قوانين التغيير الاجتماعية/خالص جلبي
صفحة 1 من اصل 1
قوانين التغيير الاجتماعية/خالص جلبي
عندما جاء نابليون إلى مصر كانت تعيش كما تركها كافور الإخشيدي، وكان
الحجاج الفقراء الأوربيون الذين جاؤوا أيام صلاح الدين الأيوبي مختلفين،
فلم يعودوا عصابات صليبية مفلسة، يقودها ملوك أميون من طراز ريتشارد قلب
الأسد.
هذه المرة طوقوا الأرض بإمبراطوريات من نوع جديد، واحتلوا ثلاث قارات
جديدة أبادوا سكانها بالبنادق، وكتبت الحضارة بلغتهم، بمداد أحمر، من
الشمال إلى اليمين، وطلعت الشمس من مغربها، في انقلاب كامل لمحاور
الجغرافيا وإحداثيات الحضارة.
وكانت أكبر غلطة وقع فيها فرسان المماليك تصورَهم أن معركة سفح
الأهرام شبيهة بمعركة المنصورة، فالفقراء الأوربيون هذه المرة لم يعودوا
فقراء بل أغنياء يملكون معابر القارات وسطوح المحيطات وذهب الأنكا وفضة
البيرو.
ولم يعد الصراع يقوده طاغية ضد طاغية، بل فرد وحيد مختبئ في الظلام،
ضد إدارة جماعية تخطط فنياً للصراع وتشرف عليه وتتأكد من سلامة التنفيذ،
بآليات مراقبة ومؤسسات منوعة وبقاعدة عقلانية من خلق جديد وتركيب مستحدث.
كما رأينا في كذب مسيلمة الصحاف وقصف الدهشة والصدمة من رامسفيلد سيىء
الذكر.
كانت الكارثة عندنا كاملة والخسوف العقلي بدون نهاية...
والذي مهد لهذا الكسوف هو ضرب التيار العقلاني منذ العصر العباسي،
وتصفية مؤسساته، وإعدام كتبه وكتابه، وتغييب رموزه، وعدم الاستفادة من
أدمغة متوهجة من نموذج ابن رشد وابن خلدون، وكلاهما مغربيان.
فكر (ابن رشد) و(ابن خلدون) السنني لم يترك أثره بكل أسف في العقل
الإسلامي حتى اليوم، فالطريق الذي شقه ابن خلدون لم يتفطن أحد إلى خطورة
اكتشافه، ولهذا لم يتابع أحد هذه الومضات الخالدة وهذا التحليق المدهش.
أما ابن رشد فهو متهم حتى الآن؟!
والذين استفادوا من هذا الفكر (السنني) هم رواد النهضة الغربية خاصة
في إيطاليا، حيث أُطلق تيار عقلي تحرري، بدأ ينتبه إلى فكرة (السنن) في
إدراك الوجود و(البحث التجريبي) الذي يقوم على طريقة جديدة في فهم الوجود
هي الطريقة (الاستقرائية) بدلاً من الطريقة الأرسطية القديمة
(الاستنباطية) التي تعتمد البحث النظري البحت، المفصول عن الواقع، للوصول
إلى حقائق الوجود.
كانت طريقة ابن خلدون (الاستقرائية) ثورة على الفكر القديم بتدشين
(العودة إلى الواقع) لأن أي (صخرة) أدل على نفسها من أي نص كتب عنها، أياً
كان مصدره، أي بربط الفكر النظري بالواقع، بتأمل قوانين المجتمع، كما هي؟
وكيف تعمل؟ لا كيف يجب أن تكون حسب خيالاتنا، كما فكر من قبل أرسطو
وأفلاطون، وهي نقلة نوعية في الفكر.
هذا النوع من التفكير عند ابن خلدون في اعتبار (الطبيعة والتاريخ)
من مصادر المعرفة هو روح إسلامية، وثورة على التفكير اليوناني القديم،
ففكرة (السنة) تكررت بشكل ملفت للنظر في القرآن.
والسنة ليست في الخواص الفيزيائية لمعدن ولا في البيولوجيا، بل السنة
(النفسية الاجتماعية)، واعتبر أن هذه السنة ثابتة، فلا تتغير ولا تتبدل.
وإذا كانت حركة التاريخ تخضع للقانون (السنة)، فهل التاريخ يعمل بشكل آلي أعمى، أم له قانونه الخاص الذي ينتظمه؟
هذا السؤال هو لب المشكلة الفلسفية، فالقانون يفرض نوعا من (الحتمية)
على العقل، ولكن قانون الفيزياء غير قانون البيولوجيا، كما أن قانون الذرة
غير قانون المجرة، وقوانين (ميكانيكا الكم) و(النسبية) غير القوانين
(النفسية والاجتماعية)، ذلك أن المجتمع له قوانينه الخاصة التي تسيِّره،
ولكن الديناميكية الاجتماعية مرتبطة بالإرادة الإنسانية، لذا أصبح المجتمع
متطوراً وقابلاً للتغيير، في حين سارت بقية القوانين تتابع نفسها بشكل آلي
رتيب أعمى منفعل سلبي.
فكيف يمكن فهم قانون تغيير ما بالنفوس؟؟
إن النفس الإنسانية لا تشكل لحناً شاذاً في منظومة الوجود، ولكن قطاع
التغيير فيها يختلف عن العالم المادي أو البيولوجي فـ(وحدة التأثير) هنا
هي (الفكرة)، واعتبرت الآية القرآنية أن تغيير ما بالنفس ممكن، والواقع
يمدنا بشواهد يومية على ذلك.
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ففي هذه الآية الرائعة تنقدح (حزمة) من الأشعة الفكرية!
(1) يقول الشعاع الفكري الأول:
إن الإرادة الإلهية شاءت أن يقوم التغيير الاجتماعي على مجموعة من
السنن المحكمة، ومن هذه السنن (الجهد الإنساني)، فالله لا يغير الواقع
الاجتماعي ما لم يتدخل الفعل الإنساني، فلولا الماء المهين ما تمت عملية
الخلق المبين.
(2) ويقول الشعاع الفكري الثاني:
إن هذا القانون دنيوي أرضي، فحظوظ الإنسان في الدنيا تتعلق بالمجتمع
الذي يحيا فيه الإنسان، فلو خير الطفل اليوم بين أن يولد في رواندا أو
ألمانيا لاختار ألمانيا، والسبب بسيط هو وجود الضمانات، فمنذ اليوم الأول
من ولادة الإنسان تكون حظوظه في ألمانيا ألا يموت بالأمراض وألا يقتل بحرب
أهلية أو لا يموت جوعاً بالمسغبة وأن يكون منعماً غنياً عنده مهنة ممتازة
وأن يحصِّل تدريساً عالياً.
ولا يعني هذا أن كل من يولد في رواندا يكون فقيراً أو أن من يولد في
الصومال يكون مريضاً، أو أن من يولد في أفغانستان يكون مقطوع الساقين
بقذيفة مدفع، ولكن هذه الاحتمالات تتراوح وتزيد وتنقص حسب الوضع التاريخي
للمجتمع، فلو ولد الفرد في ألمانيا قبل نصف قرن لربما قتل في إحدى
الجبهات.
إذن، المسؤولية والحساب في الآخرة فردية (ولقد جئتمونا فرادى كما
خلقناكم أول مرة)، في حين أن الكوارث الاجتماعية تتناول كل شرائح المجتمع
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).
وفي حديث (السفينة) عبرة كبيرة للمشكلة الاجتماعية، فعندما تنطلق
القوارض، من جرذان السفن الاجتماعية تنهش في قعر السفينة ثَقْباً، فإن
الذي يغرق في هذه الحالة الجميع بدون استثناء، بمن فيهم القوارض الحمقاء
التي لا تبصر أكثر من أرنبة أنفها وشواربها، بتضخم الذات المريضة
السرطانية على حساب المجتمع.
(3) ويقول الشعاع الفكري الثالث:
إن هذا القانون بشري، يضم كل البشر، مؤمنين وملحدين، وهذا يطلق شرارة يقظة على عدة مستويات:
ـ المستوى الأول:
إن الكون مسخر (كمونياً) بالقوة، يتسخر مجاناً لمن يدرك قوانين
تسخيره، بغض النظر عن العقيدة التي يعتنقها، فهو حقل متاح للجميع (كلاً
نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا).
هكذا، طير الأمريكيون الحديد في الهواء، وأطلق اليابانيون الإعصار
الإلكتروني من قمقمه، وفتك الصرب بالمسلمين بالسلاح الذي طوره الشيوعيون.
ـ المستوى الثاني:
ليست هناك محاباة ووساطة ورشاوى في هذا الكون الذي نعيش فيه، وليس
هناك قربى وزلفى إلا بالعمل المتقن، والإخلاص بدون حدود، والحذر من
الأخطاء بدون نوم.
ويجب أن يدرك المسلمون أنهم يعذبون بذنوبهم اليوم، كما عذب اليهود
والنصارى من قبل (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم
يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق).
(4) ويقول الشعاع الفكري الرابع:
إن هذا القانون اجتماعي وليس فرديا، فلو أراد فرد أو مجموعة صغيرة أن
تغير ما بنفسها قد يحصل العكس، فقد تتعرض للسحق تحت قانون (الدجاجة
الجريحة)، ذلك أن الخارجين عن الانضباط الاجتماعي يصبحون مثل الدجاجة
المجروحة، فتأتي بقية الدجاجات وتنقر محل الجرح النازف حتى الموت؟!
ولذا كان المجددون والأنبياء والمصلحون الاجتماعيون يعيشون حياتين:
داخلية غنية خصبة مليئة بالمعاني والقيم، وأخرى خارجية صعبة وغير مريحة،
في حين أن أصحاب العقارات والملايين يعيشون نفس الوضع ولكن مقلوباً، لأن
المال يسبح بين الحسرة والقلق، لذا كان على عاشقي الحكمة ومحبي العلم ألا
يكنزوا لهم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وينقب الناقبون ويسرق
اللصوص!
(5) ويقول الشعاع الفكري الخامس:
إن لفظة (ما) في آية سورة الرعد استبدلت بلفظة (نعمة) في آية سورة
الأنفال، وبذلك فإنه يمكن للنعم أن تتغير لتصبح (نقماً) والعكس صحيح!!
والنعم كثيرة لا يحصيها العدد، من الصحة والغنى والتعليم والحياة الزوجية الهنيئة، وظروف العمل المريحة، والأمن الاجتماعي.
ومقابلاتها من انتشار الأمراض، وفساد التعليم، ورشوة القضاء، والتوتر
في ظروف العمل، والخوف الاجتماعي، وسطوة الأنظمة الأمنية. وجمعت الآية
القرآنية نموذجين متواجهين (ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً
يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع
والخوف بما كانوا يصنعون).
وليست هناك (نعمة) أعظم من الشعور بالأمن إذا اجتمع مع رغد العيش
وراحة البال، وكنت أتعجب من (الوجوه الألمانية الكالحة والمتجهمة) مع كل
رغد العيش المتوفر والسلام الاجتماعي.
واليوم أدرك أن أعظم سعادةٍ يحققها الإنسان في هذه الدنيا هي (قوت
اليوم) في مجتمع يوفر (الضمانات) للأفراد الذين يعيشون فيه بما فيها
(الطمأنينة الروحية)، وبدون الجانب الروحي الأخير فلا فائدة من كل
الشوكولاته الاجتماعية (وتطمئن قلوبهم بذكر الله)، فهذه الطمأنينة هي التي
كان يفقدها الألمان والغربيون عموماً، فلا يشعرون بالسعادة مع كل مجتمع
الرفاهية.
كما أن العكس صحيح بفقر عالم (الأشياء)، فالعلماء تفيض قلوبهم
بالسعادة ولو فرغت جيوبهم من اليورو والدولار، لأنهم (لا يملكون الأشياء
كما لا تملكهم الأشياء). وإسقاط هذه الأفكار على واقع العالم العربي
المعاصر يوصلنا إلى حافة الصدمة! فالثقافة العربية لا تعاني من غياب العدل
الاجتماعي وحده، في مجتمع لا ضمانات فيه، بل من غياب الوعي عند مواطن قد
تخلى عن حقوقه قبل أن يولد، في مجتمع أخرس.
الثقافة العربية متورطة في مجموعة من الأخطاء القاتلة، من انتظار
القائد الملهم، والسباحة في عالم الخوارق، والعجز عن تبادل السلطة السلمي،
وتأليه القوة، وتفشي الغدر، وسريان وباء انعدام الثقة.
لقد تحول المجتمع العربي منذ عصر الحجاج إلى مجتمع من الصيادين،
يقوم على اصطياد الفرص، فالخدمات العامة ليست حقاً دستورياً للمواطن، بل
فرصة يجب أن يصطادها بصنارة تناسب الغرض.
مواطن بدون وطن، في موت قبل الموت. يحلم بجنسية يهرب إليها تمنحه الحياة.
راجع مريض طبيبه سائلاً بذعر: يا دكتور، هل حالتي ميئوس منها؟ هل تعتقد أنني سأعيش يا دكتور؟
قال له الطبيب: نعم،... ولكني لا أنصحك بذلك؟
المساء
الحجاج الفقراء الأوربيون الذين جاؤوا أيام صلاح الدين الأيوبي مختلفين،
فلم يعودوا عصابات صليبية مفلسة، يقودها ملوك أميون من طراز ريتشارد قلب
الأسد.
هذه المرة طوقوا الأرض بإمبراطوريات من نوع جديد، واحتلوا ثلاث قارات
جديدة أبادوا سكانها بالبنادق، وكتبت الحضارة بلغتهم، بمداد أحمر، من
الشمال إلى اليمين، وطلعت الشمس من مغربها، في انقلاب كامل لمحاور
الجغرافيا وإحداثيات الحضارة.
وكانت أكبر غلطة وقع فيها فرسان المماليك تصورَهم أن معركة سفح
الأهرام شبيهة بمعركة المنصورة، فالفقراء الأوربيون هذه المرة لم يعودوا
فقراء بل أغنياء يملكون معابر القارات وسطوح المحيطات وذهب الأنكا وفضة
البيرو.
ولم يعد الصراع يقوده طاغية ضد طاغية، بل فرد وحيد مختبئ في الظلام،
ضد إدارة جماعية تخطط فنياً للصراع وتشرف عليه وتتأكد من سلامة التنفيذ،
بآليات مراقبة ومؤسسات منوعة وبقاعدة عقلانية من خلق جديد وتركيب مستحدث.
كما رأينا في كذب مسيلمة الصحاف وقصف الدهشة والصدمة من رامسفيلد سيىء
الذكر.
كانت الكارثة عندنا كاملة والخسوف العقلي بدون نهاية...
والذي مهد لهذا الكسوف هو ضرب التيار العقلاني منذ العصر العباسي،
وتصفية مؤسساته، وإعدام كتبه وكتابه، وتغييب رموزه، وعدم الاستفادة من
أدمغة متوهجة من نموذج ابن رشد وابن خلدون، وكلاهما مغربيان.
فكر (ابن رشد) و(ابن خلدون) السنني لم يترك أثره بكل أسف في العقل
الإسلامي حتى اليوم، فالطريق الذي شقه ابن خلدون لم يتفطن أحد إلى خطورة
اكتشافه، ولهذا لم يتابع أحد هذه الومضات الخالدة وهذا التحليق المدهش.
أما ابن رشد فهو متهم حتى الآن؟!
والذين استفادوا من هذا الفكر (السنني) هم رواد النهضة الغربية خاصة
في إيطاليا، حيث أُطلق تيار عقلي تحرري، بدأ ينتبه إلى فكرة (السنن) في
إدراك الوجود و(البحث التجريبي) الذي يقوم على طريقة جديدة في فهم الوجود
هي الطريقة (الاستقرائية) بدلاً من الطريقة الأرسطية القديمة
(الاستنباطية) التي تعتمد البحث النظري البحت، المفصول عن الواقع، للوصول
إلى حقائق الوجود.
كانت طريقة ابن خلدون (الاستقرائية) ثورة على الفكر القديم بتدشين
(العودة إلى الواقع) لأن أي (صخرة) أدل على نفسها من أي نص كتب عنها، أياً
كان مصدره، أي بربط الفكر النظري بالواقع، بتأمل قوانين المجتمع، كما هي؟
وكيف تعمل؟ لا كيف يجب أن تكون حسب خيالاتنا، كما فكر من قبل أرسطو
وأفلاطون، وهي نقلة نوعية في الفكر.
هذا النوع من التفكير عند ابن خلدون في اعتبار (الطبيعة والتاريخ)
من مصادر المعرفة هو روح إسلامية، وثورة على التفكير اليوناني القديم،
ففكرة (السنة) تكررت بشكل ملفت للنظر في القرآن.
والسنة ليست في الخواص الفيزيائية لمعدن ولا في البيولوجيا، بل السنة
(النفسية الاجتماعية)، واعتبر أن هذه السنة ثابتة، فلا تتغير ولا تتبدل.
وإذا كانت حركة التاريخ تخضع للقانون (السنة)، فهل التاريخ يعمل بشكل آلي أعمى، أم له قانونه الخاص الذي ينتظمه؟
هذا السؤال هو لب المشكلة الفلسفية، فالقانون يفرض نوعا من (الحتمية)
على العقل، ولكن قانون الفيزياء غير قانون البيولوجيا، كما أن قانون الذرة
غير قانون المجرة، وقوانين (ميكانيكا الكم) و(النسبية) غير القوانين
(النفسية والاجتماعية)، ذلك أن المجتمع له قوانينه الخاصة التي تسيِّره،
ولكن الديناميكية الاجتماعية مرتبطة بالإرادة الإنسانية، لذا أصبح المجتمع
متطوراً وقابلاً للتغيير، في حين سارت بقية القوانين تتابع نفسها بشكل آلي
رتيب أعمى منفعل سلبي.
فكيف يمكن فهم قانون تغيير ما بالنفوس؟؟
إن النفس الإنسانية لا تشكل لحناً شاذاً في منظومة الوجود، ولكن قطاع
التغيير فيها يختلف عن العالم المادي أو البيولوجي فـ(وحدة التأثير) هنا
هي (الفكرة)، واعتبرت الآية القرآنية أن تغيير ما بالنفس ممكن، والواقع
يمدنا بشواهد يومية على ذلك.
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ففي هذه الآية الرائعة تنقدح (حزمة) من الأشعة الفكرية!
(1) يقول الشعاع الفكري الأول:
إن الإرادة الإلهية شاءت أن يقوم التغيير الاجتماعي على مجموعة من
السنن المحكمة، ومن هذه السنن (الجهد الإنساني)، فالله لا يغير الواقع
الاجتماعي ما لم يتدخل الفعل الإنساني، فلولا الماء المهين ما تمت عملية
الخلق المبين.
(2) ويقول الشعاع الفكري الثاني:
إن هذا القانون دنيوي أرضي، فحظوظ الإنسان في الدنيا تتعلق بالمجتمع
الذي يحيا فيه الإنسان، فلو خير الطفل اليوم بين أن يولد في رواندا أو
ألمانيا لاختار ألمانيا، والسبب بسيط هو وجود الضمانات، فمنذ اليوم الأول
من ولادة الإنسان تكون حظوظه في ألمانيا ألا يموت بالأمراض وألا يقتل بحرب
أهلية أو لا يموت جوعاً بالمسغبة وأن يكون منعماً غنياً عنده مهنة ممتازة
وأن يحصِّل تدريساً عالياً.
ولا يعني هذا أن كل من يولد في رواندا يكون فقيراً أو أن من يولد في
الصومال يكون مريضاً، أو أن من يولد في أفغانستان يكون مقطوع الساقين
بقذيفة مدفع، ولكن هذه الاحتمالات تتراوح وتزيد وتنقص حسب الوضع التاريخي
للمجتمع، فلو ولد الفرد في ألمانيا قبل نصف قرن لربما قتل في إحدى
الجبهات.
إذن، المسؤولية والحساب في الآخرة فردية (ولقد جئتمونا فرادى كما
خلقناكم أول مرة)، في حين أن الكوارث الاجتماعية تتناول كل شرائح المجتمع
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).
وفي حديث (السفينة) عبرة كبيرة للمشكلة الاجتماعية، فعندما تنطلق
القوارض، من جرذان السفن الاجتماعية تنهش في قعر السفينة ثَقْباً، فإن
الذي يغرق في هذه الحالة الجميع بدون استثناء، بمن فيهم القوارض الحمقاء
التي لا تبصر أكثر من أرنبة أنفها وشواربها، بتضخم الذات المريضة
السرطانية على حساب المجتمع.
(3) ويقول الشعاع الفكري الثالث:
إن هذا القانون بشري، يضم كل البشر، مؤمنين وملحدين، وهذا يطلق شرارة يقظة على عدة مستويات:
ـ المستوى الأول:
إن الكون مسخر (كمونياً) بالقوة، يتسخر مجاناً لمن يدرك قوانين
تسخيره، بغض النظر عن العقيدة التي يعتنقها، فهو حقل متاح للجميع (كلاً
نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا).
هكذا، طير الأمريكيون الحديد في الهواء، وأطلق اليابانيون الإعصار
الإلكتروني من قمقمه، وفتك الصرب بالمسلمين بالسلاح الذي طوره الشيوعيون.
ـ المستوى الثاني:
ليست هناك محاباة ووساطة ورشاوى في هذا الكون الذي نعيش فيه، وليس
هناك قربى وزلفى إلا بالعمل المتقن، والإخلاص بدون حدود، والحذر من
الأخطاء بدون نوم.
ويجب أن يدرك المسلمون أنهم يعذبون بذنوبهم اليوم، كما عذب اليهود
والنصارى من قبل (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم
يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق).
(4) ويقول الشعاع الفكري الرابع:
إن هذا القانون اجتماعي وليس فرديا، فلو أراد فرد أو مجموعة صغيرة أن
تغير ما بنفسها قد يحصل العكس، فقد تتعرض للسحق تحت قانون (الدجاجة
الجريحة)، ذلك أن الخارجين عن الانضباط الاجتماعي يصبحون مثل الدجاجة
المجروحة، فتأتي بقية الدجاجات وتنقر محل الجرح النازف حتى الموت؟!
ولذا كان المجددون والأنبياء والمصلحون الاجتماعيون يعيشون حياتين:
داخلية غنية خصبة مليئة بالمعاني والقيم، وأخرى خارجية صعبة وغير مريحة،
في حين أن أصحاب العقارات والملايين يعيشون نفس الوضع ولكن مقلوباً، لأن
المال يسبح بين الحسرة والقلق، لذا كان على عاشقي الحكمة ومحبي العلم ألا
يكنزوا لهم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وينقب الناقبون ويسرق
اللصوص!
(5) ويقول الشعاع الفكري الخامس:
إن لفظة (ما) في آية سورة الرعد استبدلت بلفظة (نعمة) في آية سورة
الأنفال، وبذلك فإنه يمكن للنعم أن تتغير لتصبح (نقماً) والعكس صحيح!!
والنعم كثيرة لا يحصيها العدد، من الصحة والغنى والتعليم والحياة الزوجية الهنيئة، وظروف العمل المريحة، والأمن الاجتماعي.
ومقابلاتها من انتشار الأمراض، وفساد التعليم، ورشوة القضاء، والتوتر
في ظروف العمل، والخوف الاجتماعي، وسطوة الأنظمة الأمنية. وجمعت الآية
القرآنية نموذجين متواجهين (ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً
يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع
والخوف بما كانوا يصنعون).
وليست هناك (نعمة) أعظم من الشعور بالأمن إذا اجتمع مع رغد العيش
وراحة البال، وكنت أتعجب من (الوجوه الألمانية الكالحة والمتجهمة) مع كل
رغد العيش المتوفر والسلام الاجتماعي.
واليوم أدرك أن أعظم سعادةٍ يحققها الإنسان في هذه الدنيا هي (قوت
اليوم) في مجتمع يوفر (الضمانات) للأفراد الذين يعيشون فيه بما فيها
(الطمأنينة الروحية)، وبدون الجانب الروحي الأخير فلا فائدة من كل
الشوكولاته الاجتماعية (وتطمئن قلوبهم بذكر الله)، فهذه الطمأنينة هي التي
كان يفقدها الألمان والغربيون عموماً، فلا يشعرون بالسعادة مع كل مجتمع
الرفاهية.
كما أن العكس صحيح بفقر عالم (الأشياء)، فالعلماء تفيض قلوبهم
بالسعادة ولو فرغت جيوبهم من اليورو والدولار، لأنهم (لا يملكون الأشياء
كما لا تملكهم الأشياء). وإسقاط هذه الأفكار على واقع العالم العربي
المعاصر يوصلنا إلى حافة الصدمة! فالثقافة العربية لا تعاني من غياب العدل
الاجتماعي وحده، في مجتمع لا ضمانات فيه، بل من غياب الوعي عند مواطن قد
تخلى عن حقوقه قبل أن يولد، في مجتمع أخرس.
الثقافة العربية متورطة في مجموعة من الأخطاء القاتلة، من انتظار
القائد الملهم، والسباحة في عالم الخوارق، والعجز عن تبادل السلطة السلمي،
وتأليه القوة، وتفشي الغدر، وسريان وباء انعدام الثقة.
لقد تحول المجتمع العربي منذ عصر الحجاج إلى مجتمع من الصيادين،
يقوم على اصطياد الفرص، فالخدمات العامة ليست حقاً دستورياً للمواطن، بل
فرصة يجب أن يصطادها بصنارة تناسب الغرض.
مواطن بدون وطن، في موت قبل الموت. يحلم بجنسية يهرب إليها تمنحه الحياة.
راجع مريض طبيبه سائلاً بذعر: يا دكتور، هل حالتي ميئوس منها؟ هل تعتقد أنني سأعيش يا دكتور؟
قال له الطبيب: نعم،... ولكني لا أنصحك بذلك؟
المساء
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» الحــــرب التي لا تـــــنسى :خالص جلبي
» ليس من سبيل إلى الصحة إلا بالصوم :خالص جلبي
» عصر الجراثيم والفيروسات القاتلة/خالص جلبي
» لماذا لا يُعلن بوتفليقة نفسه إمبراطوراً مدى الحياة؟ / بقلم خالص جلبي
» حلم التغيير
» ليس من سبيل إلى الصحة إلا بالصوم :خالص جلبي
» عصر الجراثيم والفيروسات القاتلة/خالص جلبي
» لماذا لا يُعلن بوتفليقة نفسه إمبراطوراً مدى الحياة؟ / بقلم خالص جلبي
» حلم التغيير
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى