العولمة وحوار الثقافات..
صفحة 1 من اصل 1
العولمة وحوار الثقافات..
ملف: فـي عوائق الحوار بين الثقافات.. جاهلية الأزمنة المعاصرة وجبروتها
كمال عبد اللطيف
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: العولمة وحوار الثقافات..
نفترض بناء على ما سبق أهمية التواصل والحوار، ذلك أن القضايا الكبرى التي تشغل بال العالم تعتبر جزءا مؤسساً لنظام وجودنا في العالم، ونحن معنيون بها لأن كثيراً من مظاهرها تنعكس على حاضرنا ومستقبلنا، لهذا نحرص أن يكون لانخراطنا في مواجهتها بتعاون مع الآخرين لعلنا نتمكن من التقليص من خطورتها، إذا لم نتمكن من تجاوزها بإيجاد الحلول والمخارج المناسبة لها.
نريد أن نكتفي في هذه الورقة بالتوقف أمام بعض عوائق الحوار، أي أننا نريد أن نفكر في سياقات الراهن وماتولده من مضاعفات تحول بيننا وبين القيام بالحوار المطلوب. وسنكتفي برصد الملامح الكبرى لجوانب من الملابسات المؤطرة اليوم لحال العالم في مطلع الألفية الثالثة.
التطرف السياسي والديني، الإرهاب المتبادل
يتسم الصراع السياسي الدائر اليوم في العالم المعاصر بسمات متعددة، تكشف عن آليات جديدة في الحرب والسياسة، وآليات جديدة في كيفيات تدبير وإدارة الصراع. يتعلق الأمر بمظاهر الغلو الديني السائدة في كثير من العقائد، وهي مظاهر أصبحت متخطيةً للحدود وعابرة للقارات.
ضمن هذا الإطار يستعمل الإسلام في جبهة العمل السياسي والحربي باعتباره الوسيلة الأمضى لمغالبة « جاهلية الأزمنة المعاصرة وجبروتها ». ومقابل ذلك يعمل منظرو وساسة القوة في الولايات المتحدة الأمريكية على ترسيخ هذه التصورات ببناء معطيات ايديولوجية ترى أن الخطر الجديد الذي أصبح يهدد العالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، يتمثل في التيارات التي ترفع شعار استعادة المشروع الإسلامي، ممثلاً في دولة الشريعة الإسلامية، المناهضة في تصورهم لقيم السياسة الوضعية والتاريخية.
وإذا كانت تيارات الغلو الديني في تصورنا لاتعرف ما تقول عندما توظف مفهوم الجاهلية لوصف حقبة هامة في تاريخ الإنسانية، نقصد بذلك لحظة الأزمنة المعاصرة بكل مكاسبها الكبرى في المعرفة والعلم والتقنية، فإن منظري الغرب الأوروبي والأمريكي لا يهتمون بسيرورة تطور الإسلام في تفاعلاته القوية مع روح ورياح الأزمنة الحديثة والمعاصرة، كما لا يهتمون بتعدد الرؤية الإسلامية واختلافها عن تيارات التطرف الإسلامي المتحزبة.
تؤطر الصراع السياسي والاقتصادي والثقافي القائم في العالم اليوم، جملة من الشروط التاريخة الموضوعية، أما عملية تحويله في أدبيات التطرف الديني إلى صراع محكوم بآليات الحروب الصليبية، المتمثلة في «الجهاد» و«الحرب العادلة»، فإنه لا يساعد في نظرنا على إدراك مختلف أبعاده وتجلياته، ولعل هذا من أسباب عودة الإنسانية المتصارعة إلى لغة لا علاقة لها بروح الصراع الدائر اليوم في العالم.
صحيح أن منطق الحرب لا يهتم كما تُعلِّمنا ذلك دروس التاريخ، لا بالإتساق النظري، ولا بالتفكير العميق في أسئلة السياسة والتاريخ، وأن مغامرة الصراع بالوسائل الحربية تدفع إلى توظيف كل ما يتيح إمكانية تكسير قوة الخصم، إلا أن المسار الصراعي الذي اتخذته كثير من بؤر الصراع في العالم في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، يتجه لتركيب أنماط من الأسلحة والمعارك أقل ما يمكن أن توصف به أنها مرعبة ومدمرة. فقد أصبحنا نشاهد اليوم في حروبنا القائمة في أمكنة عديدة من العالم، عمليات تقويض عنيفة لكثير من القيم التي بنتها التوافقات والمواثيق الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وطيلة النصف الثاني من القرن العشرين.
نتجه هنا لتوضيح جوانب من الحرب المعلنة بين بعض تيارات التطرف الإسلامي، وسياسات التطرف التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية. إن مظاهر هذه الحرب المعلنة والمشخصة في وقائع وأحداث، تقدم كثيراً من العناصر المساعدة على إدراك أفضل لبنية الصراع وآلياته الحربية والسياسية والثقافية. بل إن إرادة الهيمنة الأمريكية على العالم، وقد أصبحت جليةً بعد نهاية الحرب الباردة، تقدم سواء بدعمها اللامشروط للوجود الصهيوني في المنطقة العربية، أو باختياراتها الاستراتيجية المعادية لقيم التحرر والاستقلال في مناطق كثيرة من العالم، صوراً مساعدة في تشخيص مظاهر عدوانيتها. كما أن شكل مواجهتها للإرهاب في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر، واحتلالها للعراق اليوم، انطلاقاً من مبرر امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وتهديده للأمن في العالم، يقدمان الصور الأبرز في مسلسل ما تطلق عليه الإدارة الأمريكية «مواجهة الإرهاب في كل مكان»، وذلك بإعلان حروب «استباقية» قادرة في تصورها المنفعل على كسر شوكة «الإرهاب» وتجفيف منابعه. وقد نتج عن هذه الممارسات التي تجاوزت الشرعية الدولية، واستندت إلى منطق القوة وآلة الحرب، جملة من المآزق والمآسي التي نجد اليوم صعوبة كبيرة في تصور كيفية الخروج منها، والتقليص من حدة آثارها المدمرة..
نكتشف في الحروب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في مناطق عديدة من العالم نمطاً من المواجهة الشرسة بين لغتين متقاربتين: لغة المحافظين الجدد من ساسة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي لغة مشدودة من جهة إلى منطق المصلحة الأمريكية، والقوة الأمريكية، دون عناية بالمعايير والقوانين التي يأخذ بها المنتظم الدولي، وتعمل بها مؤسساته، إضافة إلى استخدامها لمنطق في الحرب معادٍ لقيم التاريخ، قيم التحرر والإستقلال والحوار. فقد أصبحت أمريكا تعتبر نفسها القطب الدولي الأوحد القادر على ترتيب الملامح العامة لنظام العالم، وتصنف أوروبا في خانة القارة العجوز العاجزة.
وتستند الولايات المتحدة الأمريكية في تصوراتها التي عرضنا إلى جملة من العقائد القطعية الصارمة، وجملة من الأحكام المؤسسة على ثنائيات متقاطعة لاعلاقة بينها وبين ديناميات التاريخ الحية والجدلية. أما اللغة الثانية التي يستعملها الطرف الثاني المعادي للغرب الأمريكي، فإنها لغة التوظيف السياسي والأسطوري لتصورٍ محدد للإسلام، تصورٍ تؤسسه تيارات التطرف بطريقة لاعلاقة بينها وبين مرونة المنظومة الإسلامية في قواعدها النظرية الكبرى والعامة، وفي الروح التاريخية التي اتخذت عبر مراحل تاريخ الاسلام..
إن العودة إلى استعمال مفهوم «الحرب العادلة» المرادف لحروب «الجهاد» يجعلنا أمام أشكال من تفجير الذات وتفجير العالم باسم خلاصٍ مفترضٍ ومتخيل . لقد أصبح العالم هنا يتكلم لغة تستبعد كل إمكانية للحوار والتواصل، ومعنى هذا أننا أصبحنا نواجه أبواباً موصدة، وأن الحوار لم يعد ممكناً .. ويعود بنا هذا الأمر إلى درجة من الحيوانية أقل ما يمكن أن توصف به أنها تُشرِع للفوضى المطلقة، فقد تخلينا عن الحق الوضعي، وأصبحنا ننطق بلغة «حالة الطبيعة»، حالة التوحش الجماعي الأعمى المولِّد للفتنة والإقتتال..
بناء على ما سبق تصبح ظاهرة التطرف الديني والسياسي عالميةً، ومحكومةً في مستوى منطق الخطاب بآليات متقاربةٍ إن لم تكن واحدة، آليات تعتمد لغة التجييش الأسطورية، النازعةِ نحو تركيب مفاهيم الحرب وألغامه النظرية المعزِّزة والداعمة لأسلحة الألغام المفجِّرة لكل مابناه الإنسان بِكدِّه وعقلانيته وكفاءاته في العمل والإبداع. وقد عملت المظاهر المتزايدة للعولمة، كما ساهمت تجلياتها الإعلامية في إضفاء طابعٍ خاص على هذه الظاهرة في مختلف الأبعاد التي اتخذت في السنوات الأخيرة، بل إن بعض ملامحها تدفعنا إلى إعادة النظر في نظام القيم التي رَكَّب الإنسان طيلة تاريخه.. وفي العمليات الانتحارية الجديدة التي تُحوِّل الآدميين إلى أحزمة من المتفجرات صانعةٍ للمآسي، ومدعمةٍ لدوائر الحقد الأعمى، ما يقدم الدليل على أننا أمام صور من الرعب غير معهودةٍ ولامسبوقةٍ في تاريخ المجتمعات الإنسانية، صُورٍ تدعو البشرية إلى التفكير في سُبُلِ الخلاص التاريخية والعقلانية..
وفي هذا السياق، نحن نتصور أن بعض الخطابات الساعية إلى فهم الظاهرة المذكورة وتحليلها، قد ساهمت بدورها بأحكامها القاطعة ومواقفها الإنفعالية، في مزيد من تأجيج آليات الصراع ومنحها أبعاداً لا حصر لها، وهو الأمر الذي يغذي في نهاية المطاف أنماط المواجهة العنيفة الحاصلة اليوم في مناطق كثيرة من العالم، حيث تُزهَقُ أرواح الأبرياء بكثير من الحقد والهمجية.
وإذا كنا نجد صعوبة في تفسير أسباب انتشار واتساع مظاهر التطرف الديني السياسي، والتطرف السياسي الديني في العالم، فإننا نستطيع مع ذلك بناء على جملة من المعايير والمؤشرات المساعدة في فهمَ جوانب أساسيةٍ مما جرى ويجري، سواء داخل بنياته وعلائقه المحلية والإقليمية، أو داخل دائرة الفضاء الدولي المعولم.
صحيح أننا أمام ظواهر تاريخية مركبة ومعقدة، ظواهر يصعب حصر مختلف العوامل المساهمة في تشكلها وإعادة تشكلها، إلا أننا نفترض بناء على مقدمات الفكر التاريخي ومنطلقات المعرفة السياسية الحديثة والمعاصرة التي حددنا بعض ملامحها في المقدمات النظرية العامة لبحثنا، أنه بإمكاننا أن نساهم في بناء بعض العناصر النظرية التي تسمح بمقاربةٍ أكثر تاريخية لمعطياتها ونتائجها.
إننا نتصور أن استحضار اللغة الدينية في الخطابات السياسية، سواء في العالم الإسلامي أو في العالمين المسيحي واليهودي، يدعونا إلى عدم التخلي عن ممارسة النقد التاريخي والوضعي للخطابات الدينية. كما أن لغة التطرف السياسية العقائدية المتبعة في بعض السياسات هنا وهناك، تعيدنا إلى منطق في النظر والعمل السياسيين حصل تجاوزهما في أزمنة خلت. ومعنى هذا أن معاركنا المشتركة في التحديث السياسي، وفي تعميق درجات استيعابنا وتطويرنا لقيم التنوير ما تزال متواصلةً، بل وما تزال مطلوبة بصيغ وأساليب جديدة، لعلنا نتمكن من بناء وإعادة بناء الوسائل التي تتيح لنا تجاوز منطق العقائد النصية المغلقة في مجال العمل السياسي، من أجل فتح الأبواب أمام لغة سياسية أكثر وفاء لقيم العقل والعدل والتوازن، وهي القيم المشتركة التي نفترض أن إنسانية الحاضر مطالبةٌ بإعادة تركيب قواعدها العامة، بروح وضعية مُسلِّمةٍ بأولوية التعاقد والتوافق، وأهمية التآزر والتعاون في مجال العلاقات الدولية، مع لزوم الإستفادة من المعطيات الجديدةِ الموصولة بهذا المجال والمتولدة في التاريخ.
وإذا كانت الملاحظة السابقة تتصل أساساً بسياسات التطرف العقائدي المحافظة، كما تبلورت في الاختيارات السياسية الأمريكية بالذات، فإن مواجهة مظاهر الغلو في التعامل مع التجربة الروحية في الإسلام، تقتضي مواصلَةَ معركة الحداثة والتحديث السياسي في الفكر العربي الإسلامي، وفي واقع المجتمعات الإسلامية، معركةَ فتحِ باب الاجتهاد على مصراعيه دون خوف ولا تردد، انطلاقاً من أن مستقبل الإسلام لا يمكن فصله عن مطلب الاجتهاد، الذي يعني أولاً وقبل كل شيء الانفتاح على مكاسب المعرفة العصرية ومنجزاتها..
نتصور إذن أن بناء علاقة مستوعبةٍ لمتغيرات العالم، تتطلب منا مزيداً من بناء وترسيخ قيم الحداثة في الفكر وفي السلوك، وذلك بمواصلة معاركنا في مجالات الإصلاح الديني والثقافي والسياسي، وفي مجال بناء مشروع في التوحد القومي التاريخي والديمقراطي، بهدف تمثل قيم الأزمنة الحديثة وتجارب التاريخ المعاصر..
لا يعني هذا أننا مطالبون بنسخ واستعارة قيم الآخرين، كما أنه لا يعني التبعية والخضوع والإمتثال لإرادة القوي والأقوى، ولا تقليد الغالب بالعبارة الخلدونية التي تشير إلى وَلَعِ المغلوبِ بتقليد الغالب.. بل إن ما نحن بصدد التفكير فيه ورسم معالِمهِ، يعني أولاً وقبل كل شيء، استيعاب ما هو متاح اليوم للبشرية جمعاء، ونقصد بذلك قيم المعرفة والعلم والسياسة والاقتصاد، المنظور إليها باعتبارها مُحصلةً لتاريخٍ مشترك. ذلك أن مكاسب الحضارات تعكس كما تُعلِّمنا ذلك دروس التاريخ أشكالاً من المثاقفة يصعب فيها نفي الطابع المتداخل لجهود البشر المشتركة في التاريخ، حيث تساهم الحضارات المتعاقبةُ في الزمان، في رَفْدِ بعضها البعض داخل سياق الصيرورة التاريخية لأفعال الإبداع والإنجاز المتناسِلَةِ داخل دائرة الزمان.
لكننا نتصور هنا، أن روح المبدأ المتعلق بمساعي الإنفتاح على الفكر المعاصر ومكاسب الحضارة المعاصرة، في مختلف تجلياتها التاريخية والنقدية، يتضمن في العمق نوعاً من الإرادة الرامية إلى إنجاز نوع من التصالح المطلوب مع ذاتنا التاريخية في تحولها وتغيرها ومعنى هذا أن انخراط ثقافتنا في زمن الحداثة ومابعدها، يعني التفكير والمساهمة في مواجهة التحديات المشتركة القائمة بيننا وبين الآخرين في كل مكان، ليس فقط مع الغرب بل مع كل الثقافات التي تشبعت بالفكر الحداثي، وعملت انطلاقاً من تاريخها المحلي وأسئلتها الخاصة على دعم مقدمات الثقافة الحداثية، بالصورة التي تُرَسِّخها وتُعزِّز مكانتها في الواقع وفي الأذهان...
فقد شكل انخراطنا القسري في الأزمنة الحديثة والمعاصرة عائقاً من عوائق بلوغ عملية التصالح الضرورية، وشكلت علامات التأخر التاريخي ومعطيات الظاهرة الاستعمارية بمختلف الجروح التي وَشَمَتْ بها جسدنا التاريخي، حاجزاً حال بيننا وبين الإنطلاق في تركيب ملامح ذاتنا الجديدة، فنتج عن ذلك مزيدٌ من ترسيخ كثيرٍ من مظاهر وآليات المحافظة والإرتباك والانكفاء على الذات وعلى حصونها العتيقة، فتأرجحت خطانا، وراوحنا السير في المكان نفسه دون حسم ولا إقدام، وهو الأمر الذي ساهم في تعميق كثير من مظاهر تأخرنا التاريخي المركب والعام.
في هذا السياق، نحن نعتبر أن تواصلاً إيجابياً مع العالم في موضوع مواجهة إشكالات الغلو والتطرف في العقائد والسياسات، يفترض أولاً وقبل كل شيء، تحقيق وعي ذاتي مستوعبٍ للمآل العربي، ومؤمنٍ بإمكانية إعادة بناء مقوماتنا التاريخية في ضوء مكاسب الحاضر الكوني في أبعاده المختلفة. إن نجاحنا في بلوغ مرامي النهضة والتقدم واستكمال التحرير، يعتمد على كفاءتنا في تحقيق مطلب الإدراك الجيد لذاتنا المتحولةِ في الزمانِ بحكم أفعال الزمانِ. فلا وجود في نظرنا لذاتٍ مغلقة، ولا لهويةٍ مكتملة، فالهوية في التاريخ كما نفهمها صيرورةٌ وفعلٌ، إنها دينامية تاريخية مفتوحة، وتنميطاتها التاريخية لا ينبغي أن تصبح قيوداً، إنها مجرد لحظات في سيرورة لا تكتمل ولا تتوقف، وسِجلاَّت التاريخ المعروفة تقدم أكبر دليل على رحلة التحول المؤسِّسة للهويات في التاريخ.
إن بلوغ عتبة التصالح مع الذات استناداً إلى تمثل مكاسب التاريخ المعاصر في الفكر وفي الحياة، يحدد في نظرنا الخطوة الأساس لبناء تواصلٍ منتج، حيث تصبح محتويات لغات التواصل ومؤسساته مُحملةً برموز متكافئةٍ، فتتقلص درجات التنافي والتنابذ. ونصبح أمام مؤشرات ضرورية في باب التواصل مع الآخرين في العالم، خدمةً للمصالح والأهداف المشتركة التي يُسطرها الجميع، ويتوافق عليها الجميع، بناءً على سُلَّم من القيم والمبادئ المحدَّدة في صورة قواسم مشتركة مقبولةٍ من الجميع.. أن تحقق هذا الأمر يبدو اليوم مطلباً بعيد المنال، لكنه سيظل في نظرنا أفقاً يتطلع الجميع لبلوغه، لتخطي أهوال الحروب التي تتخذ اليوم أقنعةً لا حصر لها، مولدةً مآسٍ لا بداية ولا نهاية لها..
لا نستطيع مواجهةَ مظاهر العولمة بالخطاب الرافض لها وبصورة مطلقة، ففي التاريخ لا تُصنع الوقائع ولا تحصلُ المكاسبُ بالمواقف المكتفية بالرفضِ دونَ بحثٍ عن البدائل والممكنات الأخرى. لهذا السبب يبدو لنا أن معركتنا مع ذاتنا في العقود الأخيرة قد تكون مدخلاً قوياً لترتيب دائرة علاقاتنا فيما بيننا، وهو الأمر الذي يمكننا في حال حصوله على أحسن وجه، من مغالبة التحديات الخارجية. صحيح أنه لا يمكننا الفصل اليوم بين معاركنا الداخلية والخارجية، وأن الداخل في كثير من الأحوال أصبح خارجا، والخارج أصبح في قلب ديارنا. إلا أن التدبير التاريخي العقلاني لإشكالات تأخرنا في الداخل، وإشكالات هامشيتنا في الخارج، يتطلب قليلا أو كثيراً من الحسم والإختيار، قليلا أو كثيراً من الترتيب الذي يضع سلما للأولويات وينطلق في تنفيذها ، فلا وقت اليوم لا للاستهانة بما يحصل أمامنا ولا للإنتظار .. لم يعد هناك مجالٌ للفرجةِ، والمشهدُ يزداد اتساعاً، ويدعو الجميع للإنخراط والتواصل والإنجاز..
٭ نحو حـوار منتج
اتجهنا في هذه الورقة لتقديم جملةٍ من المعطيات في موضوع الصراع المانع لإمكانية حصول حوار منتج بيننا وبين جهات عديدة في العالم. ومنذ البداية اعتبرنا أن التواصل الإيجابي مع العالم يتطلب أولاً وقبل كل شيء مباشرةَ تواصلٍ عميقٍ مع الذات. فلا يمكن أن ننخرط مع الآخرين في مغامرة التفكير والعمل والتوافق، دون أن نكون أولاً وقبل كل شيء ذاتاً متصالحةً مع ذاتها.
يعني التصالح مع الذات في تصورنا الادراك التاريخي للتحول الحاصل في ذواتنا، ذلك أننا مانزال في كثير من مظاهر وعينا نتحدث عن ذاتٍ لم تعد ذاتاً لنا. ولعل مالحق ذاتنا من تحول تاريخي أعظمَ مما نتصور، وذلك رغم رفضنا الوجداني لكثير من أشكال التحول الموضوعيةِ الحاصلةِ فينا.. ولهذا السبب فنحن لانرى أنفسنا في الحال والمآل، بل نواصلُ تثبيت صورٍ ذهنيةٍ متخيلَّة في أغلبها عن ذات تعتريها مثل كل ظواهر التاريخ تحولات وتصدعات تقتضي أن نمتلك القدرة والشجاعة على الإعتراف بها ومجابهتها، لنتمكن من مواصلةِ مغامرتنا الإنسانية في التاريخ.
لا تَواصلَ مع العالم دون قاعدةِ التواصل مع الذات، التصالح مع مآلها الراهن، والوعي بإمكانية تدارك مواطن العطب فيها، من أجل استعادة الروح والجسد ومواصلة العمل. لاينبغي فهم التصالح مع الذات باعتباره مجردَ خُنوعٍ أو قَبولٍ بالأمر الواقع، فقد تشكلُ مقاومةُ مظاهر تأخرنا التاريخي العام بلغة العصر ومبادئة الكبرى، الصيغةَ المواتية لتصالحٍ يمكِّن الذاتَ من بناء ذاتها بصورةٍ أكثر فاعلية.
نريد أن نكتفي في هذه الورقة بالتوقف أمام بعض عوائق الحوار، أي أننا نريد أن نفكر في سياقات الراهن وماتولده من مضاعفات تحول بيننا وبين القيام بالحوار المطلوب. وسنكتفي برصد الملامح الكبرى لجوانب من الملابسات المؤطرة اليوم لحال العالم في مطلع الألفية الثالثة.
التطرف السياسي والديني، الإرهاب المتبادل
يتسم الصراع السياسي الدائر اليوم في العالم المعاصر بسمات متعددة، تكشف عن آليات جديدة في الحرب والسياسة، وآليات جديدة في كيفيات تدبير وإدارة الصراع. يتعلق الأمر بمظاهر الغلو الديني السائدة في كثير من العقائد، وهي مظاهر أصبحت متخطيةً للحدود وعابرة للقارات.
ضمن هذا الإطار يستعمل الإسلام في جبهة العمل السياسي والحربي باعتباره الوسيلة الأمضى لمغالبة « جاهلية الأزمنة المعاصرة وجبروتها ». ومقابل ذلك يعمل منظرو وساسة القوة في الولايات المتحدة الأمريكية على ترسيخ هذه التصورات ببناء معطيات ايديولوجية ترى أن الخطر الجديد الذي أصبح يهدد العالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، يتمثل في التيارات التي ترفع شعار استعادة المشروع الإسلامي، ممثلاً في دولة الشريعة الإسلامية، المناهضة في تصورهم لقيم السياسة الوضعية والتاريخية.
وإذا كانت تيارات الغلو الديني في تصورنا لاتعرف ما تقول عندما توظف مفهوم الجاهلية لوصف حقبة هامة في تاريخ الإنسانية، نقصد بذلك لحظة الأزمنة المعاصرة بكل مكاسبها الكبرى في المعرفة والعلم والتقنية، فإن منظري الغرب الأوروبي والأمريكي لا يهتمون بسيرورة تطور الإسلام في تفاعلاته القوية مع روح ورياح الأزمنة الحديثة والمعاصرة، كما لا يهتمون بتعدد الرؤية الإسلامية واختلافها عن تيارات التطرف الإسلامي المتحزبة.
تؤطر الصراع السياسي والاقتصادي والثقافي القائم في العالم اليوم، جملة من الشروط التاريخة الموضوعية، أما عملية تحويله في أدبيات التطرف الديني إلى صراع محكوم بآليات الحروب الصليبية، المتمثلة في «الجهاد» و«الحرب العادلة»، فإنه لا يساعد في نظرنا على إدراك مختلف أبعاده وتجلياته، ولعل هذا من أسباب عودة الإنسانية المتصارعة إلى لغة لا علاقة لها بروح الصراع الدائر اليوم في العالم.
صحيح أن منطق الحرب لا يهتم كما تُعلِّمنا ذلك دروس التاريخ، لا بالإتساق النظري، ولا بالتفكير العميق في أسئلة السياسة والتاريخ، وأن مغامرة الصراع بالوسائل الحربية تدفع إلى توظيف كل ما يتيح إمكانية تكسير قوة الخصم، إلا أن المسار الصراعي الذي اتخذته كثير من بؤر الصراع في العالم في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، يتجه لتركيب أنماط من الأسلحة والمعارك أقل ما يمكن أن توصف به أنها مرعبة ومدمرة. فقد أصبحنا نشاهد اليوم في حروبنا القائمة في أمكنة عديدة من العالم، عمليات تقويض عنيفة لكثير من القيم التي بنتها التوافقات والمواثيق الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وطيلة النصف الثاني من القرن العشرين.
نتجه هنا لتوضيح جوانب من الحرب المعلنة بين بعض تيارات التطرف الإسلامي، وسياسات التطرف التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية. إن مظاهر هذه الحرب المعلنة والمشخصة في وقائع وأحداث، تقدم كثيراً من العناصر المساعدة على إدراك أفضل لبنية الصراع وآلياته الحربية والسياسية والثقافية. بل إن إرادة الهيمنة الأمريكية على العالم، وقد أصبحت جليةً بعد نهاية الحرب الباردة، تقدم سواء بدعمها اللامشروط للوجود الصهيوني في المنطقة العربية، أو باختياراتها الاستراتيجية المعادية لقيم التحرر والاستقلال في مناطق كثيرة من العالم، صوراً مساعدة في تشخيص مظاهر عدوانيتها. كما أن شكل مواجهتها للإرهاب في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر، واحتلالها للعراق اليوم، انطلاقاً من مبرر امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وتهديده للأمن في العالم، يقدمان الصور الأبرز في مسلسل ما تطلق عليه الإدارة الأمريكية «مواجهة الإرهاب في كل مكان»، وذلك بإعلان حروب «استباقية» قادرة في تصورها المنفعل على كسر شوكة «الإرهاب» وتجفيف منابعه. وقد نتج عن هذه الممارسات التي تجاوزت الشرعية الدولية، واستندت إلى منطق القوة وآلة الحرب، جملة من المآزق والمآسي التي نجد اليوم صعوبة كبيرة في تصور كيفية الخروج منها، والتقليص من حدة آثارها المدمرة..
نكتشف في الحروب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في مناطق عديدة من العالم نمطاً من المواجهة الشرسة بين لغتين متقاربتين: لغة المحافظين الجدد من ساسة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي لغة مشدودة من جهة إلى منطق المصلحة الأمريكية، والقوة الأمريكية، دون عناية بالمعايير والقوانين التي يأخذ بها المنتظم الدولي، وتعمل بها مؤسساته، إضافة إلى استخدامها لمنطق في الحرب معادٍ لقيم التاريخ، قيم التحرر والإستقلال والحوار. فقد أصبحت أمريكا تعتبر نفسها القطب الدولي الأوحد القادر على ترتيب الملامح العامة لنظام العالم، وتصنف أوروبا في خانة القارة العجوز العاجزة.
وتستند الولايات المتحدة الأمريكية في تصوراتها التي عرضنا إلى جملة من العقائد القطعية الصارمة، وجملة من الأحكام المؤسسة على ثنائيات متقاطعة لاعلاقة بينها وبين ديناميات التاريخ الحية والجدلية. أما اللغة الثانية التي يستعملها الطرف الثاني المعادي للغرب الأمريكي، فإنها لغة التوظيف السياسي والأسطوري لتصورٍ محدد للإسلام، تصورٍ تؤسسه تيارات التطرف بطريقة لاعلاقة بينها وبين مرونة المنظومة الإسلامية في قواعدها النظرية الكبرى والعامة، وفي الروح التاريخية التي اتخذت عبر مراحل تاريخ الاسلام..
إن العودة إلى استعمال مفهوم «الحرب العادلة» المرادف لحروب «الجهاد» يجعلنا أمام أشكال من تفجير الذات وتفجير العالم باسم خلاصٍ مفترضٍ ومتخيل . لقد أصبح العالم هنا يتكلم لغة تستبعد كل إمكانية للحوار والتواصل، ومعنى هذا أننا أصبحنا نواجه أبواباً موصدة، وأن الحوار لم يعد ممكناً .. ويعود بنا هذا الأمر إلى درجة من الحيوانية أقل ما يمكن أن توصف به أنها تُشرِع للفوضى المطلقة، فقد تخلينا عن الحق الوضعي، وأصبحنا ننطق بلغة «حالة الطبيعة»، حالة التوحش الجماعي الأعمى المولِّد للفتنة والإقتتال..
بناء على ما سبق تصبح ظاهرة التطرف الديني والسياسي عالميةً، ومحكومةً في مستوى منطق الخطاب بآليات متقاربةٍ إن لم تكن واحدة، آليات تعتمد لغة التجييش الأسطورية، النازعةِ نحو تركيب مفاهيم الحرب وألغامه النظرية المعزِّزة والداعمة لأسلحة الألغام المفجِّرة لكل مابناه الإنسان بِكدِّه وعقلانيته وكفاءاته في العمل والإبداع. وقد عملت المظاهر المتزايدة للعولمة، كما ساهمت تجلياتها الإعلامية في إضفاء طابعٍ خاص على هذه الظاهرة في مختلف الأبعاد التي اتخذت في السنوات الأخيرة، بل إن بعض ملامحها تدفعنا إلى إعادة النظر في نظام القيم التي رَكَّب الإنسان طيلة تاريخه.. وفي العمليات الانتحارية الجديدة التي تُحوِّل الآدميين إلى أحزمة من المتفجرات صانعةٍ للمآسي، ومدعمةٍ لدوائر الحقد الأعمى، ما يقدم الدليل على أننا أمام صور من الرعب غير معهودةٍ ولامسبوقةٍ في تاريخ المجتمعات الإنسانية، صُورٍ تدعو البشرية إلى التفكير في سُبُلِ الخلاص التاريخية والعقلانية..
وفي هذا السياق، نحن نتصور أن بعض الخطابات الساعية إلى فهم الظاهرة المذكورة وتحليلها، قد ساهمت بدورها بأحكامها القاطعة ومواقفها الإنفعالية، في مزيد من تأجيج آليات الصراع ومنحها أبعاداً لا حصر لها، وهو الأمر الذي يغذي في نهاية المطاف أنماط المواجهة العنيفة الحاصلة اليوم في مناطق كثيرة من العالم، حيث تُزهَقُ أرواح الأبرياء بكثير من الحقد والهمجية.
وإذا كنا نجد صعوبة في تفسير أسباب انتشار واتساع مظاهر التطرف الديني السياسي، والتطرف السياسي الديني في العالم، فإننا نستطيع مع ذلك بناء على جملة من المعايير والمؤشرات المساعدة في فهمَ جوانب أساسيةٍ مما جرى ويجري، سواء داخل بنياته وعلائقه المحلية والإقليمية، أو داخل دائرة الفضاء الدولي المعولم.
صحيح أننا أمام ظواهر تاريخية مركبة ومعقدة، ظواهر يصعب حصر مختلف العوامل المساهمة في تشكلها وإعادة تشكلها، إلا أننا نفترض بناء على مقدمات الفكر التاريخي ومنطلقات المعرفة السياسية الحديثة والمعاصرة التي حددنا بعض ملامحها في المقدمات النظرية العامة لبحثنا، أنه بإمكاننا أن نساهم في بناء بعض العناصر النظرية التي تسمح بمقاربةٍ أكثر تاريخية لمعطياتها ونتائجها.
إننا نتصور أن استحضار اللغة الدينية في الخطابات السياسية، سواء في العالم الإسلامي أو في العالمين المسيحي واليهودي، يدعونا إلى عدم التخلي عن ممارسة النقد التاريخي والوضعي للخطابات الدينية. كما أن لغة التطرف السياسية العقائدية المتبعة في بعض السياسات هنا وهناك، تعيدنا إلى منطق في النظر والعمل السياسيين حصل تجاوزهما في أزمنة خلت. ومعنى هذا أن معاركنا المشتركة في التحديث السياسي، وفي تعميق درجات استيعابنا وتطويرنا لقيم التنوير ما تزال متواصلةً، بل وما تزال مطلوبة بصيغ وأساليب جديدة، لعلنا نتمكن من بناء وإعادة بناء الوسائل التي تتيح لنا تجاوز منطق العقائد النصية المغلقة في مجال العمل السياسي، من أجل فتح الأبواب أمام لغة سياسية أكثر وفاء لقيم العقل والعدل والتوازن، وهي القيم المشتركة التي نفترض أن إنسانية الحاضر مطالبةٌ بإعادة تركيب قواعدها العامة، بروح وضعية مُسلِّمةٍ بأولوية التعاقد والتوافق، وأهمية التآزر والتعاون في مجال العلاقات الدولية، مع لزوم الإستفادة من المعطيات الجديدةِ الموصولة بهذا المجال والمتولدة في التاريخ.
وإذا كانت الملاحظة السابقة تتصل أساساً بسياسات التطرف العقائدي المحافظة، كما تبلورت في الاختيارات السياسية الأمريكية بالذات، فإن مواجهة مظاهر الغلو في التعامل مع التجربة الروحية في الإسلام، تقتضي مواصلَةَ معركة الحداثة والتحديث السياسي في الفكر العربي الإسلامي، وفي واقع المجتمعات الإسلامية، معركةَ فتحِ باب الاجتهاد على مصراعيه دون خوف ولا تردد، انطلاقاً من أن مستقبل الإسلام لا يمكن فصله عن مطلب الاجتهاد، الذي يعني أولاً وقبل كل شيء الانفتاح على مكاسب المعرفة العصرية ومنجزاتها..
نتصور إذن أن بناء علاقة مستوعبةٍ لمتغيرات العالم، تتطلب منا مزيداً من بناء وترسيخ قيم الحداثة في الفكر وفي السلوك، وذلك بمواصلة معاركنا في مجالات الإصلاح الديني والثقافي والسياسي، وفي مجال بناء مشروع في التوحد القومي التاريخي والديمقراطي، بهدف تمثل قيم الأزمنة الحديثة وتجارب التاريخ المعاصر..
لا يعني هذا أننا مطالبون بنسخ واستعارة قيم الآخرين، كما أنه لا يعني التبعية والخضوع والإمتثال لإرادة القوي والأقوى، ولا تقليد الغالب بالعبارة الخلدونية التي تشير إلى وَلَعِ المغلوبِ بتقليد الغالب.. بل إن ما نحن بصدد التفكير فيه ورسم معالِمهِ، يعني أولاً وقبل كل شيء، استيعاب ما هو متاح اليوم للبشرية جمعاء، ونقصد بذلك قيم المعرفة والعلم والسياسة والاقتصاد، المنظور إليها باعتبارها مُحصلةً لتاريخٍ مشترك. ذلك أن مكاسب الحضارات تعكس كما تُعلِّمنا ذلك دروس التاريخ أشكالاً من المثاقفة يصعب فيها نفي الطابع المتداخل لجهود البشر المشتركة في التاريخ، حيث تساهم الحضارات المتعاقبةُ في الزمان، في رَفْدِ بعضها البعض داخل سياق الصيرورة التاريخية لأفعال الإبداع والإنجاز المتناسِلَةِ داخل دائرة الزمان.
لكننا نتصور هنا، أن روح المبدأ المتعلق بمساعي الإنفتاح على الفكر المعاصر ومكاسب الحضارة المعاصرة، في مختلف تجلياتها التاريخية والنقدية، يتضمن في العمق نوعاً من الإرادة الرامية إلى إنجاز نوع من التصالح المطلوب مع ذاتنا التاريخية في تحولها وتغيرها ومعنى هذا أن انخراط ثقافتنا في زمن الحداثة ومابعدها، يعني التفكير والمساهمة في مواجهة التحديات المشتركة القائمة بيننا وبين الآخرين في كل مكان، ليس فقط مع الغرب بل مع كل الثقافات التي تشبعت بالفكر الحداثي، وعملت انطلاقاً من تاريخها المحلي وأسئلتها الخاصة على دعم مقدمات الثقافة الحداثية، بالصورة التي تُرَسِّخها وتُعزِّز مكانتها في الواقع وفي الأذهان...
فقد شكل انخراطنا القسري في الأزمنة الحديثة والمعاصرة عائقاً من عوائق بلوغ عملية التصالح الضرورية، وشكلت علامات التأخر التاريخي ومعطيات الظاهرة الاستعمارية بمختلف الجروح التي وَشَمَتْ بها جسدنا التاريخي، حاجزاً حال بيننا وبين الإنطلاق في تركيب ملامح ذاتنا الجديدة، فنتج عن ذلك مزيدٌ من ترسيخ كثيرٍ من مظاهر وآليات المحافظة والإرتباك والانكفاء على الذات وعلى حصونها العتيقة، فتأرجحت خطانا، وراوحنا السير في المكان نفسه دون حسم ولا إقدام، وهو الأمر الذي ساهم في تعميق كثير من مظاهر تأخرنا التاريخي المركب والعام.
في هذا السياق، نحن نعتبر أن تواصلاً إيجابياً مع العالم في موضوع مواجهة إشكالات الغلو والتطرف في العقائد والسياسات، يفترض أولاً وقبل كل شيء، تحقيق وعي ذاتي مستوعبٍ للمآل العربي، ومؤمنٍ بإمكانية إعادة بناء مقوماتنا التاريخية في ضوء مكاسب الحاضر الكوني في أبعاده المختلفة. إن نجاحنا في بلوغ مرامي النهضة والتقدم واستكمال التحرير، يعتمد على كفاءتنا في تحقيق مطلب الإدراك الجيد لذاتنا المتحولةِ في الزمانِ بحكم أفعال الزمانِ. فلا وجود في نظرنا لذاتٍ مغلقة، ولا لهويةٍ مكتملة، فالهوية في التاريخ كما نفهمها صيرورةٌ وفعلٌ، إنها دينامية تاريخية مفتوحة، وتنميطاتها التاريخية لا ينبغي أن تصبح قيوداً، إنها مجرد لحظات في سيرورة لا تكتمل ولا تتوقف، وسِجلاَّت التاريخ المعروفة تقدم أكبر دليل على رحلة التحول المؤسِّسة للهويات في التاريخ.
إن بلوغ عتبة التصالح مع الذات استناداً إلى تمثل مكاسب التاريخ المعاصر في الفكر وفي الحياة، يحدد في نظرنا الخطوة الأساس لبناء تواصلٍ منتج، حيث تصبح محتويات لغات التواصل ومؤسساته مُحملةً برموز متكافئةٍ، فتتقلص درجات التنافي والتنابذ. ونصبح أمام مؤشرات ضرورية في باب التواصل مع الآخرين في العالم، خدمةً للمصالح والأهداف المشتركة التي يُسطرها الجميع، ويتوافق عليها الجميع، بناءً على سُلَّم من القيم والمبادئ المحدَّدة في صورة قواسم مشتركة مقبولةٍ من الجميع.. أن تحقق هذا الأمر يبدو اليوم مطلباً بعيد المنال، لكنه سيظل في نظرنا أفقاً يتطلع الجميع لبلوغه، لتخطي أهوال الحروب التي تتخذ اليوم أقنعةً لا حصر لها، مولدةً مآسٍ لا بداية ولا نهاية لها..
لا نستطيع مواجهةَ مظاهر العولمة بالخطاب الرافض لها وبصورة مطلقة، ففي التاريخ لا تُصنع الوقائع ولا تحصلُ المكاسبُ بالمواقف المكتفية بالرفضِ دونَ بحثٍ عن البدائل والممكنات الأخرى. لهذا السبب يبدو لنا أن معركتنا مع ذاتنا في العقود الأخيرة قد تكون مدخلاً قوياً لترتيب دائرة علاقاتنا فيما بيننا، وهو الأمر الذي يمكننا في حال حصوله على أحسن وجه، من مغالبة التحديات الخارجية. صحيح أنه لا يمكننا الفصل اليوم بين معاركنا الداخلية والخارجية، وأن الداخل في كثير من الأحوال أصبح خارجا، والخارج أصبح في قلب ديارنا. إلا أن التدبير التاريخي العقلاني لإشكالات تأخرنا في الداخل، وإشكالات هامشيتنا في الخارج، يتطلب قليلا أو كثيراً من الحسم والإختيار، قليلا أو كثيراً من الترتيب الذي يضع سلما للأولويات وينطلق في تنفيذها ، فلا وقت اليوم لا للاستهانة بما يحصل أمامنا ولا للإنتظار .. لم يعد هناك مجالٌ للفرجةِ، والمشهدُ يزداد اتساعاً، ويدعو الجميع للإنخراط والتواصل والإنجاز..
٭ نحو حـوار منتج
اتجهنا في هذه الورقة لتقديم جملةٍ من المعطيات في موضوع الصراع المانع لإمكانية حصول حوار منتج بيننا وبين جهات عديدة في العالم. ومنذ البداية اعتبرنا أن التواصل الإيجابي مع العالم يتطلب أولاً وقبل كل شيء مباشرةَ تواصلٍ عميقٍ مع الذات. فلا يمكن أن ننخرط مع الآخرين في مغامرة التفكير والعمل والتوافق، دون أن نكون أولاً وقبل كل شيء ذاتاً متصالحةً مع ذاتها.
يعني التصالح مع الذات في تصورنا الادراك التاريخي للتحول الحاصل في ذواتنا، ذلك أننا مانزال في كثير من مظاهر وعينا نتحدث عن ذاتٍ لم تعد ذاتاً لنا. ولعل مالحق ذاتنا من تحول تاريخي أعظمَ مما نتصور، وذلك رغم رفضنا الوجداني لكثير من أشكال التحول الموضوعيةِ الحاصلةِ فينا.. ولهذا السبب فنحن لانرى أنفسنا في الحال والمآل، بل نواصلُ تثبيت صورٍ ذهنيةٍ متخيلَّة في أغلبها عن ذات تعتريها مثل كل ظواهر التاريخ تحولات وتصدعات تقتضي أن نمتلك القدرة والشجاعة على الإعتراف بها ومجابهتها، لنتمكن من مواصلةِ مغامرتنا الإنسانية في التاريخ.
لا تَواصلَ مع العالم دون قاعدةِ التواصل مع الذات، التصالح مع مآلها الراهن، والوعي بإمكانية تدارك مواطن العطب فيها، من أجل استعادة الروح والجسد ومواصلة العمل. لاينبغي فهم التصالح مع الذات باعتباره مجردَ خُنوعٍ أو قَبولٍ بالأمر الواقع، فقد تشكلُ مقاومةُ مظاهر تأخرنا التاريخي العام بلغة العصر ومبادئة الكبرى، الصيغةَ المواتية لتصالحٍ يمكِّن الذاتَ من بناء ذاتها بصورةٍ أكثر فاعلية.
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: العولمة وحوار الثقافات..
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: العولمة وحوار الثقافات..
| |||
الإتحاد الإشتراكي |
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
رد: العولمة وحوار الثقافات..
| |||
الإتحاد الإشتراكي |
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» نقاش وحوار ...والطبقة الكادحة
» جمال الدين الأفغاني وحوار الأديان :محمد الحدّاد الحياة - 22/11/08//
» جبران وحوار «المكان»: علاقة حائرة مسكونة بالحكايا والأساطير
» العولمة: 'تصورات ومواقف'
» حكاياتنا الشعبية في زمن العولمة
» جمال الدين الأفغاني وحوار الأديان :محمد الحدّاد الحياة - 22/11/08//
» جبران وحوار «المكان»: علاقة حائرة مسكونة بالحكايا والأساطير
» العولمة: 'تصورات ومواقف'
» حكاياتنا الشعبية في زمن العولمة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى