ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
صفحة 2 من اصل 2
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رد: ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة (الاخيرة )
وبدلاً من أن يشاطر السلطان شعبَه ما كان يجد من
المناوأة من الأسلوب الفرنسي، إذا هو يسارع إلى التعبير
عن فرحه واغتباطه لما شهدت مدينة الدار البيضاء من
أحداث. وتلك كانت ثالثة الأثافي. وفي مراكش تمَّت البيعة
لمولاي حفيظ. ولقد أفلح في أن يحفظ على جنوب المملكة
أمنَه وهدوءَه. فيما ظل الشمال نهباً لفوضى عارمة. وقد
كان مولاي حفيظ، إلى ذلك الحين، تابعاً وفياً لأخيه،
لكنه أخذ ينتبه تدريجياً، إلى أن ذلك الوضع منه لا
يمكن أن يدوم. فقبِل بالبيعة التي طوَّقه بها الشعب
المغربي.
غير أن هذا التبدُّل لم يَرُقْ للفرنسيين.
فقد كانوا يؤْثِرون أن يروا المغرب يحكمه سلطان ضعيف،
منقاد لهم، على أن يتولى أموره سلطان قوي. فلم يكونوا
يفوتون فرصة إلا وينعتون مولاي حفيظ بالمتمرد. وتبين
مولاي عبد العزيز الخطرَ الذي أصبح يتهدده في مدينة
مراكش، ولذلك غادر المدينة في خريف 1907 باتجاه مدينة
الرباط، ويُحتمَل أن يكون خروجه إليها بغاية أن يكون
قريباً من أصدقائه «الجدد»، ويطلب العون منهم.
لقد خرج الفرنسيون إلى الحرب، متذرِّعين بنشر النظام،
وفي أماكن لم يكن فيها من فوضى، أو كان الفرنسيون
أنفسهم من دبر فيها تلك الفوضى. وهكذا، فقد أخضعوا
قبائل بني يزناسن، وإقليم الشاوية كله. ورد العلماء في
مدينة فاس بإعلان البيعة للسلطان مولاي حفيظ، وخلعوا
أخاه. غير أن ذلك لم يكن ليوقف الفرنسيين. فلقد واصلوا
عملهم التدميري، الذي ظهر فيه داماد مغامراً جسوراً.
فلم يكن يراعي لا النساء ولا الأطفال متى وقع عليهم
في طريقه (15 مارس 1908). وتم الدوس من جديد على
قرارات مؤتمر الجزيرة الخضراء؛ كما حدث في طلب تقديم
عروض بتزويد الشرطة المغربية من العتاد؛ تلك الشرطة التي
شُرع في تكوينها منذ أن كانت حادثة الدار البيضاء،
والتي تم ملء صفوفها الفارغة من الجزائريين، فقد كان
في هذا الأمر، كذلك، انتهاك لقرارات مؤتمر الجزيرة
الخضراء. و تم توضيب الشروط لتسليم العتاد والمقرَّات
إلى هؤلاء الجنود، بحيث يتم إقصاء غير الفرنسيين من
المتنافسين على تلك العروض. وأعظم بها من وقاحة.
في تلك الأثناء كان وصول مولاي حفيظ، في بطء، لكن في
أمان، إلى مدينة فاس. لقد أصبح مؤيدوه في تزايد
مستمر، في جميع الأنحاء، وقد تمت له البيعة، كذلك، من
بعض المدن الساحلية. لكن الفرنسيين كانوا يفلحون، على
الدوام، في حمل السكان في تلك المدن على نقض بيعتهم
له، إما باستعمال الحيلة، أو باللجوء إلى التهديد، بما
كانوا يحشدون من السفن الحربية. ونشر الفرنسيون خبراً
كاذباً عن القوة المتزايدة لسلطانهم الأثير مولاي عبد
العزيز، وانتهاء سلطة السلطان الجديد مولاي حفيظ، حتى
دخل هذا الأخير مدينة فاس ووضع أوروپا أمام الأمر
الواقع. فلقد أصبح، يومئذ، هو السلطان الشرعي للمغرب.
غير أن فرنسا ظلت تتجاهل اعتراف القوى الأجنبية بالسلطان
مولاي حفيظ، وأفلحت في تعطيله بكل الحيل الممكنة، وكل
أنواع التهديد والوعيد.
رأى مولاي عبد العزيز حينئذ
أن نهايته باتت وشيكة. فإذا هو يسرع قبل أن ينهار كل
شيء إلى تحويل كل ما أمكن له أن يحوله إلى نقود.
وكان من بين ما قام بتحويله «أسطوله» البحري. وقد
كان جوف سفينة «السعيدي» احترق عن كامله من انفجار
تعرضت له في مدينة العرائش. وظلت تلك السفينة تنتظر،
كشأن «سداة التركي»، وقتاً طويلاً عسى أن تحظيا
بالتصليح. لكن بدلاً من ذلك، بيعت السفينتان في مزاد
علني، في الأيام الأولى من شهر يوليوز 1908. ولست أعلم
بكم بيعت «السعيدي». وأما «سداة التركي» فقد بيعت
بمبلغ 8800 دورو حسني؛ أي ما يساوي 150 1 ليرة في
الوقت الحاضر. فماذا كان يا ترى مصير الـ 350 ليرة
الباقية؟ لقد تم أداء مستحقات طاقم السفينتين، وتم
تسريحهم، كما تم تسريحنا نحن الأوروبيين. ولم آسف لتركي
عملي عند سلطان كان يدفع إلى الهلاك، في سرعة، بهذا
البلد الذي تعلمت أن أحبه. وقد خصني الطريس بالشهادة
التالية :
ويقول نصها :
«يعلم الواقف على هذا
أن القبطان كارو الألماني قد استخدمه جانب المخزن الشريف
رئيساً بالبابور المسمى التركي مدة تناهز التسع سنين
كان في جميعها متصفاً بحسن الأخلاق والصدق والأمانة
وإتقان العمل الذي طوِّق به لم يظهر منه في خلالها
ما يوجب لمزه بشيء يخالف الأوصاف التي استُخدِم لأجلها
وحرِّر بدار النيابة السعيدة في طنجة 9 جمادى الثانية
1326 موافق 9 يوليه سنة 1908، محمد الطريس لطف الله
به».
كان المغرب يعيش، يومئذ، نهاية حكم مولاي
عبد العزيز. ولقد قرَّر هذا السلطان، بضغط من الفرنسيين،
أن يحوز الجنوب، في الوقت الذي أصبح أخوه عبد الحفيظ
سيدَ الشمال. وهكذا سار مولاي عبد العزيز، في جيش
عظيم، كان يوجد في صفوفه، بكل تأكيد، بعض الفرنسيين
المتنكرين، يقترب من الجنوب. وكان الفرنسيون لا يفتأون
يبثون الشائعات عن الانتصارات الساحقة التي كان يحققها
هذا الجيش، إلى أن كانت هزيمة مولاي عبد العزيز على
مقربة من قلعة السراغنة، وفراره إلى نواحي الشاوية، التي
كانت خاضعة لأصدقائه ومواليه. ويومها أصبحت جميع المدن
الساحلية تقرُّ، الواحدة تلو الأخرى، بمولاي عبد الحفيظ
سلطاناً. ومن عاين هذه البيعة في مدينة طنجة يمكنه أن
يشهد أن فرحة الشعب كانت فرحة صادقة. ونادراً ما عمت
مثل تلك الفرحة شوارع المدينة، ما عدا في يوم زيارة
الأمبراطور.
وإليكم في ما يلي أخبارَ هاتين السنتين
الأخيرتين. ولو أردت أن أضع بها تقريراً وأسهب في
تفاصيلها لاقتضاني الأمر سفْراً عظيماً. إنه تاريخ طويل
من الانتهاكات لعقد الجزيرة الخضراء، والدسائس وأعمال
العنف الصادرة عن الفرنسيين، والتي أصبحت لا تستهدف
المغرب وحده، بل تنال ممن يعيش فيه من الأجانب قاطبة،
ولاسيما الألمان منهم. وسيكون جرداً بالأكاذيب التي ظل
الفرنسيون يحيكونها لخدمة سياستهم المغامرة وتقارير مطولة
عن سلطان ازدراه شعبه، وبغضَه، ثم خلعه. سلطان معدوم
الإرادة، فاقد النشاط. وستكون حكاية طويلة عن سلطان بلا
بلد، وموظفين خونة، يشاركون بكل تفان في انهيار وطنهم،
وشعب فقير وصبور، دُفِع إلى التمرد على الفرنسيين وعلى
سلطانه، ويأمل في أيام أفضل. وباختصار إنه سيكون تاريخاً
طويلاً ومحزناً، للتدمير الذي تعرضت له بلاد على يد
بعض المضاربين الفرنسيين.
وسوف لا ينقضي وقت طويل
حتى يصبح مولاي حفيظ السلطان الشرعي على المغرب
بلامنازع. وإن الشعب الذي يقوده اليوم، وإن لم يكن قد
أقرَّ به سلطاناً عليه، ليَتَشوَّف إليه، تشوُّفَه إلى
محرر له من البؤس المرير الذي يرسف فيه. ولقد أفلح
مولاي حفيظ في أن يعيد الأمن والنظام إلى الجهات التي
تولى الأمر فيها. وهو لا يتمتع بثقة شعبه وحده، بل
وبثقة الأوروبيين من غير الفرنسيين أيضاً.
لا يمكن
للمغرب أن يدخل عهداً جديداً يتمتع فيه بالسلم ما لم
تبتعد عنه فرنسا، وما لم تسحب جيوشها من إقليم
الشاوية. فهل سيكتب لهذا الأمر أن يتحقق في يوم من
الأيام؟ أم أن الفرنسيين سيعودون إلى مواصلة خداعهم
المعهود للحيلولة دون تحققه؟
ذانك هما السؤالان المقلقان اللذان سيكون المستقبل هو وحده الكفيل بالإجابة عنهما.
ذلك ما كتبْت في شتنبر 1908. وفي تلك الأثناء أقر
المخزن بمولاي حفيظ سلطاناً شرعياً للمغرب. ومن المعلوم
أنه قد تم التوقيع في 9 فبراير من تلك السنة في
برلين على الاتفاق الفرنسي الألماني بشأن المغرب. وهو
الاتفاق الذي تتخلى ألمانيا بموجبه عن كل نشاط لها في
المغرب لفائدة فرنسا، وتقر فرنسا إقراراً كاملاً بالمصالح
الاقتصادية للألمان في المملكة الشريفة، وتعِدهم بالحقوق
نفسها التي يتمتع بها الفرنسيون.
لكن لا ينبغي أن
نمني النفس بكل هذه الأماني! فحتى وإن كان من المحتمل
للسنوات المقبلة أن تحمل دفعاً خفيفاً للأعمال الألمانية
في المغرب، فإن فرنسا ستعرف جيداً بمضي الوقت كيف تطرد
الألمان من المغرب. ومن يظن خلاف ذلك فإنما هو يجهل
بالفرنسيين.
ويمكنني الآن أن أجيب بكثير من اليقين
عن سؤال يتعلق بالمستقبل فأقول إن فرنسا ستواصل العمل
على استكمال «الاختراق السلمي»، وسيصير المغرب بمرور
الوقت محمية فرنسية. ولن يغير الاتفاق الفرنسي المغربي
الجديد من هذا الأمر شيئاً؛ إذ يُقال كذلك إن ميثاق
الجزيرة الخضراء سيظل ساري المفعول، ويقال خاصة بضرورة
صون استقلال المغرب ووحدته الترابية، فضلاً عن الإبقاء
على سياسة الباب المفتوح، فقد ظلت فرنسا إلى ذلك الوقت
لا تعير اهتماماً إلى تلك القرارات، وهو أمر نراه
بجلاء في الأحداث التي عرفتها السنوات الأخيرة، وسيظل
ذلك ديدنها في مقبل الأيام؛ إذ أن ألمانيا تنوي أن
تخلي لها المجال من الناحية السياسية!
ومن أسف
أننا، وقد سلمنا المغرب إلى الفرنسيين من غير شروط، قد
انمحى من نفوس المغاربة ما كانوا يكنون لنا من
اعتبار، وبمرور الوقت سوف لا يعود من سبيل أمام
الألمان المقيمين في المغرب غير أن يرحلوا إلى غير
رجعة عن هذا البلد الذي تعلمنا أن نحبه، كأنه لنا
وطن ثان.
وبدلاً من أن يشاطر السلطان شعبَه ما
كان يجد من المناوأة من الأسلوب الفرنسي، إذا هو يسارع
إلى التعبير عن فرحه واغتباطه لما شهدت مدينة الدار
البيضاء من أحداث. وتلك كانت ثالثة الأثافي. وفي مراكش
تمَّت البيعة لمولاي حفيظ. ولقد أفلح في أن يحفظ على
جنوب المملكة أمنَه وهدوءَه. فيما ظل الشمال نهباً لفوضى
عارمة. وقد كان مولاي حفيظ، إلى ذلك الحين، تابعاً
وفياً لأخيه، لكنه أخذ ينتبه تدريجياً، إلى أن ذلك
الوضع منه لا يمكن أن يدوم. فقبِل بالبيعة التي طوَّقه
بها الشعب المغربي.
غير أن هذا التبدُّل لم
يَرُقْ للفرنسيين. فقد كانوا يؤْثِرون أن يروا المغرب
يحكمه سلطان ضعيف، منقاد لهم، على أن يتولى أموره
سلطان قوي. فلم يكونوا يفوتون فرصة إلا وينعتون مولاي
حفيظ بالمتمرد. وتبين مولاي عبد العزيز الخطرَ الذي أصبح
يتهدده في مدينة مراكش، ولذلك غادر المدينة في خريف
1907 باتجاه مدينة الرباط، ويُحتمَل أن يكون خروجه إليها
بغاية أن يكون قريباً من أصدقائه «الجدد»، ويطلب
العون منهم.
لقد خرج الفرنسيون إلى الحرب، متذرِّعين
بنشر النظام، وفي أماكن لم يكن فيها من فوضى، أو
كان الفرنسيون أنفسهم من دبر فيها تلك الفوضى. وهكذا،
فقد أخضعوا قبائل بني يزناسن، وإقليم الشاوية كله. ورد
العلماء في مدينة فاس بإعلان البيعة للسلطان مولاي حفيظ،
وخلعوا أخاه. غير أن ذلك لم يكن ليوقف الفرنسيين.
فلقد واصلوا عملهم التدميري، الذي ظهر فيه داماد مغامراً
جسوراً. فلم يكن يراعي لا النساء ولا الأطفال متى وقع
عليهم في طريقه (15 مارس 1908). وتم الدوس من جديد
على قرارات مؤتمر الجزيرة الخضراء؛ كما حدث في طلب
تقديم عروض بتزويد الشرطة المغربية من العتاد؛ تلك
الشرطة التي شُرع في تكوينها منذ أن كانت حادثة الدار
البيضاء، والتي تم ملء صفوفها الفارغة من الجزائريين،
فقد كان في هذا الأمر، كذلك، انتهاك لقرارات مؤتمر
الجزيرة الخضراء. و تم توضيب الشروط لتسليم العتاد
والمقرَّات إلى هؤلاء الجنود، بحيث يتم إقصاء غير
الفرنسيين من المتنافسين على تلك العروض. وأعظم بها من
وقاحة.
في تلك الأثناء كان وصول مولاي حفيظ، في
بطء، لكن في أمان، إلى مدينة فاس. لقد أصبح مؤيدوه
في تزايد مستمر، في جميع الأنحاء، وقد تمت له البيعة،
كذلك، من بعض المدن الساحلية. لكن الفرنسيين كانوا
يفلحون، على الدوام، في حمل السكان في تلك المدن على
نقض بيعتهم له، إما باستعمال الحيلة، أو باللجوء إلى
التهديد، بما كانوا يحشدون من السفن الحربية. ونشر
الفرنسيون خبراً كاذباً عن القوة المتزايدة لسلطانهم
الأثير مولاي عبد العزيز، وانتهاء سلطة السلطان الجديد
مولاي حفيظ، حتى دخل هذا الأخير مدينة فاس ووضع أوروپا
أمام الأمر الواقع. فلقد أصبح، يومئذ، هو السلطان
الشرعي للمغرب. غير أن فرنسا ظلت تتجاهل اعتراف القوى
الأجنبية بالسلطان مولاي حفيظ، وأفلحت في تعطيله بكل
الحيل الممكنة، وكل أنواع التهديد والوعيد.
رأى
مولاي عبد العزيز حينئذ أن نهايته باتت وشيكة. فإذا هو
يسرع قبل أن ينهار كل شيء إلى تحويل كل ما أمكن
له أن يحوله إلى نقود. وكان من بين ما قام بتحويله
«أسطوله» البحري. وقد كان جوف سفينة «السعيدي»
احترق عن كامله من انفجار تعرضت له في مدينة العرائش.
وظلت تلك السفينة تنتظر، كشأن «سداة التركي»، وقتاً
طويلاً عسى أن تحظيا بالتصليح. لكن بدلاً من ذلك، بيعت
السفينتان في مزاد علني، في الأيام الأولى من شهر
يوليوز 1908. ولست أعلم بكم بيعت «السعيدي». وأما
«سداة التركي» فقد بيعت بمبلغ 8800 دورو حسني؛ أي
ما يساوي 150 1 ليرة في الوقت الحاضر. فماذا كان يا
ترى مصير الـ 350 ليرة الباقية؟ لقد تم أداء مستحقات
طاقم السفينتين، وتم تسريحهم، كما تم تسريحنا نحن
الأوروبيين. ولم آسف لتركي عملي عند سلطان كان يدفع
إلى الهلاك، في سرعة، بهذا البلد الذي تعلمت أن أحبه.
وقد خصني الطريس بالشهادة التالية :
ويقول نصها :
«يعلم
الواقف على هذا أن القبطان كارو الألماني قد استخدمه
جانب المخزن الشريف رئيساً بالبابور المسمى التركي مدة
تناهز التسع سنين كان في جميعها متصفاً بحسن الأخلاق
والصدق والأمانة وإتقان العمل الذي طوِّق به لم يظهر
منه في خلالها ما يوجب لمزه بشيء يخالف الأوصاف التي
استُخدِم لأجلها وحرِّر بدار النيابة السعيدة في طنجة 9
جمادى الثانية 1326 موافق 9 يوليه سنة 1908، محمد
الطريس لطف الله به».
كان المغرب يعيش، يومئذ،
نهاية حكم مولاي عبد العزيز. ولقد قرَّر هذا السلطان،
بضغط من الفرنسيين، أن يحوز الجنوب، في الوقت الذي
أصبح أخوه عبد الحفيظ سيدَ الشمال. وهكذا سار مولاي
عبد العزيز، في جيش عظيم، كان يوجد في صفوفه، بكل
تأكيد، بعض الفرنسيين المتنكرين، يقترب من الجنوب. وكان
الفرنسيون لا يفتأون يبثون الشائعات عن الانتصارات الساحقة
التي كان يحققها هذا الجيش، إلى أن كانت هزيمة مولاي
عبد العزيز على مقربة من قلعة السراغنة، وفراره إلى
نواحي الشاوية، التي كانت خاضعة لأصدقائه ومواليه. ويومها
أصبحت جميع المدن الساحلية تقرُّ، الواحدة تلو الأخرى،
بمولاي عبد الحفيظ سلطاناً. ومن عاين هذه البيعة في
مدينة طنجة يمكنه أن يشهد أن فرحة الشعب كانت فرحة
صادقة. ونادراً ما عمت مثل تلك الفرحة شوارع المدينة،
ما عدا في يوم زيارة الأمبراطور.
وإليكم في ما
يلي أخبارَ هاتين السنتين الأخيرتين. ولو أردت أن أضع
بها تقريراً وأسهب في تفاصيلها لاقتضاني الأمر سفْراً
عظيماً. إنه تاريخ طويل من الانتهاكات لعقد الجزيرة
الخضراء، والدسائس وأعمال العنف الصادرة عن الفرنسيين،
والتي أصبحت لا تستهدف المغرب وحده، بل تنال ممن يعيش
فيه من الأجانب قاطبة، ولاسيما الألمان منهم. وسيكون
جرداً بالأكاذيب التي ظل الفرنسيون يحيكونها لخدمة سياستهم
المغامرة وتقارير مطولة عن سلطان ازدراه شعبه، وبغضَه،
ثم خلعه. سلطان معدوم الإرادة، فاقد النشاط. وستكون
حكاية طويلة عن سلطان بلا بلد، وموظفين خونة، يشاركون
بكل تفان في انهيار وطنهم، وشعب فقير وصبور، دُفِع إلى
التمرد على الفرنسيين وعلى سلطانه، ويأمل في أيام أفضل.
وباختصار إنه سيكون تاريخاً طويلاً ومحزناً، للتدمير الذي
تعرضت له بلاد على يد بعض المضاربين الفرنسيين.
وسوف لا ينقضي وقت طويل حتى يصبح مولاي حفيظ السلطان
الشرعي على المغرب بلامنازع. وإن الشعب الذي يقوده
اليوم، وإن لم يكن قد أقرَّ به سلطاناً عليه،
ليَتَشوَّف إليه، تشوُّفَه إلى محرر له من البؤس المرير
الذي يرسف فيه. ولقد أفلح مولاي حفيظ في أن يعيد
الأمن والنظام إلى الجهات التي تولى الأمر فيها. وهو
لا يتمتع بثقة شعبه وحده، بل وبثقة الأوروبيين من غير
الفرنسيين أيضاً.
لا يمكن للمغرب أن يدخل عهداً
جديداً يتمتع فيه بالسلم ما لم تبتعد عنه فرنسا، وما
لم تسحب جيوشها من إقليم الشاوية. فهل سيكتب لهذا
الأمر أن يتحقق في يوم من الأيام؟ أم أن الفرنسيين
سيعودون إلى مواصلة خداعهم المعهود للحيلولة دون تحققه؟
ذانك هما السؤالان المقلقان اللذان سيكون المستقبل هو وحده الكفيل بالإجابة عنهما.
ذلك ما كتبْت في شتنبر 1908. وفي تلك الأثناء أقر
المخزن بمولاي حفيظ سلطاناً شرعياً للمغرب. ومن المعلوم
أنه قد تم التوقيع في 9 فبراير من تلك السنة في
برلين على الاتفاق الفرنسي الألماني بشأن المغرب. وهو
الاتفاق الذي تتخلى ألمانيا بموجبه عن كل نشاط لها في
المغرب لفائدة فرنسا، وتقر فرنسا إقراراً كاملاً بالمصالح
الاقتصادية للألمان في المملكة الشريفة، وتعِدهم بالحقوق
نفسها التي يتمتع بها الفرنسيون.
لكن لا ينبغي أن
نمني النفس بكل هذه الأماني! فحتى وإن كان من المحتمل
للسنوات المقبلة أن تحمل دفعاً خفيفاً للأعمال الألمانية
في المغرب، فإن فرنسا ستعرف جيداً بمضي الوقت كيف تطرد
الألمان من المغرب. ومن يظن خلاف ذلك فإنما هو يجهل
بالفرنسيين.
ويمكنني الآن أن أجيب بكثير من اليقين
عن سؤال يتعلق بالمستقبل فأقول إن فرنسا ستواصل العمل
على استكمال «الاختراق السلمي»، وسيصير المغرب بمرور
الوقت محمية فرنسية. ولن يغير الاتفاق الفرنسي المغربي
الجديد من هذا الأمر شيئاً؛ إذ يُقال كذلك إن ميثاق
الجزيرة الخضراء سيظل ساري المفعول، ويقال خاصة بضرورة
صون استقلال المغرب ووحدته الترابية، فضلاً عن الإبقاء
على سياسة الباب المفتوح، فقد ظلت فرنسا إلى ذلك الوقت
لا تعير اهتماماً إلى تلك القرارات، وهو أمر نراه
بجلاء في الأحداث التي عرفتها السنوات الأخيرة، وسيظل
ذلك ديدنها في مقبل الأيام؛ إذ أن ألمانيا تنوي أن
تخلي لها المجال من الناحية السياسية!
ومن أسف
أننا، وقد سلمنا المغرب إلى الفرنسيين من غير شروط، قد
انمحى من نفوس المغاربة ما كانوا يكنون لنا من
اعتبار، وبمرور الوقت سوف لا يعود من سبيل أمام
الألمان المقيمين في المغرب غير أن يرحلوا إلى غير
رجعة عن هذا البلد الذي تعلمنا أن نحبه، كأنه لنا
وطن ثان.
ترجمة عبد الرحيم حزل
بيان اليوم : 26 - 08 - 2012
وبدلاً من أن يشاطر السلطان شعبَه ما كان يجد من
المناوأة من الأسلوب الفرنسي، إذا هو يسارع إلى التعبير
عن فرحه واغتباطه لما شهدت مدينة الدار البيضاء من
أحداث. وتلك كانت ثالثة الأثافي. وفي مراكش تمَّت البيعة
لمولاي حفيظ. ولقد أفلح في أن يحفظ على جنوب المملكة
أمنَه وهدوءَه. فيما ظل الشمال نهباً لفوضى عارمة. وقد
كان مولاي حفيظ، إلى ذلك الحين، تابعاً وفياً لأخيه،
لكنه أخذ ينتبه تدريجياً، إلى أن ذلك الوضع منه لا
يمكن أن يدوم. فقبِل بالبيعة التي طوَّقه بها الشعب
المغربي.
غير أن هذا التبدُّل لم يَرُقْ للفرنسيين.
فقد كانوا يؤْثِرون أن يروا المغرب يحكمه سلطان ضعيف،
منقاد لهم، على أن يتولى أموره سلطان قوي. فلم يكونوا
يفوتون فرصة إلا وينعتون مولاي حفيظ بالمتمرد. وتبين
مولاي عبد العزيز الخطرَ الذي أصبح يتهدده في مدينة
مراكش، ولذلك غادر المدينة في خريف 1907 باتجاه مدينة
الرباط، ويُحتمَل أن يكون خروجه إليها بغاية أن يكون
قريباً من أصدقائه «الجدد»، ويطلب العون منهم.
لقد خرج الفرنسيون إلى الحرب، متذرِّعين بنشر النظام،
وفي أماكن لم يكن فيها من فوضى، أو كان الفرنسيون
أنفسهم من دبر فيها تلك الفوضى. وهكذا، فقد أخضعوا
قبائل بني يزناسن، وإقليم الشاوية كله. ورد العلماء في
مدينة فاس بإعلان البيعة للسلطان مولاي حفيظ، وخلعوا
أخاه. غير أن ذلك لم يكن ليوقف الفرنسيين. فلقد واصلوا
عملهم التدميري، الذي ظهر فيه داماد مغامراً جسوراً.
فلم يكن يراعي لا النساء ولا الأطفال متى وقع عليهم
في طريقه (15 مارس 1908). وتم الدوس من جديد على
قرارات مؤتمر الجزيرة الخضراء؛ كما حدث في طلب تقديم
عروض بتزويد الشرطة المغربية من العتاد؛ تلك الشرطة التي
شُرع في تكوينها منذ أن كانت حادثة الدار البيضاء،
والتي تم ملء صفوفها الفارغة من الجزائريين، فقد كان
في هذا الأمر، كذلك، انتهاك لقرارات مؤتمر الجزيرة
الخضراء. و تم توضيب الشروط لتسليم العتاد والمقرَّات
إلى هؤلاء الجنود، بحيث يتم إقصاء غير الفرنسيين من
المتنافسين على تلك العروض. وأعظم بها من وقاحة.
في تلك الأثناء كان وصول مولاي حفيظ، في بطء، لكن في
أمان، إلى مدينة فاس. لقد أصبح مؤيدوه في تزايد
مستمر، في جميع الأنحاء، وقد تمت له البيعة، كذلك، من
بعض المدن الساحلية. لكن الفرنسيين كانوا يفلحون، على
الدوام، في حمل السكان في تلك المدن على نقض بيعتهم
له، إما باستعمال الحيلة، أو باللجوء إلى التهديد، بما
كانوا يحشدون من السفن الحربية. ونشر الفرنسيون خبراً
كاذباً عن القوة المتزايدة لسلطانهم الأثير مولاي عبد
العزيز، وانتهاء سلطة السلطان الجديد مولاي حفيظ، حتى
دخل هذا الأخير مدينة فاس ووضع أوروپا أمام الأمر
الواقع. فلقد أصبح، يومئذ، هو السلطان الشرعي للمغرب.
غير أن فرنسا ظلت تتجاهل اعتراف القوى الأجنبية بالسلطان
مولاي حفيظ، وأفلحت في تعطيله بكل الحيل الممكنة، وكل
أنواع التهديد والوعيد.
رأى مولاي عبد العزيز حينئذ
أن نهايته باتت وشيكة. فإذا هو يسرع قبل أن ينهار كل
شيء إلى تحويل كل ما أمكن له أن يحوله إلى نقود.
وكان من بين ما قام بتحويله «أسطوله» البحري. وقد
كان جوف سفينة «السعيدي» احترق عن كامله من انفجار
تعرضت له في مدينة العرائش. وظلت تلك السفينة تنتظر،
كشأن «سداة التركي»، وقتاً طويلاً عسى أن تحظيا
بالتصليح. لكن بدلاً من ذلك، بيعت السفينتان في مزاد
علني، في الأيام الأولى من شهر يوليوز 1908. ولست أعلم
بكم بيعت «السعيدي». وأما «سداة التركي» فقد بيعت
بمبلغ 8800 دورو حسني؛ أي ما يساوي 150 1 ليرة في
الوقت الحاضر. فماذا كان يا ترى مصير الـ 350 ليرة
الباقية؟ لقد تم أداء مستحقات طاقم السفينتين، وتم
تسريحهم، كما تم تسريحنا نحن الأوروبيين. ولم آسف لتركي
عملي عند سلطان كان يدفع إلى الهلاك، في سرعة، بهذا
البلد الذي تعلمت أن أحبه. وقد خصني الطريس بالشهادة
التالية :
ويقول نصها :
«يعلم الواقف على هذا
أن القبطان كارو الألماني قد استخدمه جانب المخزن الشريف
رئيساً بالبابور المسمى التركي مدة تناهز التسع سنين
كان في جميعها متصفاً بحسن الأخلاق والصدق والأمانة
وإتقان العمل الذي طوِّق به لم يظهر منه في خلالها
ما يوجب لمزه بشيء يخالف الأوصاف التي استُخدِم لأجلها
وحرِّر بدار النيابة السعيدة في طنجة 9 جمادى الثانية
1326 موافق 9 يوليه سنة 1908، محمد الطريس لطف الله
به».
كان المغرب يعيش، يومئذ، نهاية حكم مولاي
عبد العزيز. ولقد قرَّر هذا السلطان، بضغط من الفرنسيين،
أن يحوز الجنوب، في الوقت الذي أصبح أخوه عبد الحفيظ
سيدَ الشمال. وهكذا سار مولاي عبد العزيز، في جيش
عظيم، كان يوجد في صفوفه، بكل تأكيد، بعض الفرنسيين
المتنكرين، يقترب من الجنوب. وكان الفرنسيون لا يفتأون
يبثون الشائعات عن الانتصارات الساحقة التي كان يحققها
هذا الجيش، إلى أن كانت هزيمة مولاي عبد العزيز على
مقربة من قلعة السراغنة، وفراره إلى نواحي الشاوية، التي
كانت خاضعة لأصدقائه ومواليه. ويومها أصبحت جميع المدن
الساحلية تقرُّ، الواحدة تلو الأخرى، بمولاي عبد الحفيظ
سلطاناً. ومن عاين هذه البيعة في مدينة طنجة يمكنه أن
يشهد أن فرحة الشعب كانت فرحة صادقة. ونادراً ما عمت
مثل تلك الفرحة شوارع المدينة، ما عدا في يوم زيارة
الأمبراطور.
وإليكم في ما يلي أخبارَ هاتين السنتين
الأخيرتين. ولو أردت أن أضع بها تقريراً وأسهب في
تفاصيلها لاقتضاني الأمر سفْراً عظيماً. إنه تاريخ طويل
من الانتهاكات لعقد الجزيرة الخضراء، والدسائس وأعمال
العنف الصادرة عن الفرنسيين، والتي أصبحت لا تستهدف
المغرب وحده، بل تنال ممن يعيش فيه من الأجانب قاطبة،
ولاسيما الألمان منهم. وسيكون جرداً بالأكاذيب التي ظل
الفرنسيون يحيكونها لخدمة سياستهم المغامرة وتقارير مطولة
عن سلطان ازدراه شعبه، وبغضَه، ثم خلعه. سلطان معدوم
الإرادة، فاقد النشاط. وستكون حكاية طويلة عن سلطان بلا
بلد، وموظفين خونة، يشاركون بكل تفان في انهيار وطنهم،
وشعب فقير وصبور، دُفِع إلى التمرد على الفرنسيين وعلى
سلطانه، ويأمل في أيام أفضل. وباختصار إنه سيكون تاريخاً
طويلاً ومحزناً، للتدمير الذي تعرضت له بلاد على يد
بعض المضاربين الفرنسيين.
وسوف لا ينقضي وقت طويل
حتى يصبح مولاي حفيظ السلطان الشرعي على المغرب
بلامنازع. وإن الشعب الذي يقوده اليوم، وإن لم يكن قد
أقرَّ به سلطاناً عليه، ليَتَشوَّف إليه، تشوُّفَه إلى
محرر له من البؤس المرير الذي يرسف فيه. ولقد أفلح
مولاي حفيظ في أن يعيد الأمن والنظام إلى الجهات التي
تولى الأمر فيها. وهو لا يتمتع بثقة شعبه وحده، بل
وبثقة الأوروبيين من غير الفرنسيين أيضاً.
لا يمكن
للمغرب أن يدخل عهداً جديداً يتمتع فيه بالسلم ما لم
تبتعد عنه فرنسا، وما لم تسحب جيوشها من إقليم
الشاوية. فهل سيكتب لهذا الأمر أن يتحقق في يوم من
الأيام؟ أم أن الفرنسيين سيعودون إلى مواصلة خداعهم
المعهود للحيلولة دون تحققه؟
ذانك هما السؤالان المقلقان اللذان سيكون المستقبل هو وحده الكفيل بالإجابة عنهما.
ذلك ما كتبْت في شتنبر 1908. وفي تلك الأثناء أقر
المخزن بمولاي حفيظ سلطاناً شرعياً للمغرب. ومن المعلوم
أنه قد تم التوقيع في 9 فبراير من تلك السنة في
برلين على الاتفاق الفرنسي الألماني بشأن المغرب. وهو
الاتفاق الذي تتخلى ألمانيا بموجبه عن كل نشاط لها في
المغرب لفائدة فرنسا، وتقر فرنسا إقراراً كاملاً بالمصالح
الاقتصادية للألمان في المملكة الشريفة، وتعِدهم بالحقوق
نفسها التي يتمتع بها الفرنسيون.
لكن لا ينبغي أن
نمني النفس بكل هذه الأماني! فحتى وإن كان من المحتمل
للسنوات المقبلة أن تحمل دفعاً خفيفاً للأعمال الألمانية
في المغرب، فإن فرنسا ستعرف جيداً بمضي الوقت كيف تطرد
الألمان من المغرب. ومن يظن خلاف ذلك فإنما هو يجهل
بالفرنسيين.
ويمكنني الآن أن أجيب بكثير من اليقين
عن سؤال يتعلق بالمستقبل فأقول إن فرنسا ستواصل العمل
على استكمال «الاختراق السلمي»، وسيصير المغرب بمرور
الوقت محمية فرنسية. ولن يغير الاتفاق الفرنسي المغربي
الجديد من هذا الأمر شيئاً؛ إذ يُقال كذلك إن ميثاق
الجزيرة الخضراء سيظل ساري المفعول، ويقال خاصة بضرورة
صون استقلال المغرب ووحدته الترابية، فضلاً عن الإبقاء
على سياسة الباب المفتوح، فقد ظلت فرنسا إلى ذلك الوقت
لا تعير اهتماماً إلى تلك القرارات، وهو أمر نراه
بجلاء في الأحداث التي عرفتها السنوات الأخيرة، وسيظل
ذلك ديدنها في مقبل الأيام؛ إذ أن ألمانيا تنوي أن
تخلي لها المجال من الناحية السياسية!
ومن أسف
أننا، وقد سلمنا المغرب إلى الفرنسيين من غير شروط، قد
انمحى من نفوس المغاربة ما كانوا يكنون لنا من
اعتبار، وبمرور الوقت سوف لا يعود من سبيل أمام
الألمان المقيمين في المغرب غير أن يرحلوا إلى غير
رجعة عن هذا البلد الذي تعلمنا أن نحبه، كأنه لنا
وطن ثان.
وبدلاً من أن يشاطر السلطان شعبَه ما
كان يجد من المناوأة من الأسلوب الفرنسي، إذا هو يسارع
إلى التعبير عن فرحه واغتباطه لما شهدت مدينة الدار
البيضاء من أحداث. وتلك كانت ثالثة الأثافي. وفي مراكش
تمَّت البيعة لمولاي حفيظ. ولقد أفلح في أن يحفظ على
جنوب المملكة أمنَه وهدوءَه. فيما ظل الشمال نهباً لفوضى
عارمة. وقد كان مولاي حفيظ، إلى ذلك الحين، تابعاً
وفياً لأخيه، لكنه أخذ ينتبه تدريجياً، إلى أن ذلك
الوضع منه لا يمكن أن يدوم. فقبِل بالبيعة التي طوَّقه
بها الشعب المغربي.
غير أن هذا التبدُّل لم
يَرُقْ للفرنسيين. فقد كانوا يؤْثِرون أن يروا المغرب
يحكمه سلطان ضعيف، منقاد لهم، على أن يتولى أموره
سلطان قوي. فلم يكونوا يفوتون فرصة إلا وينعتون مولاي
حفيظ بالمتمرد. وتبين مولاي عبد العزيز الخطرَ الذي أصبح
يتهدده في مدينة مراكش، ولذلك غادر المدينة في خريف
1907 باتجاه مدينة الرباط، ويُحتمَل أن يكون خروجه إليها
بغاية أن يكون قريباً من أصدقائه «الجدد»، ويطلب
العون منهم.
لقد خرج الفرنسيون إلى الحرب، متذرِّعين
بنشر النظام، وفي أماكن لم يكن فيها من فوضى، أو
كان الفرنسيون أنفسهم من دبر فيها تلك الفوضى. وهكذا،
فقد أخضعوا قبائل بني يزناسن، وإقليم الشاوية كله. ورد
العلماء في مدينة فاس بإعلان البيعة للسلطان مولاي حفيظ،
وخلعوا أخاه. غير أن ذلك لم يكن ليوقف الفرنسيين.
فلقد واصلوا عملهم التدميري، الذي ظهر فيه داماد مغامراً
جسوراً. فلم يكن يراعي لا النساء ولا الأطفال متى وقع
عليهم في طريقه (15 مارس 1908). وتم الدوس من جديد
على قرارات مؤتمر الجزيرة الخضراء؛ كما حدث في طلب
تقديم عروض بتزويد الشرطة المغربية من العتاد؛ تلك
الشرطة التي شُرع في تكوينها منذ أن كانت حادثة الدار
البيضاء، والتي تم ملء صفوفها الفارغة من الجزائريين،
فقد كان في هذا الأمر، كذلك، انتهاك لقرارات مؤتمر
الجزيرة الخضراء. و تم توضيب الشروط لتسليم العتاد
والمقرَّات إلى هؤلاء الجنود، بحيث يتم إقصاء غير
الفرنسيين من المتنافسين على تلك العروض. وأعظم بها من
وقاحة.
في تلك الأثناء كان وصول مولاي حفيظ، في
بطء، لكن في أمان، إلى مدينة فاس. لقد أصبح مؤيدوه
في تزايد مستمر، في جميع الأنحاء، وقد تمت له البيعة،
كذلك، من بعض المدن الساحلية. لكن الفرنسيين كانوا
يفلحون، على الدوام، في حمل السكان في تلك المدن على
نقض بيعتهم له، إما باستعمال الحيلة، أو باللجوء إلى
التهديد، بما كانوا يحشدون من السفن الحربية. ونشر
الفرنسيون خبراً كاذباً عن القوة المتزايدة لسلطانهم
الأثير مولاي عبد العزيز، وانتهاء سلطة السلطان الجديد
مولاي حفيظ، حتى دخل هذا الأخير مدينة فاس ووضع أوروپا
أمام الأمر الواقع. فلقد أصبح، يومئذ، هو السلطان
الشرعي للمغرب. غير أن فرنسا ظلت تتجاهل اعتراف القوى
الأجنبية بالسلطان مولاي حفيظ، وأفلحت في تعطيله بكل
الحيل الممكنة، وكل أنواع التهديد والوعيد.
رأى
مولاي عبد العزيز حينئذ أن نهايته باتت وشيكة. فإذا هو
يسرع قبل أن ينهار كل شيء إلى تحويل كل ما أمكن
له أن يحوله إلى نقود. وكان من بين ما قام بتحويله
«أسطوله» البحري. وقد كان جوف سفينة «السعيدي»
احترق عن كامله من انفجار تعرضت له في مدينة العرائش.
وظلت تلك السفينة تنتظر، كشأن «سداة التركي»، وقتاً
طويلاً عسى أن تحظيا بالتصليح. لكن بدلاً من ذلك، بيعت
السفينتان في مزاد علني، في الأيام الأولى من شهر
يوليوز 1908. ولست أعلم بكم بيعت «السعيدي». وأما
«سداة التركي» فقد بيعت بمبلغ 8800 دورو حسني؛ أي
ما يساوي 150 1 ليرة في الوقت الحاضر. فماذا كان يا
ترى مصير الـ 350 ليرة الباقية؟ لقد تم أداء مستحقات
طاقم السفينتين، وتم تسريحهم، كما تم تسريحنا نحن
الأوروبيين. ولم آسف لتركي عملي عند سلطان كان يدفع
إلى الهلاك، في سرعة، بهذا البلد الذي تعلمت أن أحبه.
وقد خصني الطريس بالشهادة التالية :
ويقول نصها :
«يعلم
الواقف على هذا أن القبطان كارو الألماني قد استخدمه
جانب المخزن الشريف رئيساً بالبابور المسمى التركي مدة
تناهز التسع سنين كان في جميعها متصفاً بحسن الأخلاق
والصدق والأمانة وإتقان العمل الذي طوِّق به لم يظهر
منه في خلالها ما يوجب لمزه بشيء يخالف الأوصاف التي
استُخدِم لأجلها وحرِّر بدار النيابة السعيدة في طنجة 9
جمادى الثانية 1326 موافق 9 يوليه سنة 1908، محمد
الطريس لطف الله به».
كان المغرب يعيش، يومئذ،
نهاية حكم مولاي عبد العزيز. ولقد قرَّر هذا السلطان،
بضغط من الفرنسيين، أن يحوز الجنوب، في الوقت الذي
أصبح أخوه عبد الحفيظ سيدَ الشمال. وهكذا سار مولاي
عبد العزيز، في جيش عظيم، كان يوجد في صفوفه، بكل
تأكيد، بعض الفرنسيين المتنكرين، يقترب من الجنوب. وكان
الفرنسيون لا يفتأون يبثون الشائعات عن الانتصارات الساحقة
التي كان يحققها هذا الجيش، إلى أن كانت هزيمة مولاي
عبد العزيز على مقربة من قلعة السراغنة، وفراره إلى
نواحي الشاوية، التي كانت خاضعة لأصدقائه ومواليه. ويومها
أصبحت جميع المدن الساحلية تقرُّ، الواحدة تلو الأخرى،
بمولاي عبد الحفيظ سلطاناً. ومن عاين هذه البيعة في
مدينة طنجة يمكنه أن يشهد أن فرحة الشعب كانت فرحة
صادقة. ونادراً ما عمت مثل تلك الفرحة شوارع المدينة،
ما عدا في يوم زيارة الأمبراطور.
وإليكم في ما
يلي أخبارَ هاتين السنتين الأخيرتين. ولو أردت أن أضع
بها تقريراً وأسهب في تفاصيلها لاقتضاني الأمر سفْراً
عظيماً. إنه تاريخ طويل من الانتهاكات لعقد الجزيرة
الخضراء، والدسائس وأعمال العنف الصادرة عن الفرنسيين،
والتي أصبحت لا تستهدف المغرب وحده، بل تنال ممن يعيش
فيه من الأجانب قاطبة، ولاسيما الألمان منهم. وسيكون
جرداً بالأكاذيب التي ظل الفرنسيون يحيكونها لخدمة سياستهم
المغامرة وتقارير مطولة عن سلطان ازدراه شعبه، وبغضَه،
ثم خلعه. سلطان معدوم الإرادة، فاقد النشاط. وستكون
حكاية طويلة عن سلطان بلا بلد، وموظفين خونة، يشاركون
بكل تفان في انهيار وطنهم، وشعب فقير وصبور، دُفِع إلى
التمرد على الفرنسيين وعلى سلطانه، ويأمل في أيام أفضل.
وباختصار إنه سيكون تاريخاً طويلاً ومحزناً، للتدمير الذي
تعرضت له بلاد على يد بعض المضاربين الفرنسيين.
وسوف لا ينقضي وقت طويل حتى يصبح مولاي حفيظ السلطان
الشرعي على المغرب بلامنازع. وإن الشعب الذي يقوده
اليوم، وإن لم يكن قد أقرَّ به سلطاناً عليه،
ليَتَشوَّف إليه، تشوُّفَه إلى محرر له من البؤس المرير
الذي يرسف فيه. ولقد أفلح مولاي حفيظ في أن يعيد
الأمن والنظام إلى الجهات التي تولى الأمر فيها. وهو
لا يتمتع بثقة شعبه وحده، بل وبثقة الأوروبيين من غير
الفرنسيين أيضاً.
لا يمكن للمغرب أن يدخل عهداً
جديداً يتمتع فيه بالسلم ما لم تبتعد عنه فرنسا، وما
لم تسحب جيوشها من إقليم الشاوية. فهل سيكتب لهذا
الأمر أن يتحقق في يوم من الأيام؟ أم أن الفرنسيين
سيعودون إلى مواصلة خداعهم المعهود للحيلولة دون تحققه؟
ذانك هما السؤالان المقلقان اللذان سيكون المستقبل هو وحده الكفيل بالإجابة عنهما.
ذلك ما كتبْت في شتنبر 1908. وفي تلك الأثناء أقر
المخزن بمولاي حفيظ سلطاناً شرعياً للمغرب. ومن المعلوم
أنه قد تم التوقيع في 9 فبراير من تلك السنة في
برلين على الاتفاق الفرنسي الألماني بشأن المغرب. وهو
الاتفاق الذي تتخلى ألمانيا بموجبه عن كل نشاط لها في
المغرب لفائدة فرنسا، وتقر فرنسا إقراراً كاملاً بالمصالح
الاقتصادية للألمان في المملكة الشريفة، وتعِدهم بالحقوق
نفسها التي يتمتع بها الفرنسيون.
لكن لا ينبغي أن
نمني النفس بكل هذه الأماني! فحتى وإن كان من المحتمل
للسنوات المقبلة أن تحمل دفعاً خفيفاً للأعمال الألمانية
في المغرب، فإن فرنسا ستعرف جيداً بمضي الوقت كيف تطرد
الألمان من المغرب. ومن يظن خلاف ذلك فإنما هو يجهل
بالفرنسيين.
ويمكنني الآن أن أجيب بكثير من اليقين
عن سؤال يتعلق بالمستقبل فأقول إن فرنسا ستواصل العمل
على استكمال «الاختراق السلمي»، وسيصير المغرب بمرور
الوقت محمية فرنسية. ولن يغير الاتفاق الفرنسي المغربي
الجديد من هذا الأمر شيئاً؛ إذ يُقال كذلك إن ميثاق
الجزيرة الخضراء سيظل ساري المفعول، ويقال خاصة بضرورة
صون استقلال المغرب ووحدته الترابية، فضلاً عن الإبقاء
على سياسة الباب المفتوح، فقد ظلت فرنسا إلى ذلك الوقت
لا تعير اهتماماً إلى تلك القرارات، وهو أمر نراه
بجلاء في الأحداث التي عرفتها السنوات الأخيرة، وسيظل
ذلك ديدنها في مقبل الأيام؛ إذ أن ألمانيا تنوي أن
تخلي لها المجال من الناحية السياسية!
ومن أسف
أننا، وقد سلمنا المغرب إلى الفرنسيين من غير شروط، قد
انمحى من نفوس المغاربة ما كانوا يكنون لنا من
اعتبار، وبمرور الوقت سوف لا يعود من سبيل أمام
الألمان المقيمين في المغرب غير أن يرحلوا إلى غير
رجعة عن هذا البلد الذي تعلمنا أن نحبه، كأنه لنا
وطن ثان.
ترجمة عبد الرحيم حزل
بيان اليوم : 26 - 08 - 2012
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» ليلة القبض على امرئ القيس!: خيري منصور
» محكيات من سيرة بوحمارة كما نشرها كتاب غربيون معاصرون له
» لودوفيك دي كامبو: الإمبراطورية المتداعية
» ليلة القبض على " عيشة قنديشة "!!
» أتموا الصيام إلى الليل
» محكيات من سيرة بوحمارة كما نشرها كتاب غربيون معاصرون له
» لودوفيك دي كامبو: الإمبراطورية المتداعية
» ليلة القبض على " عيشة قنديشة "!!
» أتموا الصيام إلى الليل
صفحة 2 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى