متى يحاكِم الشعب العربيّ نفسه؟
صفحة 1 من اصل 1
متى يحاكِم الشعب العربيّ نفسه؟
غالب الظنّ أنّ الشعوب العربيّة، في لاوعيها الجماعيّ، تتهرّب من محاكمة
ديكتاتوريّ الأنظمة الذين يسقطون الواحد تلو الآخر، كأنّ ثمّة شعوراً
بالذنب (أو بالخجل) يختبئ في أعماق الناس ويذكّرهم في كلّ لحظة بأنّهم
ليسوا بلا خطيئة ليرجموا غيرهم بالحجارة، وأنّ رضوخهم الطويل الأمد هو
خطيئتهم الكبرى. ولعلّ علم الاجتماع، الغائب والمغيّب شبه الدائم عن المشهد
الثقافيّ، مطالَب قبل الصحافيّين والشعراء والروائيّين بدراسة الأسباب
التي جعلت الحركة الشعبيّة تتأخّر كلّ هذا الوقت، مع أنّ ثمّة من كان يسرّح
شعره كلّ صباح، ويرتدي أجمل ملابسه، ويهرع كالعاشق في موعده الأوّل،
لملاقاة الثورة التي يبست الأقدام في انتظارها، كما كتب محمّد الماغوط.
أن يُحاكم الشعب نفسه خطوة أولى في طريق الحريّة. وهذه المحاكمة ليست
جلْدًا للذات، ولا تبرئة للحاكم من دم المحكومين، بل هي مواجهة جريئة
لتاريخ من الصمت العامّ بدت أمامه الأصواتُ الجريئة القليلة الصارخة صخباً
في غير محلّه؛ وهي كذلك اعتراف بخوفِ كلّ واحد منّا على خبز أولاده، ما
جعله يسكت عن جوع أولاد جيرانه، وخشيةِ كلّ واحد على وظيفته، ما أجبره على
غضّ الطرف عن تغييب العدالة الاجتماعيّة؛ وهي اعتراف علنيّ مسؤول وصريح
بأنّ الشعب الذي يريد الآن إسقاط النظام كان ساكتاً يوم أسقطتِ الأنظمةُ
كتباً على لائحة الممنوعات، وأبعدت مفكّرين عن العمل الجامعيّ، وزجّت
بحزبيّين في غياهب السجون وقتلت وهجّرت وأهانت. وكان، هذا الشعب نفسه،
مستسلماً للفنّ الرخيص والكلمة المبتذلة والكتاب الممجوج والفيلم السخيف
والألحان المسروقة والحزب الحاكم والأصوليّ الحقود.
نحن لا نتكلّم عن أعوام قليلة من الاحتلال الأجنبيّ الغريب، بل عن عقود
طويلة من «ظلم ذوي القربى» وأبناء الوطن، ولا نتكلّم عن دولة صغيرة واحدة
عانت من الظم والفساد، بل عن دول كبيرة شاسعة غنيّة الموارد أذاقت شعوبها
الذلّ والقهر، ولا نتكلّم عن شعب محاصر خلف جدران عالية وأسوار لا يمكن
تخطّيها، بل عن شعوب تمتدّ من المحيط إلى الخليج، ومن المغرب إلى المشرق،
وتملك ما لا يُستهان به من القدرات والوسائل، ومع ذلك، مع كلّ ذلك، تأخّرت
الثورة. فهل يكفي أن نستعين بالمثل الفرنسيّ القائل إنّ الوصول المتأخّر
أفضل من عدم الوصول، أم علينا أن نسأل أنفسنا عن أسباب التأخير والتأخّر،
كي نجد ما نجيب عنه الأجيال المقبلة حين تسألنا: لماذا لم تُحلّ القضيّة
الفلسطينيّة وقد مرّ عليها أكثر من ستّين عاماً؟ ولماذا طالت الحرب
اللبنانيّة أكثر من ثلاثين سنة؟ وكيف صمدت دول الفساد والقهر التي ادّعت
أنّها جبهة الصمود والتصدّي في وجه إسرائيل لأكثر من أربعة عقود؟ حين كانت
هوليوود تسيء إلى صورة العربيّ في إنتاجاتها، كنّا نعتذر من أنفسنا
متذرّعين بأنّنا لا نملك ماكينة إعلاميّة ضخمة تتيح لنا الوصول إلى العالم
لتحسين صورتنا، فما عذرنا اليوم وفي متناولنا وسائل اتّصال تضعنا على تماس
مباشر مع العالم كلّه؟ وما هي الصورة التي ننقلها إلى الناس عبر شاشات
التلفزيون وشبكة الإنترنت، بعدما بات كلّ منّا قادراً على امتلاك «صحيفته»
اليوميّة التي تتيح له التواصل مع الآخرين، أينما كانوا؟ وحين كنّا نُتّهم
بأنّنا شعب لا يقرأ، كنّا نضع الحقّ، عن غير وجه حقّ، على القمع والفقر،
وها هي اليوم وسائل الاتصالات تتيح القراءة المجّانيّة الحرّة، فماذا يقرأ
مدمنو الدردشة على الإنترنت؟
ثمّة جوّ عـــام يوحي بأنّ الشعوب العربيّة تتحايل كي لا تواجه نفسها
عندما تحاكم الحكّام الطغاة: فالأثرياء كانوا ينعمون بالرفاهيّة ولم يكن
هناك ما يدعوهم للثورة خوفاً على الثروة، والفقراء استسهلوا احتلال المقابر
والإقامة فيها ومجاورة الموتى على دكّ العروش واقتحام القصور وتحدّي
السلطات، و «العسكر» كان يغيّر صورة القائد داخل الإطار نفسه وهو مشهد
عربيّ متكرّر جعل «الأخوان رحباني» يصوّرانه في مسرحيّة «يعيش يعيش» (1970)
برؤية عميقة وعبثيّة لافتة وجماليّة جارحةِ الصدق. لذلك يبدو قتل
الديكتاتور العربيّ أسهل من مواجهته وهو يسأل محاكميه: لماذا انتظرتم كلّ
هذا الوقت لتثوروا على جنوني وعهري ووقاحتي وجهلي؟ ولحظةَ يجرؤ العربيّ على
مواجهة نفسه بجواب صادق عن هذا السؤال تكون الثورة، أو مهما كان اسمها، قد
بدأت تحقّق أهدافها.
ماري القصيفي
الحياة
الأحد 06 نونبر 2011
ديكتاتوريّ الأنظمة الذين يسقطون الواحد تلو الآخر، كأنّ ثمّة شعوراً
بالذنب (أو بالخجل) يختبئ في أعماق الناس ويذكّرهم في كلّ لحظة بأنّهم
ليسوا بلا خطيئة ليرجموا غيرهم بالحجارة، وأنّ رضوخهم الطويل الأمد هو
خطيئتهم الكبرى. ولعلّ علم الاجتماع، الغائب والمغيّب شبه الدائم عن المشهد
الثقافيّ، مطالَب قبل الصحافيّين والشعراء والروائيّين بدراسة الأسباب
التي جعلت الحركة الشعبيّة تتأخّر كلّ هذا الوقت، مع أنّ ثمّة من كان يسرّح
شعره كلّ صباح، ويرتدي أجمل ملابسه، ويهرع كالعاشق في موعده الأوّل،
لملاقاة الثورة التي يبست الأقدام في انتظارها، كما كتب محمّد الماغوط.
أن يُحاكم الشعب نفسه خطوة أولى في طريق الحريّة. وهذه المحاكمة ليست
جلْدًا للذات، ولا تبرئة للحاكم من دم المحكومين، بل هي مواجهة جريئة
لتاريخ من الصمت العامّ بدت أمامه الأصواتُ الجريئة القليلة الصارخة صخباً
في غير محلّه؛ وهي كذلك اعتراف بخوفِ كلّ واحد منّا على خبز أولاده، ما
جعله يسكت عن جوع أولاد جيرانه، وخشيةِ كلّ واحد على وظيفته، ما أجبره على
غضّ الطرف عن تغييب العدالة الاجتماعيّة؛ وهي اعتراف علنيّ مسؤول وصريح
بأنّ الشعب الذي يريد الآن إسقاط النظام كان ساكتاً يوم أسقطتِ الأنظمةُ
كتباً على لائحة الممنوعات، وأبعدت مفكّرين عن العمل الجامعيّ، وزجّت
بحزبيّين في غياهب السجون وقتلت وهجّرت وأهانت. وكان، هذا الشعب نفسه،
مستسلماً للفنّ الرخيص والكلمة المبتذلة والكتاب الممجوج والفيلم السخيف
والألحان المسروقة والحزب الحاكم والأصوليّ الحقود.
نحن لا نتكلّم عن أعوام قليلة من الاحتلال الأجنبيّ الغريب، بل عن عقود
طويلة من «ظلم ذوي القربى» وأبناء الوطن، ولا نتكلّم عن دولة صغيرة واحدة
عانت من الظم والفساد، بل عن دول كبيرة شاسعة غنيّة الموارد أذاقت شعوبها
الذلّ والقهر، ولا نتكلّم عن شعب محاصر خلف جدران عالية وأسوار لا يمكن
تخطّيها، بل عن شعوب تمتدّ من المحيط إلى الخليج، ومن المغرب إلى المشرق،
وتملك ما لا يُستهان به من القدرات والوسائل، ومع ذلك، مع كلّ ذلك، تأخّرت
الثورة. فهل يكفي أن نستعين بالمثل الفرنسيّ القائل إنّ الوصول المتأخّر
أفضل من عدم الوصول، أم علينا أن نسأل أنفسنا عن أسباب التأخير والتأخّر،
كي نجد ما نجيب عنه الأجيال المقبلة حين تسألنا: لماذا لم تُحلّ القضيّة
الفلسطينيّة وقد مرّ عليها أكثر من ستّين عاماً؟ ولماذا طالت الحرب
اللبنانيّة أكثر من ثلاثين سنة؟ وكيف صمدت دول الفساد والقهر التي ادّعت
أنّها جبهة الصمود والتصدّي في وجه إسرائيل لأكثر من أربعة عقود؟ حين كانت
هوليوود تسيء إلى صورة العربيّ في إنتاجاتها، كنّا نعتذر من أنفسنا
متذرّعين بأنّنا لا نملك ماكينة إعلاميّة ضخمة تتيح لنا الوصول إلى العالم
لتحسين صورتنا، فما عذرنا اليوم وفي متناولنا وسائل اتّصال تضعنا على تماس
مباشر مع العالم كلّه؟ وما هي الصورة التي ننقلها إلى الناس عبر شاشات
التلفزيون وشبكة الإنترنت، بعدما بات كلّ منّا قادراً على امتلاك «صحيفته»
اليوميّة التي تتيح له التواصل مع الآخرين، أينما كانوا؟ وحين كنّا نُتّهم
بأنّنا شعب لا يقرأ، كنّا نضع الحقّ، عن غير وجه حقّ، على القمع والفقر،
وها هي اليوم وسائل الاتصالات تتيح القراءة المجّانيّة الحرّة، فماذا يقرأ
مدمنو الدردشة على الإنترنت؟
ثمّة جوّ عـــام يوحي بأنّ الشعوب العربيّة تتحايل كي لا تواجه نفسها
عندما تحاكم الحكّام الطغاة: فالأثرياء كانوا ينعمون بالرفاهيّة ولم يكن
هناك ما يدعوهم للثورة خوفاً على الثروة، والفقراء استسهلوا احتلال المقابر
والإقامة فيها ومجاورة الموتى على دكّ العروش واقتحام القصور وتحدّي
السلطات، و «العسكر» كان يغيّر صورة القائد داخل الإطار نفسه وهو مشهد
عربيّ متكرّر جعل «الأخوان رحباني» يصوّرانه في مسرحيّة «يعيش يعيش» (1970)
برؤية عميقة وعبثيّة لافتة وجماليّة جارحةِ الصدق. لذلك يبدو قتل
الديكتاتور العربيّ أسهل من مواجهته وهو يسأل محاكميه: لماذا انتظرتم كلّ
هذا الوقت لتثوروا على جنوني وعهري ووقاحتي وجهلي؟ ولحظةَ يجرؤ العربيّ على
مواجهة نفسه بجواب صادق عن هذا السؤال تكون الثورة، أو مهما كان اسمها، قد
بدأت تحقّق أهدافها.
ماري القصيفي
الحياة
الأحد 06 نونبر 2011
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» الإنترنت تجعلنا أغبياء وفي الوقت نفسه نتوهم أننا نفهم كل شيء!
» كتمان الأسرار
» الاستقلالي حميد شباط يضع نفسه مقام الرسول الكريم
» الحيلة عند الحيوان كفيلة بتوفير غذائه وحماية نفسه
» مالك شبل : أقول للغربيين وسعوا زاوية رؤيتكم للإسلام
» كتمان الأسرار
» الاستقلالي حميد شباط يضع نفسه مقام الرسول الكريم
» الحيلة عند الحيوان كفيلة بتوفير غذائه وحماية نفسه
» مالك شبل : أقول للغربيين وسعوا زاوية رؤيتكم للإسلام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى