العولمة والقراءة / عبدالله آيت الأعشير
صفحة 1 من اصل 1
العولمة والقراءة / عبدالله آيت الأعشير
من الحَتم المَقضِيِّ في هذا الابتسار، الإشارة إلى أن التغيير قد تَنَفَّسَ صبحه، وأنارت أضواؤه، وتجلت بداياته المتبرعمة، فإذا كان هناك من عمي عن إبصار هذه الأمور الثابتة التي ليس لها ردّ، فذلك من عمى العقول.. وعلى العموم فإن الزمان يقوم بجهاز التنقية، يبقي المفيد، ويذهب البهرج والغثاء، الذي يطوي الناس كشْحَهُم عنه، ثم يسقطونه في سَفط السَّقط، بعد أن انطفأت الرغبة في الإقبال عليه.
ذلك هو قانون الحياة في أثناء الهزات المرجرجة التي تحدثها التغييرات المتوقعة، فماذا نحن فاعلون إزاء هذا التدافع الدولي الذي لم تحلق أجنحتنا صوبه، ولم تكن لنا فيه غاية حق نرجو بلوغها؟ أيحق لنا أن نظهر الريبة والدهشة نتيجة لوقع الصدمة المربكة، فنهوي في دَرَكاتِ الرفض غير المسوَّغ؟ تماما كما فعل السابقون منذ عهد أفلاطون، الذي أظهر تبرمه وانزعاجه من الكتابة في قولته المشهورة التي دافع فيها عن الثقافة الشفهية: «الكتابة تدمر الذاكرة، فأولئك الذين سيستخدمونها سوف يصبحون كثيري النسيان»(1)، أم علينا أن نكتفي بإطلاق الأماني المعجزة، كما فعل آخرون في أمانيهم التي لا تَعِدُ بِسِوى بَرْق خُلَّب؟
أمَا آنَ لهذا الليل الأليل أن ينجلي؟! لننْتبه إلى ما اقترفته غفلتنا في التحصُّن بغير قليل من المعارف الخاوية مثل مُومَات النَّحل، حتى اضطررنا إلى التسول، واقتناء أشيائنا، صغيرها وكبيرها هينها وعظيمها، وكثير من أفكارنا من سفط السقط الذي زهد فيه الآخرون الذين مدُّوا بعقولهم أسبابا إلى السماء حتى ملكوا بسلطان العلم والمعرفة كل المجرات؟ لماذا أضحى الاستعجال(2) عنوانا لمشروعاتنا التي لم نخمرها بما يلزم من الجهد والوقت، فبقي عجين معلوماتنا فطيرا لا يصلح أن يكون مادة للمعارف الرُّطب الضامنة لتقوية العقول القادرة على التعامل مع المعارف والمناهل الدقيقة المتدفقة التي يوفرها مجتمع المعرفة المعولم؟ ما هي الحذاقة والمِترَهيَّة المطلوبتان لتنقية طوفان العولمة من المعايب، وتخليصها من الحبائل الشيطانية الليطانية التي تغري المتعجلين بركوب غمار يَمِّها الذي لا يُنْكشُ؛ فتقذف بهم ريحُها القاصف إلى الزوايا المُهيِّجة والمحادثات المُلهيَّة عن تَمتُّك واستقطار رحيق المعارف الشائقة التي لا تدرك إلا بالمكابدة التي تبيد الأظلام المركومة، عن الأيمان والشمائل؟
هذه مجرد إلماحة ابتسرت بها الحديث عن العولمة والقراءة، وبما أن العولمة عولمات، والقراءة قراءات، فإنه كان من وَكْدي وسَدَمي في هذا البحث أن أنظر إليهما كشفرتَي المقص، لا يمكن أن تحدثا أثرهما المرغوب إلا إذا اجتمعتا، كما تجتمع حبَّات الجُلبان في سَنِيفها، بل قُل كما تُجْمع النِّبال في الكِنانة. العولمة بوسائلها التقنية التي هتكت أستار الخبايا والزوايا المغطشة، والقراءة والقراء باعتبارهما أنجع السبل لاصطناع المعرفة والتقدم لامتلاك المجرات لأجل قيادة الجنس البشري؛ لأن الذين سيقودون المواكب الإنسانية هم الذين يعرفون كيف يقرأون، وماذا يقرأون؟ وكيف يفتحون الميادين الموصدة بمقاليد جديدة لا قِبل لنا بها، لأنها من مواليد العصر الرقمي المعولم، الذي تعد الشابكة (الإنترنت)بمثابة حياة متجددة تمدها المدونات والمواقع بالأفكار التي تقول كل شيء بحرية لا ضفاف لها؟
قال عباس محمود العقاد:«لست أهوى القراءة لأكتب، ولا لأزداد عمرا في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأن لي في هذه الدنيا حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب.. فكرتك أنت فكرة واحد، شعورك أنت شعور واحد، خيالك أنت خيال فرد واحد إذا قصرته عليك، ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، ولاقيت بشعورك شعورا آخر، ولاقيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، وأن الشعور يصبح شعورين، وأن الخيال يصبح خيالين..كلا وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات الفكر في القوة والعمق والامتداد»(3).
ولهذا حرَص الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانويل على التحريض على القراءة؛ لأنها الأداة المثلى التي تمدنا بمعارف جديدة لصيانة وجودنا الناقص، لأن عصر العولمة أصبح يتطلب استراتيجية محكمة في فن القراءة، وفي غيرها من المهارات اللغوية المرتبطة بالسماع والحوار والكتابة، أملا في تجنيب حواراتنا خطل الكلمة التي لا تصيب المَحَزَّ؛ إذ كلما كانت اللغة سليمة كان ذلك أدعى لسلامة الفكر الذي تقوله تلك الكلمات، لهذا يجب أن نحرص على فهم الكلمات وما تقوله قبل استخدامها، إذ لو أنزلنا كل لفظة المنزلة التي ترضاها وتقتضيها لما سمحنا لأنفسنا أن نقبل استخدام كلمات وعبارات من مثل: عملية السلام والمستعمرات ودول الطوق والمفاوضات غير المباشَرة ودول الاعتدال ... وغيرها من العبارات التي حقنها الآخرون حقنا منكرا حتى خفي عنا ما تستره من معان لا تخطر على قلب عربي. حيث إن عبارة «عملية السلام» تشير إلى أن السلام المرجو سيرورة ليست لها نهاية، فهو يبتدئ بعملية تتلوها عمليات أخَر لا أول لها ولا آخِر، أما المستعمرات ودلالاتها فتعني الأماكن العامرة المشيدة، بخلاف ما نظنه نحن- العرب- حين نجعلها مرادفة للخراب والدمار.. وغيرها من العبارات التي أخِذتْ على غِرِّها فلم يُدرك غَوْرُها، ولم نسْتَوْش حقيقتها بما يلزم من اللَّوْذَعِيَّة والحذاقة التي تضع اليد على أنواع الحيل التي يُسَوِّغ بها الغرب المُعَوْلم كل جرائره، لذا أصبح من اللازم على القراء المِتْرهيِّين النَّبهاء تجاوز القشرة اللغوية الباردة لما تقوله الكلمات، بحثا عن غور المعنى الذي يصر المبدعون على إخفائه عن القراء المتعجِّلين الذين يكتفون من الغنيمة بالإياب.. فهل دخلنا غَمْرات العولمة من دون تعلم العَوْم الذي يُنْجينا من الغَرَق؟
ماذا حدث لنا في أثناء
طوفان العولمة؟
الحديث عن العولمة طويل الذيل قليل النيل، ما فتئ يتوالد بعديد الترجيحات، كل ترجيحة تسعى أن تنَشِّم في الموضوع شيئا يسيرا، من دون أن تستوفي شرائط القبض على هذا المارد الذي أبدى للناظرين رؤوس شياطين، بعضها ليّن مثل العُسْلوج الأمْلود يَسْهُل ليُّه في كل اتجاه لتُكَوِّن تلك الأغصان الأماليد شبكة القوى اللينة، وبعضها الآخر رؤوس شائكة؛ لا يقدر عليها إلا الجهابذة المُبَرِّزون الذين أتوا حظا عظيما من العلم والمعرفة، فما هي إذن نماذج الرؤوس التي دخلت إلى ساحاتنا العربية من غير إِذنِ؟
لا ريب أن الرؤوس اللينة التي تخاطب الحواس هي أكثر الأصناف التي تفاعلنا معها، متمثلة في عولمة (الماكدونالد)، وعولمة (السّمورْف)، و(الهِيبْ هُوبْ)، وعولمة الأجساد الرشيقة الناعمة، وأدوية إزالة التجاعيد، وأدوات امتصاص الشحوم الزائدة في الخصور البدينة. ومن ثمة غدا حلم بناتنا ونسائنا متجليا في كيفية انتقار الطريقة التي تبدي زينتهن على الشاكلة الباريزية، أما أولادنا فإن قَصَّ الشعر على الطريقة القَزَعِيَّة(4) أعمت بصائرهم، فأصبح كل مرغوب لديهم أن يتشبَّهوا بالمُغنيِّ الفلانيِّ، أو اللاعب العلاّني، الذي يبدو كأنه وضع حُماضة ديكٍ على قُنَّة رأسه. هذه الأنماط العولمية وغيرها من أصناف أكبر طبق للكسكس؛ وهلم على ذلك جرا وسحبا هي السبيل اللاحبة التي وضعنا فيها صوى تهدي الآخرين إلى جولة سياحية تريح عقولهم من أشهر الكدّ والبحث والتجديد التي يكابدونها في مُعْتمَلاتهم، تلك بنظرة الطائر هي الأنماط التي تعلقنا بها حتى ألهتنا عن إبصار قحَم الطريق التي وُضِعَتْ لنا لكي لا نسلك السبيل الجَدَدَ التي تُوصلنَا إلى ثقافة مجتمع المعرفة. وهي خطة بزلاء دبّرها الغرب لتكون مجتمعاتنا العربية مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ودَخَلًا بيننا حتى زَلَّت أقدامنا عن طريق العلم، فما كان لنا من سند ينصرنا وما كنا من المنتصرين، فأصبح الذين تمنَّوا مكانتنا بالأمس، عالين في الأرض ملوِّحين بمنطقهم الفرعَوْنيِّ الاستكباريِّ: ما نريكم إلا ما نرى، وما نهديكم إلا هذه السبيل، ومن يزغ منكم عن أمرنا نُصْلِه سعير قنابلنا الذكية، وهو في كل الأحوال من الخاسرين. يا لَهُ من ضياع جعلنا لا نستفيد من هذا الإلغاء، بالحضِّ على القراءة التي تُعَدُّ فاتحة الإعداد المستطاع لمواجهة هذه الإملاءات المنكرة التي على المحو والإهانة!
وقبل أن تُوَلِّد العولمة صعوبات أخَر ليست في حساباتنا؛ علينا نحن- العرب- أن نتعلم ولو بطريقة تحليق ابن فرناس آخر، عسانا نصنع مغامرة مبهرة!!
من تأثيرات العولمة على القراءة
أشرنا آنفا أن العولمة فلوج متحدِّرة من هنا وهناك، (عولمة الاقتصاد، وعولمة التجارة، وعولمة الصناعة، وعولمة السياحة، وعولمة الثقافة وعولمة السياسة...) لكن هذه الروافد تلتقي عند المصب لتكون سيلا جُرافًا قحافًا لا يُبْقي ولا يذرُ إلا ما يبقيه الوشم في ظاهر اليد، غير أن الناظر لا يعدم أن يبصر في صُوَريْ هذا السَّيْـل مياها شبه هادئة هي بمثابة القوى اللينة التي تحدث في منظومة الثقافة ما يحدثه الماء في الصخرة الصماء، حيث إن تكنولوجيا المعلومات مست القراءة مسّا زوبعيا لم يكتف بتحريك الظاهر فقط، بل أحدثت ريحها رجّة أسقطت من شجرة المعرفة البدايات المُتَحصْرِمة التي لا تقوى على الاستمرار في رحلة التبدل والتغيير، لكنها أبقت على البدايات المُتَبَرْعِمة والمُتَحَصْرمة التي يُؤمل لِهلالها أن يصير بَدْرًا في أثناء قانون النشوء والارتقاء. ولا ريب أن هذا التأثير ذا المخلفات المتباينة هو الذي دعانا إلى الحديث عن محمدات العولمة ومضارها بالنسبة إلى القراءة.
أ- مَحْمدات ومَرْحَمات العولمة بالنسبة إلى القراءة:
في إيمان لا يساوره رسيسٌ من الريب أؤكد أن تكنولوجيا الإعلام والاتصال أسهمت في زيادة نسبة القراءة والقراء في المجتمعات العربية، كما أتاحت هذه التكنولوجيا الفرصة لانتشار المعرفة عبر التخصصية التي لم تعد تعترف بإفراد الوجهة، وبالحدود الصارمة التي تحرص عليها بعض العلوم. لأجل هذا التلاقي أصبح ضروريا أن يعاد النظر في الجُزر المُنْعزلة التي تسعى بعض التخصصات إلى الإبقاء عليها، ناهيك عن التصنيفات التي تجعل لغة ما علمية خالصة، وأخرى أدبية براء من العلم.. لا تمتلك أي شعاع من شمس المعرفة العلمية المحفزة للعقول.
ولقد أوجدت الشبكة العنكبوتية شكلا من أشكال القراءة المُتشَذرة المُتَشظية «ويقصد بالتشظي أن النص الرقمي لم يعد تلك الوحدة الرمزية المتماسكة المتكاملة كما هي الحال بالنسبة إلى النص المطبوع، بل غدا حزمة من شذرات (شظايا) معلوماتية متناثرة ومتباينة تجمع من مواقع منتشرة عبر الشبكة، أما التشعب النصي فيقصد به أن تتشعب الوثيقة الإلكترونية إلى وثائق أخرى عبر حلقات الربط التي تتضمنها كل وثيقة يتم الوصول إليها، في سلسلة لا متناهية لاقتناء مسارات التشعب، عبر مسالك إبحار لا حصر لها في الفضاء المعلوماتي»(5). وهو ما يتطلب أن يكون القارئ حاذقا لوذعيا مزوّدا بما يكفي من العدّة والنباهة لانتقار واعتيام النص المطلوب من وسط كم هائل من النصوص التي تند عن الحصر.
وقد أقامت الوسائط التكنولوجية الدليل على إحداث نقلات مهمة على القراءة وأنواعها من خلال الحرص على اجتذاب القراء للبحث عن المعلومة، حتى أفضى الإبحار بالقراء- ولاسيما القراء الإخصائيون الذين أوتوا حظا عظيما من الحذاقة والمترهية في استكناه أسرار النصوص- إلى التفاعل الذي أضحى ميسما من مَيَاسِم القراءة في عصر المعلومات، لأن هذه الناحية من القراءة لم تكن متاحة من قبل؛ بالسهولة واليسر الذي أضحت عليه الآن، حيث ازداد نهم الكلام وشرهه حتى سال في كل اتجاه سواء قصد لذة الفائدة أولم يقصدها.
كما أقامت الشبكة العنكبوتية الشاهد القاطع على «تربع القارئ على عرش منظومة القراءة، لا ينازعه فيه كاتب أو نص. فقد منحه تشظي الوثائق الإلكترونية وتشعبها النصي القدرة على التعامل في الوقت نفسه مع كم هائل من النصوص ومن المؤلفين بالتبعية، وهو وحده صاحب القرار النهائي في انتقاء شظايا النصوص التي يتراءى له إدراجها في صنع وثيقته الإلكترونية»(6). فعلى الرغم من أن هذه الفئة من القراء بقيت محصورة في دوائر جد ضيقة، فإن التوسع الذي تشهده نصوص الشذرات ينبئ أن الاهتمام بالقارئ في ازدياد والانشغال بالكاتب في تقلص وإدبار.
ولعله ليس في البيان أوضح من القول بأن تجربة الكتاب الإلكتروني سهّلت حَزْنَ كثير من العوائق، وفتحت آفاقا بكرا لم تكن معروفة لأحد من قبل، ولاسيما من حيث السرعة والقدرة على الحيل البصرية والصوتية التي تصاحب النص في أثناء إذاعته صوتيا على القارئ وهو مستلق أو في أثناء قيادة سيارته، وبمواصفات قرائية تراعي ضوابط التلاوة المتموجة التي تساير العواطف المبثوثة في طبقات النص، ناهيك عن طاقته الهائلة في التخزين والتحويل من مكان إلى آخر وبمجهود أقل.
ولكي أعيد السَّهْم إلى النَّزَعَةِ أؤكد أن استغلال إمكانات الحاسوب في تعرف الحروف الأبجدية والكلمات وكيفية نطقها نطقا سليما، كفيل بأن يخرج طرقنا في تعليم وتعلم القراءة للصغار من التيه والتشتت الذي تتخبط فيه من خلال اعتماد «ثقافة المعرفة بالوسائل الرقمية المسموعة» التي فتق موقع (الوراق) http://www.alwaraq.net كمها، حيث طلع علينا بتجربة نشر الكتب التراثية المسموعة إلكترونيا، الأمر الذي يبشر بطرق فعالة أكثر جاذبية يشتار الشداة عسلها الذي يبرئ الأسقام التي رانت عليها أمدا طويلا، ناهيك عما يوفره الحاسوب من إمكانية تنمية الذخيرة اللغوية بالنسبة إلى الشداة صغارا كانوا أو كبارا، بَلْهَ قدرته التي تعجز الطوق بالنسبة إلى زيادة سرعة القراءة، ولاسيما القراءة الصامتة التي أعاد لها الحاسوب الوهج الذي ضاع منها في أثناء الفصول الدراسية التي طوى الأساتيذ كشحهم عنها في الغالب الأعم، حيث إن القراءة الصامتة قراءة خاطفة تتيح أن يرمق النص وأن ينظر إلى نتوءاته لأجل الإحاطة بالمعنى العام بنظرة الطائر من خلال ما تقوم به العينان من حركات سريعة لماحة.
ومن الإضاءات التي يؤمل لهلالها أن يصير بدرا مع توالي الأجَدَّان.. توظيف الحاسوب لأجل تكوين نماذج لغوية مثل: المعجم الحاسوبي والنحو الحاسوبي والصرف الحاسوبي.
تلكم في إيماضة بارقة نُبَذٌ من القول ونُتَفٌ لا تبلغ كنه الخِدْمات الباهرة التي ما فتئت تَعِدُ بِبَنِينَ وحَفَدَة لا ينقطع نسلهم، وهي خِدْمات أحْجِ بناَ وأَحْرِ، إنْ نحن أحسنا استغلالها، أن تمكننا من أن نقتعد مكانة تليق بنا بين الأمم، فماذا إذن عن مظلمات ومضار هذه الآلة الحديدية التي أرشدنا الله في إنزال مادتها إلى ما فيها لنا من مصالح تبسط بين أيدينا الأمل وتحفزنا نحو العمل؛ ومفاسد تدعونا إلى تنكب سبل الخطل التي تحطم الأمل في تَوَقل القِمَم؟ كما في قوله جلّ شأنه: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}.
ب- مظلمات ومضار العولمة على القراءة:
إذا كان لي من صدر أوطئ به الكلام في هذه الناحية من المفاسد والمضار، فإنني أبادر إلى القول بأن الذي صحّ بعد البحث والتنقير وإنضاج الرؤية، أنه على رغم إغراء وجاذبية الوسائط الإلكترونية، فإن سوء استغلال هذه الأدوات ترك ومازال يترك جروحا عميقة على جسد لغات المستضعفين الذين ركبوا خيول العجز في حلبة السباق العولمي، ورَضُوْا أن تكون فرسُهم مُفَسْكِلةً متأخرة، واستمرأوا أن يكونوا مع الخَوالف في حلبة الصراع اللغوي الذي يسلّم فيه المنهزم القياد للغالب يتحكم فيه وفيما تقوله كلماته؛ حتى ينتهي به إلى الانهزام النفسي الذي يجعله يهوّن من أمر اللغة، وبذلك يستغني الغالب عن خوض معارك أشد إيلاما، بعد أن انتصر في معركة اللغة، ومن ثمة يتسلم المقاليد التي تفتح باقي الثغور من دون مقاومة تذكر.
ومن نافلة القول التذكير بأن اللغة العربية ليست بِنَجْوةٍ من هذه الآفة التي تفعل في لغتنا العربية الفصحى ما يفعل السوس في الخشب، والسّرف في المال، إذ ألحقتنا العولمة بالأخسرين أعمالا في صيانة العربية الفصحى من كَدَر اللهجات المارقة من طاعة القواعد. ولكي أثبت أن الفصحى من أكبر ضحايا العولمة أجتزئ بذكر حَتْرٍ قليل من الأمثلة التي تجلو المراد.
الرسائل الإلكترونية القصيرة التي مرقت مروق السَّهْم من أنظمة الصرف والنحو والإملاء، فهي تكتب في الغالب بالأحرف اللاتينية، وتعبّر باللهجة، ناهيك أن أصوات بعض الكلمات أضحت مجرد أرقام، لأنها أصوات لا توجد في الفرنسية والإنجليزية مثل(الغين والعين والحاء والقاف والصاد...) فالعين هو رقم 3 والقاف هو رقم 9. وغيرها من الافتراءات التي لا نرى لها ظلالا ولا مسحب أذيال، وإنما العجز والهوان والكسل هو الذي جعلنا نستسهل هذه التغيرات التي أدخلت الشطط على الكتابة العربية.
الإقبال على أنواع محددة من المدونات والمواقع التي انتقلت إلينا انتقال العدوى، وهي في الغالب مدونات ومواقع ذات موضوعات تافهة وعبثية والتي تعرض للرغبات النفسية والعاطفية، والأغاني السَّاقطة، وهلم على ذلك جرا وسحبا من ثقافة التسطيح والخداع التي ترمي بحبالها الشيطانية لتصفد عقول المقبلين عليها، وتعمي بصائرهم في أثناء الإقبال على تصفح تلك المواقع ذات الألوان المعرفية الضحلة التي لم تخمرها العقول النيرة، ومن ثمة لا يزيدهم الاطلاع على هذه المواقع إلا تشويشا وضياعا واغترابا ونقمة على المجتمع وعلى مؤسساته. ولقد أسهمت تلك المواقع والمدونات في انتشار الثرثرة والفضفضة وسقوط أسوار الحياء والأخلاق، بدلا من أن تفضي إلى القراءة والمعرفة الماتعتيْن.
وقد أفضت الحرية المتاحة على الشبكة بغير قليل من القراء، الذين يبحثون عن الحكمة في تدبيج الألفاظ المعذوذبة والتعابير الشائقة، أن ينظروا بعين الشانئ الكاشح إلى هذا الأدب الرقمي الذي يعرضه زوامل النثر والشعر من المنشئين الذين لم يستكملوا أدوات الفن، فأضحت عباراتهم مأكلا للركاكة ومشربا للكزازة، لأنهم لم يحصلوا تِبْر التأليف البلاغي والأسلوبي.. فكانت الإجادة لديهم قليلة مثل بارح الأرْوَى، متعللين في ذلك بالوصول إلى فئة عريضة من القراء، متناسين أن الاكتفاء باجتناء ثمرات المعاني السطحية أذهب عن نصوصهم الإثارة والبهجة اللتين تأخذان بشغاف العقول والقلوب إلى مزيد من القراءة.
وعلى الرغم من الدور المحوري لوسائل الاتصال والتواصل في نشر العربية الفصيحة، نظرا للوسائل الإغرائية الجذابة التي تتوفر عليها، فإن العولمة افترت قضية السماوات المفتوحة لإضعاف الفصحى من خلال افتراء الحقوق اللغوية للأقليات، ومن ثمة ضرورة امتلاك الوسائل المُرَوِّجة لتلك اللهجات.. الأمر الذي أفضى إلى ظهور جماعات تَجْهَرُ- وتجد من يساندها في الداخل والخارج- بهجر الفصحى والانسلال منها كما تنسلُّ الأفعى من خِرْشائها، كأن العربية الفصحى مجرد شَعَرٍ أشعَث أغْبَر يجب حلقه من فوق الرأس للإقبال على اللهجات، واللغات الأجنبية باعتبارها مائدة المنّ والسلوى التي تتقوَّى بها تلك الكيانات؛ التي- ويا للأسف- أصبحت تكبر في بلداننا العربية مثل كرة الثلج المتدحرجة مِنْ عَلِ. ويُعَدُّ العدد الهَيْضل للقنوات التي تستعمل العامية والأمازيغية كليا في أرجاء وطننا العربي خير شاهد على الخطط الشيطانية التي تدبرها العولمة لإنهاك العربية إن استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وعلى الرغم من أن العولمة أشاعت القراءة المتعددة تبعا لاختلاف أنواع القراء (القارئ العالم، والقارئ المثالي، والقارئ العادي، والقارئ المهووس، والقارئ الانتقائي...) فإن القراءة العادية المتعجلة التي تكتفي بخطية النص والبحث عن المعنى الحَرْفيِّ البارد، ظلت على الدوام هي القراءة الأثيرة.. أما الإصغاء المدبر إلى قوانين النصوص، واستثمار العناصر الصوتية والإيقاعية والدلالية للغة؛ فتلك بُغْيَة لم تحلق أجنحة هؤلاء القراء لإدراكها، مكتفية بإيراد حفنة من المعارف المخسولة الساذجة، لأن المعرفة والقراءة المدبَّرتيْن من عواصي المعارف التي تقتضي جَلَدًا وهِمَّة وجمع الجراميز لاستفراه الطرق الماتعة والأدوات الشائقة والألفاظ الرائقة للظفر بكل الصيد في جوف الفرا، وتلك مزية لم تَرْبُ على جهود بعض الآحاد الموصوفين بأنهم أبَيْناء الكلام.
ولقد أقامت العولمة الشاهد القاطع على أن شبكة الاتصال أضحت «بمنزلة الجهاز العصبي للمجتمع، ومن دونها تتفكك أوصاله، ومن ثم تتعذر عملية توجيهه وحشد قدراته.. وأصبح مدى كفاءتها أهم مؤشر لقياس مدى جاهزية المجتمع لدخول عصر اقتصاد المعرفة»(7).
وبما أن عصر اقتصاد المعرفة ينهض على اللغة ويعدها أساسا في اتصاله وتماسكه، فإن التهاون والتساهل في ترك الوضع اللغوي العربي هَمَلًا تتقاذفه أمواج العولمة، ضيع على العرب فرص التكامل الاقتصادي، والتماسك الديني، والتلاحم الاجتماعي، والتقدم العلمي، والتشاور السياسي لصالح فئة من الأغتام التي تَعْلك العربية الفصحى علك اللّجام، ومن ثمة تنزل من قدْرها، وتدافع عن اللغة الأجنبية وثقافتها باعتبارها واجب الوجود للدخول إلى نادي العولمة. وقد كان من نتائج هذا الوضع احتكار هذه الفئة لكثير من وسائل الاتصال التي أشاعت اللَّحْن في العربية، وأدخلت الشطط في كثير من تعابيرها. ومعلوم أن فساد اللغة وعدم استقامتها يؤدي إلى فساد المعاملات واضطراب الأحوال، بل إن الفكر الذي لا يعتني بالألفاظ الصحيحة السليمة مدعاة للانحسار والنكوص. ولهذا دعا «هوشي منه» الفيتناميين إلى التمسك باللغة الوطنية لدحر الأجنبي المحتل في قولته المشهورة: «حافظوا على صفاء لغتكم كما تحافظون على صفاء أعينكم، حذار من أن تستعملوا لفظة أجنبية في مكان بإمكانكم أن تستعملوا فيه كلمة فيتنامية»(8).
فعلى الرغم من أن العربية الفصحى لغة مُنْتقرة مُجْتباة لها ربٌّ يحميها من فوق سبع سماوات: {إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحِجْر: 9) فإن الأطمار المعيبة، والأغلاط الكثيرة التي تَعْثر بها ألسنة المذيعين وصغار المِفَنِّين، تجعل المرء يتساءل عمّا بقي لنا من وسائل نرِمُّ بها ما فسد وتقطع أشلاءً بالنسبة إلى العربية الفصحى التي يجب أن تجُرَّ أذيال الفخر والاعتزاز على باقي اللغات.
هذه مجرد إلماحات وقفت بها عند هذا الحدّ، والكلام عن تأثيرات العولمة ووسائل اتصالها على العربية الفصحى عديد الرّمل، لا يني يشره به الطوفان الذي ترمي به الوسائط العديدة ساحتنا العربية، فنمضي في حقن لغتنا الفصحى حقنًا مُنْكرًا يسري سُمُّها الزّعاف في أوصالها، حتى كاد أن يتركها على مثل مَقرِفِ الصَّمْغَة، ولا سيما أن العولمة فتحت أبواب السماوات، وحَلَّأَتنا من الدخول منها، استكبارا في الأرض ومَكْرَ السيئ. لذا علينا نحن- العرب- إحكام خطة بَزْلاء تَقلب مَظْلَمات العولمة إلى مَرْحَمَات تنزل بردا وسلاما على لغتنا الفصحى التي تمتلك الحقوق المدنية والعلمية والدينية والسياسية والاقتصادية والأدبية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
فَلَزامِ لَزامِ بالقراءة، لأن الذين يعرفون ماذا يقرأون وكيف يقرأون هم الذين سيقودون المواكب الإنسانية في هذا العالم الفاغر فاه لابتلاع الشعوب التي لا تسعى إلى بناء المنار في سبيل العلم والمعرفة؛ وبلغتها الوطنية؛ لأن الذي لا يتعلم بلغته الوطنية يبقى على الدوام تابعا متسوِّلا مُكتفيا بالإقبال على خُشارة موائد الآخرين التي لا تزيده إلا ضَعفا وصَغَارا.
أكاديمي مغربي
المراجع
1 - مستقبل الثورة الرقمية (العرب والتحدي القادم)، كتاب العربي نخبة من الكتاب، رقم 55، ص 125 يناير 2004 مطبعة الكويت.
2-الاستعجال: المفهوم غير المفهوم (بحث) غير منشور لصاحبه عبد الله ايت الاعشير.
3- القراءة.. أولا، محمد عدنان سالم، 38و39، ط2. 1423ه/2002م، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق.
4- القَزَعُ: من طُرُق قَصِّ الشَّعَر، وقد نهى الرسول "صلى الله عليه وسلم" عن هذه الطريقة، حيث يُقَصُّ شعر الرأس من الفودَيْن والقَفَا، ويترك شعر قُنَّة الرأس.
5- العقل العربي ومجتمع المعرفة، مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول، د.نبيل علي، الجزء الثاني 53و54، سلسلة عالم المعرفة، عدد 37، ديسمبر 2009م، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.
6- المرجع نفسه ص61.
الأجدان : الليل والنهار، ويعرب إعراب المقصور، وليس إعراب المثنى.
7- الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعرفة، د.نبيل علي ود.نادية حجازي، عالم المعرفة عدد 318، ص163، جمادى الآخرة 1426ه- 2005م المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.
8- أهمية اللغات وعناية الأمم بها، د.محمد بلاسي (المجلة العربية) عدد 393- ص 105، المملكة العربية السعودية.
-----------------------------
http://www.alwaei.com/site/index.php?cID=989
ذلك هو قانون الحياة في أثناء الهزات المرجرجة التي تحدثها التغييرات المتوقعة، فماذا نحن فاعلون إزاء هذا التدافع الدولي الذي لم تحلق أجنحتنا صوبه، ولم تكن لنا فيه غاية حق نرجو بلوغها؟ أيحق لنا أن نظهر الريبة والدهشة نتيجة لوقع الصدمة المربكة، فنهوي في دَرَكاتِ الرفض غير المسوَّغ؟ تماما كما فعل السابقون منذ عهد أفلاطون، الذي أظهر تبرمه وانزعاجه من الكتابة في قولته المشهورة التي دافع فيها عن الثقافة الشفهية: «الكتابة تدمر الذاكرة، فأولئك الذين سيستخدمونها سوف يصبحون كثيري النسيان»(1)، أم علينا أن نكتفي بإطلاق الأماني المعجزة، كما فعل آخرون في أمانيهم التي لا تَعِدُ بِسِوى بَرْق خُلَّب؟
أمَا آنَ لهذا الليل الأليل أن ينجلي؟! لننْتبه إلى ما اقترفته غفلتنا في التحصُّن بغير قليل من المعارف الخاوية مثل مُومَات النَّحل، حتى اضطررنا إلى التسول، واقتناء أشيائنا، صغيرها وكبيرها هينها وعظيمها، وكثير من أفكارنا من سفط السقط الذي زهد فيه الآخرون الذين مدُّوا بعقولهم أسبابا إلى السماء حتى ملكوا بسلطان العلم والمعرفة كل المجرات؟ لماذا أضحى الاستعجال(2) عنوانا لمشروعاتنا التي لم نخمرها بما يلزم من الجهد والوقت، فبقي عجين معلوماتنا فطيرا لا يصلح أن يكون مادة للمعارف الرُّطب الضامنة لتقوية العقول القادرة على التعامل مع المعارف والمناهل الدقيقة المتدفقة التي يوفرها مجتمع المعرفة المعولم؟ ما هي الحذاقة والمِترَهيَّة المطلوبتان لتنقية طوفان العولمة من المعايب، وتخليصها من الحبائل الشيطانية الليطانية التي تغري المتعجلين بركوب غمار يَمِّها الذي لا يُنْكشُ؛ فتقذف بهم ريحُها القاصف إلى الزوايا المُهيِّجة والمحادثات المُلهيَّة عن تَمتُّك واستقطار رحيق المعارف الشائقة التي لا تدرك إلا بالمكابدة التي تبيد الأظلام المركومة، عن الأيمان والشمائل؟
هذه مجرد إلماحة ابتسرت بها الحديث عن العولمة والقراءة، وبما أن العولمة عولمات، والقراءة قراءات، فإنه كان من وَكْدي وسَدَمي في هذا البحث أن أنظر إليهما كشفرتَي المقص، لا يمكن أن تحدثا أثرهما المرغوب إلا إذا اجتمعتا، كما تجتمع حبَّات الجُلبان في سَنِيفها، بل قُل كما تُجْمع النِّبال في الكِنانة. العولمة بوسائلها التقنية التي هتكت أستار الخبايا والزوايا المغطشة، والقراءة والقراء باعتبارهما أنجع السبل لاصطناع المعرفة والتقدم لامتلاك المجرات لأجل قيادة الجنس البشري؛ لأن الذين سيقودون المواكب الإنسانية هم الذين يعرفون كيف يقرأون، وماذا يقرأون؟ وكيف يفتحون الميادين الموصدة بمقاليد جديدة لا قِبل لنا بها، لأنها من مواليد العصر الرقمي المعولم، الذي تعد الشابكة (الإنترنت)بمثابة حياة متجددة تمدها المدونات والمواقع بالأفكار التي تقول كل شيء بحرية لا ضفاف لها؟
قال عباس محمود العقاد:«لست أهوى القراءة لأكتب، ولا لأزداد عمرا في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأن لي في هذه الدنيا حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب.. فكرتك أنت فكرة واحد، شعورك أنت شعور واحد، خيالك أنت خيال فرد واحد إذا قصرته عليك، ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، ولاقيت بشعورك شعورا آخر، ولاقيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، وأن الشعور يصبح شعورين، وأن الخيال يصبح خيالين..كلا وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات الفكر في القوة والعمق والامتداد»(3).
ولهذا حرَص الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانويل على التحريض على القراءة؛ لأنها الأداة المثلى التي تمدنا بمعارف جديدة لصيانة وجودنا الناقص، لأن عصر العولمة أصبح يتطلب استراتيجية محكمة في فن القراءة، وفي غيرها من المهارات اللغوية المرتبطة بالسماع والحوار والكتابة، أملا في تجنيب حواراتنا خطل الكلمة التي لا تصيب المَحَزَّ؛ إذ كلما كانت اللغة سليمة كان ذلك أدعى لسلامة الفكر الذي تقوله تلك الكلمات، لهذا يجب أن نحرص على فهم الكلمات وما تقوله قبل استخدامها، إذ لو أنزلنا كل لفظة المنزلة التي ترضاها وتقتضيها لما سمحنا لأنفسنا أن نقبل استخدام كلمات وعبارات من مثل: عملية السلام والمستعمرات ودول الطوق والمفاوضات غير المباشَرة ودول الاعتدال ... وغيرها من العبارات التي حقنها الآخرون حقنا منكرا حتى خفي عنا ما تستره من معان لا تخطر على قلب عربي. حيث إن عبارة «عملية السلام» تشير إلى أن السلام المرجو سيرورة ليست لها نهاية، فهو يبتدئ بعملية تتلوها عمليات أخَر لا أول لها ولا آخِر، أما المستعمرات ودلالاتها فتعني الأماكن العامرة المشيدة، بخلاف ما نظنه نحن- العرب- حين نجعلها مرادفة للخراب والدمار.. وغيرها من العبارات التي أخِذتْ على غِرِّها فلم يُدرك غَوْرُها، ولم نسْتَوْش حقيقتها بما يلزم من اللَّوْذَعِيَّة والحذاقة التي تضع اليد على أنواع الحيل التي يُسَوِّغ بها الغرب المُعَوْلم كل جرائره، لذا أصبح من اللازم على القراء المِتْرهيِّين النَّبهاء تجاوز القشرة اللغوية الباردة لما تقوله الكلمات، بحثا عن غور المعنى الذي يصر المبدعون على إخفائه عن القراء المتعجِّلين الذين يكتفون من الغنيمة بالإياب.. فهل دخلنا غَمْرات العولمة من دون تعلم العَوْم الذي يُنْجينا من الغَرَق؟
ماذا حدث لنا في أثناء
طوفان العولمة؟
الحديث عن العولمة طويل الذيل قليل النيل، ما فتئ يتوالد بعديد الترجيحات، كل ترجيحة تسعى أن تنَشِّم في الموضوع شيئا يسيرا، من دون أن تستوفي شرائط القبض على هذا المارد الذي أبدى للناظرين رؤوس شياطين، بعضها ليّن مثل العُسْلوج الأمْلود يَسْهُل ليُّه في كل اتجاه لتُكَوِّن تلك الأغصان الأماليد شبكة القوى اللينة، وبعضها الآخر رؤوس شائكة؛ لا يقدر عليها إلا الجهابذة المُبَرِّزون الذين أتوا حظا عظيما من العلم والمعرفة، فما هي إذن نماذج الرؤوس التي دخلت إلى ساحاتنا العربية من غير إِذنِ؟
لا ريب أن الرؤوس اللينة التي تخاطب الحواس هي أكثر الأصناف التي تفاعلنا معها، متمثلة في عولمة (الماكدونالد)، وعولمة (السّمورْف)، و(الهِيبْ هُوبْ)، وعولمة الأجساد الرشيقة الناعمة، وأدوية إزالة التجاعيد، وأدوات امتصاص الشحوم الزائدة في الخصور البدينة. ومن ثمة غدا حلم بناتنا ونسائنا متجليا في كيفية انتقار الطريقة التي تبدي زينتهن على الشاكلة الباريزية، أما أولادنا فإن قَصَّ الشعر على الطريقة القَزَعِيَّة(4) أعمت بصائرهم، فأصبح كل مرغوب لديهم أن يتشبَّهوا بالمُغنيِّ الفلانيِّ، أو اللاعب العلاّني، الذي يبدو كأنه وضع حُماضة ديكٍ على قُنَّة رأسه. هذه الأنماط العولمية وغيرها من أصناف أكبر طبق للكسكس؛ وهلم على ذلك جرا وسحبا هي السبيل اللاحبة التي وضعنا فيها صوى تهدي الآخرين إلى جولة سياحية تريح عقولهم من أشهر الكدّ والبحث والتجديد التي يكابدونها في مُعْتمَلاتهم، تلك بنظرة الطائر هي الأنماط التي تعلقنا بها حتى ألهتنا عن إبصار قحَم الطريق التي وُضِعَتْ لنا لكي لا نسلك السبيل الجَدَدَ التي تُوصلنَا إلى ثقافة مجتمع المعرفة. وهي خطة بزلاء دبّرها الغرب لتكون مجتمعاتنا العربية مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ودَخَلًا بيننا حتى زَلَّت أقدامنا عن طريق العلم، فما كان لنا من سند ينصرنا وما كنا من المنتصرين، فأصبح الذين تمنَّوا مكانتنا بالأمس، عالين في الأرض ملوِّحين بمنطقهم الفرعَوْنيِّ الاستكباريِّ: ما نريكم إلا ما نرى، وما نهديكم إلا هذه السبيل، ومن يزغ منكم عن أمرنا نُصْلِه سعير قنابلنا الذكية، وهو في كل الأحوال من الخاسرين. يا لَهُ من ضياع جعلنا لا نستفيد من هذا الإلغاء، بالحضِّ على القراءة التي تُعَدُّ فاتحة الإعداد المستطاع لمواجهة هذه الإملاءات المنكرة التي على المحو والإهانة!
وقبل أن تُوَلِّد العولمة صعوبات أخَر ليست في حساباتنا؛ علينا نحن- العرب- أن نتعلم ولو بطريقة تحليق ابن فرناس آخر، عسانا نصنع مغامرة مبهرة!!
من تأثيرات العولمة على القراءة
أشرنا آنفا أن العولمة فلوج متحدِّرة من هنا وهناك، (عولمة الاقتصاد، وعولمة التجارة، وعولمة الصناعة، وعولمة السياحة، وعولمة الثقافة وعولمة السياسة...) لكن هذه الروافد تلتقي عند المصب لتكون سيلا جُرافًا قحافًا لا يُبْقي ولا يذرُ إلا ما يبقيه الوشم في ظاهر اليد، غير أن الناظر لا يعدم أن يبصر في صُوَريْ هذا السَّيْـل مياها شبه هادئة هي بمثابة القوى اللينة التي تحدث في منظومة الثقافة ما يحدثه الماء في الصخرة الصماء، حيث إن تكنولوجيا المعلومات مست القراءة مسّا زوبعيا لم يكتف بتحريك الظاهر فقط، بل أحدثت ريحها رجّة أسقطت من شجرة المعرفة البدايات المُتَحصْرِمة التي لا تقوى على الاستمرار في رحلة التبدل والتغيير، لكنها أبقت على البدايات المُتَبَرْعِمة والمُتَحَصْرمة التي يُؤمل لِهلالها أن يصير بَدْرًا في أثناء قانون النشوء والارتقاء. ولا ريب أن هذا التأثير ذا المخلفات المتباينة هو الذي دعانا إلى الحديث عن محمدات العولمة ومضارها بالنسبة إلى القراءة.
أ- مَحْمدات ومَرْحَمات العولمة بالنسبة إلى القراءة:
في إيمان لا يساوره رسيسٌ من الريب أؤكد أن تكنولوجيا الإعلام والاتصال أسهمت في زيادة نسبة القراءة والقراء في المجتمعات العربية، كما أتاحت هذه التكنولوجيا الفرصة لانتشار المعرفة عبر التخصصية التي لم تعد تعترف بإفراد الوجهة، وبالحدود الصارمة التي تحرص عليها بعض العلوم. لأجل هذا التلاقي أصبح ضروريا أن يعاد النظر في الجُزر المُنْعزلة التي تسعى بعض التخصصات إلى الإبقاء عليها، ناهيك عن التصنيفات التي تجعل لغة ما علمية خالصة، وأخرى أدبية براء من العلم.. لا تمتلك أي شعاع من شمس المعرفة العلمية المحفزة للعقول.
ولقد أوجدت الشبكة العنكبوتية شكلا من أشكال القراءة المُتشَذرة المُتَشظية «ويقصد بالتشظي أن النص الرقمي لم يعد تلك الوحدة الرمزية المتماسكة المتكاملة كما هي الحال بالنسبة إلى النص المطبوع، بل غدا حزمة من شذرات (شظايا) معلوماتية متناثرة ومتباينة تجمع من مواقع منتشرة عبر الشبكة، أما التشعب النصي فيقصد به أن تتشعب الوثيقة الإلكترونية إلى وثائق أخرى عبر حلقات الربط التي تتضمنها كل وثيقة يتم الوصول إليها، في سلسلة لا متناهية لاقتناء مسارات التشعب، عبر مسالك إبحار لا حصر لها في الفضاء المعلوماتي»(5). وهو ما يتطلب أن يكون القارئ حاذقا لوذعيا مزوّدا بما يكفي من العدّة والنباهة لانتقار واعتيام النص المطلوب من وسط كم هائل من النصوص التي تند عن الحصر.
وقد أقامت الوسائط التكنولوجية الدليل على إحداث نقلات مهمة على القراءة وأنواعها من خلال الحرص على اجتذاب القراء للبحث عن المعلومة، حتى أفضى الإبحار بالقراء- ولاسيما القراء الإخصائيون الذين أوتوا حظا عظيما من الحذاقة والمترهية في استكناه أسرار النصوص- إلى التفاعل الذي أضحى ميسما من مَيَاسِم القراءة في عصر المعلومات، لأن هذه الناحية من القراءة لم تكن متاحة من قبل؛ بالسهولة واليسر الذي أضحت عليه الآن، حيث ازداد نهم الكلام وشرهه حتى سال في كل اتجاه سواء قصد لذة الفائدة أولم يقصدها.
كما أقامت الشبكة العنكبوتية الشاهد القاطع على «تربع القارئ على عرش منظومة القراءة، لا ينازعه فيه كاتب أو نص. فقد منحه تشظي الوثائق الإلكترونية وتشعبها النصي القدرة على التعامل في الوقت نفسه مع كم هائل من النصوص ومن المؤلفين بالتبعية، وهو وحده صاحب القرار النهائي في انتقاء شظايا النصوص التي يتراءى له إدراجها في صنع وثيقته الإلكترونية»(6). فعلى الرغم من أن هذه الفئة من القراء بقيت محصورة في دوائر جد ضيقة، فإن التوسع الذي تشهده نصوص الشذرات ينبئ أن الاهتمام بالقارئ في ازدياد والانشغال بالكاتب في تقلص وإدبار.
ولعله ليس في البيان أوضح من القول بأن تجربة الكتاب الإلكتروني سهّلت حَزْنَ كثير من العوائق، وفتحت آفاقا بكرا لم تكن معروفة لأحد من قبل، ولاسيما من حيث السرعة والقدرة على الحيل البصرية والصوتية التي تصاحب النص في أثناء إذاعته صوتيا على القارئ وهو مستلق أو في أثناء قيادة سيارته، وبمواصفات قرائية تراعي ضوابط التلاوة المتموجة التي تساير العواطف المبثوثة في طبقات النص، ناهيك عن طاقته الهائلة في التخزين والتحويل من مكان إلى آخر وبمجهود أقل.
ولكي أعيد السَّهْم إلى النَّزَعَةِ أؤكد أن استغلال إمكانات الحاسوب في تعرف الحروف الأبجدية والكلمات وكيفية نطقها نطقا سليما، كفيل بأن يخرج طرقنا في تعليم وتعلم القراءة للصغار من التيه والتشتت الذي تتخبط فيه من خلال اعتماد «ثقافة المعرفة بالوسائل الرقمية المسموعة» التي فتق موقع (الوراق) http://www.alwaraq.net كمها، حيث طلع علينا بتجربة نشر الكتب التراثية المسموعة إلكترونيا، الأمر الذي يبشر بطرق فعالة أكثر جاذبية يشتار الشداة عسلها الذي يبرئ الأسقام التي رانت عليها أمدا طويلا، ناهيك عما يوفره الحاسوب من إمكانية تنمية الذخيرة اللغوية بالنسبة إلى الشداة صغارا كانوا أو كبارا، بَلْهَ قدرته التي تعجز الطوق بالنسبة إلى زيادة سرعة القراءة، ولاسيما القراءة الصامتة التي أعاد لها الحاسوب الوهج الذي ضاع منها في أثناء الفصول الدراسية التي طوى الأساتيذ كشحهم عنها في الغالب الأعم، حيث إن القراءة الصامتة قراءة خاطفة تتيح أن يرمق النص وأن ينظر إلى نتوءاته لأجل الإحاطة بالمعنى العام بنظرة الطائر من خلال ما تقوم به العينان من حركات سريعة لماحة.
ومن الإضاءات التي يؤمل لهلالها أن يصير بدرا مع توالي الأجَدَّان.. توظيف الحاسوب لأجل تكوين نماذج لغوية مثل: المعجم الحاسوبي والنحو الحاسوبي والصرف الحاسوبي.
تلكم في إيماضة بارقة نُبَذٌ من القول ونُتَفٌ لا تبلغ كنه الخِدْمات الباهرة التي ما فتئت تَعِدُ بِبَنِينَ وحَفَدَة لا ينقطع نسلهم، وهي خِدْمات أحْجِ بناَ وأَحْرِ، إنْ نحن أحسنا استغلالها، أن تمكننا من أن نقتعد مكانة تليق بنا بين الأمم، فماذا إذن عن مظلمات ومضار هذه الآلة الحديدية التي أرشدنا الله في إنزال مادتها إلى ما فيها لنا من مصالح تبسط بين أيدينا الأمل وتحفزنا نحو العمل؛ ومفاسد تدعونا إلى تنكب سبل الخطل التي تحطم الأمل في تَوَقل القِمَم؟ كما في قوله جلّ شأنه: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}.
ب- مظلمات ومضار العولمة على القراءة:
إذا كان لي من صدر أوطئ به الكلام في هذه الناحية من المفاسد والمضار، فإنني أبادر إلى القول بأن الذي صحّ بعد البحث والتنقير وإنضاج الرؤية، أنه على رغم إغراء وجاذبية الوسائط الإلكترونية، فإن سوء استغلال هذه الأدوات ترك ومازال يترك جروحا عميقة على جسد لغات المستضعفين الذين ركبوا خيول العجز في حلبة السباق العولمي، ورَضُوْا أن تكون فرسُهم مُفَسْكِلةً متأخرة، واستمرأوا أن يكونوا مع الخَوالف في حلبة الصراع اللغوي الذي يسلّم فيه المنهزم القياد للغالب يتحكم فيه وفيما تقوله كلماته؛ حتى ينتهي به إلى الانهزام النفسي الذي يجعله يهوّن من أمر اللغة، وبذلك يستغني الغالب عن خوض معارك أشد إيلاما، بعد أن انتصر في معركة اللغة، ومن ثمة يتسلم المقاليد التي تفتح باقي الثغور من دون مقاومة تذكر.
ومن نافلة القول التذكير بأن اللغة العربية ليست بِنَجْوةٍ من هذه الآفة التي تفعل في لغتنا العربية الفصحى ما يفعل السوس في الخشب، والسّرف في المال، إذ ألحقتنا العولمة بالأخسرين أعمالا في صيانة العربية الفصحى من كَدَر اللهجات المارقة من طاعة القواعد. ولكي أثبت أن الفصحى من أكبر ضحايا العولمة أجتزئ بذكر حَتْرٍ قليل من الأمثلة التي تجلو المراد.
الرسائل الإلكترونية القصيرة التي مرقت مروق السَّهْم من أنظمة الصرف والنحو والإملاء، فهي تكتب في الغالب بالأحرف اللاتينية، وتعبّر باللهجة، ناهيك أن أصوات بعض الكلمات أضحت مجرد أرقام، لأنها أصوات لا توجد في الفرنسية والإنجليزية مثل(الغين والعين والحاء والقاف والصاد...) فالعين هو رقم 3 والقاف هو رقم 9. وغيرها من الافتراءات التي لا نرى لها ظلالا ولا مسحب أذيال، وإنما العجز والهوان والكسل هو الذي جعلنا نستسهل هذه التغيرات التي أدخلت الشطط على الكتابة العربية.
الإقبال على أنواع محددة من المدونات والمواقع التي انتقلت إلينا انتقال العدوى، وهي في الغالب مدونات ومواقع ذات موضوعات تافهة وعبثية والتي تعرض للرغبات النفسية والعاطفية، والأغاني السَّاقطة، وهلم على ذلك جرا وسحبا من ثقافة التسطيح والخداع التي ترمي بحبالها الشيطانية لتصفد عقول المقبلين عليها، وتعمي بصائرهم في أثناء الإقبال على تصفح تلك المواقع ذات الألوان المعرفية الضحلة التي لم تخمرها العقول النيرة، ومن ثمة لا يزيدهم الاطلاع على هذه المواقع إلا تشويشا وضياعا واغترابا ونقمة على المجتمع وعلى مؤسساته. ولقد أسهمت تلك المواقع والمدونات في انتشار الثرثرة والفضفضة وسقوط أسوار الحياء والأخلاق، بدلا من أن تفضي إلى القراءة والمعرفة الماتعتيْن.
وقد أفضت الحرية المتاحة على الشبكة بغير قليل من القراء، الذين يبحثون عن الحكمة في تدبيج الألفاظ المعذوذبة والتعابير الشائقة، أن ينظروا بعين الشانئ الكاشح إلى هذا الأدب الرقمي الذي يعرضه زوامل النثر والشعر من المنشئين الذين لم يستكملوا أدوات الفن، فأضحت عباراتهم مأكلا للركاكة ومشربا للكزازة، لأنهم لم يحصلوا تِبْر التأليف البلاغي والأسلوبي.. فكانت الإجادة لديهم قليلة مثل بارح الأرْوَى، متعللين في ذلك بالوصول إلى فئة عريضة من القراء، متناسين أن الاكتفاء باجتناء ثمرات المعاني السطحية أذهب عن نصوصهم الإثارة والبهجة اللتين تأخذان بشغاف العقول والقلوب إلى مزيد من القراءة.
وعلى الرغم من الدور المحوري لوسائل الاتصال والتواصل في نشر العربية الفصيحة، نظرا للوسائل الإغرائية الجذابة التي تتوفر عليها، فإن العولمة افترت قضية السماوات المفتوحة لإضعاف الفصحى من خلال افتراء الحقوق اللغوية للأقليات، ومن ثمة ضرورة امتلاك الوسائل المُرَوِّجة لتلك اللهجات.. الأمر الذي أفضى إلى ظهور جماعات تَجْهَرُ- وتجد من يساندها في الداخل والخارج- بهجر الفصحى والانسلال منها كما تنسلُّ الأفعى من خِرْشائها، كأن العربية الفصحى مجرد شَعَرٍ أشعَث أغْبَر يجب حلقه من فوق الرأس للإقبال على اللهجات، واللغات الأجنبية باعتبارها مائدة المنّ والسلوى التي تتقوَّى بها تلك الكيانات؛ التي- ويا للأسف- أصبحت تكبر في بلداننا العربية مثل كرة الثلج المتدحرجة مِنْ عَلِ. ويُعَدُّ العدد الهَيْضل للقنوات التي تستعمل العامية والأمازيغية كليا في أرجاء وطننا العربي خير شاهد على الخطط الشيطانية التي تدبرها العولمة لإنهاك العربية إن استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وعلى الرغم من أن العولمة أشاعت القراءة المتعددة تبعا لاختلاف أنواع القراء (القارئ العالم، والقارئ المثالي، والقارئ العادي، والقارئ المهووس، والقارئ الانتقائي...) فإن القراءة العادية المتعجلة التي تكتفي بخطية النص والبحث عن المعنى الحَرْفيِّ البارد، ظلت على الدوام هي القراءة الأثيرة.. أما الإصغاء المدبر إلى قوانين النصوص، واستثمار العناصر الصوتية والإيقاعية والدلالية للغة؛ فتلك بُغْيَة لم تحلق أجنحة هؤلاء القراء لإدراكها، مكتفية بإيراد حفنة من المعارف المخسولة الساذجة، لأن المعرفة والقراءة المدبَّرتيْن من عواصي المعارف التي تقتضي جَلَدًا وهِمَّة وجمع الجراميز لاستفراه الطرق الماتعة والأدوات الشائقة والألفاظ الرائقة للظفر بكل الصيد في جوف الفرا، وتلك مزية لم تَرْبُ على جهود بعض الآحاد الموصوفين بأنهم أبَيْناء الكلام.
ولقد أقامت العولمة الشاهد القاطع على أن شبكة الاتصال أضحت «بمنزلة الجهاز العصبي للمجتمع، ومن دونها تتفكك أوصاله، ومن ثم تتعذر عملية توجيهه وحشد قدراته.. وأصبح مدى كفاءتها أهم مؤشر لقياس مدى جاهزية المجتمع لدخول عصر اقتصاد المعرفة»(7).
وبما أن عصر اقتصاد المعرفة ينهض على اللغة ويعدها أساسا في اتصاله وتماسكه، فإن التهاون والتساهل في ترك الوضع اللغوي العربي هَمَلًا تتقاذفه أمواج العولمة، ضيع على العرب فرص التكامل الاقتصادي، والتماسك الديني، والتلاحم الاجتماعي، والتقدم العلمي، والتشاور السياسي لصالح فئة من الأغتام التي تَعْلك العربية الفصحى علك اللّجام، ومن ثمة تنزل من قدْرها، وتدافع عن اللغة الأجنبية وثقافتها باعتبارها واجب الوجود للدخول إلى نادي العولمة. وقد كان من نتائج هذا الوضع احتكار هذه الفئة لكثير من وسائل الاتصال التي أشاعت اللَّحْن في العربية، وأدخلت الشطط في كثير من تعابيرها. ومعلوم أن فساد اللغة وعدم استقامتها يؤدي إلى فساد المعاملات واضطراب الأحوال، بل إن الفكر الذي لا يعتني بالألفاظ الصحيحة السليمة مدعاة للانحسار والنكوص. ولهذا دعا «هوشي منه» الفيتناميين إلى التمسك باللغة الوطنية لدحر الأجنبي المحتل في قولته المشهورة: «حافظوا على صفاء لغتكم كما تحافظون على صفاء أعينكم، حذار من أن تستعملوا لفظة أجنبية في مكان بإمكانكم أن تستعملوا فيه كلمة فيتنامية»(8).
فعلى الرغم من أن العربية الفصحى لغة مُنْتقرة مُجْتباة لها ربٌّ يحميها من فوق سبع سماوات: {إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحِجْر: 9) فإن الأطمار المعيبة، والأغلاط الكثيرة التي تَعْثر بها ألسنة المذيعين وصغار المِفَنِّين، تجعل المرء يتساءل عمّا بقي لنا من وسائل نرِمُّ بها ما فسد وتقطع أشلاءً بالنسبة إلى العربية الفصحى التي يجب أن تجُرَّ أذيال الفخر والاعتزاز على باقي اللغات.
هذه مجرد إلماحات وقفت بها عند هذا الحدّ، والكلام عن تأثيرات العولمة ووسائل اتصالها على العربية الفصحى عديد الرّمل، لا يني يشره به الطوفان الذي ترمي به الوسائط العديدة ساحتنا العربية، فنمضي في حقن لغتنا الفصحى حقنًا مُنْكرًا يسري سُمُّها الزّعاف في أوصالها، حتى كاد أن يتركها على مثل مَقرِفِ الصَّمْغَة، ولا سيما أن العولمة فتحت أبواب السماوات، وحَلَّأَتنا من الدخول منها، استكبارا في الأرض ومَكْرَ السيئ. لذا علينا نحن- العرب- إحكام خطة بَزْلاء تَقلب مَظْلَمات العولمة إلى مَرْحَمَات تنزل بردا وسلاما على لغتنا الفصحى التي تمتلك الحقوق المدنية والعلمية والدينية والسياسية والاقتصادية والأدبية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
فَلَزامِ لَزامِ بالقراءة، لأن الذين يعرفون ماذا يقرأون وكيف يقرأون هم الذين سيقودون المواكب الإنسانية في هذا العالم الفاغر فاه لابتلاع الشعوب التي لا تسعى إلى بناء المنار في سبيل العلم والمعرفة؛ وبلغتها الوطنية؛ لأن الذي لا يتعلم بلغته الوطنية يبقى على الدوام تابعا متسوِّلا مُكتفيا بالإقبال على خُشارة موائد الآخرين التي لا تزيده إلا ضَعفا وصَغَارا.
أكاديمي مغربي
المراجع
1 - مستقبل الثورة الرقمية (العرب والتحدي القادم)، كتاب العربي نخبة من الكتاب، رقم 55، ص 125 يناير 2004 مطبعة الكويت.
2-الاستعجال: المفهوم غير المفهوم (بحث) غير منشور لصاحبه عبد الله ايت الاعشير.
3- القراءة.. أولا، محمد عدنان سالم، 38و39، ط2. 1423ه/2002م، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق.
4- القَزَعُ: من طُرُق قَصِّ الشَّعَر، وقد نهى الرسول "صلى الله عليه وسلم" عن هذه الطريقة، حيث يُقَصُّ شعر الرأس من الفودَيْن والقَفَا، ويترك شعر قُنَّة الرأس.
5- العقل العربي ومجتمع المعرفة، مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول، د.نبيل علي، الجزء الثاني 53و54، سلسلة عالم المعرفة، عدد 37، ديسمبر 2009م، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.
6- المرجع نفسه ص61.
الأجدان : الليل والنهار، ويعرب إعراب المقصور، وليس إعراب المثنى.
7- الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعرفة، د.نبيل علي ود.نادية حجازي، عالم المعرفة عدد 318، ص163، جمادى الآخرة 1426ه- 2005م المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.
8- أهمية اللغات وعناية الأمم بها، د.محمد بلاسي (المجلة العربية) عدد 393- ص 105، المملكة العربية السعودية.
-----------------------------
http://www.alwaei.com/site/index.php?cID=989
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» عبدالله الريحاني (عبدالله د علي )في ذمة الله
» عن القارئ والقراءة
» العولمة الثقافية
» العولمة: 'تصورات ومواقف'
» حكاياتنا الشعبية في زمن العولمة
» عن القارئ والقراءة
» العولمة الثقافية
» العولمة: 'تصورات ومواقف'
» حكاياتنا الشعبية في زمن العولمة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى