مسك الليل
صفحة 1 من اصل 1
مسك الليل
(1)
حول العنوان
نقرأ
،في إحدى صفحات الر واية، على لسان شخصية من شخصياتها المركزية الوصف
التالي لهذه النبتة المميزة: «أريج الليل يرتفع نفاذا قويا كلما ازددنا
منه ابتعادا.ريحه لا يفوح متى كنت شديد القرب منه، في ضوء الشمس وطيلة
اليوم لا رائحة تصدر عنه. لا أريج له البتة .»(2)
وأكاد أزعم أن هذا
التوصيف لهذه النبتة الطيبة- مسك الليل- يشكل مفتاحا هاما من مفاتيح النص
الذي يتجاوز خصائصه النباتية المتداولة بين الناس،نحو» أليغوريا» شاسعة
الأطراف ، ممتدة الأمداء، انطلقت من بلدة ، في حجم الكف ، لكنها مسربلة
بالقداسة ، والتقديس،لأسباب عديدة،وإردة في الرواية، لتنسحب على «الوطن
الإنساني»مرورا ب «الوطن الجغرافي».
بصيغة أخرى: يطرح النص سؤال الهوية
الذي نصوغه على الشكل التالي: كيف يصبح الوطن سلسلة من الإختبارات
المتعددة، للمنتسب إليه بالدم والولاء والتاريخ والوجدان، وسلسلة- من ناحية
أخرى- من الإختبارات للذي يرغب في الإنتماء إليه، بالنزول إلى الميدان،
من موقع معرفي يحترم الإختلاف، وينتصر للإنسان، بعيدا عن الأحكام المسبقة،
والشعارات المضللة؟مادور القرب والبعد- زمانا ومكانا- في نوعية العلاقة بين
الكائن والوطن؟
طرفا هذه» الأليغوريا» يتمثلان في: « محمود» الذي
تقوده رغبة جارفة في اكتشاف، واستكشاف، تضاريس « البلدة المقدسة»التي ولد
بها، وترعرع ،صبيا ويافعا، و عاد إليها- في مراحل مختلفة- ذاكرة وجسدا. هي ،
في الوقت ذاته، بوصلته الهادية، أثناء استكشافه للعالم.
أما الطرف
الثاني، فيتمثل في»جيرار لومارشان»القادم من فرنسا- أثناء الإحتلال
الفرنسي- في سياق مهمة تعليمية، متسلحا بعدته السوسيولوجية،
والإثنولوجية،التي جسدت هدفه الحقيقي لهذا الإختيار، اختيار هذه البلدة
الصغيرة بعيدا عن الحواضر الكبرى.والقاسم المشترك بين الطرفين يكمن في:
أ-
دافع الكشف،والإكتشاف، من موقعين متعارضين:» جيرار» المتجه إلى الأمام، و»
محمود» المتجه إلى الوراء.الأول مهووس بالمعرفة، والثاني أسير»ذاكرة
موشومة».
ب- كل منهما ينوء بجرحه الشخصي الذي كان وراء هذه الرغبة في
اكتناه المكان والزمان والإنسان ل» البلدة المقدسة». جيرار الهارب من «
كلوديت» ، وكل الإلتزامات العائلية،وأحلام» اليسار الرومانسية»( ص.24،25،
الرواية). ومحمود الباحث عن أب اختطفته ( كما ردد أهل البلدة المقدسة-
الجن، وأم اختفت، يوما ما،عن الأنظار،رفقة عشيقها،فأصبح كالمعلق بين السماء
والأرض.
بناء النص
استند البناء النصي إلى الشكل الموسيقي
الأوروبي(3).ومن ثم سايرت الحركات الخمس إيقاع النص، بأحداثه وأوضاع
شخصياته،هدوءا أوصخبا،تكرارا أوتجددا،عزفا فرديا تواجه فيه الذات وضعها
الأنطولوجي،أو صوتا جماعيا تضبط إيقاعه طوبوغرافية روحية لفضاء معين يحرسها
ضريح لاينام.أصوات الآذان والجنون والرغبة المتوحشة، وأصوات الطرب ووصوصة
الطير وحفيف الشجر. صوت الأسلاف، وصوت الأحفاد، صوت الحياة ، بتجلياتها في
النبات والحجر والبشر. وصوت الموت قدرا أو حقدا وانتقاما.
ولم تكن هذه
البنية الموسيقية سوى بنية الظاهر، في حين شكل المكون الرحلي بنية
الباطن.أو بعبارة أخرى:لم تكن الحركات الخمس سوى مفاتيح نصية انضوت تحتها
محطات- صوى الطريق- مركزية لرحلات أساسية توزعت، عبر محطات صغرى، بين فعل
السفر المادي،وبين السفر الذهني ، من خلال حركة الذاكرة بتداعياتها
المختلفة.
الحركة الأولى: هي رحلة « جيرار لومارشان»، أثناء الحماية
الفرنسية، من فرنسا إلى المغرب لممارسة التعليم، في سياق « المهمة
التحضيرية»
التي نادى بها « ليوطي»، ومن معه، ومارسها بمنظوره الخاص
للأصالة والحداثة.ولم يكن التعليم ، بالنسبة ل»جيرار» ، سوى وسيلة من وسائل
ممارسة اختصاصه الفعلي مجسدا في البحث السوسيولوجي،والإثنولوجي، مستكملا
حلقات سابقة بدأت مع جغرافيين وإ ثنوغرافيين ومؤرخين من بني جلدته( شارل
دوفوكو/ ميشو بلير/ طيراس...).
والفارق بين التجربتين، يكمن في انتماء « جيرار» إلى اليسار الفرنسي
بمرجعياته الشهيرة( الحزب الشيوعي/نقاية س.ج.ت...) محاولا تجاوز « وعيه
الشقي» عن طريق الإعتراف ب( الآخر) الذي دفعه مراجعة أطروحاته العلمية ،
ومفاهيمه الإثنولوجية التي تتعارض مع هذا البلد الذي- كما جاء على لسان
«ليوطي»- لم يكن ( سديما ولا شتيتا من الناس.لم نصادف فوضى عارمة تقابلها
جملة عادات وأعراف، ولكنا وجدنا أمة ودولة وحضارة).الرواية. ص.240.
وكما
هو الشأن في الحركة الموسيقية القائمة على المقطعية( الثيمة) من
جهة،واستخدام آلات محددة ،من جهة ثانية،فإن المحطات الرحلية الثلاث
المصاحبة لهذا الحركة جسدت الآتي:
الحركة الأولى :أ- رحلة تطهيرية
يطمح ، من خلالها « جيرارلومارشان» إلى نسيان فشله في علاقته مع زوجته «
كلوديت» ، من جهة، ورغبته في تجاوز منظورات مواطنيه ، عن المكان ، مفضلا
التعامل البكر مع فضاء يحمل الكثيرمن الدلالات والأبعاد.
ب-الوصول إلى
المدينة المقدسة ، وبداية تلمس ملامحها الخاصة، دون أن يتخلص من مرجعيته
اليسارية، موظفا البصر ، والبصيرة في الرصد والتفسير والتأويل.
ج- رحلة
في ذهنية الجنرال الفرنسي- حاكم مكناس- ومجالسه وما تزخر به من أسرار
وعلاقات مصلحية، ورغبات دفينة، وعلاقات عاطفية موؤودة، وحوارات صادرة عن
ضباط ، ومساعدين جسدوا آليات اشتغال الحماية، في تعاملها مع الأهالي،او مع
من سايروا « مهمتهم التحضيرية»(4)، مثل الشيخ» ابن الزاوية» الذي ( بدا
دفعة واحدة، كما لو كان منتزعا من صفحات كتاب « أعيان المغرب»(5)،والإشارة
واضحة.وتعرف»جيرارلومارشان» على حاضرة مكناس، وحاكمها الجنرال الفرنسي، تم
بواسطة ضابط فر نسي- الكومندان غاسطون أوليفيي ? رافقه في سفره من الرباط
إلى مكناسن وأصبح دليله نحو اللذة بالحاضرة الإسماعيلية.
-الحركة
الثانية: تقديم أهم مكونات» البلدة المقدسة»في إيقاعها اليومي، فضلا عن
شخصياتها الأساسية التي يوجد على رأسها «سيدي جعفر» ، كمستودع مادي ورمزي
ل» البلدة المقدسة» بحكم شهادته على الماضي والحاضر ، وهو المؤرخ(5) لهذا
المكان، كما أرخ المختار السوسي ل»سوس»، ومحمد داوود ل»تطوان»... وأهم ما
قدمته هذه المحطة
( منزل سيدي جعفر وسكانه : لا لا رقية / أم هاني
محجوبة/ مسعودة..) والثانوية ( باتولة/ لحدود..)…ويتخلل هذا الفضاء حديث
الذاكرة عن مآسي الأسرة وما وقع ل» حمزة» الذي جن وتاه في البرية بعد خيانة
زوجته حبيبة ، وهروبها مع عشيقها، نحو المجهول، تاركة « محمود» فريسة
لمعاناة سيزداد أوارها،بعد تجاوز مرحلة الطفولة.
-الحركة الثالثة:أ-
يقدم هذا المقطع عن طريق سارد مركزي- الطرف الثاني في هذه المعادلة كما
سبقت الإشارة- يحمل اسم علم دال»محمود»، الذي يكشف عن معاناته الخاصة سواء
عن طريق « مونولوجه» الخاص الذي يتلخص في هذا السؤال الممض:» هل أحببت هذا
البيت الذي نشأت فيه أم كرهته؟». الرواية.ص.117.أو قد تكون هذه المعاناة
صادرة عن الآخر، المرادف للجحيم، الذي تجسد في نظرات الشماتة، حينا، أو في
القذف المباشر، حينا آخر.(محمود أبوه ليس مسافرا،أبوه عشقته الجنية في عين
بوسعيد.أمه ليست ميتة، لا والله العظيم، قالت لي خالتي ذلك، خالتي لا
تكذب.. أمه هربت مع عشيقها في الموسم). الرواية.ص.119.
إنها شخصية
مأزومة لم تتخلص من الذكرى ، بالرغم من حنان الجدة والجد، واهتمام أفراد
البيت الكبير( محجوبة/ مسعودة..) بحركاته وسكناته ، مما ضاعف من معاناته
عوض التخفيف عن أحاسيسه المشتعلة بالهوان والتوجس المريض من كل ما يحيط به.
ب-
وبالرغم من ارتحال» محمود» في جولة سياحية إلى « بلاد الأندلس»، رفقة
صديقه عبدالرحمان،فإنه ظل أسير ذاكرته، يرى نفسه في كل معذبي الأرض،
ويتماهى مع المكلومين والمضطهدين. هكذا يتقمص صورة الفارس- في لوحة
«الإستسلام»- المنكسر أثناء استرجاع المسيحيين للأندلس، وهو يترجل ( أمام
الفارس الإسباني ممتطيا صهوة جواده المزركش بالألوان... نظرة اليأس و
الحزن العميق تشدك، تمسك بتلابيبك...).الرواية.ص.147.
ج- ما زال»
محمود» أسير ذكرياته المرة،وبالرغم من توزع الضمائر بين ضمير المتكلم
وضمير المخاطب، فالشخصية تظل خاضعة لتأثير ذاكرته القاتلة.( أنت كما أنت
لاتملك أن تهرب من ظلك)الرواية.ص.152
والصور تطارده في كل مكان لا
تغادره لحظة واحدة، سواء حاول تجاوز ذلك عن طريق الخمر، مخاطبا صديقه
عثمان بهذه القولة الحاسمة»لاأعرف ما السكر».ص152، أو عن طريق المتعة
البسيطة- أثناء مشاهدته لشريط سينمائي- متماهيا مع شخصية الإبن الذي» يبحث
عن أب اختفى منذ زمان بعيد .»ص16.
-الحركة الرابعة: تقتصر هذه الحركة
على محطة واحدة امتدت ،مثل بقعة زيت، لتشمل جوانب عديدة مست أحداثا ،
ومواقف مختلفة، اعترضت ساكني البيت الكبير.
في هذه المحطة تقدم مأساة «
محمود» ، من خلال وجهات نظر متعددة عن طريق تبئير شخصية» مسعودة» التي
منحها السارد مساحة قولية واسعة سمحت بإضافات كثيرة أنارت مأساة «
محمود» ، من جهة، وقدمت معطيات جديدة، من جهة ثانية،كشفت عن أسرار البيت
الكبير المتعددة( الزواج الثاني لسيدي جعفر/ تضحية أم لالا أم هاني في
مواقف عديدة/أسرار محجوبة/ زيارة جيرار لومارشان ل» سيدي جعفر..).
-الحركة
الخامسة:هي رحلة أخرى يستعد لها « جيرار لومارشان»، وكأن قدره ارتبط
بالرحلة الدائمة، بل بالهروب الدائم الذي جسد فشله- في الرحلة الأولى- في
الإنتماء إلى قيم اجتماعية صادرة عن المؤسسة( الأسرة/ الدولة/الشعارات
الرمزية لليسار التي لا تخلو من أبعاد رومانسية.).وجسد هذا الهروب فشلا
جديدا بعد أن ظل غريبا عن (المدينة والناس معا لايمكنونك إلا من مسافة
صغيرة محدودة...) ص.214.
لقد طغى على هذه المحطة الأولى إحساس بالفقد، أو الضياع ، الذي سمح للسارد باستخدام «مونولوج»طويل استند إلى التنويعات التالية:
أ-
البوح بمكنونات نفسه ، معترفا بفشله الذريع في الوصول إلى المدينة،
زمانا ومكان وإنسانا، بل إنه أصبح شخصا غير مرغوب فيه ، بعد أن سأل»سيدي
جعفر» عن( ذرية المولى إدريس وخارطة انتشارها).ص.222.
ب- النقد الذاتي لوضعه داخل المدينة، بعد أن اختلطت عليه الصور،
وتداخل
الوهم بالحقيقة، وأحلام النوم بأحلام اليقظة. ومن ثم لم يتردد في التصريح
بوضعه « الأنطولوجي» من خلال التساؤلات التالية من أنت ياجيرار؟ سائح
أوروبي وإن طال به المقام في أرض غريبة تنضح بالسحر وتضن بالأسرار؟جندي
يخدم « المهمة التحضيرية» لدولة نابليون؟مريد في طريقة ليوطي؟جيرار دو
نيرفال فاشل؟ نسخة باهتة من الرحالة الفرنسي؟عاشق مصاب بفقدان الذاكرة .دون
كيشوط جديد ينشد اقتحام المجهول؟)ص.233.
ج-استفحال أزمة « جيرار
لومارشان» بعد أن فقد كل شيء. وعبر تداعياته التي تناسلت ،بدون هوادة، في
الحل والترحال، لم يبق أمامه إلا الإعتراف بضياعه الأبدي. فقد الوسيلة
والهدف، فقد « مونيك» التي رأى فيها خلاصه من فشل سابق، لكنها ما لبثت أن
غابت صورتها في أتّون تجربة الضياع التي طوقته من كل الجوانب، بعد أن
تمزقت كل الروابط مع الوطن الأم ، ومع- من جهة ثانية- « البلدة المقدسة»
التي كانت طوق إنقاذه الأخير.( ضائع أنت قي المدينة المقدسة يا جيرار.
ضائع أنت في حضرة السلطان الأعظم. غريب بين» المواطنين» ، منبوذ من مدينة «
الإثنولوجيا». ملعون أنت من الأرض ومن السماء.)
الرواية،ص:250.
لم
يبق أمامه إلا الضرب في الأرض دون هدف محدد. أخبار عديدة عن الإنفجارات
والإغتيالات تنتشر على صفحات الجرائد الفرنسية، وعلى أمواج» راديو
ماروك»..وقوافل الجنود ? فرنسيين وسينيغاليين- تخترق الدروب والأزقة،
وتختلط الفواصل بين المقاومة والإرهاب، بين التحضير والتدمير، بين المدينة
المقدسة والوطن الأم. لم يبق إلا السراب الذي تراءت عبره صور عديدة تلاحقت
تباعا إلى أن استقرت عند صورة ابن شيخ الزاوية الذي راهنت عليه المهمة
التحضيرية- الشبيه ب»سالفادور دالي- وهو يرافقه على ظهر سفينة» اطوس. كانت
صورته، مثل دمية بهلوان وقعت بين يدي طفل عابث انطلق في إلباسه جلبابا
حريريا مقلما، أحيانا، وبذلة أوروبية ،أحيانا أخرى. كان في وضع داعر، وهو
يقبل فتى جميل المحيا، فاحم الشعر. هل هو إعلان عن فشل المهمة التحضيرية
التي افتخر بها الجنرال في وقت سابق؟ وما الصورتين، تتمدد صورة أخرى
للسلطان المولى إسماعيل بنظرات مستنكرة، تتبعها أيدي العبيد التي تحاول
الإمساك بي، لكنها ترفعني عاليا لأظل معلقا بين السماء والأرض( ممددا بين
سماء المدينة المقدسة وحاضرة السلطان الأعظم). (الرواية.265). إنها لحظات
الوهم والتوهم، الحقيقة والسراب، من خلال صورة» عجائبية» تعكس تشظي الذات
الساردة بين الرغبة والعجز.الرغبة في خلق عالم، بمواصفات محددة، والعجز
نابع من الجهل بطبيعة هذا العالم المكتفي بذاته.
عود على بدء
1-
استند النص- كما سبقت الإشارة- إلى المكون الرحلي الذي كان وراء سيرورة-
وصيرورته أيضا- السرد الروائي عبر مراحله المختلفة، ومستوياته المتعددة.
ومن ثم لم يكن المكون الرحلي مفارقا للنص،
بل كان وراء إنتاج الرؤية السردية ، والموقف الفكري، والبعد الدلالي.
2- وعلى هذا الأساس، أصبح المكون الرحلي:
أ- أداة من أدوات تطعيم الصياغة السردية بالجوانب المعرفية المتعددة، بحثا ونقدا ومقارنة و تفسيرا وتأويلا ونقدا إديولوجيا.
ب-
وبالرغم من الإحالات المرجعية لفضاءات محددة،وأسماء معينة، وتواريخ شهيرة،
فإن المسار الرحلي اتخذ دلالات رمزية طرحت أسئلة جذرية حول الوطن
والتحديث، الخصوصية والهوية، الأنا والآخر، الذات المواجهة لذاتها عند كل
من الطرفين،أو الأنا الداخلي والأنا الخارجي، المعرفة والمعرفة المضادة،
الماضي والحاضر... ولعل هذا ما يفسر إطلالة النص على التاريخ- دون أن يكون
نصا تاريخيا- بحكم فتحه لأرشيفات المكان، مدعما بمرجعية غنية انسحبت على
التوثيق الأجنبي والمحلي، فضلا عن علامات دالة، وأحداث هامة في الماضي
والحاضر، حاضر الرواية.( السلطان المولى إسماعيل/ الأعيان/ الطرقية
والزوايا/ المقاومة/ صحف «لافيجي» و» لو بوتي ماروكان»..). غير أن هذا
الأرشيف الغني ، بالرغم من علاماته التاريخية كان- من ناحية أخرى- وراء دعم
هوية شخصيات الرواية التي طاردها التاريخ ، سواء كان شخصيا( فشل عاطفي/
فشل أسري...)،أو عاما( خروج المسلمين من الأندلس/أسرى المولى
إسماعيل/الإستعمار الفرنسي/ المقاومة...).
ومن ثم جسدت شخصيات النص
رؤيات متصارعة لما كانت تزخر به تلك المنطقة المعلقة في الجبال، لكنها ،في
الوقت ذاته، مثل نخلة «الطيب صالح» التي تظل متجذرة في الأرض، وسعفها،في
نفس الآن، يستشرف الآفاق(6).
ج- تبادل المواقع بين الأسلوب الرحلي
والصياغة الروائية.ففي الوقت الذي يتقمص فيه السارد شخصية الرحالة عن طريق
رسم طوبوغرافية المكان، في الماضي والحاضر، يتقمص أيضا شخصية السارد عن
طريق ملء فراغات المكان بالمحكيات الشفهية والمكتوبة، فضلا عن رصيد الذاكرة
الذي لا ينضب في مواقع عديدة من النص.
د- ولما كان السرد صادرا عن سارد
مرتحل، من جهة، وعنرحالة يسرد، من جهة ثانية، فإن ذلك أكد على طبيعة
السارد- المرتحل التي جعلت منه « ساردا عليما بكل شي»، بالرغم من توزع
الحركات الخمس بين ضمير المتكلم ? وهو الغالب في النص- وضمير الغائب الذي
لم يكن إلا قناعا لضمير المتكلم المنضوي تحت رداء « السارد العليم»،مدعما
ذلك بذخيرة ثقافية، وفنية، عميقة ، زادته حيرة ، واضطرابا، بعد أن أخضع كل
شيء لمشرحة العقل.ويندر أن تخلو صفحة ، من صفحات الرواية، من إحالة معرفية ،
أو فنية، تخترق محكي الرواية، تفسيرا وتفنيدا وتأويلا.
ه- غير أن صدور
السرد عن السارد المشار إليه أعلاه، لم يغمط حق الشخصية في وجودها
الحكائي، فضلا عن خصائصها الجسدية والفكرية والنفسية. هكذا استطاع «
المونولوج»، في الرواية، تعرية جوانب عديدة من شخصيتي» جيرار» و»محمود»،
ما دام « المونولوج يسمح بالبوح ، والإعتراف، بعيدا عن سلطة السارد.
وبالمقابل وظف «السارد العليم»
الإستبطان لتقديم» بورتريه» مسعودة ،مثلا، عبر وساطة السارد، مع ترك المسافة الملائمة بينه وبين الشخصية المتحدث عنها.
و-
ماذا بقي من مسك الليل؟ لم تبق منه إلا الذكرى. فالنبتة قد اجتثت منذ أمد
بعيد، دون أن يمنع ذلك من ترسب الرائحة الطيبة في الذاكرة والوجدان.ألم ير «
بشار بن برد» بأذنيه؟كذلك السارد ، في هذه الرواية، الذي أصبح يشم رائحة
الوطن ، عبر تلافيف الذاكرة. القريب منك بعيد، والبعيد منك قريب. والوطن
يزداد قربا كلما ابتعدنا عنه. هكذا عاد «جيرار لومارشان»إلى وطنه الأم،
بالرغم من رفضه لممارسات المنتمين إليه. و لم يغادر- من ناحية أخرى- محمود
الوطن،بالرغم من قسوته، سواء كان بعيدا عنه ، أو قريبا منه.هل يظل الشرق
شرقا، والغرب غربا؟
هوامش:
1- سعيد بنسعيد العلوي: مسك الليل.دار رؤية.القاهرة.2010.
2- الرواية.ص.62.
3- السمفونية:» لحن موسيقي طويل ذو عدة حركات ، يعزفها عدد كبير من العازفين على أساس السوناتة). المنهل.ص.1993.بيروت.993.
4- وهذه المهمة تتكرر عدة مرات في النص.(ص.11.29.).والإ هتمام الموسيقي، من خلال أعلامه ومقطوعاته، حاضر في النص في مواقع عديدة.
5- وهو صاحب مخطوط تنبيه النبهاء الأكياس إلى ما فات أصحاب إعلام الناس). الرواية. ص 128.
6 الطيب صالح الأعمال الكاملة).قصة( نخلة على الجدول) وقصة(دومة ود حامد).دار العودة . بيروت1987.
6/1/2012- العلم الثقافينقرأ
،في إحدى صفحات الر واية، على لسان شخصية من شخصياتها المركزية الوصف
التالي لهذه النبتة المميزة: «أريج الليل يرتفع نفاذا قويا كلما ازددنا
منه ابتعادا.ريحه لا يفوح متى كنت شديد القرب منه، في ضوء الشمس وطيلة
اليوم لا رائحة تصدر عنه. لا أريج له البتة .»(2)
وأكاد أزعم أن هذا
التوصيف لهذه النبتة الطيبة- مسك الليل- يشكل مفتاحا هاما من مفاتيح النص
الذي يتجاوز خصائصه النباتية المتداولة بين الناس،نحو» أليغوريا» شاسعة
الأطراف ، ممتدة الأمداء، انطلقت من بلدة ، في حجم الكف ، لكنها مسربلة
بالقداسة ، والتقديس،لأسباب عديدة،وإردة في الرواية، لتنسحب على «الوطن
الإنساني»مرورا ب «الوطن الجغرافي».
بصيغة أخرى: يطرح النص سؤال الهوية
الذي نصوغه على الشكل التالي: كيف يصبح الوطن سلسلة من الإختبارات
المتعددة، للمنتسب إليه بالدم والولاء والتاريخ والوجدان، وسلسلة- من ناحية
أخرى- من الإختبارات للذي يرغب في الإنتماء إليه، بالنزول إلى الميدان،
من موقع معرفي يحترم الإختلاف، وينتصر للإنسان، بعيدا عن الأحكام المسبقة،
والشعارات المضللة؟مادور القرب والبعد- زمانا ومكانا- في نوعية العلاقة بين
الكائن والوطن؟
طرفا هذه» الأليغوريا» يتمثلان في: « محمود» الذي
تقوده رغبة جارفة في اكتشاف، واستكشاف، تضاريس « البلدة المقدسة»التي ولد
بها، وترعرع ،صبيا ويافعا، و عاد إليها- في مراحل مختلفة- ذاكرة وجسدا. هي ،
في الوقت ذاته، بوصلته الهادية، أثناء استكشافه للعالم.
أما الطرف
الثاني، فيتمثل في»جيرار لومارشان»القادم من فرنسا- أثناء الإحتلال
الفرنسي- في سياق مهمة تعليمية، متسلحا بعدته السوسيولوجية،
والإثنولوجية،التي جسدت هدفه الحقيقي لهذا الإختيار، اختيار هذه البلدة
الصغيرة بعيدا عن الحواضر الكبرى.والقاسم المشترك بين الطرفين يكمن في:
أ-
دافع الكشف،والإكتشاف، من موقعين متعارضين:» جيرار» المتجه إلى الأمام، و»
محمود» المتجه إلى الوراء.الأول مهووس بالمعرفة، والثاني أسير»ذاكرة
موشومة».
ب- كل منهما ينوء بجرحه الشخصي الذي كان وراء هذه الرغبة في
اكتناه المكان والزمان والإنسان ل» البلدة المقدسة». جيرار الهارب من «
كلوديت» ، وكل الإلتزامات العائلية،وأحلام» اليسار الرومانسية»( ص.24،25،
الرواية). ومحمود الباحث عن أب اختطفته ( كما ردد أهل البلدة المقدسة-
الجن، وأم اختفت، يوما ما،عن الأنظار،رفقة عشيقها،فأصبح كالمعلق بين السماء
والأرض.
بناء النص
استند البناء النصي إلى الشكل الموسيقي
الأوروبي(3).ومن ثم سايرت الحركات الخمس إيقاع النص، بأحداثه وأوضاع
شخصياته،هدوءا أوصخبا،تكرارا أوتجددا،عزفا فرديا تواجه فيه الذات وضعها
الأنطولوجي،أو صوتا جماعيا تضبط إيقاعه طوبوغرافية روحية لفضاء معين يحرسها
ضريح لاينام.أصوات الآذان والجنون والرغبة المتوحشة، وأصوات الطرب ووصوصة
الطير وحفيف الشجر. صوت الأسلاف، وصوت الأحفاد، صوت الحياة ، بتجلياتها في
النبات والحجر والبشر. وصوت الموت قدرا أو حقدا وانتقاما.
ولم تكن هذه
البنية الموسيقية سوى بنية الظاهر، في حين شكل المكون الرحلي بنية
الباطن.أو بعبارة أخرى:لم تكن الحركات الخمس سوى مفاتيح نصية انضوت تحتها
محطات- صوى الطريق- مركزية لرحلات أساسية توزعت، عبر محطات صغرى، بين فعل
السفر المادي،وبين السفر الذهني ، من خلال حركة الذاكرة بتداعياتها
المختلفة.
الحركة الأولى: هي رحلة « جيرار لومارشان»، أثناء الحماية
الفرنسية، من فرنسا إلى المغرب لممارسة التعليم، في سياق « المهمة
التحضيرية»
التي نادى بها « ليوطي»، ومن معه، ومارسها بمنظوره الخاص
للأصالة والحداثة.ولم يكن التعليم ، بالنسبة ل»جيرار» ، سوى وسيلة من وسائل
ممارسة اختصاصه الفعلي مجسدا في البحث السوسيولوجي،والإثنولوجي، مستكملا
حلقات سابقة بدأت مع جغرافيين وإ ثنوغرافيين ومؤرخين من بني جلدته( شارل
دوفوكو/ ميشو بلير/ طيراس...).
والفارق بين التجربتين، يكمن في انتماء « جيرار» إلى اليسار الفرنسي
بمرجعياته الشهيرة( الحزب الشيوعي/نقاية س.ج.ت...) محاولا تجاوز « وعيه
الشقي» عن طريق الإعتراف ب( الآخر) الذي دفعه مراجعة أطروحاته العلمية ،
ومفاهيمه الإثنولوجية التي تتعارض مع هذا البلد الذي- كما جاء على لسان
«ليوطي»- لم يكن ( سديما ولا شتيتا من الناس.لم نصادف فوضى عارمة تقابلها
جملة عادات وأعراف، ولكنا وجدنا أمة ودولة وحضارة).الرواية. ص.240.
وكما
هو الشأن في الحركة الموسيقية القائمة على المقطعية( الثيمة) من
جهة،واستخدام آلات محددة ،من جهة ثانية،فإن المحطات الرحلية الثلاث
المصاحبة لهذا الحركة جسدت الآتي:
الحركة الأولى :أ- رحلة تطهيرية
يطمح ، من خلالها « جيرارلومارشان» إلى نسيان فشله في علاقته مع زوجته «
كلوديت» ، من جهة، ورغبته في تجاوز منظورات مواطنيه ، عن المكان ، مفضلا
التعامل البكر مع فضاء يحمل الكثيرمن الدلالات والأبعاد.
ب-الوصول إلى
المدينة المقدسة ، وبداية تلمس ملامحها الخاصة، دون أن يتخلص من مرجعيته
اليسارية، موظفا البصر ، والبصيرة في الرصد والتفسير والتأويل.
ج- رحلة
في ذهنية الجنرال الفرنسي- حاكم مكناس- ومجالسه وما تزخر به من أسرار
وعلاقات مصلحية، ورغبات دفينة، وعلاقات عاطفية موؤودة، وحوارات صادرة عن
ضباط ، ومساعدين جسدوا آليات اشتغال الحماية، في تعاملها مع الأهالي،او مع
من سايروا « مهمتهم التحضيرية»(4)، مثل الشيخ» ابن الزاوية» الذي ( بدا
دفعة واحدة، كما لو كان منتزعا من صفحات كتاب « أعيان المغرب»(5)،والإشارة
واضحة.وتعرف»جيرارلومارشان» على حاضرة مكناس، وحاكمها الجنرال الفرنسي، تم
بواسطة ضابط فر نسي- الكومندان غاسطون أوليفيي ? رافقه في سفره من الرباط
إلى مكناسن وأصبح دليله نحو اللذة بالحاضرة الإسماعيلية.
-الحركة
الثانية: تقديم أهم مكونات» البلدة المقدسة»في إيقاعها اليومي، فضلا عن
شخصياتها الأساسية التي يوجد على رأسها «سيدي جعفر» ، كمستودع مادي ورمزي
ل» البلدة المقدسة» بحكم شهادته على الماضي والحاضر ، وهو المؤرخ(5) لهذا
المكان، كما أرخ المختار السوسي ل»سوس»، ومحمد داوود ل»تطوان»... وأهم ما
قدمته هذه المحطة
( منزل سيدي جعفر وسكانه : لا لا رقية / أم هاني
محجوبة/ مسعودة..) والثانوية ( باتولة/ لحدود..)…ويتخلل هذا الفضاء حديث
الذاكرة عن مآسي الأسرة وما وقع ل» حمزة» الذي جن وتاه في البرية بعد خيانة
زوجته حبيبة ، وهروبها مع عشيقها، نحو المجهول، تاركة « محمود» فريسة
لمعاناة سيزداد أوارها،بعد تجاوز مرحلة الطفولة.
-الحركة الثالثة:أ-
يقدم هذا المقطع عن طريق سارد مركزي- الطرف الثاني في هذه المعادلة كما
سبقت الإشارة- يحمل اسم علم دال»محمود»، الذي يكشف عن معاناته الخاصة سواء
عن طريق « مونولوجه» الخاص الذي يتلخص في هذا السؤال الممض:» هل أحببت هذا
البيت الذي نشأت فيه أم كرهته؟». الرواية.ص.117.أو قد تكون هذه المعاناة
صادرة عن الآخر، المرادف للجحيم، الذي تجسد في نظرات الشماتة، حينا، أو في
القذف المباشر، حينا آخر.(محمود أبوه ليس مسافرا،أبوه عشقته الجنية في عين
بوسعيد.أمه ليست ميتة، لا والله العظيم، قالت لي خالتي ذلك، خالتي لا
تكذب.. أمه هربت مع عشيقها في الموسم). الرواية.ص.119.
إنها شخصية
مأزومة لم تتخلص من الذكرى ، بالرغم من حنان الجدة والجد، واهتمام أفراد
البيت الكبير( محجوبة/ مسعودة..) بحركاته وسكناته ، مما ضاعف من معاناته
عوض التخفيف عن أحاسيسه المشتعلة بالهوان والتوجس المريض من كل ما يحيط به.
ب-
وبالرغم من ارتحال» محمود» في جولة سياحية إلى « بلاد الأندلس»، رفقة
صديقه عبدالرحمان،فإنه ظل أسير ذاكرته، يرى نفسه في كل معذبي الأرض،
ويتماهى مع المكلومين والمضطهدين. هكذا يتقمص صورة الفارس- في لوحة
«الإستسلام»- المنكسر أثناء استرجاع المسيحيين للأندلس، وهو يترجل ( أمام
الفارس الإسباني ممتطيا صهوة جواده المزركش بالألوان... نظرة اليأس و
الحزن العميق تشدك، تمسك بتلابيبك...).الرواية.ص.147.
ج- ما زال»
محمود» أسير ذكرياته المرة،وبالرغم من توزع الضمائر بين ضمير المتكلم
وضمير المخاطب، فالشخصية تظل خاضعة لتأثير ذاكرته القاتلة.( أنت كما أنت
لاتملك أن تهرب من ظلك)الرواية.ص.152
والصور تطارده في كل مكان لا
تغادره لحظة واحدة، سواء حاول تجاوز ذلك عن طريق الخمر، مخاطبا صديقه
عثمان بهذه القولة الحاسمة»لاأعرف ما السكر».ص152، أو عن طريق المتعة
البسيطة- أثناء مشاهدته لشريط سينمائي- متماهيا مع شخصية الإبن الذي» يبحث
عن أب اختفى منذ زمان بعيد .»ص16.
-الحركة الرابعة: تقتصر هذه الحركة
على محطة واحدة امتدت ،مثل بقعة زيت، لتشمل جوانب عديدة مست أحداثا ،
ومواقف مختلفة، اعترضت ساكني البيت الكبير.
في هذه المحطة تقدم مأساة «
محمود» ، من خلال وجهات نظر متعددة عن طريق تبئير شخصية» مسعودة» التي
منحها السارد مساحة قولية واسعة سمحت بإضافات كثيرة أنارت مأساة «
محمود» ، من جهة، وقدمت معطيات جديدة، من جهة ثانية،كشفت عن أسرار البيت
الكبير المتعددة( الزواج الثاني لسيدي جعفر/ تضحية أم لالا أم هاني في
مواقف عديدة/أسرار محجوبة/ زيارة جيرار لومارشان ل» سيدي جعفر..).
-الحركة
الخامسة:هي رحلة أخرى يستعد لها « جيرار لومارشان»، وكأن قدره ارتبط
بالرحلة الدائمة، بل بالهروب الدائم الذي جسد فشله- في الرحلة الأولى- في
الإنتماء إلى قيم اجتماعية صادرة عن المؤسسة( الأسرة/ الدولة/الشعارات
الرمزية لليسار التي لا تخلو من أبعاد رومانسية.).وجسد هذا الهروب فشلا
جديدا بعد أن ظل غريبا عن (المدينة والناس معا لايمكنونك إلا من مسافة
صغيرة محدودة...) ص.214.
لقد طغى على هذه المحطة الأولى إحساس بالفقد، أو الضياع ، الذي سمح للسارد باستخدام «مونولوج»طويل استند إلى التنويعات التالية:
أ-
البوح بمكنونات نفسه ، معترفا بفشله الذريع في الوصول إلى المدينة،
زمانا ومكان وإنسانا، بل إنه أصبح شخصا غير مرغوب فيه ، بعد أن سأل»سيدي
جعفر» عن( ذرية المولى إدريس وخارطة انتشارها).ص.222.
ب- النقد الذاتي لوضعه داخل المدينة، بعد أن اختلطت عليه الصور،
وتداخل
الوهم بالحقيقة، وأحلام النوم بأحلام اليقظة. ومن ثم لم يتردد في التصريح
بوضعه « الأنطولوجي» من خلال التساؤلات التالية من أنت ياجيرار؟ سائح
أوروبي وإن طال به المقام في أرض غريبة تنضح بالسحر وتضن بالأسرار؟جندي
يخدم « المهمة التحضيرية» لدولة نابليون؟مريد في طريقة ليوطي؟جيرار دو
نيرفال فاشل؟ نسخة باهتة من الرحالة الفرنسي؟عاشق مصاب بفقدان الذاكرة .دون
كيشوط جديد ينشد اقتحام المجهول؟)ص.233.
ج-استفحال أزمة « جيرار
لومارشان» بعد أن فقد كل شيء. وعبر تداعياته التي تناسلت ،بدون هوادة، في
الحل والترحال، لم يبق أمامه إلا الإعتراف بضياعه الأبدي. فقد الوسيلة
والهدف، فقد « مونيك» التي رأى فيها خلاصه من فشل سابق، لكنها ما لبثت أن
غابت صورتها في أتّون تجربة الضياع التي طوقته من كل الجوانب، بعد أن
تمزقت كل الروابط مع الوطن الأم ، ومع- من جهة ثانية- « البلدة المقدسة»
التي كانت طوق إنقاذه الأخير.( ضائع أنت قي المدينة المقدسة يا جيرار.
ضائع أنت في حضرة السلطان الأعظم. غريب بين» المواطنين» ، منبوذ من مدينة «
الإثنولوجيا». ملعون أنت من الأرض ومن السماء.)
الرواية،ص:250.
لم
يبق أمامه إلا الضرب في الأرض دون هدف محدد. أخبار عديدة عن الإنفجارات
والإغتيالات تنتشر على صفحات الجرائد الفرنسية، وعلى أمواج» راديو
ماروك»..وقوافل الجنود ? فرنسيين وسينيغاليين- تخترق الدروب والأزقة،
وتختلط الفواصل بين المقاومة والإرهاب، بين التحضير والتدمير، بين المدينة
المقدسة والوطن الأم. لم يبق إلا السراب الذي تراءت عبره صور عديدة تلاحقت
تباعا إلى أن استقرت عند صورة ابن شيخ الزاوية الذي راهنت عليه المهمة
التحضيرية- الشبيه ب»سالفادور دالي- وهو يرافقه على ظهر سفينة» اطوس. كانت
صورته، مثل دمية بهلوان وقعت بين يدي طفل عابث انطلق في إلباسه جلبابا
حريريا مقلما، أحيانا، وبذلة أوروبية ،أحيانا أخرى. كان في وضع داعر، وهو
يقبل فتى جميل المحيا، فاحم الشعر. هل هو إعلان عن فشل المهمة التحضيرية
التي افتخر بها الجنرال في وقت سابق؟ وما الصورتين، تتمدد صورة أخرى
للسلطان المولى إسماعيل بنظرات مستنكرة، تتبعها أيدي العبيد التي تحاول
الإمساك بي، لكنها ترفعني عاليا لأظل معلقا بين السماء والأرض( ممددا بين
سماء المدينة المقدسة وحاضرة السلطان الأعظم). (الرواية.265). إنها لحظات
الوهم والتوهم، الحقيقة والسراب، من خلال صورة» عجائبية» تعكس تشظي الذات
الساردة بين الرغبة والعجز.الرغبة في خلق عالم، بمواصفات محددة، والعجز
نابع من الجهل بطبيعة هذا العالم المكتفي بذاته.
عود على بدء
1-
استند النص- كما سبقت الإشارة- إلى المكون الرحلي الذي كان وراء سيرورة-
وصيرورته أيضا- السرد الروائي عبر مراحله المختلفة، ومستوياته المتعددة.
ومن ثم لم يكن المكون الرحلي مفارقا للنص،
بل كان وراء إنتاج الرؤية السردية ، والموقف الفكري، والبعد الدلالي.
2- وعلى هذا الأساس، أصبح المكون الرحلي:
أ- أداة من أدوات تطعيم الصياغة السردية بالجوانب المعرفية المتعددة، بحثا ونقدا ومقارنة و تفسيرا وتأويلا ونقدا إديولوجيا.
ب-
وبالرغم من الإحالات المرجعية لفضاءات محددة،وأسماء معينة، وتواريخ شهيرة،
فإن المسار الرحلي اتخذ دلالات رمزية طرحت أسئلة جذرية حول الوطن
والتحديث، الخصوصية والهوية، الأنا والآخر، الذات المواجهة لذاتها عند كل
من الطرفين،أو الأنا الداخلي والأنا الخارجي، المعرفة والمعرفة المضادة،
الماضي والحاضر... ولعل هذا ما يفسر إطلالة النص على التاريخ- دون أن يكون
نصا تاريخيا- بحكم فتحه لأرشيفات المكان، مدعما بمرجعية غنية انسحبت على
التوثيق الأجنبي والمحلي، فضلا عن علامات دالة، وأحداث هامة في الماضي
والحاضر، حاضر الرواية.( السلطان المولى إسماعيل/ الأعيان/ الطرقية
والزوايا/ المقاومة/ صحف «لافيجي» و» لو بوتي ماروكان»..). غير أن هذا
الأرشيف الغني ، بالرغم من علاماته التاريخية كان- من ناحية أخرى- وراء دعم
هوية شخصيات الرواية التي طاردها التاريخ ، سواء كان شخصيا( فشل عاطفي/
فشل أسري...)،أو عاما( خروج المسلمين من الأندلس/أسرى المولى
إسماعيل/الإستعمار الفرنسي/ المقاومة...).
ومن ثم جسدت شخصيات النص
رؤيات متصارعة لما كانت تزخر به تلك المنطقة المعلقة في الجبال، لكنها ،في
الوقت ذاته، مثل نخلة «الطيب صالح» التي تظل متجذرة في الأرض، وسعفها،في
نفس الآن، يستشرف الآفاق(6).
ج- تبادل المواقع بين الأسلوب الرحلي
والصياغة الروائية.ففي الوقت الذي يتقمص فيه السارد شخصية الرحالة عن طريق
رسم طوبوغرافية المكان، في الماضي والحاضر، يتقمص أيضا شخصية السارد عن
طريق ملء فراغات المكان بالمحكيات الشفهية والمكتوبة، فضلا عن رصيد الذاكرة
الذي لا ينضب في مواقع عديدة من النص.
د- ولما كان السرد صادرا عن سارد
مرتحل، من جهة، وعنرحالة يسرد، من جهة ثانية، فإن ذلك أكد على طبيعة
السارد- المرتحل التي جعلت منه « ساردا عليما بكل شي»، بالرغم من توزع
الحركات الخمس بين ضمير المتكلم ? وهو الغالب في النص- وضمير الغائب الذي
لم يكن إلا قناعا لضمير المتكلم المنضوي تحت رداء « السارد العليم»،مدعما
ذلك بذخيرة ثقافية، وفنية، عميقة ، زادته حيرة ، واضطرابا، بعد أن أخضع كل
شيء لمشرحة العقل.ويندر أن تخلو صفحة ، من صفحات الرواية، من إحالة معرفية ،
أو فنية، تخترق محكي الرواية، تفسيرا وتفنيدا وتأويلا.
ه- غير أن صدور
السرد عن السارد المشار إليه أعلاه، لم يغمط حق الشخصية في وجودها
الحكائي، فضلا عن خصائصها الجسدية والفكرية والنفسية. هكذا استطاع «
المونولوج»، في الرواية، تعرية جوانب عديدة من شخصيتي» جيرار» و»محمود»،
ما دام « المونولوج يسمح بالبوح ، والإعتراف، بعيدا عن سلطة السارد.
وبالمقابل وظف «السارد العليم»
الإستبطان لتقديم» بورتريه» مسعودة ،مثلا، عبر وساطة السارد، مع ترك المسافة الملائمة بينه وبين الشخصية المتحدث عنها.
و-
ماذا بقي من مسك الليل؟ لم تبق منه إلا الذكرى. فالنبتة قد اجتثت منذ أمد
بعيد، دون أن يمنع ذلك من ترسب الرائحة الطيبة في الذاكرة والوجدان.ألم ير «
بشار بن برد» بأذنيه؟كذلك السارد ، في هذه الرواية، الذي أصبح يشم رائحة
الوطن ، عبر تلافيف الذاكرة. القريب منك بعيد، والبعيد منك قريب. والوطن
يزداد قربا كلما ابتعدنا عنه. هكذا عاد «جيرار لومارشان»إلى وطنه الأم،
بالرغم من رفضه لممارسات المنتمين إليه. و لم يغادر- من ناحية أخرى- محمود
الوطن،بالرغم من قسوته، سواء كان بعيدا عنه ، أو قريبا منه.هل يظل الشرق
شرقا، والغرب غربا؟
هوامش:
1- سعيد بنسعيد العلوي: مسك الليل.دار رؤية.القاهرة.2010.
2- الرواية.ص.62.
3- السمفونية:» لحن موسيقي طويل ذو عدة حركات ، يعزفها عدد كبير من العازفين على أساس السوناتة). المنهل.ص.1993.بيروت.993.
4- وهذه المهمة تتكرر عدة مرات في النص.(ص.11.29.).والإ هتمام الموسيقي، من خلال أعلامه ومقطوعاته، حاضر في النص في مواقع عديدة.
5- وهو صاحب مخطوط تنبيه النبهاء الأكياس إلى ما فات أصحاب إعلام الناس). الرواية. ص 128.
6 الطيب صالح الأعمال الكاملة).قصة( نخلة على الجدول) وقصة(دومة ود حامد).دار العودة . بيروت1987.
عبد الرحيم مؤذن |
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» ليلى الطرابلسي: الوصية على عرش قرطاج
» فتاوى واراء..
» صلاة القيام
» الشيخ امام فى الليل لما خلي
» هذا الليل مدثر بالفجيعة
» فتاوى واراء..
» صلاة القيام
» الشيخ امام فى الليل لما خلي
» هذا الليل مدثر بالفجيعة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى