'فيروز في السينما': ابنة الضيعة التي تحلم بالعدالة والحب البريء! /محمد منصور
صفحة 1 من اصل 1
'فيروز في السينما': ابنة الضيعة التي تحلم بالعدالة والحب البريء! /محمد منصور
خصص مهرجان دمشق السينمائي السادس عشر الذي انطلقت فعالياته مطلع شهر
تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، تظاهرة تكريمية للسيدة فيروز، بعنوان
(فيروز والسينما) من خلال عرض أفلامها السينمائية الثلاثة، التي شكلت قوام
تجربتها السينمائية مع الأخوين رحباني.
والواقع أن مهرجان دمشق
السينمائي، هو الأولى باستعادة تراث فيروز والأخوين رحباني السينمائي على
محدوديته، فالمنتج السوري المهندس نادر الأتاسي هو من أنتج هذه الأفلام،
في زمن لم تكن فيه شركات إنتاج سينمائي كبرى في سورية ولبنان في أواسط
ستينيات القرن العشرين... لا بل أن فكرة دخول الرحابنة إلى السينما، جاءت
من خلال الصحافي السوري المخضرم رجا الشربجي، الذي كان صديقاً للأخوين
الرحباني... وقد تحدث المبدع منصور الرحباني عن ولادة هذه الفكرة في
مذكراته حين قال:
(ذات يوم في جلسة خاصة مع صديق العمر رجا الشربجي،
قال: لماذا لا تلجون ميدان السينما؟ عندكم جميع مقومات العمل الناجح:
البطلة، التلحين، السيناريو... والفرقة الشعبية جاهزة... لماذا لا تأخذون
إحدى مسرحياتكم، وجميعها ناجحة وأحبها الجمهور، فتحولونها إلى فيلم
سينمائي؟! لمعت الفكرة في رأس عاصي، فاقتنع... وعقدنا في المكتب جلسة مع
مستشارنا كامل التلمساني وهو مخرج طليعي ورسام مصري غادر مصر لأسباب
سياسية فبات مستشار مكتبنا... وتحمس كامل كذلك لفكرة دخولنا عالم السينما،
بتحويل أحد أعمالنا المسرحية للشاشة).
(بياع الخواتم): دراما الإسقاط السياسي!
وهكذا
بدأت فيروز مسيرتها مع السينما، وحملت المصادفة يوسف شاهين في رحلة إلى
لبنان، فاغتنم الأخوان رحباني الفرصة واجتمعا به وعرضا عليه الفكرة فاقتنع
بها... واكتملت الشراكة الإنتاجية والفنية بانضمام المنتج السوري المهندس
نادر أتاسي كممول، فيما شارك الرحابنة وفيروز بالإنتاج مقابل أتعابهم. وفي
عام 1965 طلب المخرج يوسف شاهين بناء قرية لبنانية في (الأستوديو العصري)
قرب منطقة حرش بيروت، لتصوير فيلم (بياع الخواتم) المأخوذ عن مسرحية مغناة
للأخوين رحباني.
لعبت فيروز هنا (ريما) ابنة أخت المختار، المختار
الذي يوهم أهل قريته، بوجود مجرم شرير يهدد أمنهم هو المجرم (راجح) الذي
يتصدى له المختار دوماً في منازلات بطولية، تصوره كضرورة لأمن القرية ضد
الخطر المحدق بها... لكن الكذبة تنكشف، ويأتي (راجح) بياع الخواتم، ليبيع
خواتم الحب والألفة، وليطلب (ريما) زوجة لابنه... وهكذا ينتهي الفيلم
نهاية سعيدة، لتتحول قصته الشفافة إلى أمثولة في الإسقاط السياسي العميق
والبسيط... وفي اختراع السلطات القمعية لعدو وهمي، يبرر وجودها، ويسوغ
أكاذيبها عن حماية الأوطان من الشر القادم على أجنحة الذرائع... فالعدو
يغدو بعد ذلك ذريعة ليس للمختار فحسب... بل للصوص الذي يلصقون كل سرقاتهم
وجرائمهم به!
بنيت القرية في (بياع الخواتم) وفق منظور فني خاص...
فاللون الوردي يصنع هويتها البصرية... والديكور أشبه بماكيت قرية قديمة،
النسب فيه غير واقعية، والتفاصيل رغم دقتها لا تقارب وجه الحقيقة... إنها
صورة تجمع بين الواقع والحلم، بين القصة والكذبة، وبين جنوح خيال السلطة،
وظرف المصادفات الخيرة التي تفسح الطريق أمام النهايات السعيدة.
لكن
الفيلم حينذاك لم يحقق ربحاً مادياً كبيراً، بسبب شطط يوسف شاهين
الإنتاجي، فقد وضع ميزانية بلغت (220) ألف ليرة لبنانية، لكنها وصلت في
نهاية تصوير الفيلم إلى (600) ألف ليرة... ويصف منصور الرحباني في مذكراته
نتائج الفيلم المادية بأنها كانت (عند حدود الكارثة). لكن الفيلم خرج
بالصورة اللائقة، حاملا صورة حالمة للضيعة اللبنانية، فيها الكثير من
الشغف الرومانسي، لكن من دون سذاجة واستعراض فولكلوري أبله... فالفيلم حمل
فكرة سياسية عميقة، أخفاها خلف ثوبه الغنائي الشفاف، وروحه الشاعرية
المرحة... وشخصياته الكوميدية الشعبية... وقد لعب منصور الرحباني دور
(مخوّل) ليشكل ثنائياً كوميدياً مع فيلمون وهبة (سبع)... أما يوسف شاهين
فقد قال عن فيروز وهي تقف لأول مرة أمام كاميرا السينما:
(فوجئت
بالموهبة التمثيلية التي تتمتع بها... فيروز كنت أعرف أنها الصوت الوحيد
المتفرد، لكنها أثبتت أنها أيضاً واحدة من كبيرات ممثلات الشرق... تتمتع
بالبساطة والبساطة منبع الجمال).
(سفر برلك): صور الحب البريء والبطولة النقية!
عام
1966 صورت فيروز فيلمها السينمائي الثاني، وقد أراد الأخوان رحباني أن
يقدما قصة مكتوبة خصيصاً للسينما هذه المرة، فكان فيلم (سفر برلك) الذي
أسهم في كتابة السيناريو فيه إلى جانب الأخوين رحباني المخرج كامل
التلمساني... وقد كان الطموح كبيراً هذه المرة، فجاؤوا بمخرج فرنسي هو
(برنار فاريل) مع فريقه التقني... وقد أمضى هذا المخرج أسابيع في البحث عن
القرية المناسبة للتصوير، لكنهم فوجئوا في نهاية الأمر أنه يمضي نهاره في
مغامرات عاطفية، فأوقفوا التعامل معه وعاد إلى فرنسا... ليتم التعاون مع
المخرج المصري هنري بركات... الذي وضع ميزانية إنتاجية للفيلم لم
يتجاوزها، فكانت على قدر كبير من الدقة بعد نهاية تصوير الفيلم، بخلاف
ميزانية يوسف شاهين التي تضاعفت ثلاث مرات في الفيلم الأول.
في (سفر
برلك) الذي تدور أحداثه في قرية لبنانية زمن الحكم العثماني... تبحث فيروز
عن خطيبها الذي ذهب ليشتري خاتم الخطبة، فاعتقله العسكر العثماني، وساقوه
لقطع الأشجار لتسيير قطارات الحرب... لكن فيروز في عملية البحث هذه، تجد
نفسها أخيراً مشاركة مع القبضايات في حركة المقاومة الشعبية، ومشاركة
أيضاً في تهريب القمح لإطعام أهل القرية...
دراما بسيطة وشفافة، لا
تخلو من تشويق محكم، ومن علاقات حب بريء، وصور بطولة نقية... غنت فيه
فيروز للحب وللوطن وشدت برائعتها (نسم علينا الهوى) لتحكي عن الوطن والخوف
من الغربة، وناجت في صرختها الأثيرة (يا طير) ذلك المدى الذي يأخذ معه لون
الشجر ويترك لها النطرة والضجر... فوق ذلك البياض المترامي للثلج في قرى
جبل لبنان... أما عاصي الرحباني، فقد لعب دور زعيم هذه المقاومة (أبو
أحمد) مستعيداً الكثير من شخصيته وسيرة والده.
وقد عرض الفيلم في لبنان
وتونس والعراق والأردن وسورية، وواجه احتجاجات من السفارة التركية بحجة أن
الفيلم يسيء للأتراك... إلا أن الفيلم في مجمله، يقدم قصة حب وبطولة
وتضحية وطنية، بكثير من الشفافية الإنسانية ومن دون مبالغات، أو استعراضات
بطولية فاقعة... وقد شارك الفنان السوري رفيق السبيعي من خلال شخصيته
الشعبية (أبو صياح) كضيف شرف في الفيلم، الذي لم ينس فيه الرحابنة
الإطلالة على دمشق التي عشقوها وعشقتهم... وقدم لهم أحد منتجيها
السينمائيين التمويل المالي والإنتاجي.
(بنت الحارس) تناقضات الواقع الاجتماعي!
عام 1968 قدمت فيروز آخر أفلامها السينمائية: (بنت الحارس) الذي أخرجه هنري بركات أيضاً، والذي تعتبره فيروز أحب أفلامها إليها.
والواقع
أن (بنت الحارس) هو أعمق أفلام فيروز... وأكثرها قدرة على الغوص في الواقع
الاجتماعي... ففيه برع الأخوان رحباني في تصوير تناقضات الواقع الاجتماعي
في زمن الثراء والنهوض الاقتصادي، حيث تغيب العدالة، ويتفشى النفاق
الاجتماعي والفساد الإنساني... وذلك من خلال قصة حارسين ليليين، قضيا على
السرقات في بلدتهما بسهرهما على مصلحة الأهالي... فيقرر مجلس البلدية
صرفهما من الخدمة بدل مكافأتهما... وتقرر فيروز أو (نجمة) ابنة أحد
الحراس، إعادة اللصوص إلى البلدية بحوادث يفتعلها مجهول... وما المجهول
إلا (نجمة) التي تكشف فساد أعضاء المجلس البلدي، وتزيح النقاب عن العالم
السري لهؤلاء!
في (بنت الحارس) ثمة سيناريو محبوك درامياً بقوة...
وثمة شخصيات مبنية وفق مبررات درامية على قدر من التماسك والإقناع... وثمة
حكاية فيها تراجيديا الناس البسطاء وأغنياتهم، وألمهم وهم يبحثون عن لقمة
العيش، في وسط اجتماعي انقلبت موازينه... فكان لا بد من مرآة تكشف هذا
الزيف والفساد... حتى لو انتهت الحكاية نهاية سعيدة، يستعيد فيها المجتمع
الصغير توازنه وبعض أمسياته الجميلة.
صورة مختلفة لنجمات السينما!
في
الأفلام الثلاثة، ظهرت فيروز بأدوار خرجت عن النمط المألوف في أفلام
الستينيات التجارية في مصر... فهي ليست نجمة العشق والهوى... ولا المشاهد
العاطفية والمشاعر المتأججة... وإن كانت أغانيها السينمائية تعبر عن التوق
للحبيب... لكنه الحبيب الذي تختلط صورته بالوطن، وبالأهل، وبالحياة
البسيطة الهانئة، وبالعيش بكرامة... ولم تكن العلاقة العاطفية مقصودة
لذاتها في أي من هذه الأفلام... لأن فيروز جسدت فيها ابنة الضيعة
اللبنانية بذكائها الفطري، وخبرتها الحياتية، وانشغالها بهموم الحياة
والأهل، وحساسيتها العالية تجاه اختلال موازين العدل... سواء كانت بفعل
احتلال، أو بفعل فساد سلطة أو نظام اجتماعيين.
إن السينما الرحبانية،
لم تكن موجهة للنخبة، ولم تغرق في صيغ تجريبية أو جمالية مترفة... لكنها
في الوقت ذاته، كانت متقدمة فكراً وفناً وصياغة، عن كل السينما الجماهيرية
المصرية أو السورية أو اللبنانية التي كانت تقدم في زمنها... فقد كانت
صورة مثالية لسينما نظيفة، يسعى صناعها لاحترام تاريخهم الفني، وللتعاون
مع خبرات مشهود لها... ولتقديم أفكار نقدية تستحق التأمل... كل ذلك من
خلال صيغة سينمائية يشكل الغناء حجر زاوية فيها... لكن هذا الغناء (رغم
جمالياته وقيمته الفنية العالية) لا يأتي على حساب الجانب الدرامي،
فالأفلام لم تكن ذريعة لإفساح المجال لفيروز للغناء... بل كانت الدراما
تنهض بقوة وعذوبة لتكمل الجانب الغنائي في عمارة فنية بسيطة وبديعة، تبقى
اليوم تذكاراً من زمن رحباني جميل مضى... زمن لم تنسه ذاكرة السينما
العربية، ولا شاشات المحطات الفضائية في عصر البث الفضائي... ولم يستطع
الرحابنة أن يضيفوا إليه عملا رابعاً... رغم أن هذا العمل المأخوذ عن
مسرحية (هالة والملك) كان يجري التحضير له في سبعينات القرن العشرين،
بمشاركة الفنان دريد لحام... ومن إنتاج المهندس نادر أتاسي الذي اشترى
حقوق القصة... وتعثر إنتاجها لأسباب شتى... فضاعت بذلك حبة ثمينة من حبات
العقد السينمائي الفيروزي الجميل!
كاتب من سورية
تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، تظاهرة تكريمية للسيدة فيروز، بعنوان
(فيروز والسينما) من خلال عرض أفلامها السينمائية الثلاثة، التي شكلت قوام
تجربتها السينمائية مع الأخوين رحباني.
والواقع أن مهرجان دمشق
السينمائي، هو الأولى باستعادة تراث فيروز والأخوين رحباني السينمائي على
محدوديته، فالمنتج السوري المهندس نادر الأتاسي هو من أنتج هذه الأفلام،
في زمن لم تكن فيه شركات إنتاج سينمائي كبرى في سورية ولبنان في أواسط
ستينيات القرن العشرين... لا بل أن فكرة دخول الرحابنة إلى السينما، جاءت
من خلال الصحافي السوري المخضرم رجا الشربجي، الذي كان صديقاً للأخوين
الرحباني... وقد تحدث المبدع منصور الرحباني عن ولادة هذه الفكرة في
مذكراته حين قال:
(ذات يوم في جلسة خاصة مع صديق العمر رجا الشربجي،
قال: لماذا لا تلجون ميدان السينما؟ عندكم جميع مقومات العمل الناجح:
البطلة، التلحين، السيناريو... والفرقة الشعبية جاهزة... لماذا لا تأخذون
إحدى مسرحياتكم، وجميعها ناجحة وأحبها الجمهور، فتحولونها إلى فيلم
سينمائي؟! لمعت الفكرة في رأس عاصي، فاقتنع... وعقدنا في المكتب جلسة مع
مستشارنا كامل التلمساني وهو مخرج طليعي ورسام مصري غادر مصر لأسباب
سياسية فبات مستشار مكتبنا... وتحمس كامل كذلك لفكرة دخولنا عالم السينما،
بتحويل أحد أعمالنا المسرحية للشاشة).
(بياع الخواتم): دراما الإسقاط السياسي!
وهكذا
بدأت فيروز مسيرتها مع السينما، وحملت المصادفة يوسف شاهين في رحلة إلى
لبنان، فاغتنم الأخوان رحباني الفرصة واجتمعا به وعرضا عليه الفكرة فاقتنع
بها... واكتملت الشراكة الإنتاجية والفنية بانضمام المنتج السوري المهندس
نادر أتاسي كممول، فيما شارك الرحابنة وفيروز بالإنتاج مقابل أتعابهم. وفي
عام 1965 طلب المخرج يوسف شاهين بناء قرية لبنانية في (الأستوديو العصري)
قرب منطقة حرش بيروت، لتصوير فيلم (بياع الخواتم) المأخوذ عن مسرحية مغناة
للأخوين رحباني.
لعبت فيروز هنا (ريما) ابنة أخت المختار، المختار
الذي يوهم أهل قريته، بوجود مجرم شرير يهدد أمنهم هو المجرم (راجح) الذي
يتصدى له المختار دوماً في منازلات بطولية، تصوره كضرورة لأمن القرية ضد
الخطر المحدق بها... لكن الكذبة تنكشف، ويأتي (راجح) بياع الخواتم، ليبيع
خواتم الحب والألفة، وليطلب (ريما) زوجة لابنه... وهكذا ينتهي الفيلم
نهاية سعيدة، لتتحول قصته الشفافة إلى أمثولة في الإسقاط السياسي العميق
والبسيط... وفي اختراع السلطات القمعية لعدو وهمي، يبرر وجودها، ويسوغ
أكاذيبها عن حماية الأوطان من الشر القادم على أجنحة الذرائع... فالعدو
يغدو بعد ذلك ذريعة ليس للمختار فحسب... بل للصوص الذي يلصقون كل سرقاتهم
وجرائمهم به!
بنيت القرية في (بياع الخواتم) وفق منظور فني خاص...
فاللون الوردي يصنع هويتها البصرية... والديكور أشبه بماكيت قرية قديمة،
النسب فيه غير واقعية، والتفاصيل رغم دقتها لا تقارب وجه الحقيقة... إنها
صورة تجمع بين الواقع والحلم، بين القصة والكذبة، وبين جنوح خيال السلطة،
وظرف المصادفات الخيرة التي تفسح الطريق أمام النهايات السعيدة.
لكن
الفيلم حينذاك لم يحقق ربحاً مادياً كبيراً، بسبب شطط يوسف شاهين
الإنتاجي، فقد وضع ميزانية بلغت (220) ألف ليرة لبنانية، لكنها وصلت في
نهاية تصوير الفيلم إلى (600) ألف ليرة... ويصف منصور الرحباني في مذكراته
نتائج الفيلم المادية بأنها كانت (عند حدود الكارثة). لكن الفيلم خرج
بالصورة اللائقة، حاملا صورة حالمة للضيعة اللبنانية، فيها الكثير من
الشغف الرومانسي، لكن من دون سذاجة واستعراض فولكلوري أبله... فالفيلم حمل
فكرة سياسية عميقة، أخفاها خلف ثوبه الغنائي الشفاف، وروحه الشاعرية
المرحة... وشخصياته الكوميدية الشعبية... وقد لعب منصور الرحباني دور
(مخوّل) ليشكل ثنائياً كوميدياً مع فيلمون وهبة (سبع)... أما يوسف شاهين
فقد قال عن فيروز وهي تقف لأول مرة أمام كاميرا السينما:
(فوجئت
بالموهبة التمثيلية التي تتمتع بها... فيروز كنت أعرف أنها الصوت الوحيد
المتفرد، لكنها أثبتت أنها أيضاً واحدة من كبيرات ممثلات الشرق... تتمتع
بالبساطة والبساطة منبع الجمال).
(سفر برلك): صور الحب البريء والبطولة النقية!
عام
1966 صورت فيروز فيلمها السينمائي الثاني، وقد أراد الأخوان رحباني أن
يقدما قصة مكتوبة خصيصاً للسينما هذه المرة، فكان فيلم (سفر برلك) الذي
أسهم في كتابة السيناريو فيه إلى جانب الأخوين رحباني المخرج كامل
التلمساني... وقد كان الطموح كبيراً هذه المرة، فجاؤوا بمخرج فرنسي هو
(برنار فاريل) مع فريقه التقني... وقد أمضى هذا المخرج أسابيع في البحث عن
القرية المناسبة للتصوير، لكنهم فوجئوا في نهاية الأمر أنه يمضي نهاره في
مغامرات عاطفية، فأوقفوا التعامل معه وعاد إلى فرنسا... ليتم التعاون مع
المخرج المصري هنري بركات... الذي وضع ميزانية إنتاجية للفيلم لم
يتجاوزها، فكانت على قدر كبير من الدقة بعد نهاية تصوير الفيلم، بخلاف
ميزانية يوسف شاهين التي تضاعفت ثلاث مرات في الفيلم الأول.
في (سفر
برلك) الذي تدور أحداثه في قرية لبنانية زمن الحكم العثماني... تبحث فيروز
عن خطيبها الذي ذهب ليشتري خاتم الخطبة، فاعتقله العسكر العثماني، وساقوه
لقطع الأشجار لتسيير قطارات الحرب... لكن فيروز في عملية البحث هذه، تجد
نفسها أخيراً مشاركة مع القبضايات في حركة المقاومة الشعبية، ومشاركة
أيضاً في تهريب القمح لإطعام أهل القرية...
دراما بسيطة وشفافة، لا
تخلو من تشويق محكم، ومن علاقات حب بريء، وصور بطولة نقية... غنت فيه
فيروز للحب وللوطن وشدت برائعتها (نسم علينا الهوى) لتحكي عن الوطن والخوف
من الغربة، وناجت في صرختها الأثيرة (يا طير) ذلك المدى الذي يأخذ معه لون
الشجر ويترك لها النطرة والضجر... فوق ذلك البياض المترامي للثلج في قرى
جبل لبنان... أما عاصي الرحباني، فقد لعب دور زعيم هذه المقاومة (أبو
أحمد) مستعيداً الكثير من شخصيته وسيرة والده.
وقد عرض الفيلم في لبنان
وتونس والعراق والأردن وسورية، وواجه احتجاجات من السفارة التركية بحجة أن
الفيلم يسيء للأتراك... إلا أن الفيلم في مجمله، يقدم قصة حب وبطولة
وتضحية وطنية، بكثير من الشفافية الإنسانية ومن دون مبالغات، أو استعراضات
بطولية فاقعة... وقد شارك الفنان السوري رفيق السبيعي من خلال شخصيته
الشعبية (أبو صياح) كضيف شرف في الفيلم، الذي لم ينس فيه الرحابنة
الإطلالة على دمشق التي عشقوها وعشقتهم... وقدم لهم أحد منتجيها
السينمائيين التمويل المالي والإنتاجي.
(بنت الحارس) تناقضات الواقع الاجتماعي!
عام 1968 قدمت فيروز آخر أفلامها السينمائية: (بنت الحارس) الذي أخرجه هنري بركات أيضاً، والذي تعتبره فيروز أحب أفلامها إليها.
والواقع
أن (بنت الحارس) هو أعمق أفلام فيروز... وأكثرها قدرة على الغوص في الواقع
الاجتماعي... ففيه برع الأخوان رحباني في تصوير تناقضات الواقع الاجتماعي
في زمن الثراء والنهوض الاقتصادي، حيث تغيب العدالة، ويتفشى النفاق
الاجتماعي والفساد الإنساني... وذلك من خلال قصة حارسين ليليين، قضيا على
السرقات في بلدتهما بسهرهما على مصلحة الأهالي... فيقرر مجلس البلدية
صرفهما من الخدمة بدل مكافأتهما... وتقرر فيروز أو (نجمة) ابنة أحد
الحراس، إعادة اللصوص إلى البلدية بحوادث يفتعلها مجهول... وما المجهول
إلا (نجمة) التي تكشف فساد أعضاء المجلس البلدي، وتزيح النقاب عن العالم
السري لهؤلاء!
في (بنت الحارس) ثمة سيناريو محبوك درامياً بقوة...
وثمة شخصيات مبنية وفق مبررات درامية على قدر من التماسك والإقناع... وثمة
حكاية فيها تراجيديا الناس البسطاء وأغنياتهم، وألمهم وهم يبحثون عن لقمة
العيش، في وسط اجتماعي انقلبت موازينه... فكان لا بد من مرآة تكشف هذا
الزيف والفساد... حتى لو انتهت الحكاية نهاية سعيدة، يستعيد فيها المجتمع
الصغير توازنه وبعض أمسياته الجميلة.
صورة مختلفة لنجمات السينما!
في
الأفلام الثلاثة، ظهرت فيروز بأدوار خرجت عن النمط المألوف في أفلام
الستينيات التجارية في مصر... فهي ليست نجمة العشق والهوى... ولا المشاهد
العاطفية والمشاعر المتأججة... وإن كانت أغانيها السينمائية تعبر عن التوق
للحبيب... لكنه الحبيب الذي تختلط صورته بالوطن، وبالأهل، وبالحياة
البسيطة الهانئة، وبالعيش بكرامة... ولم تكن العلاقة العاطفية مقصودة
لذاتها في أي من هذه الأفلام... لأن فيروز جسدت فيها ابنة الضيعة
اللبنانية بذكائها الفطري، وخبرتها الحياتية، وانشغالها بهموم الحياة
والأهل، وحساسيتها العالية تجاه اختلال موازين العدل... سواء كانت بفعل
احتلال، أو بفعل فساد سلطة أو نظام اجتماعيين.
إن السينما الرحبانية،
لم تكن موجهة للنخبة، ولم تغرق في صيغ تجريبية أو جمالية مترفة... لكنها
في الوقت ذاته، كانت متقدمة فكراً وفناً وصياغة، عن كل السينما الجماهيرية
المصرية أو السورية أو اللبنانية التي كانت تقدم في زمنها... فقد كانت
صورة مثالية لسينما نظيفة، يسعى صناعها لاحترام تاريخهم الفني، وللتعاون
مع خبرات مشهود لها... ولتقديم أفكار نقدية تستحق التأمل... كل ذلك من
خلال صيغة سينمائية يشكل الغناء حجر زاوية فيها... لكن هذا الغناء (رغم
جمالياته وقيمته الفنية العالية) لا يأتي على حساب الجانب الدرامي،
فالأفلام لم تكن ذريعة لإفساح المجال لفيروز للغناء... بل كانت الدراما
تنهض بقوة وعذوبة لتكمل الجانب الغنائي في عمارة فنية بسيطة وبديعة، تبقى
اليوم تذكاراً من زمن رحباني جميل مضى... زمن لم تنسه ذاكرة السينما
العربية، ولا شاشات المحطات الفضائية في عصر البث الفضائي... ولم يستطع
الرحابنة أن يضيفوا إليه عملا رابعاً... رغم أن هذا العمل المأخوذ عن
مسرحية (هالة والملك) كان يجري التحضير له في سبعينات القرن العشرين،
بمشاركة الفنان دريد لحام... ومن إنتاج المهندس نادر أتاسي الذي اشترى
حقوق القصة... وتعثر إنتاجها لأسباب شتى... فضاعت بذلك حبة ثمينة من حبات
العقد السينمائي الفيروزي الجميل!
كاتب من سورية
عبدالله- عدد الرسائل : 1759
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 26/06/2008
مواضيع مماثلة
» تكريم محمد جسوس: السوسيولوجيا التي أقلقت جهات في البلاد
» فيروز
» كلمة الروائي والناقد الكبير محمد برادة التي ألقيت في ملتقى الفكر والأدب بالقصر الكبير.
» التعديلات الأخيرة التي أدخلت على الوثيقة الدستورية التي أعدتها لجنة المانوني
» ادخل ستجد مفاجأة لم تكن تحلم بها
» فيروز
» كلمة الروائي والناقد الكبير محمد برادة التي ألقيت في ملتقى الفكر والأدب بالقصر الكبير.
» التعديلات الأخيرة التي أدخلت على الوثيقة الدستورية التي أعدتها لجنة المانوني
» ادخل ستجد مفاجأة لم تكن تحلم بها
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى