مفهوم الذهن الشعري: آليات توليد البنيات الشعرية (*)
صفحة 1 من اصل 1
مفهوم الذهن الشعري: آليات توليد البنيات الشعرية (*)
1. توطئة
إن
تشكيل الفهم العميق والاستيعاب الدقيق للقضايا والإشكالات المختلفة التي
تطرحها الثقافة المغربية، في مجالاتها المحلية وامتداداتها الإنسانية، لن
يتم إلا بفتح فضاءات متنوعة لمقاربة الإنجازات العلمية والفكرية التي
راكمتها الأجيال المتلاحقة من المفكرين والباحثين المغاربة. ويتطلب الأمر،
في المبتدأ والمنتهى، إقرار نوع من «الإنصاف الثقافي» اتجاه المشاريع
العلمية والمعرفية للمفكرين والباحثين المحليين بما يسمح بالإنصات للذات
والتحاور معها استشرافاً لأفق ثقافي أفضل ؛ كما يقتضي تكريس نوع من
«المصالحة الرمزية» مع الثقافة المغربية في أبعادها المختلفة عبر التأسيس
لقنوات وأساليب تواصلية تمكن من تداول المنجز المعرفي المحلي ماضياً
وحاضراً ومستقبلاً. ولعل المدخل الأساس الذي يفرض نفسه، في هذا الإطار،
يتجلى في الوقوف عند أهم المشاريع الفكرية للباحثين المغاربة من خلال إنجاز
قراءات وصفية وتحليلية وسواء على مستوى النصوص والخطابات أو على مستوى
المتون والمسارات.
ضمن هذا المجال، نؤطر للورقة المتواضعة التي
ننجزها حول كتاب الدكتور محمد مفتاح «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية: اللغة ?
الموسيقى ? الحركة» بأجزائه الثلاثة: «الجزء الأول: مبادئ ومسارات» و»الجزء
الثاني: نظريات وأنساق» و»الجزء الثالث: أنغام ورموز» (مفتاح.2010). وإذ
ننطلق من كون الاشتغال على الإنتاجات العلمية المحلية من شأنه إعادة
الاعتبار للجهد الثقافي المغربي واستيعاب كيفية اشتغال النسق الثقافي
المحلي، فإننا نعتبر مقاربة هذا العمل الهام جسراً أساسياً ليس للإطلاع فقط
على وجهة نظر في البحث وتصور خاص في التحليل، بل أيضا لفهم جوهر القضايا
التي اشتغل محمد مفتاح ويشتغل عليها منذ البدايات الأولى لمشروعه الفكري
مطوراً بذلك إطاراً نظرياً منفتحاً وجهازاً وصفياً متكاملاً ونسقاً
مفاهيمياً متماسكاً.
إن الهدف من مقاربة مفتاح (2010) لا يتمثل في
الاستعراض العقيم للعمل عبر إعادة طرح المضامين والمعالجات والاستنتاجات
الواردة فيه، إنما يتحدد في بلورة موقف نوعي يقوم على التفاعل الإيجابي مع
المسلكيات النظرية والطرق المنهجية المعتمدة في تشييد «مفاهيم موسعة لنظرية
شعرية». فالقصد ليس الإجابة عن سؤال «ماذا ؟» وبالتالي إعادة إنتاج
المحتويات المطروحة مع بسط الحديث عن أهم المسائل والإشكالات المطروحة، بل
إن الغاية التي ننشدها تتمثل أساساً في تأمل سؤال «كيف ؟» من أجل تسليط
الضوء على منهجية بناء التصور النظري المتعلق بالشعرية المعرفية الموسعة في
أفق صياغة أجوبة مفتوحة على قضايا الشعر والخطاب الشعري انطلاقاً مما سبق
إنجازه (العاقد.2008).
بناء على ذلك، تتوخى المقاربة التي نعرضها في
التفاعل مع مفتاح (2010) استكشاف الآليات المنهجية والتحليلية الثاوية خلف
النظرية الموسعة للشعرية وكيفية تأصيل المفاهيم التصورية والإجرائية للخطاب
الشعري في أبعاده المعرفية المعممة. وتستند هذه المقاربة إلى الأطر
النظرية والمنهجية المعلنة والمضمرة المؤسسة للشعرية الموسعة، بناء على ما
توفره العلوم المعرفية من مستجدات فكرية هائلة، وما تطرحه الدراسات الشعرية
والموسيقية من تطورات تصورية متميزة(1). فالنهوض بمقاربة شعرية معاصرة
مرده إلى تنوع الخطاب الشعري وتقلبه بين أشكال تعبيرية مختلفة، إذ كما قال
مفتاح (2010: 1-296) «تكون قصيدة الشاعر المعاصر الواعي توليفاً من تقاليد
شعرية وموسيقية عديدة، بل إنها تشابه الأعمال التشكيلية، والنحتية،
والهندسية، والمسرحية؛ وإذا كان الأمر هكذا، فإنه صار من الاختزال المعيب
لآثار الشعراء المعاصرين أن تحلل بمفاهيم غير مؤهلة للنفوذ إلى أعماقها
وتبيان مراميها ومغازيها؛ ...». على أن الأمر يتعلق فعلياً بإنجاز قراءة
عميقة في المكونات والمبادئ الكبرى للتصور الشعري الموسع: المكونات الشعرية
المتمثلة في اللغة والموسيقى والحركة، والمبادئ النظرية لتحليل الخطاب
الشعري القائمة على التنسيق (تنزيل الشعر منزلة النسق) والترميز (ترجمة
الشعر ترجمة رمزية نغمية) والتوسيع (إدخال الشعر مدخلاً شمولياً يمتد إلى
مستوى الفعل والحركة).
2. المعرفة والخطاب: النسقية وآلية التوسيع
يندرج
الخطاب النقدي لمحمد مفتاح (2010) ضمن استراتيجية تحليلية خاصة تتميز
بخاصيتين متكاملتين: أولاهما تتمثل في التأسيس لرؤية معرفية جديدة تعيد
النظر في كيفية قراءة المنجز الإبداعي عموماً والنص الشعري على وجه الخصوص،
وتتجلى الثانية في التدشين لممارسة تحليلية مغايرة في الثقافة العربية
تقوم على منهجية محكمة في التأويل اعتباراً لتجاذب طرفي المعادلة
الإنسانية: المختلف والمؤتلف. وقد تمحور هذا الخطاب النقدي الجديد والمغاير
حول بلورة تصور أدبي ومعرفي يتمثل في الشعرية الموسعة بوصفها مشروعاً
فكرياً شاملاً يستند إلى ثلاث ركائز أساسية نحددها في ما يلي:
-الرؤية العقلانية للمعرفة التي تتأسس على التمثلات الذهنية في إنتاج الخطابات وعلى الأبعاد التجسيدية للغة والتواصل ؛
-النظرية
العامة للأنساق التي تعتبر أن جميع مكونات الكون وكائناته كتل نسقية
وأنظمة متناسقة قائمة على التفاعل بنمطيه الداخلي والخارجي ؛
-الصياغة
المنطقية المتعددة الدرجات التي تعتمد معالجة المعطيات والظواهر الإنسانية
في أبعادها المتنوعة، لا أبعادها الثنائية المتناقضة والمحدودة.
إنه
مشروع متميز يتسم بمرونة جلية في تطويع المفاهيم الإجرائية وتطوير الآليات
التحليلية اعتماداً على الثراء التصوري الذي يتيحه العلم المعرفي وتأثيراته
الإيجابية في المجالات الإنسانية والأدبية، وخاصة ما يتعلق بالسيميائيات
وتحليل الخطاب وعلم النفس والدلاليات والتداوليات والشعريات والدراسات
الموسيقية. وانطلاقاً من مقولات معرفية متعددة ومنسجمة، استطاع مفتاح
(2010) صياغة مقترح متماسك يروم توسيع المساحات العلمية للاشتغال على
الإبداعات الشعرية وفق وجهة نظر نسقية وتفاعلية تدمج مختلف أبعاد الخطاب
الشعري المتصلة باللغة والإيقاع والحركة. وقد توجه المقترح المعرفي توجهاً
تداولياً وتأويلياً يسعى إلى تكريس نمط تحليلي قوامه الدعوى الوسطية
المتشبثة باستراتيجية «البين بين»، والرؤية المنطقية المرنة المؤمنة
باستراتيجية التدرج، أو لنقل تفعيل سلم الدرجات وتطبيقه على الظواهر
والقضايا. ويقتضي التدرج القطع مع «منطق إما وإما»، ومنطق كل شيء أو لا
شيء، حيث يرفع المنطق الثنائي القيم ويقر آليات المنطق العائم Fuzzy logic
الملائمة لطبيعة العمليات الاستدلالية الإنسانية. وبالإضافة إلى ذلك، يعتبر
المنطق العائم أن كل شيء يتماثل مع كل شيء بجهة من الجهات لا من كل
الجهات، وأن كل شيء يختلف مع كل شيء بجهة من الجهات لا من كل الجهات.
وتجدر
الإشارة إلى أن مقترح الشعرية الموسعة المسطر في مفتاح (2010) جنح إلى
تبني مفهوم النسق في وصف وملامسة الخطاب الشعري العربي بما يسمح باستخراج
المقومات الشمولية المتمثلة في التفاعل الداخلي لمكونات القصيدة والتفاعل
الخارجي مع الذات الشاعرة والمحيط العام. ففي كل الأحوال، «لا يمكن فهم
فعل/ رد فعل فهماً صحيحاً إلا في سياق/ الدماغ/ الذهن/ المحيط، كما أنه لا
يتيسر استيعاب نص بأصواته ومفرداته وتراكيبه ودلالاته إلا في علائق بعضها
مع بعض، وفي علائقها مع محيطها أيضاً؛ ...» (مفتاح.2010: 1- 52). هكذا،
يأتي بتحول الخطاب الشعري إلى نسق إبداعي منبثق ذاتياً وممتد سياقياً ليضفي
على المنجز الشعري خاصية الانتظام والانسجام مقيماً التوازي المطلق بين
النصي والكوني. وإذ تأخذ بعين الاعتبار مقولة السياق بفرعيه المخصص
والمعمم، تقر الشعرية الموسعة بأن النسقية الإبداعية لا تتركز قيمتها
الفنية والجمالية في تحصيل النسق في ذاته، بل إن قيمتها العميقة في قدرتها
على تضمين مختلف المستويات التفاعلية مع اللغة والذات والعالم في الطاقة
التخييلية للنص الشعري.
وعلى وجه الإجمال، نشير إلى أن توسيع فضاءات
التحقق الشعري يذهب بالقصيدة إلى ما هو أبعد من التجلي اللساني النصي
ويرتقي بها إلى مقامات خطابية وتواصلية تتصل بالأنساق الإدراكية البصرية
والسمعية وإعمال الذاكرة، كما ترتبط بالرموز النغمية والتعبير الإيقاعي من
جهة، وبالحركات الشعرية والتعبير الجسدي للشاعر المبدع من جهة أخرى. ومن
ثمة، اعتنت الشعرية الموسعة بتسطير جملة من المبادئ العامة المتحكمة في
اشتغال النسق الشعري والمتمثلة في: المبادئ المعرفية الخاصة بعمليات
الإدراك الإبداعي، والمبادئ الحركية التي تهم الفعل الشعري في تحققه
التواصلي، والمبادئ التوليفية المتعلقة بالآليات الرياضية والمنطقية
المولدة للنص الشعري في مستوياته العميقة، والمبادئ التنظيمية التي تضمن
للخطاب الشعري انتظامه وتناغمه. وعلى هذا الأساس، يمكن التصريح بأن القراءة
المنهجية التي يتبناها مفتاح (2010) قراءة نسقية مندمجة لا تهتم بالقول
الشعري في تمظهراته التركيبية واللغوية الخالصة، بل تتوسل بالإجرائيات
المعرفية من أجل استنباط الآليات الكلية المضمرة المتحكمة في التجسيد
التداولي للخطابات الشعرية. ذلكم ما يسعف في الكشف عن القوة المعرفية
للإبداع الشعري، أو للفن كما ورد في إيغلتون (2012) Eagleton، حيث الغاية
من الشعرية الموسعة إعادة الحياة للقول الشعري وصياغة نظرية موحدة تحتضن
مختلف الأنماط التعبيرية الشعرية: اللفظية والإيقاعية والجسدية.
3. التصور الشعري الموسع: محورية الذهن الشعري
تستهدف
الشعرية الموسعة تبئير العلاقات القائمة بين ثالوث: اللغة والموسيقى
والحركة بغية صياغة نظرية نسقية موحدة تكون مدخلاً إلزامياً لضبط طبيعة
التفاعل الإبداعي الناتج عن التجميع الشعري لمقولات الإيقاع (البيت والنص
الشعريين) والمعرفة (التمثيلات الذهنية في الخطاب الشعري) والجسد (النسق
السيميائي لإبداع الشاعر) (2). وعلاوة على ذلك، ينهض التصور الموسع بمحاولة
تسطير المبادئ الكلية والمشتركة بين مختلف بنيات النص الشعري وأبعاده
الوظيفية، سواء على مستوى النظم الشعري والتنظيم الإيقاعي أو على مستوى
الاشتغال المعرفي والتداولي. هكذا، «يتاح للشاعر أن ينشد فيصير مغنياً،
وممثلاً مسرحياً، مع ما يقتضيه الإنشاد/ الغناء، والمسرح من حركات معينة،
أمام جمهور في فضاء معين. الشعر مسرح إذا حضر المتلقي وعاين الشاعر المنشد،
والشعر شريط إذا شاهده المتلقي، ولم يحضر الحفل، والشعر موسيقى غنائية
أمام جمهور متحمس، والشعر تشكيل ورسم وهندسة ونحت، حينما يكون مسطوراً في
الصفحة، أو منقوشاً على البناء، أو مرقوماً على الثياب والأنسجة. [و] يفرض
هذا التصور الموسع لتلقي الشعر وتحليله أن يبحث عن المبادئ الإبداعية
والأوليات التأويلية، في إطار ما يقدمه العلم المعرفي المعاصر من أدوات
علمية، ومفهومية، وفلسفية ...» (مفتاح.2010: 1- 19 / 20).
في هذا
الإطار، الشعرية الموسعة ? على نحو خاص ? بتجريد النظر في تعالق شكلين
راقيين للتعبير الإنساني: الشعر والموسيقى، تارة بالتركيز على الروابط
النوعية الكائنة والممكنة بينهما، وتارة أخرى بمعالجة اتصالهما باللغة
وتفاعلهما معها. فإذا كانت الموسيقى قادرة على إقامة النظام من الفوضى
لكونها تبنى على الإيقاع المؤتلف، لا المختلف، وعلى اللحن المتصل، لا
المنفصل، وعلى التأليف المتناغم، لا المتنافر، فإن الشعر طاقة إنسانية قوية
ليس لتنظيم الكون فقط، بل لإعادة تنظيمه بما يؤهل الشاعر لأن يكون الشاعر
فعليا ناظما للأشياء الكونية ومنظما لها. على أن هذا التنظيم موسيقيا
وشعريا يكتسي خاصية رياضية تتمثل في القدرة على توليد اللامتناهي من
المتناهي واستخراج الكثير من القليل بحيث تكون القطعة الموسيقية والقصيدة
الشعرية على حد سواء فضاء معرفيا لانبثاق المعنى الجديد والمتجدد بتعبير
منظري الاندماج التصوري (تورنر وفوكونيي.1999.Turner & Fauconnier،
تورنر.2008.Turner). وتتحقق هذه الخاصية في المجالين معا (الشعري
والموسيقي) لأنهما محكومان بالآليات والقواعد المتجذرة في الذهن البشري،
شأنهما شأن اللغات والرياضيات وباقي القدرات المعرفية الإنسانية.
وعلى
وجه التحديد، أفرد مفتاح (2010) حيزاً خاصاً للإبداعات الموسيقية في
توازيها وتقاطعها مع نسقي اللغة والشعر، خاصة على مستوى البنيات الإيقاعية
منطلقا من أن «الموسيقى ... في كل شيء ما دامت هي سر الوجود، وسبب تناغمه»
(1/162). ففي هذا السياق، اعتبرت المقاربات المعرفية في مجملها أن تماثل
الموسيقى من تماثل اللغة، بل إن بعض الدراسات الجادة في المجال المعرفي
قالت بأن وجود نوع من التوازي بين تركيب البنيات اللغوية وتأليف البنيات
الموسيقية مرده إلى تأسس النسق المعرفي الإنساني ? في بعده الإدراكي ? على
كلية عميقة مستمدة من طريقة استثمار الكليات المتماثلة من حيث جلب المؤتلف
وتجنب المختلف (دجاكندوف.2009.Jackendoff). فلا غرابة، إذن، أن نقر مع
مفتاح (2010) بأن اللغة موسيقى وأن الشعر مهما كان نوعه، إنما «يعبر بنغم
عن معنى» بما يفيد نسقياً أن البناء الموسيقي للخطاب الشعري لا يتحقق خطياً
باتباع تراتبية الأبيات الشعرية، بل باقتفاء مسارات التشييد الكلي للقصيدة
برمتها. ولن نجد تعبيراً أكثر كثافة من قول الشاعر إليوت Eliot: «إن
موسيقى الشعر ليست شيئاً موجوداً بمعزل عن المعنى» (فيلان.1012.Phelan).
ولملامسة
المعنى عبر تحليل البنيات الدلالية للخطاب الشعري، استندت الشعرية الموسعة
? مستحضرة التوجه الفلسفي الفيثاغوري ? إلى إعمال التأويل المفتوح
اعتباراً لكون المعنى في الموسيقى، كما ورد في بيرسال وألمين (2006)
Pearsall & Almén، يشبه الفيل في الحكاية البودية حيث يقترب منه ثلاثة
عميان في الآن نفسه: يمسك الأول بذيله معتقداً أنه حبل، ويتلمس الثاني
خرطومه ظاناً أنه أفعى، ويلمس الثالث قدمه متصورا أنه شجرة (3). ومن ثمة،
يتلمس قارئو الشعر ودارسو الموسيقى ? شأنهم شأن العميان مع الفيل في
الحكاية البودية ? طريقهم نحو مظهر واحد من مظاهر التعبير الشعري أو
الموسيقي مستبدلين المظهر بالكل ومعتقدين أنه المعنى التام. غير أن المعنى،
ها هنا، ينبثق في الخطاب الشعري من مساحات إبداعية متباينة متكاملة تتصل
بمكونات اللغة والإيقاع داخل النص الإبداعي وتقترن بالبنيات التعبيرية
الجسدية للشاعر (4)؛ «وإذ كل شيء يتحرك، فإن الشاعر يتحرك وهو يكتب، ويهتز،
وهو ينشد، ويتحمس، وهو يرى الاستجابة المشجعة؛ حركات الشاعر تكون لحناً
تحكمه قواعد شبيهة بقواعد الموسيقى كدرجة الحركة، ومدتها، وحدتها، ومداها،
وتركيبها، ودلالتها، ورمزها» (مفتاح.2010: 1- 20).
على صعيد آخر، نهضت
الشعرية الموسعة بإبراز العلاقة الوثيقة بين البناء الشعري والبناء
الموسيقي نظراً لقيامهما على كليات مشتركة نابعة من الطبيعة العميقة
لعمليات التفكير والاستدلال البشري، وخاصة على المستوى الذهني. وما ينبغي
إقراره، في ما جرت به العادة في مجال الدراسات المعرفية، أن البحث في
الكليات المشتركة بين الشعر والموسيقى يعد، بحق، بحثاً في الذهن البشري حيث
«الحركة فطرية لها نحو ذهني، كما للموسيقى نحو ذهني، وللغة نحو ذهني؛ وإذ
الأذهان متماثلة، أو متشابهة على الأقل، من حيث المبدأ، فإن هناك نحواً
ذهنياً في مثل هذه الأوصاف، لكن تجلياته تختلف؛ ففعل حركة الرأس، وسيما
الوجه، وحركة اليدين، متماثلة؛ لكن وجهة الحركة قد تختلف دلالاتها بحسب
الثقافات، أو المجموعات، أو الاتفاقات، ...» (مفتاح.2010: 3- 325/326). إن
الأمر يتعلق في تحليل الخطاب الشعري وفق المقاربة المعرفية بمحورية مقولة
«الكل في الذهن»، وبالتالي الانتقال من الحقيقة الفيزيائية القاضية بأن
الذهن كائن في الجسد إلى الحقيقة المعرفية القائلة بأن الجسد هو الموجود في
الذهن. وقد نشير، على سبيل المثال، إلى أن هذه الحقيقة المعرفية جاءت
مبكرة في التراث الإنساني، إذ أورد أبو حامد الغزالي في معياره أن أبا بكر
كان يقول لمن يقيم الحد على بعض الجناة: «اضرب الرأس، فإن الشيطان في
الرأس» (معيار العلم في المنطق، 32).
على هذا الأساس، يمكننا الحديث عن
«الذهن الشعري» على غرار مفهوم الذهن الأدبي كما حدد ملامحه تصور تورنر
(1996) Turner، حيث إن تصور الذهن للوقائع وتشييده للمعاني وإنجازه للإبداع
يمر عبر عمليات ذهنية تتسم في صميمها بكونها أدبية وينظر إليها على أنها
كذلك. وإذ نقترح مفهوم الذهن الشعري للتمثيل على العمليات الذهنية المتحكمة
في إبداعات الشاعر بدءاً من الوسيط اللغوي ومروراً بالتأليف الإيقاعي
ووصولاً إلى التعبير الجسدي، فإننا ? وفق مقاربة الشعرية الموسعة ? نعتقد
أن الذهن الشعري ممتد خارج النصوص الشعرية ودال على التجربة الإنسانية
المبدعة العامة بما تحمله من أفكار وأحاسيس وآفاق. هكذا، يندرج الذهن
الشعري تحت مقولة الذهن الموسع Extended mind (ميناري.2010.Menary) الذي
يؤمن بحيوية الامتدادات الخارجية الفاعلة ويضمن التفاعل شعرياً بين مساحات
النص ومجالات الخطاب بما يسمح برسم ملامح الجواب عن سؤال: «أين يتوقف الذهن
ويبدأ باقي العالم؟».
4. استنتاج
استجماعا لكل ما سبق، نستطيع
القول بأن الآليات المعرفية شكلت المنطلق المنهجي والتحليلي الذي استند
إليه مشروع «الشعرية الموسعة» انطلاقاً من منظور دقيق وعميق، ووفق تحليل
نسقي تكاملي مستمد من السيميائيات وتحليل الخطاب خاصة، ومن الإنسانيات
والعلوم المعرفية عامة. ويمكن القول إجمالاً بأن المبادئ الفلسفية
والمعرفية التي تستند إليها المقاربة الموسعة للخطاب الشعري تتجلى في
العناصر التالية التي فصلها مفتاح (2010):
- الشعر تنظيم للكون و»الشاعر ... منظم للكون بمؤسسته الخاصة» (1/137) ؛
-
الموسيقى في كل شيء، و»توليف الأصوات محكوم بقواعد مستقاة من الطبيعة
المادية، ومن الطبيعة البشرية؛ والطبيعتان كلتاهما متناغمتان» (2- 222) ؛
- الشعر تجسيد إيقاعي بامتياز، و»الإيقاع ... أسبق من اللغة ومن البحور الشعرية» (1/197).
بهذه
المبادئ يكون التحدي المعرفي القائم متمثلاً في كيفية إعادة قراءة التراث
الشعري العربي وكيفية تأصيل تصور جديد في النقد الأدبي المعاصر بناء على
استثمار الإمكانات الإجرائية الثرية التي تتيحها الشعرية الموسعة. ولن
يتحقق هذا التحدي إلا باعتماد المرتكزات المترجمة لما سبق أن أسميناه
«عقلانية العمق» (العاقد.2008) التي وسمت مشروع محمد مفتاح وتسم عمله
المتميز حول الشعرية الموسعة، خاصة على مستوى استهداف الأنظمة الخفية
للتصورات الإنسانية والبحث في الرمزية المضمرة الثاوية خلف تخييلية المنجز
الشعري، من أجل الكشف عن الآليات المشتركة المتحكمة في اللغة والموسيقى
والثقافات والمؤطرة للأنساق الذهنية العميقة للتجارب الفنية والإبداعات
الكونية.
الهوامش:
(*) ? نص الورقة المقدمة في اللقاء الذي
نظمته كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس أكدال حول
الكتاب الأخير لمحمد مفتاح «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية» والتي ستصدر ضمن
كتاب جماعي عن منشورات الكلية نفسها.
(1) ? يعتبر تأثير الأبحاث
المعرفية في الإنسانيات والدراسات الأدبية تأثيراً قوياً لأنها وفرت جهازاً
إجرائياً وقرائياً فاعلاً يرتكز على نتائج مجالات علمية متقاطعة
واستخلاصات حقول معرفية متعددة.
للاطلاع على تفاصيل ذلك، يمكن الرجوع إلى العاقد (2006).
(2)
? على المستوى المنهاجي، قام مفتاح (2010) بنقد السيميائيات الفرنسية،
خاصة المقولات النظرية والتحليلية الواردة في المعجم السيميائي لكورتيس
Courtès وغريماسGreimas ، معتمداً الاتجاهات الحديثة للسيميائيات المعاصرة
القائمة على الاتصال والتدرج والتحركية. وتجدر الإشارة إلى أن المعجم
المذكور نسب، في غالب الأحيان، للعالم السيميائي بيرس Peirce أفكاراً
وتصورات لا توجد في أعماله، خاصة في ما يتعلق بمفهوم المرجع، لأن مؤلفيه لم
يرجعا مباشرة إلى النص الأصلي، بل اعتمدا تأويلات غير دقيقة لباحثين
آخرين، كما نبهت إلى ذلك السيميائيات البصرية لسونيسون (1989) Sonesson.
من
جهة أخرى، اعتنت الشعرية الموسعة بالمنهج السيميائي القائم على المقايسة
بين اللغة والموسيقى، يقول مفتاح (2010) «لقد ألفنا منهاجية سيميائية عامة
من الموسيقى، واللسانيات، وتحليل الخطاب، بناء على فرضية التركيب للمصادر
المشتركة المندمجة؛ هكذا كنا نذهب من النظرية الموسيقية إلى الشعرية، ومن
الشعرية إلى الموسيقية، بالمفاهيم المترحلة، وبالمقايسة، ...» (3- 178).
(3)
- جرت العادة أن نستحضر فيتاغور بوصفه رياضيا نظرا لاقتران اسمه بإحدى
أشهر المبرهنات الرياضية (مبرهنة فيتاغور) ولكونه يعتبر أن الأعداد مفتاح
كل معرفة، غير أنه يعد إضافة إلى ذلك فيلسوفاً أصيلاً يقول بالمبادئ
الناهية التالية: عدم فصل الروح عن الجسد في الحياة، عدم الوقوف سداً
منيعاً أمام العدالة بمحاولة إخفائها، عدم استفزاز من هو في حالة غضب، عدم
خرق قواعد الإنصاف. وقد انقسمت مدرسته، بعد موته، قسمين: فريق اتبع توجهاته
الأخلاقية، وفريق سعى إلى تعميق تفكيره الفلسفي والعلمي ؛ ويمكن القول بأن
الفريق الثاني ساهم في الجمع لاحقاً بين الرياضيات والفلسفة الفيثاغورية.
(4)
? بغية الاطلاع على استثمار معطيات اللسانيات وتحليل الخطاب في الدراسات
الموسيقية وبلورة مفاهيم من قبيل: المعنى الموسيقي واللغة الموسيقية
والخطاب الموسيقي، يمكن الرجوع إلى أغاوو (2009) Agawu ووينيرستروم (2001)
Wennerstrom.
المراجع
- العاقد، أ. 2006: «المعرفة والتواصل: عن آليات لنسق الاستعاري» دار أبي رقراق، الرباط.
-
العاقد، أ. 2008: «عالم الأنساق المتعددة: أبعاد تحليل الخطاب والمعرفة»
في «التأسيس المعرفي والتأصيل المنهجي» مكتبة المدارس، الدار البيضاء.
- الغزالي، أبو حامد: «معيار العلم في المنطق» دار الكتب العلمية، بيروت.
-
مفتاح، م. 2010: «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية: اللغة ? الموسيقى ? الحركة
(الجزء الأول: مبادئ ومسارات)» المركز الثقافي العربي، الدار
البيضاء-بيروت.
- مفتاح، م. 2010: «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية: اللغة ?
الموسيقى ? الحركة (الجزء الثاني: نظريات وأنساق)» المركز الثقافي العربي،
الدار البيضاء-بيروت.
- مفتاح، م. 2010: «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية:
اللغة ? الموسيقى ? الحركة (الجزء الثالث: أنغام ورموز)» المركز الثقافي
العربي، الدار البيضاء-بيروت.
References
- Agawu, V. K. 2009: ?Music as Discourse: Semiotic Adventures in Romantic Music?, Oxford University Press, Oxford.
- Eagleton, T. 2012: ?The Event of Literature?, Yale University Press, New Heaven.
- Jackendoff, R. 2009: ?Parallels and Nonparallels between Language and Music?, Music Perception 26/3, 195-204.
- Menary, R. (ed). 2010 : » The Extended Mind « MIT Press, Cambridge.
-
Pearsall, E. & Almén, B. 2006 : ?The Divining Rod: On Imagination,
Interpretation, and Analysis? in Pearsall, E. & Almén, B.:
?Approaches to Meaning in Music?, Indiana University Press, Bloomington.
- Phelan, J. 2012: ?The Music of Verse: Metrical Experiment in Nineteenth-Century Poetry?, Palgrave Macmillan, Hampshire.
-
Sonesson, G. 1989: ?Pictorial Concepts: Inquiries into the Semiotic
Heritage and its Relevance for the Analysis of the Visual World?, Lund
University Press, Lund.
- Turner, M. 1996 : » The Literary Mind «, Oxford University Press, Oxford.
-
Turner, M. 2008 : » Frame Blending «, in Favretti, R. R. (ed): ?Frames,
Corpora, and Knowledge Representation?, Bolonia University Press,
Bologna.
- Turner, M. & Fauconnier, G. 1999: ?A Mechanism of Creativity?, Alternation 6/2, 273 ? 292.
- Wennerstrom, A. 2001: ?The Music of Everyday Speech: Prosody and Discourse Analysis? Oxford University Press, Oxford.
14/10/2012-العلم الثقافيإن
تشكيل الفهم العميق والاستيعاب الدقيق للقضايا والإشكالات المختلفة التي
تطرحها الثقافة المغربية، في مجالاتها المحلية وامتداداتها الإنسانية، لن
يتم إلا بفتح فضاءات متنوعة لمقاربة الإنجازات العلمية والفكرية التي
راكمتها الأجيال المتلاحقة من المفكرين والباحثين المغاربة. ويتطلب الأمر،
في المبتدأ والمنتهى، إقرار نوع من «الإنصاف الثقافي» اتجاه المشاريع
العلمية والمعرفية للمفكرين والباحثين المحليين بما يسمح بالإنصات للذات
والتحاور معها استشرافاً لأفق ثقافي أفضل ؛ كما يقتضي تكريس نوع من
«المصالحة الرمزية» مع الثقافة المغربية في أبعادها المختلفة عبر التأسيس
لقنوات وأساليب تواصلية تمكن من تداول المنجز المعرفي المحلي ماضياً
وحاضراً ومستقبلاً. ولعل المدخل الأساس الذي يفرض نفسه، في هذا الإطار،
يتجلى في الوقوف عند أهم المشاريع الفكرية للباحثين المغاربة من خلال إنجاز
قراءات وصفية وتحليلية وسواء على مستوى النصوص والخطابات أو على مستوى
المتون والمسارات.
ضمن هذا المجال، نؤطر للورقة المتواضعة التي
ننجزها حول كتاب الدكتور محمد مفتاح «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية: اللغة ?
الموسيقى ? الحركة» بأجزائه الثلاثة: «الجزء الأول: مبادئ ومسارات» و»الجزء
الثاني: نظريات وأنساق» و»الجزء الثالث: أنغام ورموز» (مفتاح.2010). وإذ
ننطلق من كون الاشتغال على الإنتاجات العلمية المحلية من شأنه إعادة
الاعتبار للجهد الثقافي المغربي واستيعاب كيفية اشتغال النسق الثقافي
المحلي، فإننا نعتبر مقاربة هذا العمل الهام جسراً أساسياً ليس للإطلاع فقط
على وجهة نظر في البحث وتصور خاص في التحليل، بل أيضا لفهم جوهر القضايا
التي اشتغل محمد مفتاح ويشتغل عليها منذ البدايات الأولى لمشروعه الفكري
مطوراً بذلك إطاراً نظرياً منفتحاً وجهازاً وصفياً متكاملاً ونسقاً
مفاهيمياً متماسكاً.
إن الهدف من مقاربة مفتاح (2010) لا يتمثل في
الاستعراض العقيم للعمل عبر إعادة طرح المضامين والمعالجات والاستنتاجات
الواردة فيه، إنما يتحدد في بلورة موقف نوعي يقوم على التفاعل الإيجابي مع
المسلكيات النظرية والطرق المنهجية المعتمدة في تشييد «مفاهيم موسعة لنظرية
شعرية». فالقصد ليس الإجابة عن سؤال «ماذا ؟» وبالتالي إعادة إنتاج
المحتويات المطروحة مع بسط الحديث عن أهم المسائل والإشكالات المطروحة، بل
إن الغاية التي ننشدها تتمثل أساساً في تأمل سؤال «كيف ؟» من أجل تسليط
الضوء على منهجية بناء التصور النظري المتعلق بالشعرية المعرفية الموسعة في
أفق صياغة أجوبة مفتوحة على قضايا الشعر والخطاب الشعري انطلاقاً مما سبق
إنجازه (العاقد.2008).
بناء على ذلك، تتوخى المقاربة التي نعرضها في
التفاعل مع مفتاح (2010) استكشاف الآليات المنهجية والتحليلية الثاوية خلف
النظرية الموسعة للشعرية وكيفية تأصيل المفاهيم التصورية والإجرائية للخطاب
الشعري في أبعاده المعرفية المعممة. وتستند هذه المقاربة إلى الأطر
النظرية والمنهجية المعلنة والمضمرة المؤسسة للشعرية الموسعة، بناء على ما
توفره العلوم المعرفية من مستجدات فكرية هائلة، وما تطرحه الدراسات الشعرية
والموسيقية من تطورات تصورية متميزة(1). فالنهوض بمقاربة شعرية معاصرة
مرده إلى تنوع الخطاب الشعري وتقلبه بين أشكال تعبيرية مختلفة، إذ كما قال
مفتاح (2010: 1-296) «تكون قصيدة الشاعر المعاصر الواعي توليفاً من تقاليد
شعرية وموسيقية عديدة، بل إنها تشابه الأعمال التشكيلية، والنحتية،
والهندسية، والمسرحية؛ وإذا كان الأمر هكذا، فإنه صار من الاختزال المعيب
لآثار الشعراء المعاصرين أن تحلل بمفاهيم غير مؤهلة للنفوذ إلى أعماقها
وتبيان مراميها ومغازيها؛ ...». على أن الأمر يتعلق فعلياً بإنجاز قراءة
عميقة في المكونات والمبادئ الكبرى للتصور الشعري الموسع: المكونات الشعرية
المتمثلة في اللغة والموسيقى والحركة، والمبادئ النظرية لتحليل الخطاب
الشعري القائمة على التنسيق (تنزيل الشعر منزلة النسق) والترميز (ترجمة
الشعر ترجمة رمزية نغمية) والتوسيع (إدخال الشعر مدخلاً شمولياً يمتد إلى
مستوى الفعل والحركة).
2. المعرفة والخطاب: النسقية وآلية التوسيع
يندرج
الخطاب النقدي لمحمد مفتاح (2010) ضمن استراتيجية تحليلية خاصة تتميز
بخاصيتين متكاملتين: أولاهما تتمثل في التأسيس لرؤية معرفية جديدة تعيد
النظر في كيفية قراءة المنجز الإبداعي عموماً والنص الشعري على وجه الخصوص،
وتتجلى الثانية في التدشين لممارسة تحليلية مغايرة في الثقافة العربية
تقوم على منهجية محكمة في التأويل اعتباراً لتجاذب طرفي المعادلة
الإنسانية: المختلف والمؤتلف. وقد تمحور هذا الخطاب النقدي الجديد والمغاير
حول بلورة تصور أدبي ومعرفي يتمثل في الشعرية الموسعة بوصفها مشروعاً
فكرياً شاملاً يستند إلى ثلاث ركائز أساسية نحددها في ما يلي:
-الرؤية العقلانية للمعرفة التي تتأسس على التمثلات الذهنية في إنتاج الخطابات وعلى الأبعاد التجسيدية للغة والتواصل ؛
-النظرية
العامة للأنساق التي تعتبر أن جميع مكونات الكون وكائناته كتل نسقية
وأنظمة متناسقة قائمة على التفاعل بنمطيه الداخلي والخارجي ؛
-الصياغة
المنطقية المتعددة الدرجات التي تعتمد معالجة المعطيات والظواهر الإنسانية
في أبعادها المتنوعة، لا أبعادها الثنائية المتناقضة والمحدودة.
إنه
مشروع متميز يتسم بمرونة جلية في تطويع المفاهيم الإجرائية وتطوير الآليات
التحليلية اعتماداً على الثراء التصوري الذي يتيحه العلم المعرفي وتأثيراته
الإيجابية في المجالات الإنسانية والأدبية، وخاصة ما يتعلق بالسيميائيات
وتحليل الخطاب وعلم النفس والدلاليات والتداوليات والشعريات والدراسات
الموسيقية. وانطلاقاً من مقولات معرفية متعددة ومنسجمة، استطاع مفتاح
(2010) صياغة مقترح متماسك يروم توسيع المساحات العلمية للاشتغال على
الإبداعات الشعرية وفق وجهة نظر نسقية وتفاعلية تدمج مختلف أبعاد الخطاب
الشعري المتصلة باللغة والإيقاع والحركة. وقد توجه المقترح المعرفي توجهاً
تداولياً وتأويلياً يسعى إلى تكريس نمط تحليلي قوامه الدعوى الوسطية
المتشبثة باستراتيجية «البين بين»، والرؤية المنطقية المرنة المؤمنة
باستراتيجية التدرج، أو لنقل تفعيل سلم الدرجات وتطبيقه على الظواهر
والقضايا. ويقتضي التدرج القطع مع «منطق إما وإما»، ومنطق كل شيء أو لا
شيء، حيث يرفع المنطق الثنائي القيم ويقر آليات المنطق العائم Fuzzy logic
الملائمة لطبيعة العمليات الاستدلالية الإنسانية. وبالإضافة إلى ذلك، يعتبر
المنطق العائم أن كل شيء يتماثل مع كل شيء بجهة من الجهات لا من كل
الجهات، وأن كل شيء يختلف مع كل شيء بجهة من الجهات لا من كل الجهات.
وتجدر
الإشارة إلى أن مقترح الشعرية الموسعة المسطر في مفتاح (2010) جنح إلى
تبني مفهوم النسق في وصف وملامسة الخطاب الشعري العربي بما يسمح باستخراج
المقومات الشمولية المتمثلة في التفاعل الداخلي لمكونات القصيدة والتفاعل
الخارجي مع الذات الشاعرة والمحيط العام. ففي كل الأحوال، «لا يمكن فهم
فعل/ رد فعل فهماً صحيحاً إلا في سياق/ الدماغ/ الذهن/ المحيط، كما أنه لا
يتيسر استيعاب نص بأصواته ومفرداته وتراكيبه ودلالاته إلا في علائق بعضها
مع بعض، وفي علائقها مع محيطها أيضاً؛ ...» (مفتاح.2010: 1- 52). هكذا،
يأتي بتحول الخطاب الشعري إلى نسق إبداعي منبثق ذاتياً وممتد سياقياً ليضفي
على المنجز الشعري خاصية الانتظام والانسجام مقيماً التوازي المطلق بين
النصي والكوني. وإذ تأخذ بعين الاعتبار مقولة السياق بفرعيه المخصص
والمعمم، تقر الشعرية الموسعة بأن النسقية الإبداعية لا تتركز قيمتها
الفنية والجمالية في تحصيل النسق في ذاته، بل إن قيمتها العميقة في قدرتها
على تضمين مختلف المستويات التفاعلية مع اللغة والذات والعالم في الطاقة
التخييلية للنص الشعري.
وعلى وجه الإجمال، نشير إلى أن توسيع فضاءات
التحقق الشعري يذهب بالقصيدة إلى ما هو أبعد من التجلي اللساني النصي
ويرتقي بها إلى مقامات خطابية وتواصلية تتصل بالأنساق الإدراكية البصرية
والسمعية وإعمال الذاكرة، كما ترتبط بالرموز النغمية والتعبير الإيقاعي من
جهة، وبالحركات الشعرية والتعبير الجسدي للشاعر المبدع من جهة أخرى. ومن
ثمة، اعتنت الشعرية الموسعة بتسطير جملة من المبادئ العامة المتحكمة في
اشتغال النسق الشعري والمتمثلة في: المبادئ المعرفية الخاصة بعمليات
الإدراك الإبداعي، والمبادئ الحركية التي تهم الفعل الشعري في تحققه
التواصلي، والمبادئ التوليفية المتعلقة بالآليات الرياضية والمنطقية
المولدة للنص الشعري في مستوياته العميقة، والمبادئ التنظيمية التي تضمن
للخطاب الشعري انتظامه وتناغمه. وعلى هذا الأساس، يمكن التصريح بأن القراءة
المنهجية التي يتبناها مفتاح (2010) قراءة نسقية مندمجة لا تهتم بالقول
الشعري في تمظهراته التركيبية واللغوية الخالصة، بل تتوسل بالإجرائيات
المعرفية من أجل استنباط الآليات الكلية المضمرة المتحكمة في التجسيد
التداولي للخطابات الشعرية. ذلكم ما يسعف في الكشف عن القوة المعرفية
للإبداع الشعري، أو للفن كما ورد في إيغلتون (2012) Eagleton، حيث الغاية
من الشعرية الموسعة إعادة الحياة للقول الشعري وصياغة نظرية موحدة تحتضن
مختلف الأنماط التعبيرية الشعرية: اللفظية والإيقاعية والجسدية.
3. التصور الشعري الموسع: محورية الذهن الشعري
تستهدف
الشعرية الموسعة تبئير العلاقات القائمة بين ثالوث: اللغة والموسيقى
والحركة بغية صياغة نظرية نسقية موحدة تكون مدخلاً إلزامياً لضبط طبيعة
التفاعل الإبداعي الناتج عن التجميع الشعري لمقولات الإيقاع (البيت والنص
الشعريين) والمعرفة (التمثيلات الذهنية في الخطاب الشعري) والجسد (النسق
السيميائي لإبداع الشاعر) (2). وعلاوة على ذلك، ينهض التصور الموسع بمحاولة
تسطير المبادئ الكلية والمشتركة بين مختلف بنيات النص الشعري وأبعاده
الوظيفية، سواء على مستوى النظم الشعري والتنظيم الإيقاعي أو على مستوى
الاشتغال المعرفي والتداولي. هكذا، «يتاح للشاعر أن ينشد فيصير مغنياً،
وممثلاً مسرحياً، مع ما يقتضيه الإنشاد/ الغناء، والمسرح من حركات معينة،
أمام جمهور في فضاء معين. الشعر مسرح إذا حضر المتلقي وعاين الشاعر المنشد،
والشعر شريط إذا شاهده المتلقي، ولم يحضر الحفل، والشعر موسيقى غنائية
أمام جمهور متحمس، والشعر تشكيل ورسم وهندسة ونحت، حينما يكون مسطوراً في
الصفحة، أو منقوشاً على البناء، أو مرقوماً على الثياب والأنسجة. [و] يفرض
هذا التصور الموسع لتلقي الشعر وتحليله أن يبحث عن المبادئ الإبداعية
والأوليات التأويلية، في إطار ما يقدمه العلم المعرفي المعاصر من أدوات
علمية، ومفهومية، وفلسفية ...» (مفتاح.2010: 1- 19 / 20).
في هذا
الإطار، الشعرية الموسعة ? على نحو خاص ? بتجريد النظر في تعالق شكلين
راقيين للتعبير الإنساني: الشعر والموسيقى، تارة بالتركيز على الروابط
النوعية الكائنة والممكنة بينهما، وتارة أخرى بمعالجة اتصالهما باللغة
وتفاعلهما معها. فإذا كانت الموسيقى قادرة على إقامة النظام من الفوضى
لكونها تبنى على الإيقاع المؤتلف، لا المختلف، وعلى اللحن المتصل، لا
المنفصل، وعلى التأليف المتناغم، لا المتنافر، فإن الشعر طاقة إنسانية قوية
ليس لتنظيم الكون فقط، بل لإعادة تنظيمه بما يؤهل الشاعر لأن يكون الشاعر
فعليا ناظما للأشياء الكونية ومنظما لها. على أن هذا التنظيم موسيقيا
وشعريا يكتسي خاصية رياضية تتمثل في القدرة على توليد اللامتناهي من
المتناهي واستخراج الكثير من القليل بحيث تكون القطعة الموسيقية والقصيدة
الشعرية على حد سواء فضاء معرفيا لانبثاق المعنى الجديد والمتجدد بتعبير
منظري الاندماج التصوري (تورنر وفوكونيي.1999.Turner & Fauconnier،
تورنر.2008.Turner). وتتحقق هذه الخاصية في المجالين معا (الشعري
والموسيقي) لأنهما محكومان بالآليات والقواعد المتجذرة في الذهن البشري،
شأنهما شأن اللغات والرياضيات وباقي القدرات المعرفية الإنسانية.
وعلى
وجه التحديد، أفرد مفتاح (2010) حيزاً خاصاً للإبداعات الموسيقية في
توازيها وتقاطعها مع نسقي اللغة والشعر، خاصة على مستوى البنيات الإيقاعية
منطلقا من أن «الموسيقى ... في كل شيء ما دامت هي سر الوجود، وسبب تناغمه»
(1/162). ففي هذا السياق، اعتبرت المقاربات المعرفية في مجملها أن تماثل
الموسيقى من تماثل اللغة، بل إن بعض الدراسات الجادة في المجال المعرفي
قالت بأن وجود نوع من التوازي بين تركيب البنيات اللغوية وتأليف البنيات
الموسيقية مرده إلى تأسس النسق المعرفي الإنساني ? في بعده الإدراكي ? على
كلية عميقة مستمدة من طريقة استثمار الكليات المتماثلة من حيث جلب المؤتلف
وتجنب المختلف (دجاكندوف.2009.Jackendoff). فلا غرابة، إذن، أن نقر مع
مفتاح (2010) بأن اللغة موسيقى وأن الشعر مهما كان نوعه، إنما «يعبر بنغم
عن معنى» بما يفيد نسقياً أن البناء الموسيقي للخطاب الشعري لا يتحقق خطياً
باتباع تراتبية الأبيات الشعرية، بل باقتفاء مسارات التشييد الكلي للقصيدة
برمتها. ولن نجد تعبيراً أكثر كثافة من قول الشاعر إليوت Eliot: «إن
موسيقى الشعر ليست شيئاً موجوداً بمعزل عن المعنى» (فيلان.1012.Phelan).
ولملامسة
المعنى عبر تحليل البنيات الدلالية للخطاب الشعري، استندت الشعرية الموسعة
? مستحضرة التوجه الفلسفي الفيثاغوري ? إلى إعمال التأويل المفتوح
اعتباراً لكون المعنى في الموسيقى، كما ورد في بيرسال وألمين (2006)
Pearsall & Almén، يشبه الفيل في الحكاية البودية حيث يقترب منه ثلاثة
عميان في الآن نفسه: يمسك الأول بذيله معتقداً أنه حبل، ويتلمس الثاني
خرطومه ظاناً أنه أفعى، ويلمس الثالث قدمه متصورا أنه شجرة (3). ومن ثمة،
يتلمس قارئو الشعر ودارسو الموسيقى ? شأنهم شأن العميان مع الفيل في
الحكاية البودية ? طريقهم نحو مظهر واحد من مظاهر التعبير الشعري أو
الموسيقي مستبدلين المظهر بالكل ومعتقدين أنه المعنى التام. غير أن المعنى،
ها هنا، ينبثق في الخطاب الشعري من مساحات إبداعية متباينة متكاملة تتصل
بمكونات اللغة والإيقاع داخل النص الإبداعي وتقترن بالبنيات التعبيرية
الجسدية للشاعر (4)؛ «وإذ كل شيء يتحرك، فإن الشاعر يتحرك وهو يكتب، ويهتز،
وهو ينشد، ويتحمس، وهو يرى الاستجابة المشجعة؛ حركات الشاعر تكون لحناً
تحكمه قواعد شبيهة بقواعد الموسيقى كدرجة الحركة، ومدتها، وحدتها، ومداها،
وتركيبها، ودلالتها، ورمزها» (مفتاح.2010: 1- 20).
على صعيد آخر، نهضت
الشعرية الموسعة بإبراز العلاقة الوثيقة بين البناء الشعري والبناء
الموسيقي نظراً لقيامهما على كليات مشتركة نابعة من الطبيعة العميقة
لعمليات التفكير والاستدلال البشري، وخاصة على المستوى الذهني. وما ينبغي
إقراره، في ما جرت به العادة في مجال الدراسات المعرفية، أن البحث في
الكليات المشتركة بين الشعر والموسيقى يعد، بحق، بحثاً في الذهن البشري حيث
«الحركة فطرية لها نحو ذهني، كما للموسيقى نحو ذهني، وللغة نحو ذهني؛ وإذ
الأذهان متماثلة، أو متشابهة على الأقل، من حيث المبدأ، فإن هناك نحواً
ذهنياً في مثل هذه الأوصاف، لكن تجلياته تختلف؛ ففعل حركة الرأس، وسيما
الوجه، وحركة اليدين، متماثلة؛ لكن وجهة الحركة قد تختلف دلالاتها بحسب
الثقافات، أو المجموعات، أو الاتفاقات، ...» (مفتاح.2010: 3- 325/326). إن
الأمر يتعلق في تحليل الخطاب الشعري وفق المقاربة المعرفية بمحورية مقولة
«الكل في الذهن»، وبالتالي الانتقال من الحقيقة الفيزيائية القاضية بأن
الذهن كائن في الجسد إلى الحقيقة المعرفية القائلة بأن الجسد هو الموجود في
الذهن. وقد نشير، على سبيل المثال، إلى أن هذه الحقيقة المعرفية جاءت
مبكرة في التراث الإنساني، إذ أورد أبو حامد الغزالي في معياره أن أبا بكر
كان يقول لمن يقيم الحد على بعض الجناة: «اضرب الرأس، فإن الشيطان في
الرأس» (معيار العلم في المنطق، 32).
على هذا الأساس، يمكننا الحديث عن
«الذهن الشعري» على غرار مفهوم الذهن الأدبي كما حدد ملامحه تصور تورنر
(1996) Turner، حيث إن تصور الذهن للوقائع وتشييده للمعاني وإنجازه للإبداع
يمر عبر عمليات ذهنية تتسم في صميمها بكونها أدبية وينظر إليها على أنها
كذلك. وإذ نقترح مفهوم الذهن الشعري للتمثيل على العمليات الذهنية المتحكمة
في إبداعات الشاعر بدءاً من الوسيط اللغوي ومروراً بالتأليف الإيقاعي
ووصولاً إلى التعبير الجسدي، فإننا ? وفق مقاربة الشعرية الموسعة ? نعتقد
أن الذهن الشعري ممتد خارج النصوص الشعرية ودال على التجربة الإنسانية
المبدعة العامة بما تحمله من أفكار وأحاسيس وآفاق. هكذا، يندرج الذهن
الشعري تحت مقولة الذهن الموسع Extended mind (ميناري.2010.Menary) الذي
يؤمن بحيوية الامتدادات الخارجية الفاعلة ويضمن التفاعل شعرياً بين مساحات
النص ومجالات الخطاب بما يسمح برسم ملامح الجواب عن سؤال: «أين يتوقف الذهن
ويبدأ باقي العالم؟».
4. استنتاج
استجماعا لكل ما سبق، نستطيع
القول بأن الآليات المعرفية شكلت المنطلق المنهجي والتحليلي الذي استند
إليه مشروع «الشعرية الموسعة» انطلاقاً من منظور دقيق وعميق، ووفق تحليل
نسقي تكاملي مستمد من السيميائيات وتحليل الخطاب خاصة، ومن الإنسانيات
والعلوم المعرفية عامة. ويمكن القول إجمالاً بأن المبادئ الفلسفية
والمعرفية التي تستند إليها المقاربة الموسعة للخطاب الشعري تتجلى في
العناصر التالية التي فصلها مفتاح (2010):
- الشعر تنظيم للكون و»الشاعر ... منظم للكون بمؤسسته الخاصة» (1/137) ؛
-
الموسيقى في كل شيء، و»توليف الأصوات محكوم بقواعد مستقاة من الطبيعة
المادية، ومن الطبيعة البشرية؛ والطبيعتان كلتاهما متناغمتان» (2- 222) ؛
- الشعر تجسيد إيقاعي بامتياز، و»الإيقاع ... أسبق من اللغة ومن البحور الشعرية» (1/197).
بهذه
المبادئ يكون التحدي المعرفي القائم متمثلاً في كيفية إعادة قراءة التراث
الشعري العربي وكيفية تأصيل تصور جديد في النقد الأدبي المعاصر بناء على
استثمار الإمكانات الإجرائية الثرية التي تتيحها الشعرية الموسعة. ولن
يتحقق هذا التحدي إلا باعتماد المرتكزات المترجمة لما سبق أن أسميناه
«عقلانية العمق» (العاقد.2008) التي وسمت مشروع محمد مفتاح وتسم عمله
المتميز حول الشعرية الموسعة، خاصة على مستوى استهداف الأنظمة الخفية
للتصورات الإنسانية والبحث في الرمزية المضمرة الثاوية خلف تخييلية المنجز
الشعري، من أجل الكشف عن الآليات المشتركة المتحكمة في اللغة والموسيقى
والثقافات والمؤطرة للأنساق الذهنية العميقة للتجارب الفنية والإبداعات
الكونية.
الهوامش:
(*) ? نص الورقة المقدمة في اللقاء الذي
نظمته كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس أكدال حول
الكتاب الأخير لمحمد مفتاح «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية» والتي ستصدر ضمن
كتاب جماعي عن منشورات الكلية نفسها.
(1) ? يعتبر تأثير الأبحاث
المعرفية في الإنسانيات والدراسات الأدبية تأثيراً قوياً لأنها وفرت جهازاً
إجرائياً وقرائياً فاعلاً يرتكز على نتائج مجالات علمية متقاطعة
واستخلاصات حقول معرفية متعددة.
للاطلاع على تفاصيل ذلك، يمكن الرجوع إلى العاقد (2006).
(2)
? على المستوى المنهاجي، قام مفتاح (2010) بنقد السيميائيات الفرنسية،
خاصة المقولات النظرية والتحليلية الواردة في المعجم السيميائي لكورتيس
Courtès وغريماسGreimas ، معتمداً الاتجاهات الحديثة للسيميائيات المعاصرة
القائمة على الاتصال والتدرج والتحركية. وتجدر الإشارة إلى أن المعجم
المذكور نسب، في غالب الأحيان، للعالم السيميائي بيرس Peirce أفكاراً
وتصورات لا توجد في أعماله، خاصة في ما يتعلق بمفهوم المرجع، لأن مؤلفيه لم
يرجعا مباشرة إلى النص الأصلي، بل اعتمدا تأويلات غير دقيقة لباحثين
آخرين، كما نبهت إلى ذلك السيميائيات البصرية لسونيسون (1989) Sonesson.
من
جهة أخرى، اعتنت الشعرية الموسعة بالمنهج السيميائي القائم على المقايسة
بين اللغة والموسيقى، يقول مفتاح (2010) «لقد ألفنا منهاجية سيميائية عامة
من الموسيقى، واللسانيات، وتحليل الخطاب، بناء على فرضية التركيب للمصادر
المشتركة المندمجة؛ هكذا كنا نذهب من النظرية الموسيقية إلى الشعرية، ومن
الشعرية إلى الموسيقية، بالمفاهيم المترحلة، وبالمقايسة، ...» (3- 178).
(3)
- جرت العادة أن نستحضر فيتاغور بوصفه رياضيا نظرا لاقتران اسمه بإحدى
أشهر المبرهنات الرياضية (مبرهنة فيتاغور) ولكونه يعتبر أن الأعداد مفتاح
كل معرفة، غير أنه يعد إضافة إلى ذلك فيلسوفاً أصيلاً يقول بالمبادئ
الناهية التالية: عدم فصل الروح عن الجسد في الحياة، عدم الوقوف سداً
منيعاً أمام العدالة بمحاولة إخفائها، عدم استفزاز من هو في حالة غضب، عدم
خرق قواعد الإنصاف. وقد انقسمت مدرسته، بعد موته، قسمين: فريق اتبع توجهاته
الأخلاقية، وفريق سعى إلى تعميق تفكيره الفلسفي والعلمي ؛ ويمكن القول بأن
الفريق الثاني ساهم في الجمع لاحقاً بين الرياضيات والفلسفة الفيثاغورية.
(4)
? بغية الاطلاع على استثمار معطيات اللسانيات وتحليل الخطاب في الدراسات
الموسيقية وبلورة مفاهيم من قبيل: المعنى الموسيقي واللغة الموسيقية
والخطاب الموسيقي، يمكن الرجوع إلى أغاوو (2009) Agawu ووينيرستروم (2001)
Wennerstrom.
المراجع
- العاقد، أ. 2006: «المعرفة والتواصل: عن آليات لنسق الاستعاري» دار أبي رقراق، الرباط.
-
العاقد، أ. 2008: «عالم الأنساق المتعددة: أبعاد تحليل الخطاب والمعرفة»
في «التأسيس المعرفي والتأصيل المنهجي» مكتبة المدارس، الدار البيضاء.
- الغزالي، أبو حامد: «معيار العلم في المنطق» دار الكتب العلمية، بيروت.
-
مفتاح، م. 2010: «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية: اللغة ? الموسيقى ? الحركة
(الجزء الأول: مبادئ ومسارات)» المركز الثقافي العربي، الدار
البيضاء-بيروت.
- مفتاح، م. 2010: «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية: اللغة ?
الموسيقى ? الحركة (الجزء الثاني: نظريات وأنساق)» المركز الثقافي العربي،
الدار البيضاء-بيروت.
- مفتاح، م. 2010: «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية:
اللغة ? الموسيقى ? الحركة (الجزء الثالث: أنغام ورموز)» المركز الثقافي
العربي، الدار البيضاء-بيروت.
References
- Agawu, V. K. 2009: ?Music as Discourse: Semiotic Adventures in Romantic Music?, Oxford University Press, Oxford.
- Eagleton, T. 2012: ?The Event of Literature?, Yale University Press, New Heaven.
- Jackendoff, R. 2009: ?Parallels and Nonparallels between Language and Music?, Music Perception 26/3, 195-204.
- Menary, R. (ed). 2010 : » The Extended Mind « MIT Press, Cambridge.
-
Pearsall, E. & Almén, B. 2006 : ?The Divining Rod: On Imagination,
Interpretation, and Analysis? in Pearsall, E. & Almén, B.:
?Approaches to Meaning in Music?, Indiana University Press, Bloomington.
- Phelan, J. 2012: ?The Music of Verse: Metrical Experiment in Nineteenth-Century Poetry?, Palgrave Macmillan, Hampshire.
-
Sonesson, G. 1989: ?Pictorial Concepts: Inquiries into the Semiotic
Heritage and its Relevance for the Analysis of the Visual World?, Lund
University Press, Lund.
- Turner, M. 1996 : » The Literary Mind «, Oxford University Press, Oxford.
-
Turner, M. 2008 : » Frame Blending «, in Favretti, R. R. (ed): ?Frames,
Corpora, and Knowledge Representation?, Bolonia University Press,
Bologna.
- Turner, M. & Fauconnier, G. 1999: ?A Mechanism of Creativity?, Alternation 6/2, 273 ? 292.
- Wennerstrom, A. 2001: ?The Music of Everyday Speech: Prosody and Discourse Analysis? Oxford University Press, Oxford.
د. أحمد العاقـد |
izarine- عدد الرسائل : 1855
العمر : 64
Localisation : khémissat
Emploi : travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
مواضيع مماثلة
» نعت النشاطية الشعرية المغربية بـ«الحساسية الشعرية الجديدة».. الناقد بنعيسى بوحمالة: القصيدة اليوم تحولت إلى ساحة حرب جمالية
» على هامش مهرجان شفشاون الشعري (26) عن «شعرية التحولات» مساهمة في رفع اللبس
» أسئلة الكتابة الشعرية في الفايسبوك .. محمد بنقدور الوهراني
» من أجل تطــوير الذائقة الشعرية
» وزان تحتضن فعاليات الملتقى الشعري الأول للمدينة
» على هامش مهرجان شفشاون الشعري (26) عن «شعرية التحولات» مساهمة في رفع اللبس
» أسئلة الكتابة الشعرية في الفايسبوك .. محمد بنقدور الوهراني
» من أجل تطــوير الذائقة الشعرية
» وزان تحتضن فعاليات الملتقى الشعري الأول للمدينة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى