البيعة المشروطة لعبد الحفيظ
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
البيعة المشروطة لعبد الحفيظ
عبد العالي حامي الدين
مشروع
دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان
العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة كما يحاول أن «يجتهد» البعض
اليوم، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل
واحد منهما.
دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان
العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة كما يحاول أن «يجتهد» البعض
اليوم، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل
واحد منهما.
منذ
مؤتمر الجزيرة، تطورت معارضة العلماء، واحتدت صيحاتهم لتأخذ بعدا جديدا،
فلم يظلوا مقتصرين على دفع السلطان لتبني ما يلزم من المواقف، بل دفع بهم
يأسهم إلى إظهار مولاي عبد العزيز بمظهر «المذنب المتواطئ قهرا مع عدو
الله والدين في احتلال أخذ يعم البلاد»)من فتوى علماء مراكش في إعلان
مولاي عبد الحفيظ سلطانا(.
ولاحظ العلماء أن زيادة التغلغل الأوربي المدني والعسكري يخلف أضرارا
سياسية واقتصادية واجتماعية خطيرة، وأن السلطة عجزت عن تطويق هذا الغزو
ومواجهة أضراره، بل ساهم عجزها وفسادها في تزايد تلك الأضرار.
ولمواجهة هذه الظروف عملوا على استحضار وتجميع مختلف الأدلة
التاريخية والفقهية لتنظيم العلاقة بين المجتمع والسلطة، مما يدل على أن
أصل الأزمة كان مرتبطا بالخلل الموجود في هذه العلاقة.
ومن أهم الوقائع التي أثارت سخط العلماء والعامة قبل مؤتمر الجزيرة:
«إحداث ضريبة «الترتيب» في صورة إصلاح جبائي، واحتلال فرنسا لمناطق تيد
يكلت وتيكورارين كمرحلة في خطة اقتطاع أطراف من التراب المغربي وضمها
للتراب الجزائري، والمناداة على الجنرال ليوطي ليتولى قيادة الجيش الفرنسي
في منطقة جنوبي وهران والتخوم الجزائرية المغربية، وبداية خطته لاحتلال
بشار ومناطق من أرض فكيك، وتدبير فتنة الروكي بوحمارة التي استنزفت ابتداء
من عام 1903 أموال المخزن وجهوده، وعقد أوفاق إنجليزية فرنسية كان من
مقتضياتها إطلاق اليد الفرنسية في المغرب، وممارسة ضغوط مالية بعد أن قدمت
قروض أجنبية للمخزن اقتطعت منها الفوائد ورسوم السمسرة... والضغط على
السلطان مولاي عبد العزيز لقبول الشروط التي حملها الوزير الفرنسي
طايلانديي من طنجة إلى فاس، وما نجم عن ذلك من الاحتجاج الألماني، وزيارة
كيوم الثاني لطنجة، ثم استقالة وزير الخارجية دياكاسي، فالدعوة إلى مؤتمر
الخزيرات (6 يناير -7 أبريل 1906) الذي خرج بشروط أقرت الكثير من التدخلات
الأجنبية وأحدثت امتيازات أخرى زاد معها الغضب الشعبي، مما أدى إلى مقتل
الدكتور موشان بمراكش، واستغلال هذا الحادث من طرف الجنرال ليوطي المتربص
في الحدود حيث قام باحتلال وجدة، واصطدام سكان الدار البيضاء والشاوية
بالأجانب المحتلين للمرسى وما نشأ عن هذا الاصطدام من نزول الجيوش
الفرنسية والقيام بمقتلة عظيمة في أزقة المدينة واحتلال أرض الشاوية.
في هذه الظروف الصعبة، بدأت تظهر نخبة من المطلعين على تجارب التقدم
والنهضة لدى الأمم الأخرى في المشرق وفي أوربا، وبدؤوا بالدعوة إلى تغيير
الأوضاع السياسية على أساس أن إنقاذ الدولة مرتبط برفض الانصياع للضغوط
الاستعمارية مع الاستناد إلى مبدأ استشارة أهل الحل والعقد عند اتخاذ قرار
يهم مصير الأمة.
ولم يستطع السلطان عبد العزيز المقيم بفاس آنذاك، أن يواجه شروط
الدبلوماسيين ومطالب الدائنين وتكاليف التمردات ومقترحات الإصلاحيين وتذمر
الشعبيين.
وفي هذا السياق، أعلن بمراكش بتاريخ 6 رجب 1325هـ – 16 غشت 1907م عن
خلع المولى عبد العزيز وبيعة أخيه المولى عبد الحفيظ سلطانا بعاصمة
الجنوب، في الوقت الذي كان يقود حملة للمعارضة تدور حول تحرير المناطق
المحتلة، والحض على الجهاد والقيام به، وطرد الأجانب من البلاد، وفسخ
ارتباط السلطان بمقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء، (ظل عبد الحفيظ ما بين
وفاة أبيه في 1894 إلى وفاة باحماد في 1900 مبعدا عن أي نشاط سياسي رسمي
مكتفيا بمراقبة الأحداث وإحصاء أخطاء أخيه، وابتداء من 1901 أصبح نائبا
للسلطان في مراكش، ولذلك انفتح أمامه مجال للتحرك، وإبداء المعارضة، خاصة
بعد اعتقال مولاي عبد العزيز في نفس السنة 1901).
وقد تمت هذه البيعة بحضور الباشا وكبار القياد في الحوز والأطلس
ونائب السلطان بتافيلالت والعلماء، وليس في نص بيعة المولى عبد الحفيظ
بمراكش، ما هو استثنائي من المقتضيات أو التوصيات، وإنما تضمن إدانة لعهد
أخيه بسبب «موالاة الكافرين ونبذ شروط الكتاب والسنة وفساد مصالح الأمة،
وإسناد أمور الدين إلى الجهلة، ونبذ الزكاة لفظا ومعنى وحكما، وتبديلها
بقانون الكفرة» و«نهب الأموال وسفك الدماء وتسليم وجدة والاستيلاء على
الدار البيضاء»، وفي نفس السنة وجه خطابا إلى محمد الكتاني بفاس يناشده
التعاون من أجل حماية المغرب من الأطماع الاستعمارية، وطالبا منه البيعة
قائلا: «وأعلمنا بهذا لتأخذ حظك من الفرح وتوجه بيعتك لشريف حضرتنا سائلين
منكم صالح الأدعية بإعزاز هذا الدين الشريف وتأييده وإعانة جنابنا على
القيام بأمور المسلمين»، «لأن كمال بيعة السلطان عبد الحفيظ كانت تتوقف
على بيعة المدن الأخرى وأهمها مدينة فاس عاصمة السلطان المنازع وحاضرة
الجماعة الكبرى من الموسومين بأهل الحل والعقد وهم من علماء القرويين ومن
الأشراف ومن الأعيان من مختلف الحيثيات».
وكان العلماء قد أصدروا فتوى سابقة مباشرة بعد إعلان بيعة مراكش
بحوالي أسبوعين، يعلنون فيها عدم جواز الخروج على الإمام ويعتبرون فيها أن
«الخارج مولاي حفيد، (استخدام هذا المصطلح «مولاي حفيد» فيه نوع من القدح
والتحريض وعدم الرضا) المذكور يجري عليه الحكم المشار إليه بقول خليل:
الباغية فرقة خالفت الإمام لمنع حق أو لخلعه فللعدل قتالهم، وأما التعليل
الذي أبداه من يريد نكث العهد والقيام على السلطان الذي ثبتت بيعته فلا
يقبل منه [...]، وأما حكم الجهاد في الحال والوقت فالنظر فيه لمولانا
المنصور بالله [...] وحيث ثبت أن لا مفاجأة (للعدو) بقي الحكم المتقدم على
حاله وأنه لا يجوز الخروج على سيدنا أدام الله علاه...».
ولم يستقر رأي العلماء على هذه الفتوى، واندلعت ثورة حركها الكتانيون
في أواخر دجنبر 1903، وعقب ذلك انطلقت مواجهات عسكرية بين قوات الأخوين في
وادي تكاوت عند بوعكيبة، أسفرت عن تقهقر جناح مولاي عبد العزيز، وفي هذا
السياق تم خلع السلطان عبد العزيز ومبايعة مولاي حفيظ من قبل سكان فاس،
ووقع التعبير الشرعي عن هذا التحول بتحرير عدة وثائق أظهر فيها العلماء
قيادتهم للجماعة وأخذوا الوقت المخول لهم لإجراء مسطرة كاملة للإشهاد
والفتوى، ولإضفاء المزيد من الشرعية على قراراتهم.
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: البيعة المشروطة لعبد الحفيظ
مسطرة البيعة
لم يكن النص النهائي لبيعة فاس نصا عاديا، فقد جاء مخالفا في صيغته
المفصلة، لنصوص البيعات التاريخية التي تنص على المبادئ العامة المتضمنة
«لحفظ الدين وحماية بيضة المسلمين وإجراء الأحكام على قواعد الشرع» دون
الدخول في التفاصيل، وغالبا ما كانت صيغ البيعة تتوسع في مفهوم الطاعة
الملزمة للمبايعين.
ويذكر عبد الرحمن بن زيدان أن البيعة هي «عقد يتضمن التزام السلطان
الجديد يمضيه من بيده الحل والعقد ولهم كلمة مسموعة في الأمة، من وزراء
وعمال وقضاة وأمناء وشرفاء وعلماء وقواد الأجناد ورؤساء الحرف».
وقد كانت مهمة علماء فاس مزدوجة، أولا: خلع عبد العزيز وإقناع العامة
بذلك، ثم مبايعة عبد الحفيظ وفق شروط يرونها هي الكفيلة بالخروج من
الأزمة.
لذلك سلكوا مسطرة متدرجة تطلبت منهم تحرير خمس وثائق قبل النص السادس والنهائي للبيعة المشروطة:
الوثيقة الأولى تضمنت سؤالا موجها إلى العلماء حول جواز خلع السلطان
مولاي عبد العزيز بعد أن اختلت في عهده الأحكام كإبدال الزكاة «بالترتيب»
وإحداث البنك المؤدي إلى الربا، واقتراض الأموال من الأجانب، وسلب السلاح
من المسلمين ومنعهم من قتال جيش الاحتلال المرابط بالدار البيضاء. ولم
تتضمن الوثيقة الجواب عن السؤال، وفضل العلماء موقف التريث لإنضاج الرأي
العام.
الوثيقة الثانية: ملحقة بالأولى، نصت على انتخاب سكان مدينة فاس
نوابا عنهم للتوقيع على السؤال الموجه إلى العلماء في موضوع جواز الخلع،
وتصريحهم بذلك أمام العدول، وذلك للدلالة على أن موضوع الخلع طرح من قبل
عامة الناس ولم يكن «بتحريض» من العلماء.
الوثيقة الثالثة: يشهد فيها أعيان فاس وشرفاؤها ورماتها ورؤساؤها
وتجارها بأن الأمير مولاي عبد العزيز صدرت عنه أمور منكرة شرعا وطبعا،
كموالاة الأجانب وتبذير المال، وإحداث البنك (...)، وتمكين بعض الأجانب من
بلاد المسلمين... وفي مقدمة الوثيقة دلالة واضحة على أن مختلف الشرائح
والفئات الاجتماعية مستاءة من نهج السلطان، وهذا سيمهد الطريق أمام
العلماء الذين سيقومون بـ«التعبير عن الإرادة العامة فقط».
الوثيقة الرابعة: وهي التي تضمنت جواب العلماء عن سؤال الجماعة،
استنادا إلى الحجج التي تقدم بها الشهود، ونصت على وجوب الخلع (وليس فقط
على جوازه كما طلب من العلماء). وقد وقع هذا الجواب ثمانية عشر من أعلام
علماء فاس على رأسهم محمد العراقي ومحمد بن عبد الكبير الكتاني وأحمد بن
المواز.
الوثيقة الخامسة: وهي وثيقة الخلع، التي تضمنت الإعلان عن ذلك من
طرف العامة والخاصة، سواء منهم الأعيان الذين تقدموا بالسؤال، أو العلماء
الذين أفتوا بوجوب الخلع إضافة إلى الفقهاء والشرفاء والتجار وغيرهم.
الوثيقة السادسة: وهي تكتسي أهمية خاصة بحيث تضمنت بيعة أهل فاس
للمولى عبد الحفيظ، وهي صادرة عن «جميع أهل فاس الإدريسية (...) وسائر
أشرافهم ورماتهم وعلمائهم وقضاتهم وكبرائهم ونقبائهم ومرابطيهم وصلحائهم
وأعيانهم وخاصتهم وعامتهم، وكذلك أهل فاس الجديد»، وقد تمت يوم فاتح ذي
الحجة 1325 هـ/5يناير 1908م.
وهي بيعة لها أهمية خاصة لأنها تحمل توقيع علماء فاس، ومعلوم أن «عقد
البيعة كان يكتب بفاس أولا في غالب الأحيان، وإذا بويع الملك الجديد في
غيرها (كما حصل مع عبد الحفيظ بمراكش) فلا تعتبر بيعته تامة وسلطنته شرعية
إلا بعد اعتراف فاس به».
كما أنها تكتسي أهمية استثنائية بالنظر إلى الشروط التي تضمنتها، والتي لم يرتح لها السلطان عبد الحفيظ وأغاظته كثيرا.
عبد العالي حامي الدين
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
محمد عبد الكبير الكتاني رائد الحركة الدستورية
عبد العالي حامي الدين
هو
محمد بن عبد الكبير بن محمد الكتاني (1290-1327هـ/1873-1909م)، كان يتمتع
بشخصية قوية ونابغة في العلم والدين، أسس الطريقة الكتانية، واكتسب شعبية
واسعة، وألف كتبا هامة، ونظرا لقوته العلمية، فقد ترأس مجلس الأعيان بفاس،
وقاد نقاشا قويا مع الممثل الفرنسي بفاس في المحادثات التي جرت على عهد
السلطان عبد العزيز، وعندما ذهب إلى الحج قضى سنة كاملة بين القاهرة
والمدينة، والتقى خلالها برواد حركة الجامعة الإسلامية التي كانت تسعى إلى
تدعيم النفوذ السياسي للقسطنطينية، وإقرار البيعة التقليدية التي كان
المغرب آخر من حافظ عليها، وعند عودته من الشرق سنة 1904 أعطى نفسا جديدا
للمعارضة الدينية، وظل يحذر من السقوط في الإصلاحات الأوربية، ويدعو إلى
الاقتداء بتركيا المسلمة. كان الكتاني من وراء الشروط المضمنة في البيعة
الحفيظية، والتي تسببت في خلافات عميقة له مع المولى عبد الحفيظ، فقرر
الخروج من فاس إلى الأطلس المتوسط، واغتنمها الفرنسيون فرصة فحرضوا القصر
عليه مدعين أنه فر سرا إلى الأطلس من أجل العمل على الوصول إلى العرش،
فبعث السلطان عبد الحفيظ فرقة من الجيش قبضت عليه بين فاس ومكناس، وردته
إلى القصر الملكي بفاس حيث ضرب ضربا شديدا حتى مات.
وقد كان من المتشبعين بالأفكار الإصلاحية الدستورية، وكان متحمسا
للتنصيص على جملة من الشروط الواردة في نص البيعة، حتى إن بعض الجهات
سمتها «الشروط الكتانية».
ولتفعيل مقتضيات هذه البيعة وشروطها، تقدم الشيخ محمد بن عبد الكبير
الكتاني إلى السلطان عبد الحفيظ بمذكرة يقترح فيها عرض وثيقة الجزيرة
الخضراء على ندوة وطنية، يشترك فيها مندوبون مختارون من مدن المغرب
وقبائله، وما اجتمع عليه رأيهم من بنود اللائحة يصادق عليها السلطان، ومن
بين ما جاء في هذه الرسالة:
«... والذي يلوح للعيان، ويشهد بحسنه الجنان، أن مولانا السلطان
يتخلص من أوربا ومن شعبه، بأن يجيبها الآن: بأن غاية ما يطالب به إلقاء
هذه المشكلة وأمثالها على أهل المغرب، ويعلن مولانا –أيده الله- أن القول
في ذلك للشعب، فما قرره أمضاه ونفذه، بأن يختار مولانا –دام علاه- من كل
قبيلة وفرقة وبلدة أصحاب الشطارة والذكاء والحزم والضبط، أو يحضر فيه
(كذا) كل من يطلب الحضور، لأنه يجري فيه حق الجميع، فكل يتكلم بحسب ما سنح
له، ويلقي على هذا المجمع العمومي مطالب أوربا، وما يتنزل عليه الفكر
الأخير من الجميع يرفع إليها، فيتخلص مولانا السلطان بذلك من مسؤولية
أوربا ومن مسؤولية شعبه، لأن المجلس المذكور إذا قرر–إذ ذاك- تنفيذ
المؤتمر؛ فتكون المسؤولية على أعضائه، لا على مولانا السلطان، فلا يلغو
لاغ، وإذا قرروا إلغاءه؛ فتكون المسؤولية على الرعية لا على السلطان،
ويلزمها السلطان –إذ ذاك- بنفقات الحروب، وتعميم العسكرية، لأن الحرب لا
بد أن نشد أوزارها مع عدم قبوله، وإن أهل المجلس المذكور إذا انتخبوا
بالشريطة المذكورة التي هي الأهلية والتدريب وممارسة السياسات الأجنبية،
بحيث يكونون ممن حنكتهم التجارب (...) لا يلغون المؤتمر رأسا، لما أنه قد
ضمن مصالح ذاتية للمغرب لا توازيها الغواني ولا العوابي، فتطلب الأمة
تعديل بعض بنوده التي يقر قرار المجمع الأهلي على كونه ضارا مضرا بالمصلحة
المغربية، ومجحفا بحقوق الدين والوطن، ولا بدع في ذلك، بل هو منهج مسلوك
بين الدول...».
إن تحليل هذه الرسالة يفيد بأن التصور السياسي الذي كان يحاول تركيزه
الكتاني من خلال مبادراته المختلفة، هو تعزيز موقع الأمة وحقها في مباشرة
السيادة الوطنية، ومحاولة إحداث نوع من الديمقراطية بالحد من السلطة
المطلقة التقليدية التي كان يتمتع بها السلطان عادة ويفسح المجال أمام
هيئة تمثيلية تبلغ صوت الأمة.
ومن شأن تحقيق هذا النوع من التوازن في السلطة أن يلقي المسؤولية على
عاتق الأمة لا على السلطان وحده، كما أنه سيضع الأجانب أمام شعب وقيادته
في آن واحد، ولا يسمح لهم بالاستفراد بالسلطان وحده.
ولا تخلو الرسالة من واقعية سياسية تنم عن متابعة دقيقة للأحداث
والوقائع، وعن إدراك عميق لموازين القوى الموجودة، فهي تتوقع أن أعضاء
الهيئة المذكورة إذا كانوا يتمتعون بحس سياسي متقد وبتجربة عملية في
ممارسة السياسة الخارجية (الأجنبية) فإنهم لن يقوموا بإلغاء مقررات مؤتمر
الجزيرة الخضراء جملة وتفصيلا، وإنما سيتحفظون على بعض البنود المضرة
بالمصلحة المغربية، والمجحفة في حق الدين والوطن، ويطالبون بتعديلها. كما
هو متعارف عليه بين الدول، وكما حدث مع «بروسيا أواخر القرن المنصرم بعد
حرب ألمانيا وفرنسا».
كما أن اللغة التي كتبت بها الرسالة– وإن كانت لا تخلو من أسلوب
المجاملات مع السلطان- فهي لا تتردد في إملاء بعض التوجيهات عليه بصيغة
الأمر تنفيذا لمقتضيات البيعة المشروطة، وحسب الرسالة فإن المطلوب من
مولانا الإمام ألا يبرم شيئا من قبول المؤتمر أو عدمه، أو قبول الحمايات»
لأن «أول من يدخل فيها هم وزراء المخلوع»، كما تمنعه من الاقتراض الخارجي
و«طلب شيء من البنك» لأن ذلك يدخل في مضامين وثيقة الجزيرة الخضراء،
«والتصرف فيه قبول له، وقبوله يلزمنا سائر بنود المؤتمر»، إلى غير ذلك من
الإشارات التي تحد من اختصاصات الملك، بل تذهب مقترحات الشيخ الكتاني إلى
منع الملك من «التفاوض في هذه الأمور أو إبرامها نفيا وإثباتا، مع أي شخص
كان (...) إلا بعد أخذ آراء رعيته في كل مشكل».
وللتخلص من تركة السلطان المخلوع ومن رموز العهد السابق، ترى الرسالة
أنه «من الضروري اللازم –قبل كل شيء- تبديل أعضاء دار النيابة كليا»،
وتتهمهم بأنهم «أشربوا سياسة فرنسا في لحمهم ودمهم، فلا يتمشون إلا
بإشارتها».
المساء
30/9/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
إرهاصات دستور 1908
مشروع دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة كما يحاول أن «يجتهد» البعض اليوم، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل واحد منهما.
للمزيد من تركيز مضامين البيعة المشروطة، بعث الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني إلى السلطان عبد الحفيظ رسالة حول تنظيم مجلس الشورى في دار المخزن بفاس الجديد، والذي أحدث للفصل في القضايا الشرعية، ولكن الكتاني يعطيه مضمونا آخر، ويعتبر أن الأفراد المعينين به «أنهم لم يشعروا بالمعنى المقصود من هذا المجلس»، فمآله –حسب فهم الكتاني- أن يكون مجلسا للأمة»، ولتحقيق هذا الغرض، فهو بحاجة إلى تدخل السلطان لكي «يجعل لهذه الأمور ضوابط وأسس لا تنخرم»، كا يقترح عليه أسماء بعض العلماء التي يراها أهلا لتحمل المسؤولية في هذا المجلس كـ«الفقيه المدرس الناسك الدين سيدي عبد العزيز بناني فإنه أهل لها، لمتانة دينه ولشدة فاقته».
إن المحاولات المتكررة لإرساء دعائم السلطة على أسس تنظيمية كانت تمهد الطريق للمطالبة بضرورة توفر البلاد على دستور واضح، وهو الذي لم يتأخر كثيرا، «فبعد مرور أربعة أشهر على صدور وثيقة البيعة، ظهر مشروع الدستور الذي نشرت نصوصه على صفحات جريدة «لسان المغرب»، في شهري أكتوبر ونوفمبر من سنة 1908.
ولكن قبل ذلك نشر أحد الكتاب بنفس الجريدة مقالا مركزا، يفيدنا في إبراز العلاقة بين علماء فاس الذين كانوا وراء البيعة الحفيظية، وبين مشروع دستور 1908، الذي لم يكن إلا امتدادا للبيعة المشروطة، التي يعتبرها البعض «بيعة دستورية».
جاء في أحد المقالات المنشورة على أعمدة هذه الجريدة: «بما أن الوقت قد دعا إلى الإصلاح، والشبيبة العصرية قد هللت قلوبها وانشرحت صدورها له، وجلالة سلطاننا الجديد (عبد الحفيظ) يعرف لزومه، فنحن لا نألو جهدا في المناداة بطلبه على صفحات الجرائد من جلالته، وهو يعلم أننا ما قلدناه بيعتنا، واخترناه لإمامتنا، وخطبنا وده رغبة منا وطوعا من غير أن يجلب علينا بخيل ولا رجال، إلا أملا في أن ينقذنا من وهدة السقوط التي أوصلنا إليها الجهل والاستبداد، فعلى جلالته أن يحقق رجاءنا، وأن يبرهن للكل عن أهليته، ومقدرته على ترقية شعبه، وعلى رغبته في الإصلاح، وجدارته بإدارة ما قلدته أمته (...) وبما أن يدا واحدة لا تقدر على إنهاض شعب من وهدة سقوطه، وعلى إصلاح إدارة مختلة كإدارة حكومتنا، فيجب أن تكون الأيدي المتصرفة، والعقول المفكرة، والأفكار المدبرة، كثيرة متكاثفة على العمل، وعليه فلا مناص ولا محيد لجلالته أن يمنح أمته نعمة الدستور ومجلس النواب، وإعطاءها حرية العمل والفكر لتقوم بإصلاح بلادها، اقتداء بدول الدنيا الحاضرة: المسلمة والمسيحية...».
غير أن هذه المبادرات باءت كلها بالفشل بسبب الأوضاع الداخلية وتحت ضغط القوات الأجنبية، وقبول المولى عبد الحفيظ معاهدة الجزيرة الخضراء، واعتراف الدول الأوربية به سلطانا على المغرب، وعجزه عن الاستمرار في الجهاد أمام تقدم القوات الفرنسية في الشاوية.
واضطر المولى عبد الحفيظ إلى الخضوع لكل الشروط التي برر بها خلع أخيه، وهو ما سيبرر القطيعة والتوجس الذي وقع بين السلطان وعلماء فاس، خصوصا محمد بن عبد الكبير الكتاني، هذه القطيعة التي ستكون– حسب رأينا- هي الدافع إلى التستر وراء جريدة «لسان المغرب» لنشر مشروع دستور 1908 في أربعة أعداد متتالية بين 11 أكتوبر و1 نونبر 1908.
إن المحاولات المتكررة لإرساء دعائم السلطة على أسس تنظيمية كانت تمهد الطريق للمطالبة بضرورة توفر البلاد على دستور واضح، وهو الذي لم يتأخر كثيرا، «فبعد مرور أربعة أشهر على صدور وثيقة البيعة، ظهر مشروع الدستور الذي نشرت نصوصه على صفحات جريدة «لسان المغرب»، في شهري أكتوبر ونوفمبر من سنة 1908.
ولكن قبل ذلك نشر أحد الكتاب بنفس الجريدة مقالا مركزا، يفيدنا في إبراز العلاقة بين علماء فاس الذين كانوا وراء البيعة الحفيظية، وبين مشروع دستور 1908، الذي لم يكن إلا امتدادا للبيعة المشروطة، التي يعتبرها البعض «بيعة دستورية».
جاء في أحد المقالات المنشورة على أعمدة هذه الجريدة: «بما أن الوقت قد دعا إلى الإصلاح، والشبيبة العصرية قد هللت قلوبها وانشرحت صدورها له، وجلالة سلطاننا الجديد (عبد الحفيظ) يعرف لزومه، فنحن لا نألو جهدا في المناداة بطلبه على صفحات الجرائد من جلالته، وهو يعلم أننا ما قلدناه بيعتنا، واخترناه لإمامتنا، وخطبنا وده رغبة منا وطوعا من غير أن يجلب علينا بخيل ولا رجال، إلا أملا في أن ينقذنا من وهدة السقوط التي أوصلنا إليها الجهل والاستبداد، فعلى جلالته أن يحقق رجاءنا، وأن يبرهن للكل عن أهليته، ومقدرته على ترقية شعبه، وعلى رغبته في الإصلاح، وجدارته بإدارة ما قلدته أمته (...) وبما أن يدا واحدة لا تقدر على إنهاض شعب من وهدة سقوطه، وعلى إصلاح إدارة مختلة كإدارة حكومتنا، فيجب أن تكون الأيدي المتصرفة، والعقول المفكرة، والأفكار المدبرة، كثيرة متكاثفة على العمل، وعليه فلا مناص ولا محيد لجلالته أن يمنح أمته نعمة الدستور ومجلس النواب، وإعطاءها حرية العمل والفكر لتقوم بإصلاح بلادها، اقتداء بدول الدنيا الحاضرة: المسلمة والمسيحية...».
غير أن هذه المبادرات باءت كلها بالفشل بسبب الأوضاع الداخلية وتحت ضغط القوات الأجنبية، وقبول المولى عبد الحفيظ معاهدة الجزيرة الخضراء، واعتراف الدول الأوربية به سلطانا على المغرب، وعجزه عن الاستمرار في الجهاد أمام تقدم القوات الفرنسية في الشاوية.
واضطر المولى عبد الحفيظ إلى الخضوع لكل الشروط التي برر بها خلع أخيه، وهو ما سيبرر القطيعة والتوجس الذي وقع بين السلطان وعلماء فاس، خصوصا محمد بن عبد الكبير الكتاني، هذه القطيعة التي ستكون– حسب رأينا- هي الدافع إلى التستر وراء جريدة «لسان المغرب» لنشر مشروع دستور 1908 في أربعة أعداد متتالية بين 11 أكتوبر و1 نونبر 1908.
د. عبد العالي حامي الدين
المساء
03/10/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
طبيعة عمل المجلسين في دستور 1908
مشروع
دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان
العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة كما يحاول أن «يجتهد» البعض
اليوم، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل
واحد منهما.
دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان
العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة كما يحاول أن «يجتهد» البعض
اليوم، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل
واحد منهما.
يقضى
مشروع الدستور بأن المجلسين «يفتحان لمباشرة أشغالهما في وقت واحد بموجب
أمر سلطاني» (المادة السادسة والثلاثون). ويفتح منتدى الشورى «بحضور
السلطان شخصيا أو بحضور الوزير الأكبر (الأول)، وأعضاء المجلسين، فيتلى
الكتاب السلطان المؤذن بمباشرة الأشغال» (المادة السابعة والثلاثون).
وتتجلى طريقة عمل المجلسين في البت في الأمور حسب ترتيبها الزمني،
وفي حالة تعارض أمرين على درجة واحدة من الترتيب الزمني، يقدم أهمها على
الآخر، وللمنتدى وحده تقدير درجة نفع أو ضرر ما يبت فيه من مسائل شريطة أن
يباشر هذا البت مجلس الأمة أولا، ثم من بعده مجلس الشرفاء.
ويتمتع أعضاء المجلسين بنوع من «الحصانة البرلمانية» كما تكفلها
القوانين الحديثة، فكل «عضو من أعضاء منتدى الشورى حر في آرائه لا خوف
عليه من المخزن ورجاله على الإطلاق، ولا يتقيد بأمر من الأمور، ولا يساء
به الظن ولا يتهم بتهمة لكونه قال ما شاء أن يقول، ولو أنه انتقد على
الوزير الأكبر أو الوزراء» (المادة التاسعة والثلاثون). كما يعبر هذا النص
عن منتهى الإقرار بحرية الرأي واستقلال المؤسسة التشريعية.. إن الأمر
يتعلق بثقافة سياسية حديثة كانت لاتزال طرية في وعي النخبة المغربية
الإصلاحية قبل تسعة عقود (..) أي هو يتعلق بأفكار جديدة تسبح ضد ثقافة
سلطانية تقليدية لم تكن ترى في استقلال المرء برأي مخالف للسلطة سوى أمارة
على الخروج عن الجماعة وإعلان صريح للعصيان. غير أن هذه الحصانة ترفع عن
العضو في حالة اتهامه «بخيانة الأمة أو بمحاولة إبطال الدستور أو بالرشوة
وثبتت عليه التهمة بموجب قرار الأكثرية من المجلسين فيسقط من عضوية المجلس
ويجازى حسب أفعاله» (المادة الأربعون).
ولا يمكن أن يشرع المجلسان في مباشرة أشغالهما إلا بحضور نصف
أعضائهما على الأقل، كما لا يتم إصدار أي قرار إلا إذا حظي بأغلبية نصف
عدد الأصوات زائد صوت واحد، و»إذا تساوت الأصوات يحسب للرئيس صوتان لتعتبر
الأغلبية بجانبه» (المادة الحادية والأربعون). وتكون الجلسات مغلقة غير
معلنة، باستثناء حضور «السلطان والوزراء وخلفائهم وقاضي القضاة وخليفته أو
من يكون بيده إذن خاص من السلطان يقدم لرئيس المجلس قبل الحضور بيوم واحد»
(المادة الثالثة والأربعون).
أما عن كيفية أعمال المجلس الداخلية، فإن المشروع يحيل على قانون خاص بذلك، وهو على شاكلة القوانين الداخلية للبرلمانات الحديثة.
وبخصوص مهام منتدى الشورى، نعثر على ملحق في نهاية المشروع، صيغ
بطريقة تشبه المقتضيات العامة التي ترد عادة في نهاية الدساتير الحديثة،
من قبيل تحديد من يوكل إليهم الدستور شؤون التعديل والتغيير في مقتضياته
أو بعض البنود الجامدة التي لا تقبل التعديل، ولكننا في هذا الملحق نقف
عند صلاحيات حقيقية، كان من الأولى أن توضع في متن المشروع، حيث «يهتم
منتدى الشورى(..) بسن وتنظيم قوانين كل إدارة من الإدارات الحكومية:
للوزارات والمحاكم في القصبات ولدار النيابة، وللمحاكم القضائية والعدول،
ولأمانة الاستفادة، وللحسبة، ولأمانة الديوانات، والعسكرية، وللمدارس،
وللضرائب والجبايات وغيرها، فيكون لكل من هذه الإدارات والأمور المخزنية
قانون خاص بها تسير بموجبه وتعمل بمقتضاه» (المادة الثانية والتسعون).
ويتضح من هذا النص أن واضعي مشروع دستور 1908 تحكمهم إرادة بناء دولة
المؤسسات التي تنتظم في إطار قوانين واضحة صادرة عن الجهاز التمثيلي الذي
يعبر عن إرادة المواطنين، وهم بهذا يعبرون عن تأثرهم الواضح بالتجربة
الديمقراطية الأوربية.
ولكن المادة الحادية والتسعين تجعل «رأي منتدى الشورى فوق كل رأي،
ويقضي العمل به في كل حال وله المراقبة على الإدارات والدوائر المخزنية
بلا استثناء»، وهو ما يتنافى مع روح المشروع الذي يمنح للسلطان صلاحيات
واسعة وسلطات أعلى من سلطة المجلس النيابي، «حيث إن أية مسطرة توفيقية لم
ينص عليها في حالة الخلاف بين الملك والأجهزة الحكومية أو البرلمانية، وفي
ما بين تلك الأجهزة نفسها».
ولعل إشكالا عويصا كان من المحتم أن يطرح لو دخل هذا الدستور حيز
التطبيق»، ولكن هذا النص ينم على تمثل واضعي الدستور لفلسفة النموذج
البرلماني المعتمد في إنجلترا، ويظهر ذلك من خلال تبني نظام الثنائية
المجلسية، غير أن الظروف السياسية التي كانت تمر بها البلاد آنذاك، كانت
تفرض عليهم تعزيز الموقع السياسي للسلطان، وهو ما حال دون اعتماد المنطق
البرلماني إلى حدوده المثلى، لاقتناعهم بأن الظرف السياسي لا يسمح بذلك.
ولكننا نقف من جهة أخرى على المادة الثالثة والتسعون التي يمكن أن
تستنبط منها شيئا آخر، فهي تنص على أنه «لا يسوغ لأحد أن يبطل من مواد هذا
الدستور الأساسي، ولا يوقف العمل بها لأي سبب كان على الإطلاق، وأن يغير
منها شيئا أو ينقله أو يزيد عليه مادة أو ينقص مادة، ما عدا منتدى الشورى
الذي له وحده أن يفعل ذلك»، فأسلوب القطع في هذه المادة يفيد بأن السلطان
نفسه «لا يملك أن يأتي هذا فوق الدستور»، وهذا تعبير صريح عن اقتران دسترة
السلطة لدى العلماء، بتحجيم سلطات الملك، وتحويل النظام السياسي القائم من
نظام الملكية المطلقة إلى نظام الملكية الدستورية، كما عبر عن ذلك علال
الفاسي.
هيئة الوزراء أو المجلس الوزاري
وهم حسب التسمية الأصلية الواردة في المشروع «كبار المسؤولين في المخزن» أو»هيئة الوزارة» كما ورد في المادة الثالثة والستين.
وتتشكل هذه الهيئة من الوزير الأكبر «الذي يعينه السلطان» (المادة
السابعة والخمسون)، بالإضافة إلى الوزراء الخمسة الذين يقترحهم الوزير
الأكبر (المشروع يقول «ينتخب)، «ويعرض أسماءهم على منتدى الشورى، فإن قر
الرأي عليهم يعرضون على الملك ويصادق على تعيينهم» (المادة الثامنة
والخمسون)، والوزراء الخمسة هم: وزير الحرب، وزير المالية، وزير الخارجية،
وزير الداخلية، وزير المعارف.
الملفت للنظر في مسطرة تعيين الوزراء، هو أننا بصدد نظام برلماني
يعطي الحق للمجلس النيابي «منتدى الشورى» الحق في تنصيب الحكومة، أو في
رفضها، وهذا يعد «ثورة دستورية» بالنظر إلى الوعي السياسي لتلك المرحلة،
أي أن هناك نوعا من المسؤولية الحكومية تجاه منتدى الشورى.
وللوزير الأكبر مكانة متميزة عن باقي الوزراء، فإن عزل مثلا من منصبه
أو اعتزل من تلقاء نفسه «عزل معه سائر الوزراء وسقطت الوزارة (أي
الحكومة)»، وأما إن «عزل الوزراء جميعهم فلا يعزل الوزير الأكبر ولا تسقط
وزارته» المادة الستون، ولا يتحدث المشروع عما سمي في الفقه الدستوري
المعاصر بالتضامن الحكومي، بل إن «كل وزير ينظر في الأمور المتعلقة
بوزارته الداخلة في دائرة وظيفته (..) وكل وزير مسؤول شخصيا بما يتعلق
بأمور وزارته» (المادة الحادية والستون)، ولكن الوزير الأكبر مسؤول عن
جميع تصرفات الوزراء وإجراءاتهم. ومن مظاهر الديمقراطية المتقدمة في دستور
1908 أنه يعطي لهيئة الوزارة الحق في تعيين «عمال بلدان السلطنة وقبائلها»
و»يحق لمنتدى الشورى أن يعارض في تعيين عامل لم يره جديرا بالوظيفة، ويعمل
برأي المنتدى على كل حال»، وهو ما لم تتوفق في تحقيقه جميع الإصلاحات
الدستورية المتعاقبة على الدستور المغربي، حيث إن سلطة تعيين العمال
مازالت بيد السلطان، وليس هناك دور يذكر سواء للبرلمان أو للحكومة،
باستثناء بعض اللقاءات الشكلية التي تعقدها الوزير الأول مع الولاة
والعمال في السنوات الأخيرة.
كما تستعين هيئة الوزراء لتسيير الشأن العام إلى المحتسبين والأمناء
«الذين تقوم بتعيينهم لوحدها»، أما «القضاة وأهل الفتوى والعدول فيعينهم
قاضي القضاة بموافقة مجلس الشرفاء» (المادة السادسة والستون)، ورغم دقته
النسبية «فإن دستور 1908 يبقى على أية حال غامضا شيئا ما حول بعض النقط،
وهكذا فإن القواعد الخاصة بوراثة التاج تبقى جد غامضة، فمنح الإمامة إلى
«أحد أكثر المقربين الذي يظهر أكبر ما يمكن من النضج» يفتح المجال لكل
أنواع التطلعات، فمع كل تغيير في الحكم هناك خطر حرب أهلية».
عبد العالي حامي الدين
المساء
08/10/2008
ربيع- عدد الرسائل : 1432
العمر : 48
تاريخ التسجيل : 04/07/2008
التدبير الديمقراطي للمال العام في دستور 1908
تلعب المؤسسات المنتخبة دورا كبيرا في ممارسة دور الرقابة على المال
العام، وقد أناط بها مشروع دستور 1908 بعض المهام الدقيقة التي تعتبر
اليوم من صميم النظام الديمقراطي الحديث.
وهكذا فإن وزارة المالية –حسب المشروع- مطالبة بأن «تسلم إلى منتدى
الشورى في خاتمة كل شهر لائحة داخل الدولة وخارجها مفصلة تفصيلا جزئيا
مصادقا عليها من الوزير الأكبر» (المادة السابعة والستون)، وهذا الكشف
بالمداخيل والنفقات في آخر كل شهر، سيمكن ممثلي الشعب من المراقبة الدقيقة
للتدبير المالي الحكومي، وسيحد من إمكانية استغلال أموال الدولة.
كما أن المشروع يلزم هيئة الوزارة بأن لا تنفق أي شيء من مال الدولة
في أي سبيل كان «ما لم يصادق عليه منتدى الشورى «المادة الثامنة والستون.
ويستعين مجلس الأمة لتفعيل هذه الرقابة على المستوى اللامركزي،
«بهيئة للتفتيش مؤلفة من ستة أعضاء ورئيس، تنقسم إلى قسمين، يتجول كل قسم
منها في نواحي السلطنة وبلدانها بصفة دائمة للبحث في كل أمور الإدارات
المخزنية، فيزور كل بلدة وقبيلة مرة في كل أربعين يوما على الأقل، ويبعث
بتقارير إلى الرئيس الذي يكون مقامه في نفس مجلس الأمة»، كما يستمع إلى
شكاوى المواطنين ويتوصل بعرائض التظلم، و»يحق لهيئة التفتيش أن توفق أيا
من الموظفين» إذا ثبت خلل في أعماله، باستثناء نائبي طنجة ومراكش، ويباح
لها أن تضع في مكان الموظف المعفى من يقوم مقامه مؤقتا، ريثما يأتي جواب
منتدى الشورى في أمره» المادة السبعون.
هذه الهيئة هي بمثابة مجلس للحسابات يتقصى مسالك المال العام، ويتتبع أوجه إنفاقه، ويقوم بدور الرقابة في عين المكان.
ومن الطرائف في مشروع دستور 1908 أنه يحدد رواتب كبار موظفي الدولة
كالوزراء والأمناء، وكذلك النواب: أعضاء مجلس الأمة، وذلك إمعانا في الدقة
والحرص، وسد الطريق أمام الجشع والطمع في استغلال المال العام الذي يتبعه
امتلاك السلطة أو القرب منها.
كما يحدد منتدى الشورى في جلساته الأولى، المبلغ المالي الواجب
للسلطان، وهذا من أسمى مظاهر الشفافية والتدبير الديمقراطي للمال العام.
غير أنه بالرغم من أهمية هذا المشروع، فإنه لم يلق أي صدى لدى المخزن
الحفيظي، خصوصا بعد القطيعة التي حصلت بين السلطان وبين جماعة «لسان
المغرب» منذ البيعة المشروطة.
كما أن هذا المشروع لم يكن له صدى في الأوساط الشعبية العامة، خصوصا
في البوادي الثائرة، التي لم تكن ترى في تجاوز واقع الاحتلال والتسلط
الأجنبيين للمناطق المغربية غير المواجهة المباشرة.
والواقع أن المغرب كان يعيش آخر أيام استقلاله الذي استطاع أن يحافظ
عليه أزيد من عشرة قرون، على خلاف الدول المجاورة، فكان التوقيع على
معاهدة الحماية بصفة رسمية يوم 30 مارس 1912، إيذانا بدخول المغرب مرحلة
جديدة، على كافة المستويات، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. ولم
يكن الفكر السياسي المغربي في هذه المرحلة بمنأى عن هذا التحول، فكل فترة
تاريخية تفرز منظريها، والمفكرين الذين يعبرون عن آمال وتطلعات المرحلة.
خلاصات واستنتاجات
هكذا يتبدى لنا الدور السياسي والفكري الذي قام به العلماء للإسهام في
المسألة الدستورية، وفي تنظيم السلطة في بداية القرن، من خلال مجموعة من
المشاريع الدستورية التي تأرجحت بين الرجوع إلى الشرع والقوانين
الإسلامية، وإضافة أفكار جديدة ذات مصدر غربي أوربي.
ومن الواضح أن المسألة الدستورية في المغرب «تفتقت في لحظة خيم عليها
البحث عن مشروع مجتمعي يكفل للمغاربة التقدم والارتقاء على مصاف الدول
الأوربية آنذاك»، والتخلص من هيمنتها، وذلك على خلاف التطور الدستوري في
الغرب الذي اندرج أساسا ضمن مشروع ديمقراطي، مر بالعديد من المراحل ومن
المحطات الصراعية عبر تراكمات تاريخية متعاقبة ومسترسلة، قبل أن يصل إلى
تقييد السلطة وتوسيع فضاء الحرية.
وانطلاقا من هذه الحقيقة يمكن أن نستنتج بعض الخلاصات.
إن الاقتناع بالمسالة الدستورية، لم يكن نتيجة تطور داخلي محض بالرغم
من أهمية هذا العامل، ولكن المحرك الأساسي لها كان هو المواجهة مع الغرب،
مع بداية الاحتلال الأوربي، وما أحدثه من تحولات داخل النسيج الاجتماعي
والثقافي، وكذا ما أحدثه من تأثير مباشر على مستوى الدولة وجهاز الحكم،
فهذه المواجهة أو الصدمة مع الآخر، هي التي دفعت الوعي المغربي إلى تشخيص
المعوقات التي تعرقل الإقلاع، وفي نفس الوقت، تحديد سبل التقدم والارتقاء
إلى مستوى الدولة الغربية. وقد حددت النخبة المفكرة الأسباب الأساسية
للتأخر في سيادة الجهل على المستوى الاجتماعي، وفي الاستبداد على المستوى
السياسي، واتفقت على ضرورة وضع حد للجهل من خلال اكتساب المعرفة وإشاعة
التعليم، والقضاء على الاستبداد من خلال الدسترة. ويمكن اقتباس مقولة خير
الدين التونسي حول هذه الثنائية للدلالة على ذلك، فهو إن لم يكن مغربيا،
فإنه يعبر عن نفس اهتمامات النخبة المغربية بحيث اعتبر أن: «.. سعادة
الممالك وشقاءها في أمورها الدنيوية، إنما تكون بقدر ما تيسر لملوكها من
العلم والمعرفة، وبقدر ما لها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل
ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها».
ارتهن العلماء بالمسألة الدستورية، وعلقوا عليها آمال الإصلاح
والتقدم، واعتبروا تحقيق الدستور هو «البلسم الشافي للأمراض التي تنخر
كيان المجتمع» على كافة المستويات، ولم يتعاملوا مع الدستور على أساس أنه
تعبير قانوني وسياسي عن نظام معين، وإنما ربطوا يبن الدسترة والإصلاح
الشامل، في وقت كان فيه المغرب تحت مجهر المراقبة الأوربية وضغط الدول
الاستعمارية التي كانت تتدرج في النيل من سيادته، فلم يكن الدستور أداة
لتنظيم السلطة وضبطها فقط، بل كان بمثابة برنامج متكامل لتجاوز الأوضاع
المأزومة على كافة المستويات، ولذلك نلاحظ أن جميع المشاريع الدستورية
المنجزة في تلك المرحلة تخصص بنودا للحديث عن أهمية التعليم، ودور المدرسة
الوطنية، والمدارس الصناعية والزراعية، كذلك تنظيم الإدارة، وكيفية تعيين
الموظفين، بل وحتى رواتبهم، ومالية الدولة وطرق مراقبتها، إلى غير ذلك من
القضايا التي تنم عن منظور إصلاحي شامل وتتجاوز السقف المسموح به للدستور
عادة.
ويمكن القول بأن المشروع الإصلاحي الذي كانت تتشوق إلى تحقيقه فئة العلماء يتخلص في النقاط التالية:
إصلاح سياسي ودستوري قائم على فلسفة الشورى، وجعل القرار بيد ممثلي
الأمة ووفق إرادتها، وإلغاء نظام الاستبداد والتسيير الفردي وإعادة
الاعتبار إلى مفهوم الأمة.
إصلاح إداري صارم، مع خلع العناصر الإدارية الفاسدة أو التي ثبت
تواطؤها مع الأجانب والوقوف في وجه جميع النزعات السلطوية والاستبدادية
والمصلحية.
رفع الوصاية الأجنبية عن المغرب، ورفض التدخل الخارجي وإعادة الاعتبار إلى مفاهيم الحرية والاستقلال والسيادة.
الاهتمام بالعلوم الدينية والحياتية وخلق الوسائل الضرورية لذلك.
إعطاء المكانة الأولى للشريعة الإسلامية وجعلها مصدرا لجميع التشريعات والقوانين.
البحث عن التحالف والتعاون مع البلدان الإسلامية المستقلة، وهي رغبة عبرت عنها معظم الكتابات في تلك المرحلة.
عبد العالي حامي الدين
المساء
09/10/2008
العام، وقد أناط بها مشروع دستور 1908 بعض المهام الدقيقة التي تعتبر
اليوم من صميم النظام الديمقراطي الحديث.
وهكذا فإن وزارة المالية –حسب المشروع- مطالبة بأن «تسلم إلى منتدى
الشورى في خاتمة كل شهر لائحة داخل الدولة وخارجها مفصلة تفصيلا جزئيا
مصادقا عليها من الوزير الأكبر» (المادة السابعة والستون)، وهذا الكشف
بالمداخيل والنفقات في آخر كل شهر، سيمكن ممثلي الشعب من المراقبة الدقيقة
للتدبير المالي الحكومي، وسيحد من إمكانية استغلال أموال الدولة.
كما أن المشروع يلزم هيئة الوزارة بأن لا تنفق أي شيء من مال الدولة
في أي سبيل كان «ما لم يصادق عليه منتدى الشورى «المادة الثامنة والستون.
ويستعين مجلس الأمة لتفعيل هذه الرقابة على المستوى اللامركزي،
«بهيئة للتفتيش مؤلفة من ستة أعضاء ورئيس، تنقسم إلى قسمين، يتجول كل قسم
منها في نواحي السلطنة وبلدانها بصفة دائمة للبحث في كل أمور الإدارات
المخزنية، فيزور كل بلدة وقبيلة مرة في كل أربعين يوما على الأقل، ويبعث
بتقارير إلى الرئيس الذي يكون مقامه في نفس مجلس الأمة»، كما يستمع إلى
شكاوى المواطنين ويتوصل بعرائض التظلم، و»يحق لهيئة التفتيش أن توفق أيا
من الموظفين» إذا ثبت خلل في أعماله، باستثناء نائبي طنجة ومراكش، ويباح
لها أن تضع في مكان الموظف المعفى من يقوم مقامه مؤقتا، ريثما يأتي جواب
منتدى الشورى في أمره» المادة السبعون.
هذه الهيئة هي بمثابة مجلس للحسابات يتقصى مسالك المال العام، ويتتبع أوجه إنفاقه، ويقوم بدور الرقابة في عين المكان.
ومن الطرائف في مشروع دستور 1908 أنه يحدد رواتب كبار موظفي الدولة
كالوزراء والأمناء، وكذلك النواب: أعضاء مجلس الأمة، وذلك إمعانا في الدقة
والحرص، وسد الطريق أمام الجشع والطمع في استغلال المال العام الذي يتبعه
امتلاك السلطة أو القرب منها.
كما يحدد منتدى الشورى في جلساته الأولى، المبلغ المالي الواجب
للسلطان، وهذا من أسمى مظاهر الشفافية والتدبير الديمقراطي للمال العام.
غير أنه بالرغم من أهمية هذا المشروع، فإنه لم يلق أي صدى لدى المخزن
الحفيظي، خصوصا بعد القطيعة التي حصلت بين السلطان وبين جماعة «لسان
المغرب» منذ البيعة المشروطة.
كما أن هذا المشروع لم يكن له صدى في الأوساط الشعبية العامة، خصوصا
في البوادي الثائرة، التي لم تكن ترى في تجاوز واقع الاحتلال والتسلط
الأجنبيين للمناطق المغربية غير المواجهة المباشرة.
والواقع أن المغرب كان يعيش آخر أيام استقلاله الذي استطاع أن يحافظ
عليه أزيد من عشرة قرون، على خلاف الدول المجاورة، فكان التوقيع على
معاهدة الحماية بصفة رسمية يوم 30 مارس 1912، إيذانا بدخول المغرب مرحلة
جديدة، على كافة المستويات، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. ولم
يكن الفكر السياسي المغربي في هذه المرحلة بمنأى عن هذا التحول، فكل فترة
تاريخية تفرز منظريها، والمفكرين الذين يعبرون عن آمال وتطلعات المرحلة.
خلاصات واستنتاجات
هكذا يتبدى لنا الدور السياسي والفكري الذي قام به العلماء للإسهام في
المسألة الدستورية، وفي تنظيم السلطة في بداية القرن، من خلال مجموعة من
المشاريع الدستورية التي تأرجحت بين الرجوع إلى الشرع والقوانين
الإسلامية، وإضافة أفكار جديدة ذات مصدر غربي أوربي.
ومن الواضح أن المسألة الدستورية في المغرب «تفتقت في لحظة خيم عليها
البحث عن مشروع مجتمعي يكفل للمغاربة التقدم والارتقاء على مصاف الدول
الأوربية آنذاك»، والتخلص من هيمنتها، وذلك على خلاف التطور الدستوري في
الغرب الذي اندرج أساسا ضمن مشروع ديمقراطي، مر بالعديد من المراحل ومن
المحطات الصراعية عبر تراكمات تاريخية متعاقبة ومسترسلة، قبل أن يصل إلى
تقييد السلطة وتوسيع فضاء الحرية.
وانطلاقا من هذه الحقيقة يمكن أن نستنتج بعض الخلاصات.
إن الاقتناع بالمسالة الدستورية، لم يكن نتيجة تطور داخلي محض بالرغم
من أهمية هذا العامل، ولكن المحرك الأساسي لها كان هو المواجهة مع الغرب،
مع بداية الاحتلال الأوربي، وما أحدثه من تحولات داخل النسيج الاجتماعي
والثقافي، وكذا ما أحدثه من تأثير مباشر على مستوى الدولة وجهاز الحكم،
فهذه المواجهة أو الصدمة مع الآخر، هي التي دفعت الوعي المغربي إلى تشخيص
المعوقات التي تعرقل الإقلاع، وفي نفس الوقت، تحديد سبل التقدم والارتقاء
إلى مستوى الدولة الغربية. وقد حددت النخبة المفكرة الأسباب الأساسية
للتأخر في سيادة الجهل على المستوى الاجتماعي، وفي الاستبداد على المستوى
السياسي، واتفقت على ضرورة وضع حد للجهل من خلال اكتساب المعرفة وإشاعة
التعليم، والقضاء على الاستبداد من خلال الدسترة. ويمكن اقتباس مقولة خير
الدين التونسي حول هذه الثنائية للدلالة على ذلك، فهو إن لم يكن مغربيا،
فإنه يعبر عن نفس اهتمامات النخبة المغربية بحيث اعتبر أن: «.. سعادة
الممالك وشقاءها في أمورها الدنيوية، إنما تكون بقدر ما تيسر لملوكها من
العلم والمعرفة، وبقدر ما لها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل
ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها».
ارتهن العلماء بالمسألة الدستورية، وعلقوا عليها آمال الإصلاح
والتقدم، واعتبروا تحقيق الدستور هو «البلسم الشافي للأمراض التي تنخر
كيان المجتمع» على كافة المستويات، ولم يتعاملوا مع الدستور على أساس أنه
تعبير قانوني وسياسي عن نظام معين، وإنما ربطوا يبن الدسترة والإصلاح
الشامل، في وقت كان فيه المغرب تحت مجهر المراقبة الأوربية وضغط الدول
الاستعمارية التي كانت تتدرج في النيل من سيادته، فلم يكن الدستور أداة
لتنظيم السلطة وضبطها فقط، بل كان بمثابة برنامج متكامل لتجاوز الأوضاع
المأزومة على كافة المستويات، ولذلك نلاحظ أن جميع المشاريع الدستورية
المنجزة في تلك المرحلة تخصص بنودا للحديث عن أهمية التعليم، ودور المدرسة
الوطنية، والمدارس الصناعية والزراعية، كذلك تنظيم الإدارة، وكيفية تعيين
الموظفين، بل وحتى رواتبهم، ومالية الدولة وطرق مراقبتها، إلى غير ذلك من
القضايا التي تنم عن منظور إصلاحي شامل وتتجاوز السقف المسموح به للدستور
عادة.
ويمكن القول بأن المشروع الإصلاحي الذي كانت تتشوق إلى تحقيقه فئة العلماء يتخلص في النقاط التالية:
إصلاح سياسي ودستوري قائم على فلسفة الشورى، وجعل القرار بيد ممثلي
الأمة ووفق إرادتها، وإلغاء نظام الاستبداد والتسيير الفردي وإعادة
الاعتبار إلى مفهوم الأمة.
إصلاح إداري صارم، مع خلع العناصر الإدارية الفاسدة أو التي ثبت
تواطؤها مع الأجانب والوقوف في وجه جميع النزعات السلطوية والاستبدادية
والمصلحية.
رفع الوصاية الأجنبية عن المغرب، ورفض التدخل الخارجي وإعادة الاعتبار إلى مفاهيم الحرية والاستقلال والسيادة.
الاهتمام بالعلوم الدينية والحياتية وخلق الوسائل الضرورية لذلك.
إعطاء المكانة الأولى للشريعة الإسلامية وجعلها مصدرا لجميع التشريعات والقوانين.
البحث عن التحالف والتعاون مع البلدان الإسلامية المستقلة، وهي رغبة عبرت عنها معظم الكتابات في تلك المرحلة.
عبد العالي حامي الدين
المساء
09/10/2008
iswal- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 1023
Localisation : CASA
Emploi : j'ai 1 travail
تاريخ التسجيل : 03/08/2006
الاحتراس من خلق تعارض بين الدستور والإسلام
مشروع
دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان
العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة كما يحاول أن «يجتهد» البعض
اليوم، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل
واحد منهما.
دستور 1908 كان امتدادا للبيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، حيث كان
العلماء لا يتصورون البيعة كتفويض مطلق للسلطة كما يحاول أن «يجتهد» البعض
اليوم، وإنما هي تعاقد حقيقي بين الحاكم والمحكوم يحدد حقوق وواجبات كل
واحد منهما.
إن
التباس المسألة الدستورية بالقضية الإصلاحية، والتحديثية بصفة عامة، رافقه
بعض التميز في ما يتعلق بالمصدر المرجعي الذي انطلقت منه محاولات الدسترة
الأولى: «فالذين فكروا في المسألة الدستورية، بالرغم من جميع الاختلافات
القائمة في ما بينهم، ظلوا مرتبطين بالمرجعية الدينية». وبذلك تميزت
التجربة الدستورية المغربية في مهدها بسياق فكري مختلف عن نظيراتها في
أوربا، فالمسألة الدستورية طرحت في المغرب على يد مفكرين وفلاسفة ارتبطت
اجتهاداتهم النظرية بمناهضة الكنيسة، وجعلت من فصل الدين عن الدولة المدخل
الأول لبناء العلاقات بين الحاكمين والمحكومين، وبالتالي لقيام الدستور في
الغرب، بحيث أصبحت العلمانية إحدى السمات المميزة للنهضة السياسية
والدستورية التي عاشتها أوربا.
بينما تشكل المنهج التوفيقي بين المؤسسات السياسية الحديثة والإسلام،
معالم المنهج المعتمد من قبل العلماء في المغرب، وذلك انطلاقا من اعتبار
الاقتباس والاستفادة من التجربة الغربية لا يتنافى مع جوهر الإسلام. وبذلك
أصبحت هذه النزعة التوفيقية هي السمة البارزة في الخطاب الدستوري المغربي،
حتى اللحظة الراهنة، بالموازاة مع الاحتراس الشديد من خلق أي تعارض بين
الدستور والإسلام. وقد برز ذلك واضحا من خلال علاقات التجاور والتعايش
التي أقامتها بين النظام السلطاني والنظام الحديث، بحيث لم تعترض على
المؤسسة السلطانية ولم تطعن في شرعيتها، ولم تعتبرها «ملكا جبريا» «بل
صادقت عليها وفي الوقت نفسه حاولت البحث عن مصادر أخرى للشرعية»، وهكذا
حصل ذلك التجاور بين نظام البيعة بمحتواها الديني لتنصيب «الإمام» وبين
النظام الدستوري بمفهومه السياسي».
إن حصيلة هذه الرغبة في مواءمة المفاهيم الدستورية ذات النشأة
الغربية ومحاولة تبيئتها داخل التربة العربية الإسلامية، تبدو ضعيفة
وتفتقر إلى عمق تنظيري واضح، فالبرغم من الإطناب في استنكار الاستبداد
والدعوة إلى الدسترة بقي التفكير في دراسة المسألة السياسية باعتبارها
دراسة لمشكلة الدولة والمجتمع والعلاقة بينهما تفكيرا سطحيا، ولم يكتب له
أن يطور نموذجا دستوريا متكاملا نابعا من الخصوصيات المحلية ومستجيبا
لحاجيات مواصفات الدسترة، بما تعنيه من مؤسساتية ومن بناء تنظيمي محكم
يستلهم قيم الشورى والعدل والحرية والمساواة، ويعبر عنها من خلال أشكال
سياسية واضحة.
ومع ذلك، ومن باب الموضوعية والإنصاف، ينبغي أن نحاكم المحاولات
الدستورية بالنظر إلى وعي المرحلة التي تعبر فيها، فليس من صلاحيتنا
–علميا- أن نسمح لأنفسنا بالحكم على وعي قديم بتفكير حديث إلا في حدود
معينة، ولذلك يمكن القول بأن هذا «التخبط» والاضطراب في الفكر الدستوري
المغربي لبداية القرن ما هو في الحقيقة إلا تعبير عن البيئة التي نشأ فيها
والتي امتزجت فيها عناصر عديدة كالتدخل الأجنبي والانحطاط العسكري والعلمي
والرغبة الجامحة في الإصلاح، وبالموازاة مع ذلك «افتقاد الشرط الأساسي
لتبلور حركة دستورية صحية، ألا وهو المناخ اللبيرالي» وأجواء الحرية سواء
في العلاقة مع الأجانب والضغوطات الخارجية أو ما يتعلق بعلاقة العلماء مع
السلطة.
وهكذا فإن الأفكار السياسية والدستورية التي طرحت في تلك الحقبة لم
تتوفر فيها الشروط التاريخية المطلوبة، بقدر ما جاءت كرد فعل على الغزو
الاستعماري المدني العسكري، فقضية الشورى، مثلا، لم تبرز إلا مع التدخل
الخارجي الذي فجر هذه المسألة، وجعل العلماء يقتنعون بها كشرط من شروط
التقدم، وقد تطور تفعيل هذا المبدأ وتطويره في أشكال مؤسساتية مع تطور
الغزو الأوربي، وبالموازاة معه تطور الحس الاجتهادي عند العلماء، فالشورى
في البداية اختلف حولها العلماء، هل هي ملزمة أو من باب الاستئناس فقط،
وهذا راجع إلى سيادة مظاهر الاستبداد وطول هيمنته على الأوضاع السياسية،
حتى تصبح جزءا من بنية السلطة وأصبح التسليم به عقيدة فكرية، لم يستطع أن
يتخلص منها الوعي الفقهي للعلماء بسهولة، «ومع زيادة الضغط الأوربي
المدني، وخصوصا الضغط التجاري والسياسي، انتقلت فكرة الشورى إلى مستوى
التجربة العملية الشعبية»، مع تشكيل مجالس الأعيان التي كانت تضم الشخصيات
البارزة في البلاد، ثم تطورت لتشمل كل الفئات والطوائف ووحدات المجتمع،
كما تطورت الاجتهادات الدستورية التي حاولت الدفاع عن إلزامية نتائج
الشورى، كما طورت طريقة تشكيل هذه المجالس وحاولت تثبيت فكرة الانتخاب
الشعبي المستلهم من النموذج الأوربي المعاصر إلى حد كبير، مع تقييد نتائج
العمل البرلماني في هذه المجالس الشورية بمقتضيات الشريعة الإسلامية،
وتطوير النظام الفقهي الإسلامي ليجيب جوابا حديثا عن مسألة تتصل بالدولة
وبالفلسفة السياسية التي تقوم عليها. وهكذا أمكن للنظام المعرفي الإسلامي
أن يتكيف ويتعبأ لتجويز وقبول الفكرة الدستورية التي تقع في منظومة فكرية
مختلفة عنه وتتصل بجانب حساس جدا من جوانب رعاية الشؤون العامة: التدبير
السياسي للاجتماع الإسلامي، مما جعلها تمزج بين الأصالة والمعاصرة على
المستوى النظري، كان يمكن لو تحققت في الواقع، وسمحت الظروف السياسية
والاجتماعية بذلك، أن تنقذ المغرب من الانهيار، غير أن العوامل الداخلية
لم تكن مهيأة لإحداث هذا التطور والانتقال بالكيان السياسي المغربي من
المخزن التقليدي إلى الدولة الحديثة، هذا الانتقال الذي جوبه بالموقف
السلبي للمخزن، خصوصا في عهد السلطان عبد الحفيظ «حيث عمل بعض رموز هذا
العهد، ممن أسماهم علال الفاسي بالفيوذاليين، الذين عملوا على تحريض
السلطان ضدها مما كانت نتيجته إيقاف جريدة «لسان المغرب» بإيعاز من
الفرنسيين وتواطؤ من رجال المخزن»، كما أن الاستعمار كان لها بالمرصاد
بعدما سقط في قبضة الاحتلال رسميا ولم يكتب لهذه المحاولات أن تشتبك مع
الواقع، وظلت حبرا على ورق، ولكن من الواضح أن الحركة الوطنية التي قامت
في ظل الاحتلال استلهمت من هذا التراث الدستوري الشيء الكثير وسيترجمه
زعماء الحركة الوطنية في كتاباتهم الفكرية وفي نضالهم السياسي من أجل
الحرية والاستقلال والعدل.
عبد العالي حامي الدين
المساء
10/10/2008
said- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4523
العمر : 60
Emploi : موظف
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» المغرب المنقرض / والتر هاريس
» 'العرب والحداثة' لعبد الإله بلقزيز: غياب النماذج التطبيقية للاختيارات/ يوسف بن عدي
» «من النهضة إلى الحداثة» لعبد الإله بلقزيز: جيــل الحداثــة الثالــث - عمر كوش
» مولاي إسماعيل العلوي... أوراق من ذاكرة السياسة
» كلمات الاغاني المغربية
» 'العرب والحداثة' لعبد الإله بلقزيز: غياب النماذج التطبيقية للاختيارات/ يوسف بن عدي
» «من النهضة إلى الحداثة» لعبد الإله بلقزيز: جيــل الحداثــة الثالــث - عمر كوش
» مولاي إسماعيل العلوي... أوراق من ذاكرة السياسة
» كلمات الاغاني المغربية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى