ليلة القبض على امرئ القيس!: خيري منصور
صفحة 1 من اصل 1
ليلة القبض على امرئ القيس!: خيري منصور
ما من أمة كالعرب أقامت كل هذا الوزن للشعر عندما أنابت الشاعر عن قضاتها
وفلاسفتها وعهدت اليه بالذود عن كل ما يخصّها، حتى تحوّل بالفعل الى ناطق
رسمي باسم القبيلة قبل الدولة، لكن ما من أمة ألحقت كل هذا الاذى بالشعر
ايضا، عندما حملته ما لا يطيق من اعبائها، وفرضت عليه ان يكذب ليكون
الأجمل وأن يمسّد شعر النمر كي يأمن لبعض الوقت شرّه، فمنذ أكثر من ستة
عشر قرنا والشعر يراوح بين ديوان العرب وحَظيرتهم، وبين الاعلى والأوطأ في
سلم المنظومة التي تجسّد القيم لديهم، لكن الشعر غابة وليس حديقة داجنة،
لهذا على الحفيد الضّال ان يختار بين الحطيئة والحلاج وبين باعة المدائح
المتجولين ومن خبزوا طحين الماس وماتوا على الطوى .
غزل يوشك ان يحوّل
المرأة الى بديل سماوي، لكن ما ان نفكك الأحجية حتى نجد ان المرأة مجرد
ممدوح آخر، ينافق من أجل غنائم من طراز آخر ايضا، لهذا لا أجد فرقا بين
تناقضات المتنبي مثلا حول كافور وبين من يحول المرأة اذا صدت الى خيمة
شرور وليس صندوق شرور فقط كما فعل الاغريق بباندورا. فكيف استطاع الشعر ان
يؤاخي بين المقدّس والمدنّس، وبين الأعلى والأدنى على هذا النحو الذي
حوّله الى حرفة بامتياز؟
امر امرئ القيس ليس الأمثولة، فهو مجرد مثال
مبكر وقد دفع ثمن تلك الاستغاثة بذوي البعدى على ذوي القربى عندما تهرأ
جلده وتقرّح ثم مات على سفح جبل عيسب، فقد أراد ملكا لكن ما من قيصر، لهذا
عاتب صاحبه الذي بكى لأنه أيقن بأن الطريق الى القيصر طويل ... لقد حلم
الشاعر العربي بملكوت آخر خارج مدار الشعر مراراً، وتوّج أبو الطيب هذا
الحلم بما اشتهى ان يكون عندما شطر نفسه الى لسان شعري وفؤاد ملكي، فهو
يزهو بأنه ينتسب الى أم لم تلده والى أب سقّاء لم يكن جديرا بِأبوته، لهذا
فالعقوق في حالة المتنبي طاعة للذات، وتلبية لندائها السرّي، فهو لم يكن
ليغار من شاعرية أبي فراس بقدر ما غار من ولايته ومن علاقة الدم التي
ربطته بسيف الدولة، لهذا رأى في نفسه الشحم وفي خصمه الورم .
منذ امر
امرئ القيس والمراوحة على اشدها بين مهنة الكلام والقدرة على الفعل، أي
بين الفاعل والمنفعل وان كان ابو تمام قد حسم الامر عندما قال ان السيف هو
الأصدق من الكلام، لأنه يمثل الجدّ فيما يمثل الكلام اللعب، وقد عانى
الشاعر العربي في مختلف العصور من الدفاع عن حقه في أن يقول ما يريد لأنه
مطالب على الدوام بِأن يقول ما يراد منه، فما من اعتراف جدي بفرديته
وبالتالي بعالمه الخاص فلا يصح له ان يبكي اذا اصابت القوم نوبة ضحك
مجنون، او يبتسم اذا نصب سرادق العزاء، وهذا ما فطن اليه شاعر عربي بعد
حرب حزيران (يونيو) عندما حول النقد الشاعر الى ابليس واخذ يرجمه لأنه
تحمل عبء الهزيمة، وتساءل الشاعر يومئذ عن حصة الجنرال ذي الاوسمة من هذا
العقاب؟
ليت زهيرا بن أبي سلمى قال: ما الشعر الا ما علمتم
وذقتم... فالحرب ليس أولى وأجدر من الشعر الذي ولد ملتبسا وحمال أوجه
ومحروما من حرية التدفق من منابعه نحو المصب الذي يريد .
لقد ألزمت
القبيلة الشاعر قبل ان يلزمه الحزب او توظفه الدولة بقرون، وكان عليه ان
يخلع عينيه ليرى بعيون الاخرين، مثلما كان عليه ان يختبر اعزّ تفاصيل
تجربته ليختزل القول كله في خلاصات تسمى الحكم ... فوراء الحكمة او
الموعظة غابت التجربة الحية الطازجة، وهذا ما أهل الشعر لأن يكون اقوالا
يستشهد بها في المناسبات المتماثلة .
ولا نبالغ لو قلنا على سبيل
المثال فقط بأن الثالوث الأموي الذي صنّف شعره تحت عنوان يشبه الخيمة هو
النقائض كان سيقول شيئا آخر لو انه اهتدى الى نفسه، ولم يرتهن لسجال
الخلافة، وان كان هذا الافتراض يصبح عديم المعنى والجدوى بعد ان اكتمل
منجز هؤلاء الشعراء بالموت ! واحيانا يدهشنا استمرار مفهوم او قيمة زالت
اسبابها، وانقطعت تماما عن مناسبتها، بحيث تبدو أيام العرب وقد تمددت في
الثقافة الجوفية الى ما بعد الحداثة، وان كان الممدوح قد تبدّل من سلطان
الى حزب او حتى قضية او امرأة !
نعرف شعراء صنّفوا نقديا على أنهم
معاصرون هاجروا بكل حمولتهم من الخريف العباسي الى مطالع القرن الحادي
والعشرين، ومنهم من اختلط عليه الأمر فظن ان الحصان له دور في الحرب على
العراق او في العدوان على غزّة، ولم يكن السيف الذي انتهى الى الصدأ في
الغمد المطرّز خارج هذه الهجرة ايضا، وكأن الزمان تجمّد قبل عدة قرون،
واذا كان الحالمون بتمدين واقع شبه رعوي قد راهنوا على حرق المراحل
فاحترقوا ولم تحترق، فإن الشاعر الذي توهّم بأن التقاويم كانت كافية
لتصنيف القدماء والمحدثين انتهى ايضا الى جاهلي يدخن السيجار ويقود
السيارة الفخمة او يرقص الفالس على ايقاعات الطبول !
ان هذا التعايش
القسري بين شعر ينتسب الى ما قبل ألف عام شكلا ومحتوى ورؤى وبين شعر يحاول
اجتراح افق يوسع المدى لا يفرضه مزاج ديموقراطي بقدر ما يفرضه طقس رسمي
سواء في مهرجانات او في منابر او على شاشات !
ما قاله انطون مقدسي
ذات مقارنة مأساوية بين العربي المعاصر واسلافه القدامى، يصلح الان لا
كقرينة فقط بل كمفتاح لافتضاض القفل الذي علاه الصدأ، قال ان قامة العربي
القديم كانت متطابقة مع هويته، اي انه كان انسانا بقدر ما كان عربيا، ووفق
هذا المقياس فإن العربي الآن يحاول عبثا ان يستطيل بواسطة كعب خشبي مرتفع
كي يبلغ هذا التطابق، والشعر مجال حيوي لهذا الافتراق، بحيث اصبح الشاعر
العربي يستمد شرعية مكانته من عناصر استشراقية، فهو يريد الحصور على
اعتراف من هناك ... من لغة ما او ثقافة ما كي يظفر بالاعتراف هنا، وهذا
بحدّ ذاته تعبير دقيق عن شعور بالضآلة، وهو مرض تصاب به الشعوب في مراحل
الانحطاط او عندما تعاني من جرح بليغ في الهوية !
ان امرأ القيس في
طبعته الحديثة يذهب ايضا الى القيصر، لكن ليس للاستغاثة به ضد ابناء عمه
وقبيلته من اجل الملك، بل من أجل شيء آخر تماما، ويبدو ان هذا النمط من
الهجرة قدر الانسان عندما يستبد به احساس بالتقصير، لهذا تكثر في أيامنا
الأمثلة الشعبية والحِكَم التي تكرس مفهوم النبيّ الذي لا كرامة له في
وطنه، او مغنية الحي لا تطرب، ورغم ان هناك مبررات سايكولوجية لتداول هذه
الامثال لكن الشعر بالذات لا يصلح ميدانا حيويا لها، فالعربي الذي يترجم
شعره الى الانكليزية او الفرنسية او الالمانية لا يصبح مطربا خارج الحي
وقد جرّبت هذا عندما قرأت نصوصا في العديد من الأمكنة التي احسست فيها ما
أحسه ابو الطيب في شعب بوان ويخطئ من يتوقع من الثقافة ان تكون اعتذارا عن
السياسة عندما تقتادنا السياسة الى الهاوية، فالمناخ كله يصبح ملوثا
ومليئا بالاكاسيد، وهذا ما يفسر لنا على نحو مباشر انتقال عدوى التلوث
والفساد بمختلف مستوياته الى الثقافة بحيث أصبحت المنافس الأخطر على عالم
السياسة لأنها اذا فسدت فسد الملح، وانسدت الافاق واصبح كل شيء في مهب
الانحطاط وانعطاب البوصلة الاخلاقية !
ان ما نهمس به لبعضنا في مختلف
المناسبات يشكل تاريخا شفويا موازيا للتاريخ الرسمي او المدوّن، لكن ما
نقوله سرا يتحول الى النقيض امام مكبرات الصوت والكاميرات، فالازدواجية
اصبحت وبائية لفرط انتشارها وصرنا بحاجة الى معجم من طراز المعجم الذي
اقترحه اورويل كي نفهم الدلالات المضادة للمفردات !
كلام لليل وآخر
للنهار، ورأي للصديق وآخر للغرباء، والمتوالية ماضية بتسارع كارثي نحو
فترة قد نحنّ فيها الى الصمت لأنه أجدى من كل هذه الثرثرة !
ان
اقتران كل بلد عربي الآن باسم شاعر واحد وروائي واحد ورسام واحد هو
المعادل الثقافي للباترياركية السياسية، مما يجزم بأن الخراب الذي نشكو
منه بنيوي ونسيجيّ وليس موضوعيا، فالثقافة مبتلاة هي الأخرى بالسّدنة وبمن
لعبوا في الظل دور الديكتاتور لكن على نحو كاريكاتوري، لأن امبراطورية هذا
الطاغية هي مجرد مساحات مهجورة في تضاريس وهمية.
ولو شئنا مزيدا من
الاقتراب رغم ما يزكم الأنوف من الرائحة، فإن ما يشكو منه البعض هو ما
يتغذون منه ويرضعونه، وهو الأكثر تضررا من فقدانهم لكن أحدث صيغة للتواطؤ
الان هي ان تحصل على توازن وهمي من خلال ادانة رمزية وشفوية وممنوعة من
الصرف لمن تعتبره ولي نعمتك، سواء كان دولة او حزبا او قبيلة اعيد انتاجها
وفق ادبيات الحداثة !
والشاعر العربي الذي اوصى احفاده بالمسألة بمعنى
الكدية باعتبارها نمط انتاج ابدي لم يمت تماما، بل فاض عن قبره ليعبر
الأمكنة باتجاه هذا الوقت... فالحروب ذات النوازع البدائية قد تتغير
وتتطور تقنية ادواتها لكنها تبقى كما هي في العمق، واذا كان ما سمي التكسب
بالشعر قد انتهى كما يعتقد اكاديميون يتعاملون مع التاريخ افقيا ومدرسيا،
فإن تلك المدرسة الابتدائية قد تحولت في عصرنا الى اكاديمية، وحين يفحص
ذات يوم الشعر الذي كتب ونشر وتم تسويقه شعبيا لن تكون الحصيلة أفضل من
تلك التي انتهى اليها ناقد عربي قديم أبقى على بضع مخطوطات بعد أن ألقى
بأكوام من الورق في الزنابيل الى المزبلة !
لقد شملتنا جميعا تلك
الليلة التي تجاوزت بطولها الليالي الألف/ وهي ليلة القبض على الملك
الضلّيل في الطريق من الشعر الى الولاية ومن الملاذ الوهمي الى الموت!
شاعر وكاتب من الاردن- القدس العربي
وفلاسفتها وعهدت اليه بالذود عن كل ما يخصّها، حتى تحوّل بالفعل الى ناطق
رسمي باسم القبيلة قبل الدولة، لكن ما من أمة ألحقت كل هذا الاذى بالشعر
ايضا، عندما حملته ما لا يطيق من اعبائها، وفرضت عليه ان يكذب ليكون
الأجمل وأن يمسّد شعر النمر كي يأمن لبعض الوقت شرّه، فمنذ أكثر من ستة
عشر قرنا والشعر يراوح بين ديوان العرب وحَظيرتهم، وبين الاعلى والأوطأ في
سلم المنظومة التي تجسّد القيم لديهم، لكن الشعر غابة وليس حديقة داجنة،
لهذا على الحفيد الضّال ان يختار بين الحطيئة والحلاج وبين باعة المدائح
المتجولين ومن خبزوا طحين الماس وماتوا على الطوى .
غزل يوشك ان يحوّل
المرأة الى بديل سماوي، لكن ما ان نفكك الأحجية حتى نجد ان المرأة مجرد
ممدوح آخر، ينافق من أجل غنائم من طراز آخر ايضا، لهذا لا أجد فرقا بين
تناقضات المتنبي مثلا حول كافور وبين من يحول المرأة اذا صدت الى خيمة
شرور وليس صندوق شرور فقط كما فعل الاغريق بباندورا. فكيف استطاع الشعر ان
يؤاخي بين المقدّس والمدنّس، وبين الأعلى والأدنى على هذا النحو الذي
حوّله الى حرفة بامتياز؟
امر امرئ القيس ليس الأمثولة، فهو مجرد مثال
مبكر وقد دفع ثمن تلك الاستغاثة بذوي البعدى على ذوي القربى عندما تهرأ
جلده وتقرّح ثم مات على سفح جبل عيسب، فقد أراد ملكا لكن ما من قيصر، لهذا
عاتب صاحبه الذي بكى لأنه أيقن بأن الطريق الى القيصر طويل ... لقد حلم
الشاعر العربي بملكوت آخر خارج مدار الشعر مراراً، وتوّج أبو الطيب هذا
الحلم بما اشتهى ان يكون عندما شطر نفسه الى لسان شعري وفؤاد ملكي، فهو
يزهو بأنه ينتسب الى أم لم تلده والى أب سقّاء لم يكن جديرا بِأبوته، لهذا
فالعقوق في حالة المتنبي طاعة للذات، وتلبية لندائها السرّي، فهو لم يكن
ليغار من شاعرية أبي فراس بقدر ما غار من ولايته ومن علاقة الدم التي
ربطته بسيف الدولة، لهذا رأى في نفسه الشحم وفي خصمه الورم .
منذ امر
امرئ القيس والمراوحة على اشدها بين مهنة الكلام والقدرة على الفعل، أي
بين الفاعل والمنفعل وان كان ابو تمام قد حسم الامر عندما قال ان السيف هو
الأصدق من الكلام، لأنه يمثل الجدّ فيما يمثل الكلام اللعب، وقد عانى
الشاعر العربي في مختلف العصور من الدفاع عن حقه في أن يقول ما يريد لأنه
مطالب على الدوام بِأن يقول ما يراد منه، فما من اعتراف جدي بفرديته
وبالتالي بعالمه الخاص فلا يصح له ان يبكي اذا اصابت القوم نوبة ضحك
مجنون، او يبتسم اذا نصب سرادق العزاء، وهذا ما فطن اليه شاعر عربي بعد
حرب حزيران (يونيو) عندما حول النقد الشاعر الى ابليس واخذ يرجمه لأنه
تحمل عبء الهزيمة، وتساءل الشاعر يومئذ عن حصة الجنرال ذي الاوسمة من هذا
العقاب؟
ليت زهيرا بن أبي سلمى قال: ما الشعر الا ما علمتم
وذقتم... فالحرب ليس أولى وأجدر من الشعر الذي ولد ملتبسا وحمال أوجه
ومحروما من حرية التدفق من منابعه نحو المصب الذي يريد .
لقد ألزمت
القبيلة الشاعر قبل ان يلزمه الحزب او توظفه الدولة بقرون، وكان عليه ان
يخلع عينيه ليرى بعيون الاخرين، مثلما كان عليه ان يختبر اعزّ تفاصيل
تجربته ليختزل القول كله في خلاصات تسمى الحكم ... فوراء الحكمة او
الموعظة غابت التجربة الحية الطازجة، وهذا ما أهل الشعر لأن يكون اقوالا
يستشهد بها في المناسبات المتماثلة .
ولا نبالغ لو قلنا على سبيل
المثال فقط بأن الثالوث الأموي الذي صنّف شعره تحت عنوان يشبه الخيمة هو
النقائض كان سيقول شيئا آخر لو انه اهتدى الى نفسه، ولم يرتهن لسجال
الخلافة، وان كان هذا الافتراض يصبح عديم المعنى والجدوى بعد ان اكتمل
منجز هؤلاء الشعراء بالموت ! واحيانا يدهشنا استمرار مفهوم او قيمة زالت
اسبابها، وانقطعت تماما عن مناسبتها، بحيث تبدو أيام العرب وقد تمددت في
الثقافة الجوفية الى ما بعد الحداثة، وان كان الممدوح قد تبدّل من سلطان
الى حزب او حتى قضية او امرأة !
نعرف شعراء صنّفوا نقديا على أنهم
معاصرون هاجروا بكل حمولتهم من الخريف العباسي الى مطالع القرن الحادي
والعشرين، ومنهم من اختلط عليه الأمر فظن ان الحصان له دور في الحرب على
العراق او في العدوان على غزّة، ولم يكن السيف الذي انتهى الى الصدأ في
الغمد المطرّز خارج هذه الهجرة ايضا، وكأن الزمان تجمّد قبل عدة قرون،
واذا كان الحالمون بتمدين واقع شبه رعوي قد راهنوا على حرق المراحل
فاحترقوا ولم تحترق، فإن الشاعر الذي توهّم بأن التقاويم كانت كافية
لتصنيف القدماء والمحدثين انتهى ايضا الى جاهلي يدخن السيجار ويقود
السيارة الفخمة او يرقص الفالس على ايقاعات الطبول !
ان هذا التعايش
القسري بين شعر ينتسب الى ما قبل ألف عام شكلا ومحتوى ورؤى وبين شعر يحاول
اجتراح افق يوسع المدى لا يفرضه مزاج ديموقراطي بقدر ما يفرضه طقس رسمي
سواء في مهرجانات او في منابر او على شاشات !
ما قاله انطون مقدسي
ذات مقارنة مأساوية بين العربي المعاصر واسلافه القدامى، يصلح الان لا
كقرينة فقط بل كمفتاح لافتضاض القفل الذي علاه الصدأ، قال ان قامة العربي
القديم كانت متطابقة مع هويته، اي انه كان انسانا بقدر ما كان عربيا، ووفق
هذا المقياس فإن العربي الآن يحاول عبثا ان يستطيل بواسطة كعب خشبي مرتفع
كي يبلغ هذا التطابق، والشعر مجال حيوي لهذا الافتراق، بحيث اصبح الشاعر
العربي يستمد شرعية مكانته من عناصر استشراقية، فهو يريد الحصور على
اعتراف من هناك ... من لغة ما او ثقافة ما كي يظفر بالاعتراف هنا، وهذا
بحدّ ذاته تعبير دقيق عن شعور بالضآلة، وهو مرض تصاب به الشعوب في مراحل
الانحطاط او عندما تعاني من جرح بليغ في الهوية !
ان امرأ القيس في
طبعته الحديثة يذهب ايضا الى القيصر، لكن ليس للاستغاثة به ضد ابناء عمه
وقبيلته من اجل الملك، بل من أجل شيء آخر تماما، ويبدو ان هذا النمط من
الهجرة قدر الانسان عندما يستبد به احساس بالتقصير، لهذا تكثر في أيامنا
الأمثلة الشعبية والحِكَم التي تكرس مفهوم النبيّ الذي لا كرامة له في
وطنه، او مغنية الحي لا تطرب، ورغم ان هناك مبررات سايكولوجية لتداول هذه
الامثال لكن الشعر بالذات لا يصلح ميدانا حيويا لها، فالعربي الذي يترجم
شعره الى الانكليزية او الفرنسية او الالمانية لا يصبح مطربا خارج الحي
وقد جرّبت هذا عندما قرأت نصوصا في العديد من الأمكنة التي احسست فيها ما
أحسه ابو الطيب في شعب بوان ويخطئ من يتوقع من الثقافة ان تكون اعتذارا عن
السياسة عندما تقتادنا السياسة الى الهاوية، فالمناخ كله يصبح ملوثا
ومليئا بالاكاسيد، وهذا ما يفسر لنا على نحو مباشر انتقال عدوى التلوث
والفساد بمختلف مستوياته الى الثقافة بحيث أصبحت المنافس الأخطر على عالم
السياسة لأنها اذا فسدت فسد الملح، وانسدت الافاق واصبح كل شيء في مهب
الانحطاط وانعطاب البوصلة الاخلاقية !
ان ما نهمس به لبعضنا في مختلف
المناسبات يشكل تاريخا شفويا موازيا للتاريخ الرسمي او المدوّن، لكن ما
نقوله سرا يتحول الى النقيض امام مكبرات الصوت والكاميرات، فالازدواجية
اصبحت وبائية لفرط انتشارها وصرنا بحاجة الى معجم من طراز المعجم الذي
اقترحه اورويل كي نفهم الدلالات المضادة للمفردات !
كلام لليل وآخر
للنهار، ورأي للصديق وآخر للغرباء، والمتوالية ماضية بتسارع كارثي نحو
فترة قد نحنّ فيها الى الصمت لأنه أجدى من كل هذه الثرثرة !
ان
اقتران كل بلد عربي الآن باسم شاعر واحد وروائي واحد ورسام واحد هو
المعادل الثقافي للباترياركية السياسية، مما يجزم بأن الخراب الذي نشكو
منه بنيوي ونسيجيّ وليس موضوعيا، فالثقافة مبتلاة هي الأخرى بالسّدنة وبمن
لعبوا في الظل دور الديكتاتور لكن على نحو كاريكاتوري، لأن امبراطورية هذا
الطاغية هي مجرد مساحات مهجورة في تضاريس وهمية.
ولو شئنا مزيدا من
الاقتراب رغم ما يزكم الأنوف من الرائحة، فإن ما يشكو منه البعض هو ما
يتغذون منه ويرضعونه، وهو الأكثر تضررا من فقدانهم لكن أحدث صيغة للتواطؤ
الان هي ان تحصل على توازن وهمي من خلال ادانة رمزية وشفوية وممنوعة من
الصرف لمن تعتبره ولي نعمتك، سواء كان دولة او حزبا او قبيلة اعيد انتاجها
وفق ادبيات الحداثة !
والشاعر العربي الذي اوصى احفاده بالمسألة بمعنى
الكدية باعتبارها نمط انتاج ابدي لم يمت تماما، بل فاض عن قبره ليعبر
الأمكنة باتجاه هذا الوقت... فالحروب ذات النوازع البدائية قد تتغير
وتتطور تقنية ادواتها لكنها تبقى كما هي في العمق، واذا كان ما سمي التكسب
بالشعر قد انتهى كما يعتقد اكاديميون يتعاملون مع التاريخ افقيا ومدرسيا،
فإن تلك المدرسة الابتدائية قد تحولت في عصرنا الى اكاديمية، وحين يفحص
ذات يوم الشعر الذي كتب ونشر وتم تسويقه شعبيا لن تكون الحصيلة أفضل من
تلك التي انتهى اليها ناقد عربي قديم أبقى على بضع مخطوطات بعد أن ألقى
بأكوام من الورق في الزنابيل الى المزبلة !
لقد شملتنا جميعا تلك
الليلة التي تجاوزت بطولها الليالي الألف/ وهي ليلة القبض على الملك
الضلّيل في الطريق من الشعر الى الولاية ومن الملاذ الوهمي الى الموت!
شاعر وكاتب من الاردن- القدس العربي
منصور- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1943
العمر : 44
Localisation : loin du bled
تاريخ التسجيل : 07/05/2007
مواضيع مماثلة
» حقوق الكلاب !! /خيري منصور
» الطائر أمْ عُشّه؟: خيري منصور
» محفوظ وثلاثية الرّحيل!/ خيري منصور
» ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
» ليلة القبض على " عيشة قنديشة "!!
» الطائر أمْ عُشّه؟: خيري منصور
» محفوظ وثلاثية الرّحيل!/ خيري منصور
» ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
» ليلة القبض على " عيشة قنديشة "!!
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى