دراسات/ كيفية الترجيح د. صالح النهام (1)
صفحة 1 من اصل 1
دراسات/ كيفية الترجيح د. صالح النهام (1)
إن طرق الترجيح كثيرة، ذكرها علماء أصول الفقه (1)، والمحدثون (2)، واعتمدوا عليها لأهميتها في دفع التعارض الواقع بين الأدلة الشرعية، وبما أنها لا تنحصر، والإحاطة بها تحتاج إلى أطروحة كاملة لبيانها؛ لذا أكتفي بذكر أهم وجوه الترجيح، والتي يكون بيانها من خلال عدة اعتبارات:
الاعتبار الأول: الترجيح باعتبار الإسناد
والمراد به طريق الإخبار عن المتن، وقد عد الشوكاني - رحمه الله - اثنين وأربعين نوعا من وجوه الترجيح بين النصوص من جهة السند، وبيَّن أنها كثيرة، وحاصلها أن ما كان أكثر فائدة للظن فهو راجح (3).
ومن هذه الأنواع:
الترجيح بكثرة الرواة
ويقصد بهذا: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما رواته أكثر والآخر رواته أقل، فيقدم ما رواته أكثر؛ لأن احتمال الغلط أو الكذب على الأكثر أبعد من احتمالهما على الأقل، فيقوى الظن برواية الأكثر، والعمل بالأقوى أرجح. وقد قال بذلك جمهور العلماء، وخالفهم الحنفية.
الترجيح بشدة الضبط والحفظ
ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما راويه أشد ضبطا وحفظا، والآخر خلاف ذلك، فتقدم رواية من عُرف بهذه الصفات؛ لأن النفس أعلق وأوثق بصاحب تلك الصفات.
ومثل لذلك، بترجيح ما يرويه مالك بن أنس، عن ابن شهاب الزهري، على ما يرويه شعيب بن أبي حمزة عن ابن شهاب، وسبب تقديم رواية مالك أنه أشد ضبطا وحفظا وإتقانا من شعيب (4).
وأيضا بترجيح رواية عبيدالله بن عمر بن عبدالعزيز، على رواية عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز؛ لأن الشافعي - رحمه الله - قال: «بينهما فضل ما بين الدرهم والدنانير»، والتفضيل لعبيدالله. ثم قال: وهو عندي كاختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة (5).
الترجيح بعلو الإسناد
ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما عالي الإسناد، بمعنى قلة الوسائط، بين الراوي وبين النبي " صلى الله عليه وسلم" ، والآخر كثرت فيه الوسائط، فيقدم العالي؛ لأن احتمال الخطأ يقل كلما قلت الوسائط. وقد قال بذلك جمهور العلماء، خلافا للحنفية، حيث لم يعتبروا قلة الوسائط وكثرتها، وإنما المعتبر فقه الراوي وحفظه (6).
ومثل لذلك، بترجيح إفراد ألفاظ الإقامة على تثنيتها؛ قال الزركشي - رحمه الله -: كقول الحنفي: الإقامة مثنى كالأذان؛ لما روى عامر الأحول، عن مكحول، أن أبا محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: «أن النبي " صلى الله عليه وسلم" علَّمه الأذان والإقامة، وذكر فيه الإقامة مثنى مثنى» (7).
ثم قال - أي الزركشي -: بل هي فرادى؛ لما روى خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» (8). فإن خالدا وعامرا من طبقة واحدة، روى عنهما شعبة، وحديث عامر بينه وبين النبي " صلى الله عليه وسلم" ثلاثة. وخالد بينه وبين النبي " صلى الله عليه وسلم" اثنان.
ويقول أيضا: واعلم أن الترجيح بهذا ظاهر، إذا كان لا يعز وجود مثله، فإن كان فهو مرجوح من هذه الحيثية؛ لأن الترجيح بالأغلب، مقدم على الأندر (9).
الترجيح برواية الأفقه والأعلم
ويقصد بهذا: أن يتعارض حديثان، ويكون راوي أحد هذين الحديثين أفقه من الآخر؛ لأنه أعلم بسبل استنباط الأحكام من أدلتها، وأعرف بما يصلح للاستدلال وما لا يصلح، وما يكون عاما أو خاصا، ومطلقا أو مقيدا، وراجحا أو مرجوحا، وناسخا أو منسوخا.
ومثل لذلك، بترجيح رواية عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: «أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل، ويصوم» (10)؛ على رواية أبي هريرة "رضي الله عنه" : «من أدركه الفجر جنبا فلا يصم» (11)، وسبب تقديم رواية عائشة - رضي الله عنها - كونها أفقه من أبي هريرة رضي الله عنهما.
الترجيح برواية صاحب الواقعة
بمعنى أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما راويه صاحب الواقعة، فيرجح على خلافه. ومثاله: ترجيح حديث ميمونة - رضي الله عنها - حين قالت: «تزوجني رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ونحن حلالان» (12)، على رواية ابن عباس "رضي الله عنه" أنه " صلى الله عليه وسلم" تزوجها وهو محرم (13) .
الترجيح بكون الراوي سمع من غير حجاب
ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون راوي أحدهما سمع الحديث شفاها، بينما الآخر سمعه من وراء حجاب، فتقدم رواية من سمع الحديث شفاها؛ لأنه أبعد عن اللبس، وربما شاهد من قرائن الأحوال، ما ذهبت عن صاحبه (14).
ومثل لذلك، بترجيح حديث القاسم وعروة عن عائشة - رضي الله عنهم-: «الولاء لمن ولي النعمة، وخيرها رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وكان زوجها عبدا» (15)، على رواية الأسود عن عائشة - رضي الله عنهما -: «فاختارت نفسها قال: وكان زوجها حرا» (16)؛ لأن كلا من عروة والقاسم، تيسر لهما من المشاهدة والمشافهة، ما لم يتيسر للأسود؛ لأن عائشة عمة القاسم وخالة عروة؛ فكانا يدخلان عليها من غير حجاب، بينما الأسود كان يسمع كلامها من وراء حجاب (17).
الترجيح برواية من لم تختلف الرواية فيـه
ومعناه: أن يكون أحد الحديثين المتعارضين اختلفت الرواية فيه، بينما الآخر لم تختلف، فيقدم الحديث الذي لم تختلف الرواية فيه؛ لكونه أقرب إلى الضبط، وأبعد عن التردد، وهناك قول يرى تعارض الروايتين فيتساقطان (18).
ومثل لذلك، بترجيح رواية مالك في الموطأ أنه قرأ كتاب عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" في الصدقة، قال: فوجدت فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الصدقة.. وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة، حقتان طروقتا الفحل، فما زاد على ذلك من الإبل ففي كل أربعين، بنت لبون، وفي كل خمسين حقة..» (19)؛ على رواية عمرو بن حزم، أن النبي " صلى الله عليه وسلم" قال: «إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استئنفت الفريضة» (20). بمعنى تُرَد الفرائض إلى أولها.
فحديث عمر "رضي الله عنه" لم تختلف الرواية فيه، ورواته كلهم متفقون على هذا الحكم، بينما حديث عمرو بن حزم اختلفت الرواية فيه، فالمصير إلى حديث عمر أولى؛ ولذا قالوا: إذا تقابلت حجتان، وكان لأحدهما معارض بخلاف الأخرى، فما سلمت تكون أولى كالبينات إذا تقابلت، فما وجد لهما معارض سقطت، وما سلمت من المعارضة ثبتت، فكذلك هنا (21).
الترجيح برواية الأكبر سنا على الأصغر
ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون راوي أحدهما كبيرا والآخر صغيرا، فتقدم رواية الكبير؛ لأنه أقرب إلى الضبط وأكثر احتياطا، فيكون الظن به أقوى؛ ولأن الكبير أفهم للمعاني، وأتقن للألفاظ، وأبعد عن غوائل الاختلاط (22)؛ لأن الغالب، أن يكون الكبير أقرب إلى النبي " صلى الله عليه وسلم" ، حال السماع؛ لقوله " صلى الله عليه وسلم" : «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى» (23)، بمعنى العقلاء، وقيل: البالغون (24).
ومثل لذلك، بترجيح رواية ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «أهل النبي " صلى الله عليه وسلم" بالحج وأهللنا به معه» (25)؛ على رواية أنس "رضي الله عنه" أنه سمع رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يقول: «لبيك عمرة وحجا» (26)؛ وذلك؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان أكبر سنا من أنس، "رضي الله عنه" . وإلى هذا الترجيح ذهب المالكية (27)، وخالفهم الحنفية (28)، فرجحوا حديث أنس "رضي الله عنه" وقالوا: لكثرة ملازمته لرسول الله " صلى الله عليه وسلم" ؛ ولأنه كان خادمه عشر سنين.
الترجيح بروايتي البخاري ومسلم على رواية أحدهما
ويقصد به: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما رواه الشيخان، والآخر رواه أحدهما، فتقدم الرواية المتفق عليها؛ لأنها تتبوأ المرتبة العليا في مراتب الصحيح. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن دواعي رجحان الحديث المتفق عليه أكثر وأظهر من دواعي رجحان الحديث الذي انفرد به أحد الشيخين.
ومثل لذلك، بترجيح حديث عمران بن حصين "رضي الله عنه" أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «خير أمتي قرني...»، وفيه: «ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون» (29). على حديث زيد بن خالد الجهني "رضي الله عنه" أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ أن يشهد قبل أن يستشهد» (30)؛ وذلك لاتفاق صاحبي الصحيح على حديث عمران، وانفراد مسلم بحديث زيد بن خالد، رضي الله عنهم أجمعين (31).
وقد خالف جمهور العلماء مسلك الترجيح في هذا المثال، وأخذوا بمسلك الجمع بين الحديثين؛ وذلك بحمل كل منهما على بعض المعاني دون بعض، عملا بمقتضى قاعدة التنويع، ويكون: أن الشهادة المحمودة الممدوح صاحبها هي التي يخبر صاحبها بشهادته ولا يعلم بها الذي هي له، أو يأتي بها الإمام فيشهد بها عنده. بينما الشهادة المذمومة مختصة بالمبادر بها، فهي في حق آدمي هو عالم بها قبل أن يسألها صاحبها (32)، وقال الإمام النووي - رحمه الله - عن هذا المسلك - أي الجمع بين الحديثين - «هو مذهب أصحابنا ومالك وجماهير العلماء، وهو الصواب» (33).
ويضاف إلى الترجيحات المذكورة: الترجيح باعتبار نفس الرواية كترجيح الحديث المتواتر على الحديث المشهور، والمشهور على خبر الآحاد، ومرسل التابعي على مرسل تابع التابعي؛ لأن الظاهر من التابعي أن لا يروي عن غير الصحابي، والصحابة رضوان الله عليهم عدول بما يثبت من ثناء رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وتزكيته لهم في ظاهر الكتاب والسنة، وهناك ترجيحات كثيرة ذكرت في المطولات ككتاب الأحكام للآمدي، والبحر المحيط للزركشي وغيرها، وحاصلها أن ما كان أكثر إفادة للظن فهو راجح، فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات، فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها.
الهوامش
1- انظر: مختصر ابن الحاجب: (2/310 وما بعدها)، الإحكام للآمدي: (3/180)، البحر المحيط: (6/149-179)، إرشاد الفحول: (ص:462).
2- انظر: الاعتبار للحازمي: (ص:11-23)، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي: (ص:474-478).
3- إرشاد الفحول: (ص:245).
4- انظر: الاعتبار: (ص:11).
5- انظر: البحر المحيط للزركشي: (6/56).
6- انظر: شرح الكوكب المنير: (4/649-650)، سلم الوصول شرح نهاية السول: ( 4/476).
7- أخرجه أبوداود برقم: (502).
8- أخرجه البخاري في صحيحه برقم: (1،4،5،250)، ومسلم في صحيحه برقم: (2، 3).
9- انظر: البحر المحيط: (6/152). الإبهاج: (3/219).
10- أخرجه البخاري برقم: (1926)، ومسلم برقم: (1109).
11- أخرجه مسلم برقم: (1109).
12- أخرجه أبوداوود برقم: (1843)
13- المستدرك الحاكم برقم: (6797)
14- انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني: (2/444).
15- أخرجه مسلم برقم: (1504).
16- أخرجه البخاري برقم: (6758).
17- انظر: معالم السنن: (3/257)، فتح الباري: (9/319).
18- كتاب التلخيص في أصول الفقه: (2/445).
19- أخرجه مالك في الموطأ برقم: (23)
20- أخرجه الحاكم في المستدرك: (1/395-397)، والدارقطني: (2/117).
21- انظر: الاعتبار بتصرف: (ص:15-16).
22- انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: (2/311)، اللمع للشيرازي: (ص:46)، شرح الكوكب المنير: (4/647)، إرشاد الفحول: (ص:461).
23- أخرجه مسلم برقم: (122)، وأبوداود برقم: (674).
24- وقال ذلك النووي في شرحه لمسلم: (4/398).
25- أخرجه مسلم برقم: (1211)، وأبوداود برقم: (1777).
26- أخرجه مسلم برقم: (1232)، وأبوداود برقم: (1795).
27- انظر: حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: (2/27-28).
28- انظر: فتح القدير: (2/411-412).
29- أخرجه البخاري برقم: (6428). ومسلم برقم: (2535).
30- أخرجه مسلم برقم: (1719). وأبوداود برقم: (3596).
31- انظر: فتح الباري: (5/259).
32- شرح النووي على صحيح مسلم: (16/87).
33- انظر: إرشاد الفحول: (ص:278).
الاعتبار الأول: الترجيح باعتبار الإسناد
والمراد به طريق الإخبار عن المتن، وقد عد الشوكاني - رحمه الله - اثنين وأربعين نوعا من وجوه الترجيح بين النصوص من جهة السند، وبيَّن أنها كثيرة، وحاصلها أن ما كان أكثر فائدة للظن فهو راجح (3).
ومن هذه الأنواع:
الترجيح بكثرة الرواة
ويقصد بهذا: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما رواته أكثر والآخر رواته أقل، فيقدم ما رواته أكثر؛ لأن احتمال الغلط أو الكذب على الأكثر أبعد من احتمالهما على الأقل، فيقوى الظن برواية الأكثر، والعمل بالأقوى أرجح. وقد قال بذلك جمهور العلماء، وخالفهم الحنفية.
الترجيح بشدة الضبط والحفظ
ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما راويه أشد ضبطا وحفظا، والآخر خلاف ذلك، فتقدم رواية من عُرف بهذه الصفات؛ لأن النفس أعلق وأوثق بصاحب تلك الصفات.
ومثل لذلك، بترجيح ما يرويه مالك بن أنس، عن ابن شهاب الزهري، على ما يرويه شعيب بن أبي حمزة عن ابن شهاب، وسبب تقديم رواية مالك أنه أشد ضبطا وحفظا وإتقانا من شعيب (4).
وأيضا بترجيح رواية عبيدالله بن عمر بن عبدالعزيز، على رواية عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز؛ لأن الشافعي - رحمه الله - قال: «بينهما فضل ما بين الدرهم والدنانير»، والتفضيل لعبيدالله. ثم قال: وهو عندي كاختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة (5).
الترجيح بعلو الإسناد
ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما عالي الإسناد، بمعنى قلة الوسائط، بين الراوي وبين النبي " صلى الله عليه وسلم" ، والآخر كثرت فيه الوسائط، فيقدم العالي؛ لأن احتمال الخطأ يقل كلما قلت الوسائط. وقد قال بذلك جمهور العلماء، خلافا للحنفية، حيث لم يعتبروا قلة الوسائط وكثرتها، وإنما المعتبر فقه الراوي وحفظه (6).
ومثل لذلك، بترجيح إفراد ألفاظ الإقامة على تثنيتها؛ قال الزركشي - رحمه الله -: كقول الحنفي: الإقامة مثنى كالأذان؛ لما روى عامر الأحول، عن مكحول، أن أبا محيريز حدثه، أن أبا محذورة حدثه: «أن النبي " صلى الله عليه وسلم" علَّمه الأذان والإقامة، وذكر فيه الإقامة مثنى مثنى» (7).
ثم قال - أي الزركشي -: بل هي فرادى؛ لما روى خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» (8). فإن خالدا وعامرا من طبقة واحدة، روى عنهما شعبة، وحديث عامر بينه وبين النبي " صلى الله عليه وسلم" ثلاثة. وخالد بينه وبين النبي " صلى الله عليه وسلم" اثنان.
ويقول أيضا: واعلم أن الترجيح بهذا ظاهر، إذا كان لا يعز وجود مثله، فإن كان فهو مرجوح من هذه الحيثية؛ لأن الترجيح بالأغلب، مقدم على الأندر (9).
الترجيح برواية الأفقه والأعلم
ويقصد بهذا: أن يتعارض حديثان، ويكون راوي أحد هذين الحديثين أفقه من الآخر؛ لأنه أعلم بسبل استنباط الأحكام من أدلتها، وأعرف بما يصلح للاستدلال وما لا يصلح، وما يكون عاما أو خاصا، ومطلقا أو مقيدا، وراجحا أو مرجوحا، وناسخا أو منسوخا.
ومثل لذلك، بترجيح رواية عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: «أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل، ويصوم» (10)؛ على رواية أبي هريرة "رضي الله عنه" : «من أدركه الفجر جنبا فلا يصم» (11)، وسبب تقديم رواية عائشة - رضي الله عنها - كونها أفقه من أبي هريرة رضي الله عنهما.
الترجيح برواية صاحب الواقعة
بمعنى أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما راويه صاحب الواقعة، فيرجح على خلافه. ومثاله: ترجيح حديث ميمونة - رضي الله عنها - حين قالت: «تزوجني رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ونحن حلالان» (12)، على رواية ابن عباس "رضي الله عنه" أنه " صلى الله عليه وسلم" تزوجها وهو محرم (13) .
الترجيح بكون الراوي سمع من غير حجاب
ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون راوي أحدهما سمع الحديث شفاها، بينما الآخر سمعه من وراء حجاب، فتقدم رواية من سمع الحديث شفاها؛ لأنه أبعد عن اللبس، وربما شاهد من قرائن الأحوال، ما ذهبت عن صاحبه (14).
ومثل لذلك، بترجيح حديث القاسم وعروة عن عائشة - رضي الله عنهم-: «الولاء لمن ولي النعمة، وخيرها رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وكان زوجها عبدا» (15)، على رواية الأسود عن عائشة - رضي الله عنهما -: «فاختارت نفسها قال: وكان زوجها حرا» (16)؛ لأن كلا من عروة والقاسم، تيسر لهما من المشاهدة والمشافهة، ما لم يتيسر للأسود؛ لأن عائشة عمة القاسم وخالة عروة؛ فكانا يدخلان عليها من غير حجاب، بينما الأسود كان يسمع كلامها من وراء حجاب (17).
الترجيح برواية من لم تختلف الرواية فيـه
ومعناه: أن يكون أحد الحديثين المتعارضين اختلفت الرواية فيه، بينما الآخر لم تختلف، فيقدم الحديث الذي لم تختلف الرواية فيه؛ لكونه أقرب إلى الضبط، وأبعد عن التردد، وهناك قول يرى تعارض الروايتين فيتساقطان (18).
ومثل لذلك، بترجيح رواية مالك في الموطأ أنه قرأ كتاب عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" في الصدقة، قال: فوجدت فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الصدقة.. وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة، حقتان طروقتا الفحل، فما زاد على ذلك من الإبل ففي كل أربعين، بنت لبون، وفي كل خمسين حقة..» (19)؛ على رواية عمرو بن حزم، أن النبي " صلى الله عليه وسلم" قال: «إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استئنفت الفريضة» (20). بمعنى تُرَد الفرائض إلى أولها.
فحديث عمر "رضي الله عنه" لم تختلف الرواية فيه، ورواته كلهم متفقون على هذا الحكم، بينما حديث عمرو بن حزم اختلفت الرواية فيه، فالمصير إلى حديث عمر أولى؛ ولذا قالوا: إذا تقابلت حجتان، وكان لأحدهما معارض بخلاف الأخرى، فما سلمت تكون أولى كالبينات إذا تقابلت، فما وجد لهما معارض سقطت، وما سلمت من المعارضة ثبتت، فكذلك هنا (21).
الترجيح برواية الأكبر سنا على الأصغر
ومعناه: أن يتعارض حديثان، ويكون راوي أحدهما كبيرا والآخر صغيرا، فتقدم رواية الكبير؛ لأنه أقرب إلى الضبط وأكثر احتياطا، فيكون الظن به أقوى؛ ولأن الكبير أفهم للمعاني، وأتقن للألفاظ، وأبعد عن غوائل الاختلاط (22)؛ لأن الغالب، أن يكون الكبير أقرب إلى النبي " صلى الله عليه وسلم" ، حال السماع؛ لقوله " صلى الله عليه وسلم" : «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى» (23)، بمعنى العقلاء، وقيل: البالغون (24).
ومثل لذلك، بترجيح رواية ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «أهل النبي " صلى الله عليه وسلم" بالحج وأهللنا به معه» (25)؛ على رواية أنس "رضي الله عنه" أنه سمع رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يقول: «لبيك عمرة وحجا» (26)؛ وذلك؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان أكبر سنا من أنس، "رضي الله عنه" . وإلى هذا الترجيح ذهب المالكية (27)، وخالفهم الحنفية (28)، فرجحوا حديث أنس "رضي الله عنه" وقالوا: لكثرة ملازمته لرسول الله " صلى الله عليه وسلم" ؛ ولأنه كان خادمه عشر سنين.
الترجيح بروايتي البخاري ومسلم على رواية أحدهما
ويقصد به: أن يتعارض حديثان، ويكون أحدهما رواه الشيخان، والآخر رواه أحدهما، فتقدم الرواية المتفق عليها؛ لأنها تتبوأ المرتبة العليا في مراتب الصحيح. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن دواعي رجحان الحديث المتفق عليه أكثر وأظهر من دواعي رجحان الحديث الذي انفرد به أحد الشيخين.
ومثل لذلك، بترجيح حديث عمران بن حصين "رضي الله عنه" أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «خير أمتي قرني...»، وفيه: «ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون» (29). على حديث زيد بن خالد الجهني "رضي الله عنه" أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ أن يشهد قبل أن يستشهد» (30)؛ وذلك لاتفاق صاحبي الصحيح على حديث عمران، وانفراد مسلم بحديث زيد بن خالد، رضي الله عنهم أجمعين (31).
وقد خالف جمهور العلماء مسلك الترجيح في هذا المثال، وأخذوا بمسلك الجمع بين الحديثين؛ وذلك بحمل كل منهما على بعض المعاني دون بعض، عملا بمقتضى قاعدة التنويع، ويكون: أن الشهادة المحمودة الممدوح صاحبها هي التي يخبر صاحبها بشهادته ولا يعلم بها الذي هي له، أو يأتي بها الإمام فيشهد بها عنده. بينما الشهادة المذمومة مختصة بالمبادر بها، فهي في حق آدمي هو عالم بها قبل أن يسألها صاحبها (32)، وقال الإمام النووي - رحمه الله - عن هذا المسلك - أي الجمع بين الحديثين - «هو مذهب أصحابنا ومالك وجماهير العلماء، وهو الصواب» (33).
ويضاف إلى الترجيحات المذكورة: الترجيح باعتبار نفس الرواية كترجيح الحديث المتواتر على الحديث المشهور، والمشهور على خبر الآحاد، ومرسل التابعي على مرسل تابع التابعي؛ لأن الظاهر من التابعي أن لا يروي عن غير الصحابي، والصحابة رضوان الله عليهم عدول بما يثبت من ثناء رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وتزكيته لهم في ظاهر الكتاب والسنة، وهناك ترجيحات كثيرة ذكرت في المطولات ككتاب الأحكام للآمدي، والبحر المحيط للزركشي وغيرها، وحاصلها أن ما كان أكثر إفادة للظن فهو راجح، فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات، فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها.
الهوامش
1- انظر: مختصر ابن الحاجب: (2/310 وما بعدها)، الإحكام للآمدي: (3/180)، البحر المحيط: (6/149-179)، إرشاد الفحول: (ص:462).
2- انظر: الاعتبار للحازمي: (ص:11-23)، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي: (ص:474-478).
3- إرشاد الفحول: (ص:245).
4- انظر: الاعتبار: (ص:11).
5- انظر: البحر المحيط للزركشي: (6/56).
6- انظر: شرح الكوكب المنير: (4/649-650)، سلم الوصول شرح نهاية السول: ( 4/476).
7- أخرجه أبوداود برقم: (502).
8- أخرجه البخاري في صحيحه برقم: (1،4،5،250)، ومسلم في صحيحه برقم: (2، 3).
9- انظر: البحر المحيط: (6/152). الإبهاج: (3/219).
10- أخرجه البخاري برقم: (1926)، ومسلم برقم: (1109).
11- أخرجه مسلم برقم: (1109).
12- أخرجه أبوداوود برقم: (1843)
13- المستدرك الحاكم برقم: (6797)
14- انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني: (2/444).
15- أخرجه مسلم برقم: (1504).
16- أخرجه البخاري برقم: (6758).
17- انظر: معالم السنن: (3/257)، فتح الباري: (9/319).
18- كتاب التلخيص في أصول الفقه: (2/445).
19- أخرجه مالك في الموطأ برقم: (23)
20- أخرجه الحاكم في المستدرك: (1/395-397)، والدارقطني: (2/117).
21- انظر: الاعتبار بتصرف: (ص:15-16).
22- انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: (2/311)، اللمع للشيرازي: (ص:46)، شرح الكوكب المنير: (4/647)، إرشاد الفحول: (ص:461).
23- أخرجه مسلم برقم: (122)، وأبوداود برقم: (674).
24- وقال ذلك النووي في شرحه لمسلم: (4/398).
25- أخرجه مسلم برقم: (1211)، وأبوداود برقم: (1777).
26- أخرجه مسلم برقم: (1232)، وأبوداود برقم: (1795).
27- انظر: حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: (2/27-28).
28- انظر: فتح القدير: (2/411-412).
29- أخرجه البخاري برقم: (6428). ومسلم برقم: (2535).
30- أخرجه مسلم برقم: (1719). وأبوداود برقم: (3596).
31- انظر: فتح الباري: (5/259).
32- شرح النووي على صحيح مسلم: (16/87).
33- انظر: إرشاد الفحول: (ص:278).
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» دراسات/ كيفية الترجيح د. صالح النهام (2)
» معارك ضارية حول القرآن
» صالح
» خالد صالح
» قصص الانبياء :محياوي عبد الغني
» معارك ضارية حول القرآن
» صالح
» خالد صالح
» قصص الانبياء :محياوي عبد الغني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى