من مذكرات حمار عربي كان في بغداد
صفحة 1 من اصل 1
من مذكرات حمار عربي كان في بغداد
فوجئتُ كل المفاجأة لما وجدتُ صديقي، صديقَ المقاومة والكفاح، في أحد
الاصطبلات العربية الفاخرة وقد جاء يبحث عن لقمَة العيش صعبة المنال.. أنا
أيضا جئتُ إلى هذا الإصطبل الفاخر وقد دفعَتني الحاجة إلى اللقمَةُ
وقَضمَة الحشيش المَقيتة لخِدمة خيول أسيادي الجدد وجمالهم التي تربى
للسباق وليس لقطع المسافات الطويلة في الصحراء. وأنا، والمعذرة على
(الأناوية) البغيضة، من الأحمِرة العربية التي بادرتْ إلى بغداد وقتَ أن
عَزم العلوج على دخولِها. وحدث الذي حدثَ ووجدْتُ نفسي مطاردا في أحياء
بغداد بعد أن دخلَها الأعـاجمُ البعداء قادمين من وراء البحر والأعاجمُ
القريبون وقد قطعوا السهول القريبَة حتى وصلوا إلى عاصمة الخلافة..
وأمضيْتُ أيامًا عصيبةً وأنا أحاول التواري والتخفي وقد اكتشفتُ فجْأة أن
الأحمرة العربية، ليست مكروهَةً فقط، بل مَمقوتة أشد المَقت وتواجه الموتَ
في كل لحظة أينما شُوهِدتْ. ولو لم يقيض لي الله صديقي، هذا الحمار
العراقي الأصيل والذي كان ما يزال مؤمنا ببقايا دولة المنصور، لكُنتُ
اليوم مُجردَ رقم من الأرقام المجهولة في مقبرة من المقابر الجماعية التي
أعدت لدفن الماضي القريب والبعيد معا. وأشهَد أن أعظم يوم أمضيته في بغداد
هو صُحبة هذا الحمار العزيز، يَومَ أن رَشَقْنا فندق فلسطين بزخات من
الصواريخ المباركَة وكان قطيع من الأمريكان وأشتات معهم آخرون من شذاذ
الآفاق مقيمين فيه للاحتفال بالنصر والسقوط..
كانوا في الحقيقة
يحتفلون بسقوط العروبَة وتدحرجِها إلى الهاوية كما قدروا. فلما انبهناهم
إلى وجودنا طوقونا في الحال وانقضوا علينا مثل الصواعق. أما أنا فقد
سارعْتُ بالتخفي لأن شكلي وهيأتي وحتى نهيقي، كانت كلها تدل على أني لستُ
من سكان مدينة الرشيد ولا حتى من سكان الرافدَيْن. وأما صديقي العراقي
الغيور فإنه ظل ثابتـا راسخا كأنه جبَل من الجبال.. يومَها استغرب
الأمريكان حينما حضروا فلم يجدوا أحدا غيرَه وهو يقف في هدوء وعربَة
موضوعة على ظهره، ولا أثر لبشر يحملـون الكلاشنكـوف أو يتحلقون حول منصات
إطلاق. هل تكون الصواريخ انطلقَتْ من عند هذا الحمار، هذا الحمار الغبي
المغلوب على أمره؟ وخمنوا أن الأمر يكاد يكون مستحيلا. ولأنهم جُبلوا مذ
دخلوا هذه البلاد على الخوف والشك المطلق، فإنهم لم شيتركوه حيث هو بل
حملوه إلى المعتقَل بما هو.. بركابه ولجامِه وعربتِه وكل شيء.. وبطبيعة
الحال، ضربوه كل أنواع الضرب وحاولوا أن يثبتوا بالأدلة المنطقية القاطعة
أنه قــادر على حَمْل السلاح والصواريخ وأنه الفاعِل الحقيقي. وحللوا كل
العينات التي التقطوها بدءا بحوافره وانتهاء بالبَعْر الذي كان ينثره على
التراب ولكن بدون طائل.
والحقيقةُ، كما أخبرَني صديقي عندما
التقيْنا في هذا الاصطبل العربي الفاخر، أنه تعرض لأشد أنواع التعذيب،
وخصوصا عندما أخذوه إلى أبو غريب حيث نوعوا له الاستقبال وفصلوا في العذاب
مثلما فعلوا مع غيره من الآدميين المساكين. ومن ذلك أنهم كانوا يعلقونَه
من ذيلِه يوما كاملا، أو يربطون أذنيه ذات اليمين وذات الشمال بحبليْن في
اتجاهيْن متعاكسيْن في رحبة المعتقَل مع الشد المتواصل المهلك. أو
يحرمونَه عشرة أيام بلياليها من أن يتمرغ على وجه الأرض ويتشمم الرمل
كعادة كل حمير الله حتى ينسى أرضَ العراق. وربما وضعوا أمامَه أتانا
مأجورة وتحدوه أن يبرهِن على رجولتِه فيُنعظ. فإن فعل ضربوه بالكرباج
ودقوا موطن رجولتِه حتى يقطر منه الدم ويسلموه للشعور بالعجز والعِنة.
كل هذا حدثني به صديقي عندما التقيْنا في إصطَبْل نخدمُ فيه الخيول
العربية الأصيلَة والهُجن المدللة.. وعندما سألتُه كيفَ خرجتَ من جحيم أبو
غريب، قال إنهم تركوه عندما لم يعثروا له على أي دليل من الأدلة القطعية.
وأنه عندما خرج إلى الهواء وجد زرافات من الكلاب والذئاب تجوسُ البلادَ
وخافَ من البقاء، ففضل أن يسافر إلى الخارج لاجئا أو مسكينا مع كل ما يشعر
به من الخذلان والجبن لأنه تخلى عن القضية. وسألني: وأنت، كيفَ تمكنتَ
أيها الحمار العربي من الخروج سالما؟ قلت: عملتُ بنصيحتِك بالفرار، فأنتَ
الذي قلتَ إنه لم يعد لي من مستقبَل ههنا. قال : نعم. إن الأمر لكذلك، إذا
كنتُ أنا الحمار العراقي أبا عن جد قد دُفِعْتُ إلى الاصطبلات المجاورة
عاملا محتقرا، فكيف بك أنت الحمار المتهم دائما بالتخريب والإرهاب؟ هذه هي
النتيجة، فهل نستحق هذه النهاية يا ترى؟
عبدالقادر اللطيفي
القدس العربي
12/10/2008
الاصطبلات العربية الفاخرة وقد جاء يبحث عن لقمَة العيش صعبة المنال.. أنا
أيضا جئتُ إلى هذا الإصطبل الفاخر وقد دفعَتني الحاجة إلى اللقمَةُ
وقَضمَة الحشيش المَقيتة لخِدمة خيول أسيادي الجدد وجمالهم التي تربى
للسباق وليس لقطع المسافات الطويلة في الصحراء. وأنا، والمعذرة على
(الأناوية) البغيضة، من الأحمِرة العربية التي بادرتْ إلى بغداد وقتَ أن
عَزم العلوج على دخولِها. وحدث الذي حدثَ ووجدْتُ نفسي مطاردا في أحياء
بغداد بعد أن دخلَها الأعـاجمُ البعداء قادمين من وراء البحر والأعاجمُ
القريبون وقد قطعوا السهول القريبَة حتى وصلوا إلى عاصمة الخلافة..
وأمضيْتُ أيامًا عصيبةً وأنا أحاول التواري والتخفي وقد اكتشفتُ فجْأة أن
الأحمرة العربية، ليست مكروهَةً فقط، بل مَمقوتة أشد المَقت وتواجه الموتَ
في كل لحظة أينما شُوهِدتْ. ولو لم يقيض لي الله صديقي، هذا الحمار
العراقي الأصيل والذي كان ما يزال مؤمنا ببقايا دولة المنصور، لكُنتُ
اليوم مُجردَ رقم من الأرقام المجهولة في مقبرة من المقابر الجماعية التي
أعدت لدفن الماضي القريب والبعيد معا. وأشهَد أن أعظم يوم أمضيته في بغداد
هو صُحبة هذا الحمار العزيز، يَومَ أن رَشَقْنا فندق فلسطين بزخات من
الصواريخ المباركَة وكان قطيع من الأمريكان وأشتات معهم آخرون من شذاذ
الآفاق مقيمين فيه للاحتفال بالنصر والسقوط..
كانوا في الحقيقة
يحتفلون بسقوط العروبَة وتدحرجِها إلى الهاوية كما قدروا. فلما انبهناهم
إلى وجودنا طوقونا في الحال وانقضوا علينا مثل الصواعق. أما أنا فقد
سارعْتُ بالتخفي لأن شكلي وهيأتي وحتى نهيقي، كانت كلها تدل على أني لستُ
من سكان مدينة الرشيد ولا حتى من سكان الرافدَيْن. وأما صديقي العراقي
الغيور فإنه ظل ثابتـا راسخا كأنه جبَل من الجبال.. يومَها استغرب
الأمريكان حينما حضروا فلم يجدوا أحدا غيرَه وهو يقف في هدوء وعربَة
موضوعة على ظهره، ولا أثر لبشر يحملـون الكلاشنكـوف أو يتحلقون حول منصات
إطلاق. هل تكون الصواريخ انطلقَتْ من عند هذا الحمار، هذا الحمار الغبي
المغلوب على أمره؟ وخمنوا أن الأمر يكاد يكون مستحيلا. ولأنهم جُبلوا مذ
دخلوا هذه البلاد على الخوف والشك المطلق، فإنهم لم شيتركوه حيث هو بل
حملوه إلى المعتقَل بما هو.. بركابه ولجامِه وعربتِه وكل شيء.. وبطبيعة
الحال، ضربوه كل أنواع الضرب وحاولوا أن يثبتوا بالأدلة المنطقية القاطعة
أنه قــادر على حَمْل السلاح والصواريخ وأنه الفاعِل الحقيقي. وحللوا كل
العينات التي التقطوها بدءا بحوافره وانتهاء بالبَعْر الذي كان ينثره على
التراب ولكن بدون طائل.
والحقيقةُ، كما أخبرَني صديقي عندما
التقيْنا في هذا الاصطبل العربي الفاخر، أنه تعرض لأشد أنواع التعذيب،
وخصوصا عندما أخذوه إلى أبو غريب حيث نوعوا له الاستقبال وفصلوا في العذاب
مثلما فعلوا مع غيره من الآدميين المساكين. ومن ذلك أنهم كانوا يعلقونَه
من ذيلِه يوما كاملا، أو يربطون أذنيه ذات اليمين وذات الشمال بحبليْن في
اتجاهيْن متعاكسيْن في رحبة المعتقَل مع الشد المتواصل المهلك. أو
يحرمونَه عشرة أيام بلياليها من أن يتمرغ على وجه الأرض ويتشمم الرمل
كعادة كل حمير الله حتى ينسى أرضَ العراق. وربما وضعوا أمامَه أتانا
مأجورة وتحدوه أن يبرهِن على رجولتِه فيُنعظ. فإن فعل ضربوه بالكرباج
ودقوا موطن رجولتِه حتى يقطر منه الدم ويسلموه للشعور بالعجز والعِنة.
كل هذا حدثني به صديقي عندما التقيْنا في إصطَبْل نخدمُ فيه الخيول
العربية الأصيلَة والهُجن المدللة.. وعندما سألتُه كيفَ خرجتَ من جحيم أبو
غريب، قال إنهم تركوه عندما لم يعثروا له على أي دليل من الأدلة القطعية.
وأنه عندما خرج إلى الهواء وجد زرافات من الكلاب والذئاب تجوسُ البلادَ
وخافَ من البقاء، ففضل أن يسافر إلى الخارج لاجئا أو مسكينا مع كل ما يشعر
به من الخذلان والجبن لأنه تخلى عن القضية. وسألني: وأنت، كيفَ تمكنتَ
أيها الحمار العربي من الخروج سالما؟ قلت: عملتُ بنصيحتِك بالفرار، فأنتَ
الذي قلتَ إنه لم يعد لي من مستقبَل ههنا. قال : نعم. إن الأمر لكذلك، إذا
كنتُ أنا الحمار العراقي أبا عن جد قد دُفِعْتُ إلى الاصطبلات المجاورة
عاملا محتقرا، فكيف بك أنت الحمار المتهم دائما بالتخريب والإرهاب؟ هذه هي
النتيجة، فهل نستحق هذه النهاية يا ترى؟
عبدالقادر اللطيفي
القدس العربي
12/10/2008
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» وخا ف بغداد..........
» قطار برلين - بغداد السريع
» مذكرات جاك شيراك
» مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
» الزواقين في مذكرات عبد الرزاق أفيلال
» قطار برلين - بغداد السريع
» مذكرات جاك شيراك
» مذكرات كلب / عبدالقادر وساط
» الزواقين في مذكرات عبد الرزاق أفيلال
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى