وما كان الرحامنة في ذلك الوقت
يزيدون عن فخدة من ذوي حسان التي كانت تتنقل بين سوس ودرعة والصحراء. وما
كان نزولهم، ويحتمل أن يكون بأمر من أحد السلاطين، في المناطق حيث هم اليوم
إلا في وقت لاحق. ويجدر بالذكر أن ذوي حسان هؤلاء من أصول عربية، وهذا
يرجح أن يكون الرحامنة كذلك من العرب. والواقع أنهم يتصفون بكثير من
الخصائص التي تنسب، إن صواباً وإن خطأ، إلى الإنسان العربي في منطقة شمال
إفريقيا. فطبعهم الفروسي وما يتصفون به من صراحة ومضايفة كلها صفات تتوافق
وما شاع الاتفاق على أنها خصائص وصفات الطبع العربي. كما أن لغتهم هي
العربية وحدها، وهم في المقام الأول رعاة. لكن لا يبعد أن يكون الرحامنة
تعرضوا لتأثيرات بربرية كثيرة، وهو شيء نلمس له سمات في كلامهم. والمحصل
أننا نذهب إلى الاعتقاد أنهم قد خلفوا بكل تأكيد البربر الذين كانوا يشغلون
المجال حيث هم اليوم. ولربما ذهبنا إلى الاعتقاد كذلك أنهم اختلطوا بهم
إلى أن صاروا يحتوونهم بوجه من الوجوه.
التجار المسلمون يقبلون بكثرة على أسواق السبت لأنهم لا يخشون فيها المنافسة من اليهود
الصهريج
(30
مارس). بدأنا مسيرنا هذا الصباح في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة.
وامتد بنا المسير في أرض مستوية. فكنا نرى سلسلة الجبيلات كيف ترتسم
خيالاتها بوضوح وسط مساء زرقاء، ومن ورائها تشكل جبال الأطلس خلفية بعيدة
بقممها التي اكتست من الثلوج حلة فضية. الأرض تغطيها تربة صوانية تسلس
للسير، وقد امتد فوقها ما يشبه البساط من أزهار السوسن البنفسجية متعددة
الأشكال. ثم لم يكد يمضي علينا نصف ساعة حتى جئنا إلى «الصهريج» الذي يسمه
مرافقونا «الشَّريج»، وهو دشر من حوالي أربعين نوالة، ويتميز باشتماله على
خزان جميل مقبب («الصهريج» في العربية معناه «الخزان»)، لكنه صهريج لا
ينقصه إلا الماء. وبطبيعة الحال فإن هذا المورد الذي يمكن عند الحاجة أن
يفي بتوريد قطيع من خمسمائة من البهائم، لا يلقى عناية، وربما يكون اعتورته
الشقوق فما عاد للماء أن يتجمع فيه.
حب السهول
واصلنا
مسيرنا في ذلك السهل الذي يعرف عندهم في هذا الموضع باسم «البحيرة»، علماً
بأن هذا الاسم يقتصرون به على الأقسام الواقعة إلى الشرق من الناحية التي
نجتازها الآن، وهي تشكل في سفوح الجبيلات منخفضاً حقيقياً، فالماء يتجمع
فيه خلال فصل الشتاء. إن هذا اليوم هو أجمل ما شهدنا إلى الآن من أيام
الربيع في هذه البلاد؛ وينبغي للمرء أن يكون قد جال في هذه السهول الشاسعة
المترامية لكي يدرك الشعور الممتع بالهناء والحرية الذي يجده الرحالة
المتجول على صهوة حصانه في هذا المجال الممتع إلا ما لانهاية. وإن هذا لهو
مصدر الولع الذي نراه من ضباط وموظفين كثر من الجزائر بالخلاءات الشاسعة
المترامية في الهضاب العليا وفي الصحراء، وهو المفسر كذلك لتلك الذكريات
الجميلة التي احتفظوا بها من تجوالاتهم في تلك الأنحاء. فكأنك تسمعهم
جميعاً ولسان حالهم أن الشعور بالحرية الذي يبعثه في النفس هذا المجال
الفارغ والوضاء لهو من أجمل المشاعر التي يمكن أن تتفق للإنسان على وجه
الإطلاق.
تتشكل طريقنا الآن من خمسين سبيلاً صغيرة؛ فهي تتقاطع في شبكة
كأنها المتاهة، تتخللها فواصل مخضرة يزينها السوسن بتويجاته
البنفسجية وتلقي عليها نوارة الكحيلة ذات التويجات الداكنة الموسومة
بالأسود حاشية بديعة. الأرض يكسوها رمل غليظ مستوٍ فكنت أجد متعة لسماع
هسيس ذلك الحصى إذ تصطك بها حوافر الحصان. وقد كنت لدى أول مروري بهذه
الطريق لا أفتأ أفكر كم ستكون مواتية لعبور الجنود. لم نكن قد بدأنا يومها
في التفكير في التعاون مع المخزن، ولا كنا نرى ضرورة للعمل بمبدإ الاختراق
السلمي، وهو الأمر الذي صرنا بعدئذ إلى الاقتناع به من كثرة ما قمنا له نحن
أنفسنا بالدعم والمساندة.
أشجار السدر
تراءت لنا عن مسافة بعيدة في
ذلك السهل سدرة كبيرة، ومن نافل القول إنها تقوم لديهم مقام الولي. ثم
تراءت لنا دزينة من تلك الأشجار الكثيرة الفروع والأغصان؛ إنه شجر مقدس.
وتوجد في ذلك الموضع حويطة وكركور وشلاليك، وهي كلها أشياء تقوم تمثيلاً
للأولياء. وقد رأينا أشجار السدر لا تزال من غير أوراق وما يشبه الرتم
يتسلق أغصانها ويمد خلالها باقات من أوراقه الشبيهة بالأسل. وإن هذه
السدرات القصيرة لهي أعز ما يطلب الرحالة الباحث في هذه البلاد عن شيء من
الظل، وفي ما عدا أشجار التين والصبار التي رأيناها في السميرة يشكل السدر
النبات الوحيد في هذه الناحية. غير أنك لا تعدم فيها كذلك زراعة الشعير،
وما هي بالقليلة، وقد نصبوا فيها الفزاعات والأطفال يظلون طوال النهار
يركضون خلالها متصايحين لإبعاد الطيور التي تهجم زرافات على تلك الزراعات.
وتتخلل تلك الناحية عدة «غدران»، فالنسوة يأتينها لغسل الأصواف، وتدلنا تلك
الغدران على أن أرض هذه البلاد أكثر رواء وأنها لابد أن تحمل بعض
الزراعات. وها نحن الآن قد جئنا إلى «السوينية»، في سفوح الجبيلات، حيث
ضريح سيدي أحمد [بن] الفضيل الذي يدلنا على مدخل المضيق الذي منه سنجوز تلك
السلسلة الجبلية الصغيرة.
-2بلاد الرحامنة
لقد
سبق لنا أن جئنا بعرض للتكوين التضاريسي لسطحي الهضبة الأطلنتية الجنوبية
حسب ما ورد عند كل من بريف وفيشر. وسنرسم ههنا، على سبيل إضفاء جانب من
التصوير على حديثنا، المسار من القلعة إلى كراندو، وهو المسار الذي سلكناه
في سنة 1902 والذي يصل بين طرفيّ بلاد الرحامنة.
(13 أكتوبر 1902). سرنا
لأربع ساعات في مسير قد غددنا فيه الخطى، لنصل في الصباح الباكر إلى سوق
الإثنين الذي ينعقد على مقربة من دوار أولاد إبراهيم لدى بني حسن، إحدى
فخدات قبيلة البرابش. والغالب عند الناس أنهم يسمون هذا الدوار، وأحرى أن
نقول دشر، لأنه يكاد لا يوجد فيه غير النوايل، [دوار] سيدي أحمد بن
الجيلالي، وهو اسم قايد كان قد تعرض للعزل، وهو ينحدر من هذا الدوار ويعتبر
إحدى أهم الشخصيات في هذا التجمع السكني. وقد كان حُبس لسنتين، ثم عاد بعد
ذلك إلى موطنه فصار فيه يتمتع بنفوذ كبير.
القشرة الكلسية
لاشك
أن هذه الطريق التي سلكناها هذا الصباح تكون مخضرة في فصل الصيف؛ فلا نزال
تطالعنا فيها بعض الزراعات من حول القلعة. فإذا ابتعدنا قليلاً وجدنا
القشرة الجيرية تغطي التربة فتقتل فيها منابع الخصوبة. وقد ذكر بريف أنه لو
كان هنالك فلاحون أكثر نشاطاً وأكثر نباهة من الأهالي لأمكن لهم أن ينشئوا
زراعات لا يستهان بها في هذه الأراضي. غير أن الأهالي لم يفتهم مع ذلك أن
يتنبهوا إلى المياه فهم يجمعون جداولها عند الموضع من الأرض التي يبتغون
فلاحته، فأمكن لهم أن يغمروا بتلك المياه سطح الأرض فيسهل فيها مرور
المحراث. بيد أن هذا الفضاء الشاسع الممتد بين السراغنة والرحامنة والذي
اجتزناه هذا الصباح قد وجدناه أشبه بالفارغ. وكذلك هو الشأن في سائر
المناطق من المغرب الواقعة على حدود القبائل والتجمعات السكنية الكبيرة؛
فتلك مناطق تكون في عمومها قليلة حظ من الأمن وكثيرة المخاطر على الرحالة
والمسافرين.
دوار من الرحامنة
نصبنا
خيمتنا بين السوق والدشر، على مقربة من الطريق التي تقود من هذا الأخير
إلى إحدى الآبار. إن هذه النظام الذي أعده معالي سي علال بطريقة ماكيافيلية
قد مكن لنا أن نخوض في الحديث مع عدد من النساء من [دوار] أولاد إبراهيم
قد خرجن لسقي الماء، فتجاسرن بغياب الرجال الذين ذهبوا كلهم أو جلهم إلى
السوق، فلم يترددن في إشباع فضولهن الطبيعي بالتوقف لبرهة أمام خيمتنا. غير
أنهن لم ينتبهن تحت الخيمة إلى آلة التصوير التي أخفيناها بكل دهاء ببعض
البهارج فكانت تلتقط الصور من غير أن يُسمع له صوت. فقد التقطت صوراً فورية
لفتيات وعجائز، من دون أن تفسدها حشود الأطفال الرحمانيين المتحلقين من
حولنا. وزارنا كذلك «فقيه» الدوار، وهو شخص غير مود ينظر إلى الناس نظرة
ازدراء وينغلق بنفسه في علومه. وقد بادرنا إلى نفحه بالقطعة البيضاء التي
جاء متلهفاً إليها لكي نتخلص منه ومن حذلقته. وكذلك جاء لزيارتنا ابن
القايد المخلوع، وهو شخص لا يعدم تميزاً وجاذبية. ولقد أرسِل إلينا عساه
يظفر منا بأخبار بشأن ما كان يجري في مراكش. والحقيقة أن الرحامنة كانوا
جميعاً في شدة تأثر لوفاة قائدهم القوي عبد الحميد، الذي كان في الوقت نفسه
باشا على مدينة مراكش، فكانوا مترقبين لما يستجد من أحداث. وقد وجدنا
هؤلاء الرحامنة أناساً متحفظين، لكن حفيين مرحبين على وجه الإجمال.
البحيرة
(13
أكتوبر). انطلقنا في الساعة الخامسة وخمسة وأربعين دقيقة، وسرعان وجدنا
أنفسنا نسير وسط «البحيرة». وهم يطلقون اسم «البحيرة» على السهول شديدة
الانبساط التي تغمرها المياه في فصل الشتاء. وتتشكل البحيرة في الحوز من
منخفض من نحو 20 كيلومتراً طولاً وكيلومترين اثنين إلى ثلاثة عرضاً، وهي
تمتد في سفوح الجبيلات على منخفض قد نجم، حسب ما يفيدنا بريف، عن قعيرة
سويسرية. والموضع الذي يلبث فيه الماء أكثر مما في غيره يسمونه «المسجول».
وهو الموضع الذي نجتازه في هذا الصباح، ولكننا وجدناه جافاً لاأثر فيه
لماء، إذ الوقت الآن أواخر فصل الصيف. إنها أرض شديدة الملوحة تغطيها
عفونات ضاربة لوناً إلى البياض، فهي أرض عقيم لا يطلع فيها غير الأشنان.
فإذا كان فصل الشتاء تجمع فيها الماء؛ فقد رآها بريف خلال شهر دجنبر تجمع
فيها من المياه بعلو 30 سنتيمتراً، بما جعل اجتيازها أمراً شاقاً عسيراً.
ولاحاجة إلى القول إن جنبات هذا «المسجول» تأتيها القطعان الكثيرة من
الأغنام لترد منها، فهي لذلك تكون بحق أغناماً ظاهرة السمنة. ثم إننا نوجد
الآن في بلاد الرحامنة، لأن القسم الأكبر من بلاد الرحامنة، خاصة نواحي بني
مسكين ونواحي أم الربيع، تكونها «خلاءات» مترامية ترعى فيها القطعان
العظيمة من الأغنام.
وما أن خرجنا من البحيرة حتى دخلنا «الغابة». وهي
تتكون من أشجار سدر تتراوح ارتفاعاً بين مترين وثلاثة أمتار وفي صورة تسر
الناظر. ومن اليسير علينا أن نتصور الحلة القشيبة التي تلبسها هذه الناحية
في فصليّ الشتاء والربيع، بما يعمها من الخضرة فوق ما نرى فيها الآن. وتشكل
الغابة، حسب ما يفيدنا بريف كذلك، نقطة التقاء واتصال بين التربتين
المتشكلتين في العصر الثلاثي والعصر القديم والتي سبق أن تناولناهما
بالحديث. ثم إن هذه الغابة ليست بالكبيرة، إذ لم نستغرق في اجتيازها ثلاثة
أرباع الساعة، جئنا بعدها، في الساعة السابعة وثلاثين دقيقة، إلى «نزالة
الغابة». فما عاد يطالعنا في تلك الناحية غير بعض أشجار السدر الصغيرة
والنحيلة والمتباعدة، وسرعان ما اختفى حتى ذلك السدر الهزيل.
الهضبة الهرسينية
ها
نحن الآن نجوس مترجلين في الأراضي القديمة من السلسلة الهرسينية القديمة،
فأصبحت الأرض يكسوها حجر الصوان، والحصى الدقيق نفسه الذي سبق لنا أن
رأيناه على الطريق من الجديدة إلى مراكش ها هو يطالعنا في سهل السميرة،
ومعظمه من حُتات الكوارتز الناجم عن تفتت الصخور البركانية وهي فيه كثيرة
كثيرة. وستظل الأرض على تلك الصورة لن تتبدل عنها حتى إلى كراندو.
ولاحاجة
بنا إلى القول إن منطقة هذا شأنها تكون قاحلة ماحلة، فحيثما تضرب فيها لا
تكاد تلاقي إلا بعض الزراعات الفقيرة تقوم على فواصل بعيدة جداً بإزاء عين
للماء. غير أننا يغلب علينا الاعتقاد أن هذه الهضبة الشاسعة التي نراها
الآن في غاية الجدب والإيحاش تكون يملؤها العشب في الفصل الرطيب. وفي
الساعة الثامنة وخمس وعشرين دقيقة جئنا إلى نزالة بن محمد، وساعة بعدها
مررنا بإزاء شعفة صخرية تتخللها في سائر أنحائها سلسلة من الصخور يسمونها
«الحجر البارك» [Hajer barek]، ومعناها «الحجر الراقد» [كذا!]، وهي تبدو في
صورة غريبة قمينة بأن تحرك خيالات الأهالي بلاحدود. لقد تركنا على ميمنتنا
الكنطور الذي تحدثنا عنه في ما سلف من هذا الكتاب. ثم مررنا بإزاء قرية
للأولياء سليلي سيدي عبد الرحمان، وجئنا في الساعة العاشرة إلى بن جرير.
بن جرير
يستمد
هذا المكان شهرته من القباب الخمس التي تنتصب فيه على مقربة من القرية،
وهي قبة سيدي عبد الرحمان وقبة سيدي بن عزوز وقبة سيدي أحمد بناصر وقبة
سيدي أحمد المراكشي وقبة سيدي أحمد بن عبد الصادق. وهي قباب بديعة كثيرة
النقوش تزينها زخارف حمراء جميلة، وهي تشكل مجموعة غريبة في هذه البلاد
الماحلة الموحشة. وعلى مقربة من هذا المكان توجد عدة آبار يقصدها الناس من
الأماكن البعيدة لسقي الماء لمواشيهم. وبن جرير تشكل نقطة التقاء هامة من
الناحية العسكرية والناحية التجارية والناحية الاجتماعية.
في الساعة
الواحدة وخمس وأربعين دقيقة تركنا بن جرير، وسرنا نضرب في أرض من الطبيعة
نفسها، بله أقسى وأشد، لو أمكن أن يكون ما يفوقها قسوة وشدة. فهي أرض
متحجرة قفر خلاء يعمرها حجر الصوان فتسمع له تحت أقدامنا صريراً وصريفاً.
ثم لا يقع ناظرك في هذا المجال على أثر لخضرة، وليس غير الشعف الصخرية
الرتيبة. ثم صرنا نقترب من قمم جبل أوزرن الذي كنا نراه منذ اليوم الذي
قبلُ، ثم صرنا نعبره بعد أن مررنا بجماعة الطوالب التي تقوم في سفحه.
والسفح الآخر لا يختلف في شيء عن السفح الذي اجتزناه؛ فهو على قدره خشونة
وتحجراً. فما أسرع ما تفسد حذوات الدواب من السير في مثل هذه الأرض، ولا
نأمن عليها العواقب أن ندعها تخب فيها بالحوافر المجردة. ولم نجد بداً في
الساعة الثالثة وخمس عشرة دقيقة من التوقف في قرية بن الجيلالي لثلاث أرباع
الساعة عسانا نقع فيها على مصفح بعد أن فقدت اثنتان من دوابنا حدواتهما.
ثم جئنا نصف ساعة بعدُ إلى القبتين التوأمين لسيدي امحمَّد وسيدي امحمَّد
الجراري. وقد رأينا هنالك منخفضاً صغيراً به عين سرعان ما يختفي ماءؤها في
أحد الأودية، كما طالعتنا بعض الزراعات القليلة في القرية المسماة
البريكيين، ولاحت لأنظارنا كذلك سوق السبت. وسنلاحظ أن الأسواق التي تنعقد
أيام السبت يكثر عليها إقبال الناس في الحوز. غير أنها لا تكون بالمواتية
للأهالي لاعتبارات عديدة بقدر ما تواتي التجار منهم؛ ذلك بأن اليهود الذين
يكاد يعود إليهم وحدهم احتكار عدد من السلع لا يحضرون الأسواق التي تنعقد
في ذلك اليوم. فترى التجار المسلمين يقبلون بكثرة على أسواق السبت لا يخشون
فيها منافسة.
(15 أكتوبر). تركنا سوق السبت في الساعة السادسة وأربعين
دقيقة، وعدنا إلى مواصلة مسيرنا الشاق الطويل خلال أحجار النضيد والسماق
والصوان القديمة. ثم إذا الأرض قد صارت شديدة الوعورة، لكن المياه غدت أوفر
مما رأينا في الأيام التي قبلُ. وطالعتنا في أنحاء من تلك المنطقة بعض
الأراضي الصغيرة قد طلعت فيها سيقان الشعير. ورأينا بعض المنخفضات بها عيون
من الماء يحف بها الأسل والقصب، وتلك أشياء يندر أن تراها في بلاد
الرحامنة. وفي الساعة السابعة والنصف أو نحوها جئنا إلى روضة صغيرة غناء
يقال لها «عين البريدية»، وهو الاسم نفسه الذي تعرف به العين التي تسقي
القسم الأعظم من مدينة وهران، والمساة «البريدية».
في هذا الموضع مبتدأ
القمم الصغيرة في جبل الشويخان التي جعلنا نجوس خلالها في عسر ومشقة. ثم
أخذت الدواوير تتكاثر دلالة على أننا نقترب من دكالة. ففي الساعة الثامنة
وخمس عشرة دقيقة جئنا إلى دوار أولاد ناجي. ونصف ساعة بعدُ مررنا على مقربة
من دوارين؛ واحد منهما هو دوار محمد الشاوي، ورأينا تلك الناحية قد امتلأت
عشباً أخضر يانعاً قد طلع كما لو بسحر ساحر غب الأمطار التي تساقطت عليها
ثمانية أيام قبلُ. ورأينا أزهار النرجس البيضاء البديعة، المسماة عندهم
«رنجس»، برائحتها الذكية المميزة تكنف جنبات الطريق بتويجاتها المتفتحة
الجميلة، وتخللت ذلك النرجس نثارات بنفسجية؛ تلك هي زهرة الخريف قد طلعت في
تلك الأرض الصلصالية.
ثم صارت الزراعات إلى تكاثر بالتدريج، وأخذ يطرق
أسماعنا خرير المياه في بعض العيون الصغيرة المتفرقة في هذه الناحية. فنحن
الآن في بلاد الرحامنة وهي بحق أكثر مناطق هذه البلاد ماء. ولكن على الرغم
من ذلك فإن تربتها من طبيعة صوانية، بما [يحرمها الفلاحة و] يجعل تربية
الماشية هي المورد الوحيد والمهم لعيش السكان. وبعد أن لبثنا ساعتين نضرب
في الثنيات الكثيرة والرتيبة المتخللة جبل الشويخان، ها نحن قد جئنا إلى
سفح مرتفع صخري كبير لم نعد نتذكر اسمه. وهنالك رأينا على مقربة من أحد
الدشور سبع حويطات وبإزاء كل واحدة منها مقبرة صغيرة. ويسمى عندهم هذا
الموضع «سبع رواضي»، أي سبع مقابر. ومن المؤكد أن هذا المكان يضم تجمعاً
للأولياء، على غرار «سبعة رجال» في مراكش، والذين سنعود إليهم بالحديث في
ما يقبل من هذا الكتاب. ولو أن الوقت أسعفنا بالتوقف في هذا المكان فلاشك
أننا كنا سنسمع من أفواه أهله بعض الأساطير، لولا أننا كنا في شدة عجلة.
فاجتزنا ذلك المرتفع الصخري. ثم لاح لأنظارنا دوار آخر، فمرتفع آخر، وإذا
البلاد قد صارت تعمرها الزراعات. ثم طالعتنا من بعيد قصبة كبيرة ناحية
اليمين، ثم إذا الطريق قد صارت تمتلئ بالسابلة، وصارت الوجوه غير الوجوه؛
فقد خرجنا من بلاد إلى أخرى؛ ونحن الآن في دكالة. وفي حوالي الساعة الحادية
عشرة تبدت لنا بعد لأي «كدية» كراندو والأطلال الشهيرة المشرفة عليها
والتي يقال إنها تعود إلى البرتغاليين.
إن المسار الذي جئنا له بهذا
التصوير المقتضب يحيط بالقسم الأكبر من الرحامنة كما نعرفهم اليوم، وأما
مجالهم الترابي فإنه يمتد كثيراً إلى الجنوب، فيشمل الجبيلات ويصل حتى
مشارف مدينة مراكش.
-3الرحامنة
يطلق
اسم «الرحامنة» على أعراق عديدة استوطنت سائر مناطق شمال إفريقيا، وهو اسم
علم عربي بصيغه جمع. ومن قبيل ذلك أننا نجدهن في الجزائر يقولون داودة من
داود ويقولون المناصر من منصور ويقولون الغنانم من غنام، إلخ... وفي المغرب
يقولون الرحامنة من عبد الرحمان ويقولون المناصرة من منصور ويقولون
الرواشد من راشد... ثم إن هذه الطريقة في التسمية ليست مقصورة على التجمعات
الكبرى من الناس، فإنك تجد حتى الدشور والدواوير لها أسماء من قبيل
الغوانم والنواصر والفوارس، وهي مشتقة بطبيعة الحال من غانم وناصر وفارس.
ومعظم الأهالي يقولون في تفسير اسم الرحامنة إنه من جدهم المسمى عبد
الرحمان...إلخ.، غير أن هذا التفسير لا يتفق والتصور الذي كوناه عن
المجموعات الاجتماعية في هذه البلدان. فلا يمكننا القبول بأن قبائل
الرحامنة تعود بنسبها جميعاً إلى جد واحد. ويجدر بالملاحظة أن فكرة القرابة
وفكرة السيادة كانتا عند البدائيين شيئين شديدي التداخل، ولذلك وجب
التسليم بأن المجموعة البدائية الرحامنة التي صارت في ما بعد إلى تنام
واتساع، سواء بتكاثرها الطبيعي أو بانضياف عناصر جديدة إليها، قد كان لها
في وقت من الأوقات زعيم يسمى عبد الرحمان، وأنه قد صارت تعرف منذئذ بهذا
الاسم. فإن من العادات الشائعة عند الأقوام البدائية والهمجية أنهم يسمون
القبيلة أو الفخدة باسم قائدها أو زعيمها. ومن المألوف كذلك في منطقة شمال
إفريقيا نفسها أن تجد الدوار أو الدشر يتسمى باسم الوليّ فيه، وهذا شيء
رأينا له أمثلة عديدة في الصفحات السابقة.
أصل الرحامنة
لم
يكن الرحامنة يستوطنون في مبتدئهم المجال حيث يوجدون اليوم. فقد كنت حتى
القرن السادس عشر لا ترى لهم بعد وجوداً في هذا المكان. والموضع حيث
مستقرهم الحالي كان يدخل في المجال الواسع الذي تشغله هسكورة، وهي قبائل
بربرية تنتسب إلى مصمودة، وكانت تشغل مجالاً ترابياً يمتد حتى سفوح الأطلس
الكبير، ولا يزال لها فيه وجود إلى اليوم. وما كان الرحامنة في ذلك الوقت
يزيدون عن فخدة من ذوي حسان التي كانت تتنقل بين سوس ودرعة والصحراء. وما
كان نزولهم، ويحتمل أن يكون بأمر من أحد السلاطين، في المناطق حيث هم اليوم
إلا في وقت لاحق. ويجدر بالذكر أن ذوي حسان هؤلاء من أصول عربية، وهذا
يرجح أن يكون الرحامنة كذلك من العرب. والواقع أنهم يتصفون بكثير من
الخصائص التي تنسب، إن صواباً وإن خطأ، إلى الإنسان العربي في منطقة شمال
إفريقيا. فطبعهم الفروسي وما يتصفون به من صراحة ومضايفة كلها صفات تتوافق
وما شاع الاتفاق على أنها خصائص وصفات الطبع العربي. كما أن لغتهم هي
العربية وحدها، وهم في المقام الأول رعاة. لكن لا يبعد أن يكون الرحامنة
تعرضوا لتأثيرات بربرية كثيرة، وهو شيء نلمس له سمات في كلامهم. والمحصل
أننا نذهب إلى الاعتقاد أنهم قد خلفوا بكل تأكيد البربر الذين كانوا يشغلون
المجال حيث هم اليوم. ولربما ذهبنا إلى الاعتقاد كذلك أنهم اختلطوا بهم
إلى أن صاروا يحتوونهم بوجه من الوجوه.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 18 -
لعبة كرة القدم كانت مقصورة على الطُّلبة وكانت تتحول عندهم إلى عراكات حقيقية
لباس الرحامنة
وعلى
كل حال فإن عدداً كبيراً منهم لا تزال سيماهم تصرح بأصولهم؛ فمعظمهم ذوو
سحنات تميل إلى السواد، كمثل ما هم قطان المناطق الصحراوية من المغرب، كما
أنك لا تزال ترى النساء من فخدات كثيرة، خاصة تلك المنتسبة إلى الزوايا،
يتلفعن في ذلك الإزار الأزرق الهندي المعروف باسم «الخنت». وإذا ما أخذنا
في الحسبان أن لباس النساء، كما لباس رجال الدين في سائر البلدان، إنما
يكون في معظمه شيئاً متخلفاً عن لباس كان عند البدائيين يشترك فيه الرجال
والنساء، لم يعد ما يبعثنا على الاستغراب لهذا الأمر، بالنظر إلى أن
الرحمانة يعودون بأصولهم إلى سوس وإلى المناطق الصحراوية، وأن الخنت هو
اللباس الأكثر شيوعاً عند ساكنة هذه المناطق. وسوف نأتي في ما بعد بقرائن
أخرى تعزز من هذه الأطروحة. ثم إنك تجد لدى الرحامنة بعض الأفراد الضاربين
بسحناتهم إلى البياض، فهم يمثلون بطبيعة الحال عرقاً آخر، وإن هذا الأمر
لمما يعزز الرأي الذي جئنا به من احتمال أن يكون وقع للرحامنة تلاقح
وامتزاج قويان مع البربر.
ولا ترى الرجال عند الرحامنة يلبسون الخنت على
الإطلاق، بل يلبسون «التشامير»، وهو عبارة عن قميص طويل، و»الجلابية» أو
«الجلابة»، والحايك و»الهدون» الذي لا يعدو أن يكون السلهام أو البرنوس.
وإذا خرجوا للعمل في الصيف اقتصروا على التشامير، وإلا فإنهم يزيدون إليه
الجلابية. والعادة عندهم أنهم يلفون رؤوسهم بشريط، أو «عمامة»، لكنهم
يتركون قنة الرأس عارية دائماً. وأما أحذيتهم فهي البلاغي.
وأما النساء
الرحمانيات اللواتي يلبسن الخنت فإن معظمهن من الفخدات المشتهرة بانتسابها
إلى زوايا، كالركيبي وسيدي ناجي وأولاد مولاي عمر وسلام (أولاد سلامة)
وعْريب (أولاد بوبكر). فهن يلبسن «المنصورية» وما يشبه القميص ينفتح من
قُبُل حتى الحزام وله أكمام، وهذا شيء طارئ على الرحامنة فلم يكن للنساء
عهد به في الماضي. وتلف النساء رؤوسهن بما يشبه «السبنية»، هي شريط من
القماش، وأكثر ما يغطين رؤوسهن بقطعة من الخنت بطول أربعة أدرع أو نحوها.
ويتمنطقن بحزام غليظ من تلك الأحزمة الصوفية التي تباع في أسواق مراكش،
وينتهي طرفاه بشرابتين غليظتين، ويتركن تينك الشرابتين متدليتين في غير
اكتراث من جهة أو من أخرى. وتسير هؤلاء النساء حافيات، وإلا فإنهن يحتذين
«الشربيل» من غير عقبية، وهو يكون مطرزاً من جميع الألوان، أو يحتذين
«الريحية» وهي ذات عقبية ولا تزيد عن بلغة ذات لون أحمر، وخالية من أي
تطريز.
زينة الرحامنة وحلالتهم
وقلما
ترى عند الرحامنة رجالاً يشِمون أجسادهم، فهي عندهم شيء معيب. وأما النساء
فإن منهم ذوات السحنات السمراء الضاربة إلى السواد، اللائي سبق أن عرضنا
لهن بالحديث، وهؤلاء لا يضعن من الأوشام إلا قليلاً، فهذا النوع من الزينة
لا يكاد يظهر على جلودهن. وأما أولئك منهن ذوات البشرة الضاربة إلى البياض
فإن معظمهن يتوشمن على الصورة التالية : نقطة صغيرة فوق منبت الأنف، ونقطة
في مقدم الأنف، وخط يصل بين الشفة وأسفل الذقن، وقد يمتد ذلك الوشم أحياناً
إلى العنق، بل ربما امتد إلى ما بين الثديين، وكثيراً ما يشمن كذلك أذرعهن
بالكامل، ويجعلن وشماً من حول الساق من فوق الكاحل. ومن عادتهن كذلك أن
يتزين بالحركوس، وهو مادة حيوانية سوداء، فيزين به الحاجبين والأنف، ويكون
الوشم الذي يجعلنه على الأنف منقطات سوداء. وأما الخضاب الأحمر، أو «العكر»
فيقتصرن به على الوجنتين والخدين. والغالب عندهن في هذه المنطقة أنهن
يصطنعن هذا الخضاب من «الفوَّة»، وأكثر ما يتخذنه من مادة الأنيلين
يشترينها من مراكش أو في ما يتفق لهن من أسواق. وتُجعل هذه الصباغة طبقة
رقيقة جداً في صحينات فخارية لهذا الغرض، تباع في مراكش بثلاث أواق، أي
باثني عشر سنتيماً للزوج. فإذا أعوزهن العكر استعضن عنه بالزعفران.
وعندما
تكون الفتيات الرحمانيات صغيرات يُحلق لهن شعرهن، ولا يُبقى لهن على غير
شيء منه في مقدمة الرأس وخصلتين على قمة الجمجمة، فإذا بلغن تركن شعرهم
يستطيل فيبقين على الشعر الذي على الجبين ويلففن ما عداه فوق رؤوسهن. فإذا
تزوجن جعلن شعرهن في ضفيرتين وتركنهما متدليتين خلفهما، لكن العادة عندهن
إذا ولدن أنهن يدفعن تينك الضفيرتين فوق أكتافهن فتتدليان فوق صدورهن.
ويضعن الأقراط الفضية، من نوع «الدوّاح» يجعلنها في الأذنين معاً على تفعل
نساء دكالة، ويجعلن على جباههن «السفيفة»، المسماة عندهن «المشبوح»، وهي
أشبه بالتاج أو الإكليل، يتخذنه من قطع القرش ونصف الريال والريال (5
بسيطات). وتعتبر القلادة كذلك مكوناً لازماً في زينتهن، وهي تتألف من صفين
إلى ستة صفوف من القطع الفضية، ومعظم تلك القلائد تكون من قطع الدورورات.
ويقال إن من هؤلاء النساء من يحملن قلائد قد اشتملت على أكثر من مائة دورو.
ويتخذن لهن الخلالات أو مشابك الإزار من الفضة، وهي تكون كبيرة الحجم
ومقببة ومزينة بنقوش، ولا ترى عندهم المشابك المسطحة إلا استثناء، وتشد تلك
القطع سلسلة غليظة. والأساور لديهن محدبة ولا تفتح، وهي تزن بين 8 إلى 10
ريالات مغربية. والخواتم لديهن من الفضة، وهي تكون ملساء وغير ملتوية ومن
غير فصوص أو أحجار كريمة، وفي غاية البساطة. والنساء يضعن منها في الخنصر
والبنصر من اليد اليسرى. وكثيراً ما ترى الرجل عندهم وقد وضع خاتماً في
خنصر اليد اليسرى، لكنك لا ترى منهم واحداً قد جعل قرطاً في أذنه. ويمكن
القول بصفة عامة إن السناء الرحمانيات يتزيَّنَّ من الحلي بأكثر مما تتحلى
النساء الدكاليات، وحتى لتبدو هؤلاء كالبائسات قياساً إليهن.
طعام الرحامنة
العادة
عند الرحامنة أنهم لا يطعمون شيئاً إذا نهضوا من النوم صباحاً، إلا أن
يكونوا يتهيأون للقيام بالأشغال الفلاحية الشاقة، كالحصاد، فيتناولون
قليلاً من الكسكس في حوالي الساعة التاسعة صباحاً، والفقراء منهم يتناولون
الدشيشة. وفي ما عدا ذلك يقتصرون على وجبتين، واحدة عند منتصف النهار
والثانية في المساء، غير معتبرين بالمثل القائل : «الفطور من بكري بالذهب
مشري». وتكون أولى وجباتهم في العادة هي «العصيدة»، وهي عبارة عن شعير
يطبخونه في الماء ويكون ثقيلاً، يتناولونها باللبن. ويكون طعامهم في
المساء دشيشة من الشعير أو كسكساً من القمح. وأما اللحم فإن معظمهم لا
يكادون يتناولونه غير مرة واحدة في الأسبوع، تكون هي اليوم الذي تنعقد فيه
السوق القريبة إليهم. ثم إنهم لا يأكلون البيض ولا الدجاج، ويؤثرون أن
يبيعوها لشراء الخراف، كما أن النفور من أكل البيض أمر شائع عند المغاربة،
وأكثر ما يأنف منه اليهود في سوس. وأما اللحم الذي يحرمون منه بوجه عام،
فإن أهل الدوار الواحد يجتمعون له أحياناً فيقيمون بينهم «وزيعة»، وذلك بأن
يشتركوا على شراء بهيمة فتدفع كل أسرة النصيب الذي يعود إليها من ثمنها،
ويوزعوا اللحم بينهم بالاقتراع. والوزيعة مؤسسة لها وجود في عموم منطقة
شمال إفريقيا، ونجد مثيلة لها عند القبايل، وهي المعروفة عندهم باسم
«تيمشريط». لكنها عند هؤلاء تكون في صورة عمل خيري حقيقي، لأنهم يأخذون
المبلغ المالي المخصص لتيمشريط من دخْل القرية، فتشمل الاستفادة منها
المحرومين الذين لا يساهمون فيها بشيء. وقد أصاب مساكيراي في تنويهه إلى
الإسهام الكبير لهذه العملية في تعزيز التكافل في صلب المجموعة الاجتماعية،
وحتى لقد وجدناه يشبه تيمشريط بالولائم العمومية التي كانت تقام في
إسبرطة. وأزيد القول، مع التنويه إلى أنه لا يعدو عن افتراض، إن تلك
الولائم قد كانت عند البادئيين تدخل فيها كذلك القرابين الجماعية.
الموسيقى عند الرحامنة
ليس
للرحامنة شهرة في الرقص كمثل القبائل المجاورة لهم؛ أعني الشاوية وإنتيفة
وتادلا وآيت عتاب، الذين يوجد لديهم عدد كبير من الراقصين والراقصات
المحترفين، وعندهم جوق موسيقي متكامل تلمس فيه تأثراً بقربهم من مدينة
مراكش التي يشكلون قسماً لا يستهان به من ساكنتها؛ فهو قد ضم «الرباب»، وهو
كمان بوترين من معي الحيوان، و»القصبيتة» وهي كمان يتخذون أتاره كما القوس
من شعر ذيل الفرس، و»الطعريجة» أو «أكوال» التي سبق لنا أن تعرفنا عليها،
و»الطرية» وهو دف صغير، («الطر»)، و»البندير» الذي يسمونه الغربال
(المنخل)، وهو دف آخر صغير، و»الكمبري» وهو قيثار بوترين وأحياناً يكون
بثلاثة أوتار. لكنهم يقتصرون في معظم الأحيان من هذه الآلات على «الرباب»
و»الطرية» و»الطعريجة». وأما «الغيطة» فلا تراهم يستعملونها إلا في الجولات
التي يخرجون فيها للتسول، فينفخون فيها أمام أبواب البيوت في طلب الصدقات.
لعبة الكرة
ولديهم
في الرحامنة تسلية واسعة الانتشار، كما هو شأنها في باقي مناطق شمال
إفريقيا؛ تلك هي الكرة. وهم يلعبونها بثلاث طرائق مختلفة سنأتي لها بالوصف
بالتتابع. فالطريقة الأولى تكون بأن ينقسم اللاعبون فريقين، فكل فريق يسعي
ليقذف بالكرة ناحية خصمه. وما أن يُقذف بتلك الكرة، التي يتخذونها من الصوف
ويغلفونها بالجلد، حتى يسعى كل لاعب يطولها برجله ليردها ناحية الفريق
الخصم. فإذا وقعت الكرة في ناحية أحد الفريقين لم ينفعه أن يجتهد لدفعها
عنه، فإنه يكون قد خسر اللعبة. وهذه طريقة في اللعب تذكرنا بلعبة الكرة
بالأقدام التي كانت متداولة قديماً في فرنسا، وكان لها الانتشار الواسع في
نورماندي وبروتون، وقيل إن البريطانيون قد استعاروها [من الفرنسيين] خلال
حرب المائة عام، ثم استعدناها عنهم وكأنها لعبة جديدة علينا باسم «كرة
القدم».
وقد كان الناس في الماضي يلعبون الكرة لا بقذفها بالأرجل، بل
يضربونها بعصا أو «عقفة»، فهي عصا معقوفة في طرفها، ولم يكن يجوز للاعبين
أن يتلامسوا، بل ينبغي لهم أن يقتصروا على ضرب الكرة بالعصا. فالواحد منهم
يسعى لأن يحول اتجاه الكرة التي يضربها خصمه فيوجهها إلى حيث يكون فريقه؛
ذلك بأنهم في لعبة الكرة التي يستعملون فيها العصي يحاول كل فريق أن يجلب
الكرة ناحيته، والذي يفلح فيها يكون الفوز من نصيبه. ولا تعدو هذه اللعبة
أن تكون صورة للعبة الكرة بالعصا التي نقلها معمرونا من نورمادني وبروتون
إلى كندا، فصارت فيها هي لعبتهم الوطنية. وقد بقينا [نحن الفرنسيين] حتى
القرن التاسع عشر نلعب لعبة البليار باستعمال العصي.
والطريقة الثالثة
في لعب الكرة بالغة العنف والشراسة؛ فهم يقذفون بالكرة في الهواء، فينبغي
للذي تلقاها أن يرتمي أرضاً ويدور بجسده على يديه «يتشقلب»، ويوجه ضربة إلى
من هو أقرب إليه، ثم يقذف بدوره بالكرة؛ ولا يكون له أن يقذف بها ما لم
يقم بتلك الشقلبة ويضرب أقرب لاعب إليه. وإننا لنعجب إذا نرى إلى الخفة
التي تميز أداء الأهالي لهذا الطقس المعقد، فهم يوجهون إلى الكرة الضربات
الشديدة، ومعظمها يكون بالأرجل، بما يجعل هذه اللعبة عندهم غاية في العنف
والشراسة. ثم إن اللاعبين لا ينقسمون فريقين، بل إن من يبذ غيره في
المقاومة يكون هو الفائز. وهذا الشكل من لعب الكرة هو الأكثر شعبية بطبيعة
الحال من الأشكال الأخرى. وترى هذه الصورة من لعب الكرة كذلك في بعض الجهات
من المغرب، لكنهم يستعيضون عن الكرة ببلغة أو شبشب. فكذلك رأيناهم يفعلون
في الشياظمة؛ فاللاعبون يكونون حلقة، ويأخذ أحدهم بلغة ويرمي بها إلى لاعب
آخر يقع عليه اختياره، ويتلقى هذا اللاعب الكرة فيتشقلب ثم يحاول أن يضرب
بها لاعباً آخر، فيتفادى هذا الأخير الضربة ويرمي بالبلغة إلى ثالث ثم يعيد
الكرة من جديد. فإذا لم يفلح هذا الأخير في الإمساك بالبلغة وهي في الهواء
لزمه أن يلتقطها من الأرض ويمررها إلى جاره من دون أن يقوم بالشقلبة، في
حين أن اللاعب الذي يتلقى البلغة بانتظام يكون له أن يرمي بها إلى من يختار
من اللاعبين.
اللعب عند الرحامنة
لقد
ذكرنا من قبل أن ألعبة الكرة لها شيوع في منطقة شمال إفريقيا كلها، وهي
واسعة الانتشار خاصة في سائر أنحاء الجزائر؛ وأكثر ما يلعبها أهلها
باستعمال العصي. فاللاعبون يشكلون فريقين وقد تسلحوا جميعاً بالعصي. وهم
يؤثرون لهذه اللعبة ميداناً منبسطاً. فإذا اجتمع اللاعبون قذف أحدهم بالكرة
في عنان السماء، وتحلق من حوله اللاعبون وبأيديهم العصي وكل منهم يسعى إلى
ضرب الكرة ليردها إلى ناحية فريقه. وحينئذ يشتد بينهم الاختلاط والهرج،
فهم يندفعون صوب الكرة وكل فريق يبتغي أن يدفعها ناحيته. وما أكثر ما ترى
الواحد منهم يستعمل عصاه في إبعاد الآخرين، فلا يخلو اللعب بينهم من عراك
وتدافع. ثم إنهم يهوون على الكرة بكل ما أوتوا من قوة، وقد يخطئونها
فيصيبون سيقان بعضهم، ولذلك فلا يسلمون من الكسور. وقد يتخذون الكرة من
خشب، والغالب فيها أنهم يصطنعونها من الخرق أو من الصوف أو من جلد البقر.
والعادة عندهم في هذه اللعبة أنها تكون بغير ما رهان يتبارون عليه، لكن
ربما تراهنوا فيها أحياناً عنزة أو خروف، وقد يتراهنون على عجل، فيتكلف
شراءه الفريق الذي يخسر اللعبة ثم يولمونه مجمتعين. وتكون قاعدة اللعب في
بعض البلاد، كما في مليانة على سبيل التمثيل، أعقد مما رأينا؛ فلا يكفي
اللاعب أن يرد الكرة ناحية فريقه بل ينبغي له أن يودعها حفيرة قد جعلوها في
الأرض لهذا الغرض. وكذلك يلعبون الكرة في الجزائر من غير عصا، وتعرف عندهم
هذه اللعبة في القبايل الصغرى في منطقتيّ كولود ومنطقة جيجل باسم
«الدوخة»؛ فهم يتقاذفون الكرة بالأيدي.
واللافت للانتباه والمثير أن تجد
لعبة الكرة في المغرب أكثر من يلعبها الطُّلبة، وهذا أمر لا نراه جلياً في
الجزائر. بل إنك تجد في المغرب لعبة الكرة بالعصي شيئاً يحتكره الطُّلبة،
فلا يلعبها سواهم، أو إنهم هم وحدهم الذين يلعبونها على هذه الصورة. فهذه
حاحا على سبيل التمثيل، وهي التي خصصناها بالدراسة [في هذا الموضوع]، لا
ترى الكرة يلعبها فيها غير الطلبة، وهم يلعبونها على الصورة التالية :
يقسمون أنفسهم إلى فريقين، ويجعلون يتناوبون على قذف الكرة بالأرجل، ثم
يأخذ الفريقان في الاقتراب من بعضهما رويداً رويداً، إلى أن يختلط ذلك
الجمع، فإذا الواحد منهم يسعى ليسقط كل من يقترب من الكرة ويقذفها بقدمه،
لكن يُمنع عنهم أن يلمسوها بالأيدي، بل يقتصرون في دفعها على الصدر والكتف
والساق والقدم، ويجوز للاعب منهم كذلك أن يعرقل خصمه ويطيح به لكن من غير
استعمال اليدين. والكرة يلعبها الجميع في مدينة الصويرة بالأرجل، لكن يمنع
عنهم ضرب بعضهم بعضاً، وحدهم الطلبة، الذين يلعبون الكرة لا يشاركهم فيها
أحد يتبعون فيها الصيغة التي رأيناها عند حاحا، بحيث تكون هذه اللعبة عندهم
في الوقت نفسه معركة حقيقية. والذي يبدو أن هذه الطريقة في لعب الكرة هي
الأكثر شيوعاً لدى الطُّلبة في المغرب.
معنى لعبة الكرة
إن
هذه الخاصية الغريبة في نسبة لعبة الكرة بوجه من الوجوه إلى الطلبة
والفقهاء نلاقيها في [غير المغرب] من البلدان الأخرى. وليس علينا أن نذهب
بعيداً عن بلدنا [الجزائر]؛ فمن المعلوم أن في فرنسا خلال العصور الوسطى
كان [الرهبان] يلعبون الكرة داخل الكنائس، وحتى عهد الثورة كان أسقف أفرانش
ومريدوه يلعبون في يوم ثلاثاء المرفع لعبة الكرة بعصي الأسفية على الرملة،
ويطلقون إشارة انطلاقة المباراة بالقرع الشديد على جرس الكاتدرائية، وفي
تلك الفترة، أو قريبة منها، كانت العادة جارية عندهم في منطقة شمال أفريقيا
على لعب الكرة. ولا تجد الناس في بلدان كثيرة يلعبون الكرة في غير فصل
الربيع، وفي سائر البلدان التي يلعبون فيها الكرة في غير هذه الفترة من
السنة يظل فصل الربيع مع ذلك هو الفصل الأثير على هواة هذه اللعبة، خاصة
منهم الطُّلبة. وتعتبر لعبة الكرة في منطقة الأوراس، ولا يبعد أن تكون كذلك
في مناطق أخرى سواها، جزءاً لا يتجزأ من الاحتفالات التي يقيمونها في عيد
الربيع المسمى عندهم «ملقى الربيع». لكنهم كثيراً ما يقبلون على هذه اللعبة
كذلك في فترات الجفاف، وفي أي وقت من أوقات السنة «في طلب المطر». فلذلك
لا يسوغ لنا أن نعتبر لعبة الكرة مجرد رياضة، إذ لا ترى الأهالي يلعبونها
قط في أعيادهم الخاصة بوجه عام، ولا هي، كما الفروسية، باللعبة المرافقة
لزوماً لكل ما يتفق لهم من احتفالات ومباهج. وإذا ما اعتبرنا بمختلف هذه
الحيثيات فلا يجوز لنا أن نغض الطرف عن حقيقة أن لعبة الكرة التي يلعبونها
في بعض التواريخ الشمسية أو بغرض إحداث منقلب سنوي، والغالب فيها أنها
امتياز خاص بطبقة ذات طابع ديني، تمتلك كل الخصائص للعبة متخلفة عن طقس
زراعي قديم خاص ببعض الطوائف. ولا يساورني شك في أنه سيقيض لأبحاث أخرى
أشمل وأدق من أبحاثي أن تقيم البرهان ذات يوم على هذه الحقيقة بشكل قاطع
ونهائي.
الإحتفالات الدينية
لئن
وجد البعض أننا بهذه الفرضية قد تمادينا في الغلو، فإن من اليسير علينا أن
نبين أنها على الأقل فرضية تنسجم والأبحاث حديثة العهد التي كانت من علماء
الاجتماع في أصل الطقوس الزراعية ومعناها. وما أكثر ما تحضر المعارك
وتمثيلات المعارك في الاحتفالات الدينية. وقد درج سكان منطقة شمال إفريقيا
منذ الأزمنة الغابرة على أوقات معلومة من السنة يخوضون فيها [في ما بينهم]
معارك حقيقية. وأما في ما يرجع إلى العصور القديمة فهذا القديس أغسطين
يفيدنا في فقرة غاية في الغرابة أن سكان القيصرية (شرشال) كان من عادتهم
أنهم في فترة معينة من السنة يقبلون على مقاتلة بعضهم بالحجارة وأنها
اقتتالات تكون بين الأقارب، بله تكون كذلك بين إخوة، وأنها لا تخلو بينهم
من قتلى. ويذكر الحسن الوزان أن في فاس «يجتمع الشبان في وقت معلوم من
السنة فيتسلحون بالعصي الغليظة ويأخذون يتقاتلون فرقاً حسب الأحياء، ويشتد
بينهم القتال حتى إنهم ليلجأون إلى الأسلحة فلا يخلو أن يقع بينهم قتلى
كثيرون». ولا يفيدنا هذان النصان في أي وقت من السنة كانت تقع تلك المعارك،
لكن ها هي ذي معلومة دقيقة في هذا الموضوع : «قبل أن يقع الغزو، بل وفي
أثناء السنوات الأولى من احتلال منطقة الميلية وأولاد عواط وأولاد قاسم،
كان من عادة الأهالي في هذه المناطق أن يخوضوا خلال عيد الربيع معارك طاحنة
مميتة. إذ يتجمع المتقاتلون من الدوارين في البراح الكبير الواقع وراء
تانفدور، فيجعلون خطاً فاصلاً والمحبذ أن يكون في موضع حيث يوجد شريط من
أزهار النرجس، ثم يأخذ أفراد العصابتين الفاصلة بينهما مساحة من مائتي متر
إلى ثلاثمائة متر في تعبئة أسلحتهم النارية. ويتقدم المقاتلون الجسورون
بدورهم يتقدمون ليقطفوا من أزهار النرجس في الشريط الفاصل، فيتلقاهم
المقاتلون من الجانب الآخر بطلقات البنادق. وغني عن القول إن كل واحدة من
هذه الاحتفالات الشاذة الغريبة توقع في صفوف أولئك المتعاركين قتلى ومصابين
ببليغ الإصابات». وإن التشابه بين هذه اللعبة ولعبة الكرة لشيء لافت
للنظر.
لعبة كرة القدم كانت مقصورة على الطُّلبة وكانت تتحول عندهم إلى عراكات حقيقية
لباس الرحامنة
وعلى
كل حال فإن عدداً كبيراً منهم لا تزال سيماهم تصرح بأصولهم؛ فمعظمهم ذوو
سحنات تميل إلى السواد، كمثل ما هم قطان المناطق الصحراوية من المغرب، كما
أنك لا تزال ترى النساء من فخدات كثيرة، خاصة تلك المنتسبة إلى الزوايا،
يتلفعن في ذلك الإزار الأزرق الهندي المعروف باسم «الخنت». وإذا ما أخذنا
في الحسبان أن لباس النساء، كما لباس رجال الدين في سائر البلدان، إنما
يكون في معظمه شيئاً متخلفاً عن لباس كان عند البدائيين يشترك فيه الرجال
والنساء، لم يعد ما يبعثنا على الاستغراب لهذا الأمر، بالنظر إلى أن
الرحمانة يعودون بأصولهم إلى سوس وإلى المناطق الصحراوية، وأن الخنت هو
اللباس الأكثر شيوعاً عند ساكنة هذه المناطق. وسوف نأتي في ما بعد بقرائن
أخرى تعزز من هذه الأطروحة. ثم إنك تجد لدى الرحامنة بعض الأفراد الضاربين
بسحناتهم إلى البياض، فهم يمثلون بطبيعة الحال عرقاً آخر، وإن هذا الأمر
لمما يعزز الرأي الذي جئنا به من احتمال أن يكون وقع للرحامنة تلاقح
وامتزاج قويان مع البربر.
ولا ترى الرجال عند الرحامنة يلبسون الخنت على
الإطلاق، بل يلبسون «التشامير»، وهو عبارة عن قميص طويل، و»الجلابية» أو
«الجلابة»، والحايك و»الهدون» الذي لا يعدو أن يكون السلهام أو البرنوس.
وإذا خرجوا للعمل في الصيف اقتصروا على التشامير، وإلا فإنهم يزيدون إليه
الجلابية. والعادة عندهم أنهم يلفون رؤوسهم بشريط، أو «عمامة»، لكنهم
يتركون قنة الرأس عارية دائماً. وأما أحذيتهم فهي البلاغي.
وأما النساء
الرحمانيات اللواتي يلبسن الخنت فإن معظمهن من الفخدات المشتهرة بانتسابها
إلى زوايا، كالركيبي وسيدي ناجي وأولاد مولاي عمر وسلام (أولاد سلامة)
وعْريب (أولاد بوبكر). فهن يلبسن «المنصورية» وما يشبه القميص ينفتح من
قُبُل حتى الحزام وله أكمام، وهذا شيء طارئ على الرحامنة فلم يكن للنساء
عهد به في الماضي. وتلف النساء رؤوسهن بما يشبه «السبنية»، هي شريط من
القماش، وأكثر ما يغطين رؤوسهن بقطعة من الخنت بطول أربعة أدرع أو نحوها.
ويتمنطقن بحزام غليظ من تلك الأحزمة الصوفية التي تباع في أسواق مراكش،
وينتهي طرفاه بشرابتين غليظتين، ويتركن تينك الشرابتين متدليتين في غير
اكتراث من جهة أو من أخرى. وتسير هؤلاء النساء حافيات، وإلا فإنهن يحتذين
«الشربيل» من غير عقبية، وهو يكون مطرزاً من جميع الألوان، أو يحتذين
«الريحية» وهي ذات عقبية ولا تزيد عن بلغة ذات لون أحمر، وخالية من أي
تطريز.
زينة الرحامنة وحلالتهم
وقلما
ترى عند الرحامنة رجالاً يشِمون أجسادهم، فهي عندهم شيء معيب. وأما النساء
فإن منهم ذوات السحنات السمراء الضاربة إلى السواد، اللائي سبق أن عرضنا
لهن بالحديث، وهؤلاء لا يضعن من الأوشام إلا قليلاً، فهذا النوع من الزينة
لا يكاد يظهر على جلودهن. وأما أولئك منهن ذوات البشرة الضاربة إلى البياض
فإن معظمهن يتوشمن على الصورة التالية : نقطة صغيرة فوق منبت الأنف، ونقطة
في مقدم الأنف، وخط يصل بين الشفة وأسفل الذقن، وقد يمتد ذلك الوشم أحياناً
إلى العنق، بل ربما امتد إلى ما بين الثديين، وكثيراً ما يشمن كذلك أذرعهن
بالكامل، ويجعلن وشماً من حول الساق من فوق الكاحل. ومن عادتهن كذلك أن
يتزين بالحركوس، وهو مادة حيوانية سوداء، فيزين به الحاجبين والأنف، ويكون
الوشم الذي يجعلنه على الأنف منقطات سوداء. وأما الخضاب الأحمر، أو «العكر»
فيقتصرن به على الوجنتين والخدين. والغالب عندهن في هذه المنطقة أنهن
يصطنعن هذا الخضاب من «الفوَّة»، وأكثر ما يتخذنه من مادة الأنيلين
يشترينها من مراكش أو في ما يتفق لهن من أسواق. وتُجعل هذه الصباغة طبقة
رقيقة جداً في صحينات فخارية لهذا الغرض، تباع في مراكش بثلاث أواق، أي
باثني عشر سنتيماً للزوج. فإذا أعوزهن العكر استعضن عنه بالزعفران.
وعندما
تكون الفتيات الرحمانيات صغيرات يُحلق لهن شعرهن، ولا يُبقى لهن على غير
شيء منه في مقدمة الرأس وخصلتين على قمة الجمجمة، فإذا بلغن تركن شعرهم
يستطيل فيبقين على الشعر الذي على الجبين ويلففن ما عداه فوق رؤوسهن. فإذا
تزوجن جعلن شعرهن في ضفيرتين وتركنهما متدليتين خلفهما، لكن العادة عندهن
إذا ولدن أنهن يدفعن تينك الضفيرتين فوق أكتافهن فتتدليان فوق صدورهن.
ويضعن الأقراط الفضية، من نوع «الدوّاح» يجعلنها في الأذنين معاً على تفعل
نساء دكالة، ويجعلن على جباههن «السفيفة»، المسماة عندهن «المشبوح»، وهي
أشبه بالتاج أو الإكليل، يتخذنه من قطع القرش ونصف الريال والريال (5
بسيطات). وتعتبر القلادة كذلك مكوناً لازماً في زينتهن، وهي تتألف من صفين
إلى ستة صفوف من القطع الفضية، ومعظم تلك القلائد تكون من قطع الدورورات.
ويقال إن من هؤلاء النساء من يحملن قلائد قد اشتملت على أكثر من مائة دورو.
ويتخذن لهن الخلالات أو مشابك الإزار من الفضة، وهي تكون كبيرة الحجم
ومقببة ومزينة بنقوش، ولا ترى عندهم المشابك المسطحة إلا استثناء، وتشد تلك
القطع سلسلة غليظة. والأساور لديهن محدبة ولا تفتح، وهي تزن بين 8 إلى 10
ريالات مغربية. والخواتم لديهن من الفضة، وهي تكون ملساء وغير ملتوية ومن
غير فصوص أو أحجار كريمة، وفي غاية البساطة. والنساء يضعن منها في الخنصر
والبنصر من اليد اليسرى. وكثيراً ما ترى الرجل عندهم وقد وضع خاتماً في
خنصر اليد اليسرى، لكنك لا ترى منهم واحداً قد جعل قرطاً في أذنه. ويمكن
القول بصفة عامة إن السناء الرحمانيات يتزيَّنَّ من الحلي بأكثر مما تتحلى
النساء الدكاليات، وحتى لتبدو هؤلاء كالبائسات قياساً إليهن.
طعام الرحامنة
العادة
عند الرحامنة أنهم لا يطعمون شيئاً إذا نهضوا من النوم صباحاً، إلا أن
يكونوا يتهيأون للقيام بالأشغال الفلاحية الشاقة، كالحصاد، فيتناولون
قليلاً من الكسكس في حوالي الساعة التاسعة صباحاً، والفقراء منهم يتناولون
الدشيشة. وفي ما عدا ذلك يقتصرون على وجبتين، واحدة عند منتصف النهار
والثانية في المساء، غير معتبرين بالمثل القائل : «الفطور من بكري بالذهب
مشري». وتكون أولى وجباتهم في العادة هي «العصيدة»، وهي عبارة عن شعير
يطبخونه في الماء ويكون ثقيلاً، يتناولونها باللبن. ويكون طعامهم في
المساء دشيشة من الشعير أو كسكساً من القمح. وأما اللحم فإن معظمهم لا
يكادون يتناولونه غير مرة واحدة في الأسبوع، تكون هي اليوم الذي تنعقد فيه
السوق القريبة إليهم. ثم إنهم لا يأكلون البيض ولا الدجاج، ويؤثرون أن
يبيعوها لشراء الخراف، كما أن النفور من أكل البيض أمر شائع عند المغاربة،
وأكثر ما يأنف منه اليهود في سوس. وأما اللحم الذي يحرمون منه بوجه عام،
فإن أهل الدوار الواحد يجتمعون له أحياناً فيقيمون بينهم «وزيعة»، وذلك بأن
يشتركوا على شراء بهيمة فتدفع كل أسرة النصيب الذي يعود إليها من ثمنها،
ويوزعوا اللحم بينهم بالاقتراع. والوزيعة مؤسسة لها وجود في عموم منطقة
شمال إفريقيا، ونجد مثيلة لها عند القبايل، وهي المعروفة عندهم باسم
«تيمشريط». لكنها عند هؤلاء تكون في صورة عمل خيري حقيقي، لأنهم يأخذون
المبلغ المالي المخصص لتيمشريط من دخْل القرية، فتشمل الاستفادة منها
المحرومين الذين لا يساهمون فيها بشيء. وقد أصاب مساكيراي في تنويهه إلى
الإسهام الكبير لهذه العملية في تعزيز التكافل في صلب المجموعة الاجتماعية،
وحتى لقد وجدناه يشبه تيمشريط بالولائم العمومية التي كانت تقام في
إسبرطة. وأزيد القول، مع التنويه إلى أنه لا يعدو عن افتراض، إن تلك
الولائم قد كانت عند البادئيين تدخل فيها كذلك القرابين الجماعية.
الموسيقى عند الرحامنة
ليس
للرحامنة شهرة في الرقص كمثل القبائل المجاورة لهم؛ أعني الشاوية وإنتيفة
وتادلا وآيت عتاب، الذين يوجد لديهم عدد كبير من الراقصين والراقصات
المحترفين، وعندهم جوق موسيقي متكامل تلمس فيه تأثراً بقربهم من مدينة
مراكش التي يشكلون قسماً لا يستهان به من ساكنتها؛ فهو قد ضم «الرباب»، وهو
كمان بوترين من معي الحيوان، و»القصبيتة» وهي كمان يتخذون أتاره كما القوس
من شعر ذيل الفرس، و»الطعريجة» أو «أكوال» التي سبق لنا أن تعرفنا عليها،
و»الطرية» وهو دف صغير، («الطر»)، و»البندير» الذي يسمونه الغربال
(المنخل)، وهو دف آخر صغير، و»الكمبري» وهو قيثار بوترين وأحياناً يكون
بثلاثة أوتار. لكنهم يقتصرون في معظم الأحيان من هذه الآلات على «الرباب»
و»الطرية» و»الطعريجة». وأما «الغيطة» فلا تراهم يستعملونها إلا في الجولات
التي يخرجون فيها للتسول، فينفخون فيها أمام أبواب البيوت في طلب الصدقات.
لعبة الكرة
ولديهم
في الرحامنة تسلية واسعة الانتشار، كما هو شأنها في باقي مناطق شمال
إفريقيا؛ تلك هي الكرة. وهم يلعبونها بثلاث طرائق مختلفة سنأتي لها بالوصف
بالتتابع. فالطريقة الأولى تكون بأن ينقسم اللاعبون فريقين، فكل فريق يسعي
ليقذف بالكرة ناحية خصمه. وما أن يُقذف بتلك الكرة، التي يتخذونها من الصوف
ويغلفونها بالجلد، حتى يسعى كل لاعب يطولها برجله ليردها ناحية الفريق
الخصم. فإذا وقعت الكرة في ناحية أحد الفريقين لم ينفعه أن يجتهد لدفعها
عنه، فإنه يكون قد خسر اللعبة. وهذه طريقة في اللعب تذكرنا بلعبة الكرة
بالأقدام التي كانت متداولة قديماً في فرنسا، وكان لها الانتشار الواسع في
نورماندي وبروتون، وقيل إن البريطانيون قد استعاروها [من الفرنسيين] خلال
حرب المائة عام، ثم استعدناها عنهم وكأنها لعبة جديدة علينا باسم «كرة
القدم».
وقد كان الناس في الماضي يلعبون الكرة لا بقذفها بالأرجل، بل
يضربونها بعصا أو «عقفة»، فهي عصا معقوفة في طرفها، ولم يكن يجوز للاعبين
أن يتلامسوا، بل ينبغي لهم أن يقتصروا على ضرب الكرة بالعصا. فالواحد منهم
يسعى لأن يحول اتجاه الكرة التي يضربها خصمه فيوجهها إلى حيث يكون فريقه؛
ذلك بأنهم في لعبة الكرة التي يستعملون فيها العصي يحاول كل فريق أن يجلب
الكرة ناحيته، والذي يفلح فيها يكون الفوز من نصيبه. ولا تعدو هذه اللعبة
أن تكون صورة للعبة الكرة بالعصا التي نقلها معمرونا من نورمادني وبروتون
إلى كندا، فصارت فيها هي لعبتهم الوطنية. وقد بقينا [نحن الفرنسيين] حتى
القرن التاسع عشر نلعب لعبة البليار باستعمال العصي.
والطريقة الثالثة
في لعب الكرة بالغة العنف والشراسة؛ فهم يقذفون بالكرة في الهواء، فينبغي
للذي تلقاها أن يرتمي أرضاً ويدور بجسده على يديه «يتشقلب»، ويوجه ضربة إلى
من هو أقرب إليه، ثم يقذف بدوره بالكرة؛ ولا يكون له أن يقذف بها ما لم
يقم بتلك الشقلبة ويضرب أقرب لاعب إليه. وإننا لنعجب إذا نرى إلى الخفة
التي تميز أداء الأهالي لهذا الطقس المعقد، فهم يوجهون إلى الكرة الضربات
الشديدة، ومعظمها يكون بالأرجل، بما يجعل هذه اللعبة عندهم غاية في العنف
والشراسة. ثم إن اللاعبين لا ينقسمون فريقين، بل إن من يبذ غيره في
المقاومة يكون هو الفائز. وهذا الشكل من لعب الكرة هو الأكثر شعبية بطبيعة
الحال من الأشكال الأخرى. وترى هذه الصورة من لعب الكرة كذلك في بعض الجهات
من المغرب، لكنهم يستعيضون عن الكرة ببلغة أو شبشب. فكذلك رأيناهم يفعلون
في الشياظمة؛ فاللاعبون يكونون حلقة، ويأخذ أحدهم بلغة ويرمي بها إلى لاعب
آخر يقع عليه اختياره، ويتلقى هذا اللاعب الكرة فيتشقلب ثم يحاول أن يضرب
بها لاعباً آخر، فيتفادى هذا الأخير الضربة ويرمي بالبلغة إلى ثالث ثم يعيد
الكرة من جديد. فإذا لم يفلح هذا الأخير في الإمساك بالبلغة وهي في الهواء
لزمه أن يلتقطها من الأرض ويمررها إلى جاره من دون أن يقوم بالشقلبة، في
حين أن اللاعب الذي يتلقى البلغة بانتظام يكون له أن يرمي بها إلى من يختار
من اللاعبين.
اللعب عند الرحامنة
لقد
ذكرنا من قبل أن ألعبة الكرة لها شيوع في منطقة شمال إفريقيا كلها، وهي
واسعة الانتشار خاصة في سائر أنحاء الجزائر؛ وأكثر ما يلعبها أهلها
باستعمال العصي. فاللاعبون يشكلون فريقين وقد تسلحوا جميعاً بالعصي. وهم
يؤثرون لهذه اللعبة ميداناً منبسطاً. فإذا اجتمع اللاعبون قذف أحدهم بالكرة
في عنان السماء، وتحلق من حوله اللاعبون وبأيديهم العصي وكل منهم يسعى إلى
ضرب الكرة ليردها إلى ناحية فريقه. وحينئذ يشتد بينهم الاختلاط والهرج،
فهم يندفعون صوب الكرة وكل فريق يبتغي أن يدفعها ناحيته. وما أكثر ما ترى
الواحد منهم يستعمل عصاه في إبعاد الآخرين، فلا يخلو اللعب بينهم من عراك
وتدافع. ثم إنهم يهوون على الكرة بكل ما أوتوا من قوة، وقد يخطئونها
فيصيبون سيقان بعضهم، ولذلك فلا يسلمون من الكسور. وقد يتخذون الكرة من
خشب، والغالب فيها أنهم يصطنعونها من الخرق أو من الصوف أو من جلد البقر.
والعادة عندهم في هذه اللعبة أنها تكون بغير ما رهان يتبارون عليه، لكن
ربما تراهنوا فيها أحياناً عنزة أو خروف، وقد يتراهنون على عجل، فيتكلف
شراءه الفريق الذي يخسر اللعبة ثم يولمونه مجمتعين. وتكون قاعدة اللعب في
بعض البلاد، كما في مليانة على سبيل التمثيل، أعقد مما رأينا؛ فلا يكفي
اللاعب أن يرد الكرة ناحية فريقه بل ينبغي له أن يودعها حفيرة قد جعلوها في
الأرض لهذا الغرض. وكذلك يلعبون الكرة في الجزائر من غير عصا، وتعرف عندهم
هذه اللعبة في القبايل الصغرى في منطقتيّ كولود ومنطقة جيجل باسم
«الدوخة»؛ فهم يتقاذفون الكرة بالأيدي.
واللافت للانتباه والمثير أن تجد
لعبة الكرة في المغرب أكثر من يلعبها الطُّلبة، وهذا أمر لا نراه جلياً في
الجزائر. بل إنك تجد في المغرب لعبة الكرة بالعصي شيئاً يحتكره الطُّلبة،
فلا يلعبها سواهم، أو إنهم هم وحدهم الذين يلعبونها على هذه الصورة. فهذه
حاحا على سبيل التمثيل، وهي التي خصصناها بالدراسة [في هذا الموضوع]، لا
ترى الكرة يلعبها فيها غير الطلبة، وهم يلعبونها على الصورة التالية :
يقسمون أنفسهم إلى فريقين، ويجعلون يتناوبون على قذف الكرة بالأرجل، ثم
يأخذ الفريقان في الاقتراب من بعضهما رويداً رويداً، إلى أن يختلط ذلك
الجمع، فإذا الواحد منهم يسعى ليسقط كل من يقترب من الكرة ويقذفها بقدمه،
لكن يُمنع عنهم أن يلمسوها بالأيدي، بل يقتصرون في دفعها على الصدر والكتف
والساق والقدم، ويجوز للاعب منهم كذلك أن يعرقل خصمه ويطيح به لكن من غير
استعمال اليدين. والكرة يلعبها الجميع في مدينة الصويرة بالأرجل، لكن يمنع
عنهم ضرب بعضهم بعضاً، وحدهم الطلبة، الذين يلعبون الكرة لا يشاركهم فيها
أحد يتبعون فيها الصيغة التي رأيناها عند حاحا، بحيث تكون هذه اللعبة عندهم
في الوقت نفسه معركة حقيقية. والذي يبدو أن هذه الطريقة في لعب الكرة هي
الأكثر شيوعاً لدى الطُّلبة في المغرب.
معنى لعبة الكرة
إن
هذه الخاصية الغريبة في نسبة لعبة الكرة بوجه من الوجوه إلى الطلبة
والفقهاء نلاقيها في [غير المغرب] من البلدان الأخرى. وليس علينا أن نذهب
بعيداً عن بلدنا [الجزائر]؛ فمن المعلوم أن في فرنسا خلال العصور الوسطى
كان [الرهبان] يلعبون الكرة داخل الكنائس، وحتى عهد الثورة كان أسقف أفرانش
ومريدوه يلعبون في يوم ثلاثاء المرفع لعبة الكرة بعصي الأسفية على الرملة،
ويطلقون إشارة انطلاقة المباراة بالقرع الشديد على جرس الكاتدرائية، وفي
تلك الفترة، أو قريبة منها، كانت العادة جارية عندهم في منطقة شمال أفريقيا
على لعب الكرة. ولا تجد الناس في بلدان كثيرة يلعبون الكرة في غير فصل
الربيع، وفي سائر البلدان التي يلعبون فيها الكرة في غير هذه الفترة من
السنة يظل فصل الربيع مع ذلك هو الفصل الأثير على هواة هذه اللعبة، خاصة
منهم الطُّلبة. وتعتبر لعبة الكرة في منطقة الأوراس، ولا يبعد أن تكون كذلك
في مناطق أخرى سواها، جزءاً لا يتجزأ من الاحتفالات التي يقيمونها في عيد
الربيع المسمى عندهم «ملقى الربيع». لكنهم كثيراً ما يقبلون على هذه اللعبة
كذلك في فترات الجفاف، وفي أي وقت من أوقات السنة «في طلب المطر». فلذلك
لا يسوغ لنا أن نعتبر لعبة الكرة مجرد رياضة، إذ لا ترى الأهالي يلعبونها
قط في أعيادهم الخاصة بوجه عام، ولا هي، كما الفروسية، باللعبة المرافقة
لزوماً لكل ما يتفق لهم من احتفالات ومباهج. وإذا ما اعتبرنا بمختلف هذه
الحيثيات فلا يجوز لنا أن نغض الطرف عن حقيقة أن لعبة الكرة التي يلعبونها
في بعض التواريخ الشمسية أو بغرض إحداث منقلب سنوي، والغالب فيها أنها
امتياز خاص بطبقة ذات طابع ديني، تمتلك كل الخصائص للعبة متخلفة عن طقس
زراعي قديم خاص ببعض الطوائف. ولا يساورني شك في أنه سيقيض لأبحاث أخرى
أشمل وأدق من أبحاثي أن تقيم البرهان ذات يوم على هذه الحقيقة بشكل قاطع
ونهائي.
الإحتفالات الدينية
لئن
وجد البعض أننا بهذه الفرضية قد تمادينا في الغلو، فإن من اليسير علينا أن
نبين أنها على الأقل فرضية تنسجم والأبحاث حديثة العهد التي كانت من علماء
الاجتماع في أصل الطقوس الزراعية ومعناها. وما أكثر ما تحضر المعارك
وتمثيلات المعارك في الاحتفالات الدينية. وقد درج سكان منطقة شمال إفريقيا
منذ الأزمنة الغابرة على أوقات معلومة من السنة يخوضون فيها [في ما بينهم]
معارك حقيقية. وأما في ما يرجع إلى العصور القديمة فهذا القديس أغسطين
يفيدنا في فقرة غاية في الغرابة أن سكان القيصرية (شرشال) كان من عادتهم
أنهم في فترة معينة من السنة يقبلون على مقاتلة بعضهم بالحجارة وأنها
اقتتالات تكون بين الأقارب، بله تكون كذلك بين إخوة، وأنها لا تخلو بينهم
من قتلى. ويذكر الحسن الوزان أن في فاس «يجتمع الشبان في وقت معلوم من
السنة فيتسلحون بالعصي الغليظة ويأخذون يتقاتلون فرقاً حسب الأحياء، ويشتد
بينهم القتال حتى إنهم ليلجأون إلى الأسلحة فلا يخلو أن يقع بينهم قتلى
كثيرون». ولا يفيدنا هذان النصان في أي وقت من السنة كانت تقع تلك المعارك،
لكن ها هي ذي معلومة دقيقة في هذا الموضوع : «قبل أن يقع الغزو، بل وفي
أثناء السنوات الأولى من احتلال منطقة الميلية وأولاد عواط وأولاد قاسم،
كان من عادة الأهالي في هذه المناطق أن يخوضوا خلال عيد الربيع معارك طاحنة
مميتة. إذ يتجمع المتقاتلون من الدوارين في البراح الكبير الواقع وراء
تانفدور، فيجعلون خطاً فاصلاً والمحبذ أن يكون في موضع حيث يوجد شريط من
أزهار النرجس، ثم يأخذ أفراد العصابتين الفاصلة بينهما مساحة من مائتي متر
إلى ثلاثمائة متر في تعبئة أسلحتهم النارية. ويتقدم المقاتلون الجسورون
بدورهم يتقدمون ليقطفوا من أزهار النرجس في الشريط الفاصل، فيتلقاهم
المقاتلون من الجانب الآخر بطلقات البنادق. وغني عن القول إن كل واحدة من
هذه الاحتفالات الشاذة الغريبة توقع في صفوف أولئك المتعاركين قتلى ومصابين
ببليغ الإصابات». وإن التشابه بين هذه اللعبة ولعبة الكرة لشيء لافت
للنظر.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 19 -
من الألعاب الشهيرة عند الرحامنة: «العروسة» و«علّي وشلّي» و«شقيلب» و«الفرفارة»
أصول لعبة الكرة
لا
نبتغي أن نتكلف رد هذه العادات المثيرة إلى أصل واحد، لكن يمكننا الجزم
بأنه قد كانت لأهالي منطقة شمال إفريقيا منذ العصور القديمة بعض التواريخ
في السنة الشمسية يقبلون فيها على خوض معارك حقيقية، من غير أن نقدر على
تحديد أصل لهذه الممارسات. فلاغرابة إذن أن تكون عندهم لعبة الكرة بأوقات
معلومة من العادات الثابتة. وتكون عندهم هذه اللعبة في صورة معركة حقيقية،
وقد رأينا أنهم في المغرب يجعلونها بحق نزالاً في غاية الخطورة. فما السبب
وراء هذا الاقتتال والتطاحن عندهم في لعب الكرة؟ ربما دعانا هذا الأمر إلى
استحضار أحد الاحتفالات السحرية، فالقدرة السحرية للضربات على طرد الأرواح
[الشريرة] اعتقاد شديد الشيوع في أنحاء المعمور، وهذا أمر وقف عليه
الباحثون في السنوات الأخيرة. كما أن هنالك أقواماً آخرين كثيرين يقيمون
احتفالات سنوية لطرد الأرواح [الشريرة]. لكنه تفسير لا نراه كافياً. بل
نحسب أن من الأجدر بنا أن نفكر ههنا في تلك الاحتفالات الفلاحية التي كانت
[الأقوام البدائية] تقيمها في بداية السنة والتي كانت هي الأصل الذي منه
خرجت مهرجاناتنا. فقد كانوا يمثلون في تلك الاحتفالات لصراع فصل الصيف وفصل
الشتاء بمعارك ومآس. فربما كانت لعبة الكرة تمثيلاً من جملة تمثيلات أخرى
لتلك المعارك. ويجدر بالملاحظة في هذا الصدد أن فصل الربيع قد كان هو مبتدأ
السنة، وأنه كان من الناحية الفلاحية هو الفترة التي يتم فيها البذر؛ ذلك
بأن عملية البذر التي تقع في فصل الخريف إنما هي ممارسة حديثة العهد في
تاريخ البشرية، وأما تل العملية عند البدائيين فقد كانت تجري كلها في فصل
الربيع. وعليه فقد كان فصل الربيع هو أنسب الأوقات كلها لإعمال جميع
الممارسات السحرية المراد بها تكثير المحاصيل. وتتبوأ الصراعات والمعارك
موقع الصدارة في الاحتفالات الاستعراضية عند مختلف شعوب المعمور، ولا تزال
ترى الاستعراض الذي يقيمه الكاثوليك في الوقت الحاضر يخوضون فيه في معارك
حقيقية مستعملين فيها شتى أنواع القذائف؛ فهم يتراشقون بالبيض والفواكه،
كما أنهم قد أصبحوا على أيامنا يتراشقون بالنثارات الملونة. وقد جاء
مانهارت بتصوير للألعاب التي يقبل عليها القرويون الأوروبيون في مختلف
فترات السنة؛ كشأنهم في عيد الفصح وعيد التقدمة وأعياد الميلاد، وبين نسبها
إلى الطقوس الشمسية التي كانت تقام بغرض الاستكثار من المحاصيل الزراعية.
فالراجح أن تكون لعبة الكرة هي آخر ما تبقى تلك الاحتفالات. واللافت للنظر
أنه بينما انحط شأن الكرنفال كلياً فصار شيئاً في متناول العامة، بقيت لعبة
الكرة في بعض الحالات امتيازاً يختص به الطُّلبة، فهم يعتبرون بطبيعة
الحال الورثة المباشرين لطبقات السحرة الذين كانوا عند الأسلاف في عصور ما
قبل الإسلام يرأسون الاحتفالات العمومية. وأما من جهة أخرى ففي الحالة التي
يكون لعب الكرة بغرض الاستسقاء فالثابت أنها تكون تدخل في الطقوس السحرية
المتداولة على صعيد المعمور لتحقيق هذا الغرض، ولسوف نرى أن من خصائص هذه
الطقوس أن تكون ضاجة صاخبة وأن تتخللها عراكات، بله اقتتالات.
ألعاب الاقتراع
وتجدر
الإشارة مرة أخرى إلى أن لعبة الكرة تدخل فيها طرائق أخرى وأساليب نراها
في المغرب في جميع الأوقات وعند جميع فئات المجتمع. فهي تشكل إلى جانب لعبة
الفروسية والمصارعة والمسايفة واحداً من أكثر الألعاب التي يقبل عليها
العموم. وإلى جانب هذه الألعاب الرياضية تجد لديهم ألعاباً أخرى هي من
المراهنة الخالصة، وإن تكن من الأشياء التي تحرمها الشريعة الإسلامية. وتجد
واحدة من هذه الألعاب قد بلغت شأواً بعيداً عند الرحمانة، وهي المسماة
عندهم «السيك»، واللافت للانتباه أنهم لا يقبلون على هذه اللعبة في غير شهر
رمضان، ولم نهتد إلى معرفة السبب في الاقتصار عليها بهذا الوقت دون سواه.
وتكون هذه اللعبة بأن يقف كل لاعب أمام صفين من الحفيرات ويجعلان يممران
اثني عشر حجراً بين تلك الحفر باتباع مجموعة من القواعد بالغة التعقيد
سنعفي أنفسنا من الخوض في تفسيرها. وتتمثل اللعبة في أن يحاول كل من
اللاعبين أن يدخل الحجارة التي بيديه في الحفيرات التي تعود إلى خصمه.
ولذلك يجعلان يدفعان تلك الحجارة قدماً حسب عدد من الخانات حسب النقاط التي
يحصل عليها كل واحد، وذلك بالاقتراع أمام كل حفيرة بواسطة أعواد من القصب
أو الكلخ. فهم يستعيضون بهذه الأعواد عن قطع النرد، ويأخذون ستة من تلك
الأعواد فيجعلون يقذفون بها في الهواء وينظرون كيف تسقط. فإذا سقطت جميعاً
على وجه واحد فهي الضربة التي يسمونها «بكرة»، وإذا سقطت خمسة منها على
الوجه المحدب وواحد على الوجه المقعر، أو سقط واحد على الوجه المحدب وخمسة
على الوجه المقعر فهي الضربة المسماة لديهم «السيك»، وإذا سقط أربعة على
وجه واثنان على آخر فهي الضربة التي يسمونها «دار ربعة» أو «الفاسدة»، حسب
الأوجه التي تسقط عليها. وأما إذا سقطت ثلاثة من تلك الأعواد على وجه وثلاث
على آخر فتسمى ضربة «دار ثلاثة». وأما أفضل تلك الضربات فهي «السيك» التي
تفضي بالحجارة إلى الخانة الرابعة عشرة. وتنتهي اللعبة باكتساح اللاعب
الخانات التي تعود إلى خصمه بعد سلبه قطعه جميعاً.
وما دمت بصدد هذا
الموضوع فسأهتبل الفرصة للحديث في ما يلي عن مجموعة من الألعاب قد وقفت
عليها في مناطق عديدة من المغرب، ورأيتها خاصة عند حاحا والشياظمة.
فلعبة
الحظ التي يلعبونها بقطع خشبية («أعواد» في العربية و»تاكشحوط» في
الشلحة)، لعبة شديدة الشيوع عندهم. ولديهم لعبة شعبية بأن يجتمع عدة أشخاص
لأكل عنقود من العنب، فيجعلون يتناولون منه حبة تلو أخرى، فمن كانت الحبة
الأخيرة من نصيبه فهو الخاسر، ويلزم بأداء الخسارة. وهي تكون بأن يدفع ليرة
واحدة أو بشراء سلة عنب. وهنالك لعبة أخرى هي المعروفة باسم الفلبينية أو
«ياداس»، وهي تكون بأن يجذب كل واحد طرفاً من عظم الدجاج الذي على هيأة v،
وتعرف هذه اللعبة في منطقة شمال أفريقيا باسم «فريوات»، ولم أقف على هذه
اللعبة في جنوب المغرب.
لعب الأطفال
كثيراً
ما ترى الأطفال المغاربة يلعبون لعبة «الديور»؛ وتكون هذه اللعبة بأن
يقرفص لاعبان جنباً إلى جبن، وأمام كل واحد منهما ثلاث أكوام من الحجارة
ينبغي أن يكون كل واحد منها في عدد فردي. فالذي يبتدئ اللعب يأخذ كومة من
تلك الأكوام الثلاث ويجعل يوزع حجارتها واحدة فواحدة بين الأكوام الست.
فإذا فرغ من هذه العملية أخذ لنفسه جميع الأكوام ذات العدد الزوجي وترك ما
عداها. ويفعل منافسه كمثل فعله، وهكذا دواليك، إلى أن يأخذا أكوام الحجارة
كلها. فالذي اجتمع لديه أكبر عدد من الحجارة كان هو الفائز. وقد يلعبون
كذلك لعبة الفرد والزوج. فالأطفال في جنوب الحوز يشد الواحد منهم على يده
ويقربها من منافسيه قائلاً : «شلتك» [كذا]، والشلوح في حاحا يقولون :
«شلُّوك». ويلعبون كذلك لعبة للتخمين في أي يد يوجد الشيء، ويسمون هذه
اللعبة «الخاتم»؛ فالذي ينجح في التخمين يضرب الآخر ضربة، وإلا كان هو الذي
يتلقى الضربة. وأما اللعبة التي نلعبها [نحن الأوروبيين] بالعُظيمات فإن
الأطفال في شمال أفريقيا يلعبونها بالحجارة وتعرف عندهم باسم «شقيلب»،
لكنهم [في المغرب] كما في الجزائر يُمنع عليهم أن يلعبوها داخل المنازل؛
فهو عندهم شيء جالب للأذية. والأطفال في هذه اللعبة يأخذون الحجارة
المختارة ويقذفونها ثم يتلقونها بظاهر الكف، ثم يقذفونها بظاهر الكف
ويتلقونها في الهواء براحة الكف المبسوطة من أعلى إلى أسفل. فإذا تمكن
الواحد منهم من التقاط الحجارة كلها كان هو الفائز، وإذا أفلت منها شيئاً
فيكون قد مني بالخسارة. لكن لهم في هذه اللعبة شتى الوسائل التي تسمح لهم
بالتقاط الحجارة التي تسقط؛ ومن ذلك أن اللاعب فيما يلتقط حجراً من الأرض
يقذف بموازاة له حجراً آخر في الهواء ثم يلتقطه بعدئذ. وكذلك هي لعبة
الحفرة الصغيرة؛ «الحفيرة»، التي يلعبها الأطفال [في البلاد الأوروبية]
بالكريات الزجاجية نرى الأطفال في الحوز يلعبونها بالحجارة، ويلعبونها في
أحسن الأحوال بالفلوس؛ فهم يقذفون من بعيد بالقطع النقدية وكل شيء منها دخل
تلك الحفيرة كان من نصيب الرامي.
ألعاب الأطفال: الدمية والفرفارة.
قد
لا تجد شعباً واحداً من شعوب العالم لا تلعب فيه الفتيات الصغيرات لعبة
الدمى أو العرائس. ففي الحوز كما في منطقة شمال إفريقيا كلها تسمى الدمية
«عروسة»، ويسمونها في الشلحة «تيسليت»، ومعناه «العروس». ولا يزيدون في صنع
هذه العروس في العادة عن قصبة يثبتون إليها أخرى على هيأة صليب تمثيلاً
للذراعين، وأما الرأس والعينان والأنف والفم فيرسمونها بالفحم، ويُلبسون
هذه اللعبة البدائية من الثياب الفاخرة. وعلى خلاف ما تكون هذه الدمية عند
بعض الشعوب البدائية الذين يتخذونها لهم إلهة ودمية على حد سواء، فإنها عند
المغاربة، كما عند سائر شعوب شمال إفريقيا، يحيطونها بالتوجس والريبة، ولا
يحبون للأطفال أن يلعبوا بهذه الدمية داخل البيت، ولا يبقون عليها معهم في
الغرفة حيث ينامون؛ فمن شأن ذلك أن يلحق بهم الأذى. وهذا يدلنا على ذلك
الخوف من التمثيلات المرسومة الذي يتشرك فيه الأقوام البدائية، ثم جاء
الإسلام فزاده تكريساً وترسيخاً بتحريمه التصوير.
وهناك لعبة أخرى من
ألعاب الأطفال قد كانت مثاراً لاستغراب علماء العراقة، وهي اللعبة التي
سمعناهم في نواحي الصويرة يسمونها «الفرفارة»، ونحسب أن اسمها عند الرحامنة
«فرنانة»، وتسمى عند آيت إيمور «سمارة». وقوام هذه اللعبة لوح خشبي طويل
ورقيق يشدون إلى طرفه عدة حبال بطول متر إلى متر ونصف، ثم تشد كل مجموعة من
جانبها تلك الحبال بكل قوة، بحيث لا يتحرك ذلك اللوح. وبعد ذلك يطلقون تلك
الحبال مجتمعين كما يفعلون في المقاليع، فيجعل اللوح يدور بسرعة من حول
محوره ويجمع حوله الحبال، ثم يدور في الاتجاه المعاكس، وهكذا دواليك، طالما
بقيت حركة في تلك الآلة الدوارة. فتسمع لها هديراً متقطعاً يكون في بعض
الأحيان شديداً بحيث يسمعونه من الأماكن البعيدة متى أحكموا صنع تلك الآلة.
ونحن نتعرف في هذه اللعبة على تلك التي كانت موظفة في السِّريَّات
الأغريقية ووقف عليها علماء العراقة المعاصرون، ولا تزال إلى اليوم متداولة
في الاحتفالات الدينية عند الأستراليين والنيوزيلانديون وعند الزولو وعند
الأهلي في المكسيك الجديدة... وقد انحط شأن هذه الأداة، كغيرها كثير من
الأدوات التي كانت لها مكانة وحظوة عند البدائيين، فدخلت في ألعاب الأطفال،
وصارت هي لعبة «ذات الخوار» عند الأطفال الأنجليز والفرفارة عند الأطفال
المغاربة، وليس ببعيد أن نقع على هذه اللعبة سائر مناطق شمال إفريقيا.
ومن
جملة الألعاب التي تتطلب الحركة نذكر لعبة «علّي وشلّي»، وهي لعبة يجتمع
لها الأطفال وقد تسلح كل واحد منهم بعصا. فالذي يخسر منهم اللعبة الأخيرة؛
أي ذلك الذي «يخلّص» بتعبير الأطفال، يقذف بعصاه في الهواء وسرعان ما يقذف
جميع اللاعبين المتحلقين من حوله بعصيهم عساهم يصيبون عصا الأول وهي لم تزل
في الهواء. فإذا أفلح واحد منهم على الأقل فإن الذي خلص يعود ليستأنف
اللعب، وأما إذا لم تفلح أي واحد منهم في إصابة تلك العصا عادوا ليلتقطوا
عصيهم، فالمتأخر منهم في التقاط عصاه يكون هو الخاسر، فيقف بدوره وسط
الدائرة. وعندهم لعبة أخرى يسمونها «سرح جمال بوك». فالذي يخسر اللعبة
يحكمون عليه بأن يمثل دور الجمل، فهو يعض على حبل ويقوم لاعب آخر يمثل دور
الجمَّال فيمسك بطرف ذلك الحبل. ويجتهد اللاعبون الآخرون لتوجيه ضرباتهم
إلى الجمل من كل جانب، ويحاول الجمل أن يدافع عن نفسه بتوجيه ركلات ذات
اليمين وذات الشمال، ويكون على الجمَّال أن يبذل قصاراه لحماية بهيمته.
فإذا أفلح الجمل في ركل أحد مهاجميه انتقل إليه دور الجمل وانتقل الجمل
ليأخذ دور الجمَّال. وقد يتعرض اللاعب الذي يقوم بدور الجمل أحياناً
للإصابات البليغة. ولديهم لعبة أخرى يلعبها الكبار منهم كما يلعبها الصغار،
وهي المعروفة باسم «الحيح»، من الهتاف الذي لا يفتأ اللاعبون يطلقونه،
والذي يخسر منهم اللعبة في الأخير يضع إحدى رجليه في حفرة قد جعلوها لهذا
الغرض، ويتحلق من حوله جميع اللاعبين الآخرين، ثم يتحلق حوله الآخرون
ويجعلون يركضون ويقفزون وهم يوجهون إليه الضربات خبط عشواء، متصايحين :
«حيح حيح»، ويكون على اللاعب الذي يتوسط الحلقة كذلك أن يرد على ضرباتهم
بالركل بالرجل الأخرى التي خارج الحفرة، فالذي يصيبه يحل محله.
الزواج عند الرحامنة
إذا
أزمع الرحامنة أن يقيموا حفل الزواج، ذهبت النساء من عائلة الخطيب لزيارة
عائلة الفتاة التي يرغبن في تزويجها له بقصد الاستخبار عنها. فإذا تم
الاتفاق في الأمر جاء والد الخطيب في بعض أصحابه عند أبي الخطيبة، وجاء معه
بخروف. ثم يأخذان يقلبان الحديث في تفاصيل العرس. والمهر يكون مرتفعاً
بوجه عام، وما أسهل ما يرتفع ليصل إلى أربعين دورو، علاوة على صندوق يشتمل
في العادة على حزام من الحرير وخمسة أزواج من «الشرابيل» وخمسة أزاوج من
«الريحية» ومنديلين من الحرير وإزار ومنصورية، ويزيد إليها الخطيب ثلاثة
خرفان. وأما والد البنت فيقدم لابنته جهازاً يشتمل في العادة على حايكين،
أحدهما قديم والآخر جديد، وحزام من الصوف وقربة ومهراز وكطيفة [زربية]
وسطلة (وهي طست من نحاس ذو مقبض، يسمى عندهم في الجزائر «مرجن»)، وبضعة
مزاود (وهي جلود الغنم المدبوغة لتُجعل فيها المؤونة)، وطبك (وهو طبق كبير
من الدوم)... ويعطي الأب ابنته عقداً متكوناً من القطع النقدية، والحلي
الأخرى يقدمها لها العريس. ثم إنهم قبل الخوص في أي حديث في شروط الزواج
يذبحون الخروف الذي جاء به أبو الخطيب، وأثناء ما تكون تجري الاتفاقات بين
الأبوين تنهمك النساء في إعداد الطعام. وما أن يتفق الأبوان حتى تطلق إحدى
النساء عقيرتها بالزغاريد الحادة، فيعطونها «كرش» (25 سنتيم من البسيطة)،
وتُتلى الفاتحة، ولا يحتاجون فيها عامة إلى وجود طالب. وبذا يكون قد تم
الزواج، لكنهم لا يشهرونه في العادة إلا بعد وقت طويل، والغالب عندهم أنهم
يقيمون العرس سنة بعد الخطوبة.
وفي عشية اليوم ستزف فيه العروس يجتمع
العريس وأصحابه، فيسمي أحدهم وزيراً، فيحمل هذا الأخير على كتفه سيفاً كما
يحمل برنوس العريس. وأما العريس فالجميع يسمونه «سيدنا»، وهو اللقب نفسه
الذي يدعى به السلطان نفسه. وأما أصدقاؤه الحميمون فيسمون جميعاً «إسلان»،
ويسمى بقية الشبان الآخرين «نايبة»، وهم المسخرون؛ فهم خدام للسلطان وإسلان
حاشيته. وفي صبيحة يوم العرس يدهن أصحاب العريس له يديه بالحناء، ويوضع
أمامه إناء فكل واحد يأتي ليضع فيه هديته. وتكون العروس بدورها في اليوم
الذي يسبق العرس قد تطهرت باستعمال الحناء. فهم يجلسونها فوق بردعة فتمد
يديها وتجعل أمها تضع لها الحناء، فإذا فرغت منها مسحت يديها برجليّ
العروس؛ وفي ما عدا ذلك لا يجعلون حناء في رجليّ العروس. ويضعون أمام
العروس إناء فالمدعوون يضعون فيه هداياهم الزهيدة لها، ويكون العريس هو أول
من يضع هديته في ذلك الإناء. لكنه لا يرى عروسه بطبيعة الحال؛ فهي تكون
محجبة بالخمُر. وحفل الحناء هذا، سواء منه الذي يقام للعروس أو الذي يقام
للعروسة، عرفٌ واسع الانتشار في سائر مناطق شمال إفريقيا، وقد تتخلله في
بعض الأحيان تنويعات معقدة. وهم يعتبرون هذه العملية بمثابة تطهير، وكذلك
هو نفسه المعنى الذي يتخذه عند البدائيين الطقسُ المتمثل في تلطيخ الوجه
بالطين أو بالألوان؛ فهم يتصورون أنهم إذ يغسلون بعدئذ ذلك الطلاء أو
يتركونه يتلاشى ويزول رويداً رويداً، كفعل [المسلمين] مع الحناء، يبعدون في
الوقت نفسه عن أجسامهم التأثيرات السيئة التي يمكن أن تعلق بها. ولعل في
هذا الذي ذكرنا تفسيراً للشهرة الواسعة والحظوة الكبيرة التي تتبوؤها
الحناء عندهم. ومن المعلوم أن أوراق هذا النبات (Laivsonia inermis, L،
المعروف في العربية باسم «الحناء») تُدق إلى أن تصير مسحوقاً دقيقاً جداً
وتُخلط بالماء فتُجعل على الأظافر والأصابع، كما يطلون بها اليدين من كل
جانب ويجعلونها كذلك للرجلين. ويستعملونها كذلك في صبغ الشعر باللون
الأشقر، وقد يزيدون إليها صباغة الجوز إذا أرادوا أنة يجعلوا للشعر اللون
الأسمر. وتفيض كتب الآداب الإسلامية في ذكر منافع الحناء، وما أكثر ما تسمع
المسلمين يجمعون بطريق السجع بين «الحنّة» و»الجنة».
يوم العرس
ثم يحين يوم الزفاف، ويكون موعده في وقت الغروب. فإذا كان بيت الزوجية
بعيداً حُملت إليه العروس فوق جمل، ويكون وقت خروجها من بيت أسرتها بحيث
تصل إلى بيت زوجها في الليل. وإذا كان بيتا العروسين متجاورين أُركبت
العروس فرساً ولم تتوجه إلى بيت زوجها إلا عند الغروب. والوزير هو من
يرفعها فوق ظهر البهيمة ويسير يقودها في جو ملؤه زغاريد ودوي العيارات
النارية من بنادق الفرسان اللاعبين بالخيول. وتكون العروس كحالها دائماً
متحجبة وقد لبست إزاراً، لكنها لا تتمنطق، كجري العادة الثابتة، بحزام، ففك
الحزام يكون في سائر البلدان علامة على الدخول في الحياة الزوجية. فإذا
جاءت إلى بيت الزوجية تلقتها النساء بالرقص، ودخلت البيت وهي راكبة صهوة
الفرس، ثم يعينها الوزير على النزول ويجلسها، وفي إزار ممدود أمامها تفرغ
شيئاً من الشعير لتطعمه البهيمة. وتجلس العروس ومن حولها أطباق قد احتوت
قمحاً وسميداً وزبدة وتمراً، لكن يغيب بينها العسل؛ فالعسل معدود عند
المسلمين وبوجه خاص عند المغاربة، إلا من بعض الحالات الخاصة، في الفأل
السيء، ولو اتفق لهم أن أدير على الضيوف أثناء حفل الزفاف فإنهم يحرصون على
ألا يقع عليه نظر العروس. ثم تشرب العروس من كوب به حليب، وتقدمه إلى
الحضور ليشربوا منه بعدها. ويصيح أبوا العروس : «ضيف الله لله»، بمعنى طلب
الضيافة عند أبويّ العريس، فيردان عليهما بالعبارة المأثورة: «مرحبا،
مرحبا». وسنلاحظ أنه لا يجري خلال ذلك كله ما يجعل للعرس من شبه بعملية
الخطف.
حفلات الزواج
ينقطع
العريس عن رؤية والديه أياماً كثيرة قبل حفل الزواج، إذ تقام له نوالة
صغيرة لصق خيمة العائلة، تكون في الحقيقة بمثابة الغرفة يزيدونها إلى خيمة
الأسرة وتكون تتصل وإياها. ويلتزم العريس هذه النوالة لا يبرحها ليلاّ يرى
أمه وأباه، فهو فيها يحتجب عن الناس ولا يشاركهم الاحتفال بمقدم العروس.
فإذا انتهى ذلك الحفل جاء العريس في موكب تتقدمه النساء ويسير الرجال من
بعدهن وكلهم في رقص. وفي هذه اللحظة يدخله الوزير في نوالته الصغيرة، حيث
العروس لوحدها. فإذا تم له الدخول بعروس أخبر الوزير وأصحابه فيأخذون من
فورهم يطلقون العيارات النارية في الهواء. ويسلم العريس الوزير القميص
المدمى، فيجعل الوزير يرقص وهو يفرج الجميع رجالاً ونساء على ذلك القميص،
وقد ربما طاف به حتى داخل مسجد الدوار، الذي لا يزيد هو نفسه عن خيمة تحيط
بها نوايل الطلبة.
وفي صباح اليوم الذي بعدُ يعطي الزوج عروسه ريالاً
(وهي قطعة مغربية بقيمة مائة قرش)، ويبدو من الصعب أن نحمل هذه الهدية على
أنها بديل لمهر الزوجة، فهو شيء سبق للزوج أن دفعه. وتكون الأيام السبعة
التي بعد أياماً ملؤها الاحتفالات، خاصة منها الأيام الثلاثة الأولى، فهم
فيها يظلون في لهب بالخيل والبارود. وفي اليوم التالي على الزفاف يشرع
الوزير في أداء مهامه في صورة ساخرة؛ فهو يقلد قائد القبيلة، ويأتي إليه
المدعوون ليعرضوا عليه خلافات مفتعلة، فينزل بهم عقوبات، أكثرها يكون
غرامات ليدفعوها إلى العريس. ثم إنهم يقيمون أسواقاً سخرية؛ حيث يبيعون
البيضة بخمسة قروش والدجاجة بأربعين قرشاً، وهي أسعار مجحفة عند الرحامنة،
ويُلزم المدعوون بأداء هذه المبالغ برسم الهدايا للعريس. بل إن هذا النوع
من الهدايا يكون شيئاً إجبارياً عند جميع الضيوف المتنافسين في إبداء
السخاء، ويسمى عندهم هذا الحفل «أبراز» [brâz]. ويكون على العريس بدوره بعد
ذلك، إذا استدعي إلى عرس، أن يأتي العريس بهدية تكون تكافئ الهدية التي
تلقاها منه يوم أن كان عريساً.
حفلات الزواج: الطاوسة
إن
المبلغ الذي يقدم إلى العريس في ذلك اليوم برسم الهدية إنما يعتبر في
حقيقة الأمر ديناً في رقبته، وهو المسمى عندهم في الجزائر «الطاوسة» كما
يعرف باسم «الكنبوش». وتعتبر هذه الطاوسة في الجزائر بمثابة مؤسسة حقيقية
للتعاون والتكافل. فالواحد منهم إذا اعتزم إقامة عرس كان معوّله على تلك
الطاووسات التي ستتحصل له من عند الحضور. وحيث إنه يكون عارفاً بالمبلغ
المالي الذي يكون هو نفسه أو والده قد دفعه فهذا يجعل في إمكانه أن يعرف
المبلغ الذي سيحصله بدوره، فيقيم حفل العرس بناء عليه. كثيراً ما تراهم في
القبايل الصغرى على سبيل التمثيل يفرشون منديلاً أرضاً ويأتي كل واحد منهم
ليضع فوقه مبلغ الهدية، ويصيح البراح في الملإ بإعلان قيمة الهدية واسم
صاحبها، فيما يجلس طالب القرفضاء على جانب ويدون في سجل أسماء المساهمين
والمبالغ المالية المعلنة. وهم يجعلون تلك اللائحة للتثبت من الإسهامات
المقدمة في هذه الاحتفالات. والعادة عندهم أن يرد الواحد منهم مبلغ الهدية
بأكثر مما أخذ، وقد تدفع الرغبة في التنافس في إظهار السخاء لبعضهم إلى أن
يردوا المبالغ التي حصلوا عليها ضعفين أو ثلاثة أضعاف. وأما إذا أراد
الواحد منهم أن يفسد العلاقات الطيبة بينه ومضيفه، أو أراد أن يبين أنه لم
يعد يربطه به غير علاقة واهية، فإنه يقتصر على رد تلك الهدية بمثلها ولا
يزيد عليها شيئاً. غير أنه لا يمكنه في جميع الأحوال أن يردها بأقل منها؛
فهو مبلغ واجب من الناحية القانونية، والذي يبدو أن الشرع في الجزائر قد ظل
إلى اليوم يقر هذا النوع من الدين. ثم إنهم لا يقتصرون بهذه الطاووسة على
الأعراس، بل يقيمونها كذلك في احتفالات أخرى؛ فالواحد منهم إذا كان أعطى
الكثير من تلك الطاووسات بالمبالغ الكبيرة يمكن له في الأيام العصيبة أن
يجد فيها عوضاً بتنظيمه لحفل كبير فيسترد به مبالغ هداياه السابقة، ويفضل
بين يديه منها شيء من المال. بل إن هذه العملية لا تخلو أحياناً من بعض
التجاوزات، وقد سعت الإدارة في الجزائر في وقت معين إلى وقفها، وذلك بتقنين
الطاووسة وإيكال استخلاصها إلى جابي الضرائب، ومن حسن الحظ أن هذا المشروع
الذي بعث عليه حب مفرط للتقنين لم يعمر طويلاً.
حفلات الزواج
في
ذلك اليوم نفسه تضع العروس الحركوس وتتطيب بأقوى العطور، من قبيل
«السنبل»، أو النرد السلتي، والقرنفل والزعفران ونبات آخر يسمونه «التارة»
لم أفلح في تحديد ماهيته. وتلبث الزوجة خلال أيام العرس السبعة من غير
حزام، ولا تأخذ تتمنطق به إلا في اليوم السابع. ويظل العريس خلال تلك
الأيام السبعة لا يقابل أبويه، وأما العروس فتقابل أمها في اليوم التالي
على حفل الزفاف، لكنها تلبث سنة كاملة دون أن ترى أباها، وإذا رعب أبوها أن
يراها فلم يكن لها بد أن تجازف بالأمر، غير أنها لا تفعل إلا بعد انقضاء
ثلاثة أشهر أو أربعة من الزواج.
حفل الزفاف
والعادة
عندهم أنه إذا توفي الزوج وكان له أخ غير متزوج فهو الذي يتزوج بأرملة
أخيه. وهم يعتبرون هذا الزواج نوعاً من الوصاية على أبناء الهالك الذين
بدون ذلك الزواج لا يبعد أن يقعوا بيد زوج آخر لأمهم فيقسو عليهم بسوء
المعاملة. وكذلك إذا توفيت الزوجة فإن الزوج يتزوج أختها لأجل أن يتربى
الأولاد في حضن خالتهم. لكن هذا العرف ليس ثابتاً عندهم بقدر ما هو العرف
الآخر الذي يقضي بزواج الرجل منهم بأرملة أخيه. وترانا نتساءل هل يكون لهذا
العرف عندهم من نسب إلى عادة زواج السلفة التي نص عليها سفر التثنية عند
اليهود المغاربة؟ لكن الثابت كذلك عند عامة المسلمين في المغرب أن الأرملة
إذا رفضت الزواج بأخي الزوج لم تلق منهم تعنيفاً أو تبكيتاً. ومن الأعراف
الشائعة لديهم كذلك أن يتزوج الرجل بابنة عمه، فإذا تقدم الرجل للزواج من
ابنة عمه فلا يمكن أن يُرد طلبه.
من الألعاب الشهيرة عند الرحامنة: «العروسة» و«علّي وشلّي» و«شقيلب» و«الفرفارة»
أصول لعبة الكرة
لا
نبتغي أن نتكلف رد هذه العادات المثيرة إلى أصل واحد، لكن يمكننا الجزم
بأنه قد كانت لأهالي منطقة شمال إفريقيا منذ العصور القديمة بعض التواريخ
في السنة الشمسية يقبلون فيها على خوض معارك حقيقية، من غير أن نقدر على
تحديد أصل لهذه الممارسات. فلاغرابة إذن أن تكون عندهم لعبة الكرة بأوقات
معلومة من العادات الثابتة. وتكون عندهم هذه اللعبة في صورة معركة حقيقية،
وقد رأينا أنهم في المغرب يجعلونها بحق نزالاً في غاية الخطورة. فما السبب
وراء هذا الاقتتال والتطاحن عندهم في لعب الكرة؟ ربما دعانا هذا الأمر إلى
استحضار أحد الاحتفالات السحرية، فالقدرة السحرية للضربات على طرد الأرواح
[الشريرة] اعتقاد شديد الشيوع في أنحاء المعمور، وهذا أمر وقف عليه
الباحثون في السنوات الأخيرة. كما أن هنالك أقواماً آخرين كثيرين يقيمون
احتفالات سنوية لطرد الأرواح [الشريرة]. لكنه تفسير لا نراه كافياً. بل
نحسب أن من الأجدر بنا أن نفكر ههنا في تلك الاحتفالات الفلاحية التي كانت
[الأقوام البدائية] تقيمها في بداية السنة والتي كانت هي الأصل الذي منه
خرجت مهرجاناتنا. فقد كانوا يمثلون في تلك الاحتفالات لصراع فصل الصيف وفصل
الشتاء بمعارك ومآس. فربما كانت لعبة الكرة تمثيلاً من جملة تمثيلات أخرى
لتلك المعارك. ويجدر بالملاحظة في هذا الصدد أن فصل الربيع قد كان هو مبتدأ
السنة، وأنه كان من الناحية الفلاحية هو الفترة التي يتم فيها البذر؛ ذلك
بأن عملية البذر التي تقع في فصل الخريف إنما هي ممارسة حديثة العهد في
تاريخ البشرية، وأما تل العملية عند البدائيين فقد كانت تجري كلها في فصل
الربيع. وعليه فقد كان فصل الربيع هو أنسب الأوقات كلها لإعمال جميع
الممارسات السحرية المراد بها تكثير المحاصيل. وتتبوأ الصراعات والمعارك
موقع الصدارة في الاحتفالات الاستعراضية عند مختلف شعوب المعمور، ولا تزال
ترى الاستعراض الذي يقيمه الكاثوليك في الوقت الحاضر يخوضون فيه في معارك
حقيقية مستعملين فيها شتى أنواع القذائف؛ فهم يتراشقون بالبيض والفواكه،
كما أنهم قد أصبحوا على أيامنا يتراشقون بالنثارات الملونة. وقد جاء
مانهارت بتصوير للألعاب التي يقبل عليها القرويون الأوروبيون في مختلف
فترات السنة؛ كشأنهم في عيد الفصح وعيد التقدمة وأعياد الميلاد، وبين نسبها
إلى الطقوس الشمسية التي كانت تقام بغرض الاستكثار من المحاصيل الزراعية.
فالراجح أن تكون لعبة الكرة هي آخر ما تبقى تلك الاحتفالات. واللافت للنظر
أنه بينما انحط شأن الكرنفال كلياً فصار شيئاً في متناول العامة، بقيت لعبة
الكرة في بعض الحالات امتيازاً يختص به الطُّلبة، فهم يعتبرون بطبيعة
الحال الورثة المباشرين لطبقات السحرة الذين كانوا عند الأسلاف في عصور ما
قبل الإسلام يرأسون الاحتفالات العمومية. وأما من جهة أخرى ففي الحالة التي
يكون لعب الكرة بغرض الاستسقاء فالثابت أنها تكون تدخل في الطقوس السحرية
المتداولة على صعيد المعمور لتحقيق هذا الغرض، ولسوف نرى أن من خصائص هذه
الطقوس أن تكون ضاجة صاخبة وأن تتخللها عراكات، بله اقتتالات.
ألعاب الاقتراع
وتجدر
الإشارة مرة أخرى إلى أن لعبة الكرة تدخل فيها طرائق أخرى وأساليب نراها
في المغرب في جميع الأوقات وعند جميع فئات المجتمع. فهي تشكل إلى جانب لعبة
الفروسية والمصارعة والمسايفة واحداً من أكثر الألعاب التي يقبل عليها
العموم. وإلى جانب هذه الألعاب الرياضية تجد لديهم ألعاباً أخرى هي من
المراهنة الخالصة، وإن تكن من الأشياء التي تحرمها الشريعة الإسلامية. وتجد
واحدة من هذه الألعاب قد بلغت شأواً بعيداً عند الرحمانة، وهي المسماة
عندهم «السيك»، واللافت للانتباه أنهم لا يقبلون على هذه اللعبة في غير شهر
رمضان، ولم نهتد إلى معرفة السبب في الاقتصار عليها بهذا الوقت دون سواه.
وتكون هذه اللعبة بأن يقف كل لاعب أمام صفين من الحفيرات ويجعلان يممران
اثني عشر حجراً بين تلك الحفر باتباع مجموعة من القواعد بالغة التعقيد
سنعفي أنفسنا من الخوض في تفسيرها. وتتمثل اللعبة في أن يحاول كل من
اللاعبين أن يدخل الحجارة التي بيديه في الحفيرات التي تعود إلى خصمه.
ولذلك يجعلان يدفعان تلك الحجارة قدماً حسب عدد من الخانات حسب النقاط التي
يحصل عليها كل واحد، وذلك بالاقتراع أمام كل حفيرة بواسطة أعواد من القصب
أو الكلخ. فهم يستعيضون بهذه الأعواد عن قطع النرد، ويأخذون ستة من تلك
الأعواد فيجعلون يقذفون بها في الهواء وينظرون كيف تسقط. فإذا سقطت جميعاً
على وجه واحد فهي الضربة التي يسمونها «بكرة»، وإذا سقطت خمسة منها على
الوجه المحدب وواحد على الوجه المقعر، أو سقط واحد على الوجه المحدب وخمسة
على الوجه المقعر فهي الضربة المسماة لديهم «السيك»، وإذا سقط أربعة على
وجه واثنان على آخر فهي الضربة التي يسمونها «دار ربعة» أو «الفاسدة»، حسب
الأوجه التي تسقط عليها. وأما إذا سقطت ثلاثة من تلك الأعواد على وجه وثلاث
على آخر فتسمى ضربة «دار ثلاثة». وأما أفضل تلك الضربات فهي «السيك» التي
تفضي بالحجارة إلى الخانة الرابعة عشرة. وتنتهي اللعبة باكتساح اللاعب
الخانات التي تعود إلى خصمه بعد سلبه قطعه جميعاً.
وما دمت بصدد هذا
الموضوع فسأهتبل الفرصة للحديث في ما يلي عن مجموعة من الألعاب قد وقفت
عليها في مناطق عديدة من المغرب، ورأيتها خاصة عند حاحا والشياظمة.
فلعبة
الحظ التي يلعبونها بقطع خشبية («أعواد» في العربية و»تاكشحوط» في
الشلحة)، لعبة شديدة الشيوع عندهم. ولديهم لعبة شعبية بأن يجتمع عدة أشخاص
لأكل عنقود من العنب، فيجعلون يتناولون منه حبة تلو أخرى، فمن كانت الحبة
الأخيرة من نصيبه فهو الخاسر، ويلزم بأداء الخسارة. وهي تكون بأن يدفع ليرة
واحدة أو بشراء سلة عنب. وهنالك لعبة أخرى هي المعروفة باسم الفلبينية أو
«ياداس»، وهي تكون بأن يجذب كل واحد طرفاً من عظم الدجاج الذي على هيأة v،
وتعرف هذه اللعبة في منطقة شمال أفريقيا باسم «فريوات»، ولم أقف على هذه
اللعبة في جنوب المغرب.
لعب الأطفال
كثيراً
ما ترى الأطفال المغاربة يلعبون لعبة «الديور»؛ وتكون هذه اللعبة بأن
يقرفص لاعبان جنباً إلى جبن، وأمام كل واحد منهما ثلاث أكوام من الحجارة
ينبغي أن يكون كل واحد منها في عدد فردي. فالذي يبتدئ اللعب يأخذ كومة من
تلك الأكوام الثلاث ويجعل يوزع حجارتها واحدة فواحدة بين الأكوام الست.
فإذا فرغ من هذه العملية أخذ لنفسه جميع الأكوام ذات العدد الزوجي وترك ما
عداها. ويفعل منافسه كمثل فعله، وهكذا دواليك، إلى أن يأخذا أكوام الحجارة
كلها. فالذي اجتمع لديه أكبر عدد من الحجارة كان هو الفائز. وقد يلعبون
كذلك لعبة الفرد والزوج. فالأطفال في جنوب الحوز يشد الواحد منهم على يده
ويقربها من منافسيه قائلاً : «شلتك» [كذا]، والشلوح في حاحا يقولون :
«شلُّوك». ويلعبون كذلك لعبة للتخمين في أي يد يوجد الشيء، ويسمون هذه
اللعبة «الخاتم»؛ فالذي ينجح في التخمين يضرب الآخر ضربة، وإلا كان هو الذي
يتلقى الضربة. وأما اللعبة التي نلعبها [نحن الأوروبيين] بالعُظيمات فإن
الأطفال في شمال أفريقيا يلعبونها بالحجارة وتعرف عندهم باسم «شقيلب»،
لكنهم [في المغرب] كما في الجزائر يُمنع عليهم أن يلعبوها داخل المنازل؛
فهو عندهم شيء جالب للأذية. والأطفال في هذه اللعبة يأخذون الحجارة
المختارة ويقذفونها ثم يتلقونها بظاهر الكف، ثم يقذفونها بظاهر الكف
ويتلقونها في الهواء براحة الكف المبسوطة من أعلى إلى أسفل. فإذا تمكن
الواحد منهم من التقاط الحجارة كلها كان هو الفائز، وإذا أفلت منها شيئاً
فيكون قد مني بالخسارة. لكن لهم في هذه اللعبة شتى الوسائل التي تسمح لهم
بالتقاط الحجارة التي تسقط؛ ومن ذلك أن اللاعب فيما يلتقط حجراً من الأرض
يقذف بموازاة له حجراً آخر في الهواء ثم يلتقطه بعدئذ. وكذلك هي لعبة
الحفرة الصغيرة؛ «الحفيرة»، التي يلعبها الأطفال [في البلاد الأوروبية]
بالكريات الزجاجية نرى الأطفال في الحوز يلعبونها بالحجارة، ويلعبونها في
أحسن الأحوال بالفلوس؛ فهم يقذفون من بعيد بالقطع النقدية وكل شيء منها دخل
تلك الحفيرة كان من نصيب الرامي.
ألعاب الأطفال: الدمية والفرفارة.
قد
لا تجد شعباً واحداً من شعوب العالم لا تلعب فيه الفتيات الصغيرات لعبة
الدمى أو العرائس. ففي الحوز كما في منطقة شمال إفريقيا كلها تسمى الدمية
«عروسة»، ويسمونها في الشلحة «تيسليت»، ومعناه «العروس». ولا يزيدون في صنع
هذه العروس في العادة عن قصبة يثبتون إليها أخرى على هيأة صليب تمثيلاً
للذراعين، وأما الرأس والعينان والأنف والفم فيرسمونها بالفحم، ويُلبسون
هذه اللعبة البدائية من الثياب الفاخرة. وعلى خلاف ما تكون هذه الدمية عند
بعض الشعوب البدائية الذين يتخذونها لهم إلهة ودمية على حد سواء، فإنها عند
المغاربة، كما عند سائر شعوب شمال إفريقيا، يحيطونها بالتوجس والريبة، ولا
يحبون للأطفال أن يلعبوا بهذه الدمية داخل البيت، ولا يبقون عليها معهم في
الغرفة حيث ينامون؛ فمن شأن ذلك أن يلحق بهم الأذى. وهذا يدلنا على ذلك
الخوف من التمثيلات المرسومة الذي يتشرك فيه الأقوام البدائية، ثم جاء
الإسلام فزاده تكريساً وترسيخاً بتحريمه التصوير.
وهناك لعبة أخرى من
ألعاب الأطفال قد كانت مثاراً لاستغراب علماء العراقة، وهي اللعبة التي
سمعناهم في نواحي الصويرة يسمونها «الفرفارة»، ونحسب أن اسمها عند الرحامنة
«فرنانة»، وتسمى عند آيت إيمور «سمارة». وقوام هذه اللعبة لوح خشبي طويل
ورقيق يشدون إلى طرفه عدة حبال بطول متر إلى متر ونصف، ثم تشد كل مجموعة من
جانبها تلك الحبال بكل قوة، بحيث لا يتحرك ذلك اللوح. وبعد ذلك يطلقون تلك
الحبال مجتمعين كما يفعلون في المقاليع، فيجعل اللوح يدور بسرعة من حول
محوره ويجمع حوله الحبال، ثم يدور في الاتجاه المعاكس، وهكذا دواليك، طالما
بقيت حركة في تلك الآلة الدوارة. فتسمع لها هديراً متقطعاً يكون في بعض
الأحيان شديداً بحيث يسمعونه من الأماكن البعيدة متى أحكموا صنع تلك الآلة.
ونحن نتعرف في هذه اللعبة على تلك التي كانت موظفة في السِّريَّات
الأغريقية ووقف عليها علماء العراقة المعاصرون، ولا تزال إلى اليوم متداولة
في الاحتفالات الدينية عند الأستراليين والنيوزيلانديون وعند الزولو وعند
الأهلي في المكسيك الجديدة... وقد انحط شأن هذه الأداة، كغيرها كثير من
الأدوات التي كانت لها مكانة وحظوة عند البدائيين، فدخلت في ألعاب الأطفال،
وصارت هي لعبة «ذات الخوار» عند الأطفال الأنجليز والفرفارة عند الأطفال
المغاربة، وليس ببعيد أن نقع على هذه اللعبة سائر مناطق شمال إفريقيا.
ومن
جملة الألعاب التي تتطلب الحركة نذكر لعبة «علّي وشلّي»، وهي لعبة يجتمع
لها الأطفال وقد تسلح كل واحد منهم بعصا. فالذي يخسر منهم اللعبة الأخيرة؛
أي ذلك الذي «يخلّص» بتعبير الأطفال، يقذف بعصاه في الهواء وسرعان ما يقذف
جميع اللاعبين المتحلقين من حوله بعصيهم عساهم يصيبون عصا الأول وهي لم تزل
في الهواء. فإذا أفلح واحد منهم على الأقل فإن الذي خلص يعود ليستأنف
اللعب، وأما إذا لم تفلح أي واحد منهم في إصابة تلك العصا عادوا ليلتقطوا
عصيهم، فالمتأخر منهم في التقاط عصاه يكون هو الخاسر، فيقف بدوره وسط
الدائرة. وعندهم لعبة أخرى يسمونها «سرح جمال بوك». فالذي يخسر اللعبة
يحكمون عليه بأن يمثل دور الجمل، فهو يعض على حبل ويقوم لاعب آخر يمثل دور
الجمَّال فيمسك بطرف ذلك الحبل. ويجتهد اللاعبون الآخرون لتوجيه ضرباتهم
إلى الجمل من كل جانب، ويحاول الجمل أن يدافع عن نفسه بتوجيه ركلات ذات
اليمين وذات الشمال، ويكون على الجمَّال أن يبذل قصاراه لحماية بهيمته.
فإذا أفلح الجمل في ركل أحد مهاجميه انتقل إليه دور الجمل وانتقل الجمل
ليأخذ دور الجمَّال. وقد يتعرض اللاعب الذي يقوم بدور الجمل أحياناً
للإصابات البليغة. ولديهم لعبة أخرى يلعبها الكبار منهم كما يلعبها الصغار،
وهي المعروفة باسم «الحيح»، من الهتاف الذي لا يفتأ اللاعبون يطلقونه،
والذي يخسر منهم اللعبة في الأخير يضع إحدى رجليه في حفرة قد جعلوها لهذا
الغرض، ويتحلق من حوله جميع اللاعبين الآخرين، ثم يتحلق حوله الآخرون
ويجعلون يركضون ويقفزون وهم يوجهون إليه الضربات خبط عشواء، متصايحين :
«حيح حيح»، ويكون على اللاعب الذي يتوسط الحلقة كذلك أن يرد على ضرباتهم
بالركل بالرجل الأخرى التي خارج الحفرة، فالذي يصيبه يحل محله.
الزواج عند الرحامنة
إذا
أزمع الرحامنة أن يقيموا حفل الزواج، ذهبت النساء من عائلة الخطيب لزيارة
عائلة الفتاة التي يرغبن في تزويجها له بقصد الاستخبار عنها. فإذا تم
الاتفاق في الأمر جاء والد الخطيب في بعض أصحابه عند أبي الخطيبة، وجاء معه
بخروف. ثم يأخذان يقلبان الحديث في تفاصيل العرس. والمهر يكون مرتفعاً
بوجه عام، وما أسهل ما يرتفع ليصل إلى أربعين دورو، علاوة على صندوق يشتمل
في العادة على حزام من الحرير وخمسة أزواج من «الشرابيل» وخمسة أزاوج من
«الريحية» ومنديلين من الحرير وإزار ومنصورية، ويزيد إليها الخطيب ثلاثة
خرفان. وأما والد البنت فيقدم لابنته جهازاً يشتمل في العادة على حايكين،
أحدهما قديم والآخر جديد، وحزام من الصوف وقربة ومهراز وكطيفة [زربية]
وسطلة (وهي طست من نحاس ذو مقبض، يسمى عندهم في الجزائر «مرجن»)، وبضعة
مزاود (وهي جلود الغنم المدبوغة لتُجعل فيها المؤونة)، وطبك (وهو طبق كبير
من الدوم)... ويعطي الأب ابنته عقداً متكوناً من القطع النقدية، والحلي
الأخرى يقدمها لها العريس. ثم إنهم قبل الخوص في أي حديث في شروط الزواج
يذبحون الخروف الذي جاء به أبو الخطيب، وأثناء ما تكون تجري الاتفاقات بين
الأبوين تنهمك النساء في إعداد الطعام. وما أن يتفق الأبوان حتى تطلق إحدى
النساء عقيرتها بالزغاريد الحادة، فيعطونها «كرش» (25 سنتيم من البسيطة)،
وتُتلى الفاتحة، ولا يحتاجون فيها عامة إلى وجود طالب. وبذا يكون قد تم
الزواج، لكنهم لا يشهرونه في العادة إلا بعد وقت طويل، والغالب عندهم أنهم
يقيمون العرس سنة بعد الخطوبة.
وفي عشية اليوم ستزف فيه العروس يجتمع
العريس وأصحابه، فيسمي أحدهم وزيراً، فيحمل هذا الأخير على كتفه سيفاً كما
يحمل برنوس العريس. وأما العريس فالجميع يسمونه «سيدنا»، وهو اللقب نفسه
الذي يدعى به السلطان نفسه. وأما أصدقاؤه الحميمون فيسمون جميعاً «إسلان»،
ويسمى بقية الشبان الآخرين «نايبة»، وهم المسخرون؛ فهم خدام للسلطان وإسلان
حاشيته. وفي صبيحة يوم العرس يدهن أصحاب العريس له يديه بالحناء، ويوضع
أمامه إناء فكل واحد يأتي ليضع فيه هديته. وتكون العروس بدورها في اليوم
الذي يسبق العرس قد تطهرت باستعمال الحناء. فهم يجلسونها فوق بردعة فتمد
يديها وتجعل أمها تضع لها الحناء، فإذا فرغت منها مسحت يديها برجليّ
العروس؛ وفي ما عدا ذلك لا يجعلون حناء في رجليّ العروس. ويضعون أمام
العروس إناء فالمدعوون يضعون فيه هداياهم الزهيدة لها، ويكون العريس هو أول
من يضع هديته في ذلك الإناء. لكنه لا يرى عروسه بطبيعة الحال؛ فهي تكون
محجبة بالخمُر. وحفل الحناء هذا، سواء منه الذي يقام للعروس أو الذي يقام
للعروسة، عرفٌ واسع الانتشار في سائر مناطق شمال إفريقيا، وقد تتخلله في
بعض الأحيان تنويعات معقدة. وهم يعتبرون هذه العملية بمثابة تطهير، وكذلك
هو نفسه المعنى الذي يتخذه عند البدائيين الطقسُ المتمثل في تلطيخ الوجه
بالطين أو بالألوان؛ فهم يتصورون أنهم إذ يغسلون بعدئذ ذلك الطلاء أو
يتركونه يتلاشى ويزول رويداً رويداً، كفعل [المسلمين] مع الحناء، يبعدون في
الوقت نفسه عن أجسامهم التأثيرات السيئة التي يمكن أن تعلق بها. ولعل في
هذا الذي ذكرنا تفسيراً للشهرة الواسعة والحظوة الكبيرة التي تتبوؤها
الحناء عندهم. ومن المعلوم أن أوراق هذا النبات (Laivsonia inermis, L،
المعروف في العربية باسم «الحناء») تُدق إلى أن تصير مسحوقاً دقيقاً جداً
وتُخلط بالماء فتُجعل على الأظافر والأصابع، كما يطلون بها اليدين من كل
جانب ويجعلونها كذلك للرجلين. ويستعملونها كذلك في صبغ الشعر باللون
الأشقر، وقد يزيدون إليها صباغة الجوز إذا أرادوا أنة يجعلوا للشعر اللون
الأسمر. وتفيض كتب الآداب الإسلامية في ذكر منافع الحناء، وما أكثر ما تسمع
المسلمين يجمعون بطريق السجع بين «الحنّة» و»الجنة».
يوم العرس
ثم يحين يوم الزفاف، ويكون موعده في وقت الغروب. فإذا كان بيت الزوجية
بعيداً حُملت إليه العروس فوق جمل، ويكون وقت خروجها من بيت أسرتها بحيث
تصل إلى بيت زوجها في الليل. وإذا كان بيتا العروسين متجاورين أُركبت
العروس فرساً ولم تتوجه إلى بيت زوجها إلا عند الغروب. والوزير هو من
يرفعها فوق ظهر البهيمة ويسير يقودها في جو ملؤه زغاريد ودوي العيارات
النارية من بنادق الفرسان اللاعبين بالخيول. وتكون العروس كحالها دائماً
متحجبة وقد لبست إزاراً، لكنها لا تتمنطق، كجري العادة الثابتة، بحزام، ففك
الحزام يكون في سائر البلدان علامة على الدخول في الحياة الزوجية. فإذا
جاءت إلى بيت الزوجية تلقتها النساء بالرقص، ودخلت البيت وهي راكبة صهوة
الفرس، ثم يعينها الوزير على النزول ويجلسها، وفي إزار ممدود أمامها تفرغ
شيئاً من الشعير لتطعمه البهيمة. وتجلس العروس ومن حولها أطباق قد احتوت
قمحاً وسميداً وزبدة وتمراً، لكن يغيب بينها العسل؛ فالعسل معدود عند
المسلمين وبوجه خاص عند المغاربة، إلا من بعض الحالات الخاصة، في الفأل
السيء، ولو اتفق لهم أن أدير على الضيوف أثناء حفل الزفاف فإنهم يحرصون على
ألا يقع عليه نظر العروس. ثم تشرب العروس من كوب به حليب، وتقدمه إلى
الحضور ليشربوا منه بعدها. ويصيح أبوا العروس : «ضيف الله لله»، بمعنى طلب
الضيافة عند أبويّ العريس، فيردان عليهما بالعبارة المأثورة: «مرحبا،
مرحبا». وسنلاحظ أنه لا يجري خلال ذلك كله ما يجعل للعرس من شبه بعملية
الخطف.
حفلات الزواج
ينقطع
العريس عن رؤية والديه أياماً كثيرة قبل حفل الزواج، إذ تقام له نوالة
صغيرة لصق خيمة العائلة، تكون في الحقيقة بمثابة الغرفة يزيدونها إلى خيمة
الأسرة وتكون تتصل وإياها. ويلتزم العريس هذه النوالة لا يبرحها ليلاّ يرى
أمه وأباه، فهو فيها يحتجب عن الناس ولا يشاركهم الاحتفال بمقدم العروس.
فإذا انتهى ذلك الحفل جاء العريس في موكب تتقدمه النساء ويسير الرجال من
بعدهن وكلهم في رقص. وفي هذه اللحظة يدخله الوزير في نوالته الصغيرة، حيث
العروس لوحدها. فإذا تم له الدخول بعروس أخبر الوزير وأصحابه فيأخذون من
فورهم يطلقون العيارات النارية في الهواء. ويسلم العريس الوزير القميص
المدمى، فيجعل الوزير يرقص وهو يفرج الجميع رجالاً ونساء على ذلك القميص،
وقد ربما طاف به حتى داخل مسجد الدوار، الذي لا يزيد هو نفسه عن خيمة تحيط
بها نوايل الطلبة.
وفي صباح اليوم الذي بعدُ يعطي الزوج عروسه ريالاً
(وهي قطعة مغربية بقيمة مائة قرش)، ويبدو من الصعب أن نحمل هذه الهدية على
أنها بديل لمهر الزوجة، فهو شيء سبق للزوج أن دفعه. وتكون الأيام السبعة
التي بعد أياماً ملؤها الاحتفالات، خاصة منها الأيام الثلاثة الأولى، فهم
فيها يظلون في لهب بالخيل والبارود. وفي اليوم التالي على الزفاف يشرع
الوزير في أداء مهامه في صورة ساخرة؛ فهو يقلد قائد القبيلة، ويأتي إليه
المدعوون ليعرضوا عليه خلافات مفتعلة، فينزل بهم عقوبات، أكثرها يكون
غرامات ليدفعوها إلى العريس. ثم إنهم يقيمون أسواقاً سخرية؛ حيث يبيعون
البيضة بخمسة قروش والدجاجة بأربعين قرشاً، وهي أسعار مجحفة عند الرحامنة،
ويُلزم المدعوون بأداء هذه المبالغ برسم الهدايا للعريس. بل إن هذا النوع
من الهدايا يكون شيئاً إجبارياً عند جميع الضيوف المتنافسين في إبداء
السخاء، ويسمى عندهم هذا الحفل «أبراز» [brâz]. ويكون على العريس بدوره بعد
ذلك، إذا استدعي إلى عرس، أن يأتي العريس بهدية تكون تكافئ الهدية التي
تلقاها منه يوم أن كان عريساً.
حفلات الزواج: الطاوسة
إن
المبلغ الذي يقدم إلى العريس في ذلك اليوم برسم الهدية إنما يعتبر في
حقيقة الأمر ديناً في رقبته، وهو المسمى عندهم في الجزائر «الطاوسة» كما
يعرف باسم «الكنبوش». وتعتبر هذه الطاوسة في الجزائر بمثابة مؤسسة حقيقية
للتعاون والتكافل. فالواحد منهم إذا اعتزم إقامة عرس كان معوّله على تلك
الطاووسات التي ستتحصل له من عند الحضور. وحيث إنه يكون عارفاً بالمبلغ
المالي الذي يكون هو نفسه أو والده قد دفعه فهذا يجعل في إمكانه أن يعرف
المبلغ الذي سيحصله بدوره، فيقيم حفل العرس بناء عليه. كثيراً ما تراهم في
القبايل الصغرى على سبيل التمثيل يفرشون منديلاً أرضاً ويأتي كل واحد منهم
ليضع فوقه مبلغ الهدية، ويصيح البراح في الملإ بإعلان قيمة الهدية واسم
صاحبها، فيما يجلس طالب القرفضاء على جانب ويدون في سجل أسماء المساهمين
والمبالغ المالية المعلنة. وهم يجعلون تلك اللائحة للتثبت من الإسهامات
المقدمة في هذه الاحتفالات. والعادة عندهم أن يرد الواحد منهم مبلغ الهدية
بأكثر مما أخذ، وقد تدفع الرغبة في التنافس في إظهار السخاء لبعضهم إلى أن
يردوا المبالغ التي حصلوا عليها ضعفين أو ثلاثة أضعاف. وأما إذا أراد
الواحد منهم أن يفسد العلاقات الطيبة بينه ومضيفه، أو أراد أن يبين أنه لم
يعد يربطه به غير علاقة واهية، فإنه يقتصر على رد تلك الهدية بمثلها ولا
يزيد عليها شيئاً. غير أنه لا يمكنه في جميع الأحوال أن يردها بأقل منها؛
فهو مبلغ واجب من الناحية القانونية، والذي يبدو أن الشرع في الجزائر قد ظل
إلى اليوم يقر هذا النوع من الدين. ثم إنهم لا يقتصرون بهذه الطاووسة على
الأعراس، بل يقيمونها كذلك في احتفالات أخرى؛ فالواحد منهم إذا كان أعطى
الكثير من تلك الطاووسات بالمبالغ الكبيرة يمكن له في الأيام العصيبة أن
يجد فيها عوضاً بتنظيمه لحفل كبير فيسترد به مبالغ هداياه السابقة، ويفضل
بين يديه منها شيء من المال. بل إن هذه العملية لا تخلو أحياناً من بعض
التجاوزات، وقد سعت الإدارة في الجزائر في وقت معين إلى وقفها، وذلك بتقنين
الطاووسة وإيكال استخلاصها إلى جابي الضرائب، ومن حسن الحظ أن هذا المشروع
الذي بعث عليه حب مفرط للتقنين لم يعمر طويلاً.
حفلات الزواج
في
ذلك اليوم نفسه تضع العروس الحركوس وتتطيب بأقوى العطور، من قبيل
«السنبل»، أو النرد السلتي، والقرنفل والزعفران ونبات آخر يسمونه «التارة»
لم أفلح في تحديد ماهيته. وتلبث الزوجة خلال أيام العرس السبعة من غير
حزام، ولا تأخذ تتمنطق به إلا في اليوم السابع. ويظل العريس خلال تلك
الأيام السبعة لا يقابل أبويه، وأما العروس فتقابل أمها في اليوم التالي
على حفل الزفاف، لكنها تلبث سنة كاملة دون أن ترى أباها، وإذا رعب أبوها أن
يراها فلم يكن لها بد أن تجازف بالأمر، غير أنها لا تفعل إلا بعد انقضاء
ثلاثة أشهر أو أربعة من الزواج.
حفل الزفاف
والعادة
عندهم أنه إذا توفي الزوج وكان له أخ غير متزوج فهو الذي يتزوج بأرملة
أخيه. وهم يعتبرون هذا الزواج نوعاً من الوصاية على أبناء الهالك الذين
بدون ذلك الزواج لا يبعد أن يقعوا بيد زوج آخر لأمهم فيقسو عليهم بسوء
المعاملة. وكذلك إذا توفيت الزوجة فإن الزوج يتزوج أختها لأجل أن يتربى
الأولاد في حضن خالتهم. لكن هذا العرف ليس ثابتاً عندهم بقدر ما هو العرف
الآخر الذي يقضي بزواج الرجل منهم بأرملة أخيه. وترانا نتساءل هل يكون لهذا
العرف عندهم من نسب إلى عادة زواج السلفة التي نص عليها سفر التثنية عند
اليهود المغاربة؟ لكن الثابت كذلك عند عامة المسلمين في المغرب أن الأرملة
إذا رفضت الزواج بأخي الزوج لم تلق منهم تعنيفاً أو تبكيتاً. ومن الأعراف
الشائعة لديهم كذلك أن يتزوج الرجل بابنة عمه، فإذا تقدم الرجل للزواج من
ابنة عمه فلا يمكن أن يُرد طلبه.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 20 -
في جهات كثيرة من المغرب تتلقى النساء المولود الذكر بثلاث زغرودات و المولود الأنثى بزغرودة واحدة
الولادة
ما أن
ينتاب المرأة آلام المخاض حتى يستدعون لها القابلة، أو المولدة. فإذا عسرت
عملية الوضع غسلوا إبهام رجْل الزوج اليمنى وأشربوا المرأة الماء الذي
استعملوه في الغسل. وقد رأيت هذه العادة الغريبة في الجزائر أيضاً. غير
أنني لم ألحظ عندهم ما يمت بنسب قريب أو بعيد إلى ما يسمى «حمل الرجال». ثم
يدفنون المشيمة في مكان يحرصون كل الحرص على التكتم عنه، لأن من شأن تلك
المشيمة أن تُسخر في أغراض سحرية رهيبة، فإذا أذيق منه الشخص صار، كما
يقولون، كارهاً مبغضاً للنفساء. ومن المعلوم أن هذه العادة في دفن المشيمة
تعتبر عادة عالمية، ولاشك أن لها أوجه شبه كبيرة بالعادة الشائعة في الحرص
على دفن قلامات الأظافر والتي سلف أن تناولناها بالحديث. ثم يُلبسون الوليد
قطعة مستطيلة من الكتان ويجعلون في وسطها ثقباً يظهر منه رأس الوليد،
ويسمى عندهم «مخرجة». فإذا كان اليوم الثالث أزالوا عنه ذلك اللباس، لكنهم
يتركونه بإزائه ما دام صغيراً، فهو يقوم له بمثابة تعويدة تجلب له الخير.
وربما كانت هذه العادة تمت بنسب إلى الاعتقادات الخرافية التي كانت عند
البدائيين في أن روح الوليد لما تتعود بعد جسدَه أو تألفه، فلا يبعد أن
تخرج منه، فلذلك يضعون بقربه شيئاً قد كانت له به صلة قريبة، حتى إذا اتفق
لروح الوليد أن خرجت من جسده في لحظة من الفزع آوت إلى ذلك الشيء، وبعد ذلك
يجعلونها تعود إلى جسد الوليد. فإذا أزالوا عنه «المخرجة» ألبسوه قميصاً
صغيراً ولفوه في قماطه.
وهم يتلقون ولادة الذكر من الأفراح بأكثر مما
يتلقون ميلاد الأنثى. فإذا رزقوا ذكراً تلقته النساء بالزغاريد المسترسلة،
ولا يكون منهم شيء من تلك الأفراح عندما تولد لهم الأنثى. وتراهم في جهات
كثيرة من المغرب تتلقى نساءهم المولود الذكر بثلاث زغرودات، وكذلك يفعلن في
الجزائر، وأما المولود الأنثى فيقتصرن عليه بزغرودة واحدة. ومع ذلك فإن
هنالك مثلاً عربياً يقول : «اللي يبكَّر بالبنت يبكَّر بالبخت»، ومعناه أن
من كانت البنت أولى مواليده فهي له بداية سعيدة. وإن هم إلا يقولوا هذا
المثل على سبيل المواساة، وإن كل مسلم إلا يتمنى أن يبكروا بالولد الذكر.
التسمية / العقيقة
وسواء
أكان المولود ذكراً أو كان أنثى فإنهم يقيمون له في يومه السابع حفلاً
لتسميته يعرف عندهم بـ»التسمية»، وفي ذلك اليوم يذبحون خروفاً، يسمى عندهم
«عقيقة». ثم يضعون بعض الأعواد أرضاً وقد كنوا على كل واحد باسم. ويضعون
فوقها السكين الذي سيُذبح بها الخروف، ويأتون بشخص معصب العينين ليختار
واحداً من تلك الأعواد. وحينئذ يقوم أحد الحضور، لكن لا يكون الأب، فيتناول
السكين ويضعها فوق عنق الخروف ويذبحه قائلاً : «آلمحجوب سميناك فلان».
وسنلاحظ أن من العادات الأشد شيوعاً عند شعوب المعمور أنهم يقومون باختيار
اسم المولود بطريق الاقتراع مهما اختلفوا فيه طرائق وأساليب.
ثم إنهم
يدفعون إلى القابلة بجلد الخروف، وعند الشياظمة يعطونها أحشاء الذبيحة
ورأسها. والعادة في الجزائر، أو في إقليم وهران على الأقل، أنهم لا يشوون
من لحم الذبيحة التي تقدم في هذه المناسبة، فإن من شأن ذلك أن يلحق الأذى
الوليد، وكذلك يعطون القابلة أحشاء الذبيحة والكتف الأيمن. والعادة عندهم
في كثير من المدن المغربية، ومن جملتها الصويرة على سبيل التمثيل، أنهم في
الحفل الذي يقيمونه في اليوم السابع يعطون القابلة جلد الذبيجة ورأسها. ثم
إنهم يعطونها بعد ذلك في سائر أعيادهم الإسلامية الكبرى الكتف الأيمن من
الذبيحة. فيتحصل للمولِّدات المسلمات كميات عظيمة من اللحم، فيصنعن منه
«الخليع»، وهو اللحم المملح والمجفف. ذلك بأن القابلة عند المسلمين، شأنها
شأن حفار القبور والطالب، يعملون «في سبيل الله»، من دون أن يكون لهم حق في
أي أجر. والشرعية الإسلامية لا تجيز للمولدة، كما لا تجيز لمن قام بالذبح
في العقيقة، أن تحصل على شيء من الذبيحة، إذ لا يمكن أن يُدفع من هذه
الذبيحة على سبيل الأجر، فهي كما الأضحية التي تقدم في العيد الكبير، ينبغي
ألا تدخل في عداد الأشياء التي يباع وتشترى. بل إن هذه الذبيحة لا يجوز أن
تُسخر للولائم، بل ينبغي أن تُدفع في الصدقات، ولا يحق لأبي الوليد أن
يأكل منها. لكن الأمر يجري على خلاف ذلك في الواقع؛ فالقابلة تغدق عليها
الأسرة لتي طلبت خدماتها من الهدايا والعطايا. وعلى كل حال فالذبيحة التي
تقدم في العقيقة تعتبر عندهم شيئاً لازماً؛ فلا ترى الفقير المعوز منهم
يقعد عن أي وسيلة ليعق عن وليده في تلك المناسبة.
التسمية
لا
تخفى الأهمية الكبرى التي توليها الأقوام البدائية لاختيار الأسماء. وهو
أمر تجد كذلك عند المسلمين؛ فهم يعتنون عناية خاصة باختيار الأسماء،
ويؤثرون منها الأسماء الدالة على الحظ. وخير تلك الأسماء عندهم هو بطبيعة
الحال محمد، ومن أجل أن يعم التأثير الخير الذي يعتقدونه لهذا الاسم على
مصائر من يحملونه تراهم يمعنون في اشتقاق ما لاعد له من الأسماء من الجذر
(ح-م-د) الذي هو مشتق منه، فبالإضافة إلى اسم «أحمد» تجد لديهم حشداً
كبيراً من الأسماء التي هي تنويعات على الاسم «محمد»؛ من قبيل : «حمّو»
و»حمّود» و»حمدوش» و»حميدوش» و»حمّاموشن» و»حمدي» و»حمداش»، إلخ. وكذلك
يفعلون في أسماء الإناث؛ فالاسم «فاطمة» قد اشتقوا منه «فطومة» و»فاطمة»
و»فاضنة» و»طامو» و»طيطم» و»فطاطم»... ومن «خديجة» استقوا «خدُوج»
و»خدُّوجة» و»خديوج» و»خدادج»... والمسلم كيفما كان [قدره ومنزلته] يشعر
دائماً بالفخار أن يدعى سيدي محمد وسيدي عبد الله. والغاب عندهم أنهم يسمون
المولود يوم الجمعة باسم «بوجمعة»، ويسمون المولود يوم العيد باسم
«بلعيد»، ويسمون المولود حليق الرأس «المحجوب»، ويسمون المولود من غير شحمة
الأذن باسم «ميسوم»، وقد ربما جعلوا هذا الاسم للمولود لا تكون له هذه
العلامة، لكن الغالب عندهم أنهم يجعلونه لمن كانت تلك صفته. وإذا ولد لهم
توأمان فالغالب عندهم أن يسموهما الحسن والحسين، إذا كان التوأم أنثيين
أسموهما فاطمة وخديجة، وأما إذا التوأم ذكراً وأنثى فإن الغالب عندهم أن
يسموهما الحسن وفاطمة. وعلى عكس بعض الأقوام من البدائيين الذين يعتبرون
ميلاد التوأم فألاً سيئاً، فإن المسلمين [في الجزائر] يرونه مجلبة لليمن
والخير. لكنهم يرون ميلاد ثلاثة توائم فألاً سيئاً، وكذلك شأنهم مع
الحيوان؛ فإذا وضعت النعجة ثلاثة حملان قتلوا واحداً، ليدفعوا عنهم سوء
الأقدار.
والتوقير الذي يحيطون به الأطفال كثيراً ما نراه مترجماً في
الأسماء التي يسمونهم بها. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى العادة الجارية عندهم
في تسمية الأطفال الصغار باسم «سيدي»، وكيثراً ما يدعونهم كذلك «ملائكة».
ويسمون الوليد كذلك باسم «المحجوب» إلى أن يتم الأربعين يوماً أو نحوها،
وهذا شيء رأيناه في الطريقة المتبعة عندهم في التسمية. ولا ينبغي أن نخلط
هذا الاسم باسم «المحجوب» الذي يجعلونه، كما ذكرنا، للأطفال الذين يولدون
حليقي الرؤوس، ويظل هو الاسم الذي يحمله صاحبه بطبيعة الحال على الدوام؛
لكنه يظل في الحالتين اسماً يتفاءلون به؛ ومن المعلوم عندنا [نحن
الأوروبيين] أن الوليد الذي يولد حليق الشعر يكون دلالة على الحظ؛ فهذا
اعتقاد عام ويعود إلى أصول واضحة.
أهمية الاسم
لقد
ثبت من الدراسات التي تناول بها علماء العراقة المعاصرون الأقوام البدائية
بصورة قاطعة لا تقبل الشك أن الاسم عند يكون عندهم متماهاياً بوجه من
الوجوه مع الروح، وكما أن الخوف من رؤية الروح وهي تغادر الجسد شيء يتملك
على البدائي أفعاله في كثير من المناسبات، فكذلك تراه لا يتلفظ بالأسماء
إلا بحذر شديد، مخافة أن تفارق روحه الجسد. وكذلك يخاف البدائي أن يطلع على
اسمه الشخص الأجنبي، لأن هذا الأخير يكون حاملاً لما يشبه مضاعف الروح،
فربما خاض وإياها في ممارسات سحرية من شأنها أن تضر بصاحبها. وفي هذا الذي
ذكرنا تفسير للكره الشديد من الإنسان البدائي في سائر البلدان أن يفصح عن
اسمه، وهذه الكراهية نراها واضحة صارخة عند المسلمين [في الجزائر]، ونراها
خاصة من المغاربة. ولذلك فإذا عن لك أن تسأل الواحد منهم اسمَه وجب عليك،
وإلا رماك بسوء الأدب، أو امتنع من الإجابة عن سؤالك، أن تخاطبه بتلك
العبارة المهذبة : «كي سماك الله؟». وبذلك نفهم السبب، جرياً على كل هذه
المعتقدات، في أنهم يجعلون للأطفال خاصة أسماء هي كلمات فيها تلميح تعريضي،
لأنهم كائنات ضعيفة، فتكون حاجتهم أكثر من حاجة غيرهم إلى الحماية من
التأثيرات السيئة. ولشبيهة بهذه الأسباب كذلك يخشى الكثير من البدائيين أن
يتلفظوا بأسماء الأموات. وقد امتد هذا الخوف إلى الشعوب المتحضرة فاتخذ
عندها صورة مختلفة، وقد يكون أدى عندها إلى ظهور تلك العادة في التحرز من
التلفظ بأسماء الميت إلا ويتبعونها بعبارة ترحمية، لكن مما لاشك فيه أنه قد
أدى إلى ترسيخ هذه العادة عندهم، وهذا أمر جار كذلك عندنا [نحن
الأوروبيين] لا نختلف فيه عن المسلمين. والأهمية الكبرى التي يعلقها
الأهالي في شمال إفريقيا على كل ما يمت بصلة إلى الاسم أمرٌ رأيناه أجلى ما
يكون في الجزائر، وقت أن كان يجري تطبيق قانون 1882 المتعلق بالحالة
المدنية في هذا البلد؛ لتقنين نظام الأسماء الخاص بالأهالي؛ فقد وجدنا
بوادر تمرد قد أثارها هذا الأمر في بعض المناطق، ومن قبيل ذلك أن الأهالي
في زمورة قد نشروا شائعة تقول إن كل من ارتضى لوليده التلقب باللقب الجدي
الذي ألزمه به المفوض سيعرض وليده للهلاك في سنته. وجعلوا يتناقلون بينهم
قصة عن ذلك الشخص ارتضى أن يُبدل له اسمه فتوفي أياماً قليلة بعدها،
والواقع أنه لم يكن ليعييهم أن يجدوا غير واحد من أولئك الأشخاص الذين يصدق
عليها هذا الأمر. وقيل إن ذلك الشخص دُفن بزاوية سيدي محمد بن عودة، وإنهم
نبشوا قبره وأخرجوه ثم جعلوا فوق رأسه شاشية دلالة على الاحتقار الذي
ينزلونه بالكفار. ولزم حاكم وهران أن يتوجه إلى عين المكان، فتحدث إلى
الجماعة حديثاً فيه شدة وتعنيف. وقد ردت الجماعة بهمهمات فيها استياء، لكن
لم تستطع أن تحول دون سريان تطبيق ذلك القانون.
التمائم، الشعوذة
لقد
سبق لنا القول إن البدائيين يخافون كثيراً التأثيرات الشريرة، ذات المنشإ
السحري، التي يمكنها أن تهاجم الأطفال. وقد وقفنا على كثير من الخرافات
والمعتقدات الباطلة التي تدخل هذا المدخل. وقد كان للشعوب التي بلغت شأواً
بعيداً في الحضارة، مثل المصريين، طرائق وطقوس عديدة لطرد تلك التأثيرات.
والرحامنة يحرصون أشد الحرص على أن يجنبوا الأطفال أن تقع عليهم أنظار
النساء المعروفات بتعاطيهن للسحر، إذ لا تزال ترى لهؤلاء النساء وجوداً بين
ظهرانيّ المغاربة. ويحكى أنهن يحملن تحت ثيابهن صرة من القماش يعقدنها بين
أكتافهن، قد احتوت على دم إنسان قتيل ومسحوق من عظام الأموات ومواد أخرى
شيطانية. فكل طفل أطلن إليه النظر كان مآله الموت قبل أن يدرك سن البلوغ،
وكذلك يفعلن بصغار الحيوانات؛ من فراخ وحملان وفصال...إلخ، فإذا نظرت
«الساحرة» إلى الطفل انفجر من فوره باكياً، وحينئذ يُذهب به عند «الكواية»،
وهي بمثابة المبطلة للسحر، فتكوي الطفل بقضيب بأعواد من الدوم في ظهره
وبطنه وتعطيه كذلك دواء. وأما الأمهات فأكثر ما يخشين [على أطفالهن]
«التابعة»، وهو جني شرير يتبع الناس بشروره ويفرغ البيوت من أصحابها ويتسبب
في ما لاحصر له من الويلات، وأكثر ما ينال بشروره الأطفال. وقد تذهب
التابعة أحياناً بأطفال الرجل جميعاً، فهي تهلكهم واحداً بعد آخر، إلى أن
يفلح التعيس في قطع (وهي الكلمة المستعملة عندهم في العربية) هذه السلسلة
المتوالية من المصائب وذلك بالأضحية يتقدم بها إلى أحد الأضرحة. وينبغي له
أن يحرص في ذبح الأضحية، إن كان هو من يقوم بذبحها، على أن يستند إلى جدار
الضريح من أجل أن يحصل له الاتصال الكامل مع صاحبه.
الخصوبة
المرأة
التي يموت لها أولادها تباعاً، أو المرأة العاقر تستعير حزاماً من المرأة
الولود ذات الأولاد الأصحاء الأشداء، وتتمنطق به؛ إنه طقس مألوف من السحر
الخيّر شديد الشيوع في بلدان المغرب. وكذلك تحرص النساء على أن يتفادين لمس
حزام المرأة العاقر، وإذا طلبن منها أن تعيره لهن حرصت هي نفسها على أن
تعيره للمرأة منهن ذات الأولاد. وتدخل كذلك في هذا النوع من الاعتقاد تلك
العادة الجارية عندهم في فاس على أن يستعيروا لأجل العروس في حفلات الزواج
حلياً وأغراضاً ثمينة من بعض الأسر الميسورة والسعيدة؛ فهو شيء وقفنا عليه
في تلمسان، ومن عادتهم في هران أنهم يطلبون لأجل العروسين الجديدين كأس
حليب أو ماء من المتزوجين قديماً اللذين ينعمان بالحياة السعيدة.
طقوس العقيقة
يحلق
الرحامنة شعر الطفل في اليوم الرابع للولادة، والمغاربة يؤثرون أن يحيوا
هذه الشعيرة في اليوم الأربعين بعد الولادة، لكن الغالب عندهم أنهم لا
يلتزمون فيها تاريخاً معلوماً أو ثابتاً، وهذا هو الشائع في سائر أنحاء
المغرب. لكن كثيراً ما يحدث، وهذا شيء سمعنا بحصوله في نواحي مدينة
الصويرة، أن أول حلقهم شعر الوليد يكون في اليوم السابع، وهو اليوم نفسه
الذي يسمونه فيه. وعلى كل حال فمهما يكونوا قليلاً جداً ما يحيون هذه
الشعيرة في اليوم السابع فاللافت أنه هو التاريخ الوحيد تقره الشريعة
الإسلامية. فالشريعة الإسلامية تجمع العقيقة والتسمية والحلق في شعيرة
واحدة وواحدة. والمسلم تقع عليه في هذا اليوم سبع واجبات، وهي : أن يسمي
الوليد ويحلق له شعره ويتصدق بوزن ذلك الشعر مالاً أو ذهباً حسب الاستطاعة،
ويقوم له بذبيحة تسمى عندهم عقيقة، وأن يدهن رأس الوليد بالزعفران ويختنه
ويوزع على الأقارب من تلك الذبيحة.
الحلق الأول
إن
كل هذه الطقوس يؤتى بها دون استثناء بقصد التطهير، وهناك حديث يقول : «سئل
أبو عبد الله (عليه السلام) : ما الحكمة في حلق رأس المولود؟ قال : تطهيره
من شعر الرحم» وتخبرنا الإناسة المقارنة بوجود هذا الطقس عند شتى الشعوب،
وتعلمنا أن حلق شعر الرأس هو من أجل طرد التأثيرات أو المؤثرات السلبية أو
السيئة.
حلاقة الأطفال
غير
أنهم لا يحلقون رأس الوليد بالكامل، بل يتركون له خصلة أو خصلات من الشعر،
يوزعونها فوق رأسه بصورة شتى حسب الولي الذي يطمعون في أن يجعلوا الطفل
تحت حمايته. فالأولاد الذين يوجهونهم إلى سيدي بلعباس يجعلون لهم خطاً من
الشعر وسط الرأس خصلة صغيرة يسمونها «كرن» عن يمينه، وأما الذين يوجهونهم
إلى سيدي رحال فإنهم يجعلون لهم خطاً من الشعر وسط الرأس وكرن على جانبيه،
وأما الذين هم أتباع لمولاي إبراهيم (جنوبي أمزميز في جبال الأطلس) فيجعلون
للولد ناصية وزوج نواضر، وهما خصلات فوق الصدغين وخصلة على القفن، وأما
المنتسبون إلى مولاي عبد الله بن حساين على مقربة من تامصلوحت فيتركون
للولد ضفيرة في الجانب الأيسر، وأما المنتسبون إلى سيدي علي بن إبراهيم (في
تادلة) فيجعلون للولد ناصية على مقدم الجبهة وضفيرة صغيرة على الجانب
الأمين، إلخ... وتلك هي التكريسات الأكثر شيوعاً عند الرحامنة. وما أكثر ما
تراهم يجعلون في تلك الضفائر الصغيرة فوق رؤوس الأطفال تمائم مكتوبة أو
أصدافاً أو شيئاً من التراب يجلبونه من أحد الأضرحة ويجعلونه في صرة صغيرة
يعقدونها في تلك الضفائر. فإذا أدرك الطفل سن البلوغ أزالوا عنه كل خصلة من
الشعر وضفيرة، وما تركوا له غير النواضر، فالذين يحملونها منهم يبقون
عليها مدى الحياة ويتركونها تستطيل إلى أن تختلط بلحاهم.
الختان
يختن
الرحامنة أولادهم بين سن الثانية والخامسة. ومن المعلوم أن الموعد للقيام
بهذا الاحتفال يتباين أشد ما يكون التباين في سائر بلدان المغرب. فقد رأينا
أن الختان يقع عند دكالة في اليوم السابع للولادة وسن الثانية عشرة أو
الثالثة عشرة، وفي فاس يقع عندهم الختان بين سن الثانية وسن العاشرة، ويقع
عندهم في طنجة في سن الثامنة أو نحوها، ويقع عند جبالة بين سن الخامسة وسن
العاشرة، ويقع عندهم في نواحي الصويرة بين سن الثانية وسن الرابعة. ويأتي
الختان عندهم في الجزائر عامة في سن السابعة أو الثامنة. والشريعة
الإسلامية تحث على أن يكون ختان الولد في يوم العقيقة نفسه؛ أي أسبوعاً بعد
الولادة. والطبيب أو «الحجام» هو من يتولى هذه العملية في المغرب كما في
الجزائر، غير أنك لا تراه في الجزائر يستعمل في الختان مقصاً أبداً، بل
يقتصر فيه على سكين. ولم نسمع كذلك في أي مكان في المغرب أو في الجزائر أن
الحجام يستعمل في الختان سكيناً من الحجارة؛ غير أنه أمر كان شائعاً من
قبل في الجزائر، حسب رواية للأب دان. ومن المعلوم أن سكاكين الحجارة يكثر
استعمالها في الاحتفالات الدينية؛ فهي تدلنا على أن هذه الاحتفالات تعود
بأصولها إلى زمن لم يكن للناس فيه عهد بعدُ بالحديد. ثم إننا لا يساورنا شك
في أن الختان الذي نلاقيه عند كثير من الأقوام على اختلافها وبعد الشقة
بينها عادةٌ تعود بأصولها إلى غابر الأزمان. والرحامنة إذا قطعوا القلفة
[عن عضو الطفل] رموا بها حيثما اتفق ولم يعيروها اهتماماً، وقد أكدوا لي
أنهم لا يدفنونها في المقبرة. ومع ذلك فالعادة عندهم في معظم مناطق المغرب
أن يدفنوا القلفة، وكذلك يفعلون في سائر مناطق الجزائر. بل إنهم كثيراً ما
يجلبون التراب سواء من المقبرة أو من تخوم القبيلة، ويدفنون القلفة ثم
يعيدون التراب إلى موضعه وفي جميع الحالات يكون الختان عند الرحامنة، كما
عند سائر المسلمين، مناسبة لاحتفال كبير، ولا يسع عالم الاجتماع إلا أن
يلاحظ الأهمية الكبرى التي يوليها الناس إلى الختان، وشتان بينها والمكانة
المتواضعة التي تجعلها له الشريعة الإسلامية. ثم إنهم كثيراً ما يختنون
الأطفال جماعة. ومع أنها ليست العادة الغالبة في الختان، فإن من العادات
الثابتة عندهم أن الثري منهم إذا عزم على ختن ولده جعل كذلك من يختن أبناء
الفقراء في ناحيته، بل إن من الأغنياء من يوظف في كل سنة مبلغاً من المال
لهذا الختان الجماعي.
أصل الختان
من
غريب أننا نجد الشريعة الإسلامية لم تتحدث عن الختان إلا باقتضاب شديد.
فالقرآن لا يذكره بشيء، والأحاديث النبوية لا تذكره إلا بتقتير شديد، ولا
تجد نصاً من نصوص الشريعة يبين له القواعد والضوابط. وعلى النقيض من هذا
التكتم تجد العناية الكبرى التي يوليها الأهالي إلى الختان. وإن في سؤالك
الواحد منهم هل هو مختون لإهانة عظيمة له، وقد رأينا سلاطين المسلمين إذا
عن لهم أن يُذلوا المسيحيين أجبروهم على الاختتان. وإذا ولد لديهم الطفل
بقُلفة جلدته التناسلية قصيرة جداً بحيث يبدو كأنه ولد مختوناً عدوه بركة.
ويتحدثون بكثير من الاستغراب عن قبيلة في شرق المغرب يقولون إن فيها مسلمين
غير مختنين. وهذه الاعتبارات يؤكد لنا مجتمعة أننا بصدد احتفال ضارب في
القدم، ثم ورثه الإسلام لكنه لم يحله الأهمية نفسها التي يتبوؤها في
اليهودية. فما المعنى البدائي الذي كان لهذا الحفل؟ لقد وضعت مصنفات كثيرة
في هذا الموضوع. فهذا سبنسر يدخله في التضحية، لكن هذه الفرضية أسقطت اليوم
فما عاد لها اعتبار. ويُدخل آخرون الختان في أنواع البتر التي يتعاطاها
الهمجيون لتمييز أنفسهم ولفت الانتباه إليهم، خاصة انتباه النساء. والشريعة
الإسلامية تأخذ الختان بمعنى التطهُّر، ومن هذا المعنى استمد الاسم الذي
يُجعل له في العربية [الدارجة] «الطهارة». وأغلب علماء الاجتماع المعاصرين
يعتبرون الختان من الطقوس التعليمية. والتأويلان الأخيران غير متعارضين؛
فمن جهة هنالك شبه للختان بحلق الشعر، من حيث يتم فيهما معاً دفن القُطاعة،
وهذه الاعتبارات تعزز مجتمعة من الأطروحة التي تُدخل الختان في طرد الشر،
وأما من جهة أخرى فإن الختان أكثر ما يقام بصورة جماعية بل ويُجعل في موعد
سنوي ثابت، بما يجعله أدخل في تجربة تعليمية، وهي الصورة التي تجعلها له
الدراسات المتناولة لعادات الهمج المعاصرين.
في جهات كثيرة من المغرب تتلقى النساء المولود الذكر بثلاث زغرودات و المولود الأنثى بزغرودة واحدة
الولادة
ما أن
ينتاب المرأة آلام المخاض حتى يستدعون لها القابلة، أو المولدة. فإذا عسرت
عملية الوضع غسلوا إبهام رجْل الزوج اليمنى وأشربوا المرأة الماء الذي
استعملوه في الغسل. وقد رأيت هذه العادة الغريبة في الجزائر أيضاً. غير
أنني لم ألحظ عندهم ما يمت بنسب قريب أو بعيد إلى ما يسمى «حمل الرجال». ثم
يدفنون المشيمة في مكان يحرصون كل الحرص على التكتم عنه، لأن من شأن تلك
المشيمة أن تُسخر في أغراض سحرية رهيبة، فإذا أذيق منه الشخص صار، كما
يقولون، كارهاً مبغضاً للنفساء. ومن المعلوم أن هذه العادة في دفن المشيمة
تعتبر عادة عالمية، ولاشك أن لها أوجه شبه كبيرة بالعادة الشائعة في الحرص
على دفن قلامات الأظافر والتي سلف أن تناولناها بالحديث. ثم يُلبسون الوليد
قطعة مستطيلة من الكتان ويجعلون في وسطها ثقباً يظهر منه رأس الوليد،
ويسمى عندهم «مخرجة». فإذا كان اليوم الثالث أزالوا عنه ذلك اللباس، لكنهم
يتركونه بإزائه ما دام صغيراً، فهو يقوم له بمثابة تعويدة تجلب له الخير.
وربما كانت هذه العادة تمت بنسب إلى الاعتقادات الخرافية التي كانت عند
البدائيين في أن روح الوليد لما تتعود بعد جسدَه أو تألفه، فلا يبعد أن
تخرج منه، فلذلك يضعون بقربه شيئاً قد كانت له به صلة قريبة، حتى إذا اتفق
لروح الوليد أن خرجت من جسده في لحظة من الفزع آوت إلى ذلك الشيء، وبعد ذلك
يجعلونها تعود إلى جسد الوليد. فإذا أزالوا عنه «المخرجة» ألبسوه قميصاً
صغيراً ولفوه في قماطه.
وهم يتلقون ولادة الذكر من الأفراح بأكثر مما
يتلقون ميلاد الأنثى. فإذا رزقوا ذكراً تلقته النساء بالزغاريد المسترسلة،
ولا يكون منهم شيء من تلك الأفراح عندما تولد لهم الأنثى. وتراهم في جهات
كثيرة من المغرب تتلقى نساءهم المولود الذكر بثلاث زغرودات، وكذلك يفعلن في
الجزائر، وأما المولود الأنثى فيقتصرن عليه بزغرودة واحدة. ومع ذلك فإن
هنالك مثلاً عربياً يقول : «اللي يبكَّر بالبنت يبكَّر بالبخت»، ومعناه أن
من كانت البنت أولى مواليده فهي له بداية سعيدة. وإن هم إلا يقولوا هذا
المثل على سبيل المواساة، وإن كل مسلم إلا يتمنى أن يبكروا بالولد الذكر.
التسمية / العقيقة
وسواء
أكان المولود ذكراً أو كان أنثى فإنهم يقيمون له في يومه السابع حفلاً
لتسميته يعرف عندهم بـ»التسمية»، وفي ذلك اليوم يذبحون خروفاً، يسمى عندهم
«عقيقة». ثم يضعون بعض الأعواد أرضاً وقد كنوا على كل واحد باسم. ويضعون
فوقها السكين الذي سيُذبح بها الخروف، ويأتون بشخص معصب العينين ليختار
واحداً من تلك الأعواد. وحينئذ يقوم أحد الحضور، لكن لا يكون الأب، فيتناول
السكين ويضعها فوق عنق الخروف ويذبحه قائلاً : «آلمحجوب سميناك فلان».
وسنلاحظ أن من العادات الأشد شيوعاً عند شعوب المعمور أنهم يقومون باختيار
اسم المولود بطريق الاقتراع مهما اختلفوا فيه طرائق وأساليب.
ثم إنهم
يدفعون إلى القابلة بجلد الخروف، وعند الشياظمة يعطونها أحشاء الذبيحة
ورأسها. والعادة في الجزائر، أو في إقليم وهران على الأقل، أنهم لا يشوون
من لحم الذبيحة التي تقدم في هذه المناسبة، فإن من شأن ذلك أن يلحق الأذى
الوليد، وكذلك يعطون القابلة أحشاء الذبيحة والكتف الأيمن. والعادة عندهم
في كثير من المدن المغربية، ومن جملتها الصويرة على سبيل التمثيل، أنهم في
الحفل الذي يقيمونه في اليوم السابع يعطون القابلة جلد الذبيجة ورأسها. ثم
إنهم يعطونها بعد ذلك في سائر أعيادهم الإسلامية الكبرى الكتف الأيمن من
الذبيحة. فيتحصل للمولِّدات المسلمات كميات عظيمة من اللحم، فيصنعن منه
«الخليع»، وهو اللحم المملح والمجفف. ذلك بأن القابلة عند المسلمين، شأنها
شأن حفار القبور والطالب، يعملون «في سبيل الله»، من دون أن يكون لهم حق في
أي أجر. والشرعية الإسلامية لا تجيز للمولدة، كما لا تجيز لمن قام بالذبح
في العقيقة، أن تحصل على شيء من الذبيحة، إذ لا يمكن أن يُدفع من هذه
الذبيحة على سبيل الأجر، فهي كما الأضحية التي تقدم في العيد الكبير، ينبغي
ألا تدخل في عداد الأشياء التي يباع وتشترى. بل إن هذه الذبيحة لا يجوز أن
تُسخر للولائم، بل ينبغي أن تُدفع في الصدقات، ولا يحق لأبي الوليد أن
يأكل منها. لكن الأمر يجري على خلاف ذلك في الواقع؛ فالقابلة تغدق عليها
الأسرة لتي طلبت خدماتها من الهدايا والعطايا. وعلى كل حال فالذبيحة التي
تقدم في العقيقة تعتبر عندهم شيئاً لازماً؛ فلا ترى الفقير المعوز منهم
يقعد عن أي وسيلة ليعق عن وليده في تلك المناسبة.
التسمية
لا
تخفى الأهمية الكبرى التي توليها الأقوام البدائية لاختيار الأسماء. وهو
أمر تجد كذلك عند المسلمين؛ فهم يعتنون عناية خاصة باختيار الأسماء،
ويؤثرون منها الأسماء الدالة على الحظ. وخير تلك الأسماء عندهم هو بطبيعة
الحال محمد، ومن أجل أن يعم التأثير الخير الذي يعتقدونه لهذا الاسم على
مصائر من يحملونه تراهم يمعنون في اشتقاق ما لاعد له من الأسماء من الجذر
(ح-م-د) الذي هو مشتق منه، فبالإضافة إلى اسم «أحمد» تجد لديهم حشداً
كبيراً من الأسماء التي هي تنويعات على الاسم «محمد»؛ من قبيل : «حمّو»
و»حمّود» و»حمدوش» و»حميدوش» و»حمّاموشن» و»حمدي» و»حمداش»، إلخ. وكذلك
يفعلون في أسماء الإناث؛ فالاسم «فاطمة» قد اشتقوا منه «فطومة» و»فاطمة»
و»فاضنة» و»طامو» و»طيطم» و»فطاطم»... ومن «خديجة» استقوا «خدُوج»
و»خدُّوجة» و»خديوج» و»خدادج»... والمسلم كيفما كان [قدره ومنزلته] يشعر
دائماً بالفخار أن يدعى سيدي محمد وسيدي عبد الله. والغاب عندهم أنهم يسمون
المولود يوم الجمعة باسم «بوجمعة»، ويسمون المولود يوم العيد باسم
«بلعيد»، ويسمون المولود حليق الرأس «المحجوب»، ويسمون المولود من غير شحمة
الأذن باسم «ميسوم»، وقد ربما جعلوا هذا الاسم للمولود لا تكون له هذه
العلامة، لكن الغالب عندهم أنهم يجعلونه لمن كانت تلك صفته. وإذا ولد لهم
توأمان فالغالب عندهم أن يسموهما الحسن والحسين، إذا كان التوأم أنثيين
أسموهما فاطمة وخديجة، وأما إذا التوأم ذكراً وأنثى فإن الغالب عندهم أن
يسموهما الحسن وفاطمة. وعلى عكس بعض الأقوام من البدائيين الذين يعتبرون
ميلاد التوأم فألاً سيئاً، فإن المسلمين [في الجزائر] يرونه مجلبة لليمن
والخير. لكنهم يرون ميلاد ثلاثة توائم فألاً سيئاً، وكذلك شأنهم مع
الحيوان؛ فإذا وضعت النعجة ثلاثة حملان قتلوا واحداً، ليدفعوا عنهم سوء
الأقدار.
والتوقير الذي يحيطون به الأطفال كثيراً ما نراه مترجماً في
الأسماء التي يسمونهم بها. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى العادة الجارية عندهم
في تسمية الأطفال الصغار باسم «سيدي»، وكيثراً ما يدعونهم كذلك «ملائكة».
ويسمون الوليد كذلك باسم «المحجوب» إلى أن يتم الأربعين يوماً أو نحوها،
وهذا شيء رأيناه في الطريقة المتبعة عندهم في التسمية. ولا ينبغي أن نخلط
هذا الاسم باسم «المحجوب» الذي يجعلونه، كما ذكرنا، للأطفال الذين يولدون
حليقي الرؤوس، ويظل هو الاسم الذي يحمله صاحبه بطبيعة الحال على الدوام؛
لكنه يظل في الحالتين اسماً يتفاءلون به؛ ومن المعلوم عندنا [نحن
الأوروبيين] أن الوليد الذي يولد حليق الشعر يكون دلالة على الحظ؛ فهذا
اعتقاد عام ويعود إلى أصول واضحة.
أهمية الاسم
لقد
ثبت من الدراسات التي تناول بها علماء العراقة المعاصرون الأقوام البدائية
بصورة قاطعة لا تقبل الشك أن الاسم عند يكون عندهم متماهاياً بوجه من
الوجوه مع الروح، وكما أن الخوف من رؤية الروح وهي تغادر الجسد شيء يتملك
على البدائي أفعاله في كثير من المناسبات، فكذلك تراه لا يتلفظ بالأسماء
إلا بحذر شديد، مخافة أن تفارق روحه الجسد. وكذلك يخاف البدائي أن يطلع على
اسمه الشخص الأجنبي، لأن هذا الأخير يكون حاملاً لما يشبه مضاعف الروح،
فربما خاض وإياها في ممارسات سحرية من شأنها أن تضر بصاحبها. وفي هذا الذي
ذكرنا تفسير للكره الشديد من الإنسان البدائي في سائر البلدان أن يفصح عن
اسمه، وهذه الكراهية نراها واضحة صارخة عند المسلمين [في الجزائر]، ونراها
خاصة من المغاربة. ولذلك فإذا عن لك أن تسأل الواحد منهم اسمَه وجب عليك،
وإلا رماك بسوء الأدب، أو امتنع من الإجابة عن سؤالك، أن تخاطبه بتلك
العبارة المهذبة : «كي سماك الله؟». وبذلك نفهم السبب، جرياً على كل هذه
المعتقدات، في أنهم يجعلون للأطفال خاصة أسماء هي كلمات فيها تلميح تعريضي،
لأنهم كائنات ضعيفة، فتكون حاجتهم أكثر من حاجة غيرهم إلى الحماية من
التأثيرات السيئة. ولشبيهة بهذه الأسباب كذلك يخشى الكثير من البدائيين أن
يتلفظوا بأسماء الأموات. وقد امتد هذا الخوف إلى الشعوب المتحضرة فاتخذ
عندها صورة مختلفة، وقد يكون أدى عندها إلى ظهور تلك العادة في التحرز من
التلفظ بأسماء الميت إلا ويتبعونها بعبارة ترحمية، لكن مما لاشك فيه أنه قد
أدى إلى ترسيخ هذه العادة عندهم، وهذا أمر جار كذلك عندنا [نحن
الأوروبيين] لا نختلف فيه عن المسلمين. والأهمية الكبرى التي يعلقها
الأهالي في شمال إفريقيا على كل ما يمت بصلة إلى الاسم أمرٌ رأيناه أجلى ما
يكون في الجزائر، وقت أن كان يجري تطبيق قانون 1882 المتعلق بالحالة
المدنية في هذا البلد؛ لتقنين نظام الأسماء الخاص بالأهالي؛ فقد وجدنا
بوادر تمرد قد أثارها هذا الأمر في بعض المناطق، ومن قبيل ذلك أن الأهالي
في زمورة قد نشروا شائعة تقول إن كل من ارتضى لوليده التلقب باللقب الجدي
الذي ألزمه به المفوض سيعرض وليده للهلاك في سنته. وجعلوا يتناقلون بينهم
قصة عن ذلك الشخص ارتضى أن يُبدل له اسمه فتوفي أياماً قليلة بعدها،
والواقع أنه لم يكن ليعييهم أن يجدوا غير واحد من أولئك الأشخاص الذين يصدق
عليها هذا الأمر. وقيل إن ذلك الشخص دُفن بزاوية سيدي محمد بن عودة، وإنهم
نبشوا قبره وأخرجوه ثم جعلوا فوق رأسه شاشية دلالة على الاحتقار الذي
ينزلونه بالكفار. ولزم حاكم وهران أن يتوجه إلى عين المكان، فتحدث إلى
الجماعة حديثاً فيه شدة وتعنيف. وقد ردت الجماعة بهمهمات فيها استياء، لكن
لم تستطع أن تحول دون سريان تطبيق ذلك القانون.
التمائم، الشعوذة
لقد
سبق لنا القول إن البدائيين يخافون كثيراً التأثيرات الشريرة، ذات المنشإ
السحري، التي يمكنها أن تهاجم الأطفال. وقد وقفنا على كثير من الخرافات
والمعتقدات الباطلة التي تدخل هذا المدخل. وقد كان للشعوب التي بلغت شأواً
بعيداً في الحضارة، مثل المصريين، طرائق وطقوس عديدة لطرد تلك التأثيرات.
والرحامنة يحرصون أشد الحرص على أن يجنبوا الأطفال أن تقع عليهم أنظار
النساء المعروفات بتعاطيهن للسحر، إذ لا تزال ترى لهؤلاء النساء وجوداً بين
ظهرانيّ المغاربة. ويحكى أنهن يحملن تحت ثيابهن صرة من القماش يعقدنها بين
أكتافهن، قد احتوت على دم إنسان قتيل ومسحوق من عظام الأموات ومواد أخرى
شيطانية. فكل طفل أطلن إليه النظر كان مآله الموت قبل أن يدرك سن البلوغ،
وكذلك يفعلن بصغار الحيوانات؛ من فراخ وحملان وفصال...إلخ، فإذا نظرت
«الساحرة» إلى الطفل انفجر من فوره باكياً، وحينئذ يُذهب به عند «الكواية»،
وهي بمثابة المبطلة للسحر، فتكوي الطفل بقضيب بأعواد من الدوم في ظهره
وبطنه وتعطيه كذلك دواء. وأما الأمهات فأكثر ما يخشين [على أطفالهن]
«التابعة»، وهو جني شرير يتبع الناس بشروره ويفرغ البيوت من أصحابها ويتسبب
في ما لاحصر له من الويلات، وأكثر ما ينال بشروره الأطفال. وقد تذهب
التابعة أحياناً بأطفال الرجل جميعاً، فهي تهلكهم واحداً بعد آخر، إلى أن
يفلح التعيس في قطع (وهي الكلمة المستعملة عندهم في العربية) هذه السلسلة
المتوالية من المصائب وذلك بالأضحية يتقدم بها إلى أحد الأضرحة. وينبغي له
أن يحرص في ذبح الأضحية، إن كان هو من يقوم بذبحها، على أن يستند إلى جدار
الضريح من أجل أن يحصل له الاتصال الكامل مع صاحبه.
الخصوبة
المرأة
التي يموت لها أولادها تباعاً، أو المرأة العاقر تستعير حزاماً من المرأة
الولود ذات الأولاد الأصحاء الأشداء، وتتمنطق به؛ إنه طقس مألوف من السحر
الخيّر شديد الشيوع في بلدان المغرب. وكذلك تحرص النساء على أن يتفادين لمس
حزام المرأة العاقر، وإذا طلبن منها أن تعيره لهن حرصت هي نفسها على أن
تعيره للمرأة منهن ذات الأولاد. وتدخل كذلك في هذا النوع من الاعتقاد تلك
العادة الجارية عندهم في فاس على أن يستعيروا لأجل العروس في حفلات الزواج
حلياً وأغراضاً ثمينة من بعض الأسر الميسورة والسعيدة؛ فهو شيء وقفنا عليه
في تلمسان، ومن عادتهم في هران أنهم يطلبون لأجل العروسين الجديدين كأس
حليب أو ماء من المتزوجين قديماً اللذين ينعمان بالحياة السعيدة.
طقوس العقيقة
يحلق
الرحامنة شعر الطفل في اليوم الرابع للولادة، والمغاربة يؤثرون أن يحيوا
هذه الشعيرة في اليوم الأربعين بعد الولادة، لكن الغالب عندهم أنهم لا
يلتزمون فيها تاريخاً معلوماً أو ثابتاً، وهذا هو الشائع في سائر أنحاء
المغرب. لكن كثيراً ما يحدث، وهذا شيء سمعنا بحصوله في نواحي مدينة
الصويرة، أن أول حلقهم شعر الوليد يكون في اليوم السابع، وهو اليوم نفسه
الذي يسمونه فيه. وعلى كل حال فمهما يكونوا قليلاً جداً ما يحيون هذه
الشعيرة في اليوم السابع فاللافت أنه هو التاريخ الوحيد تقره الشريعة
الإسلامية. فالشريعة الإسلامية تجمع العقيقة والتسمية والحلق في شعيرة
واحدة وواحدة. والمسلم تقع عليه في هذا اليوم سبع واجبات، وهي : أن يسمي
الوليد ويحلق له شعره ويتصدق بوزن ذلك الشعر مالاً أو ذهباً حسب الاستطاعة،
ويقوم له بذبيحة تسمى عندهم عقيقة، وأن يدهن رأس الوليد بالزعفران ويختنه
ويوزع على الأقارب من تلك الذبيحة.
الحلق الأول
إن
كل هذه الطقوس يؤتى بها دون استثناء بقصد التطهير، وهناك حديث يقول : «سئل
أبو عبد الله (عليه السلام) : ما الحكمة في حلق رأس المولود؟ قال : تطهيره
من شعر الرحم» وتخبرنا الإناسة المقارنة بوجود هذا الطقس عند شتى الشعوب،
وتعلمنا أن حلق شعر الرأس هو من أجل طرد التأثيرات أو المؤثرات السلبية أو
السيئة.
حلاقة الأطفال
غير
أنهم لا يحلقون رأس الوليد بالكامل، بل يتركون له خصلة أو خصلات من الشعر،
يوزعونها فوق رأسه بصورة شتى حسب الولي الذي يطمعون في أن يجعلوا الطفل
تحت حمايته. فالأولاد الذين يوجهونهم إلى سيدي بلعباس يجعلون لهم خطاً من
الشعر وسط الرأس خصلة صغيرة يسمونها «كرن» عن يمينه، وأما الذين يوجهونهم
إلى سيدي رحال فإنهم يجعلون لهم خطاً من الشعر وسط الرأس وكرن على جانبيه،
وأما الذين هم أتباع لمولاي إبراهيم (جنوبي أمزميز في جبال الأطلس) فيجعلون
للولد ناصية وزوج نواضر، وهما خصلات فوق الصدغين وخصلة على القفن، وأما
المنتسبون إلى مولاي عبد الله بن حساين على مقربة من تامصلوحت فيتركون
للولد ضفيرة في الجانب الأيسر، وأما المنتسبون إلى سيدي علي بن إبراهيم (في
تادلة) فيجعلون للولد ناصية على مقدم الجبهة وضفيرة صغيرة على الجانب
الأمين، إلخ... وتلك هي التكريسات الأكثر شيوعاً عند الرحامنة. وما أكثر ما
تراهم يجعلون في تلك الضفائر الصغيرة فوق رؤوس الأطفال تمائم مكتوبة أو
أصدافاً أو شيئاً من التراب يجلبونه من أحد الأضرحة ويجعلونه في صرة صغيرة
يعقدونها في تلك الضفائر. فإذا أدرك الطفل سن البلوغ أزالوا عنه كل خصلة من
الشعر وضفيرة، وما تركوا له غير النواضر، فالذين يحملونها منهم يبقون
عليها مدى الحياة ويتركونها تستطيل إلى أن تختلط بلحاهم.
الختان
يختن
الرحامنة أولادهم بين سن الثانية والخامسة. ومن المعلوم أن الموعد للقيام
بهذا الاحتفال يتباين أشد ما يكون التباين في سائر بلدان المغرب. فقد رأينا
أن الختان يقع عند دكالة في اليوم السابع للولادة وسن الثانية عشرة أو
الثالثة عشرة، وفي فاس يقع عندهم الختان بين سن الثانية وسن العاشرة، ويقع
عندهم في طنجة في سن الثامنة أو نحوها، ويقع عند جبالة بين سن الخامسة وسن
العاشرة، ويقع عندهم في نواحي الصويرة بين سن الثانية وسن الرابعة. ويأتي
الختان عندهم في الجزائر عامة في سن السابعة أو الثامنة. والشريعة
الإسلامية تحث على أن يكون ختان الولد في يوم العقيقة نفسه؛ أي أسبوعاً بعد
الولادة. والطبيب أو «الحجام» هو من يتولى هذه العملية في المغرب كما في
الجزائر، غير أنك لا تراه في الجزائر يستعمل في الختان مقصاً أبداً، بل
يقتصر فيه على سكين. ولم نسمع كذلك في أي مكان في المغرب أو في الجزائر أن
الحجام يستعمل في الختان سكيناً من الحجارة؛ غير أنه أمر كان شائعاً من
قبل في الجزائر، حسب رواية للأب دان. ومن المعلوم أن سكاكين الحجارة يكثر
استعمالها في الاحتفالات الدينية؛ فهي تدلنا على أن هذه الاحتفالات تعود
بأصولها إلى زمن لم يكن للناس فيه عهد بعدُ بالحديد. ثم إننا لا يساورنا شك
في أن الختان الذي نلاقيه عند كثير من الأقوام على اختلافها وبعد الشقة
بينها عادةٌ تعود بأصولها إلى غابر الأزمان. والرحامنة إذا قطعوا القلفة
[عن عضو الطفل] رموا بها حيثما اتفق ولم يعيروها اهتماماً، وقد أكدوا لي
أنهم لا يدفنونها في المقبرة. ومع ذلك فالعادة عندهم في معظم مناطق المغرب
أن يدفنوا القلفة، وكذلك يفعلون في سائر مناطق الجزائر. بل إنهم كثيراً ما
يجلبون التراب سواء من المقبرة أو من تخوم القبيلة، ويدفنون القلفة ثم
يعيدون التراب إلى موضعه وفي جميع الحالات يكون الختان عند الرحامنة، كما
عند سائر المسلمين، مناسبة لاحتفال كبير، ولا يسع عالم الاجتماع إلا أن
يلاحظ الأهمية الكبرى التي يوليها الناس إلى الختان، وشتان بينها والمكانة
المتواضعة التي تجعلها له الشريعة الإسلامية. ثم إنهم كثيراً ما يختنون
الأطفال جماعة. ومع أنها ليست العادة الغالبة في الختان، فإن من العادات
الثابتة عندهم أن الثري منهم إذا عزم على ختن ولده جعل كذلك من يختن أبناء
الفقراء في ناحيته، بل إن من الأغنياء من يوظف في كل سنة مبلغاً من المال
لهذا الختان الجماعي.
أصل الختان
من
غريب أننا نجد الشريعة الإسلامية لم تتحدث عن الختان إلا باقتضاب شديد.
فالقرآن لا يذكره بشيء، والأحاديث النبوية لا تذكره إلا بتقتير شديد، ولا
تجد نصاً من نصوص الشريعة يبين له القواعد والضوابط. وعلى النقيض من هذا
التكتم تجد العناية الكبرى التي يوليها الأهالي إلى الختان. وإن في سؤالك
الواحد منهم هل هو مختون لإهانة عظيمة له، وقد رأينا سلاطين المسلمين إذا
عن لهم أن يُذلوا المسيحيين أجبروهم على الاختتان. وإذا ولد لديهم الطفل
بقُلفة جلدته التناسلية قصيرة جداً بحيث يبدو كأنه ولد مختوناً عدوه بركة.
ويتحدثون بكثير من الاستغراب عن قبيلة في شرق المغرب يقولون إن فيها مسلمين
غير مختنين. وهذه الاعتبارات يؤكد لنا مجتمعة أننا بصدد احتفال ضارب في
القدم، ثم ورثه الإسلام لكنه لم يحله الأهمية نفسها التي يتبوؤها في
اليهودية. فما المعنى البدائي الذي كان لهذا الحفل؟ لقد وضعت مصنفات كثيرة
في هذا الموضوع. فهذا سبنسر يدخله في التضحية، لكن هذه الفرضية أسقطت اليوم
فما عاد لها اعتبار. ويُدخل آخرون الختان في أنواع البتر التي يتعاطاها
الهمجيون لتمييز أنفسهم ولفت الانتباه إليهم، خاصة انتباه النساء. والشريعة
الإسلامية تأخذ الختان بمعنى التطهُّر، ومن هذا المعنى استمد الاسم الذي
يُجعل له في العربية [الدارجة] «الطهارة». وأغلب علماء الاجتماع المعاصرين
يعتبرون الختان من الطقوس التعليمية. والتأويلان الأخيران غير متعارضين؛
فمن جهة هنالك شبه للختان بحلق الشعر، من حيث يتم فيهما معاً دفن القُطاعة،
وهذه الاعتبارات تعزز مجتمعة من الأطروحة التي تُدخل الختان في طرد الشر،
وأما من جهة أخرى فإن الختان أكثر ما يقام بصورة جماعية بل ويُجعل في موعد
سنوي ثابت، بما يجعله أدخل في تجربة تعليمية، وهي الصورة التي تجعلها له
الدراسات المتناولة لعادات الهمج المعاصرين.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 21 -
النساء في الرحامنة قد يتذرعن بالخروج لزيارة في طلب الترفيه عن أنفسهن أو للخروج في ما يعن لهن من نزوات
الموت
لا تجد
مراسيم الحداد عند الرحامنة، كما عند سائر الأقوام في شمال إفريقيا، قد
بلغت شأواً من التطور، بعكس ما يوحي لنا بالنظر إلى الأهمية الكبيرة التي
يكتسيها لديهم الاعتناء بالأموات كما تدلنا عندهم المكانة الكبيرة التي
يولونها للأضرحة. ففي لحظات الاحتضار الأخيرة يتحلق الأقارب من حول
المحتضر، وكذلك يفعل الجيران. فهنالك اعتقاد شائع عند المسلمين أن روح
الميت لن يكتب لها أن تدخل الجنة إلا إذا نالت رضى أولئك الحضور. وتجد
لديهم ذلك الاعتقاد في الوضع أيضاً؛ فهم يعتقدون أن الوليد لن يُكتب له
الخروج إلى الدنيا إلا إذا نال رضى جميع الحضور. ولذلك تراهم يحرصون بجميع
الوسائل الممكنة، خاصة في اللحظات الأخيرة من حياة المحتضر، للتضييف من عدد
الحضور. ثم إن الذين يحضرون الوفاة لا يأتون بدافع من ذلك الاعتقاد الذي
ذكرنا وحده، بل يدفعهم إليه الرغبة الشديدة في أن يبعثوا عن طريق المحتضر
برسائل إلى أقاربهم الأثيرين عليهم. فهم يخاطبون المحتضر بالأصوات المرتفعة
قائلين: «وصّل السلام» ل خويا») أو»لوالدي»ولذلك فأسرة المحتضر تحرص
[بتضييقها من عدد الحضور] على أن يجنبه هذه المهام المريرة.
المناحات
ما
أن يلفظ المحتضر أنفاسه الأخيرة حتى تنطلق المناحات من كل حدب وصوب، وتأخذ
النسوة في الصراخ والعويل وتمزيق وجوههن بالأظافر. فكذلك يفعل الرحامنة
ودكالة والسراغنة وتادلة. وأما أهل مراكش فليس من عادة نسائهم النواح
واللطم على الخدود، وكذلك يغيب هذا العرف عند حاحا والشياظمة وعبدة. ولا
ترى النساء عند الرحمانة يرافقن الجنازة، بل يلبثن في بيت الفقيد في نواح
وعويل. وأما دكالة والشاوية وتادلة فالنساء عندهم يبالغن بتلك المناحات إلى
أبعد الحدود، ويتمادين في تمزيق وجوههن حتى وهن يقفن عند قبر الفقيد، بل
يواظبن على العودة إلى المقابر وتكرار تلك المناحات جمعاً عديدة متوالية.
المراثي
ترافق
الراثي في العادة أناشيد حزينة ترددها «الندابات»، وهن نساء محترفات
للبكاء والنواح. وهذه الآداب الشعبية شديدة الشيوع عند الرحمانة ودكالة.
لكن ينبغي الإقرار بأن الأوروبيين يلاقون في دراستها الصعاب الجسيمة. فهذه
المراثي، أو على الأقل تلك منها التي ليس لها طابع أدبي واضح، تكون كثيرة
الحذوف وتبدو في ظاهرها قليلة انسجام وتلاحم. ولربما يكون هذا النوع من
الأناشيد مطبوعاً في أصله بهذه الخصائص، وهو أمر سنقف عليه من خلال مجموعة
من المقاطع قد استقيناها من عين المكان. فالمرثية الأولى تتحدث عن مقتل رجل
في معركة، لكن يجدر التنويه إلى أن هذا الضرب من المراثي يشيع ترديدها في
الوفيات من غير تمييز، ومن غير مراعاة لأن تكون الكلمات متوائمة مع
المناسبة؛ فالمديح الذي يقولونه في المحارب قد يرثون به كذلك الفقيد
المسالم الذي لاقبل له بحمل السلاح
الجنازة
قد
لا تجد الناس يحرصون في البوادي على مرافقة الجنائز بقدر ما يفعلون في
المدن. والمسلمون الذين يرافقون في شمال إفريقيا عملية الجنائز يرون من
واجبهم أن يتناوبوا على حمل النعش، فهو في اعتقادهم «يمحو الذنوب». وأما في
فاس ومراكش فإن هذا العمل يتولاه أناس مختصون، يسمون في فاس : «الزرزاية»
(أي الحمالون) وفي مراكش «الرفَّاعة». وقد تسمعهم أحياناً يتلون في الجنائز
[(هـ. م) كتب الدفن]، وهو أمر أكثر شيوعاً في الجزائر، أبياتاً من
«البردة» و»الهمزية» وهما قصيدتان أنشأهما البوصيري في مدح النبي، خاصة
القصيدة الأولى. غير أنك لا تجد بداية «البردة» مما ينسجم وأناشيد الجنائز،
فالشاعر قد أفرد ذلك المطلع، كجري القاعدة القديمة في الشعر العربي،
لتصوير حزنه على فراق حبيبته. ومعنى ذلك أن العشر العربي يلتزم أعرافاً
وقواعد، وكانت التقاليد الصارمة في هذا الشعر لا تترك للشاعر العربي حرية
ليبتدئ قصيدته كما يحلو له. فليس علينا لذلك أن نستغرب لهذا الشاعر ثقف بين
يدي النبي مادحاً فيبتدئ قصيدته بالحديث عن محبوبته. لكن ما أسهل ما جاء
الشراح والمفسرون المسلمين يطمسون لم كان يمكن أن يبدو شيئاً معيباً في
مطلع هذه القصيدة؛ إذ زعموا أن المقصود بتلك الأبيات الأولى من القصيدة لا
الحب بمعناه المألوف، بل هو الحب للرسول، وأن مطلع قصيدة «البردة» إنما
وضعه الشاعر للتغني بالرسول ولم يكن يقصد به محبوبة من بنات خياله. وعلى
النحو نفسه يحمل علماء اللاهوت [المسيحيون] الخاتمة في مزامير سليمان على
أنها تعبير عن حب المسيح للكنيسة. ومهما يكن من أمر فإن أهالي الجزائر من
المسلمين إذا حضروا جنازة جعلوا يرددون أبياتاً من «البردة» ويزيدون إليها
الشهادتين.
وتكاد الأدعية التي تتلى على القبر تكون متشابهة في سائر
مناطق إفريقيا الشمالية؛ وهي أدعية يقوم بها الطُّلبة. وأما العادة الشائعة
في جميع أنحاء المعمور، والقائمة على دفن بعض الأغراض مع الميت فلا تكاد
ترى لها وجوداً عند أهل المغرب، فأنت لا تراهم يدفنون مع موتاهم حلياً أو
نقوداً، لكنهم قد يدفنون أحياناً مع الطفل أو المرأة بعض الأساور والحلي.
وكثيراًُ ما ترهم في الجزائر يجعلون مع الميت تميمة يسمونها «سؤال»،
يجعلونها تحت رأس الميت، وهي تميمة يكتبها الطلبة ويقولون إنها تعين الميت
في الإجابة عن أسئلة منكر ونكير، وهما الملكان اللذان يأتيان، حسب الاعتقاد
الإسلامي، لسؤاله في القبر. ولم أر لهذا العرف شيوعاً في جنوب المغرب.
وتدخل
في عوائد الرحامنة، كما يدخل في عوائد شعوب شمال إفريقيا بوجه عام، زيارة
القبور. والنساء هن من يقمن بهذه الزيارة بضعة أيام بعد وفاة أقاربهن، ثم
يعدن للمداومة على تلك الزيارة في أيام الجمع، ويأتين بالطلبة للدعاء
للأموات. وتشكل زيارة القبور في أيام الجمع في كثير من المدن المناسبة
الرئيسة لخروج النساء، بل إنهم كثيراً ما يتذرعن بتلك الزيارة للخروج في
طلب الترفيه عن أنفسهن، ولربما تذرعن بها للخروج في يعن لهن من نزوات
وحماقات. ولئن كانت الشريعة الإسلامية تحرم هذه الزيارات فإنها لم تفلح في
اجتثاثها والقضاء عليها. ومن الجدير بالملاحظة أن بعض الأقوام البربرية من
ساكني الحوز يمتنعون من زيارة القبور؛ فكذلك هو الشأن عند حاحا، وحتى إنهم
يمتنعون من هذه الزيارة ولو في عيد عاشوراء. وعلى العكس فأهل مراكش يقبلون
في تلك المناسبة على زيارة القبور في حشود عظيمة؛ فيتصدقون على الفقراء
ويرشون الماء على القبور ويغرسون فيها من الريحان. ومن عادتهم في بعض
الجهات من الجزائر أن يضعوا فوق القبور بعض حبات العنصل. وتعتبر عادة غرس
الأزهار فوق القبور عادة عالمية؛ لاعتقاد بأن الروح تُنتقل إلى هذه
النباتات فتخفف عنها. وهنالك خرافة واسعة الانتشار تتحدث عن عاشقين قد دفنا
بإزاء بعضهما وفوق قبريهما طلعت شجرتان متشابكتا الأغصان. وتحضر هذه
الخرافة في إقليم وهران وبطلاها كورة وعوالي. ولا تزال ترى أهل مراكش
يقبلون رجالاً ونساء على زيارة القبور في اليوم السابع والعشرين من رمضان،
والنساء وحدهن يداومن حين يتوفى لهن شخص على التردد على المقابر ثلاثة. وفي
ما خلا هذه المناسبات لا ترى الناس في مراكش يقبلون على زيارة القبور.
الرحامنة والزكارة
أدرج
مولييرا في بحثه عن الزكارة رحامنة الحوز في عداد المجموعات الاجتماعية
التي كانت تجاهر بالمذاهب التي ينسبها إلى هذه الأقوام في شرق المغرب.
ومهما كانت الاكتشافات التي تأدى إليها هذا الأستاذ من وهران للأفكار
والتصورات الشائعة، ومهما كانت يلزمنا أن نحمله مؤقتاً المسوؤلية الكاملة
عن تلك الاكتشافات، فلا نميل إلى الاعتقاد، كما قيل، بأنه قد وقع في الزلل
بدفع من بعض المخادعين. فعندما سيقيض التحقق من صحة الأفكار الأساسية التي
أقام عليها بحثه وسيتم الوقوع عليها لدى مختلف الأقوام التي تناولها
بالحديث، فسيكون له فضل السبق في الإشارة إليها. ومع ذلك فالعادات الخاصة
بالزكارة قد سبق أن وجدنا الإشارة إليها من لدن ديماييغ؛ فهو يفيدنا أنهم
كانوا يعتبرون عند العرب بأنهم من المبتدعة، وأنهم أصحاب عادات منحلة وأنهم
لا يختتنون. ومن جملة الجماعات التي لها يذكر مولييرا أنها تأخذ بمعتقدات
الزكارة توجد الملاينة في ضواحي فاس. وقد أشار أوبان إلى علاقات الملاينة
بالزكارة، لكنه لم يشر بشيء إلى عاداتهم، بل قال عنهم : «إنهم يشكلون
جمهورية مستقيمة». وينبغي لنا أن نقول ههنا، من غير ادعاء باستخلاص شيء من
هذه الواقعة، أننا استفسرنا أثناء زيارتنا لفاس في سنة 1901، من المسلمين
في مرات كثيرة عن الملاينة، وقد حدثنا كثير من مخبرينا حديثاً مطبوعاً
بالعنف، بقولهم إنهم «خوارج»، أي مبتدعة لا يؤمنون بشيء ويأتون شتى أنواع
المناكر، بما فيها الدعارة ببناتهن وزنا المحارم. وحيث إنني لم أزر بلاد
مليانة، ولم يتسن لي بالتالي أن أتحقق من صحة هذه الاتهامات، فقد اكتفيت
بتسجيلها وعزوتها إلى نوع من الكراهية قد كانت من المغاربة تجاه هؤلاء
الأجانب. لكنني لا أستبعد اليوم أن تكون تلك الاتهامات لا تعدم نصيباً من
الصحة. ومن المعروف عن الغنانمة في جنوب وهران، والذين يدخلهم مولييرا كذلك
في معتنقي الزكراوية، أنهم يتعاطون عامة أحط المهن وأنهم كفار وأنهم
يتركون لأزواجهم مطلق الحرية في التصرف، فنكون ههنا بصدد مجموعة من
القرائن ينبغي أن تحملنا على أن نأخذ بعين الاعتبار التخريجات التي جاء بها
صاحب كتاب «المغرب المجهول». وأما ما تعلق من هذه المزاعم بالرحامنة فلا
يمكن أن نعزو إليها أي نصيب من الصحة. فلم نقف في الدراسة المختصرة التي
تناولنا بها هذه القبيلة على شيء مما يمكن اعتباره من العادات الغريبة من
قبيل العادات حق الليلة الأولى عند الزكارة أو «ليلة الخطيئة»، وهو شكل
غريب من الزواج صوره الكاتب. لكن بما كان في الإمكان أن نقع لديهم على آثار
لهذا النوع من الزواج على أننا وجدنا من ينبهنا إليه قبلاً. وإذا كنا في
كل ما نسوق في هذا الفصل لا نتحدث بشيء عن عادات الزكارة، فلن يكون من
المسوغ أن نستخلص شيئاً من هذه الملاحظة السلبية.
عيد الأضحى
من
جملة الأعياد الدينية الأربعة الكبرى التي يحتفل بها الرحامنة كسائر
المسلمين، فإن العيد الكبير وعاشوراء الذي يسمونه «العاشور» هما وحدهما
اللذان يتميزان بخصوصيات جديرة بالاعتبار. ففي يوم عيد الأضحى يتوجه الناس
عند «الفقيه» في الموضع الذي هم فيه، ومعظم أرباب الأسر يسلمونه سكاكينهم
ويدفعون إليه بشيء من التمر. والفقيه هو الذي يقوم بنفسه بشحذ السكاكين. ثم
يصلون في المصلى، في براح يهيئونه في العراء لهذا الغرض. ويتولى الفقيه
ذبح عدد من الأضاحي، ويعين بعض الأشخاص ليقوموا بذبح الباقي، ويعين لكل
واحد منهم الخيمة التي ينبغي أن يقوم فيها بذبح الأضحية، ويعطيه سكيناً
ويدفع إليه كذلك بحفنة من التمر. وهم يذبحون كل خروف أمام وتدين يقومان
ركيزة تتوسط الخيمة.
العرافة بالدم وعظم الكتف
في
تلك اللحظة يقومون بجمع دم الأضحية، ويزيدون إليه الحرمل وشيئاً من الشعير
وشيئاً من الفحم، فإذا تخثر هذا الدم جاءوا ليتفحصوا ذلك الخليط. فإذا روا
فيه خطاً أبيض كبيراً دلهم على «الكفن»؛ ومعناه الموت، وإذا تبينوا فيه
ثقوباً كانت دلالة على «المرس»، أو «مجموعة كبيرة من الأهراء»، وهي فأل حسن
بأن السنة [الفلاحية] ستعرف المحصول الوافر. وأما إذا رأوا فيه تحذُّبات
فأنها تكون عندهم دلالة على الغنم، أو القطيع من البهائم، فالتي على اليسار
تدلهم على أن السنة ستكون جيدة على الغنم، والتي على اليمين تدلهم، على
العكس، على أن السنة ستكون جيدة على الأبقار. لكن العرافة والتنجيم
باستعمال الدم ليست الوسيلة الواحدة التي يلجأ إليها الرحامنة في هذه
المناسبة، بل إنهم يقبلون، كغيرهم من أهالي شمال إفريقيا، على الكتفية؛ أي
العرافة باستعمال ألواح الكتف التي يحصلون عليها من خروف الأضحية. ومما
يبعثنا على الاستغراب أن نرى هذه العادة تعرف الشيوع عند شعوب العالم على
اختلافها وبعد الشقة بينها. وقد سبق للإدريسي أن أشار إلى أن الزنانتيين
ساكني المنطقة بين تلمسان وتياريت مثل القبائل الخبيرة بالعرافة باستعمال
لوح الكتف. وهذه ممارسة جارية في عموم مناطق المغرب، لكننا سنرى أنها تغيب
عند بعض القبائل الأمازيغة. فهم يزيلون العظم عن الكتف الأيمن من الخروف
ويُخرجون الكتف، فإذا وجدوه أملس صقيلاً دلهم على أن سنتهم ستكون جيدة،
وأما إذا طالعوا فيه خطاً أبيض فهو دلالة على الكفن، فيكون عندهم فألاً
سيئاً. ثم إنهم لا يطعمون في الأول من العيد غير الرأس والمِعلاق والأحشاء،
وفي اليوم الثاني يأكلون العنق والكتفين، وفي اليوم الثالث يأكلون مما
يروق لهم من الخروف ويجففون بقية اللحم.
الفراجة
لا
تزال تجد الرحامنة يحتفلون بالعيد الكبير بإقامة «الفراجة»، وهي ضرب من
المسخرة قد جرت العادة في المغرب على أن تقام بمناسبة عاشوراء، إلا أن
الرحامنة يقيمونها كذلك في العيد الكبير. وسوف نرى في ما بعد، لدى حديثنا
عن الاحتفالات التي تقام في عاشوراء، أن من اليسير الاهتداء إلى تفسير لهذا
الاختلاف في التاريخين. والفراجة عندهم أنهم يقومون بتمثيل شخصية «عزونة»،
ويقوم بتمثيلها شخص أمرد يُلبسونه من لباس العرائس ويجعلون له من الحلي،
فيبدو في هيأة أشبه ما تكون بعروس يهودية. ومن حولها يحتشد المسلمون
متنكرين في هيآت كأنهم يهود، ويفعلون كأنهم يبيعون؛ فبعضهم يتظاهرون بأنهم
يقيسون الثوب، ويوجهون صفعة إلى الأشخاص الذين يقفون على مقربة منهم،
والآخرون يتظاهرون بأنهم يبيعون من تلك الجواهر المزيفة التي تكثر في
الأسواق لتتزين بها النساء؛ فهم يفعلون كأنهم يعرضونها [للبيع]، ويقذفون
بالتراب المتفرجين عليهم... ثم يجيء الموكب إلى خيمة مفتوحة قد جلست أمامها
النساء متبرجات وسافرات الوجه. ومن ورائهم يقف هرمة بوجلود، وهو شخص يتنكر
في هيأة غول ذئبي ولبس من جلد الخروف أو جلد جدي الذي ذبح في هذا العيد،
ووجهه وضع رأس خروف أو رأس جدي وزين رأسه من الريش. وتأخذ عزونة ترقص أمام
النساء، وكذلك يرقص اليهود، ثم يظهر هرمة، فيفعلون كأنما يقتلونه بطلقات
البنادق أو بضربات السيوف. ثم يعطون المشخصين لهذه المشخارة لحماً، وقد
ربما ذبحوا خروفاً لأجلهم. ويمتد الاحتفال بالفراجة أو بوجلود أسبوعاً
كاملاً.
وفي عاشور يأخذ كل واحد منهم طعريجة، ويأخذون في الضرب عليها،
ويوقدون النار في الأخشاب ويأخذون يتسلون بالقفز فوقها. وتلك هي «الشعالة».
وعلى الرغم من أننا لا نحيط بمعنى هذا الشعار، كما هو الشأن في حالات
أخرى كثيرة تجري في هذا المجرى، فالواضح أن هذا الشعر يترجم كرنفالاً
حقيقياً للدفن. فنحن إذا ما تمعنا في عاشوراء وجدناه يوافق الكرنفال الذي
نقيمه [نحن الأوروبيين] في الوقت الحاضر.
التقويم الشمسي
يقودنا
هذا الاستعراض الذي جئنا به لهذه العادات الشعبية إلى الحديث عن نوع آخر
من الاحتفالات قد بقي شيئاً رائجاً في المغرب، كشأنها في سائر بلدان
العالم، وإن يكن معظمها قد فقد الدلالة التي كانت لها عند البدائيين وصار
يتعذر علينا اليوم أن نهتدي إلى معانيها جميعاً. نريد بقولنا الاحتفالات
تقام بمناسبة المنقلب الشمسي والاحتفالات الفلاحية التي يحكمها التقويم
اليوليوسي لا التقويم القمري المعتمد من المسلمين. وقد لاحظنا [الدارسون]
منذ وقت طويل أن أهالي شمال إفريقيا كانوا يداومون على استعمال التقويم
وظلوا يحافظون فيه على الأسماء اللاتينية. والحقيقة أن المسلمين لم ينقطعوا
يوماً عن الأخذ بالتقويم اليوليوسي، علماً بأنهم يقرون ويحتفلون بمجموعة
من الأعياد المرعية كذلك عند المسيحيين، وينبغي أن نجعل في مقدمتها
الاحتفال بما يسمونه «مولد سيدنا عيسى»؛ أي مولد السيد المسيح. والجهود
الذي يبذلها المتشددون من الفقهاء لصرف المسلمين عن الاحتفال بهذه
الأعياد، التي لا يجرؤون على التصريح بالاستنكار لها والرفض، خاصة إذا ما
تعلق الأمر بنبي كعيسى، هي أمور ليس فيها ما يدعو إلى الاستغراب، وهي تقوم
برهاناً على مدى تجذر هذه الأعراف [عند المسلمين]. ومن بين أقدم الأعياد
الشمسية الضاربة في القدم والتي بقيت مرعية عند أهالي شمال إفريقيا ينبغي
أن نذكر «إنَّاير» و»العنصرة».
إناير (ناير)
يعد
الرحامنة في إنَّاير، أي في الأول من يناير، أكلة الدشيشية بالزيت، ثم
يصطنعون كرة من تلك الدشيشة يضعونها فوق الخيمة في ذلك اليوم إناير نفسه،
ثم يعودون ليروها في اليوم الذي بعد، فإذا وجودها قد تبللت وترطبت كانت
علامة على أن السنة [الفلاحية] ستكون جيدة، وإلا كانت علامة على أن سنتهم
ستكون عجفاء ماحلة. ومن عادتهم كذلك أن يطعَموا «العصيدة»، وهي أكلة ثقيلة
يعدونها من دقيق الشعير. ويجعل الشياظمة كرات من تلك العصيدة في العراء
خلال الليل، ليتعرفوا كيف تكون سنتهم [الفلاحية]. وأما أهل حاحا فالعادة
عندهم أن يطعموا «تاكلة» (الاسم الأمازيغي للعصيدة) بالزبدة والعسل، وأما
فقراؤهم فيجعلون معها زيت أركان، وكذلك يتناولون عسلاً قوياً ويشربون
اللبن.
ومن المعلوم أن عادة الناس في أكل العصيدة في المنقلب الشتوي، أي
ثمانية أيام قبل إناير، تعتبر عرفاً واسع الانتشار. ولا تزال العادة جارية
في قرانا الفرنسية على أكل عصيدة أعياد الميلاد، وعلى الصورة نفسها يحتفل
الشرقيون بميلاد سيدنا عيسى؛ فهم فيه يطعمون عصيدة ثقيلة. ولما كانت عصيدة
الحبوب أكلة ضاربة في القدم بطبيعة الحال فإن في هذا الأمر ما يشهد على أن
هذه العادة تعود بأصولها إلى العصور القديمة. وهنالك بطبيعة الحال علاقة
وثيقة بين إناير ومولد عيسى عند المسلمين، ولهذا العيد كذلك شيوع في
المغرب، لكن تنقصنا المعلومات عن نوعية الاحتفالات التي يقيمونها في هذه
المناسبة. ويفيدنا ماسكيراي أن أعياد الميلاد يحتفل بها كذلك سكان الأوراس،
وأنهم تُعرف لديهم باسم بو ينّي، ثمانية أيام قبل إناير، وربما كان هذا
الاسم مشتقاً من الاسم اللاتيني Bonus anus، وأما مرسيي فيذهب إلى أن «بو
يني» معناها عيد الوتد، لأنهم في تلك المناسبة يغيرون جميع العصي التي
يعلقون عليها الأواني المنزلية، ويقول إن هذا الاحتفال يتزامن مع إناير.
وقد جئت في موضع آخر بفرصة مفادها أننا قد لا يكون من المتعذر أن نجد
للكلمتين ببعضهما نسباً من اشتقاقياً. لكن ينبغي التثبت من التاريخ المضبوط
لمختلف المناسبات والاحتفالات. فإن خلطاً كثيراً يعتور معلوماتنا؛ وربما
كان هذا الخلط من صميم الواقع نفسه؛ فليس من المتعذر أن تكون السنة قد كان
مبتدؤها في الزمن الماضي بالمنقلب السنوي وأن تكون الاحتفالات [بذلك
المنقلب] قد وقعت مرتين بالمناسبات، مثلما أن من الممكن أن تكون السنة
الرومانية قد ابتدأت في الماضي في الأول من مارس، فتكون الاحتفالات التي
ترافق السنة الجديدة قد اختلطت على الناس بالاحتفالات بالمنقلب السنوي
عندما صارت تقع في قريب منها.
وعلى كل حال فإن العادة عند سكان المدن
المغربية، كما في جهات أخرى كثيرة من شمال إفريقيا على أن يكون طعامهم في
صوم العنصرة [الكسكس] بسبع خضاري. وفي مراكش يداومون على أكله أياماً
ثلاثة، ويدخل في تلك الخضار السبعة اللفت والجزر والفول والحمص والقمح
والزبيب والتمر، يطبخونها مع الكسكس. وتكون عشية إناير؛ أي يوم 31 و32
دجنبر، في جميع الأماكن، كأنها يوم للحداد. ويتفرد هذا اليوم بخاصية، وهي
أن الناس فيه لا يطبخون شيئاً، ويكون فيه الكسكاس شيئاً لازماً لاغنى عنه.
ومن عادتهم في الجزائر أن يقولوا في هذا اليوم : «ما يقفلوشي»، أي أنهم لا
يحكمون وضع «الكسكاس» فوق الطنجرة. بل إنهم في كثير من المناطق لا يطعمون
في هذا اليوم غير الأشياء الجافة، من قمح وفول وحمص يطبخونها بالماء وشيء
من العسل. لكنهم يجعلون اليوم الذي بعدُ، أي الأول من يناير، يوماً للأفراح
والمباهج؛ فهم فيه يطعمون [الكسكس ذا] السبع خضاري والزبدة والعسل والشفنج
وغيرها من الأطباق اللذيذة. وإذا التقوا بعضهم تبادلوا المتمنيات بأن تكون
سنتهم سنة سعيدة، وهي عادة قد درجوا عليها عند استهلال السنة الهجرية
الجديدة؛ في يوم عاشوراء. وهذا مثال بسيط يبيّن لنا مرة أخرى أن الاستعمال
التزمني للروزنامتين من شأنه أن يعقد الطقوس ويحير دارسي الفولكلفور.
وهنالك اعتقاد لافت للانتباه وشديد الشيوع، وهو أنه في يناير يوجد دائماً
في كل بيت شيء، مهما كان رهيفاً، يتكسر أو يتمزق؛ كصحن أو ثياب أو عصا...،
ولو كان مجرد خيط أو قطعة قماش. وقد جرت العادة على أن يقوم الناس بتنظيف
بيوتهم بالكامل ويجددوا بعض أثاث البيت.
النساء في الرحامنة قد يتذرعن بالخروج لزيارة في طلب الترفيه عن أنفسهن أو للخروج في ما يعن لهن من نزوات
الموت
لا تجد
مراسيم الحداد عند الرحامنة، كما عند سائر الأقوام في شمال إفريقيا، قد
بلغت شأواً من التطور، بعكس ما يوحي لنا بالنظر إلى الأهمية الكبيرة التي
يكتسيها لديهم الاعتناء بالأموات كما تدلنا عندهم المكانة الكبيرة التي
يولونها للأضرحة. ففي لحظات الاحتضار الأخيرة يتحلق الأقارب من حول
المحتضر، وكذلك يفعل الجيران. فهنالك اعتقاد شائع عند المسلمين أن روح
الميت لن يكتب لها أن تدخل الجنة إلا إذا نالت رضى أولئك الحضور. وتجد
لديهم ذلك الاعتقاد في الوضع أيضاً؛ فهم يعتقدون أن الوليد لن يُكتب له
الخروج إلى الدنيا إلا إذا نال رضى جميع الحضور. ولذلك تراهم يحرصون بجميع
الوسائل الممكنة، خاصة في اللحظات الأخيرة من حياة المحتضر، للتضييف من عدد
الحضور. ثم إن الذين يحضرون الوفاة لا يأتون بدافع من ذلك الاعتقاد الذي
ذكرنا وحده، بل يدفعهم إليه الرغبة الشديدة في أن يبعثوا عن طريق المحتضر
برسائل إلى أقاربهم الأثيرين عليهم. فهم يخاطبون المحتضر بالأصوات المرتفعة
قائلين: «وصّل السلام» ل خويا») أو»لوالدي»ولذلك فأسرة المحتضر تحرص
[بتضييقها من عدد الحضور] على أن يجنبه هذه المهام المريرة.
المناحات
ما
أن يلفظ المحتضر أنفاسه الأخيرة حتى تنطلق المناحات من كل حدب وصوب، وتأخذ
النسوة في الصراخ والعويل وتمزيق وجوههن بالأظافر. فكذلك يفعل الرحامنة
ودكالة والسراغنة وتادلة. وأما أهل مراكش فليس من عادة نسائهم النواح
واللطم على الخدود، وكذلك يغيب هذا العرف عند حاحا والشياظمة وعبدة. ولا
ترى النساء عند الرحمانة يرافقن الجنازة، بل يلبثن في بيت الفقيد في نواح
وعويل. وأما دكالة والشاوية وتادلة فالنساء عندهم يبالغن بتلك المناحات إلى
أبعد الحدود، ويتمادين في تمزيق وجوههن حتى وهن يقفن عند قبر الفقيد، بل
يواظبن على العودة إلى المقابر وتكرار تلك المناحات جمعاً عديدة متوالية.
المراثي
ترافق
الراثي في العادة أناشيد حزينة ترددها «الندابات»، وهن نساء محترفات
للبكاء والنواح. وهذه الآداب الشعبية شديدة الشيوع عند الرحمانة ودكالة.
لكن ينبغي الإقرار بأن الأوروبيين يلاقون في دراستها الصعاب الجسيمة. فهذه
المراثي، أو على الأقل تلك منها التي ليس لها طابع أدبي واضح، تكون كثيرة
الحذوف وتبدو في ظاهرها قليلة انسجام وتلاحم. ولربما يكون هذا النوع من
الأناشيد مطبوعاً في أصله بهذه الخصائص، وهو أمر سنقف عليه من خلال مجموعة
من المقاطع قد استقيناها من عين المكان. فالمرثية الأولى تتحدث عن مقتل رجل
في معركة، لكن يجدر التنويه إلى أن هذا الضرب من المراثي يشيع ترديدها في
الوفيات من غير تمييز، ومن غير مراعاة لأن تكون الكلمات متوائمة مع
المناسبة؛ فالمديح الذي يقولونه في المحارب قد يرثون به كذلك الفقيد
المسالم الذي لاقبل له بحمل السلاح
الجنازة
قد
لا تجد الناس يحرصون في البوادي على مرافقة الجنائز بقدر ما يفعلون في
المدن. والمسلمون الذين يرافقون في شمال إفريقيا عملية الجنائز يرون من
واجبهم أن يتناوبوا على حمل النعش، فهو في اعتقادهم «يمحو الذنوب». وأما في
فاس ومراكش فإن هذا العمل يتولاه أناس مختصون، يسمون في فاس : «الزرزاية»
(أي الحمالون) وفي مراكش «الرفَّاعة». وقد تسمعهم أحياناً يتلون في الجنائز
[(هـ. م) كتب الدفن]، وهو أمر أكثر شيوعاً في الجزائر، أبياتاً من
«البردة» و»الهمزية» وهما قصيدتان أنشأهما البوصيري في مدح النبي، خاصة
القصيدة الأولى. غير أنك لا تجد بداية «البردة» مما ينسجم وأناشيد الجنائز،
فالشاعر قد أفرد ذلك المطلع، كجري القاعدة القديمة في الشعر العربي،
لتصوير حزنه على فراق حبيبته. ومعنى ذلك أن العشر العربي يلتزم أعرافاً
وقواعد، وكانت التقاليد الصارمة في هذا الشعر لا تترك للشاعر العربي حرية
ليبتدئ قصيدته كما يحلو له. فليس علينا لذلك أن نستغرب لهذا الشاعر ثقف بين
يدي النبي مادحاً فيبتدئ قصيدته بالحديث عن محبوبته. لكن ما أسهل ما جاء
الشراح والمفسرون المسلمين يطمسون لم كان يمكن أن يبدو شيئاً معيباً في
مطلع هذه القصيدة؛ إذ زعموا أن المقصود بتلك الأبيات الأولى من القصيدة لا
الحب بمعناه المألوف، بل هو الحب للرسول، وأن مطلع قصيدة «البردة» إنما
وضعه الشاعر للتغني بالرسول ولم يكن يقصد به محبوبة من بنات خياله. وعلى
النحو نفسه يحمل علماء اللاهوت [المسيحيون] الخاتمة في مزامير سليمان على
أنها تعبير عن حب المسيح للكنيسة. ومهما يكن من أمر فإن أهالي الجزائر من
المسلمين إذا حضروا جنازة جعلوا يرددون أبياتاً من «البردة» ويزيدون إليها
الشهادتين.
وتكاد الأدعية التي تتلى على القبر تكون متشابهة في سائر
مناطق إفريقيا الشمالية؛ وهي أدعية يقوم بها الطُّلبة. وأما العادة الشائعة
في جميع أنحاء المعمور، والقائمة على دفن بعض الأغراض مع الميت فلا تكاد
ترى لها وجوداً عند أهل المغرب، فأنت لا تراهم يدفنون مع موتاهم حلياً أو
نقوداً، لكنهم قد يدفنون أحياناً مع الطفل أو المرأة بعض الأساور والحلي.
وكثيراًُ ما ترهم في الجزائر يجعلون مع الميت تميمة يسمونها «سؤال»،
يجعلونها تحت رأس الميت، وهي تميمة يكتبها الطلبة ويقولون إنها تعين الميت
في الإجابة عن أسئلة منكر ونكير، وهما الملكان اللذان يأتيان، حسب الاعتقاد
الإسلامي، لسؤاله في القبر. ولم أر لهذا العرف شيوعاً في جنوب المغرب.
وتدخل
في عوائد الرحامنة، كما يدخل في عوائد شعوب شمال إفريقيا بوجه عام، زيارة
القبور. والنساء هن من يقمن بهذه الزيارة بضعة أيام بعد وفاة أقاربهن، ثم
يعدن للمداومة على تلك الزيارة في أيام الجمع، ويأتين بالطلبة للدعاء
للأموات. وتشكل زيارة القبور في أيام الجمع في كثير من المدن المناسبة
الرئيسة لخروج النساء، بل إنهم كثيراً ما يتذرعن بتلك الزيارة للخروج في
طلب الترفيه عن أنفسهن، ولربما تذرعن بها للخروج في يعن لهن من نزوات
وحماقات. ولئن كانت الشريعة الإسلامية تحرم هذه الزيارات فإنها لم تفلح في
اجتثاثها والقضاء عليها. ومن الجدير بالملاحظة أن بعض الأقوام البربرية من
ساكني الحوز يمتنعون من زيارة القبور؛ فكذلك هو الشأن عند حاحا، وحتى إنهم
يمتنعون من هذه الزيارة ولو في عيد عاشوراء. وعلى العكس فأهل مراكش يقبلون
في تلك المناسبة على زيارة القبور في حشود عظيمة؛ فيتصدقون على الفقراء
ويرشون الماء على القبور ويغرسون فيها من الريحان. ومن عادتهم في بعض
الجهات من الجزائر أن يضعوا فوق القبور بعض حبات العنصل. وتعتبر عادة غرس
الأزهار فوق القبور عادة عالمية؛ لاعتقاد بأن الروح تُنتقل إلى هذه
النباتات فتخفف عنها. وهنالك خرافة واسعة الانتشار تتحدث عن عاشقين قد دفنا
بإزاء بعضهما وفوق قبريهما طلعت شجرتان متشابكتا الأغصان. وتحضر هذه
الخرافة في إقليم وهران وبطلاها كورة وعوالي. ولا تزال ترى أهل مراكش
يقبلون رجالاً ونساء على زيارة القبور في اليوم السابع والعشرين من رمضان،
والنساء وحدهن يداومن حين يتوفى لهن شخص على التردد على المقابر ثلاثة. وفي
ما خلا هذه المناسبات لا ترى الناس في مراكش يقبلون على زيارة القبور.
الرحامنة والزكارة
أدرج
مولييرا في بحثه عن الزكارة رحامنة الحوز في عداد المجموعات الاجتماعية
التي كانت تجاهر بالمذاهب التي ينسبها إلى هذه الأقوام في شرق المغرب.
ومهما كانت الاكتشافات التي تأدى إليها هذا الأستاذ من وهران للأفكار
والتصورات الشائعة، ومهما كانت يلزمنا أن نحمله مؤقتاً المسوؤلية الكاملة
عن تلك الاكتشافات، فلا نميل إلى الاعتقاد، كما قيل، بأنه قد وقع في الزلل
بدفع من بعض المخادعين. فعندما سيقيض التحقق من صحة الأفكار الأساسية التي
أقام عليها بحثه وسيتم الوقوع عليها لدى مختلف الأقوام التي تناولها
بالحديث، فسيكون له فضل السبق في الإشارة إليها. ومع ذلك فالعادات الخاصة
بالزكارة قد سبق أن وجدنا الإشارة إليها من لدن ديماييغ؛ فهو يفيدنا أنهم
كانوا يعتبرون عند العرب بأنهم من المبتدعة، وأنهم أصحاب عادات منحلة وأنهم
لا يختتنون. ومن جملة الجماعات التي لها يذكر مولييرا أنها تأخذ بمعتقدات
الزكارة توجد الملاينة في ضواحي فاس. وقد أشار أوبان إلى علاقات الملاينة
بالزكارة، لكنه لم يشر بشيء إلى عاداتهم، بل قال عنهم : «إنهم يشكلون
جمهورية مستقيمة». وينبغي لنا أن نقول ههنا، من غير ادعاء باستخلاص شيء من
هذه الواقعة، أننا استفسرنا أثناء زيارتنا لفاس في سنة 1901، من المسلمين
في مرات كثيرة عن الملاينة، وقد حدثنا كثير من مخبرينا حديثاً مطبوعاً
بالعنف، بقولهم إنهم «خوارج»، أي مبتدعة لا يؤمنون بشيء ويأتون شتى أنواع
المناكر، بما فيها الدعارة ببناتهن وزنا المحارم. وحيث إنني لم أزر بلاد
مليانة، ولم يتسن لي بالتالي أن أتحقق من صحة هذه الاتهامات، فقد اكتفيت
بتسجيلها وعزوتها إلى نوع من الكراهية قد كانت من المغاربة تجاه هؤلاء
الأجانب. لكنني لا أستبعد اليوم أن تكون تلك الاتهامات لا تعدم نصيباً من
الصحة. ومن المعروف عن الغنانمة في جنوب وهران، والذين يدخلهم مولييرا كذلك
في معتنقي الزكراوية، أنهم يتعاطون عامة أحط المهن وأنهم كفار وأنهم
يتركون لأزواجهم مطلق الحرية في التصرف، فنكون ههنا بصدد مجموعة من
القرائن ينبغي أن تحملنا على أن نأخذ بعين الاعتبار التخريجات التي جاء بها
صاحب كتاب «المغرب المجهول». وأما ما تعلق من هذه المزاعم بالرحامنة فلا
يمكن أن نعزو إليها أي نصيب من الصحة. فلم نقف في الدراسة المختصرة التي
تناولنا بها هذه القبيلة على شيء مما يمكن اعتباره من العادات الغريبة من
قبيل العادات حق الليلة الأولى عند الزكارة أو «ليلة الخطيئة»، وهو شكل
غريب من الزواج صوره الكاتب. لكن بما كان في الإمكان أن نقع لديهم على آثار
لهذا النوع من الزواج على أننا وجدنا من ينبهنا إليه قبلاً. وإذا كنا في
كل ما نسوق في هذا الفصل لا نتحدث بشيء عن عادات الزكارة، فلن يكون من
المسوغ أن نستخلص شيئاً من هذه الملاحظة السلبية.
عيد الأضحى
من
جملة الأعياد الدينية الأربعة الكبرى التي يحتفل بها الرحامنة كسائر
المسلمين، فإن العيد الكبير وعاشوراء الذي يسمونه «العاشور» هما وحدهما
اللذان يتميزان بخصوصيات جديرة بالاعتبار. ففي يوم عيد الأضحى يتوجه الناس
عند «الفقيه» في الموضع الذي هم فيه، ومعظم أرباب الأسر يسلمونه سكاكينهم
ويدفعون إليه بشيء من التمر. والفقيه هو الذي يقوم بنفسه بشحذ السكاكين. ثم
يصلون في المصلى، في براح يهيئونه في العراء لهذا الغرض. ويتولى الفقيه
ذبح عدد من الأضاحي، ويعين بعض الأشخاص ليقوموا بذبح الباقي، ويعين لكل
واحد منهم الخيمة التي ينبغي أن يقوم فيها بذبح الأضحية، ويعطيه سكيناً
ويدفع إليه كذلك بحفنة من التمر. وهم يذبحون كل خروف أمام وتدين يقومان
ركيزة تتوسط الخيمة.
العرافة بالدم وعظم الكتف
في
تلك اللحظة يقومون بجمع دم الأضحية، ويزيدون إليه الحرمل وشيئاً من الشعير
وشيئاً من الفحم، فإذا تخثر هذا الدم جاءوا ليتفحصوا ذلك الخليط. فإذا روا
فيه خطاً أبيض كبيراً دلهم على «الكفن»؛ ومعناه الموت، وإذا تبينوا فيه
ثقوباً كانت دلالة على «المرس»، أو «مجموعة كبيرة من الأهراء»، وهي فأل حسن
بأن السنة [الفلاحية] ستعرف المحصول الوافر. وأما إذا رأوا فيه تحذُّبات
فأنها تكون عندهم دلالة على الغنم، أو القطيع من البهائم، فالتي على اليسار
تدلهم على أن السنة ستكون جيدة على الغنم، والتي على اليمين تدلهم، على
العكس، على أن السنة ستكون جيدة على الأبقار. لكن العرافة والتنجيم
باستعمال الدم ليست الوسيلة الواحدة التي يلجأ إليها الرحامنة في هذه
المناسبة، بل إنهم يقبلون، كغيرهم من أهالي شمال إفريقيا، على الكتفية؛ أي
العرافة باستعمال ألواح الكتف التي يحصلون عليها من خروف الأضحية. ومما
يبعثنا على الاستغراب أن نرى هذه العادة تعرف الشيوع عند شعوب العالم على
اختلافها وبعد الشقة بينها. وقد سبق للإدريسي أن أشار إلى أن الزنانتيين
ساكني المنطقة بين تلمسان وتياريت مثل القبائل الخبيرة بالعرافة باستعمال
لوح الكتف. وهذه ممارسة جارية في عموم مناطق المغرب، لكننا سنرى أنها تغيب
عند بعض القبائل الأمازيغة. فهم يزيلون العظم عن الكتف الأيمن من الخروف
ويُخرجون الكتف، فإذا وجدوه أملس صقيلاً دلهم على أن سنتهم ستكون جيدة،
وأما إذا طالعوا فيه خطاً أبيض فهو دلالة على الكفن، فيكون عندهم فألاً
سيئاً. ثم إنهم لا يطعمون في الأول من العيد غير الرأس والمِعلاق والأحشاء،
وفي اليوم الثاني يأكلون العنق والكتفين، وفي اليوم الثالث يأكلون مما
يروق لهم من الخروف ويجففون بقية اللحم.
الفراجة
لا
تزال تجد الرحامنة يحتفلون بالعيد الكبير بإقامة «الفراجة»، وهي ضرب من
المسخرة قد جرت العادة في المغرب على أن تقام بمناسبة عاشوراء، إلا أن
الرحامنة يقيمونها كذلك في العيد الكبير. وسوف نرى في ما بعد، لدى حديثنا
عن الاحتفالات التي تقام في عاشوراء، أن من اليسير الاهتداء إلى تفسير لهذا
الاختلاف في التاريخين. والفراجة عندهم أنهم يقومون بتمثيل شخصية «عزونة»،
ويقوم بتمثيلها شخص أمرد يُلبسونه من لباس العرائس ويجعلون له من الحلي،
فيبدو في هيأة أشبه ما تكون بعروس يهودية. ومن حولها يحتشد المسلمون
متنكرين في هيآت كأنهم يهود، ويفعلون كأنهم يبيعون؛ فبعضهم يتظاهرون بأنهم
يقيسون الثوب، ويوجهون صفعة إلى الأشخاص الذين يقفون على مقربة منهم،
والآخرون يتظاهرون بأنهم يبيعون من تلك الجواهر المزيفة التي تكثر في
الأسواق لتتزين بها النساء؛ فهم يفعلون كأنهم يعرضونها [للبيع]، ويقذفون
بالتراب المتفرجين عليهم... ثم يجيء الموكب إلى خيمة مفتوحة قد جلست أمامها
النساء متبرجات وسافرات الوجه. ومن ورائهم يقف هرمة بوجلود، وهو شخص يتنكر
في هيأة غول ذئبي ولبس من جلد الخروف أو جلد جدي الذي ذبح في هذا العيد،
ووجهه وضع رأس خروف أو رأس جدي وزين رأسه من الريش. وتأخذ عزونة ترقص أمام
النساء، وكذلك يرقص اليهود، ثم يظهر هرمة، فيفعلون كأنما يقتلونه بطلقات
البنادق أو بضربات السيوف. ثم يعطون المشخصين لهذه المشخارة لحماً، وقد
ربما ذبحوا خروفاً لأجلهم. ويمتد الاحتفال بالفراجة أو بوجلود أسبوعاً
كاملاً.
وفي عاشور يأخذ كل واحد منهم طعريجة، ويأخذون في الضرب عليها،
ويوقدون النار في الأخشاب ويأخذون يتسلون بالقفز فوقها. وتلك هي «الشعالة».
وعلى الرغم من أننا لا نحيط بمعنى هذا الشعار، كما هو الشأن في حالات
أخرى كثيرة تجري في هذا المجرى، فالواضح أن هذا الشعر يترجم كرنفالاً
حقيقياً للدفن. فنحن إذا ما تمعنا في عاشوراء وجدناه يوافق الكرنفال الذي
نقيمه [نحن الأوروبيين] في الوقت الحاضر.
التقويم الشمسي
يقودنا
هذا الاستعراض الذي جئنا به لهذه العادات الشعبية إلى الحديث عن نوع آخر
من الاحتفالات قد بقي شيئاً رائجاً في المغرب، كشأنها في سائر بلدان
العالم، وإن يكن معظمها قد فقد الدلالة التي كانت لها عند البدائيين وصار
يتعذر علينا اليوم أن نهتدي إلى معانيها جميعاً. نريد بقولنا الاحتفالات
تقام بمناسبة المنقلب الشمسي والاحتفالات الفلاحية التي يحكمها التقويم
اليوليوسي لا التقويم القمري المعتمد من المسلمين. وقد لاحظنا [الدارسون]
منذ وقت طويل أن أهالي شمال إفريقيا كانوا يداومون على استعمال التقويم
وظلوا يحافظون فيه على الأسماء اللاتينية. والحقيقة أن المسلمين لم ينقطعوا
يوماً عن الأخذ بالتقويم اليوليوسي، علماً بأنهم يقرون ويحتفلون بمجموعة
من الأعياد المرعية كذلك عند المسيحيين، وينبغي أن نجعل في مقدمتها
الاحتفال بما يسمونه «مولد سيدنا عيسى»؛ أي مولد السيد المسيح. والجهود
الذي يبذلها المتشددون من الفقهاء لصرف المسلمين عن الاحتفال بهذه
الأعياد، التي لا يجرؤون على التصريح بالاستنكار لها والرفض، خاصة إذا ما
تعلق الأمر بنبي كعيسى، هي أمور ليس فيها ما يدعو إلى الاستغراب، وهي تقوم
برهاناً على مدى تجذر هذه الأعراف [عند المسلمين]. ومن بين أقدم الأعياد
الشمسية الضاربة في القدم والتي بقيت مرعية عند أهالي شمال إفريقيا ينبغي
أن نذكر «إنَّاير» و»العنصرة».
إناير (ناير)
يعد
الرحامنة في إنَّاير، أي في الأول من يناير، أكلة الدشيشية بالزيت، ثم
يصطنعون كرة من تلك الدشيشة يضعونها فوق الخيمة في ذلك اليوم إناير نفسه،
ثم يعودون ليروها في اليوم الذي بعد، فإذا وجودها قد تبللت وترطبت كانت
علامة على أن السنة [الفلاحية] ستكون جيدة، وإلا كانت علامة على أن سنتهم
ستكون عجفاء ماحلة. ومن عادتهم كذلك أن يطعَموا «العصيدة»، وهي أكلة ثقيلة
يعدونها من دقيق الشعير. ويجعل الشياظمة كرات من تلك العصيدة في العراء
خلال الليل، ليتعرفوا كيف تكون سنتهم [الفلاحية]. وأما أهل حاحا فالعادة
عندهم أن يطعموا «تاكلة» (الاسم الأمازيغي للعصيدة) بالزبدة والعسل، وأما
فقراؤهم فيجعلون معها زيت أركان، وكذلك يتناولون عسلاً قوياً ويشربون
اللبن.
ومن المعلوم أن عادة الناس في أكل العصيدة في المنقلب الشتوي، أي
ثمانية أيام قبل إناير، تعتبر عرفاً واسع الانتشار. ولا تزال العادة جارية
في قرانا الفرنسية على أكل عصيدة أعياد الميلاد، وعلى الصورة نفسها يحتفل
الشرقيون بميلاد سيدنا عيسى؛ فهم فيه يطعمون عصيدة ثقيلة. ولما كانت عصيدة
الحبوب أكلة ضاربة في القدم بطبيعة الحال فإن في هذا الأمر ما يشهد على أن
هذه العادة تعود بأصولها إلى العصور القديمة. وهنالك بطبيعة الحال علاقة
وثيقة بين إناير ومولد عيسى عند المسلمين، ولهذا العيد كذلك شيوع في
المغرب، لكن تنقصنا المعلومات عن نوعية الاحتفالات التي يقيمونها في هذه
المناسبة. ويفيدنا ماسكيراي أن أعياد الميلاد يحتفل بها كذلك سكان الأوراس،
وأنهم تُعرف لديهم باسم بو ينّي، ثمانية أيام قبل إناير، وربما كان هذا
الاسم مشتقاً من الاسم اللاتيني Bonus anus، وأما مرسيي فيذهب إلى أن «بو
يني» معناها عيد الوتد، لأنهم في تلك المناسبة يغيرون جميع العصي التي
يعلقون عليها الأواني المنزلية، ويقول إن هذا الاحتفال يتزامن مع إناير.
وقد جئت في موضع آخر بفرصة مفادها أننا قد لا يكون من المتعذر أن نجد
للكلمتين ببعضهما نسباً من اشتقاقياً. لكن ينبغي التثبت من التاريخ المضبوط
لمختلف المناسبات والاحتفالات. فإن خلطاً كثيراً يعتور معلوماتنا؛ وربما
كان هذا الخلط من صميم الواقع نفسه؛ فليس من المتعذر أن تكون السنة قد كان
مبتدؤها في الزمن الماضي بالمنقلب السنوي وأن تكون الاحتفالات [بذلك
المنقلب] قد وقعت مرتين بالمناسبات، مثلما أن من الممكن أن تكون السنة
الرومانية قد ابتدأت في الماضي في الأول من مارس، فتكون الاحتفالات التي
ترافق السنة الجديدة قد اختلطت على الناس بالاحتفالات بالمنقلب السنوي
عندما صارت تقع في قريب منها.
وعلى كل حال فإن العادة عند سكان المدن
المغربية، كما في جهات أخرى كثيرة من شمال إفريقيا على أن يكون طعامهم في
صوم العنصرة [الكسكس] بسبع خضاري. وفي مراكش يداومون على أكله أياماً
ثلاثة، ويدخل في تلك الخضار السبعة اللفت والجزر والفول والحمص والقمح
والزبيب والتمر، يطبخونها مع الكسكس. وتكون عشية إناير؛ أي يوم 31 و32
دجنبر، في جميع الأماكن، كأنها يوم للحداد. ويتفرد هذا اليوم بخاصية، وهي
أن الناس فيه لا يطبخون شيئاً، ويكون فيه الكسكاس شيئاً لازماً لاغنى عنه.
ومن عادتهم في الجزائر أن يقولوا في هذا اليوم : «ما يقفلوشي»، أي أنهم لا
يحكمون وضع «الكسكاس» فوق الطنجرة. بل إنهم في كثير من المناطق لا يطعمون
في هذا اليوم غير الأشياء الجافة، من قمح وفول وحمص يطبخونها بالماء وشيء
من العسل. لكنهم يجعلون اليوم الذي بعدُ، أي الأول من يناير، يوماً للأفراح
والمباهج؛ فهم فيه يطعمون [الكسكس ذا] السبع خضاري والزبدة والعسل والشفنج
وغيرها من الأطباق اللذيذة. وإذا التقوا بعضهم تبادلوا المتمنيات بأن تكون
سنتهم سنة سعيدة، وهي عادة قد درجوا عليها عند استهلال السنة الهجرية
الجديدة؛ في يوم عاشوراء. وهذا مثال بسيط يبيّن لنا مرة أخرى أن الاستعمال
التزمني للروزنامتين من شأنه أن يعقد الطقوس ويحير دارسي الفولكلفور.
وهنالك اعتقاد لافت للانتباه وشديد الشيوع، وهو أنه في يناير يوجد دائماً
في كل بيت شيء، مهما كان رهيفاً، يتكسر أو يتمزق؛ كصحن أو ثياب أو عصا...،
ولو كان مجرد خيط أو قطعة قماش. وقد جرت العادة على أن يقوم الناس بتنظيف
بيوتهم بالكامل ويجددوا بعض أثاث البيت.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 22 -
ربما أنحى المتعصبون من المسلمين حين الجفاف باللائمة على المسيحيين متى كان لهم وجود بينهم
الأصل في طقوس إناير
فبم
نفسر هذه المعتقدات وهذه الطقوس؟ أغلب الظن أنها تدخل في احتفال قديم
بالمنقلب السنوي. فهذا أمر لا يرقى إليه الشك في الاحتفالات التي نقيمها
[نحن الأوروبيين] بمناسبة رأس السنة، وفيه يتغنى الرجال بنشيد عيد الميلاد.
وإن في العادة الشائعة على إشعال النار في ليلة رأس السنة، والشبيهة
بالنيران التي توقد في الاحتفال بعيد القديس يوحنا، وهما طقسان تماثليان
يريدون بهما، بمعنى من المعاني، أن يشجعوا الشمس على أن تعود لاستئناف
حركتها بعد الغروب، في هذه العادة برهان واضح على هذه الحقيقة. وإذا ثبت
لدينا أن طقوس إناير على صلة بالانقلاب السنوي فلربما ذهبنا إلى الاعتقاد
بأن طقوس الحداد التي تطبع اليوم الأول تكون دلالة على الحزن الذي يرافق
الانحدار الشديد الذي تصير إليه الشمس، وأن المباهج التي تكون بعد ذلك
دلالة على الفرحة بعودتها لاستئناف رحلة الصعود. ولا يبعد أن تكون
الاحتفالات التي يبالغون بها في هذه المناسبات طقساً سحرياً تماثلياً،
يرومون به أن يمدوا هذا الكوكب بقوة جديدة. ويجوز لنا كذلك بأكثر من ذلك أن
نجد لإناير نسباً إلى الاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة تجديد النيران أو
إضرامها من جديد، وقد كان لها شيوع عند كثير من الأقوام البدائية. مثلما
أننا لا نستبعد أن يكون في الطقوس المرافقة لإناير بقية من الطقوس
الرومانية، بالنظر إلى النقص الشديد الذي يعتور معلوماتنا في هذا الموضوع،
وبودنا لو تقوم اجتهادات جديدة في الموضوع.
وإذا كان المنقلب الشتوي
يتميز لدى أهالي شمال إفريقيا بإقامتهم لاحتفالات تعود بأصولها إلى الأزمنة
الغابرة، فإنهم يقيمون للمنقلب الصيفي كذلك نوعاً من الاحتفال يطابق من كل
الوجوه الاحتفال الذي يقيمه الأوروبيون لعيد القديس يوحنا، مثلما يطابق
احتفالهم بالمنقلب الشتوي احتفالَ الأوروبيين برأس السنة الميلادية. ومن
المعلوم أن أقواماً كثيرين يحتفلون بهاتين المناسبتين بإضرام النيران. وإذا
كنت لا ترى للاحتفالات بالمنقلب الشتوي وجوداً في بلدان المغرب، فإنك لا
تزال ترى لها استمراراً عندنا [نحن الأوروبيين] في الخشبة التي نضرم فيها
النار في أعياد الميلاد. وأما النيران التي تضرم حين المنقلب الصيفي ونرى
لها وجوداً عند العديد من الشعوب الأوروبية فلا نعدم لها وجوداً في المغرب،
وهي تعتبر الطقس الرئيس المميز ليوم العنصرة. و»العنصرة» تقع عند المسلمين
في يوم 24 يونيو، مثلما أن «مولد عيسى» يقع في يوم 24 دجنبر من السنة
اليوليوسية.
العنصرة
والرحامنة
يأخذون في يوم «العنصرة» قمحاً يدرسونه في ذلك اليوم نفسه، ثم يطبخونه في
الماء ويجعلون معه من الشحم ويضيفون إليه ملحاً ثم يحملونه إلى ساحة الدرس.
ويشعلون ناراً يجعلون وقودها من روث الغنم لأنه كثير الدخان. ثم يسقون
أكوام القمح بالماء، وبعد ذلك يشرع الجميع في تناول القمح الذي جرى إعداده
على هذه الصورة. ويؤثر أهل الرحامنة أن يوقدوا النار على مقربة من الحقول
والبساتين بحيث يصل الدخان إلى أوراق الأشجار. والذي يبدو أن في دكالة يكون
الشرفاء هم خاصة من يقوم بإشعال تلك النار، ثم يجعلون شيئاً من الرماد
المتخلف عن تلك النار على جباه الأطفال. وما أكثر ما تسمعهم يقولون [لصاحب]
البستان تكون ثماره ضعيفة : «على خاطر ما عنصرتوشي»أي أنك لم تشعل فيه نار
العنصرة. كما أنهم يردوون مثلاً آخر يقول : «العام بيان من الخريفة
والعنصرة تسبق». ومعناه أن «السنة [الفلاحية] تلوح علائمها من الخريف»
(الذي يسبقها) ومن العنصرة (التي تأتي قبل الخريف)، ويقال هذا المثل في أن
نتائج الأمور تعرف من بداياتها. ومن أمثلتها أن الخِطبة التي يكون مبتدؤها
بالجدالات تكون علامة على فشل الزواج بعدها. ذلك بأنهم لا يزالون على
اعتقاد أنه إذا كان يوم العنصر يوماً كان دليلاً على أن المومس الفلاحي
المقبل سيكون جيداً. ومن الواضح أن لهذا الاعتقاد صلة بتلك العادة [عند
المسيحيين] في اصطناع سحائب من الدخان في يوم 24 يونيو.
ولطقوس النار
صلة وثيقة بطقوس الماء، على نحو ما وقفنا عليه في تصويرنا لهذه العادة
الرحامنة. ومن الشواهد الدالة على هذه الحقيقة أننا نرى أهل الجديدة
وأزمور يذهبون في يوم العنصرة للاستحمام في مياه البحر، بل إن منهم من
يتكلف المجيء إلى البحر من الأماكن القصية. ولا تزال تراهم يأتون بمجامر
إلى ساحل البحر ليحرقوا فيها البخور. ونرى كذلك في تطوان كيف يمر جبالة
الذين في هذه الناحية في يوم العنصرة من كل سنة في طريقهم إلى ساحل البحر؛
فيقضون هنالك يومهم كله ويسبحون في البحر جميعاً ومن دون استثناء، وفي
المساء يعودون للنوم في تطوان. ويذكر شينيي أنه رأى في سلا شباناً يصنعون
طوفاً من القصب والقش ودفعوا به فوق ماء النهر وأضرموا فيه النار ثم جعلوا
يسبحون من حوله ويتمازحون». ولكم نود لو نعرف هل ما زالت هذه العادة جارية
عندهم. وذكر سليمان أن من عادة الأهالي في ذلك اليوم أن يحرقوا بومة. وأما
في مراكش فلا تراهم يضرمون النيران في العنصرة، بل يقذفون بعضهم بالماء
داخل البيوت وفي الشوارع بملء سطول حتى ليغمر الماء ثيابهم كلها، كما وأنهم
يرمون بالماء على المساجد والأضرحة، وكثيراً ما تراهم يغطّسون أشخاصاً في
«السقايات» وموارد الماء؛ ويتعطل الجميع في ذلك اليوم عن العمل.
مشاعل عيد القديس يوحنا
لا
تشكل مختلف هذه الطقوس غير مجموع تتخلله الكثير من الثغرات وأوجه النقص،
ولا يساورنا شك في أن البحوث والتحقيقات اللاحقة ستأتي بما يكمل ويتمم
الكثير من جوانب النقص التي تعتور هذه اللوحة. غير أننا نتعرف بسهولة كبيرة
في هذه اللوحة، مع تلك النواقص فيها، على السمات الأساسية لاحتفال قد
تناولته الكثير من الدراسات خلال السنوات الأخيرة. فقد جاء مانهارت، وجاء
فريزر خاصة، بما يؤكد أن المشاعل التي توقد في عيد القديس يوحنا ذات
الانتشار الواسع في أوروبا، هي طقوس تدخل في السحر التماثلي يُراد بها منح
القوة للشمس والإفادة من خيرات الأشعة الشمسية في المومس الفلاحية التي
يتهيأون لها والإفادة من ضيائها ودفئها، وما يكون لها بالتالي من فوائد على
صحة الإنسان والحيوان والنبات. وهم يقومون بهذه الاحتفالات خاصة حين
المنقلب السنوي، لأنه يكون نقطة حرجة في ثورة الشمس وأنها بحاجة إلى دعم في
بداية رحلتها التنازلية.
معنى العنصرة
وتنتشر
هذه الاحتفالات بالمنقلب السنوي كذلك وبوجه خاص عند الأقوام البعيدة عن خط
الاستواء. ثم إننا نعتقد أن البدائيين كانوا بهذه الاحتفالات يبتغون أن
يطهروا الهواء من التأثيرات السيئة وأن يقضوا على الأرواح الشريرة أو
يطردوها. وإذا كانوا يقفزون فوق النيران فلكي يُنفذوا إلى الجسم بصورة
مباشرة الحرارة التي في النار والأوار الذي في أشعة الشمس، وكذلك يفعلون
بغاية التطهر من الأرواح الشريرة التي يمكن أن تعلق بسطح الجسم. فهم
يطردون، كما قلنا، الدخان عن جوانب النباتات لكي يمدوها بالقوة والنشاط
الكامنين في تلك النيران السحرية، ويمكن أن ينقلوا تلك القوة وذلك النشاط
إلى الأطفال بحك أجسادهم برماد تلك النيران. ومن المعلوم أن الدخان ناقل
ناجع، حسب معتقدات البدائيين، لفضائل الشيء المنبعث منه حين الاحتراق.
ولذلك نرى الكثير من الأهالي [في الجزائر] يحرقون التمائم التي يكتبها لهم
«الطُّلبة» ويتنشقون دخانها لأنها معدودة عندهم من العلاجات الفعالة. وأما
المغاربة فربما كان لهم في الدخان المنبعث من النيران التي يوقدونها، أو
ربما كان لها عند أسلافهم البعيدين في أقل تقدير، فضيلة أخرى. ولو رجعنا
إلى المثل الذي ذكرناه من قبلُ فمن الممكن أن يذهب بنا الاعتقاد إلى أنهم
يفكرون وهم يكوّنون سحائب اصطناعية في أنها ستصير في المستقبل سحباً حقيقية
محملة بالأمطار، وتلك هي القضية العظمى على الدوام عند الفلاحين في شمال
إفريقيا. وأما من جهة أخرى فإن عادة أهالي سلا في إحراق الطيور في يوم
العنصرة تعتبر من البقايا الباقية من القرابين التي كانت جارية في العصور
القديمة ولا تزال تلمس لها بقايا في الفلكلور الأوروبي، بمناسبة إشعال هذا
النوع من النيران؛ فهم بهذا الفعل يدمرون بالنار روح النباتات المحسوبة على
السنة التي قبلُ من أجل خلق روح أخرى، وقد كانوا يمثلون لهذه الروح تارة
بإنسان وتارة أخرى بحيوان. وفي الأخير فإن في الإمكان أن نُدخل العنصرة في
الحفل السنوي الذي يقيمه الكثير من البدائيين لإخماد نيرانهم والاحتفال
بإشعال أخرى، وكذلك كان يجري الأمر في النيران التي كانوا يوقدونها
للإلاهات الفستاليات في روما. غير أن ما يلفت الانتباه بشدة أن هذا
الاحتفال قد كان الغالب فيه عند البدائيين أنهم يقيمونه للاحتفال ببواكر
غلال الأرض؛ أكانت أرزاً أو قمحاً أو غيرهما من الغلال. ونحن نرى أن الطقس
الذي جئنا على تصويره عند الرحامنة يشبه هذا الحفل من كل الوجوه.
وأما
طقوس الماء من رش وتعويم فإنها تعتبر من الطقوس التقليدية في الفلكلور
الأوروبي، وقد جرت العادة عند الأوروبيين على الإقبال على هذه الطقوس في
عيد القديس يوحنا، ومن المعلوم أن الكنيسة تخلد في ذلك اليوم عيد يوحنا
المعمدان. ثم إن من الطبيعي لهذه الطقوس، التي لا تعدو على وجه الإجمال أن
تكون رقى لجلب المطر، أن يقبل عليها الناس في الوقت الذي يكونون يهتمون لأن
يؤمنوا للموسم الفلاحي الطاقة التي تمده بها أشعة الشمس. وفي هذا السياق
تدخل العادات التي ذكرناها، والتي ليست تلك الذي تحدث عنها شينيي بأقلها
غرابة. ونحن نرى أن هذه الطقوس في المغرب كما في غيره كثير من البلدان تكون
وثيقة الصلة بطقوس النار.
الشعالة
إن
الشعوب البعيدة عن خط الاستواء أكثر ما توقد النيران في وقت التحول
السنوي، وتكون رقصات الراقصين والقفز غير المنظم من المحيطين، كما في
«الرقصات الدائرية» في العصور الوسطى، يتغيون بها، من ضمن ما يتغيون، أن
يسندوا كوكب النهار في سرعته. لكننا نشاهد احتفالات مشابهة في فترات أخرى
من السنة، ولا يعشر عينا أن نهتدي لها إلى تفسير بعكس ما يقع لنا مع
النيران حين التحول السنوي. كذلك يوقدون النيران في عيد الصوم الكبير وفي
عيد الفصح، في الأول من مايو، ولهذه المناسبات جميعاً نسب قريب أو بعيد إلى
احتفالات زراعية قديمة. وكذلك نرى الناس في المغرب يوقدون النار المعبرة
عن الفرح في غير يوم العنصرة أيضاً؛ أريد بقولي النيران التي يوقدونها في
عيد عاشوراء، المعروف عند العامة باسم «عاشور»، وكذلك يسمونه «عيشور» في
بعض المناطق، كما في الجديدة. ورأينا في الرحامنة أنهم يوقدون النار
ويرقصون من حولها، ويفعلون الشيء نفسه في مراكش، وفي ناحية الصويرة وناحية
الجديدة؛ أي أنها ممارسة تكاد تكون عامة في الحوز كله. فالأطفال يجعلون
أياماً قبل العيد يقفون في زوايا الشوارع وقد وضعوا أمامهم على الأرض
مربعاً من القماش، ويجعلون ينادون على المارة : «اعطيني الشعالة»، أي
اعطيني شيئاً لأصنع الشعالة. وأما في الرباط وسلا فلا تراهم يوقدون النيران
في غير العنصرة، ولربما كان كذلك شأنهم في شمال المغرب، وإن كانت تعوزنا
المعلومات في هذا الباب. ومن الواضع أن النيران التي يوقدونها في عاشوراء
تتصل بنسب إلى بعض الاحتفالات الفلاحية التي كان يقيمها البدائيون في
التاريخ الشمسي ثم انتقلت إلى التقويم القمري وصاروا يقبلون عليها في هذا
العيد الإسلامي. ولهذا الضروب من الاستهواء شيوع في بلدان المغرب الكبير،
وستسنح لنا فرصة للعودة إليها.
طقوس المطر
ولا
يزال الناس إلى اليوم يراعون طقوس الماء ويقيمونها في مختلف الأوقات. فقد
رأينا أن في مراكش يغلب أقبال الناس على هذه الطقوس في عيد عشوراء، وفي
الجديدة يغلب الإقبال عليها في العيد الكبير؛ فتراهم يتراشون بالماء ويسمون
ذلك الطقش «حليلو» . وقد جرت العادة عند الشياظمة، وليس يبعد أن تكون
العادة جارية كذلك في مناطق أخرى، أنهم في عيد عاشوراء وعيد المولود
(المولد النبوي) يأخذون منذ مطلع النهار، يتراشون بالماء إلى أن تبتل منه
ثيابهم تماماً. ثم إن هذه العادة في رش الماء تعتبر عادة واسعة الانتشار في
أنحاء المعمور بكونها طقساً سحرياً لطلب المطر، وهذا الأمر يدفعنا إلى
الحديث عن الطقوس على نحو ما تُتداول عند الرحامنة. وليكن مبتدؤنا بالحديث
عن الطقوس الشعبية.
فالجفاف إذا استطال واشتدت وطأته احتشدت نساء الدوار
والأطفال وأخذوا مغرفة («تاغنجة»)، وشدوا إليها قصبة طويلة وشدوا إلى
القصبة قصبة أخرى صغيرة على هيأة صليب، ثم يفرغون عليها من أجمل الألبسة
النسائية التي يجدونها في الدوار؛ ويكون فيها قفطان الحرير وسبنية
الحرير...إلخ.، ثم يجعلون يطوفون بها في الحقول. وتسير ترافقها النساء
والأطفال وهم يرمونها بالماء ويرشون بعضهم بعضاً، وهم يرددون:
تاغنجة حلات راسها
يا ربي بَلْ خْراسها
تاغنجة يا مرجة.
يا ربي اعطينا الشتا.
ونحن
نتعرف في هذا الذي ذكرنا على طقس شتائي واسع الانتشار في أوروبا بقدر
انتشاره في المشرق، ويتمثل في تغميس تماثيل القديسين أو ما يدخل مدخلهم من
الصور المقدسة، في الماء. فقد كان القرويون في أوروبا يغمسون في الماء
تمثالَ مريم العذراء، وقد كان الشانات يغطسون في الماء تمثال بودا، وكان
الرومان يلقون في كل سنة بدمية في وادي تايبر... وكان البدائيون كثيراً ما
يصنعون دماهم من المغارف. وأما في الوقت الحاضر فمن الواضح أنه قد صارت
لهذه الدمية دلالة سحرية خاصة تستمدها من وظيفتها المألوفة. ثم إن هذه
الدمية التي جرى تهذيبها على هذا النحو ربما كانت تُتخذ بديلاً عن شخص حي،
على نحو ما يتراءى لنا من بعض العادات كمثل ما هي العادة التي كانت عند
المصريين إذا رغبوا في التعجيل بفيضان النيل ألقوا فيه بعذراء مكمولة
الزينة، وقد أصبحوا يمثلون لها اليوم بعمود من الطين يسمونه «عروساً» أو
خطيبة.
ومعظم الأقوام البدائية تعود بالمعاملة السيئة على تماثيلها متى
لم تحقق لها ما تطلب وتريد. وقد كان الناس في بلدان كثيرة ينقلبون على
الملك الإله، أو القس الأكبر، بسوء المعاملة، وحتى ليهددوه بالموت متى
امتنع عنهم المطر أو لاح لهم ما ينذر بأن سيُبلون بسوء المحاصيل. وكان بعض
الرحل في جنوب المغرب إذا خرجوا في غزواتهم حملوا معهم أولياءهم ليتبركوا
بهم، فإذا لم يوفقوا إلى ما يريدون أنحوا عليهم بأحط السباب وشنيع الشتائم.
وكان الناس في مراكش إذا اشتد بهم اليأس توجهوا إلى [ضريح] سيدي بلعباس
وجعلوا غطاء على إحدى الشمعدانات التي تضيء [قبر] الولي دلالة على الحط من
قدره. وأما الرحامنة فإذا استطال بهم الجفاف خرجوا للبحث عن ولي، فإذا
وقعوا عليه جعلوا حول عنقه حبلاً وجعلوا يضيّقونه عليه، ويقول مخبرونا إن
الولي تتملكه حينذاك الجذبة ويشرع في الدعاء. ثم إنهم يجعلون في الوقت نفسه
يرشونه بالماء، وإن هم لم يلقوا به حوض مائي فإنما لعدم وجود ذلك الحوض
لديهم. غير أن هذا التعويم القسري يُجعل للأولياء في حالات الجفاف شيء واسع
الانتشار في شمال إفريقيا. ويمكن أن نذكر على سبيل التمثيل أن الناس في
بسكرة إذا وقع لهم الجفاف قاموا أولاً بصلاة «الاستسقاء»، ثم أقاموا مأدبة
كبيرة غير أنهم يقتصرون فيها على الكسكس وحده. وبعد ذلك يقوم شيوخ القرية
باختيار شخص يكون له نسب إلى الأولياء، ويؤثرون أن يكون من أولئك الأولياء
الذين يتجولون في رث لا يخلو منهم مكان من هذه البلدان، لا يميزون فيهم
بين مرتبة اجتماعية ولا طائفة دينية، ثم يجعلون يغطسونه في الماء ويمعنون
في ذلك إمعاناً إلى أن يأخذ يصيح ويزعق في طلب الغوث. وأما في مناطق أخرى
فلا تراهم يتخذون ولياً بل زنجياً أو زنجية، ويجعلون يغطسونه أو يغطسونها
بكثير من المراعاة، فإذا انتهوا من تلك العملية كافأوه أو كافأوها بشيء من
المال؛ فكذلك يفعلون في منطقة تلاغ بوهران ويكون اللون الأسود في هذه
الحالة هو الحاسم، إذ يعولون على أن الأسود، الذي هو في التصورات البدائية
لون السحب الماطرة، سيجلب لهم الأمطار.
فيمكن أن نخلص من كل ما ذكرنا
إلى أن طقس الاستحمام بالماء ربما كانت له دلالتان اثنتان : أولاهما أن فيه
تعذيباً للإنسان المقدس على أن أخل بوظيفته فلم يجلب إلى الجماعة المنفعة
التي كانت تنتظرها منه، وثانيتهما أنه طقس سحري يتوسل فيه، حسب ما نعتقد،
بالماء من حيث إنه جالب للماء بالضرورة. وإنك تراهم في طقس الدمية يجعلون
مثالاً مكان الولي. وأكثر من يمكن أن يكون طقس التجوال في الحقول على صلة
بطقوس أخرى فلاحية، وذلك من جهة لأن المناسبات الفلاحية، ومثالها الحصاد،
تكاد كلها تصاحبها طقوس الاستسقاء. وأما من جهة أخرى فإننا نعرف أن الدمية
التي يُفرغ عليها من اللباس ويُطاف بها في الحقول تدخل في طقس سحري يُتوسل
إلى زيادة قوة الروح الكامنة في الحَب. وهذا طقس نجده في المغرب كما في
الجزائر. فأنت ترى أهالي بني خنوس في منطقة الأوراس يطوفون في الحقول في
أوان البذر قد حملوا شاشية وعصا وحذاء بزعم أنها كانت لجدهم. والعادة نفسها
نلاقيها كذلك عند قبائل الشلف. كذلك نرى الأهالي في ضواحي طنجة يطوفون في
أواسط فبراير في الحقول وهم يحملون دمية قد ألبسوها من الثياب الفاخرة
ويسمونها «ماطا».
ولا تزال ترى الرحامنة يلجأون إلى وسيلة أخرى لرفع
الجفاف، وهي المتمثلة في طقس الحبل؛ وذلك بأن تقف نساء الدشر على جانب من
الحقل والرجال على آخر، ويأخذون يجذبون في ما بينهم حبلاً إلى أن ينقطع،
وحينذاك يجعل المتفرجون يرشون الفريقين بالماء إلى أن يبتلا، ثم يجتمعون
على كسكس. وقد سمعت من حدثني بوجود هذا الطقس كذلك عند القبايل الصغرى؛ وهو
عندهم شديد الشبه بما ذكرنا، إلا من خلوه من الرش بالماء، وأنه إنما يقام
على سبيل اللهو فحسب. وربما وقعنا على معلومات أخرى بما يفيد أن هذا الطقس
يقام بغرض استجلاب المطر، أو يقام في طلب تغيير الأحوال المناخية. لكن وإن
لم يتسنَّ لنا أن نقع على ما يؤكد لنا هذا المعنى فإننا نميل إلى اعتبار
هذه اللعبة بقيةً من طقس سحري قديم، كمثل ما هي لعبة الكرة. ونجد الطقس
نفسه كذلك عند بعض الأقوام البدائية، كمثل الإسكيمو الذين لاشك أنه يرمز
لديهم إلى التعارض الحاد بين الفصل الساخن والفصل البارد. فلاغرابة إذن أن
يكون هذا الطقس يُرمز به في حالات أخرى إلى الصراع القائم بين الشتاء
والحر. ويجدر بالملاحظة انتهاء أن في المناسبات التي تُقام لاستجلاب المطر
كثيراً ما يكون الصراع والصياح والحركات تضطلع بدور هام. ونحسب أن الناس
يعتقدون بأن من شأن كل تلك الحركات أن تهز السماء وتصيّر الجو وقد امتلأ من
سحائب الخير. فهؤلاء أهالي سجرارة في الجزائر إذا ألم بهم الجفاف قاموا
بما يسمى «وعدة الكور»؛ أي وعدة الكرة، وهي وليمة يقيمونها لأحد الأولياء
ويصلون خلالها طلباً للأمطار، ثم يلبثون إلى جوار [ضريح] الولي، وما أن
ينزل المطر حتى يأخذوا يصنعون كرات صغيرة من الوحل ويجعلون يقذفون بها
بعضهم بعضاً، وربما هم يفعلون طمعاً في استرسال الأمطار. ومهما يكن من أمر
فينبغي أن نلاحظ الشبه الموجود بين هذا الطقس ولعبة الكرة جرياً على
التفسير الذي جئنا لها به.
ولامندوحة لنا، ونحن نخوض في هذا الموضوع، من
أن نشير إلى الاحتفال الغريب الذي اعتاد الناس في فاس أن يحيوه في أوقات
الجفاف؛ ذلك بأنهم يجعلون سبعين ألف حصى في سبعين ألف كيس ويسدونها، ثم
يتلون عليها من آيات القرآن في أحد الأضرحة، ويلقون بها في وادي سبو. وقد
وجدنا إشارة إلى حفل مشابه لدى أهالي طرابلس، بما يعني أنه طقس عام. ونحن
نعرف لدى الأقوام الهمجية طقوساً مماثلة يقيمونها على ضفاف الأنهار أو عيون
الماء. فالذي يبدو أن الناس يلجأون دائماً إلى الماء لطلب الماء، جرياً
على مبادئ السحر الرباني. وهنالك حالات يختصر فيها الطقس إلى أبسط ما يكون،
كما في رش الماء الذي سبق لنا أن أشرنا إلى أن الناس يقبلون عليه في يوم
العنصرة وفي عاشوراء. وكذلك نراه لدى الجماعة المختلطة في تاقيطونت؛ فهم
يقيمون الزرادي (وهي ولائم دينية [كذا!]) لطلب الماء، ونرى المشاركين
يرقصون وقد ملأوا أفواههم بالماء ثم ينثرونه في الهواء وهم يصيحون : «إنو
والرخا»؛ ومعناها «المطر والرخاء». وهنالك احتفالات أخرى تقام بقصد جلب
الأمطار لكنها مختلفة تماماً عما ذكرنا؛ كأن يقدموا قرباناً يتمثل في ضحية
يتناولها بالتعذيب، ولما نهتد بعد إلى تفسير مُرض لهذا النوع من الطقوس.
ونجد شبيهاً بهذا الطقس قد درج عليه أهالي مزونة في الجزائر؛ فإذا اشتد
عليهم الجفاف فوق ما يطيقون بحثوا عن ضبعة فجاءوا بها وهي حية ثم شدوها من
ذيلها وجعلوا ثلاثة أيام يعذبونها ودفعوا إليها بالكلاب تنهش لحمها، وبعد
ذلك يقتلونها ثم يدفنونها.
الاستسقاء
لقد
خصصت العقدية الإسلامية صلاة خاصة لجلب المطر، هي المسماة «صلاة
الاستسقاء». وهي تقام على صورة واحدة بطبيعة الحال في سائر البلاد
الإسلامية، بما يغنينا عن إطالة الوقوف عندها في هذا المقام. وحسبنا أن
نشير إلى عرف جار في هذه الصلاة كما يدلنا عليه حديث ينص على وجوب قلب
الناس ثيابهم حين الاستسقاء. ولا يبعد أن يكون في هذا الطقس بقايا لطقوس
الصراع الذي يحرك العناصر التي يُرجى منها قدوم الإله. والطريقة الصحيحة
للقيام بصلاة الاستسقاء أن الغالب فيها أن تقام داخل القبيلة بإزاء القبائل
الأضرحة، ويرفقها الناس بوليمة جماعية، وهي المسماة في المغرب بـ»الموسم».
والعادة تجري على أن تقدم بعد ذلك بعض الذبائح، وأكثر ما تكون التضحية
بذبيحة سوداء، مصداقاً لما سبق لنا أن ذكرنا من الطابع السحري للون الأسود
في صلته بطلب الأمطار. وعلاوة على ذلك فإننا قد رينا أن أهل الحوز حافظوا
على طقوس قديمة كثيرة تدخل هذا المدخل. فقد جرت العادة في معظم المواسم
التي تقام للاستسقاء على رش الأطفال بالماء. ويعتبر الماء شيئاً حيوياً عند
أهالي شمال إفريقيا، وتزداد تلك الأهمية للماء عند ساكنة المناطق المجدبة،
بحيث تكتسي لديهم صلاة الاستسقاء أهمية كبيرة من الناحية الدينية. فهم
يقيمون التجمعات في الأضرحة، ويحضرها كبار الشخصيات، وما أكثر ما يحضرها
السلطان أيضاً، وهم يقيمون تلك الاحتفالات كلما اشتد عليهم الجفاف. وربما
كانت هذه المناسبات فرصة لبعض المتعصبين ليصبوا جام غضبهم على المسيحيين
متى كان لهم وجود بينهم، وينحوا باللائمة عليهم في ما يتفق لهم من الجفاف.
وقد ترى المسلمين أحياناً يفعلون عكس ذلك؛ وحتى لتراهم متى اشتد بهم اليأس
من سقوط الأمطار يطلبون إلى المسيحيين أن يدعوا ربهم ليجود عليهم به، وربما
ارتجوا منه الغوث.
طقوس الاستجفاف
وكما
توجد طقوس للاستسقاء فكذلك توجد بعكسها طقوس بغرض منع الأمطار، لكنها طقوس
يكاد لا يعرف بها غير أهل مراكش. والصراع القائم بين الرحامنة والسكان
الحضر في مراكش ليس وليد اليوم. فالسكان الحضر يجدون كل مصلحتهم في أن تسوء
المحاصيل، ليُحتاج إلى وساطتهم، فيرفعون حينئذ من أسعار المواد الغذائية.
وكذلك تجد طقوس الاستجفاف يتعاطاها الرحالة والبغالة والمرافقون للمواكب
والقوافل من كل الأصناف؛ إذ تكون حاجتهم في الطقس الصحو. فهم يأخذون
إبريقاً من الفخار يصبون فيه زيتاً ويجعلونه تحت سقف قد اخترقه المطر ولا
يزال يرشح منه الماء، أو يضعونه تحت خيمة، في موضع ينفذ منه الماء ويتساقط
قطرات على الأرض. فإذا امتلأ الإبريق قاموا بدفنه في التراب فتنقطع
الأمطار. وإن الدلالة السحرية لهذا الطقس لواضحة للعيان. والناس في مراكش
خاصة يصنعون محراثاً صغيراً يشدون إليه قطاً ويجعلون يحرثون به حقلاً،
فيكون فيه وقف للأمطار. وهذا الطقس يخالف في ظاهره معطيات الفلكلور
المعاصر. فمن اليسير علينا أن نجد صورة للمحراث قد حافظت عليها مجموعة من
الأقوام باعتباره وسيلة لجلب المطر. وأما القط فهو حيوان كثير الاستعمال في
الطقوس الموجهة لدفع الجفاف. فربما كان أهل مراكش يستعملون هذا الطقس
بطريق المحاكاة الساخرة. وأهل مراكش كثيرو الخشية من الأمطار الشديدة فهي
تضر لديهم بأشجار النخيل، هو الذي لا يجود عليهم بكبير محصول حتى في
السنوات الحارة. فإذا أرادوا أن يقوا أنفسهم الطقس السيء أخذوا غراباً
وفقأوا عينيه ثم شدوه إلى نخلة. لكنه طقس لا نستبين له معنى.
ربما أنحى المتعصبون من المسلمين حين الجفاف باللائمة على المسيحيين متى كان لهم وجود بينهم
الأصل في طقوس إناير
فبم
نفسر هذه المعتقدات وهذه الطقوس؟ أغلب الظن أنها تدخل في احتفال قديم
بالمنقلب السنوي. فهذا أمر لا يرقى إليه الشك في الاحتفالات التي نقيمها
[نحن الأوروبيين] بمناسبة رأس السنة، وفيه يتغنى الرجال بنشيد عيد الميلاد.
وإن في العادة الشائعة على إشعال النار في ليلة رأس السنة، والشبيهة
بالنيران التي توقد في الاحتفال بعيد القديس يوحنا، وهما طقسان تماثليان
يريدون بهما، بمعنى من المعاني، أن يشجعوا الشمس على أن تعود لاستئناف
حركتها بعد الغروب، في هذه العادة برهان واضح على هذه الحقيقة. وإذا ثبت
لدينا أن طقوس إناير على صلة بالانقلاب السنوي فلربما ذهبنا إلى الاعتقاد
بأن طقوس الحداد التي تطبع اليوم الأول تكون دلالة على الحزن الذي يرافق
الانحدار الشديد الذي تصير إليه الشمس، وأن المباهج التي تكون بعد ذلك
دلالة على الفرحة بعودتها لاستئناف رحلة الصعود. ولا يبعد أن تكون
الاحتفالات التي يبالغون بها في هذه المناسبات طقساً سحرياً تماثلياً،
يرومون به أن يمدوا هذا الكوكب بقوة جديدة. ويجوز لنا كذلك بأكثر من ذلك أن
نجد لإناير نسباً إلى الاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة تجديد النيران أو
إضرامها من جديد، وقد كان لها شيوع عند كثير من الأقوام البدائية. مثلما
أننا لا نستبعد أن يكون في الطقوس المرافقة لإناير بقية من الطقوس
الرومانية، بالنظر إلى النقص الشديد الذي يعتور معلوماتنا في هذا الموضوع،
وبودنا لو تقوم اجتهادات جديدة في الموضوع.
وإذا كان المنقلب الشتوي
يتميز لدى أهالي شمال إفريقيا بإقامتهم لاحتفالات تعود بأصولها إلى الأزمنة
الغابرة، فإنهم يقيمون للمنقلب الصيفي كذلك نوعاً من الاحتفال يطابق من كل
الوجوه الاحتفال الذي يقيمه الأوروبيون لعيد القديس يوحنا، مثلما يطابق
احتفالهم بالمنقلب الشتوي احتفالَ الأوروبيين برأس السنة الميلادية. ومن
المعلوم أن أقواماً كثيرين يحتفلون بهاتين المناسبتين بإضرام النيران. وإذا
كنت لا ترى للاحتفالات بالمنقلب الشتوي وجوداً في بلدان المغرب، فإنك لا
تزال ترى لها استمراراً عندنا [نحن الأوروبيين] في الخشبة التي نضرم فيها
النار في أعياد الميلاد. وأما النيران التي تضرم حين المنقلب الصيفي ونرى
لها وجوداً عند العديد من الشعوب الأوروبية فلا نعدم لها وجوداً في المغرب،
وهي تعتبر الطقس الرئيس المميز ليوم العنصرة. و»العنصرة» تقع عند المسلمين
في يوم 24 يونيو، مثلما أن «مولد عيسى» يقع في يوم 24 دجنبر من السنة
اليوليوسية.
العنصرة
والرحامنة
يأخذون في يوم «العنصرة» قمحاً يدرسونه في ذلك اليوم نفسه، ثم يطبخونه في
الماء ويجعلون معه من الشحم ويضيفون إليه ملحاً ثم يحملونه إلى ساحة الدرس.
ويشعلون ناراً يجعلون وقودها من روث الغنم لأنه كثير الدخان. ثم يسقون
أكوام القمح بالماء، وبعد ذلك يشرع الجميع في تناول القمح الذي جرى إعداده
على هذه الصورة. ويؤثر أهل الرحامنة أن يوقدوا النار على مقربة من الحقول
والبساتين بحيث يصل الدخان إلى أوراق الأشجار. والذي يبدو أن في دكالة يكون
الشرفاء هم خاصة من يقوم بإشعال تلك النار، ثم يجعلون شيئاً من الرماد
المتخلف عن تلك النار على جباه الأطفال. وما أكثر ما تسمعهم يقولون [لصاحب]
البستان تكون ثماره ضعيفة : «على خاطر ما عنصرتوشي»أي أنك لم تشعل فيه نار
العنصرة. كما أنهم يردوون مثلاً آخر يقول : «العام بيان من الخريفة
والعنصرة تسبق». ومعناه أن «السنة [الفلاحية] تلوح علائمها من الخريف»
(الذي يسبقها) ومن العنصرة (التي تأتي قبل الخريف)، ويقال هذا المثل في أن
نتائج الأمور تعرف من بداياتها. ومن أمثلتها أن الخِطبة التي يكون مبتدؤها
بالجدالات تكون علامة على فشل الزواج بعدها. ذلك بأنهم لا يزالون على
اعتقاد أنه إذا كان يوم العنصر يوماً كان دليلاً على أن المومس الفلاحي
المقبل سيكون جيداً. ومن الواضح أن لهذا الاعتقاد صلة بتلك العادة [عند
المسيحيين] في اصطناع سحائب من الدخان في يوم 24 يونيو.
ولطقوس النار
صلة وثيقة بطقوس الماء، على نحو ما وقفنا عليه في تصويرنا لهذه العادة
الرحامنة. ومن الشواهد الدالة على هذه الحقيقة أننا نرى أهل الجديدة
وأزمور يذهبون في يوم العنصرة للاستحمام في مياه البحر، بل إن منهم من
يتكلف المجيء إلى البحر من الأماكن القصية. ولا تزال تراهم يأتون بمجامر
إلى ساحل البحر ليحرقوا فيها البخور. ونرى كذلك في تطوان كيف يمر جبالة
الذين في هذه الناحية في يوم العنصرة من كل سنة في طريقهم إلى ساحل البحر؛
فيقضون هنالك يومهم كله ويسبحون في البحر جميعاً ومن دون استثناء، وفي
المساء يعودون للنوم في تطوان. ويذكر شينيي أنه رأى في سلا شباناً يصنعون
طوفاً من القصب والقش ودفعوا به فوق ماء النهر وأضرموا فيه النار ثم جعلوا
يسبحون من حوله ويتمازحون». ولكم نود لو نعرف هل ما زالت هذه العادة جارية
عندهم. وذكر سليمان أن من عادة الأهالي في ذلك اليوم أن يحرقوا بومة. وأما
في مراكش فلا تراهم يضرمون النيران في العنصرة، بل يقذفون بعضهم بالماء
داخل البيوت وفي الشوارع بملء سطول حتى ليغمر الماء ثيابهم كلها، كما وأنهم
يرمون بالماء على المساجد والأضرحة، وكثيراً ما تراهم يغطّسون أشخاصاً في
«السقايات» وموارد الماء؛ ويتعطل الجميع في ذلك اليوم عن العمل.
مشاعل عيد القديس يوحنا
لا
تشكل مختلف هذه الطقوس غير مجموع تتخلله الكثير من الثغرات وأوجه النقص،
ولا يساورنا شك في أن البحوث والتحقيقات اللاحقة ستأتي بما يكمل ويتمم
الكثير من جوانب النقص التي تعتور هذه اللوحة. غير أننا نتعرف بسهولة كبيرة
في هذه اللوحة، مع تلك النواقص فيها، على السمات الأساسية لاحتفال قد
تناولته الكثير من الدراسات خلال السنوات الأخيرة. فقد جاء مانهارت، وجاء
فريزر خاصة، بما يؤكد أن المشاعل التي توقد في عيد القديس يوحنا ذات
الانتشار الواسع في أوروبا، هي طقوس تدخل في السحر التماثلي يُراد بها منح
القوة للشمس والإفادة من خيرات الأشعة الشمسية في المومس الفلاحية التي
يتهيأون لها والإفادة من ضيائها ودفئها، وما يكون لها بالتالي من فوائد على
صحة الإنسان والحيوان والنبات. وهم يقومون بهذه الاحتفالات خاصة حين
المنقلب السنوي، لأنه يكون نقطة حرجة في ثورة الشمس وأنها بحاجة إلى دعم في
بداية رحلتها التنازلية.
معنى العنصرة
وتنتشر
هذه الاحتفالات بالمنقلب السنوي كذلك وبوجه خاص عند الأقوام البعيدة عن خط
الاستواء. ثم إننا نعتقد أن البدائيين كانوا بهذه الاحتفالات يبتغون أن
يطهروا الهواء من التأثيرات السيئة وأن يقضوا على الأرواح الشريرة أو
يطردوها. وإذا كانوا يقفزون فوق النيران فلكي يُنفذوا إلى الجسم بصورة
مباشرة الحرارة التي في النار والأوار الذي في أشعة الشمس، وكذلك يفعلون
بغاية التطهر من الأرواح الشريرة التي يمكن أن تعلق بسطح الجسم. فهم
يطردون، كما قلنا، الدخان عن جوانب النباتات لكي يمدوها بالقوة والنشاط
الكامنين في تلك النيران السحرية، ويمكن أن ينقلوا تلك القوة وذلك النشاط
إلى الأطفال بحك أجسادهم برماد تلك النيران. ومن المعلوم أن الدخان ناقل
ناجع، حسب معتقدات البدائيين، لفضائل الشيء المنبعث منه حين الاحتراق.
ولذلك نرى الكثير من الأهالي [في الجزائر] يحرقون التمائم التي يكتبها لهم
«الطُّلبة» ويتنشقون دخانها لأنها معدودة عندهم من العلاجات الفعالة. وأما
المغاربة فربما كان لهم في الدخان المنبعث من النيران التي يوقدونها، أو
ربما كان لها عند أسلافهم البعيدين في أقل تقدير، فضيلة أخرى. ولو رجعنا
إلى المثل الذي ذكرناه من قبلُ فمن الممكن أن يذهب بنا الاعتقاد إلى أنهم
يفكرون وهم يكوّنون سحائب اصطناعية في أنها ستصير في المستقبل سحباً حقيقية
محملة بالأمطار، وتلك هي القضية العظمى على الدوام عند الفلاحين في شمال
إفريقيا. وأما من جهة أخرى فإن عادة أهالي سلا في إحراق الطيور في يوم
العنصرة تعتبر من البقايا الباقية من القرابين التي كانت جارية في العصور
القديمة ولا تزال تلمس لها بقايا في الفلكلور الأوروبي، بمناسبة إشعال هذا
النوع من النيران؛ فهم بهذا الفعل يدمرون بالنار روح النباتات المحسوبة على
السنة التي قبلُ من أجل خلق روح أخرى، وقد كانوا يمثلون لهذه الروح تارة
بإنسان وتارة أخرى بحيوان. وفي الأخير فإن في الإمكان أن نُدخل العنصرة في
الحفل السنوي الذي يقيمه الكثير من البدائيين لإخماد نيرانهم والاحتفال
بإشعال أخرى، وكذلك كان يجري الأمر في النيران التي كانوا يوقدونها
للإلاهات الفستاليات في روما. غير أن ما يلفت الانتباه بشدة أن هذا
الاحتفال قد كان الغالب فيه عند البدائيين أنهم يقيمونه للاحتفال ببواكر
غلال الأرض؛ أكانت أرزاً أو قمحاً أو غيرهما من الغلال. ونحن نرى أن الطقس
الذي جئنا على تصويره عند الرحامنة يشبه هذا الحفل من كل الوجوه.
وأما
طقوس الماء من رش وتعويم فإنها تعتبر من الطقوس التقليدية في الفلكلور
الأوروبي، وقد جرت العادة عند الأوروبيين على الإقبال على هذه الطقوس في
عيد القديس يوحنا، ومن المعلوم أن الكنيسة تخلد في ذلك اليوم عيد يوحنا
المعمدان. ثم إن من الطبيعي لهذه الطقوس، التي لا تعدو على وجه الإجمال أن
تكون رقى لجلب المطر، أن يقبل عليها الناس في الوقت الذي يكونون يهتمون لأن
يؤمنوا للموسم الفلاحي الطاقة التي تمده بها أشعة الشمس. وفي هذا السياق
تدخل العادات التي ذكرناها، والتي ليست تلك الذي تحدث عنها شينيي بأقلها
غرابة. ونحن نرى أن هذه الطقوس في المغرب كما في غيره كثير من البلدان تكون
وثيقة الصلة بطقوس النار.
الشعالة
إن
الشعوب البعيدة عن خط الاستواء أكثر ما توقد النيران في وقت التحول
السنوي، وتكون رقصات الراقصين والقفز غير المنظم من المحيطين، كما في
«الرقصات الدائرية» في العصور الوسطى، يتغيون بها، من ضمن ما يتغيون، أن
يسندوا كوكب النهار في سرعته. لكننا نشاهد احتفالات مشابهة في فترات أخرى
من السنة، ولا يعشر عينا أن نهتدي لها إلى تفسير بعكس ما يقع لنا مع
النيران حين التحول السنوي. كذلك يوقدون النيران في عيد الصوم الكبير وفي
عيد الفصح، في الأول من مايو، ولهذه المناسبات جميعاً نسب قريب أو بعيد إلى
احتفالات زراعية قديمة. وكذلك نرى الناس في المغرب يوقدون النار المعبرة
عن الفرح في غير يوم العنصرة أيضاً؛ أريد بقولي النيران التي يوقدونها في
عيد عاشوراء، المعروف عند العامة باسم «عاشور»، وكذلك يسمونه «عيشور» في
بعض المناطق، كما في الجديدة. ورأينا في الرحامنة أنهم يوقدون النار
ويرقصون من حولها، ويفعلون الشيء نفسه في مراكش، وفي ناحية الصويرة وناحية
الجديدة؛ أي أنها ممارسة تكاد تكون عامة في الحوز كله. فالأطفال يجعلون
أياماً قبل العيد يقفون في زوايا الشوارع وقد وضعوا أمامهم على الأرض
مربعاً من القماش، ويجعلون ينادون على المارة : «اعطيني الشعالة»، أي
اعطيني شيئاً لأصنع الشعالة. وأما في الرباط وسلا فلا تراهم يوقدون النيران
في غير العنصرة، ولربما كان كذلك شأنهم في شمال المغرب، وإن كانت تعوزنا
المعلومات في هذا الباب. ومن الواضع أن النيران التي يوقدونها في عاشوراء
تتصل بنسب إلى بعض الاحتفالات الفلاحية التي كان يقيمها البدائيون في
التاريخ الشمسي ثم انتقلت إلى التقويم القمري وصاروا يقبلون عليها في هذا
العيد الإسلامي. ولهذا الضروب من الاستهواء شيوع في بلدان المغرب الكبير،
وستسنح لنا فرصة للعودة إليها.
طقوس المطر
ولا
يزال الناس إلى اليوم يراعون طقوس الماء ويقيمونها في مختلف الأوقات. فقد
رأينا أن في مراكش يغلب أقبال الناس على هذه الطقوس في عيد عشوراء، وفي
الجديدة يغلب الإقبال عليها في العيد الكبير؛ فتراهم يتراشون بالماء ويسمون
ذلك الطقش «حليلو» . وقد جرت العادة عند الشياظمة، وليس يبعد أن تكون
العادة جارية كذلك في مناطق أخرى، أنهم في عيد عاشوراء وعيد المولود
(المولد النبوي) يأخذون منذ مطلع النهار، يتراشون بالماء إلى أن تبتل منه
ثيابهم تماماً. ثم إن هذه العادة في رش الماء تعتبر عادة واسعة الانتشار في
أنحاء المعمور بكونها طقساً سحرياً لطلب المطر، وهذا الأمر يدفعنا إلى
الحديث عن الطقوس على نحو ما تُتداول عند الرحامنة. وليكن مبتدؤنا بالحديث
عن الطقوس الشعبية.
فالجفاف إذا استطال واشتدت وطأته احتشدت نساء الدوار
والأطفال وأخذوا مغرفة («تاغنجة»)، وشدوا إليها قصبة طويلة وشدوا إلى
القصبة قصبة أخرى صغيرة على هيأة صليب، ثم يفرغون عليها من أجمل الألبسة
النسائية التي يجدونها في الدوار؛ ويكون فيها قفطان الحرير وسبنية
الحرير...إلخ.، ثم يجعلون يطوفون بها في الحقول. وتسير ترافقها النساء
والأطفال وهم يرمونها بالماء ويرشون بعضهم بعضاً، وهم يرددون:
تاغنجة حلات راسها
يا ربي بَلْ خْراسها
تاغنجة يا مرجة.
يا ربي اعطينا الشتا.
ونحن
نتعرف في هذا الذي ذكرنا على طقس شتائي واسع الانتشار في أوروبا بقدر
انتشاره في المشرق، ويتمثل في تغميس تماثيل القديسين أو ما يدخل مدخلهم من
الصور المقدسة، في الماء. فقد كان القرويون في أوروبا يغمسون في الماء
تمثالَ مريم العذراء، وقد كان الشانات يغطسون في الماء تمثال بودا، وكان
الرومان يلقون في كل سنة بدمية في وادي تايبر... وكان البدائيون كثيراً ما
يصنعون دماهم من المغارف. وأما في الوقت الحاضر فمن الواضح أنه قد صارت
لهذه الدمية دلالة سحرية خاصة تستمدها من وظيفتها المألوفة. ثم إن هذه
الدمية التي جرى تهذيبها على هذا النحو ربما كانت تُتخذ بديلاً عن شخص حي،
على نحو ما يتراءى لنا من بعض العادات كمثل ما هي العادة التي كانت عند
المصريين إذا رغبوا في التعجيل بفيضان النيل ألقوا فيه بعذراء مكمولة
الزينة، وقد أصبحوا يمثلون لها اليوم بعمود من الطين يسمونه «عروساً» أو
خطيبة.
ومعظم الأقوام البدائية تعود بالمعاملة السيئة على تماثيلها متى
لم تحقق لها ما تطلب وتريد. وقد كان الناس في بلدان كثيرة ينقلبون على
الملك الإله، أو القس الأكبر، بسوء المعاملة، وحتى ليهددوه بالموت متى
امتنع عنهم المطر أو لاح لهم ما ينذر بأن سيُبلون بسوء المحاصيل. وكان بعض
الرحل في جنوب المغرب إذا خرجوا في غزواتهم حملوا معهم أولياءهم ليتبركوا
بهم، فإذا لم يوفقوا إلى ما يريدون أنحوا عليهم بأحط السباب وشنيع الشتائم.
وكان الناس في مراكش إذا اشتد بهم اليأس توجهوا إلى [ضريح] سيدي بلعباس
وجعلوا غطاء على إحدى الشمعدانات التي تضيء [قبر] الولي دلالة على الحط من
قدره. وأما الرحامنة فإذا استطال بهم الجفاف خرجوا للبحث عن ولي، فإذا
وقعوا عليه جعلوا حول عنقه حبلاً وجعلوا يضيّقونه عليه، ويقول مخبرونا إن
الولي تتملكه حينذاك الجذبة ويشرع في الدعاء. ثم إنهم يجعلون في الوقت نفسه
يرشونه بالماء، وإن هم لم يلقوا به حوض مائي فإنما لعدم وجود ذلك الحوض
لديهم. غير أن هذا التعويم القسري يُجعل للأولياء في حالات الجفاف شيء واسع
الانتشار في شمال إفريقيا. ويمكن أن نذكر على سبيل التمثيل أن الناس في
بسكرة إذا وقع لهم الجفاف قاموا أولاً بصلاة «الاستسقاء»، ثم أقاموا مأدبة
كبيرة غير أنهم يقتصرون فيها على الكسكس وحده. وبعد ذلك يقوم شيوخ القرية
باختيار شخص يكون له نسب إلى الأولياء، ويؤثرون أن يكون من أولئك الأولياء
الذين يتجولون في رث لا يخلو منهم مكان من هذه البلدان، لا يميزون فيهم
بين مرتبة اجتماعية ولا طائفة دينية، ثم يجعلون يغطسونه في الماء ويمعنون
في ذلك إمعاناً إلى أن يأخذ يصيح ويزعق في طلب الغوث. وأما في مناطق أخرى
فلا تراهم يتخذون ولياً بل زنجياً أو زنجية، ويجعلون يغطسونه أو يغطسونها
بكثير من المراعاة، فإذا انتهوا من تلك العملية كافأوه أو كافأوها بشيء من
المال؛ فكذلك يفعلون في منطقة تلاغ بوهران ويكون اللون الأسود في هذه
الحالة هو الحاسم، إذ يعولون على أن الأسود، الذي هو في التصورات البدائية
لون السحب الماطرة، سيجلب لهم الأمطار.
فيمكن أن نخلص من كل ما ذكرنا
إلى أن طقس الاستحمام بالماء ربما كانت له دلالتان اثنتان : أولاهما أن فيه
تعذيباً للإنسان المقدس على أن أخل بوظيفته فلم يجلب إلى الجماعة المنفعة
التي كانت تنتظرها منه، وثانيتهما أنه طقس سحري يتوسل فيه، حسب ما نعتقد،
بالماء من حيث إنه جالب للماء بالضرورة. وإنك تراهم في طقس الدمية يجعلون
مثالاً مكان الولي. وأكثر من يمكن أن يكون طقس التجوال في الحقول على صلة
بطقوس أخرى فلاحية، وذلك من جهة لأن المناسبات الفلاحية، ومثالها الحصاد،
تكاد كلها تصاحبها طقوس الاستسقاء. وأما من جهة أخرى فإننا نعرف أن الدمية
التي يُفرغ عليها من اللباس ويُطاف بها في الحقول تدخل في طقس سحري يُتوسل
إلى زيادة قوة الروح الكامنة في الحَب. وهذا طقس نجده في المغرب كما في
الجزائر. فأنت ترى أهالي بني خنوس في منطقة الأوراس يطوفون في الحقول في
أوان البذر قد حملوا شاشية وعصا وحذاء بزعم أنها كانت لجدهم. والعادة نفسها
نلاقيها كذلك عند قبائل الشلف. كذلك نرى الأهالي في ضواحي طنجة يطوفون في
أواسط فبراير في الحقول وهم يحملون دمية قد ألبسوها من الثياب الفاخرة
ويسمونها «ماطا».
ولا تزال ترى الرحامنة يلجأون إلى وسيلة أخرى لرفع
الجفاف، وهي المتمثلة في طقس الحبل؛ وذلك بأن تقف نساء الدشر على جانب من
الحقل والرجال على آخر، ويأخذون يجذبون في ما بينهم حبلاً إلى أن ينقطع،
وحينذاك يجعل المتفرجون يرشون الفريقين بالماء إلى أن يبتلا، ثم يجتمعون
على كسكس. وقد سمعت من حدثني بوجود هذا الطقس كذلك عند القبايل الصغرى؛ وهو
عندهم شديد الشبه بما ذكرنا، إلا من خلوه من الرش بالماء، وأنه إنما يقام
على سبيل اللهو فحسب. وربما وقعنا على معلومات أخرى بما يفيد أن هذا الطقس
يقام بغرض استجلاب المطر، أو يقام في طلب تغيير الأحوال المناخية. لكن وإن
لم يتسنَّ لنا أن نقع على ما يؤكد لنا هذا المعنى فإننا نميل إلى اعتبار
هذه اللعبة بقيةً من طقس سحري قديم، كمثل ما هي لعبة الكرة. ونجد الطقس
نفسه كذلك عند بعض الأقوام البدائية، كمثل الإسكيمو الذين لاشك أنه يرمز
لديهم إلى التعارض الحاد بين الفصل الساخن والفصل البارد. فلاغرابة إذن أن
يكون هذا الطقس يُرمز به في حالات أخرى إلى الصراع القائم بين الشتاء
والحر. ويجدر بالملاحظة انتهاء أن في المناسبات التي تُقام لاستجلاب المطر
كثيراً ما يكون الصراع والصياح والحركات تضطلع بدور هام. ونحسب أن الناس
يعتقدون بأن من شأن كل تلك الحركات أن تهز السماء وتصيّر الجو وقد امتلأ من
سحائب الخير. فهؤلاء أهالي سجرارة في الجزائر إذا ألم بهم الجفاف قاموا
بما يسمى «وعدة الكور»؛ أي وعدة الكرة، وهي وليمة يقيمونها لأحد الأولياء
ويصلون خلالها طلباً للأمطار، ثم يلبثون إلى جوار [ضريح] الولي، وما أن
ينزل المطر حتى يأخذوا يصنعون كرات صغيرة من الوحل ويجعلون يقذفون بها
بعضهم بعضاً، وربما هم يفعلون طمعاً في استرسال الأمطار. ومهما يكن من أمر
فينبغي أن نلاحظ الشبه الموجود بين هذا الطقس ولعبة الكرة جرياً على
التفسير الذي جئنا لها به.
ولامندوحة لنا، ونحن نخوض في هذا الموضوع، من
أن نشير إلى الاحتفال الغريب الذي اعتاد الناس في فاس أن يحيوه في أوقات
الجفاف؛ ذلك بأنهم يجعلون سبعين ألف حصى في سبعين ألف كيس ويسدونها، ثم
يتلون عليها من آيات القرآن في أحد الأضرحة، ويلقون بها في وادي سبو. وقد
وجدنا إشارة إلى حفل مشابه لدى أهالي طرابلس، بما يعني أنه طقس عام. ونحن
نعرف لدى الأقوام الهمجية طقوساً مماثلة يقيمونها على ضفاف الأنهار أو عيون
الماء. فالذي يبدو أن الناس يلجأون دائماً إلى الماء لطلب الماء، جرياً
على مبادئ السحر الرباني. وهنالك حالات يختصر فيها الطقس إلى أبسط ما يكون،
كما في رش الماء الذي سبق لنا أن أشرنا إلى أن الناس يقبلون عليه في يوم
العنصرة وفي عاشوراء. وكذلك نراه لدى الجماعة المختلطة في تاقيطونت؛ فهم
يقيمون الزرادي (وهي ولائم دينية [كذا!]) لطلب الماء، ونرى المشاركين
يرقصون وقد ملأوا أفواههم بالماء ثم ينثرونه في الهواء وهم يصيحون : «إنو
والرخا»؛ ومعناها «المطر والرخاء». وهنالك احتفالات أخرى تقام بقصد جلب
الأمطار لكنها مختلفة تماماً عما ذكرنا؛ كأن يقدموا قرباناً يتمثل في ضحية
يتناولها بالتعذيب، ولما نهتد بعد إلى تفسير مُرض لهذا النوع من الطقوس.
ونجد شبيهاً بهذا الطقس قد درج عليه أهالي مزونة في الجزائر؛ فإذا اشتد
عليهم الجفاف فوق ما يطيقون بحثوا عن ضبعة فجاءوا بها وهي حية ثم شدوها من
ذيلها وجعلوا ثلاثة أيام يعذبونها ودفعوا إليها بالكلاب تنهش لحمها، وبعد
ذلك يقتلونها ثم يدفنونها.
الاستسقاء
لقد
خصصت العقدية الإسلامية صلاة خاصة لجلب المطر، هي المسماة «صلاة
الاستسقاء». وهي تقام على صورة واحدة بطبيعة الحال في سائر البلاد
الإسلامية، بما يغنينا عن إطالة الوقوف عندها في هذا المقام. وحسبنا أن
نشير إلى عرف جار في هذه الصلاة كما يدلنا عليه حديث ينص على وجوب قلب
الناس ثيابهم حين الاستسقاء. ولا يبعد أن يكون في هذا الطقس بقايا لطقوس
الصراع الذي يحرك العناصر التي يُرجى منها قدوم الإله. والطريقة الصحيحة
للقيام بصلاة الاستسقاء أن الغالب فيها أن تقام داخل القبيلة بإزاء القبائل
الأضرحة، ويرفقها الناس بوليمة جماعية، وهي المسماة في المغرب بـ»الموسم».
والعادة تجري على أن تقدم بعد ذلك بعض الذبائح، وأكثر ما تكون التضحية
بذبيحة سوداء، مصداقاً لما سبق لنا أن ذكرنا من الطابع السحري للون الأسود
في صلته بطلب الأمطار. وعلاوة على ذلك فإننا قد رينا أن أهل الحوز حافظوا
على طقوس قديمة كثيرة تدخل هذا المدخل. فقد جرت العادة في معظم المواسم
التي تقام للاستسقاء على رش الأطفال بالماء. ويعتبر الماء شيئاً حيوياً عند
أهالي شمال إفريقيا، وتزداد تلك الأهمية للماء عند ساكنة المناطق المجدبة،
بحيث تكتسي لديهم صلاة الاستسقاء أهمية كبيرة من الناحية الدينية. فهم
يقيمون التجمعات في الأضرحة، ويحضرها كبار الشخصيات، وما أكثر ما يحضرها
السلطان أيضاً، وهم يقيمون تلك الاحتفالات كلما اشتد عليهم الجفاف. وربما
كانت هذه المناسبات فرصة لبعض المتعصبين ليصبوا جام غضبهم على المسيحيين
متى كان لهم وجود بينهم، وينحوا باللائمة عليهم في ما يتفق لهم من الجفاف.
وقد ترى المسلمين أحياناً يفعلون عكس ذلك؛ وحتى لتراهم متى اشتد بهم اليأس
من سقوط الأمطار يطلبون إلى المسيحيين أن يدعوا ربهم ليجود عليهم به، وربما
ارتجوا منه الغوث.
طقوس الاستجفاف
وكما
توجد طقوس للاستسقاء فكذلك توجد بعكسها طقوس بغرض منع الأمطار، لكنها طقوس
يكاد لا يعرف بها غير أهل مراكش. والصراع القائم بين الرحامنة والسكان
الحضر في مراكش ليس وليد اليوم. فالسكان الحضر يجدون كل مصلحتهم في أن تسوء
المحاصيل، ليُحتاج إلى وساطتهم، فيرفعون حينئذ من أسعار المواد الغذائية.
وكذلك تجد طقوس الاستجفاف يتعاطاها الرحالة والبغالة والمرافقون للمواكب
والقوافل من كل الأصناف؛ إذ تكون حاجتهم في الطقس الصحو. فهم يأخذون
إبريقاً من الفخار يصبون فيه زيتاً ويجعلونه تحت سقف قد اخترقه المطر ولا
يزال يرشح منه الماء، أو يضعونه تحت خيمة، في موضع ينفذ منه الماء ويتساقط
قطرات على الأرض. فإذا امتلأ الإبريق قاموا بدفنه في التراب فتنقطع
الأمطار. وإن الدلالة السحرية لهذا الطقس لواضحة للعيان. والناس في مراكش
خاصة يصنعون محراثاً صغيراً يشدون إليه قطاً ويجعلون يحرثون به حقلاً،
فيكون فيه وقف للأمطار. وهذا الطقس يخالف في ظاهره معطيات الفلكلور
المعاصر. فمن اليسير علينا أن نجد صورة للمحراث قد حافظت عليها مجموعة من
الأقوام باعتباره وسيلة لجلب المطر. وأما القط فهو حيوان كثير الاستعمال في
الطقوس الموجهة لدفع الجفاف. فربما كان أهل مراكش يستعملون هذا الطقس
بطريق المحاكاة الساخرة. وأهل مراكش كثيرو الخشية من الأمطار الشديدة فهي
تضر لديهم بأشجار النخيل، هو الذي لا يجود عليهم بكبير محصول حتى في
السنوات الحارة. فإذا أرادوا أن يقوا أنفسهم الطقس السيء أخذوا غراباً
وفقأوا عينيه ثم شدوه إلى نخلة. لكنه طقس لا نستبين له معنى.
عدل سابقا من قبل izarine في الخميس 9 أغسطس 2012 - 14:52 عدل 1 مرات
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة
- 23 -
الرحامنة مشهورون بأنهم كانوا دائمي الترويع لمدينة مراكش
أقسام الرحمانة
ينقسم
الرحامنة إلى خمسة «أخماس» أو دوائر إدارية. فالبرابيش يشكلون خمساً،
وأولاد سلامة خمُسيْن اثنين وأولاد بوبكر خمُسيْن اثنين. وتضم مختلف في هذه
القبائل مجموعة من الزوايا. فقد قيل لنا إن عددها يصل إلى ثلاث عشرة
زاوية، وهي : زاوية مولاي عبد الله بن ساسي وزاوية أولاد سيدي البهيلي
وزاوية أولاد سيدي بن عزوز وزاوية أولاد سيدي عبد الكريم وزاوية أولاد بابا
عيسى السلموني وزاوية أولاد سيدي أحمد الركيبي وزاوية أولاد سيدي الناجي
وزاوية أولاد مولاي عمر وزاوية أولاد سيدي امحمد بلكرن لدى أولاد بوبكر،
وزاوية أولاد سيدي عبد الله بولعوينة وزاوية أولاد سيدي مفتاح لدى أولاد
سلامة، وزاوية أولاد الزعرية لدى البرابش.
الرحامنة في مراكش
لقد
اشتهر الرحامنة بأنهم كانوا دائمي الترويع لمدينة مراكش، وما أكثر ما
تحدثنا كتب التاريخ عن الاعتداءات التي كانوا ينالون بها سكان هذه المدينة.
ولقد أمكن لهم أن يكوِّنوا لهم من سكان المدينة فصيلاً عظيم العدد، وحتى
لقد صاروا في هذه الآونة يتبجحون بأن هيمنتهم قد وجدت ما يشبه الاعتراف
الرسمي بالتعيين الذي تم لقايدهم عبد الله عبد الحميد في ذلك الوقت نفسه
باشا على مراكش. وقد كان للرحامنة نحو مراكش أشبه بالدور الذي كان للبرابر
نحو فاس. وحيث إن سلاطين المغرب كانوا كثيراً ما يقيمون في مدينة مراكش
خلال أواخر القرن التاسع عشر فلقد تبوأ الرحامنة بفضل هذا القائد مكانة
بارزة في تاريخ المغرب. وتبوأوا تلك المكانة خاصة على أثر وفاة مولاي الحسن
في سنة 1311هـ.، فلقد دبروا عند حدود ترابهم على وادي العبيد لتمرد عرض
دولة الفيلاليين لمصاعب جسيمة.
تمرد الرحامنة
وسنسوق
في ما يلي بعض التفاصيل عن ذلك التمرد الذي كان من الأهالي، حسب معلومات
استقيناها من بعض الأفواه. ومع أنها معلومات استقيناها من مصدرين مختلفين؛
الأول من مراكش والثاني من الرحامنة، فلا يمكننا أن نتغاضى عن وجود الكثير
من الوثائق الداخلة هذا المدخل والتي ينبغي أخذها بالحيطة والحذر. غير أنه
لما كان الأمر يتعلق بوقائع لم يجر تدوينها بعدُ، باستثناء ما تناقلت منها
المراسلات الصحافية لتلك الفترة، فلربما كان في هذا الأمر ما يوجب إيلاءها
بعض الاعتبار، غير أننا نسوقها ههنا مع أخذها بكل التحفظات.
لقد تولى سي
عبد الحميد القيادة على الرحامنة لما يقرب من 35 سنة، وإن لم تخل تلك
الفترة لديه من انقطاعات؛ فقد تعرض خلالها للسجن أربع مرات. وكان قبل وفاة
السلطان الأخير [مولاي الحسن]، يتصل بعلاقة طيبة بأخيه مولاي امحمد، الذي
من المفترض أن تصير له الشهرة بعد أن انتحل الروكي بوحمارة اسمه وشخصيته،
وأودع السجن بأمر من مولاي الحسن. فلم يتورع سي عبد الحميد عن الانحياش إلى
جانب مولاي امحمد وطلب له العفو وألح فيه، بما أثار إليه ريبة الجهات
العليا، فكان أن أودع السجن هو الآخر. وبينا هو في محبسه خرج الرحامنة إلى
التمرد. وقد كان عليهم وقتها «قياد» كثرٌ، وكانوا كمثل سائر القياد
المغاربة قد صاروا مبغوضين من السكان بما كانوا ينولونهم من ضروب العسف،
فطالب الرحامنة بتنحية معظمهم واستبدالهم بآخرين. فلم يلقوا قبولاً من
المخزن في حينه، غير أن القياد خافوا على أرواحهم فلم يجرؤوا على الالتحاق
بمراكزهم ولبثوا في مراكش التي جاؤوا إليها بمناسبة أحد الأعياد الدينية
الكبرى. وفي تلك الأثناء كانت وفاة مولاي الحسن.
وسرعان ما اشتد تهديد
الرحامنة، فجاءوا إلى مراكش يطالبون بأن يسلَّم إليهم أولئك القياد. فعقد
باشا مراكش مجلساً، وقرر على سبيل استرضاء المتمردين أن يضع أولئك القياد
في السجن بصورة مؤقتة، في انتظار القرار النهائي الذي سيكون من السلطان
المقبل. وقد كان القياد يعلمون أنهم إن كانوا سيدخلون سجون المخزن بتلك
السهولة فسيكون من العسير عليهم أن يخرجوا منها. وفكروا في وسيلة تكفل لهم
السلامة والأمان، فكان أن فر أربعة من جملة ثمانية منهم والتجأوا إلى بعض
الزوايا. وأما الخامس، واسمه عباس الزبيري، وكان صديقاً حميماً لمولاي
امحمَّد، فقد تحصن في منزله ووزع الأسلحة على عبيده ليدافع بهم عن نفسه.
وقد حاولت قوات المخزن عبثاً أن تنتزعه من بين أسوار منزله فكان يرد جميع
الهجومات عليه ويكبد تلك القوات الخسائر الثقيلة. وقيل إن الأمر انتهى بأن
صعد أحد «قياد الميا» إلى صومعة سيدي بلعباس القريبة من ذلك الموضع، ومن
هناك سدد إلى المتمرد رصاصة في فناء منزله فأرداه قتيلاً، وكذلك قُتل معه
أخوه، واقتيد الثلاثة الآخرون إلى السجن.
غير أن تلك الاعتقالات لم تجد
في تهدئة ثائرة الرحامنة، فظلوا يمعنون في التمرد، محتجين بأنهم يريدون
عليهم قايداً آخر بدلاً عن عباس الزبيري، ويتعلق الأمر يرجل لم يكن يحظى
بثقة المخزن، وقد كان من قبل قايداً على الرحامنة، ثم كان له ضلوع في بعض
الفتن والاضطرابات التي نراها اليوم، وهو رحماني ويدعى الطاهر بن سليمان.
لكن مطلبهم قوبل بالرفض من الباشا، فجاءوا بأعداد كبيرة حتى أسوار مراكش،
فلزم إغلاق أبواب المدينة. لكن اشتد ضغط المتمردين، فلم يعد بد من تسليمهم
الطاهر بن سليمان وسمح له بالالتحاق بأبناء قبيلته، مع التنبيه له بالعمل
على تهدئتهم. وعلى العكس من ذلك فقد جعل منه الرحامنة قائداً لتمردهم. وكان
أن طال ذلك التمرد سنة.
وقد ظل المتمردون خمسة أشهر يمعنون في النهب
والتخريب في نواحي مراكش، اجتمع للطاهر بن سليمان خلالها سوقات من سائر
نواحي الحوز، فتقدم بهم حتى جاء المدينة، وفعل كما يفعل الروكي اليوم؛ فقد
طالب بتسليمه مولاي امحمَّد مقابل كفه العدوان عن المدينة. وعقد باشا مراكش
مجلساً للتشاور، قرر على أثره أن يرد بالمقاومة، وأعلم المخزن في فاس
بالأمر. فلما خرجت قوات السلطان من فاس وشرعت في زحفها على مراكش تقدم
الرحامنة ليمنعوها من عبور وادي أم الربيع، لكنهم عجزوا عن ذلك الأمر،
وأمكن للمحلة أن تجتاح الحوز. وتوحد المتمردون كما لم يكونوا من قبلُ.
ودُفع قائدهم برجاله الذين من حوله، فانجرف بالأحداث أكثر مما كان هو
الموجه لها، ولم يكن ليتكهن بنهايته الوخيمة. فقد تفاحشت الانقسامات في
صفوف المتمردين بتدبير محكم من المخزن بما كان يُعمل فيهم من الرشاوى ويدبر
بينهم من المكائد. فإذا الطاهر بن سليمان قد صار لا يستطيع أن يفرض شيئاً
من قراراته. ثم وقعت عليه الهزيمة، لكنه أفلح في الفرار والالتجاء إلى
زاوية سيدي الزوين في بلاد احمر. فأخطر المخزن الأولياء بوجوب تسليمه، وكان
الطاهر بن سليمان يتشبث بكل قواه باللواء الذي يغطي قبر الولي، فحذر
الأولياء من مغبة المس بذلك الغطاء، إلى أن استقر الرأي على أن يخرجوه هو
والغطاء ويسحبوه إلى خارج الزاوية. فإذا صار خارجها أمسك به المخازنية
وحملوه إلى مراكش. وهنالك وضعوه في قفص حمَّلوه فوق ظهر بعير وجعلوا يطوفون
به في أرجاء المدينة، وهي إهانة كثيراً ما كانت تُنزَل بالمهزومين من
أمثاله. ثم أُلقيَ به في السجن في مراكش؛ حيث سيلقى حتفه وقتاً يسيراً من
بعدُ قتيلاً بالسم، وقيل بأمر من باحماد الذي خشي فراره فارتأى أن يتخلص
منه بصفة نهائية قبل أن يخرج في حركته على الشاوية.
ثروة سي عبد الحميد
ما
أن تحقق للسلطان دخول مراكش بعد أن كسر شوكة المتمردين، حتى انبرى يعيِّن
القياد على الرحامنة. لقد كان في التنافسات المستعرة بين مرافقي الطاهر بن
سليمان، وربما كان في خيانتهم، ما قضى على التمرد بالفشل، فكافأهم المخزن
بما بذلوا لأجله من خداع ومن خيانه، وعيّن بعضهم في مناصب القياد. وأما عبد
الحميد فقد كان لا يزال قابعاً في السجن. ثم طالبت له قبيلته عرب سلاَّم
بالعفو وأن يُجعل قايداً عليها، فاستجاب لها المخزن من غير تأخير؛ وإذا عبد
الحميد قد انتقل مباشرة من دهاليز السجن إلى الأضواء والتشريفات الرسمية،
وهو تبدل للأحوال مألوف حدوثه في المغرب. ولقد انحاش على الفور، وفاء بما
تقضي الشروط التي وضعت للإفراج عنه وتوليته القيادة، إلى جانب باحماد
واعتنق سياسته والتزم مخططاته. وكان هو من أوعز إلى المخزن بمصادرة أملاك
الرحمانة في مراكش؛ إذ كان لهم فيها بيوت كثيرة، وكانت بها أحياء، بينها حي
سيدي بلعباس، يكادود يملكونها بما فيها. وتولى عبد الحميد بنفسه تنفيذ تلك
المصادرات، وضخ بها في بيت مال المخزن مبالغ طائلة، لا يبعد أن يكون عاد
عليه نصيب منها. فأصبح أقرب المقربين إلى باحمد، وحتى إن الصدر الأعظم ما
عاد يقطع في شيء قبل أن يشاوره فيه. ثم انبرى عبد الحميد يزيح كبار قياد
الرحامنة واحداً بعد آخر، ليحل محلهم ويصير له الحكم على سائر بلاد
الرحامنة. فكان خلال هذه السنوات الأخيرة أقوى شخصية في الحوز.
لقد بدا
المخزن، بعد الحركة التي كانت له في صخرة الدجاجة (في ورديغة) وقد أعاد بها
الهدوء إلى إقليمي الشاوية وتادلة، وبلغ من القوة فوق ما كان من قبل، فإذا
القياد قد جعلوا يرسلون بالهدايا النفسية. وكتب عبد الحميد، الذي كان
يومها في قيادته، إلى ابنه الذي كان في مراكش أن يدفع إلى المخزن بمبلغ
كبير من المال، قيل إنه جعله ثلاثين ألف دورو، لكنه بطبيعة الحال رقم لا
نملك أن نجزم بصحته. فما الذي حدث في تلك اللحظة؟ وهل صحيح أنه قد دار في
خلد الابن الحاج العربي أن يدبر لذلك المخطط الجهنمي فيزيح أباه ويحل محله،
أم يكون المخزن دبَّر لحيلة ماكيافيلية؛ وأنه قد سعى في إيهام الأب بأن
ابنه قدم للمخزن رشوة بغرض أن يزيحه ويحل محله، ومراد المخزن أن يدفع
الرجلين إلى التنافس بالهدايا يقدمانها إليه وأن يقبض من الغريمين معاً؟
تصعب الإحاطة بهذا الأمر، لكن لا يبدو أن الابن قد كان خالياً من اقتراف
أخطاء شنيعة. وقيل إن المخزن أعلم عبد الحميد بأن ابنه قدم إليه هدية بمبلغ
ثلاثين ألف دورو بغرض الحلول محله في القيادة، وإن عبد الحميد بادر من
فوره إلى إرسال مبلغ أعظم إلى المخزن وطلب أن يوضع ابنه في السجن. ومهما
يكن من أمر فالمؤكد أن الحاج العربي قد وُضع برضى وقبول من أبيه في السجن
في جزيرة الصويرة ولبث فيه سنين عديدة. وتوالى بعد ذلك إيداع قياد آخرين
السجونَ. وفي ذلك الوقت صار لعبد الحميد مطلق السيادة على الرحمانة. ثم عن
له أن يقتل فيهم كل ميل قد يراودهم إلى التمرد في المستقبل، فكانت سيرته
فيهم قوامها البطش والتنكيل، قد تركت في النفوس ذكريات لا تمحي وفي الصدور
ضغائن لا تزول. فلقد بلغ بقهره في الناس كل مبلغ، وحتى قيل إنه فرض ضريبة
من نصف بسيطة على كل شخص يؤديها في كل أسبوع؛ ولم يستثن منها رجلاً أو
امرأة أو طفلاً. ويُحكى عنه كذلك أنه كان يأتي من الأفعال أشدها شراسة
ووحشية، غير أننا يصعب علينا أن نميز في هذه الروايات بين الحقيقة والتهويل
الشعبي. إلا أن المؤكد أن الضرائب المجحفة والتعسف في مصادرات الممتلكات
والاعتقالات المتكررة تقع على الأشخاص من غير وجه حق قد ظلت ترهب القبيلة
وتضعفها لوقت طويل. وختاماً فعندما أُلقي بباشا مراكش وعاملها بن داود في
السجن بأمر من المنبهي خلفه عبد الحميد في منصبه، لكن من غير أن يُخلى من
قيادة الرحامنة.
اغتيال المهدي
كان
عبد الحميد في أوج سلطانه وقت أن وقعت أزمة «الترتيب»، ولربما كانت تلك
الأزمة ستكون إيذاناً ببداية عهد المتاعب عليه لو لم ينتزعه الموت من معترك
السياسة. فقد عاد من فاس في شتنبر 1902 وهو في حالة من الاعتلال الشديد،
ثم كانت وفاته في مراكش بداية شهر أكتوبر وقد قامت في أواخر أيامه صراعات
طاحنة على خلافته، وكان التنافس عليها بين مرشحين اثنين هما : ابنه الحاج
العربي وخليفته (مساعده). وقيل إن عبد الحميد أوصى إذ هو على فراش الموت
على ابنه ليخلفه من بعده. لكن خليفته، المدعو المهدي، ظل متشبثاً بطموحه
إلى الظفر بتلك الخلافة. وقيل إن في يوم وفاة عبد الحميد تبادل المتنافسان
عبارات المودة، ومع اعترافهما بالتنافس القائم بينهما إلا أنهما توجها إلى
ضريح سيدي بلعباس ليحلفا لبعضهما هناك على ألا يستعملا في دعم ترشحهما لذلك
المنصب من وسائل غير مشروعة. لكن لما أن كانا في الضريح استغل المهدي ثقة
غريمه الحاج العربي فرماه برصاصة من مسدسه ثم أجهز عليه بطعنة من خنجره في
داخل ذلك الضريح. ولا يبعد أن يكون اطمأن إلى تواطؤ رجال الضريح وإياه، إذ
أمكن له الخروج من ذلك المكان في غير مشقة أو اعتراض. ثم انبرى يبذل
المساعي ويجزل العطايا من الذهب حتى لا يتعرض للاعتقال. وكذلك كان؛ فقد
أفسِح له ليتوجه وابنه إلى فاس، ليُتم فيها جريمته ويشتري القيادة.
أزمة الترتيب
لقد
سبق لنا أن أشرنا إلى الأزمة التي وقعت بسبب «الترتيب»، وسيتسع لنا المجال
في ما بعد لنتوسع في تبيان تلك الأزمة والإحاطة بتفاصيلها. وحسبنا ههنا أن
نقول إن النتيجة الواضحة الجلية، وربما كانت النتيجة الوحيدة القابلة
للفهم، التي كانت لإعمال الترتيب على البوادي هي المتمثلة في توقف أهلها عن
دفع الضرائب. وفي ما خلا بعض القبائل المتفرقة على المناطق والجهات، خاصة
منها القبائل الداخلة تحت نفوذ سي عيسى بن عمر في نواحي آسفي، وهي التي لا
تزال تؤدي الضرائب، فإن [قبائل] الحوز لم تدفع ضرائب منذ أربع سنين، ولا
عاد القياد يتجاسرون على الوصول إلى قياداتهم، وأما إذا كانوا فيها يقيمون
فإنهم قد أضحوا يتحصنون في القصبات والحصون. وكانت النتيجة أن السكان سرعان
ما بدأوا يتذوقون رغد العيش، ثم إنهم قد تخلصوا من الاستغلال الرهيب الذي
كان يقع عليهم، فاستعادوا الثقة في أنفسهم؛ فإذا الفلاحات قد بدأت تعرف
التوسع، والأبنية تطلع في أكثر من جهة وأكثر من ناحية. بيد أنها مظاهر لم
يضرب منها الرحامنة بنصيب؛ هم الذين معظم عيشهم على الرعي. ومع ذلك فقد
باتت المطامير لديهم ممتلئة والأسواق رائجة مزدهرة. ثم إذا أثمنة الخيول
والسروج والأسلحة قد صارت إلى ارتفاع في وقت وجيز بسبب من الإقبال الكبير
الذي أصبح يقع على هذه الأشياء المعدودة عند الأهالي من الترف. وعلى العكس
من ذلك انقطعت حركة التصدير؛ ذلك بأن الفلاح ما عاد يشكو من الجوع ولا عاد
يجدُّ ويجتهد في كل الأوقات في البحث عن الوسائل للحصول على المال يلاقي به
الجشع الذي لا يتوقف من القايد عليه، فإذا هو قد شرع يكنز ويدخر. وتأثرت
التجارة الأوروبية بشدة من النتائج العكسية لهذا الأسلوب الجديد. ورأى
التجار الأوروبيون كيف صارت الصادرات إلى تناقص، فأخذوا يشتكون من هذا
الأمر. لكن المغاربة من أهل الحوز مغتبطون لهذا الوضع، فأنت تسمع الكثيرين
منهم اليوم يدعون للسلطان الذي كانوا يلعنونه بضع سنين قبلُ. وإن معظمهم قد
وطنوا أنفسهم بحسن نية على أنهم سوف لا يدفعون بعد ضرائب. والواقع أن
المخزن بات في وضع لا يبشر بخير. فقد أمكن سد احتياجات بيت المال لبعض
الوقت من دخول الجمارك، ثم القرض الذي كان بعدها، بيد أن الضرائب التي كانت
تُستخلص من القبائل هي ضرائب كبيرة بما لا يُستطاع الاستغناء عنها. ذلك
بأن السكان المدينيين في المغرب لا يؤدون من الضرائب إلا الشيء اليسير،
وتكاد البوادي تتحمل لوحدها الأعباء الضريبية كلها. ولذلك فستُضطر الحكومة
المغربية إن عاجلاً أو آجلاً إلى أن تعيد فرض الضريبة، وحيث إن السكان قد
وطنوا أنفسهم على عدم أداء الضرائب، فلا يبعد أن يلاقي المخزن بعض المصاعب
في رد الضريبة عليهم. وقد علمنا في وقت كنا نسود هذه السطور بأن فيلقاً قد
شرع في المسير ليجوب مناطق الحوز لهذا الغرض. وسيتعين أن تُعاد إلى القياد
سلطاتهم، وليس ببعيد عن الاحتمال أن نرى هؤلاء القياد يطمعون في التعويض عن
الفترة الطويلة التي عرفوا فيها انحسار النفوذ ونراهم يطمعون في استرداد
ثرواتهم التي نالها النقصان (فإذا كان الملزمون بالضرائب لا يدفعونها فإن
المخزن لم يكن ينقطع عن قياده بطلباته واحتياجاته)، فلا يبعد أن يعودوا إلى
سيرتهم السابقة في السكان من النهب والغصب.
حياة القياد العظام
لقد
رأى بعض المؤلفين الذين كتبوا عن المغرب في الحياة التي يحياها القياد
العظام في قصباتهم، ومعظم تلك القصبات تقوم بقرب الزوايا، أشبه بحياة
السادة الإقطاعيين. فهذا سي عيسى بن عمر يعيش في قصبته في عبدة، فكأنها
مدينة صغيرة ومن حوله يقوم بلاط حقيقي، والرجل يستمتع بالصيد بالسلاقي
والصقور. وقد يتغيب عن قصبته بين الفينة والأخرى ليلتحق بالمخزن. فهذا
الرجل قد رآه بعض الكاتبين عنه أشبه بالإقطاعي القروسطي. وهذه أطروحة يُسار
بها إلى التعمُّم، ومن المُتوقع لها أن تعرف الانتشار كذلك إلى البلاد غير
الخاضعة من المغرب. فنحن نلاحظ أن في الجنوب من هذه الإمبراطورية بعض
الممالك [الإمارات] الصغيرة المستقلة وبعض الزعماء الكبار من ذوي النفوذ
الديني وبعض مجموعات السكان التي تؤدي الإتاوات المنتظمة إلى مجموعات أخرى،
وهي كلها عناصر تزين للبعض الاعتقاد بأن المغرب ذو طابع إقطاعي، لا يكاد
يفصله عنه غير فارق هين يسير. لكننا نعتقد أن المرء يخطئ إذ يتخطى ذلك
الفاصل الهين اليسير ولا يقف عنده. ويجدر بنا منذ الآن أن نبرز الاختلافات
التي نراها تفرق بين الإقطاع والحالة الاجتماعية في المغرب ولا تجعل لهما
ببعضهما من صلة أو وشيجة.
لا إقطاع في المغرب
فالحالة
الإقطاعية نراها في صورة عجيبة كأنها فسيفساء بما حوت من مناطق النفوذ ذات
القوة والشأن وخليط متعذر عن الفهم من الحقوق والواجبات، وشتان ما بين هذه
البلاد التي هذا شأنها وبين المغرب؛ حتى مناطقه غير الخاضعة. وإذا كنا نجد
بعض التجمعات الكبيرة نسبياً في درعة ترتبط بأخرى بما يشبه رابطة التبعية
أو الإقطاع، فإننا نرى هذه الحالات القليلة بعيدة عن التعقيدات القانونية
التي تسم العلاقات الإقطاعية، كما أننا لا نرى فيها وجوداً للتراتبية
الاجتماعية الصارمة وما فيها من درجات ومستويات كثيرة. كما وأننا لا نقف في
المغرب على عنصر آخر يدخل في تكوين الحالة الاجتماعية لدينا في العصور
الوسطى؛ نريد به أن يكون الشخص يتحكم في إقطاعة يتناقل ملكيتها بالوراثة،
لكن من غير أن تتحقق له الملكية الكاملة لها على الإطلاق. فهذا شريف
تازروالت سيد مطلق على المجال الداخل تحت نفوذه، وحتى ليسوغ لنا أن نذهب
إلى تشبيهه بالكونت [الغربي] في القرن الحادي عشر، وهو يقرُّ لملكه بحقوق
لا تزيد عن أن تكون نظرية على منطقة نفوذه، ثم لا يتعدى الأمر ما ذكرنا.
فأما التنظيم الذي تسير عليه تازروالت فما هو بالإقطاعي، ولا سيدها
بالمرتبط بسلسلة من العلاقات التي تقوم بين التابع والسيد، كما هو الشأن
عند السيد الإقطاعي. فهذا السيد وحده لا يصنع الإقطاع، بل الإقطاع مجموع
[متكامل]، وليس لهذا المجموع وجود في المغرب. وأما من جهة أخرى فإن التابع
والإقطاعي في العصور الوسطى كانا يرتبطان بمجموعة من الفروض والالتزامات
المحددة، وأما في المغرب فالقياد خاضعون قلباً وقالباً للسلطان، فيما
القادة المستقلون بأنفسهم لا يرون من اعتبار يجب عليهم نحو السلطان إلا أنه
إمام لجماعة المسلمين، ولا هو يقر لهم بأي حقوق على الناس، كما يدلنا
تعيينه عليهم، متى شاء، قياداً من غير وظائف. فهل اتفق لكم أن سمعتم بسيد
على تازناخت أو سيدي هشام يخضع للحكم يصدره فيه أقرانه [القياد]، إن كان
يعترف بهم مجرد اعتراف؟ ومع ذلك فإن هذه تعتبر من الخصائص للإقطاع. وأما
الإقطاع الديني فلا تجد له شيئاً يشبهه في المغرب. فهذا وليُّ تادلة له
السيادة على بلاده بصفة الولي، وأما الأسقف الإقطاعي فهو يميز بين ما هو
ديني وما هو دنيوي، ودليلنا على ما نقول أنه قد كانت توجد لديه محكمتان
مختلفتان. وكذلك الإقطاع الديني عندنا في العصور الوسطى إنما عرف الازدهار
خاصة في المدن، وأما المغرب فإن معظم المدن فيه تخضع بصورة مباشرة أو غير
مباشرة للسلطان. ولنشر في الأخير إلى السمة العامة المميزة للإقطاع، وهي أن
السلطة تكون فيه من الناحية القانونية متفرقة إلى كثير من الأقسام، وأما
في المغرب فإن السلطة تكون من الناحية المبدئية مجتمعة كلها بين يدي
السلطان؛ فليس يفلت منها شيئاً إلا بما ينوبه من العجز فلا يعود يقوى معه
على الاضطلاع بتلك السلطة كاملة غير منقوصة. وهذه الاختلافات متأتية كلها
من أن الإقطاع نظام اجتماعي بالغ التعقيد قد نشأ على أنقاض حضارات كثيرة
سابقة عليه، وربما كانت حضارات قليلة أشباه ونظائر في تاريخ الإنسانية،
وأما المغرب فأمر الحكم فيه أبسط من ذلك بكثير، وإن هو إلا يتحدر من مؤسسات
أشد بدائية من المؤسسات الجرمانية أو الغالية الرومانية. زد على ذلك أن
الهمجيات تشبه بعضها بالضرورة، وأن ما يمايز الهمجية عن الحضارة لا يزيد عن
فارق بسيط. فليس علينا أن نستغرب إذ تطالعنا بعض أوجه الشبه، التي لا تعدو
أن تكون سطحية، بين المجتمع الإقطاعي والمجتمع المغربي. وصفوة القول إنه
لا يكفي وجود سيد يقيم في قصبة ويكون له غلمانٌ يخدمونه وتكون له هواية
الصيد بالصقور، لنقول إنه سيد إقطاعي.
مزاج الرحمانة
لنعد
بالحديث إلى الرحامنة. فلقد أمكن لهم أن يصلحوا في السنوات الأخيرة صنوف
التخريب التي نجمت عن الفتن. وكانوا كمثل سائر قبائل الحوز على اقتناع
بأنهم لن تؤدوا بعدُ من ضرائب. غير أن النبهاء من أهل القبيلة كانوا يدركون
أن هذه الحالة من الإعفاء لن تدوم طويلاً، فكان يروق لهم أن يقولوا إن
الحوز لن يدفع من ضرائب ما دام الغرب هو الآخر لا يدفعها، ثم إنهم لا يخفون
متمنياتهم بأن يظل الغرب، الذي يشهد من الاضطرابات أكثر مما يشهد الحوز،
ممتنعاً على الدوام من دفع ضرائب. وهؤلاء يعتقدون أن المغرب يعيش على دخول
الجمرك، ويتصورون، من جهلهم بالنتائج المترتبة عن الضرائب، وهو وهم شائع
عند الإنسان المسلم، أن التجار الأوروبيين سيصيرون في المستقبل يكفون
الدولة احتياجاتها. ونحن نلمس هذا الشعور في المراسي من خلال التعصب
المتزايد من أهلها تجاه الأوروبيين والعداء الشديد لهم. والمحميون الذين لم
يطلبوا الدخول تحت الحماية [القنصلية] يوماً إلا للتحلل من الضرائب قد
قطعوا كل علاقات كانت تربطهم بالأوروبيين، هم الذين ما أكثر ما اختصوهم من
الشواهد والرخص، وحتى إن منهم الكثيرين قد باتوا متغافلين عن الديون التي
قبضوها منهم. وقد بدا لنا بكل وضوح حتى في المناطق الداخلية، كما هو الشأن
عند الرحامنة على سبيل التمثيل، وقت أن مررنا ببلادهم في سنة 1902، أنهم
يقابلون المسيحيين بتحفظ لا ينم نحوهم عن كبير ود. غير أنهم يكفلون السلامة
والأمن للأوروبي حيثما نزل من بلادهم. ثم إن السلامة والأمن شيئان يكادان
يكونان مكفولين للأوروبي في سائر البلاد الخاضعة من غير استثناء، لا تبدل
منهما ما يأتي عليها من أوقات الاضطرابات. فقد ظلت سبل الاتصالات حتى في
الفترة التي بلغ فيها تمرد الرحامنة الأوج موصولة لم تنقطع بين مراكش
والجديدة، وظل بوسع الأوروبيين أن يتنقلوا بين المدينتين. بيد أن سعاة
البريد [الرقاصة] كانوا يلاقون صعوبات في المرور، في ما خلا الحامل منهم
للبريد الفرنسي لأنه يكون يحمل معه ظرفاً مكتوباً عليه بالخط العبري قد
اشتمل على مراسلات زعيم التمرد. عدا أن الخليفة (الملازم [كذا!]) الطاهر بن
سليمان، الملقب بـ «بوكدية»، قد كان صديقاً شخصياً لعوننا القنصلي في
مدينة الجديدة الأب الفقيد السيد برودو، الذي ظل لوقت طويل هو الممثل
لفرنسا بكل تفان في هذه المدينة الساحلية.
-4الجبيلات
ولنختم،
بعد هذه الاستطرادات المسهبة بشأن الرحامنة، المسارَ الذي قادنا من أزمور
إلى مراكش، التي تركناها بقرب سيدي أحمد الفضيل وقت أن دخلنا الجبيلات.
وكلمة الجبيلات معناها الجبال الصغيرة؛ وإنه لاسم يطابق مسماه. فهي جبال
قليلة ارتفاع، بحيث لا يتعدى علوها 300 متر عن مستوى السهل. وحقيقة الأمر
أنها مصغَّرات لجبال. وأنت ترى فيها بعض الأودية الصغيرة وبعض الأخناق
الصغيرة، لكنها تخلو مع ذلك من المجازات الشاقة والعسيرة. والذي يبدو أن
الجبيلات من الناحية العسكرية «يمكن اعتبارها بمثابة حاجز حقيقي لا يستهان
به، هي التي لا يبدو من السهل اجتيازها في جميع المواضع. بيد أن الشِّعب
الذي تمر خلاله الطريق من الجديدة إلى مراكش ليس بشديد الخطورة، فالمنحدرات
والمهابط المتخللة له يسهل اجتيازها في سائر الأنحاء والمواضع».
والجبيلات
التي تمتد في صورة مسترسلة في النواحي الشرقية والغربية والشمالية من
مراكش، تتكون من سلسلة أكمات مخروطية شديدة شبه ببعضها، لا يصل بينها ملتقى
واحد كبير، وهي تبدو في صورة جذابة. وإن هذه الأكمات المخروطية المتجاورة
التي تلوح من بعيد متماثلة لا تكاد تختلف في شيء قد اتسمت جميعاً بتنوع
لافت مثير؛ فهي تكاد تكون جميعاً على علو واحد، وتكاد تتخللها جميعاً شُعفٌ
صغيرة قليلة ارتفاع، ولا ترى فيها نتوءاً مستقيماً، كما تخلو من أي قمة
مسننة كما في سلاسل الجبال. وتُرى بعض الأكمات تقوم بمعزل عن تلك السلسلة
من الأكمات المخروطية في بعض تلك الأنحاء وهي تتقدم متفرقة في السهل، وتُرى
أكمات أخرى أقل منها عدداً على هيأة «بردعة» (سرج البغل أو الحمار) أو
كقبعة الشرطي. وعلماء الأرض يرون إلى الجبيلات أنها تشكل ما يمكن اعتباره
مقدمة لجبال الأطلس؛ لكن إذا صح هذا الأمر من الوجهة التي ينظر بها علماء
الأرض، فإن السائح يرى الجبيلات تختلف كثيراً من حيث بنيتها الخارجية عن
جبال الأطلس.
الطريق التي نسلكها الآن نزِهة ومتنوعة المشاهد، فالناظر
يغمره الارتياح لمرأى هذه المنحدرات العجيبة بعد ما كنا نضرب فيه من السهول
الشاسعة الرتيبة. لكن من أسف أن الأدغال تندر في هذه الناحية؛ فهي لا تزيد
عن غيضات من السنط أو «الطلح» وبضع غيضات من العرعر، زيادة على بعض أنواع
الوزال والعنّاب الأزلي. تلك هي كل النباتات الفقيرة التي تطالعنا في
الجبيلات، وأما الأشجار فهي فيها شديدة الندرة.
تضاريس الجبيلات مماثلة
لتضاريس الجبل الأخضر؛ فالكتلة المكونة لها تتألف من النضيد والصلصال
القديم، وهي ذات طبقات منتصبة ومتموجة تكسوها الترسبات العمودية من العصرين
الجوراسي والفجري وقد تعرضت لتفككات قوية. وكانت الجبيلات تشكل في العصر
الميساني، كمثل الجبل الأخضر وهضبة بني مسكين في الشاوية، جزيرة بارزة أمام
الكتلة القارية التي يكونها الأطلس الكبير، وقد كانت تتصل وإياها بمضيق
يقوم على صعيد مدينة مراكش. ولذلك فلا تعدو الجبيلات من الناحية الجيولوجية
أن تكون خاصرة في السلسلة الأطلنتية الكبرى. ومن حولها جميعاً تقوم طبقات
ميسانية تحفها من كل جانب وتنفذ إلى وادي تاساوت، وتصل حتى تاملالت؛ أي
أنها تنتهي إلى الخط الفاصل بين مياه تانسيفت ومياه أم الربيع.
الوصول إلى مراكش
الطريق
اليوم غاصة بالمارة؛ ففي الغد يكون عيد الأضحى، والناس جميعاً يعودون إلى
ذويهم للاحتفال بهذه المناسبة. وقد مررنا بقرب جماعة من الرحمانة، فإذا هم
قد جعلوا ينحون على أحد رجالي، وكان دكالياً، بالشتائم لمرافقته لنا
ويصيحون به قائلين إن دكالة كل شأنهم أن يجلبوا إلى البلاد الكفرة الكلاب.
ثم التقينا بعد ذلك طائفة من «الطلبة» في «نزاهة» [كذا!]؛ وهي جولة يقومون
بها لطلب الصدقات؛ فهم يتسولون للمارة في الطريق، وأشهر أحدهم علامة هي
عبارة عن قطعة قماش بيضاء فهو يرفعها في رأس عصى طويلة. وقد قابلهم رجالنا
بالكثير من التوقير لأن «الطالب» محفوظ القدر حيثما وُجد من البلاد
الإسلامية. وقد كان أولئك الطلبة يومها في عطلة بمناسبة العيد الكبير،
والعادة جارية عندهم على أن يهتبلوا هذه العطل، وهي كثيرة [طوال السنة]،
للخروج في تلك الجولات بغرض التسول.
الدخول إلى مراكش
وكان
لنا توقف لنصف ساعة على مقربة من بئر كان أحد الرعاة يرعى بإزائها قطيعاً
من الماعز والأغنام. ثم واصلنا المسير إذ كنا نستعجل الوصول إلى مراكش في
الصباح الباكر. وإن هي إلا هنيهة حتى لاح لأعيننا، في الساعة الواحدة
وخمسين دقيقة، سهل شاسع مترامي الأطراف تنتصب فيه غابة كثيفة من أشجار
النخيل. وأخذ تتراءى لنا خلال تلك الأشجار ملامح مدينة عظيمة قد انتصبت في
أرجائها منائر كثيرة، وبرزت بينها واحدة هي أكبرها جميعاً؛ إنها مراكش،
مدينة يوسف بن تاشفين، وتلك صومعة الكتبية. لقد بدت لي وسط ديكور بديع من
جبال الأطلس الكبير قد اكتست من الثلوج إهاباً فضياً. ثم تزاحمت ذاكرتي
بفيض من ذكريات التاريخ، فزادت من سحر ذلك المشهد في ناظري. فها هي ذي
أمامي المدينة التي بناها صنهاجة الأشداء الملثمون من بلاد السودان. لقد
بدت لي المدينة، وهي تكنفها أشجار النخيل وفي ذلك السهل الذي تشوي الشمس
تربته الحمراء كأنها قصر عظيم قد نبت وسط واحة! فها هي ذي القمم المكسوة
بالثلوج التي منها نزل المصامدة يذكي حماستهم ابن تومرت، وها هي الأرض التي
كانت مسرحاً للكثير من المعارك، ثم كانت في القرن السادس عشر حصن الإسلام
في مواجهة التهديد المسيحي، وبين هذا النخيل وعلى هذه الأسوار قد تحطمت
محاولات البرتغاليين... إن كل هذه الذكريات التي تهجم علينا والتعب الذي
يستبد بنا من طول الركوب والفضول الذي يأخذ بنفوسنا والغبطة التي تستخفنا
بقرب الوصول إلى نهاية هذه الرحلة، والخيال الذي يجمح بنا في هذا الخضم
الجياش من عناصر الطبيعة وشؤون التاريخ؛ كلها عوامل اجتمعت علينا فكنا بها
نجتاز تلك الواحة يتنازعنا خليط من مشاعر عذبة رائقة تتعذر عن الوصف. وها
إن قافلتنا قد أخذت تشق طريقها تظللها أشجار النخيل، فكنا نجوز سواقي تجري
بماء زلال، وتتخلل تلك الأنحاء حفر سوداء لقنوات الري الباطنية، فيتناهى
إلينا منها خرير المياه. وإذا المارة قد صاروا يزدادون كثرة. ثم جئنا إلى
القنطرة الحجرية العتيقة التي أقامها [أبو يعقوب] يوسف [بن عبد المؤمن]
الموحدي من فوق سرير [وادي] تانسيفت، ومن تحتها يجري خيط ماء دقيق. وها
إننا قد اقتربنا من المدينة، ولم نلبث أن رأينا سوقاً لبيع الأغنام تفيض عن
جنباتها لأجل أن اليوم الذي بعد هو يوم العيد. ثم دخلنا باب الخميس.
وتملكني شعور عارم فياض لمرأى تلك الباب الضخمة المقوسة الخفيضة المظلمة.
وسرت في ممر ملتو قد ازدحم بحشد عظيم من المتسولين، فهم يتوسلون المارة
بصوت أغن، فخيل إليّ أنني قد ارتددت قروناً إلى الوراء، وأننا قد دخلنا،
كما لو بطريق الحلم، عالماً أشد ما يكون اختلافاً عن عالمنا، فليس له به من
صلة أو نسب.
الرحامنة مشهورون بأنهم كانوا دائمي الترويع لمدينة مراكش
أقسام الرحمانة
ينقسم
الرحامنة إلى خمسة «أخماس» أو دوائر إدارية. فالبرابيش يشكلون خمساً،
وأولاد سلامة خمُسيْن اثنين وأولاد بوبكر خمُسيْن اثنين. وتضم مختلف في هذه
القبائل مجموعة من الزوايا. فقد قيل لنا إن عددها يصل إلى ثلاث عشرة
زاوية، وهي : زاوية مولاي عبد الله بن ساسي وزاوية أولاد سيدي البهيلي
وزاوية أولاد سيدي بن عزوز وزاوية أولاد سيدي عبد الكريم وزاوية أولاد بابا
عيسى السلموني وزاوية أولاد سيدي أحمد الركيبي وزاوية أولاد سيدي الناجي
وزاوية أولاد مولاي عمر وزاوية أولاد سيدي امحمد بلكرن لدى أولاد بوبكر،
وزاوية أولاد سيدي عبد الله بولعوينة وزاوية أولاد سيدي مفتاح لدى أولاد
سلامة، وزاوية أولاد الزعرية لدى البرابش.
الرحامنة في مراكش
لقد
اشتهر الرحامنة بأنهم كانوا دائمي الترويع لمدينة مراكش، وما أكثر ما
تحدثنا كتب التاريخ عن الاعتداءات التي كانوا ينالون بها سكان هذه المدينة.
ولقد أمكن لهم أن يكوِّنوا لهم من سكان المدينة فصيلاً عظيم العدد، وحتى
لقد صاروا في هذه الآونة يتبجحون بأن هيمنتهم قد وجدت ما يشبه الاعتراف
الرسمي بالتعيين الذي تم لقايدهم عبد الله عبد الحميد في ذلك الوقت نفسه
باشا على مراكش. وقد كان للرحامنة نحو مراكش أشبه بالدور الذي كان للبرابر
نحو فاس. وحيث إن سلاطين المغرب كانوا كثيراً ما يقيمون في مدينة مراكش
خلال أواخر القرن التاسع عشر فلقد تبوأ الرحامنة بفضل هذا القائد مكانة
بارزة في تاريخ المغرب. وتبوأوا تلك المكانة خاصة على أثر وفاة مولاي الحسن
في سنة 1311هـ.، فلقد دبروا عند حدود ترابهم على وادي العبيد لتمرد عرض
دولة الفيلاليين لمصاعب جسيمة.
تمرد الرحامنة
وسنسوق
في ما يلي بعض التفاصيل عن ذلك التمرد الذي كان من الأهالي، حسب معلومات
استقيناها من بعض الأفواه. ومع أنها معلومات استقيناها من مصدرين مختلفين؛
الأول من مراكش والثاني من الرحامنة، فلا يمكننا أن نتغاضى عن وجود الكثير
من الوثائق الداخلة هذا المدخل والتي ينبغي أخذها بالحيطة والحذر. غير أنه
لما كان الأمر يتعلق بوقائع لم يجر تدوينها بعدُ، باستثناء ما تناقلت منها
المراسلات الصحافية لتلك الفترة، فلربما كان في هذا الأمر ما يوجب إيلاءها
بعض الاعتبار، غير أننا نسوقها ههنا مع أخذها بكل التحفظات.
لقد تولى سي
عبد الحميد القيادة على الرحامنة لما يقرب من 35 سنة، وإن لم تخل تلك
الفترة لديه من انقطاعات؛ فقد تعرض خلالها للسجن أربع مرات. وكان قبل وفاة
السلطان الأخير [مولاي الحسن]، يتصل بعلاقة طيبة بأخيه مولاي امحمد، الذي
من المفترض أن تصير له الشهرة بعد أن انتحل الروكي بوحمارة اسمه وشخصيته،
وأودع السجن بأمر من مولاي الحسن. فلم يتورع سي عبد الحميد عن الانحياش إلى
جانب مولاي امحمد وطلب له العفو وألح فيه، بما أثار إليه ريبة الجهات
العليا، فكان أن أودع السجن هو الآخر. وبينا هو في محبسه خرج الرحامنة إلى
التمرد. وقد كان عليهم وقتها «قياد» كثرٌ، وكانوا كمثل سائر القياد
المغاربة قد صاروا مبغوضين من السكان بما كانوا ينولونهم من ضروب العسف،
فطالب الرحامنة بتنحية معظمهم واستبدالهم بآخرين. فلم يلقوا قبولاً من
المخزن في حينه، غير أن القياد خافوا على أرواحهم فلم يجرؤوا على الالتحاق
بمراكزهم ولبثوا في مراكش التي جاؤوا إليها بمناسبة أحد الأعياد الدينية
الكبرى. وفي تلك الأثناء كانت وفاة مولاي الحسن.
وسرعان ما اشتد تهديد
الرحامنة، فجاءوا إلى مراكش يطالبون بأن يسلَّم إليهم أولئك القياد. فعقد
باشا مراكش مجلساً، وقرر على سبيل استرضاء المتمردين أن يضع أولئك القياد
في السجن بصورة مؤقتة، في انتظار القرار النهائي الذي سيكون من السلطان
المقبل. وقد كان القياد يعلمون أنهم إن كانوا سيدخلون سجون المخزن بتلك
السهولة فسيكون من العسير عليهم أن يخرجوا منها. وفكروا في وسيلة تكفل لهم
السلامة والأمان، فكان أن فر أربعة من جملة ثمانية منهم والتجأوا إلى بعض
الزوايا. وأما الخامس، واسمه عباس الزبيري، وكان صديقاً حميماً لمولاي
امحمَّد، فقد تحصن في منزله ووزع الأسلحة على عبيده ليدافع بهم عن نفسه.
وقد حاولت قوات المخزن عبثاً أن تنتزعه من بين أسوار منزله فكان يرد جميع
الهجومات عليه ويكبد تلك القوات الخسائر الثقيلة. وقيل إن الأمر انتهى بأن
صعد أحد «قياد الميا» إلى صومعة سيدي بلعباس القريبة من ذلك الموضع، ومن
هناك سدد إلى المتمرد رصاصة في فناء منزله فأرداه قتيلاً، وكذلك قُتل معه
أخوه، واقتيد الثلاثة الآخرون إلى السجن.
غير أن تلك الاعتقالات لم تجد
في تهدئة ثائرة الرحامنة، فظلوا يمعنون في التمرد، محتجين بأنهم يريدون
عليهم قايداً آخر بدلاً عن عباس الزبيري، ويتعلق الأمر يرجل لم يكن يحظى
بثقة المخزن، وقد كان من قبل قايداً على الرحامنة، ثم كان له ضلوع في بعض
الفتن والاضطرابات التي نراها اليوم، وهو رحماني ويدعى الطاهر بن سليمان.
لكن مطلبهم قوبل بالرفض من الباشا، فجاءوا بأعداد كبيرة حتى أسوار مراكش،
فلزم إغلاق أبواب المدينة. لكن اشتد ضغط المتمردين، فلم يعد بد من تسليمهم
الطاهر بن سليمان وسمح له بالالتحاق بأبناء قبيلته، مع التنبيه له بالعمل
على تهدئتهم. وعلى العكس من ذلك فقد جعل منه الرحامنة قائداً لتمردهم. وكان
أن طال ذلك التمرد سنة.
وقد ظل المتمردون خمسة أشهر يمعنون في النهب
والتخريب في نواحي مراكش، اجتمع للطاهر بن سليمان خلالها سوقات من سائر
نواحي الحوز، فتقدم بهم حتى جاء المدينة، وفعل كما يفعل الروكي اليوم؛ فقد
طالب بتسليمه مولاي امحمَّد مقابل كفه العدوان عن المدينة. وعقد باشا مراكش
مجلساً للتشاور، قرر على أثره أن يرد بالمقاومة، وأعلم المخزن في فاس
بالأمر. فلما خرجت قوات السلطان من فاس وشرعت في زحفها على مراكش تقدم
الرحامنة ليمنعوها من عبور وادي أم الربيع، لكنهم عجزوا عن ذلك الأمر،
وأمكن للمحلة أن تجتاح الحوز. وتوحد المتمردون كما لم يكونوا من قبلُ.
ودُفع قائدهم برجاله الذين من حوله، فانجرف بالأحداث أكثر مما كان هو
الموجه لها، ولم يكن ليتكهن بنهايته الوخيمة. فقد تفاحشت الانقسامات في
صفوف المتمردين بتدبير محكم من المخزن بما كان يُعمل فيهم من الرشاوى ويدبر
بينهم من المكائد. فإذا الطاهر بن سليمان قد صار لا يستطيع أن يفرض شيئاً
من قراراته. ثم وقعت عليه الهزيمة، لكنه أفلح في الفرار والالتجاء إلى
زاوية سيدي الزوين في بلاد احمر. فأخطر المخزن الأولياء بوجوب تسليمه، وكان
الطاهر بن سليمان يتشبث بكل قواه باللواء الذي يغطي قبر الولي، فحذر
الأولياء من مغبة المس بذلك الغطاء، إلى أن استقر الرأي على أن يخرجوه هو
والغطاء ويسحبوه إلى خارج الزاوية. فإذا صار خارجها أمسك به المخازنية
وحملوه إلى مراكش. وهنالك وضعوه في قفص حمَّلوه فوق ظهر بعير وجعلوا يطوفون
به في أرجاء المدينة، وهي إهانة كثيراً ما كانت تُنزَل بالمهزومين من
أمثاله. ثم أُلقيَ به في السجن في مراكش؛ حيث سيلقى حتفه وقتاً يسيراً من
بعدُ قتيلاً بالسم، وقيل بأمر من باحماد الذي خشي فراره فارتأى أن يتخلص
منه بصفة نهائية قبل أن يخرج في حركته على الشاوية.
ثروة سي عبد الحميد
ما
أن تحقق للسلطان دخول مراكش بعد أن كسر شوكة المتمردين، حتى انبرى يعيِّن
القياد على الرحامنة. لقد كان في التنافسات المستعرة بين مرافقي الطاهر بن
سليمان، وربما كان في خيانتهم، ما قضى على التمرد بالفشل، فكافأهم المخزن
بما بذلوا لأجله من خداع ومن خيانه، وعيّن بعضهم في مناصب القياد. وأما عبد
الحميد فقد كان لا يزال قابعاً في السجن. ثم طالبت له قبيلته عرب سلاَّم
بالعفو وأن يُجعل قايداً عليها، فاستجاب لها المخزن من غير تأخير؛ وإذا عبد
الحميد قد انتقل مباشرة من دهاليز السجن إلى الأضواء والتشريفات الرسمية،
وهو تبدل للأحوال مألوف حدوثه في المغرب. ولقد انحاش على الفور، وفاء بما
تقضي الشروط التي وضعت للإفراج عنه وتوليته القيادة، إلى جانب باحماد
واعتنق سياسته والتزم مخططاته. وكان هو من أوعز إلى المخزن بمصادرة أملاك
الرحمانة في مراكش؛ إذ كان لهم فيها بيوت كثيرة، وكانت بها أحياء، بينها حي
سيدي بلعباس، يكادود يملكونها بما فيها. وتولى عبد الحميد بنفسه تنفيذ تلك
المصادرات، وضخ بها في بيت مال المخزن مبالغ طائلة، لا يبعد أن يكون عاد
عليه نصيب منها. فأصبح أقرب المقربين إلى باحمد، وحتى إن الصدر الأعظم ما
عاد يقطع في شيء قبل أن يشاوره فيه. ثم انبرى عبد الحميد يزيح كبار قياد
الرحامنة واحداً بعد آخر، ليحل محلهم ويصير له الحكم على سائر بلاد
الرحامنة. فكان خلال هذه السنوات الأخيرة أقوى شخصية في الحوز.
لقد بدا
المخزن، بعد الحركة التي كانت له في صخرة الدجاجة (في ورديغة) وقد أعاد بها
الهدوء إلى إقليمي الشاوية وتادلة، وبلغ من القوة فوق ما كان من قبل، فإذا
القياد قد جعلوا يرسلون بالهدايا النفسية. وكتب عبد الحميد، الذي كان
يومها في قيادته، إلى ابنه الذي كان في مراكش أن يدفع إلى المخزن بمبلغ
كبير من المال، قيل إنه جعله ثلاثين ألف دورو، لكنه بطبيعة الحال رقم لا
نملك أن نجزم بصحته. فما الذي حدث في تلك اللحظة؟ وهل صحيح أنه قد دار في
خلد الابن الحاج العربي أن يدبر لذلك المخطط الجهنمي فيزيح أباه ويحل محله،
أم يكون المخزن دبَّر لحيلة ماكيافيلية؛ وأنه قد سعى في إيهام الأب بأن
ابنه قدم للمخزن رشوة بغرض أن يزيحه ويحل محله، ومراد المخزن أن يدفع
الرجلين إلى التنافس بالهدايا يقدمانها إليه وأن يقبض من الغريمين معاً؟
تصعب الإحاطة بهذا الأمر، لكن لا يبدو أن الابن قد كان خالياً من اقتراف
أخطاء شنيعة. وقيل إن المخزن أعلم عبد الحميد بأن ابنه قدم إليه هدية بمبلغ
ثلاثين ألف دورو بغرض الحلول محله في القيادة، وإن عبد الحميد بادر من
فوره إلى إرسال مبلغ أعظم إلى المخزن وطلب أن يوضع ابنه في السجن. ومهما
يكن من أمر فالمؤكد أن الحاج العربي قد وُضع برضى وقبول من أبيه في السجن
في جزيرة الصويرة ولبث فيه سنين عديدة. وتوالى بعد ذلك إيداع قياد آخرين
السجونَ. وفي ذلك الوقت صار لعبد الحميد مطلق السيادة على الرحمانة. ثم عن
له أن يقتل فيهم كل ميل قد يراودهم إلى التمرد في المستقبل، فكانت سيرته
فيهم قوامها البطش والتنكيل، قد تركت في النفوس ذكريات لا تمحي وفي الصدور
ضغائن لا تزول. فلقد بلغ بقهره في الناس كل مبلغ، وحتى قيل إنه فرض ضريبة
من نصف بسيطة على كل شخص يؤديها في كل أسبوع؛ ولم يستثن منها رجلاً أو
امرأة أو طفلاً. ويُحكى عنه كذلك أنه كان يأتي من الأفعال أشدها شراسة
ووحشية، غير أننا يصعب علينا أن نميز في هذه الروايات بين الحقيقة والتهويل
الشعبي. إلا أن المؤكد أن الضرائب المجحفة والتعسف في مصادرات الممتلكات
والاعتقالات المتكررة تقع على الأشخاص من غير وجه حق قد ظلت ترهب القبيلة
وتضعفها لوقت طويل. وختاماً فعندما أُلقي بباشا مراكش وعاملها بن داود في
السجن بأمر من المنبهي خلفه عبد الحميد في منصبه، لكن من غير أن يُخلى من
قيادة الرحامنة.
اغتيال المهدي
كان
عبد الحميد في أوج سلطانه وقت أن وقعت أزمة «الترتيب»، ولربما كانت تلك
الأزمة ستكون إيذاناً ببداية عهد المتاعب عليه لو لم ينتزعه الموت من معترك
السياسة. فقد عاد من فاس في شتنبر 1902 وهو في حالة من الاعتلال الشديد،
ثم كانت وفاته في مراكش بداية شهر أكتوبر وقد قامت في أواخر أيامه صراعات
طاحنة على خلافته، وكان التنافس عليها بين مرشحين اثنين هما : ابنه الحاج
العربي وخليفته (مساعده). وقيل إن عبد الحميد أوصى إذ هو على فراش الموت
على ابنه ليخلفه من بعده. لكن خليفته، المدعو المهدي، ظل متشبثاً بطموحه
إلى الظفر بتلك الخلافة. وقيل إن في يوم وفاة عبد الحميد تبادل المتنافسان
عبارات المودة، ومع اعترافهما بالتنافس القائم بينهما إلا أنهما توجها إلى
ضريح سيدي بلعباس ليحلفا لبعضهما هناك على ألا يستعملا في دعم ترشحهما لذلك
المنصب من وسائل غير مشروعة. لكن لما أن كانا في الضريح استغل المهدي ثقة
غريمه الحاج العربي فرماه برصاصة من مسدسه ثم أجهز عليه بطعنة من خنجره في
داخل ذلك الضريح. ولا يبعد أن يكون اطمأن إلى تواطؤ رجال الضريح وإياه، إذ
أمكن له الخروج من ذلك المكان في غير مشقة أو اعتراض. ثم انبرى يبذل
المساعي ويجزل العطايا من الذهب حتى لا يتعرض للاعتقال. وكذلك كان؛ فقد
أفسِح له ليتوجه وابنه إلى فاس، ليُتم فيها جريمته ويشتري القيادة.
أزمة الترتيب
لقد
سبق لنا أن أشرنا إلى الأزمة التي وقعت بسبب «الترتيب»، وسيتسع لنا المجال
في ما بعد لنتوسع في تبيان تلك الأزمة والإحاطة بتفاصيلها. وحسبنا ههنا أن
نقول إن النتيجة الواضحة الجلية، وربما كانت النتيجة الوحيدة القابلة
للفهم، التي كانت لإعمال الترتيب على البوادي هي المتمثلة في توقف أهلها عن
دفع الضرائب. وفي ما خلا بعض القبائل المتفرقة على المناطق والجهات، خاصة
منها القبائل الداخلة تحت نفوذ سي عيسى بن عمر في نواحي آسفي، وهي التي لا
تزال تؤدي الضرائب، فإن [قبائل] الحوز لم تدفع ضرائب منذ أربع سنين، ولا
عاد القياد يتجاسرون على الوصول إلى قياداتهم، وأما إذا كانوا فيها يقيمون
فإنهم قد أضحوا يتحصنون في القصبات والحصون. وكانت النتيجة أن السكان سرعان
ما بدأوا يتذوقون رغد العيش، ثم إنهم قد تخلصوا من الاستغلال الرهيب الذي
كان يقع عليهم، فاستعادوا الثقة في أنفسهم؛ فإذا الفلاحات قد بدأت تعرف
التوسع، والأبنية تطلع في أكثر من جهة وأكثر من ناحية. بيد أنها مظاهر لم
يضرب منها الرحامنة بنصيب؛ هم الذين معظم عيشهم على الرعي. ومع ذلك فقد
باتت المطامير لديهم ممتلئة والأسواق رائجة مزدهرة. ثم إذا أثمنة الخيول
والسروج والأسلحة قد صارت إلى ارتفاع في وقت وجيز بسبب من الإقبال الكبير
الذي أصبح يقع على هذه الأشياء المعدودة عند الأهالي من الترف. وعلى العكس
من ذلك انقطعت حركة التصدير؛ ذلك بأن الفلاح ما عاد يشكو من الجوع ولا عاد
يجدُّ ويجتهد في كل الأوقات في البحث عن الوسائل للحصول على المال يلاقي به
الجشع الذي لا يتوقف من القايد عليه، فإذا هو قد شرع يكنز ويدخر. وتأثرت
التجارة الأوروبية بشدة من النتائج العكسية لهذا الأسلوب الجديد. ورأى
التجار الأوروبيون كيف صارت الصادرات إلى تناقص، فأخذوا يشتكون من هذا
الأمر. لكن المغاربة من أهل الحوز مغتبطون لهذا الوضع، فأنت تسمع الكثيرين
منهم اليوم يدعون للسلطان الذي كانوا يلعنونه بضع سنين قبلُ. وإن معظمهم قد
وطنوا أنفسهم بحسن نية على أنهم سوف لا يدفعون بعد ضرائب. والواقع أن
المخزن بات في وضع لا يبشر بخير. فقد أمكن سد احتياجات بيت المال لبعض
الوقت من دخول الجمارك، ثم القرض الذي كان بعدها، بيد أن الضرائب التي كانت
تُستخلص من القبائل هي ضرائب كبيرة بما لا يُستطاع الاستغناء عنها. ذلك
بأن السكان المدينيين في المغرب لا يؤدون من الضرائب إلا الشيء اليسير،
وتكاد البوادي تتحمل لوحدها الأعباء الضريبية كلها. ولذلك فستُضطر الحكومة
المغربية إن عاجلاً أو آجلاً إلى أن تعيد فرض الضريبة، وحيث إن السكان قد
وطنوا أنفسهم على عدم أداء الضرائب، فلا يبعد أن يلاقي المخزن بعض المصاعب
في رد الضريبة عليهم. وقد علمنا في وقت كنا نسود هذه السطور بأن فيلقاً قد
شرع في المسير ليجوب مناطق الحوز لهذا الغرض. وسيتعين أن تُعاد إلى القياد
سلطاتهم، وليس ببعيد عن الاحتمال أن نرى هؤلاء القياد يطمعون في التعويض عن
الفترة الطويلة التي عرفوا فيها انحسار النفوذ ونراهم يطمعون في استرداد
ثرواتهم التي نالها النقصان (فإذا كان الملزمون بالضرائب لا يدفعونها فإن
المخزن لم يكن ينقطع عن قياده بطلباته واحتياجاته)، فلا يبعد أن يعودوا إلى
سيرتهم السابقة في السكان من النهب والغصب.
حياة القياد العظام
لقد
رأى بعض المؤلفين الذين كتبوا عن المغرب في الحياة التي يحياها القياد
العظام في قصباتهم، ومعظم تلك القصبات تقوم بقرب الزوايا، أشبه بحياة
السادة الإقطاعيين. فهذا سي عيسى بن عمر يعيش في قصبته في عبدة، فكأنها
مدينة صغيرة ومن حوله يقوم بلاط حقيقي، والرجل يستمتع بالصيد بالسلاقي
والصقور. وقد يتغيب عن قصبته بين الفينة والأخرى ليلتحق بالمخزن. فهذا
الرجل قد رآه بعض الكاتبين عنه أشبه بالإقطاعي القروسطي. وهذه أطروحة يُسار
بها إلى التعمُّم، ومن المُتوقع لها أن تعرف الانتشار كذلك إلى البلاد غير
الخاضعة من المغرب. فنحن نلاحظ أن في الجنوب من هذه الإمبراطورية بعض
الممالك [الإمارات] الصغيرة المستقلة وبعض الزعماء الكبار من ذوي النفوذ
الديني وبعض مجموعات السكان التي تؤدي الإتاوات المنتظمة إلى مجموعات أخرى،
وهي كلها عناصر تزين للبعض الاعتقاد بأن المغرب ذو طابع إقطاعي، لا يكاد
يفصله عنه غير فارق هين يسير. لكننا نعتقد أن المرء يخطئ إذ يتخطى ذلك
الفاصل الهين اليسير ولا يقف عنده. ويجدر بنا منذ الآن أن نبرز الاختلافات
التي نراها تفرق بين الإقطاع والحالة الاجتماعية في المغرب ولا تجعل لهما
ببعضهما من صلة أو وشيجة.
لا إقطاع في المغرب
فالحالة
الإقطاعية نراها في صورة عجيبة كأنها فسيفساء بما حوت من مناطق النفوذ ذات
القوة والشأن وخليط متعذر عن الفهم من الحقوق والواجبات، وشتان ما بين هذه
البلاد التي هذا شأنها وبين المغرب؛ حتى مناطقه غير الخاضعة. وإذا كنا نجد
بعض التجمعات الكبيرة نسبياً في درعة ترتبط بأخرى بما يشبه رابطة التبعية
أو الإقطاع، فإننا نرى هذه الحالات القليلة بعيدة عن التعقيدات القانونية
التي تسم العلاقات الإقطاعية، كما أننا لا نرى فيها وجوداً للتراتبية
الاجتماعية الصارمة وما فيها من درجات ومستويات كثيرة. كما وأننا لا نقف في
المغرب على عنصر آخر يدخل في تكوين الحالة الاجتماعية لدينا في العصور
الوسطى؛ نريد به أن يكون الشخص يتحكم في إقطاعة يتناقل ملكيتها بالوراثة،
لكن من غير أن تتحقق له الملكية الكاملة لها على الإطلاق. فهذا شريف
تازروالت سيد مطلق على المجال الداخل تحت نفوذه، وحتى ليسوغ لنا أن نذهب
إلى تشبيهه بالكونت [الغربي] في القرن الحادي عشر، وهو يقرُّ لملكه بحقوق
لا تزيد عن أن تكون نظرية على منطقة نفوذه، ثم لا يتعدى الأمر ما ذكرنا.
فأما التنظيم الذي تسير عليه تازروالت فما هو بالإقطاعي، ولا سيدها
بالمرتبط بسلسلة من العلاقات التي تقوم بين التابع والسيد، كما هو الشأن
عند السيد الإقطاعي. فهذا السيد وحده لا يصنع الإقطاع، بل الإقطاع مجموع
[متكامل]، وليس لهذا المجموع وجود في المغرب. وأما من جهة أخرى فإن التابع
والإقطاعي في العصور الوسطى كانا يرتبطان بمجموعة من الفروض والالتزامات
المحددة، وأما في المغرب فالقياد خاضعون قلباً وقالباً للسلطان، فيما
القادة المستقلون بأنفسهم لا يرون من اعتبار يجب عليهم نحو السلطان إلا أنه
إمام لجماعة المسلمين، ولا هو يقر لهم بأي حقوق على الناس، كما يدلنا
تعيينه عليهم، متى شاء، قياداً من غير وظائف. فهل اتفق لكم أن سمعتم بسيد
على تازناخت أو سيدي هشام يخضع للحكم يصدره فيه أقرانه [القياد]، إن كان
يعترف بهم مجرد اعتراف؟ ومع ذلك فإن هذه تعتبر من الخصائص للإقطاع. وأما
الإقطاع الديني فلا تجد له شيئاً يشبهه في المغرب. فهذا وليُّ تادلة له
السيادة على بلاده بصفة الولي، وأما الأسقف الإقطاعي فهو يميز بين ما هو
ديني وما هو دنيوي، ودليلنا على ما نقول أنه قد كانت توجد لديه محكمتان
مختلفتان. وكذلك الإقطاع الديني عندنا في العصور الوسطى إنما عرف الازدهار
خاصة في المدن، وأما المغرب فإن معظم المدن فيه تخضع بصورة مباشرة أو غير
مباشرة للسلطان. ولنشر في الأخير إلى السمة العامة المميزة للإقطاع، وهي أن
السلطة تكون فيه من الناحية القانونية متفرقة إلى كثير من الأقسام، وأما
في المغرب فإن السلطة تكون من الناحية المبدئية مجتمعة كلها بين يدي
السلطان؛ فليس يفلت منها شيئاً إلا بما ينوبه من العجز فلا يعود يقوى معه
على الاضطلاع بتلك السلطة كاملة غير منقوصة. وهذه الاختلافات متأتية كلها
من أن الإقطاع نظام اجتماعي بالغ التعقيد قد نشأ على أنقاض حضارات كثيرة
سابقة عليه، وربما كانت حضارات قليلة أشباه ونظائر في تاريخ الإنسانية،
وأما المغرب فأمر الحكم فيه أبسط من ذلك بكثير، وإن هو إلا يتحدر من مؤسسات
أشد بدائية من المؤسسات الجرمانية أو الغالية الرومانية. زد على ذلك أن
الهمجيات تشبه بعضها بالضرورة، وأن ما يمايز الهمجية عن الحضارة لا يزيد عن
فارق بسيط. فليس علينا أن نستغرب إذ تطالعنا بعض أوجه الشبه، التي لا تعدو
أن تكون سطحية، بين المجتمع الإقطاعي والمجتمع المغربي. وصفوة القول إنه
لا يكفي وجود سيد يقيم في قصبة ويكون له غلمانٌ يخدمونه وتكون له هواية
الصيد بالصقور، لنقول إنه سيد إقطاعي.
مزاج الرحمانة
لنعد
بالحديث إلى الرحامنة. فلقد أمكن لهم أن يصلحوا في السنوات الأخيرة صنوف
التخريب التي نجمت عن الفتن. وكانوا كمثل سائر قبائل الحوز على اقتناع
بأنهم لن تؤدوا بعدُ من ضرائب. غير أن النبهاء من أهل القبيلة كانوا يدركون
أن هذه الحالة من الإعفاء لن تدوم طويلاً، فكان يروق لهم أن يقولوا إن
الحوز لن يدفع من ضرائب ما دام الغرب هو الآخر لا يدفعها، ثم إنهم لا يخفون
متمنياتهم بأن يظل الغرب، الذي يشهد من الاضطرابات أكثر مما يشهد الحوز،
ممتنعاً على الدوام من دفع ضرائب. وهؤلاء يعتقدون أن المغرب يعيش على دخول
الجمرك، ويتصورون، من جهلهم بالنتائج المترتبة عن الضرائب، وهو وهم شائع
عند الإنسان المسلم، أن التجار الأوروبيين سيصيرون في المستقبل يكفون
الدولة احتياجاتها. ونحن نلمس هذا الشعور في المراسي من خلال التعصب
المتزايد من أهلها تجاه الأوروبيين والعداء الشديد لهم. والمحميون الذين لم
يطلبوا الدخول تحت الحماية [القنصلية] يوماً إلا للتحلل من الضرائب قد
قطعوا كل علاقات كانت تربطهم بالأوروبيين، هم الذين ما أكثر ما اختصوهم من
الشواهد والرخص، وحتى إن منهم الكثيرين قد باتوا متغافلين عن الديون التي
قبضوها منهم. وقد بدا لنا بكل وضوح حتى في المناطق الداخلية، كما هو الشأن
عند الرحامنة على سبيل التمثيل، وقت أن مررنا ببلادهم في سنة 1902، أنهم
يقابلون المسيحيين بتحفظ لا ينم نحوهم عن كبير ود. غير أنهم يكفلون السلامة
والأمن للأوروبي حيثما نزل من بلادهم. ثم إن السلامة والأمن شيئان يكادان
يكونان مكفولين للأوروبي في سائر البلاد الخاضعة من غير استثناء، لا تبدل
منهما ما يأتي عليها من أوقات الاضطرابات. فقد ظلت سبل الاتصالات حتى في
الفترة التي بلغ فيها تمرد الرحامنة الأوج موصولة لم تنقطع بين مراكش
والجديدة، وظل بوسع الأوروبيين أن يتنقلوا بين المدينتين. بيد أن سعاة
البريد [الرقاصة] كانوا يلاقون صعوبات في المرور، في ما خلا الحامل منهم
للبريد الفرنسي لأنه يكون يحمل معه ظرفاً مكتوباً عليه بالخط العبري قد
اشتمل على مراسلات زعيم التمرد. عدا أن الخليفة (الملازم [كذا!]) الطاهر بن
سليمان، الملقب بـ «بوكدية»، قد كان صديقاً شخصياً لعوننا القنصلي في
مدينة الجديدة الأب الفقيد السيد برودو، الذي ظل لوقت طويل هو الممثل
لفرنسا بكل تفان في هذه المدينة الساحلية.
-4الجبيلات
ولنختم،
بعد هذه الاستطرادات المسهبة بشأن الرحامنة، المسارَ الذي قادنا من أزمور
إلى مراكش، التي تركناها بقرب سيدي أحمد الفضيل وقت أن دخلنا الجبيلات.
وكلمة الجبيلات معناها الجبال الصغيرة؛ وإنه لاسم يطابق مسماه. فهي جبال
قليلة ارتفاع، بحيث لا يتعدى علوها 300 متر عن مستوى السهل. وحقيقة الأمر
أنها مصغَّرات لجبال. وأنت ترى فيها بعض الأودية الصغيرة وبعض الأخناق
الصغيرة، لكنها تخلو مع ذلك من المجازات الشاقة والعسيرة. والذي يبدو أن
الجبيلات من الناحية العسكرية «يمكن اعتبارها بمثابة حاجز حقيقي لا يستهان
به، هي التي لا يبدو من السهل اجتيازها في جميع المواضع. بيد أن الشِّعب
الذي تمر خلاله الطريق من الجديدة إلى مراكش ليس بشديد الخطورة، فالمنحدرات
والمهابط المتخللة له يسهل اجتيازها في سائر الأنحاء والمواضع».
والجبيلات
التي تمتد في صورة مسترسلة في النواحي الشرقية والغربية والشمالية من
مراكش، تتكون من سلسلة أكمات مخروطية شديدة شبه ببعضها، لا يصل بينها ملتقى
واحد كبير، وهي تبدو في صورة جذابة. وإن هذه الأكمات المخروطية المتجاورة
التي تلوح من بعيد متماثلة لا تكاد تختلف في شيء قد اتسمت جميعاً بتنوع
لافت مثير؛ فهي تكاد تكون جميعاً على علو واحد، وتكاد تتخللها جميعاً شُعفٌ
صغيرة قليلة ارتفاع، ولا ترى فيها نتوءاً مستقيماً، كما تخلو من أي قمة
مسننة كما في سلاسل الجبال. وتُرى بعض الأكمات تقوم بمعزل عن تلك السلسلة
من الأكمات المخروطية في بعض تلك الأنحاء وهي تتقدم متفرقة في السهل، وتُرى
أكمات أخرى أقل منها عدداً على هيأة «بردعة» (سرج البغل أو الحمار) أو
كقبعة الشرطي. وعلماء الأرض يرون إلى الجبيلات أنها تشكل ما يمكن اعتباره
مقدمة لجبال الأطلس؛ لكن إذا صح هذا الأمر من الوجهة التي ينظر بها علماء
الأرض، فإن السائح يرى الجبيلات تختلف كثيراً من حيث بنيتها الخارجية عن
جبال الأطلس.
الطريق التي نسلكها الآن نزِهة ومتنوعة المشاهد، فالناظر
يغمره الارتياح لمرأى هذه المنحدرات العجيبة بعد ما كنا نضرب فيه من السهول
الشاسعة الرتيبة. لكن من أسف أن الأدغال تندر في هذه الناحية؛ فهي لا تزيد
عن غيضات من السنط أو «الطلح» وبضع غيضات من العرعر، زيادة على بعض أنواع
الوزال والعنّاب الأزلي. تلك هي كل النباتات الفقيرة التي تطالعنا في
الجبيلات، وأما الأشجار فهي فيها شديدة الندرة.
تضاريس الجبيلات مماثلة
لتضاريس الجبل الأخضر؛ فالكتلة المكونة لها تتألف من النضيد والصلصال
القديم، وهي ذات طبقات منتصبة ومتموجة تكسوها الترسبات العمودية من العصرين
الجوراسي والفجري وقد تعرضت لتفككات قوية. وكانت الجبيلات تشكل في العصر
الميساني، كمثل الجبل الأخضر وهضبة بني مسكين في الشاوية، جزيرة بارزة أمام
الكتلة القارية التي يكونها الأطلس الكبير، وقد كانت تتصل وإياها بمضيق
يقوم على صعيد مدينة مراكش. ولذلك فلا تعدو الجبيلات من الناحية الجيولوجية
أن تكون خاصرة في السلسلة الأطلنتية الكبرى. ومن حولها جميعاً تقوم طبقات
ميسانية تحفها من كل جانب وتنفذ إلى وادي تاساوت، وتصل حتى تاملالت؛ أي
أنها تنتهي إلى الخط الفاصل بين مياه تانسيفت ومياه أم الربيع.
الوصول إلى مراكش
الطريق
اليوم غاصة بالمارة؛ ففي الغد يكون عيد الأضحى، والناس جميعاً يعودون إلى
ذويهم للاحتفال بهذه المناسبة. وقد مررنا بقرب جماعة من الرحمانة، فإذا هم
قد جعلوا ينحون على أحد رجالي، وكان دكالياً، بالشتائم لمرافقته لنا
ويصيحون به قائلين إن دكالة كل شأنهم أن يجلبوا إلى البلاد الكفرة الكلاب.
ثم التقينا بعد ذلك طائفة من «الطلبة» في «نزاهة» [كذا!]؛ وهي جولة يقومون
بها لطلب الصدقات؛ فهم يتسولون للمارة في الطريق، وأشهر أحدهم علامة هي
عبارة عن قطعة قماش بيضاء فهو يرفعها في رأس عصى طويلة. وقد قابلهم رجالنا
بالكثير من التوقير لأن «الطالب» محفوظ القدر حيثما وُجد من البلاد
الإسلامية. وقد كان أولئك الطلبة يومها في عطلة بمناسبة العيد الكبير،
والعادة جارية عندهم على أن يهتبلوا هذه العطل، وهي كثيرة [طوال السنة]،
للخروج في تلك الجولات بغرض التسول.
الدخول إلى مراكش
وكان
لنا توقف لنصف ساعة على مقربة من بئر كان أحد الرعاة يرعى بإزائها قطيعاً
من الماعز والأغنام. ثم واصلنا المسير إذ كنا نستعجل الوصول إلى مراكش في
الصباح الباكر. وإن هي إلا هنيهة حتى لاح لأعيننا، في الساعة الواحدة
وخمسين دقيقة، سهل شاسع مترامي الأطراف تنتصب فيه غابة كثيفة من أشجار
النخيل. وأخذ تتراءى لنا خلال تلك الأشجار ملامح مدينة عظيمة قد انتصبت في
أرجائها منائر كثيرة، وبرزت بينها واحدة هي أكبرها جميعاً؛ إنها مراكش،
مدينة يوسف بن تاشفين، وتلك صومعة الكتبية. لقد بدت لي وسط ديكور بديع من
جبال الأطلس الكبير قد اكتست من الثلوج إهاباً فضياً. ثم تزاحمت ذاكرتي
بفيض من ذكريات التاريخ، فزادت من سحر ذلك المشهد في ناظري. فها هي ذي
أمامي المدينة التي بناها صنهاجة الأشداء الملثمون من بلاد السودان. لقد
بدت لي المدينة، وهي تكنفها أشجار النخيل وفي ذلك السهل الذي تشوي الشمس
تربته الحمراء كأنها قصر عظيم قد نبت وسط واحة! فها هي ذي القمم المكسوة
بالثلوج التي منها نزل المصامدة يذكي حماستهم ابن تومرت، وها هي الأرض التي
كانت مسرحاً للكثير من المعارك، ثم كانت في القرن السادس عشر حصن الإسلام
في مواجهة التهديد المسيحي، وبين هذا النخيل وعلى هذه الأسوار قد تحطمت
محاولات البرتغاليين... إن كل هذه الذكريات التي تهجم علينا والتعب الذي
يستبد بنا من طول الركوب والفضول الذي يأخذ بنفوسنا والغبطة التي تستخفنا
بقرب الوصول إلى نهاية هذه الرحلة، والخيال الذي يجمح بنا في هذا الخضم
الجياش من عناصر الطبيعة وشؤون التاريخ؛ كلها عوامل اجتمعت علينا فكنا بها
نجتاز تلك الواحة يتنازعنا خليط من مشاعر عذبة رائقة تتعذر عن الوصف. وها
إن قافلتنا قد أخذت تشق طريقها تظللها أشجار النخيل، فكنا نجوز سواقي تجري
بماء زلال، وتتخلل تلك الأنحاء حفر سوداء لقنوات الري الباطنية، فيتناهى
إلينا منها خرير المياه. وإذا المارة قد صاروا يزدادون كثرة. ثم جئنا إلى
القنطرة الحجرية العتيقة التي أقامها [أبو يعقوب] يوسف [بن عبد المؤمن]
الموحدي من فوق سرير [وادي] تانسيفت، ومن تحتها يجري خيط ماء دقيق. وها
إننا قد اقتربنا من المدينة، ولم نلبث أن رأينا سوقاً لبيع الأغنام تفيض عن
جنباتها لأجل أن اليوم الذي بعد هو يوم العيد. ثم دخلنا باب الخميس.
وتملكني شعور عارم فياض لمرأى تلك الباب الضخمة المقوسة الخفيضة المظلمة.
وسرت في ممر ملتو قد ازدحم بحشد عظيم من المتسولين، فهم يتوسلون المارة
بصوت أغن، فخيل إليّ أنني قد ارتددت قروناً إلى الوراء، وأننا قد دخلنا،
كما لو بطريق الحلم، عالماً أشد ما يكون اختلافاً عن عالمنا، فليس له به من
صلة أو نسب.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» عائشة الخطابي تحكي...
» الشاوية د البير Chawia del Bir
» غرائب مشاهدات الرحالة القدماء..
» المغرب المنقرض / والتر هاريس
» كتاب الله يستهزئ به
» الشاوية د البير Chawia del Bir
» غرائب مشاهدات الرحالة القدماء..
» المغرب المنقرض / والتر هاريس
» كتاب الله يستهزئ به
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى