محفوظ وثلاثية الرّحيل!/ خيري منصور
صفحة 1 من اصل 1
محفوظ وثلاثية الرّحيل!/ خيري منصور
ما بين ثلاثية الحياة التي استغرقت ثلاثة اجيال خلال ما يزيد عن نصف قرن،
وثلاثية الرحيل التي استغرقت ثلاثة أعوام فقط، يبقى نجيب محفوظ مؤهلا
للمزيد من الاكتشاف، فالنقد لم يغامر حتى الان بما استحق هذا الروائي الذي
شهد على ما يقارب القرن بمنجز روائي فريد، وبقي المكرور منه أضعاف
المبتكر، لأن من هم بمكانة وشهرة روائي كمحفوظ يغرون حتى الهواة بتجريب
مفاتيحهم الهشّة في بواباتهم، وقبل المضي في هذا الاستذكار، لا بد من
تبديد التباس حول النسيان، فما ان يرحل كاتب او مبدع عربي حتى يقال بعد
عام او اثنين من رحيله انه اصبح في مهب النّسيان، والحقيقة هي بخلاف ذلك
تماما، لأن الرحيل يتيح للنقد ان يتعامل مع منجز ابداعي اكتمل، كما يتيح
له ايضا ان يراجع ويستقرئ ويقارب، لكن البعد الاعلامي الصحافي بالتحديد
غالبا ما يكون المهيمن على ثنائية التذكر والتناسي فالكاتب خلال حياته يجد
من يرصد تحركاته وأدق التفاصيل لحياته اليومية والخاصةِ، لهذا فهو يحرم
الصحافة ذات الفضول غير المعرفي من علف يومي، فيبدو كما لو انه أصبح في
طيّ النسيان، وقد يكون الكثير من الناس على معرفة بدرجات متفاوتة بهذا
المبدع او ذاك، لكنها معرفة تقتصر على ما يرشح من السيرة الذاتية او ما
يحاول الاعلام اختزاله كي يوحي للناس بأنه يمارس دوره في الرّصد
والمتابعة...
لقد عرف التاريخ كتابا كانوا من مشاهير عصرهم الاشدّ
سطوعا ونفوذا، لكن ما إن تواروا حتى توارت معهم أعمالهم، بعكس بعض الكتّاب
الذين اعاد لهم النقد اعتبارهم بعد الموت، والمثال المتكرر في هذا السياق
يشمل روائيا وشاعرين، الروائي هو مارسيل بروست صاحب رواية البحث عن الزمن
الضائع، والذي كان الأقل شهرة بين مجايليه، اما الشاعران فأحدهما عربي
ورائد هو بدر شاكر السيّاب، والاخرى شاعرة كانت تزهد في نشر أعمالها، قبل
الرحيل هي 'اميلي ديكنسون' التي أعاد اليها النقد الاعتبار بعد رحيلها.
ويعد
نجيب محفوظ من الاستثناءات النادرة لمن ظفروا بشهرة واسعة اثناء حياتهم
واهتمام كبير بعد رحيلهم، لكن الاهتمام بعد الرحيل ليس مرئيا بوضوح لوسائل
الاعلام، او للصحافة التي تقدم وجبات سريعة وتقدم سلسلة من العتبات التي
لا تفضي الى جدران وبيوت... وقبل الحكم على استذكار او نسيان نجيب محفوظ
على من يتصدى لهذه المسألة ان يقدم رصدا دقيقا بما صدر من دراسات نقدية
واطروحات اكاديمية وندوات حول أعمال الراحل الكبير ..
* * * * * * *
ثلاثة
أعوام ليست سوى فاصلة في سياق زمني عندما يتعلق الامر بمبدعين يصح عليهم
ذلك الوصف الذي قدّمه سارتر لكامو بعد موته المفاجئ، رغم ما كان بينهما من
خلاف، فقد قال عنه انه كان ينتزع جسده من القبر بكل كلمة كتبها كما لو ان
الكلمات معاول، وأهمية روائي مثل نجيب محفوظ لا تقتصر على الصورة التي
ساهمت السينما والصحافة في رسمها له... فأعماله التي تحولت الى افلام
سينمائية أوهمت من شاهدوها بأنهم في غنىً عن قراءتها، خصوصا في مجتمعات
تنوب فيها العيون عن كل شيء.
والنقد الذي تعامل بقدر ملحوظ من التحفظ
مع أعمال نجيب ذات البعد الميتافيزيقي، بحيث أصبح التأويل الذي تزخر
بامكاناته داجنا عند الحدود المسموح بها، فنجيب محفوظ لم يكن كما يوحي سطح
سيرته الأليفة بعيدا عن الشكوك في كل شيء، بدءا من السياسة حتى التأملات
في الحياة والموت والعقائد، وباستثناء ما أثير من سجال حول روايته 'اولاد
حارتنا' فإن الكثير من اعماله القابلة للتأويل بسبب غناها وزخم مضامينها
بقي محروما من سبر الأغوار، ومادة خاما وفيرة لدراسات اكاديمية، غالبا ما
تقع فيها الحوافر على الحوافر، وتستعاد الافكار ذاتها من خلال مقولات أعيد
انتاجها لغويا فقط!
لقد كان نجيب محفوظ شغوفا بشحن نصوصه بالهواجس التي
تجعلها قابلة لعدّة قراءات، فكل عمل أدبي ناضج ويستحق البقاء هو حسب تعبير
شهير لبرادلي 'عمل متعدد' ..
لقد قُرئت رواية الطريق مثلا وفق التأويل
الذي تستحقه، عندما وجد سيد الرحيمي من يربط بينه وبين جمال الدين
الأفغاني، ليس فقط من خلال الملامح والشعر الأسود الناعم، بل لأنه من خلال
التسمية ذات الدلالة وهو سيد سيد الرحيمي المخلّص الذي حوّل حياة ابنه
صابر الى مرحلة للبحث عنه لكن دون طائل، بحيث انتهى الى حبل المشنقة، وقد
اشرنا ذات مرة في مناسبة محفوظية الى ان استخدام نجيب محفوظ لاسماء الشخوص
هو استخدام مضلّل، لأن الصفة غالبا ما تأتي بعكس الموصوف، فالبغايا في
رواياته لهنّ اسماء مضادة، مثل كريمة في الطريق، ونور في اللص والكلاب،
والكامل وفقا لهذه الرؤية المضادة هو الناقص في السراب، اما رؤوف علوان
الذي أغوى سعيد مهران ودرّبه على السرقة عندما قال له بأنها الوسيلة
المثلى لتحقيق العدالة، فقد امتطى ضحيته عندما أصبح صحافيا كي يصل الى
منصب أعلى.. لهذا لم يكن رؤوفا ولا علوانا، بقدر ما كان أحد هؤلاء الكلاب
الذين انتجت ثقافتهم الوصولية وذرائعيتهم الكلبية مهران وأمثاله ..
* * * * * * *
يرى
بعض نقّاد نجيب محفوظ انه من الصعب الامساك بموقف سياسي له من خلال
أعماله، رغم انها في معظمها على صلة عضوية بالنسيج الحي للواقع، بابعاده
الاجتماعية والسياسية والتربوية، وقد يكون السبب في ذلك ما أضافته السينما
الى محفوظ من مواقف وسطية، كما حدث في فيلم السمّان والخريف، عندما تحوّل
الوفدي المخلوع من منصبه وهو عيسى الدبّاغ الى مقاوم ضد العدوان الثلاثي
على مصر عام 1956، بينما كان زعماؤه ينتظرون سقوط الثورة، وعودة الملكية،
ومنهم من اقترح الاستعانة بالانكليز، ومن الاختزال المبالغ فيه تصنيف مبدع
من طراز محفوظ ضمن خانة ايديولوجية، كأن يقال عنه بأنه وفدي او ناصري او
ماركسي، فالابداع عصيّ على هذه التصنيفات المدرسية الأفقية، ولدى نجيب
محفوظ مجمل أعماله هواجس متعلّقة بالوجود والعدم، والشك واليقين، والطاعة
والعصيان، وقد تكون رواية الشحّاذ النموذج الأوضح لكل هذه الهواجس، فالبطل
الذي أشبع معظم رغائبه من النجاح المهني والنساء والمال وجد نفسه ضائعا في
عالم لا يفهمه، لهذا فإن رواية الشحاذ بالتحديد لا تزال على موعد مع
قراءات مغامرة، تستنبطها وتضيء الغامض من أعماقها.. ومن الطبيعي ان يتضاعف
الاهتمام بأي كاتب وليس بمحفوظ فقط بعد نيل جائزة نوبل، لكن الأمر قدر
تعلّقه بالعرب، يختلف كثيرا من عدة جوانب، فالجائزة تصبح أهم من الذي
استحقّها، ويكثر عدد من يدعونها وكأن من استحقها ونالها هو مجرد اسم
مستعار او حركي لهم ... لهذا كان معظم ما كتب عن محفوظ بعد حصوله على نوبل
احتفائيا، وتدليكا صحافيا وليس جماليا للنرجسية التي أصابها الذبول، وحين
يوصف بأنه عالمي يحرم من الصفة التي أهّلته اساسا لهذه العالمية وهي
محليّته المصرية بالدرجة الأولى، لكن العرب الذين تخطف أبصارهم وبصائرهم
صفات من طراز دولي وعالمي وكوني، ينسون جذر المسألة كلّها، فالمطارات
العربية كلّها دولية وكذلك الصيدليات والحوانيت الكبرى والفنادق ... ولو
رحل محفوظ قبل فوزه بنوبل لما خسرت اعماله حرفا واحدا، فالجائزة لم تُضِف
اليه بقدر ما كانت اعترافا بما أنجز قبل حصوله عليها ..
* * * * * * * *
هناك
ظاهرة تستحق التأمل تشمل نجيب محفوظ وآخرين من كبار المبدعين، هي ان أقرب
الناس الى هؤلاء لم يكونوا من زملائهم في المهنة، ومن يطلق عليهم اسم
الحرافيش، وهم المقربون الحميمون الى محفوظ كان منهم الممثل السينمائي
والمخرج والمهندس، وقد شاهدت على احدى الفضائيات حوارا اجراه الروائي
الصديق جمال الغيطاني مع مهندس كان من اقرب الاصدقاء الى محفوظ، بحيث زاره
في بيته رغم ندرة هذه الزيارات بالنسبة لمحفوظ ذي النظام الاجتماعي
المحافظ والصارم... وتذكرت على الفور ان اقرب اصدقاء الشاعر محمود درويش
كانوا من غير الشعراء والكتّاب، ومنهم المهندس المثقف ورجل الأعمال
المستنير... وقد كان محمود هو القاسم المشترك بيني وبين هؤلاء الاصدقاء،
ويقال ان أقرب صديق لألبير كامو كان صانع براميل في مدينة وهران، كما ان
ميلر يعترف بأن اصحابه هم سائقو شاحنات وعمّال، انها ظاهرة تستحق التأمل
بالفعل، وكان اول من أشار اليها هو بيكاسو عندما قال بأن لقاءاته مع
زملائه الفنانين نادرا ما كان الحديث يدور فيها عن الرسم، بل عن أسعار
الزيوت والقماش واجور صالات العرض.
ربما لأن نجيب محفوظ كان ذا حدس
سايكولوجي مشحوذ، فهو لا يثرثر عمّا يكتب، ولم يكن تضخّم الذات قد بلغ
لديه حدّ التسرطن، لهذا نصدّقه تماما عندما يقول بأنه في اليوم الذي حصل
فيه على نوبل التي يحلم بها ألوف الكتّاب في العالم ومنه العالم العربي،
كان قد استعدّ للعودة الى بيته قبل اعلان الجائزة وحين سمع من احد زملائه
في الصحيفة ان عليه ان ينتظر قليلا كي يعرف من هو الفائز، اجاب بهدوء بأنه
سوف يسمع النبأ في اليوم التالي...لكن زوجته أيقظته في اليوم نفسه، وهي
تقول له بأن من فاز بالجائزة هو نجيب محفوظ ...
ثلاثة اعوام من الرحيل
تكفي لأن تجف أكاليل الورد على الضريح، لكنها لن تقوى على زهرة واحدة من
زهور محفوظ، سواء كانت تلك الريفية العصيّة على السقوط في رواية ميرامار
واسمها زهرة، او أية زهرة في عروة معطف عيسى الدباغ او في ضفائر نساء
الثلاثية الخالدة !!
القدس العربي
وثلاثية الرحيل التي استغرقت ثلاثة أعوام فقط، يبقى نجيب محفوظ مؤهلا
للمزيد من الاكتشاف، فالنقد لم يغامر حتى الان بما استحق هذا الروائي الذي
شهد على ما يقارب القرن بمنجز روائي فريد، وبقي المكرور منه أضعاف
المبتكر، لأن من هم بمكانة وشهرة روائي كمحفوظ يغرون حتى الهواة بتجريب
مفاتيحهم الهشّة في بواباتهم، وقبل المضي في هذا الاستذكار، لا بد من
تبديد التباس حول النسيان، فما ان يرحل كاتب او مبدع عربي حتى يقال بعد
عام او اثنين من رحيله انه اصبح في مهب النّسيان، والحقيقة هي بخلاف ذلك
تماما، لأن الرحيل يتيح للنقد ان يتعامل مع منجز ابداعي اكتمل، كما يتيح
له ايضا ان يراجع ويستقرئ ويقارب، لكن البعد الاعلامي الصحافي بالتحديد
غالبا ما يكون المهيمن على ثنائية التذكر والتناسي فالكاتب خلال حياته يجد
من يرصد تحركاته وأدق التفاصيل لحياته اليومية والخاصةِ، لهذا فهو يحرم
الصحافة ذات الفضول غير المعرفي من علف يومي، فيبدو كما لو انه أصبح في
طيّ النسيان، وقد يكون الكثير من الناس على معرفة بدرجات متفاوتة بهذا
المبدع او ذاك، لكنها معرفة تقتصر على ما يرشح من السيرة الذاتية او ما
يحاول الاعلام اختزاله كي يوحي للناس بأنه يمارس دوره في الرّصد
والمتابعة...
لقد عرف التاريخ كتابا كانوا من مشاهير عصرهم الاشدّ
سطوعا ونفوذا، لكن ما إن تواروا حتى توارت معهم أعمالهم، بعكس بعض الكتّاب
الذين اعاد لهم النقد اعتبارهم بعد الموت، والمثال المتكرر في هذا السياق
يشمل روائيا وشاعرين، الروائي هو مارسيل بروست صاحب رواية البحث عن الزمن
الضائع، والذي كان الأقل شهرة بين مجايليه، اما الشاعران فأحدهما عربي
ورائد هو بدر شاكر السيّاب، والاخرى شاعرة كانت تزهد في نشر أعمالها، قبل
الرحيل هي 'اميلي ديكنسون' التي أعاد اليها النقد الاعتبار بعد رحيلها.
ويعد
نجيب محفوظ من الاستثناءات النادرة لمن ظفروا بشهرة واسعة اثناء حياتهم
واهتمام كبير بعد رحيلهم، لكن الاهتمام بعد الرحيل ليس مرئيا بوضوح لوسائل
الاعلام، او للصحافة التي تقدم وجبات سريعة وتقدم سلسلة من العتبات التي
لا تفضي الى جدران وبيوت... وقبل الحكم على استذكار او نسيان نجيب محفوظ
على من يتصدى لهذه المسألة ان يقدم رصدا دقيقا بما صدر من دراسات نقدية
واطروحات اكاديمية وندوات حول أعمال الراحل الكبير ..
* * * * * * *
ثلاثة
أعوام ليست سوى فاصلة في سياق زمني عندما يتعلق الامر بمبدعين يصح عليهم
ذلك الوصف الذي قدّمه سارتر لكامو بعد موته المفاجئ، رغم ما كان بينهما من
خلاف، فقد قال عنه انه كان ينتزع جسده من القبر بكل كلمة كتبها كما لو ان
الكلمات معاول، وأهمية روائي مثل نجيب محفوظ لا تقتصر على الصورة التي
ساهمت السينما والصحافة في رسمها له... فأعماله التي تحولت الى افلام
سينمائية أوهمت من شاهدوها بأنهم في غنىً عن قراءتها، خصوصا في مجتمعات
تنوب فيها العيون عن كل شيء.
والنقد الذي تعامل بقدر ملحوظ من التحفظ
مع أعمال نجيب ذات البعد الميتافيزيقي، بحيث أصبح التأويل الذي تزخر
بامكاناته داجنا عند الحدود المسموح بها، فنجيب محفوظ لم يكن كما يوحي سطح
سيرته الأليفة بعيدا عن الشكوك في كل شيء، بدءا من السياسة حتى التأملات
في الحياة والموت والعقائد، وباستثناء ما أثير من سجال حول روايته 'اولاد
حارتنا' فإن الكثير من اعماله القابلة للتأويل بسبب غناها وزخم مضامينها
بقي محروما من سبر الأغوار، ومادة خاما وفيرة لدراسات اكاديمية، غالبا ما
تقع فيها الحوافر على الحوافر، وتستعاد الافكار ذاتها من خلال مقولات أعيد
انتاجها لغويا فقط!
لقد كان نجيب محفوظ شغوفا بشحن نصوصه بالهواجس التي
تجعلها قابلة لعدّة قراءات، فكل عمل أدبي ناضج ويستحق البقاء هو حسب تعبير
شهير لبرادلي 'عمل متعدد' ..
لقد قُرئت رواية الطريق مثلا وفق التأويل
الذي تستحقه، عندما وجد سيد الرحيمي من يربط بينه وبين جمال الدين
الأفغاني، ليس فقط من خلال الملامح والشعر الأسود الناعم، بل لأنه من خلال
التسمية ذات الدلالة وهو سيد سيد الرحيمي المخلّص الذي حوّل حياة ابنه
صابر الى مرحلة للبحث عنه لكن دون طائل، بحيث انتهى الى حبل المشنقة، وقد
اشرنا ذات مرة في مناسبة محفوظية الى ان استخدام نجيب محفوظ لاسماء الشخوص
هو استخدام مضلّل، لأن الصفة غالبا ما تأتي بعكس الموصوف، فالبغايا في
رواياته لهنّ اسماء مضادة، مثل كريمة في الطريق، ونور في اللص والكلاب،
والكامل وفقا لهذه الرؤية المضادة هو الناقص في السراب، اما رؤوف علوان
الذي أغوى سعيد مهران ودرّبه على السرقة عندما قال له بأنها الوسيلة
المثلى لتحقيق العدالة، فقد امتطى ضحيته عندما أصبح صحافيا كي يصل الى
منصب أعلى.. لهذا لم يكن رؤوفا ولا علوانا، بقدر ما كان أحد هؤلاء الكلاب
الذين انتجت ثقافتهم الوصولية وذرائعيتهم الكلبية مهران وأمثاله ..
* * * * * * *
يرى
بعض نقّاد نجيب محفوظ انه من الصعب الامساك بموقف سياسي له من خلال
أعماله، رغم انها في معظمها على صلة عضوية بالنسيج الحي للواقع، بابعاده
الاجتماعية والسياسية والتربوية، وقد يكون السبب في ذلك ما أضافته السينما
الى محفوظ من مواقف وسطية، كما حدث في فيلم السمّان والخريف، عندما تحوّل
الوفدي المخلوع من منصبه وهو عيسى الدبّاغ الى مقاوم ضد العدوان الثلاثي
على مصر عام 1956، بينما كان زعماؤه ينتظرون سقوط الثورة، وعودة الملكية،
ومنهم من اقترح الاستعانة بالانكليز، ومن الاختزال المبالغ فيه تصنيف مبدع
من طراز محفوظ ضمن خانة ايديولوجية، كأن يقال عنه بأنه وفدي او ناصري او
ماركسي، فالابداع عصيّ على هذه التصنيفات المدرسية الأفقية، ولدى نجيب
محفوظ مجمل أعماله هواجس متعلّقة بالوجود والعدم، والشك واليقين، والطاعة
والعصيان، وقد تكون رواية الشحّاذ النموذج الأوضح لكل هذه الهواجس، فالبطل
الذي أشبع معظم رغائبه من النجاح المهني والنساء والمال وجد نفسه ضائعا في
عالم لا يفهمه، لهذا فإن رواية الشحاذ بالتحديد لا تزال على موعد مع
قراءات مغامرة، تستنبطها وتضيء الغامض من أعماقها.. ومن الطبيعي ان يتضاعف
الاهتمام بأي كاتب وليس بمحفوظ فقط بعد نيل جائزة نوبل، لكن الأمر قدر
تعلّقه بالعرب، يختلف كثيرا من عدة جوانب، فالجائزة تصبح أهم من الذي
استحقّها، ويكثر عدد من يدعونها وكأن من استحقها ونالها هو مجرد اسم
مستعار او حركي لهم ... لهذا كان معظم ما كتب عن محفوظ بعد حصوله على نوبل
احتفائيا، وتدليكا صحافيا وليس جماليا للنرجسية التي أصابها الذبول، وحين
يوصف بأنه عالمي يحرم من الصفة التي أهّلته اساسا لهذه العالمية وهي
محليّته المصرية بالدرجة الأولى، لكن العرب الذين تخطف أبصارهم وبصائرهم
صفات من طراز دولي وعالمي وكوني، ينسون جذر المسألة كلّها، فالمطارات
العربية كلّها دولية وكذلك الصيدليات والحوانيت الكبرى والفنادق ... ولو
رحل محفوظ قبل فوزه بنوبل لما خسرت اعماله حرفا واحدا، فالجائزة لم تُضِف
اليه بقدر ما كانت اعترافا بما أنجز قبل حصوله عليها ..
* * * * * * * *
هناك
ظاهرة تستحق التأمل تشمل نجيب محفوظ وآخرين من كبار المبدعين، هي ان أقرب
الناس الى هؤلاء لم يكونوا من زملائهم في المهنة، ومن يطلق عليهم اسم
الحرافيش، وهم المقربون الحميمون الى محفوظ كان منهم الممثل السينمائي
والمخرج والمهندس، وقد شاهدت على احدى الفضائيات حوارا اجراه الروائي
الصديق جمال الغيطاني مع مهندس كان من اقرب الاصدقاء الى محفوظ، بحيث زاره
في بيته رغم ندرة هذه الزيارات بالنسبة لمحفوظ ذي النظام الاجتماعي
المحافظ والصارم... وتذكرت على الفور ان اقرب اصدقاء الشاعر محمود درويش
كانوا من غير الشعراء والكتّاب، ومنهم المهندس المثقف ورجل الأعمال
المستنير... وقد كان محمود هو القاسم المشترك بيني وبين هؤلاء الاصدقاء،
ويقال ان أقرب صديق لألبير كامو كان صانع براميل في مدينة وهران، كما ان
ميلر يعترف بأن اصحابه هم سائقو شاحنات وعمّال، انها ظاهرة تستحق التأمل
بالفعل، وكان اول من أشار اليها هو بيكاسو عندما قال بأن لقاءاته مع
زملائه الفنانين نادرا ما كان الحديث يدور فيها عن الرسم، بل عن أسعار
الزيوت والقماش واجور صالات العرض.
ربما لأن نجيب محفوظ كان ذا حدس
سايكولوجي مشحوذ، فهو لا يثرثر عمّا يكتب، ولم يكن تضخّم الذات قد بلغ
لديه حدّ التسرطن، لهذا نصدّقه تماما عندما يقول بأنه في اليوم الذي حصل
فيه على نوبل التي يحلم بها ألوف الكتّاب في العالم ومنه العالم العربي،
كان قد استعدّ للعودة الى بيته قبل اعلان الجائزة وحين سمع من احد زملائه
في الصحيفة ان عليه ان ينتظر قليلا كي يعرف من هو الفائز، اجاب بهدوء بأنه
سوف يسمع النبأ في اليوم التالي...لكن زوجته أيقظته في اليوم نفسه، وهي
تقول له بأن من فاز بالجائزة هو نجيب محفوظ ...
ثلاثة اعوام من الرحيل
تكفي لأن تجف أكاليل الورد على الضريح، لكنها لن تقوى على زهرة واحدة من
زهور محفوظ، سواء كانت تلك الريفية العصيّة على السقوط في رواية ميرامار
واسمها زهرة، او أية زهرة في عروة معطف عيسى الدباغ او في ضفائر نساء
الثلاثية الخالدة !!
القدس العربي
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 65
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» حقوق الكلاب !! /خيري منصور
» محفوظ في النقد الجامعي المغربي
» ليلة القبض على امرئ القيس!: خيري منصور
» نجيب محفوظ :ملف
» "الأسطورة في روايات نجيب محفوظ "لسناء الشعلان
» محفوظ في النقد الجامعي المغربي
» ليلة القبض على امرئ القيس!: خيري منصور
» نجيب محفوظ :ملف
» "الأسطورة في روايات نجيب محفوظ "لسناء الشعلان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى