عصر الجراثيم والفيروسات القاتلة/خالص جلبي
صفحة 1 من اصل 1
عصر الجراثيم والفيروسات القاتلة/خالص جلبي
هكذا نشرت مجلة «در الشبيجل» الألمانية عنواناً على أحد أعدادها عندما
اندلع مرض فيروس «الإيبولا» في زائير في مدينة كيك ويت. وهكذا يهتز العالم
اليوم مع جائحة «أنفلونزا الخنازير»..
ونشرت لي مجلة «العربي» الكويتية بحثاً تفصيلياً عنه لأنني اهتممت به
فور اندلاعه. وعرضت قناة «الديسكفري» ساعة عنه، أظهرت فظاعته بما يصبح مرض
الإيدز بجانبه ليس شيئاً مذكورا.
واليوم، يبدو الطب في حيرة أمام مجموعة من الجراثيم والفيروسات التي
ظن أنه ودعها إلى غير رجعة، فظهر بوش وهو يلقح نفسه ضد الجدري، بعد أن عرف
العالم آخر حالة في إفريقيا عام 1978م، وعرفنا أن مخابئ سرية في العالم
مازالت محتفظة به إلى يوم الحرب البيولوجية.
كما ظهر التحدي بلونين: عودة القديم بعد أن خسرت الصّادّات الحيوية الجولة، وظهور جراثيم كانت بسيطة فأصبحت خطيرة ممرضة.
وما قصة «أنفلونزا الخنازير» سوى واحدة في مسلسل عارم.
واليوم في المشافي تعشش فصيلة من الجراثيم التي لا يفعل بها أي صاد
حيوي، فتقارع الكل وتغلب الجميع. وبين يدي الأطباء اليوم مدفعية ثقيلة من
مادة الفانكومايسين، ولكنها أحياناً لا تفعل شيئاً حيال بعض الجراثيم
المعندة مثل (MRSA).
وبدأت جراثيم السل تعاود هجمتها من جديد مع فصائل أخرى.
أما فيروس الإيبولا فقد ضرب في زائير، فكان يقضي على الناس في ساعات،
وهو من النوع الشرس الدموي، فيفجر العروق الدموية في كل مكان، وينزف
المريض من كل فج من جسمه.
وعندما نقل المريض الأول إلى المستشفى تحت شبهة التهاب زائدة دودية
كانت النتيجة أن المريض مات مع فريق الجراحين والممرضات في حفلة موت
جماعي. إن هذا الكلام يعرفنا بطبيعة العصر الذي نعيش فيه.
ولقد حاول فيلم (الانفجار OUTBREAK) تصوير هذه الحقيقة عندما انفجر
المرض من قرد استورد من إفريقيا، يحمل في دمه نوعاً من الفيروسات التي
غيرت طبيعتها، وعندما انتشر المرض في قرية، وبدأ ينتقل عن طريق الهواء كان
معناه إمكانية تدمير أمريكا كلها.
وبالطبع، فهذا من الخيال العلمي في هوليوود، ولكن الجوائح عندما تحدث
لا تأخذ موعدا، كما أنها لا تستأذن في الدخول، بل تضرب بعنف وبدون سابق
إنذار.
ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة.
إن هذا الكلام يلقي الضوء على انتشار فيروس بين حين وآخر.. والمسلسل
طويل.. التهاب الكبد الوبائي بفصائله المختلفة A B C، والسي بدوره قبائل
شتى؟؟
حمى الوادي المتصدع، الإيدز، الإيبولا، السارز، أنفلونزا الخنازير،.. والرواية طويلة؟؟
ونحن من نكتب أمامنا مسؤولية ثقيلة بين واجبي الصمت والكلام، ويجب أن
نقول كلاماً لا يوقظ نائماً ولا يزعج مستيقظاً ولا يستنفر مراقبا ويحفز
ضابطا أمنيا؟
فهذا هو تحدي الكلمة وأفخاخها الخطيرة ولكنها تبقى مسؤولية، فيجب أن ندلي بالشهادة، وأي شيء أكبر شهادة؟
وبأكبر قدر ممكن من التوضيح بدون تخويف، وهي مهمة صعبة إلا من سهلها الله عليه.
ويجب أن نحمل قدرا كبيرا من الأمل والتفاؤل إلى المواطن، فالطب اليوم ليس مثل قبل مائة سنة.
كما أن الفيروسات ليست مثل قبل مائة سنة والحرب شغالة والتحدي أكبر!!
وفي مطلع القرن، كانت جثث الناس في ميناء هامبورج الألمانية تبلغ الألف يومياً، من وراء وباء الكوليرا.
ولكن قد يضرب فيروس فيحمل عشرة آلاف جثة يوميا إلى المقابر، فهو أمر ليس للهزل!
كما أن الكاتب العراقي الوردي يذكر عن الوضع في العراق ما لا يصدقه
الإنسان من موت الناس الجماعي، وانتشار جثثهم في الشوارع، فتنهش لحومهم
الكلاب؟! ذكر ذلك في كتابه «موسوعة تاريخ العراق الحديث».
وإذا كان الطب قد احتاج إلى أربعة قرون حتى عرف سبب مرض الزهري، فإن
فيروس الإيدز تم كشفه في أربع سنين، مما يدل على تسارع طبي يبلغ مائة ضعف
ويزيد. وكان الأطفال في ألمانيا يموت منهم 23 % في مطلع القرن، والآن إذا
حدث مثل هذا يعتبر الوضع في حكم الكارثة..
سنة الله في خلقه.
وحين بدأت أنفلونزا 1918 كانت البداية بسيطة وبريئة، فعند الصباح تقدم
جندي أمريكي في ثكنة عسكرية بولاية أركنساس كان لا يشعر في نفسه أنه على
ما يرام.
كانت الشكوى آلاما مفصلية ووهنا عاما مع ترفع حروري. وسجل الجندي
مريضاً في ذلك الصباح، ولكن اليوم لم يكتمل إلا وسجلت عشرات الحالات من
نفس الشكوى ولم يعثر الأطباء على سبب. وقيل لاحقاً إن حرق كمية كبيرة من
السماد لربما حركت المرض، ولا يعرف أحد السبب على وجه الدقة حتى اليوم.
ولكن الكل يعلم بأن المرض أخذ إلى المقابر في أمريكا 550 ألف ضحية، أكثر مما أخذت كل الحروب الأمريكية.
ودفع العالم الثمن رهيباً يومها، لأن هذا المرض استفحل واشتد عوده، وانتشر في كل القارات وقضى على ثلاثين مليونا من الأنام.
وروى الشهود أن أحدهم كان يستيقظ ضاحكاً نشيطاً، وفي المساء يبكي عليه أحبابه، لأنه أصبح من عالم القبور.
كان المرض يضرب بدون رحمة في أمريكا التي كانت تعتبر نفسها أمة قوية
فتية، فكادت تتلاشى من الوجود. وخيم الرعب على الناس ففرغت الشوارع من
الناس، وبدت المدن مهجورة لأن كل شيء أغلق خوفاً من شبح الموت الذي يعس في
الأزقة على مدار الساعة يبحث عن ضيوف جدد يضمهم إلى قائمة الأموات.
وتقول سيدة نجت من الموت: لقد نشطت تجارة الصناديق الخشبية للأموات،
وكان النجارون أكثر الناس الذين يكسبون ولم تعد التوابيت تكفي، على الرغم
من ارتفاع السعر وكثرة الطلب؟ فلقد كان الأموات أكثر من الصناديق.
ثم عمد الناس إلى وضع أمواتهم أمام البيوت، حتى تمر البلدية فتأخذ الجثث، كما تجمع القمامات إلى الحاويات.
كان منظراً مرعباً بحق، وكان هذا مع مطلع القرن العشرين، ولا نكاد نصدق، ولكنها حفرت في الذاكرة بسطور من دمع وألم وموت وقبر.
وكان أكثر ما يقضي على الناس الازدحام، وكانت الحرب الكونية الأولى
ناشطة في أوربا، ووقف رئيس الولايات المتحدة يومها ويلسون حائراً أمام
الجائحة، وطلبت الجبهات المزيد من المقاتلين، فاجتمع على الناس الطعن
والطاعون والفناء من الجهات الست.
ومن أعظم الأشياء إثارة أن التاريخ حفظ لنا أفلاماً من الجائحة،
فقرب إلينا ماذا كان يفعل الطاعون في العصور الوسطى، حينما كان يهجم على
الحضارات فيمحو محاسن تلك الصور وتنهار الحضارات بداعي المرض، كما خلد ذلك
ابن خلدون بكلماته.
وضع الناس الكمامات على الأفواه حتى يحتاطوا، ولكن مثلهم كان مثل من
يضع الأسلاك الشائكة لحماية نفسه من دخول الغبار، لسبب بسيط هو أن الأطباء
لم يكونوا يعرفون يومها الفيروسات، لضعف قوة المجاهر وعدم التوصل إلى
اختراع المجهر الإلكتروني.
وعندما درس الأطباء تحت المجهر سوائل المرضى المصابين، عثروا على
الجراثيم المرافقة للالتهاب، الذي كان يتظاهر بأشكال حادة من التهابات
الرئة، فظنوا أنهم وصلوا إلى السر وكانوا أبعد من جزر الواق واق؟ فقد كان
سرابا خادعا لم يفعل شيئاً، كما كان الحال مع الكمامات التي لم تكن لتغني
أو تسمن من جوع.
وفي شهر واحد قضت الجائحة في مدينة بوسطن على 11 ألف إنسان، وبدأ موسم حفر القبور الجماعية، فكان الناس يتعانقون في عالم الآخرة.
وتذكر صحفية لامعة أنها هوت إلى وهدة المرض، فأشرف على العناية بها
حبيب قلبها، ولكنه دفع حياته ثمناً للحب، وتذكره بعد طول السنين بدمعة
حارة.
ثم انقشع المرض كما دخل بدون سبب، واليوم يعرف الطب أن السبب كان
فيروس الأنفلونزا، وهذا يعني أن الجنس البشري مهدد بأصغر الكائنات وأضعفها
وفي كل لحظة، ولم يكن عبثاً أن ضرب القرآن المثل بالذبابة والبعوضة والنحل
والنمل وما يعقلها إلا العالمون.
وحاليا، يخشى العلماء أن يحدث سيناريو مخيف أشد مما حدث في عام 1918م.
ويقدر العلماء أن فيروس «أنفلونزا الخنازير» يمتاز بخلطة تفجيرية
فظيعة، من تراكيب بضع قطع من فيروسات شتى، بين الأنفلونزا البشري
وأنفلونزا الطيور وخنازير أمريكا وأوراسيا.
ومن مخاطر هذا المرض أنه يحتضن، على ما يبدو، في الأغشية المخاطية
عند الخنازير قبل أن يبدأ بالانتقال إلى البشر، ثم قفزه من البشر إلى
البشر وعن طريق التنفس!
وفي الحقيقة، فإن كثيرا من الناس يقرؤون هذه المعلومات مثل الطلاسم فوجب التوضيح والتبسيط ومن عدة زوايا.
أولاها، ما هو الفيروس؟ وثانيتها، أين يقع في سلم الخلائق؟ وثالثتها،
كيف ينفجر المرض؟ وما هي أسسه الفلسفية؟ أي ما الذي يجعل فيروسا خاملا
نشيطا عدوانيا فتاكا، مثل أي إنسان يعيش بسلام، ثم وفجأة يبدأ في الجنون!؟
إن كارثة عام 1918، التي أودت بحياة خمسين مليونا من الأنام، يمكن أن
تتكرر على شكل أبشع في سيناريو المرض الحالي ما يسمونه النموذج الخامس،
فتتشكل قنبلة فيروسية اسمها السوبر فيروس (Super virus) فتضرب بالجائحة،
وعندها تتخلخل مفاصل المجتمع.
وحاليا، هناك احتمالات لأن تضرب هذه الجائحة ُالاقتصادَ العالمي، بما
يقترب من زلزال الرهن العقاري في أمريكا مع خسارة ثلاثة ملايين مليون
دولار!
وحين ضرب فيروس عام 1918 لم يعرف العالم كيف بدأ المرض، ومن أين جاء
وكيف انتشر وكيف اختفى في النهاية؟ فكله بقي سرا مغلقا حتى جاء المجهر
الإلكتروني، فأحصى المسألة عددا وفك أسرار مغاليقها.
ونحن نعلم، اليوم، عن الفيروسات أمورا أقرب إلى السحر والجان، وأولها
أن الفيروس لا يعتبر حيا ولا ميتا، أو هو بكلمة ثانية الميت الحي! أي هو
الجسر الذي يخرج فيه الحي من الميت والميت من الحي! فتبارك الله أحسن
الخالقين.
وتبقى فلسفة المرض مجهولة إلى حين، وحاليا يراهن العلماء على الأغشية
المخاطية عند الخنزير، تلك التي تتحول إلى ما يشبه مختبر التفاعل، في دمج
مكونات وراثية بعضها ببعض لإنتاج فيروس «أنفلونزا الخنازير» القاتل.
وحين انفجر مرض الإيدز، ذهل العالم من تقلب الفيروس وعدم ضبطه في
لقاح وعلاج، وما زال المرض ساري المفعول حتى اليوم، فليس في الأفق من علاج
ولقاح. ويسري نفس الشيء على «أنفلونزا الخنازير»، فهناك دواء التاميفلو
ورلينسيا، ولكنه ليس ذاك الدواء النوعي.
ومظاهر المرض تتراوح بين السعال والحرارة والضنك، وأذكر أيضا أنني في
سفري إلى المغرب مررنا في حاجز يحبس الحرارة ليعرف هل من مريض مرتفع
الحرارة حتى يتم عزله. وبهذه الطريقة، تتم مطاردة المرض في القارات الست.
وبسبب تحول العالم إلى ديجتال متداخل، فإمكانية أن يضرب المرض فيحصد أرواح الكثيرين وارد! حتى بأرقام فلكية من درجة الملايين!
المهم لنضع المبدأ الفلسفي نصب أعيننا: تفاءَل بالأفضل واستعدَّ للأسوأ..
وهذا يعني أن الجنس البشري مهدد بأخطار شتى والكرة الأرضية التي نعيش
فيها ليست مكانا آمنا بحال، ونحن كائنات هشة يفترسنا المرض ويطوينا الموت
فلا تسمع لهم ركزا..
في الثامن من غشت عام 1967 م تقدم المخبري (كلاوس . ف) الذي يعمل في
معامل البيولوجيا لاستخراج اللقاحات في مصانع (بهرنجر) في مدينة ماربورغ
الألمانية ـ بطلب إجازة قصيرة بسبب صداع لم يستطع معه متابعة العناية
بقرود المخبر، التي كان ينشر جماجمها بعد موتها لاستخراج الدماغ وزراعة
خلايا الكلية من أجل تحضير أمصال اللقاحات لشلل الأطفال والحصبة، ولكن
كلاوس المذكور لم يعد مطلقاً إلى مكان عمله وتم توديعه إلى مثواه الأخير
بعد 15 يوماً، وحين تم الكشف عن القرد الذي كان يعمل عليه وهو من نوع قرود
البحر الخضراء والتي تجلب في العادة من أوغندا، تبين أن دمها غاطس في
مليارات المليارات من الفيروسات المرعبة والتي هي من فصائل الإيبولا،
وأصيب مركز البحث العلمي في ماربورغ بالرعب في عدة مستويات، وشكر المصادفة
الجميلة التي راح ضحيتها أحد المخبريين، والتي لولاها لربما تم نشر اللقاح
بين ملايين الأطفال في العالم، ومعه السم الزعاف محمولاً على ظهر فيروسات
القتل، وبذلك تبرز فكرة في منتهى الخطورة عن عدة إمكانيات لقتل شعوباً
بأكملها، من خلال قتل أطفالها بخطأ أحمق من هذا الحجم، وإذا كانت هذه
الفيروسات تظهر على السطح بسرعة، فإن فيروس الإيدز يعس لفترة طويلة بحيث
يكون العالم قد وقع في كارثة جمعية رهيبة قبل أن يستطيع أن يفعل لها أي
شيء!!
ولنتخيل حدوث شيء من هذا القبيل في الستينيات من هذا القرن قبل كشف
اللثام عن كل تحدي الإيدز، وهذا كله يوحي بمدى التحديات والمطبات التي
تواجه الجنس البشري.
وفي نوفمبر من عام 1989م حصلت واقعة جديرة بإثارة الخيال العلمي،
هذه المرة في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما لاحظ تاجر للقرود يأتي
بها من الفيليبين في مدينة ريستون (RESTON) وهي ضاحية للعاصمة واشنطن،
أنها بدأت تمرض وتنزف، وكان انتقال المرض من قفص إلى آخر ليس عن طريق
التلامس المباشر أو المفرزات أو الدم، بل عن طريق الهواء، والأنكى من ذلك
أن العمال المعتنين بالقرود ظهرت عندهم مضادات الأجسام في اختبارات الدم
عندهم، مما يوحي بانتقال الفيروس إليهم بدون مظاهر سريرية.
إن العلماء يلتقطون أنفاسهم عندما يتصورون أن الفيروسات الخطيرة مثل
الإيدز أو الإيبولا تبدأ في تغيير طبيعتها، فيبدأ الانتقال عن طريق الهواء
بالسعال والرذاذ والتنفس والعطاس، عندها لن يبقى مكان واحد آمن على وجه
البسيطة.
حاليا أين ستضرب فيروسات الخنازير وكيف ستتطور ؟؟
إنها قصة كاملة في سلسلة صراع البشر مع الفيروسات والجراثيم..
المساء
اندلع مرض فيروس «الإيبولا» في زائير في مدينة كيك ويت. وهكذا يهتز العالم
اليوم مع جائحة «أنفلونزا الخنازير»..
ونشرت لي مجلة «العربي» الكويتية بحثاً تفصيلياً عنه لأنني اهتممت به
فور اندلاعه. وعرضت قناة «الديسكفري» ساعة عنه، أظهرت فظاعته بما يصبح مرض
الإيدز بجانبه ليس شيئاً مذكورا.
واليوم، يبدو الطب في حيرة أمام مجموعة من الجراثيم والفيروسات التي
ظن أنه ودعها إلى غير رجعة، فظهر بوش وهو يلقح نفسه ضد الجدري، بعد أن عرف
العالم آخر حالة في إفريقيا عام 1978م، وعرفنا أن مخابئ سرية في العالم
مازالت محتفظة به إلى يوم الحرب البيولوجية.
كما ظهر التحدي بلونين: عودة القديم بعد أن خسرت الصّادّات الحيوية الجولة، وظهور جراثيم كانت بسيطة فأصبحت خطيرة ممرضة.
وما قصة «أنفلونزا الخنازير» سوى واحدة في مسلسل عارم.
واليوم في المشافي تعشش فصيلة من الجراثيم التي لا يفعل بها أي صاد
حيوي، فتقارع الكل وتغلب الجميع. وبين يدي الأطباء اليوم مدفعية ثقيلة من
مادة الفانكومايسين، ولكنها أحياناً لا تفعل شيئاً حيال بعض الجراثيم
المعندة مثل (MRSA).
وبدأت جراثيم السل تعاود هجمتها من جديد مع فصائل أخرى.
أما فيروس الإيبولا فقد ضرب في زائير، فكان يقضي على الناس في ساعات،
وهو من النوع الشرس الدموي، فيفجر العروق الدموية في كل مكان، وينزف
المريض من كل فج من جسمه.
وعندما نقل المريض الأول إلى المستشفى تحت شبهة التهاب زائدة دودية
كانت النتيجة أن المريض مات مع فريق الجراحين والممرضات في حفلة موت
جماعي. إن هذا الكلام يعرفنا بطبيعة العصر الذي نعيش فيه.
ولقد حاول فيلم (الانفجار OUTBREAK) تصوير هذه الحقيقة عندما انفجر
المرض من قرد استورد من إفريقيا، يحمل في دمه نوعاً من الفيروسات التي
غيرت طبيعتها، وعندما انتشر المرض في قرية، وبدأ ينتقل عن طريق الهواء كان
معناه إمكانية تدمير أمريكا كلها.
وبالطبع، فهذا من الخيال العلمي في هوليوود، ولكن الجوائح عندما تحدث
لا تأخذ موعدا، كما أنها لا تستأذن في الدخول، بل تضرب بعنف وبدون سابق
إنذار.
ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة.
إن هذا الكلام يلقي الضوء على انتشار فيروس بين حين وآخر.. والمسلسل
طويل.. التهاب الكبد الوبائي بفصائله المختلفة A B C، والسي بدوره قبائل
شتى؟؟
حمى الوادي المتصدع، الإيدز، الإيبولا، السارز، أنفلونزا الخنازير،.. والرواية طويلة؟؟
ونحن من نكتب أمامنا مسؤولية ثقيلة بين واجبي الصمت والكلام، ويجب أن
نقول كلاماً لا يوقظ نائماً ولا يزعج مستيقظاً ولا يستنفر مراقبا ويحفز
ضابطا أمنيا؟
فهذا هو تحدي الكلمة وأفخاخها الخطيرة ولكنها تبقى مسؤولية، فيجب أن ندلي بالشهادة، وأي شيء أكبر شهادة؟
وبأكبر قدر ممكن من التوضيح بدون تخويف، وهي مهمة صعبة إلا من سهلها الله عليه.
ويجب أن نحمل قدرا كبيرا من الأمل والتفاؤل إلى المواطن، فالطب اليوم ليس مثل قبل مائة سنة.
كما أن الفيروسات ليست مثل قبل مائة سنة والحرب شغالة والتحدي أكبر!!
وفي مطلع القرن، كانت جثث الناس في ميناء هامبورج الألمانية تبلغ الألف يومياً، من وراء وباء الكوليرا.
ولكن قد يضرب فيروس فيحمل عشرة آلاف جثة يوميا إلى المقابر، فهو أمر ليس للهزل!
كما أن الكاتب العراقي الوردي يذكر عن الوضع في العراق ما لا يصدقه
الإنسان من موت الناس الجماعي، وانتشار جثثهم في الشوارع، فتنهش لحومهم
الكلاب؟! ذكر ذلك في كتابه «موسوعة تاريخ العراق الحديث».
وإذا كان الطب قد احتاج إلى أربعة قرون حتى عرف سبب مرض الزهري، فإن
فيروس الإيدز تم كشفه في أربع سنين، مما يدل على تسارع طبي يبلغ مائة ضعف
ويزيد. وكان الأطفال في ألمانيا يموت منهم 23 % في مطلع القرن، والآن إذا
حدث مثل هذا يعتبر الوضع في حكم الكارثة..
سنة الله في خلقه.
وحين بدأت أنفلونزا 1918 كانت البداية بسيطة وبريئة، فعند الصباح تقدم
جندي أمريكي في ثكنة عسكرية بولاية أركنساس كان لا يشعر في نفسه أنه على
ما يرام.
كانت الشكوى آلاما مفصلية ووهنا عاما مع ترفع حروري. وسجل الجندي
مريضاً في ذلك الصباح، ولكن اليوم لم يكتمل إلا وسجلت عشرات الحالات من
نفس الشكوى ولم يعثر الأطباء على سبب. وقيل لاحقاً إن حرق كمية كبيرة من
السماد لربما حركت المرض، ولا يعرف أحد السبب على وجه الدقة حتى اليوم.
ولكن الكل يعلم بأن المرض أخذ إلى المقابر في أمريكا 550 ألف ضحية، أكثر مما أخذت كل الحروب الأمريكية.
ودفع العالم الثمن رهيباً يومها، لأن هذا المرض استفحل واشتد عوده، وانتشر في كل القارات وقضى على ثلاثين مليونا من الأنام.
وروى الشهود أن أحدهم كان يستيقظ ضاحكاً نشيطاً، وفي المساء يبكي عليه أحبابه، لأنه أصبح من عالم القبور.
كان المرض يضرب بدون رحمة في أمريكا التي كانت تعتبر نفسها أمة قوية
فتية، فكادت تتلاشى من الوجود. وخيم الرعب على الناس ففرغت الشوارع من
الناس، وبدت المدن مهجورة لأن كل شيء أغلق خوفاً من شبح الموت الذي يعس في
الأزقة على مدار الساعة يبحث عن ضيوف جدد يضمهم إلى قائمة الأموات.
وتقول سيدة نجت من الموت: لقد نشطت تجارة الصناديق الخشبية للأموات،
وكان النجارون أكثر الناس الذين يكسبون ولم تعد التوابيت تكفي، على الرغم
من ارتفاع السعر وكثرة الطلب؟ فلقد كان الأموات أكثر من الصناديق.
ثم عمد الناس إلى وضع أمواتهم أمام البيوت، حتى تمر البلدية فتأخذ الجثث، كما تجمع القمامات إلى الحاويات.
كان منظراً مرعباً بحق، وكان هذا مع مطلع القرن العشرين، ولا نكاد نصدق، ولكنها حفرت في الذاكرة بسطور من دمع وألم وموت وقبر.
وكان أكثر ما يقضي على الناس الازدحام، وكانت الحرب الكونية الأولى
ناشطة في أوربا، ووقف رئيس الولايات المتحدة يومها ويلسون حائراً أمام
الجائحة، وطلبت الجبهات المزيد من المقاتلين، فاجتمع على الناس الطعن
والطاعون والفناء من الجهات الست.
ومن أعظم الأشياء إثارة أن التاريخ حفظ لنا أفلاماً من الجائحة،
فقرب إلينا ماذا كان يفعل الطاعون في العصور الوسطى، حينما كان يهجم على
الحضارات فيمحو محاسن تلك الصور وتنهار الحضارات بداعي المرض، كما خلد ذلك
ابن خلدون بكلماته.
وضع الناس الكمامات على الأفواه حتى يحتاطوا، ولكن مثلهم كان مثل من
يضع الأسلاك الشائكة لحماية نفسه من دخول الغبار، لسبب بسيط هو أن الأطباء
لم يكونوا يعرفون يومها الفيروسات، لضعف قوة المجاهر وعدم التوصل إلى
اختراع المجهر الإلكتروني.
وعندما درس الأطباء تحت المجهر سوائل المرضى المصابين، عثروا على
الجراثيم المرافقة للالتهاب، الذي كان يتظاهر بأشكال حادة من التهابات
الرئة، فظنوا أنهم وصلوا إلى السر وكانوا أبعد من جزر الواق واق؟ فقد كان
سرابا خادعا لم يفعل شيئاً، كما كان الحال مع الكمامات التي لم تكن لتغني
أو تسمن من جوع.
وفي شهر واحد قضت الجائحة في مدينة بوسطن على 11 ألف إنسان، وبدأ موسم حفر القبور الجماعية، فكان الناس يتعانقون في عالم الآخرة.
وتذكر صحفية لامعة أنها هوت إلى وهدة المرض، فأشرف على العناية بها
حبيب قلبها، ولكنه دفع حياته ثمناً للحب، وتذكره بعد طول السنين بدمعة
حارة.
ثم انقشع المرض كما دخل بدون سبب، واليوم يعرف الطب أن السبب كان
فيروس الأنفلونزا، وهذا يعني أن الجنس البشري مهدد بأصغر الكائنات وأضعفها
وفي كل لحظة، ولم يكن عبثاً أن ضرب القرآن المثل بالذبابة والبعوضة والنحل
والنمل وما يعقلها إلا العالمون.
وحاليا، يخشى العلماء أن يحدث سيناريو مخيف أشد مما حدث في عام 1918م.
ويقدر العلماء أن فيروس «أنفلونزا الخنازير» يمتاز بخلطة تفجيرية
فظيعة، من تراكيب بضع قطع من فيروسات شتى، بين الأنفلونزا البشري
وأنفلونزا الطيور وخنازير أمريكا وأوراسيا.
ومن مخاطر هذا المرض أنه يحتضن، على ما يبدو، في الأغشية المخاطية
عند الخنازير قبل أن يبدأ بالانتقال إلى البشر، ثم قفزه من البشر إلى
البشر وعن طريق التنفس!
وفي الحقيقة، فإن كثيرا من الناس يقرؤون هذه المعلومات مثل الطلاسم فوجب التوضيح والتبسيط ومن عدة زوايا.
أولاها، ما هو الفيروس؟ وثانيتها، أين يقع في سلم الخلائق؟ وثالثتها،
كيف ينفجر المرض؟ وما هي أسسه الفلسفية؟ أي ما الذي يجعل فيروسا خاملا
نشيطا عدوانيا فتاكا، مثل أي إنسان يعيش بسلام، ثم وفجأة يبدأ في الجنون!؟
إن كارثة عام 1918، التي أودت بحياة خمسين مليونا من الأنام، يمكن أن
تتكرر على شكل أبشع في سيناريو المرض الحالي ما يسمونه النموذج الخامس،
فتتشكل قنبلة فيروسية اسمها السوبر فيروس (Super virus) فتضرب بالجائحة،
وعندها تتخلخل مفاصل المجتمع.
وحاليا، هناك احتمالات لأن تضرب هذه الجائحة ُالاقتصادَ العالمي، بما
يقترب من زلزال الرهن العقاري في أمريكا مع خسارة ثلاثة ملايين مليون
دولار!
وحين ضرب فيروس عام 1918 لم يعرف العالم كيف بدأ المرض، ومن أين جاء
وكيف انتشر وكيف اختفى في النهاية؟ فكله بقي سرا مغلقا حتى جاء المجهر
الإلكتروني، فأحصى المسألة عددا وفك أسرار مغاليقها.
ونحن نعلم، اليوم، عن الفيروسات أمورا أقرب إلى السحر والجان، وأولها
أن الفيروس لا يعتبر حيا ولا ميتا، أو هو بكلمة ثانية الميت الحي! أي هو
الجسر الذي يخرج فيه الحي من الميت والميت من الحي! فتبارك الله أحسن
الخالقين.
وتبقى فلسفة المرض مجهولة إلى حين، وحاليا يراهن العلماء على الأغشية
المخاطية عند الخنزير، تلك التي تتحول إلى ما يشبه مختبر التفاعل، في دمج
مكونات وراثية بعضها ببعض لإنتاج فيروس «أنفلونزا الخنازير» القاتل.
وحين انفجر مرض الإيدز، ذهل العالم من تقلب الفيروس وعدم ضبطه في
لقاح وعلاج، وما زال المرض ساري المفعول حتى اليوم، فليس في الأفق من علاج
ولقاح. ويسري نفس الشيء على «أنفلونزا الخنازير»، فهناك دواء التاميفلو
ورلينسيا، ولكنه ليس ذاك الدواء النوعي.
ومظاهر المرض تتراوح بين السعال والحرارة والضنك، وأذكر أيضا أنني في
سفري إلى المغرب مررنا في حاجز يحبس الحرارة ليعرف هل من مريض مرتفع
الحرارة حتى يتم عزله. وبهذه الطريقة، تتم مطاردة المرض في القارات الست.
وبسبب تحول العالم إلى ديجتال متداخل، فإمكانية أن يضرب المرض فيحصد أرواح الكثيرين وارد! حتى بأرقام فلكية من درجة الملايين!
المهم لنضع المبدأ الفلسفي نصب أعيننا: تفاءَل بالأفضل واستعدَّ للأسوأ..
وهذا يعني أن الجنس البشري مهدد بأخطار شتى والكرة الأرضية التي نعيش
فيها ليست مكانا آمنا بحال، ونحن كائنات هشة يفترسنا المرض ويطوينا الموت
فلا تسمع لهم ركزا..
في الثامن من غشت عام 1967 م تقدم المخبري (كلاوس . ف) الذي يعمل في
معامل البيولوجيا لاستخراج اللقاحات في مصانع (بهرنجر) في مدينة ماربورغ
الألمانية ـ بطلب إجازة قصيرة بسبب صداع لم يستطع معه متابعة العناية
بقرود المخبر، التي كان ينشر جماجمها بعد موتها لاستخراج الدماغ وزراعة
خلايا الكلية من أجل تحضير أمصال اللقاحات لشلل الأطفال والحصبة، ولكن
كلاوس المذكور لم يعد مطلقاً إلى مكان عمله وتم توديعه إلى مثواه الأخير
بعد 15 يوماً، وحين تم الكشف عن القرد الذي كان يعمل عليه وهو من نوع قرود
البحر الخضراء والتي تجلب في العادة من أوغندا، تبين أن دمها غاطس في
مليارات المليارات من الفيروسات المرعبة والتي هي من فصائل الإيبولا،
وأصيب مركز البحث العلمي في ماربورغ بالرعب في عدة مستويات، وشكر المصادفة
الجميلة التي راح ضحيتها أحد المخبريين، والتي لولاها لربما تم نشر اللقاح
بين ملايين الأطفال في العالم، ومعه السم الزعاف محمولاً على ظهر فيروسات
القتل، وبذلك تبرز فكرة في منتهى الخطورة عن عدة إمكانيات لقتل شعوباً
بأكملها، من خلال قتل أطفالها بخطأ أحمق من هذا الحجم، وإذا كانت هذه
الفيروسات تظهر على السطح بسرعة، فإن فيروس الإيدز يعس لفترة طويلة بحيث
يكون العالم قد وقع في كارثة جمعية رهيبة قبل أن يستطيع أن يفعل لها أي
شيء!!
ولنتخيل حدوث شيء من هذا القبيل في الستينيات من هذا القرن قبل كشف
اللثام عن كل تحدي الإيدز، وهذا كله يوحي بمدى التحديات والمطبات التي
تواجه الجنس البشري.
وفي نوفمبر من عام 1989م حصلت واقعة جديرة بإثارة الخيال العلمي،
هذه المرة في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما لاحظ تاجر للقرود يأتي
بها من الفيليبين في مدينة ريستون (RESTON) وهي ضاحية للعاصمة واشنطن،
أنها بدأت تمرض وتنزف، وكان انتقال المرض من قفص إلى آخر ليس عن طريق
التلامس المباشر أو المفرزات أو الدم، بل عن طريق الهواء، والأنكى من ذلك
أن العمال المعتنين بالقرود ظهرت عندهم مضادات الأجسام في اختبارات الدم
عندهم، مما يوحي بانتقال الفيروس إليهم بدون مظاهر سريرية.
إن العلماء يلتقطون أنفاسهم عندما يتصورون أن الفيروسات الخطيرة مثل
الإيدز أو الإيبولا تبدأ في تغيير طبيعتها، فيبدأ الانتقال عن طريق الهواء
بالسعال والرذاذ والتنفس والعطاس، عندها لن يبقى مكان واحد آمن على وجه
البسيطة.
حاليا أين ستضرب فيروسات الخنازير وكيف ستتطور ؟؟
إنها قصة كاملة في سلسلة صراع البشر مع الفيروسات والجراثيم..
المساء
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» الجراثيم والفيروسات القاتلة لاتزال تهدد حياة الإنسان
» الحــــرب التي لا تـــــنسى :خالص جلبي
» ليس من سبيل إلى الصحة إلا بالصوم :خالص جلبي
» قوانين التغيير الاجتماعية/خالص جلبي
» لماذا لا يُعلن بوتفليقة نفسه إمبراطوراً مدى الحياة؟ / بقلم خالص جلبي
» الحــــرب التي لا تـــــنسى :خالص جلبي
» ليس من سبيل إلى الصحة إلا بالصوم :خالص جلبي
» قوانين التغيير الاجتماعية/خالص جلبي
» لماذا لا يُعلن بوتفليقة نفسه إمبراطوراً مدى الحياة؟ / بقلم خالص جلبي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى