لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
-1-
هو
عبد الله بن مسعود بن الحارث أبو عبد الرحمان الهذلي المكي، أحد السابقين
والبدريين والعلماء الكبار من الصحابة؛ أسلم قبل عمر بن الخطاب رضي الله
عنهما، عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه القرآن الأسود
وتميم بن حذلم والحارث بن قيس وزر بن حبيش وعبيد بن قيس وعبيد بن نضلة
وعلقمة وعبيدة السلماني وعمرو بن شرحبيل وأبو عبد الرحمان السلمي وأبو
عمرو الشيباني وزيد بن وهب ومسروق، وهو أول من أفشى القرآن من في رسول
الله صلى الله عليه وسلم. كان رضي الله عنه يقول: «حفظت من في رسول الله
صلى الله عليه وسلم بضعة وسبعين سورة. كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم
ويلزمه ويحمل نعله ويتولى فراشه ووساده وسواكه وطهوره. كان صلى الله عليه
وسلم يطلعه على أسراره ونجواه.
روى عبيدة السمعاني عن ابن مسعود أن
النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة. قال حذيفة: «ما أعلم أحدا أقرب
سمتا ولا هديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد وهو الذي
احترز رأس أبي جهل وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه
وسلم: «تمسكوا بعهد ابن أم عبد».
وكان هو أيضا الإمام في تجويد القرآن
وتحقيقه وترتيله مع حسن الصوت حتى قال صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ أن
يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة أم عبد». فقال أبو عثمان النهدي:
«صلى بنا ابن مسعود المغرب بـ«قُلْ هو الله أحد» ولوددْتُ أنه قرأ بسورة
البقرة من حسن صوته وترتيله». قال ابن مسعود: «كنا نتعلم من النبي صلى
الله عليه وسلم عشر آيات فما نتعلم العشر التي بعدهن حتى نتعلم ما أنزل
الله في هذه العشر من العمل». وقال: «والذي لا إله غيره لو أعلم أحدا أعلم
بكتاب الله مني تُبلغنيه الإبل لرحلتُ إليه». قال أبو موسى: «إليه تنتهي
قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش. وفد من الكوفة إلى المدينة فمات
بها آخر سنة اثنتين وثلاثين ودفن بالبقيع وله بضع وستون سنة. ولما جاء
نعيه إلى أبي الدرداء، قال: «ما ترك بعده مثله».
قرأ عبد الله بن
مسعود، رضي الله عنه، في الآية 61 من سورة البقرة، وهي: «... فَادْعُ لنَا
ربَّك يُخْرج لنا ممَّا تُنْبت الأرض من بقلِها وقِثائها وفومها وعدسها
وبصلها...»؛ أقول قرأ: «وثُومِها» بالثاء. والعرب تقول: «الثّوم»
و«الفُوم» بمعنى واحد، كقولهم: «جَدثَ» و«جدفَ». اندمج مع عبد الله بن
مسعود في هذه القراءة ابن عباس رضي الله عنهما.
كما قرأ، رضي الله عنه،
في الآية 106 من سورة البقرة، وهي: «ما نَنْسَخْ مِنْ آية أو نُنْسِها
نأتِ بِخَيْرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير» قرأ «ما
نُنْسِكَ من ءايَةٍ» على أن المنسي هو الله. وقد يقول الإنسان: ضرب زيد،
وإن كان القائل لذلك هو الضارب، وهذا يدل على أن الغرض هنا: أن يعلم أنه
مضروب وليس الغرض أن يعلم من ضربه ولذلك بني هذا الفعل للمفعول وألغي معه
حديث الفاعل؛ فقام في ذلك مقامه ورفع رفعه؛ فهذه طريق ما لم يسم فاعله.
ولعبد
الله بن مسعود رضي الله عنه، كما نعلم، مصحف سجلت فيه بأمانة كثير من
قراءاته؛ نذكر بعضها، بحول الله قبل أن نواصل البحث عن الحروف القرآنية
التي قرأ بها. نشر مصحفه مع مصاحف أخرى للصحابة الكرام رضوان الله عليهم
المستشرق الألماني ARTHUR JEFFRY تحت عنوان Materials for the history of
the text of the Quran توجد هذه المصاحف التي قسمها هذا المستشرق إلى
قسمين:
القسم الأول سماه: Primary Codices وبه 15 مصحفا: مصحف ابن
مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف علي ومصحف ابن عباس ومصحف أبي موسى ومصحف
حفصة ومصحف أنس بن مالك ومصحف عمر ومصحف زيد بن ثابت ومصحف ابن الزبير
ومصحف ابن عمر ومصحف عائشة ومصحف سالم ومصحف أم سلمة ومصحف عُبيد بن عمير.
القسم الثاني سماه Secondary Codices وبه 17 مصحفا؛ للأسود ولعلقمة ولحطان ولسعيد ابن الصديق ولصالح بن كيسان وللحارث بن سويد.
نشر
هذا المستشرق هذه المصاحف كملاحق للكتاب الذي حققه وهو «كتاب المصاحف»
للحافظ أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني.
نقرأ
في مصحف عبد الله بن مسعود الآية 127 من سورة البقرة هكذا: «وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولون ربنا» بزيادة قوله تعالى:
«ويقولون». كما نقرأ فيه أيضا الآية 93 من سورة الأنعام هكذا: «... إذ
الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم يقولون أخرجوا أنفسكم...»
يزيد «يقولون» بين «أيديهم» و«آخرجوا» كما نقرأ فيه الآية 3 من سورة الزمر
كما يلي: «والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم إلا لِيُقرِّبونا
إلى الله زُلفى..» بزيادة قوله: «قالوا».
يحلل أبو الفتح عثمان بن جني
هذه الزيادة في الآيات الثلاثة فيقول: «في هذا دليل على صحة ما يذهب إليه
أصحابنا من أن «القول» مراد مقدر في نحو هذه الأشياء، وأنه ليس كما يذهب
إليه الكوفيون من أن الكلام محمول على معناه دون أن يكون القول مقدرا معه
وذلك كقول الشاعر:
رَجُلان مِنْ ضَبَّة أخبَرانا إنَّا رأيْنا رجُلاً عَرْيَانا
فهو
عندنا نحن على قالا: «إنا رأينا، وعلى قولهم لا إضمار «قول» هناك لكنه لما
كان «أخبرانا» في معنى «قالا لنا» صار كأنه: «قالا لنا»؛ فأما على إضمار
(قالا) فلا. نرى من تدبرنا لقراءة ابن مسعود الطريقة التي يظهر فيها ما
نقدره من القول؛ فصار قاطعا على أنه مراد فيما يجري مجراه. ونقرأ كذلك
الآية 23 من سورة الرعد هكذا: «والملائكة يدخلون عليهم مِنْ كُل باب
يقولون سلام عليكم» إن «القول » ليحذف كثيرا من كلام العرب.
ووردت
الآية 127 من سورة البقرة في مصحفه، رضي الله عنه، هكذا: «فإن ءامنوا بما
ءامنتُم به» وهي هكذا أيضا في مصحف أنس بن مالك. ويحكي لنا ابن مجاهد عن
ابن عباس أنه قال: «لا تقرأ: «فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به» فإن الله ليس
له مثل، ولكن اقرأ: «فإن ءامنوا بما ءامنتم به». هذا الذي ذهب إليه ابن
عباس حسن لكن ليس لأن القراءة المشهورة والمتواترة مردودة. وصحة ذلك أنه
إنما يراد فإن ءامنوا بما ءامنتم به كما أراده ابن عباس وغيره؛ غير أن
العرب قد تأتي بـ(مثل) في نحو هذا توكيدا وتسديدا. يقول الرجل إذا نفى عن
نفسه القبيح: «مثلي لا يفعل هذا، أي: أنا لا أفعله، ومثلك إذا سئل أعطى،
أي: أنت كذلك، وفي حديث سيف بن ذي يزن:«أيها الملك مثلك من سَرَّ وبَرَّ»
أي: أنت كذلك. فكذلك قوله تعالى: «فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به»، أي:
كانوا ممن يؤمن بالحق، هذا الجنس على سعته وانتشار جهاته، فقد اهتدوا».
كما قرأ، رضي الله عنه الآية 158 من سورة البقرة هكذا: «إن الصفا والمروة
من شعائر الله فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جُنحَ عليه ألاَّ يطَوِّف
بهما». ظهر من هذه القراءة التي قرأ بها عبد الله بن مسعود ومن قراءة من
سنذكرهم بعد قليل أنه مفسوح له في ترك ذلك كما قد يفسح للإنسان في بعض
المنصوص عليه المأمور به تخفيفا، كالقصر بالسفر وترك الصوم ونحو ذلك من
الرخص المسموح بها.
وقد يمكن أيضا أن تكون «لا» على هذه القراءة زائدة،
وعليه يصير تأويل هذه القراءة وقراءة الجماعة التي سأشير إليها بعد قليل
تأويلا واحدا؛ حتى كأنه قال: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما، وزاد «لا» كما
زيدت في الآية 29 من سورة الحديد؛ قال سبحانه وتعالى فيها: «لِئلاَّ يعلم
أهل الكِتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله؛ أي: ليعْلَم.
اندرج مع
عبد الله بن مسعود في هذه القراءة كل من علي بن أبي طالب وعبد الله بن
عباس بخلاف عنه وسعيد بن جبير وأنس بن مالك ومحمد بن سيرين وأبي بن كعب
وميمون بن مهران.
أما قراءة الجماعة: «فلا جُنْح عليه أن يطوَّف بهما»،
أي: فلا جناح عليه أن يطوف بهما تقربا بذلك إلى الله تعالى، لأنهما من
شعائر الحج والعمرة؛ ولو لم يكونا من شعائرهما لكان التطوف بهما بدعة لأنه
إيجاب أمر لم يتقدم إيجابه، وهذا بدعة، كما لو تطوف بالبصرة أو بالكوفة أو
بغيرهما من الأماكن على وجه القربة والطاعة.
كما قرأ، رضي الله عنه، في
الآية 177 من سورة البقرة قوله: «ليس البرّ بأن تُولُّوا وجوهكم». قال ابن
مجاهد: «فإذا كان هكذا لم يجز أن ينصب: «البر» يعلق ابن جني على تخريج ابن
مجاهد فيقول: «الذي قاله ابن مجاهد هو الظاهر في هذا، لكن قد يجوز أن ينصب
مع الباء؛ وهو أن تجعل الباء زائدة، كقولهم: «كفى بالله» أي: كفى الله،
وكقوله تعالى في الآية 47 من سورة الأنبياء: «كَفَى بنا حَاسِبينَ» أي:
كفينا. فكذلك: «ليس البر بأن تُولوا» بنصب البر كما هو عند بعض من السبعة.
يعلق
ابن جني كعادته على التخريج الذي خرَّجه هو نفسه فيقول: «فإن قلت: «إن
(كفى) بالله شاذ قليل، فكيف قستَ عليه (ليس) ولم نعلم الباء زيدت في اسم
(ليس) إنما زيدت في خبرها، نحو قوله في الآية 123 من سورة النساء: «لَيْس
بِأمَانِيُّكُمْ»؟ قيل: لو لم يكن شاذاً لما جوزنا قياسا عليه ما جوزناه.العلم
6/3/2009-
بقلم: الدكتور التهامي الراجي الهاشمي
هو
عبد الله بن مسعود بن الحارث أبو عبد الرحمان الهذلي المكي، أحد السابقين
والبدريين والعلماء الكبار من الصحابة؛ أسلم قبل عمر بن الخطاب رضي الله
عنهما، عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه القرآن الأسود
وتميم بن حذلم والحارث بن قيس وزر بن حبيش وعبيد بن قيس وعبيد بن نضلة
وعلقمة وعبيدة السلماني وعمرو بن شرحبيل وأبو عبد الرحمان السلمي وأبو
عمرو الشيباني وزيد بن وهب ومسروق، وهو أول من أفشى القرآن من في رسول
الله صلى الله عليه وسلم. كان رضي الله عنه يقول: «حفظت من في رسول الله
صلى الله عليه وسلم بضعة وسبعين سورة. كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم
ويلزمه ويحمل نعله ويتولى فراشه ووساده وسواكه وطهوره. كان صلى الله عليه
وسلم يطلعه على أسراره ونجواه.
روى عبيدة السمعاني عن ابن مسعود أن
النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة. قال حذيفة: «ما أعلم أحدا أقرب
سمتا ولا هديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد وهو الذي
احترز رأس أبي جهل وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه
وسلم: «تمسكوا بعهد ابن أم عبد».
وكان هو أيضا الإمام في تجويد القرآن
وتحقيقه وترتيله مع حسن الصوت حتى قال صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ أن
يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة أم عبد». فقال أبو عثمان النهدي:
«صلى بنا ابن مسعود المغرب بـ«قُلْ هو الله أحد» ولوددْتُ أنه قرأ بسورة
البقرة من حسن صوته وترتيله». قال ابن مسعود: «كنا نتعلم من النبي صلى
الله عليه وسلم عشر آيات فما نتعلم العشر التي بعدهن حتى نتعلم ما أنزل
الله في هذه العشر من العمل». وقال: «والذي لا إله غيره لو أعلم أحدا أعلم
بكتاب الله مني تُبلغنيه الإبل لرحلتُ إليه». قال أبو موسى: «إليه تنتهي
قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش. وفد من الكوفة إلى المدينة فمات
بها آخر سنة اثنتين وثلاثين ودفن بالبقيع وله بضع وستون سنة. ولما جاء
نعيه إلى أبي الدرداء، قال: «ما ترك بعده مثله».
قرأ عبد الله بن
مسعود، رضي الله عنه، في الآية 61 من سورة البقرة، وهي: «... فَادْعُ لنَا
ربَّك يُخْرج لنا ممَّا تُنْبت الأرض من بقلِها وقِثائها وفومها وعدسها
وبصلها...»؛ أقول قرأ: «وثُومِها» بالثاء. والعرب تقول: «الثّوم»
و«الفُوم» بمعنى واحد، كقولهم: «جَدثَ» و«جدفَ». اندمج مع عبد الله بن
مسعود في هذه القراءة ابن عباس رضي الله عنهما.
كما قرأ، رضي الله عنه،
في الآية 106 من سورة البقرة، وهي: «ما نَنْسَخْ مِنْ آية أو نُنْسِها
نأتِ بِخَيْرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير» قرأ «ما
نُنْسِكَ من ءايَةٍ» على أن المنسي هو الله. وقد يقول الإنسان: ضرب زيد،
وإن كان القائل لذلك هو الضارب، وهذا يدل على أن الغرض هنا: أن يعلم أنه
مضروب وليس الغرض أن يعلم من ضربه ولذلك بني هذا الفعل للمفعول وألغي معه
حديث الفاعل؛ فقام في ذلك مقامه ورفع رفعه؛ فهذه طريق ما لم يسم فاعله.
ولعبد
الله بن مسعود رضي الله عنه، كما نعلم، مصحف سجلت فيه بأمانة كثير من
قراءاته؛ نذكر بعضها، بحول الله قبل أن نواصل البحث عن الحروف القرآنية
التي قرأ بها. نشر مصحفه مع مصاحف أخرى للصحابة الكرام رضوان الله عليهم
المستشرق الألماني ARTHUR JEFFRY تحت عنوان Materials for the history of
the text of the Quran توجد هذه المصاحف التي قسمها هذا المستشرق إلى
قسمين:
القسم الأول سماه: Primary Codices وبه 15 مصحفا: مصحف ابن
مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف علي ومصحف ابن عباس ومصحف أبي موسى ومصحف
حفصة ومصحف أنس بن مالك ومصحف عمر ومصحف زيد بن ثابت ومصحف ابن الزبير
ومصحف ابن عمر ومصحف عائشة ومصحف سالم ومصحف أم سلمة ومصحف عُبيد بن عمير.
القسم الثاني سماه Secondary Codices وبه 17 مصحفا؛ للأسود ولعلقمة ولحطان ولسعيد ابن الصديق ولصالح بن كيسان وللحارث بن سويد.
نشر
هذا المستشرق هذه المصاحف كملاحق للكتاب الذي حققه وهو «كتاب المصاحف»
للحافظ أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني.
نقرأ
في مصحف عبد الله بن مسعود الآية 127 من سورة البقرة هكذا: «وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولون ربنا» بزيادة قوله تعالى:
«ويقولون». كما نقرأ فيه أيضا الآية 93 من سورة الأنعام هكذا: «... إذ
الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم يقولون أخرجوا أنفسكم...»
يزيد «يقولون» بين «أيديهم» و«آخرجوا» كما نقرأ فيه الآية 3 من سورة الزمر
كما يلي: «والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم إلا لِيُقرِّبونا
إلى الله زُلفى..» بزيادة قوله: «قالوا».
يحلل أبو الفتح عثمان بن جني
هذه الزيادة في الآيات الثلاثة فيقول: «في هذا دليل على صحة ما يذهب إليه
أصحابنا من أن «القول» مراد مقدر في نحو هذه الأشياء، وأنه ليس كما يذهب
إليه الكوفيون من أن الكلام محمول على معناه دون أن يكون القول مقدرا معه
وذلك كقول الشاعر:
رَجُلان مِنْ ضَبَّة أخبَرانا إنَّا رأيْنا رجُلاً عَرْيَانا
فهو
عندنا نحن على قالا: «إنا رأينا، وعلى قولهم لا إضمار «قول» هناك لكنه لما
كان «أخبرانا» في معنى «قالا لنا» صار كأنه: «قالا لنا»؛ فأما على إضمار
(قالا) فلا. نرى من تدبرنا لقراءة ابن مسعود الطريقة التي يظهر فيها ما
نقدره من القول؛ فصار قاطعا على أنه مراد فيما يجري مجراه. ونقرأ كذلك
الآية 23 من سورة الرعد هكذا: «والملائكة يدخلون عليهم مِنْ كُل باب
يقولون سلام عليكم» إن «القول » ليحذف كثيرا من كلام العرب.
ووردت
الآية 127 من سورة البقرة في مصحفه، رضي الله عنه، هكذا: «فإن ءامنوا بما
ءامنتُم به» وهي هكذا أيضا في مصحف أنس بن مالك. ويحكي لنا ابن مجاهد عن
ابن عباس أنه قال: «لا تقرأ: «فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به» فإن الله ليس
له مثل، ولكن اقرأ: «فإن ءامنوا بما ءامنتم به». هذا الذي ذهب إليه ابن
عباس حسن لكن ليس لأن القراءة المشهورة والمتواترة مردودة. وصحة ذلك أنه
إنما يراد فإن ءامنوا بما ءامنتم به كما أراده ابن عباس وغيره؛ غير أن
العرب قد تأتي بـ(مثل) في نحو هذا توكيدا وتسديدا. يقول الرجل إذا نفى عن
نفسه القبيح: «مثلي لا يفعل هذا، أي: أنا لا أفعله، ومثلك إذا سئل أعطى،
أي: أنت كذلك، وفي حديث سيف بن ذي يزن:«أيها الملك مثلك من سَرَّ وبَرَّ»
أي: أنت كذلك. فكذلك قوله تعالى: «فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به»، أي:
كانوا ممن يؤمن بالحق، هذا الجنس على سعته وانتشار جهاته، فقد اهتدوا».
كما قرأ، رضي الله عنه الآية 158 من سورة البقرة هكذا: «إن الصفا والمروة
من شعائر الله فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جُنحَ عليه ألاَّ يطَوِّف
بهما». ظهر من هذه القراءة التي قرأ بها عبد الله بن مسعود ومن قراءة من
سنذكرهم بعد قليل أنه مفسوح له في ترك ذلك كما قد يفسح للإنسان في بعض
المنصوص عليه المأمور به تخفيفا، كالقصر بالسفر وترك الصوم ونحو ذلك من
الرخص المسموح بها.
وقد يمكن أيضا أن تكون «لا» على هذه القراءة زائدة،
وعليه يصير تأويل هذه القراءة وقراءة الجماعة التي سأشير إليها بعد قليل
تأويلا واحدا؛ حتى كأنه قال: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما، وزاد «لا» كما
زيدت في الآية 29 من سورة الحديد؛ قال سبحانه وتعالى فيها: «لِئلاَّ يعلم
أهل الكِتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله؛ أي: ليعْلَم.
اندرج مع
عبد الله بن مسعود في هذه القراءة كل من علي بن أبي طالب وعبد الله بن
عباس بخلاف عنه وسعيد بن جبير وأنس بن مالك ومحمد بن سيرين وأبي بن كعب
وميمون بن مهران.
أما قراءة الجماعة: «فلا جُنْح عليه أن يطوَّف بهما»،
أي: فلا جناح عليه أن يطوف بهما تقربا بذلك إلى الله تعالى، لأنهما من
شعائر الحج والعمرة؛ ولو لم يكونا من شعائرهما لكان التطوف بهما بدعة لأنه
إيجاب أمر لم يتقدم إيجابه، وهذا بدعة، كما لو تطوف بالبصرة أو بالكوفة أو
بغيرهما من الأماكن على وجه القربة والطاعة.
كما قرأ، رضي الله عنه، في
الآية 177 من سورة البقرة قوله: «ليس البرّ بأن تُولُّوا وجوهكم». قال ابن
مجاهد: «فإذا كان هكذا لم يجز أن ينصب: «البر» يعلق ابن جني على تخريج ابن
مجاهد فيقول: «الذي قاله ابن مجاهد هو الظاهر في هذا، لكن قد يجوز أن ينصب
مع الباء؛ وهو أن تجعل الباء زائدة، كقولهم: «كفى بالله» أي: كفى الله،
وكقوله تعالى في الآية 47 من سورة الأنبياء: «كَفَى بنا حَاسِبينَ» أي:
كفينا. فكذلك: «ليس البر بأن تُولوا» بنصب البر كما هو عند بعض من السبعة.
يعلق
ابن جني كعادته على التخريج الذي خرَّجه هو نفسه فيقول: «فإن قلت: «إن
(كفى) بالله شاذ قليل، فكيف قستَ عليه (ليس) ولم نعلم الباء زيدت في اسم
(ليس) إنما زيدت في خبرها، نحو قوله في الآية 123 من سورة النساء: «لَيْس
بِأمَانِيُّكُمْ»؟ قيل: لو لم يكن شاذاً لما جوزنا قياسا عليه ما جوزناه.العلم
6/3/2009-
بقلم: الدكتور التهامي الراجي الهاشمي
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
-2-
بقلم: الدكتور التهامي الراجي الهاشمي
قرأ
عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 284 من سورة البقرة، هكذا:
«يُحاسِبْكُم به الله يغْفرْ لِمن يشاء ويعذِّب من يشاء» بجزم الفعل:
«يَغْفِرْ» ويجرده من الفاء، جعله مجزوما على البدل من «يُحَاسِبْكُمْ»
على وجه التفصيل لجملة الحساب؛ ولا شك أن التفصيل أوضح من المفصَّل، فجرى
مجرى بدل البعض أو الاشتمال. أما بدل البعض فهو كـ«ضرب زيداً رأسه» وأما
بدل الاشتمال فهو كـ«أحبُّ زيداً عقله». هذا البدل ونحوه واقع في الأفعال
وقوعه في الأسماء لحاجة المستعملين لهذا البيان. من ذلك ما نقرأه من قول
الله سبحانه في الآيتين 68 و96 من سورة الفرقان: «ومَنْ يَفْعَل ذلك يلْقَ
أثاماً يُضاعف لهُ العذاب يوم القيامة ويخْلُدْ فيه مُهانا» لأن مضاعفة
العذاب هو لُقِي الإثم، يُوضح هذا أكثر قول الشاعر وداك بن ثميل المازني؛
قال:
رُويْداً بَنٍي شَيْبانَ بَعْضَ وَعِيدِكُمْ
تُلاقُوا غداً خَيْلِي على سَفْوَانِ
تُلاقُوا جِياداً لاَ تَحِيدُ عَنِ الوَغَى
إذا ما غَدَتْ في المُأْزِق المُتَدانِي
تُلاَقُوهُم فَتَعْرفوا كَيْفَ صَبْرُهُمْ
عَلى ما جَنَتْ فيهم يَدا الحَدَثَانِ
فأبدلوا:
«تُلاقُوا جياداً» من قوله: «تُلاقُوا غَداً خَيْلي» وجاز إبداله منه
للبيان وإن كان من لفظه وعلى مثاله، لما اتصل بالثاني من قوله: «جِياداً
لا تَحِيدُ عن الوَغَى»، وأبدل: «تُلاقُوهُمْ» من: «تُلاقُوا جياداً» لما
اتصل به من المعطوف عليه من قوله: «فتعرفوا كيف صبرهم». وإذا حصلت فائدة
البيان لم تُبَلْ أمِنْ نفس المبدل كانت أم مِمَّا اتصل به فضلة عليه أم
من معطوف مضموم إليه. فإن أكثر الفوائد إنما تجتنى من الألحاق والفضلات.
وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في آل عمران، الآية الثانية (بالعد
الكوفي وهي الأولى بعد الآخرين) تماما كما قرأها عمر بن الخطاب هكذا: «ألم
الله لا إله إلا هو الحي القِيَّام». هكذا: «القِيَّام».
واندرج معهما
في هذه القراءة، كما سبق أن رأينا كل من عثمان بن عفان رضي الله عنه
وإبراهيم النخعي والأعمش وأصحاب عبد الله وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي
الرجاء لكن بخلف عن هذا الأخير. لقد سبق أن ذكرنا هذه القراءة وحللناها في
الحلقة السادسة؛ فالرجاء التفضل بالرجوع إليها.
نقرأ في مصحف عبد الله
بن مسعود الآية 144 من سورة آل عمران كمايلي: «وما مُحمَّدٌ إلا رسولٌ قد
خَلَت مِنْ قَبْلِهِ رُسُلُ»؛ هكذا نكرة: «رُسُلٌ» وهي قراءة حسنة في
معناها؛ دالة على أن الموضع موضع اقتصاد بالنبي صلى الله عليه وسلم وإعلام
بأنه لا يلزم ذمته ممن يخالفه وامتنع من اتباعه لقوله تعالى في الآية 18
من سورة العنكبوت: «وما عَلى الرَسُولِ إلا البَلاغُ المُبينُ» وقوله
تعالى في الآية 28 من سورة فاطر: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شيء» وقوله
تعالى في الآية 7 من سورة الرعد: «إنما أنتَ مُنْذِرْ ولِكُلِ قَوْمٍ
هادٍ» وقوله في الآية 42 من سورة يونس: «أفأَنْتَ تُسْمِعُ الصُمَ».
لقد
جرى قوله تعالى: «وما مُحَمَدٌ إلا رَسُولٌ قد خَلَتْ من قبْلِهِ رُسُلٌ»
مجرى قولك لصاحبك: اخدم كما خدمنا غيرك مِن قبلك ولا تبعة عليك بعد ذلك؛
فهذا إذاً موضع إسماح له، وعليه جاء قوله تعالى في الآية 44 من سورة آل
عمران؛ قال سبحانه فيها: «أَفَإنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقلَبْتُمْ» فأضاف
سبحانه من عذرهم وأعلم أن لا متعلق عليه بشيء من أمرهم؛ فلهذا حسن تنكير
«رُسُلٌ» في هذه الآية. شارك عبد الله بن مسعود في هذه القراءة تلميذ أبي
موسى الأشعري حطان بن عبد الله الرقاشي.
أما الجماعة فعرَّفت (الرُسل)
وقرأت: «وما مُحمَدٌ إلا رَسُولٌ قد خَلَتْ مِنْ قبْلِهِ الرُسُلُ» ووجه
تعريفهم ومعناه: أنكم عرفتم حال من قبله من الرسل في أنهم لم يُطالبوا
بأفعال من خالفم وكذلك هو عليه الصلاة والسلام؛ فلما كان موضع تنبيه لهم
كان الأليق به أن يومئ إلى أمر معروف عندهم. وقرأ رضي الله عنه الآية 146
من سورة آل عمران وهي: «وكأين من نبيِ قتل معه ربيون كثير..» هكذا: «وكأين
من نبي قتل معه رُبِيون كثير»، بضم راء: «رُبِيون». روى قتادة أن عبد الله
بن عباس قرأها: «ربيون» بفتح الراء.
يقول أبو الفتح عثمان بن جني: الضم
في: «رُبيون» تميمية والكسر أيضا لغة. قال يونس: الرُبة «الجماعة. وكان
الحسن يقول: «الربيون»: العلماء الصبر. كان ابن عباس يقول: الواحدة ربْوة
(بكسر الراء)، وهي عنده عشرة آلاف.
وقرأ رضي الله عنه: «إلى الفِتْنة
رُكِسوا فيها» في الآية 91 من سورة النساء مثقلة بغير ألف، وهي عند
الجماعة: «ستجدون آخرين يُريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما رُدوا إلى
الفتنة أركِسوا فيها» وقرأ رضي الله عنه مقطعا من الآية الثانية من سورة
المائدة الذي هو: «ولا يجْرِمَنَكم شَنئان قوْمٍ أن صَدوكم عن المسجد
الحرام أن تعتدوا» هكذا: «ولا يُجْرِمَنَكم» بضم الياء؛ هذه أولا وقرأ
بعدها: «شنئان قوْمٍ إن يَصُدُوكُم» بكسر همزة «إِنْ» ومضارع «صد» وهذه
ثانيا.
علق أبو الفتح على هذه القراءة فقال: «في هذه القراءة ضعف، وذلك
لأنه جزم بأن ولم يأت لها بجواب مجزوم أو بالفاء، كقولك: «إن تزرني أعطك
درهما» أو: «فلك درهم» ولو قلت: «إن تزرني أعطيتك درهما لكان قبيحا لما
ذكر». وقرأ رضي الله عنه في الآية 60 من سورة المائدة: «وعُبُدَ
الطَاغُوتِ» بضم العين والباء وفتح الدال وخفض الطاغوت. اندرج معه في هذه
القراءة كل من ابن عباس وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تعلب وعلي بن
صالح وشيبان.
هذا ويروي لنا عبد الغفار عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود قرأ أيضا: عُبَدَ الطَاغوتِ» بضم العين وفتح الباء.
أما:
«عُبُدَ» فجمع عبيد، وقد يكون «عُبُدَ» جمع عبْد كرَهْنٍ ورُهُن وسقف
وسُقف. أما أحمد بن يحيى فيرى أن «عُبُدَ» جمع عابد؛ وهذا صحيح، كبازل
وبُزُل وشارف وشُرُف.
وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 105 من سورة
الأنعام الحرف الذي تقرأه الجماعة: «دَرَسْتَ» بفتح الدال والراء وسكون
السين وفتح التاء ويقرأه ابن كثير المكي وأبو عمرو البصري: «دَارَسْتَ»
بفتح الدال ممدودا وفتح الراء وسكون السين وفتح التاء ويقرأه ابن عامر
الشامي من السبعة ويعقوب البصري من الثلاثة المتممة للعشرة: «دَرَسَتْ»
بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء؛ أقول يقرأه هو، أي: عبد الله بن
مسعود بصيغتين؛ الأولى: «دُرِسَتَْ» بضم الدال وكسر الراء وفتح السين
وسكون التاء. واندرج معه في هذه القراءة قتادة بن دعامة السدوسي البصري
الأعمى وابن عباس لكن بخِلف عنه كما أن هذه القراءة رويت عن الحسن
الثانية: «دَرَسْنَ» بفتح الدال والراء وسين ساكنة، مسندة إلى جمع مؤنث
غائب.
يعلق أبو الفتح على هذه القراءات فيقول: «أما: دُرِسَتْ» ففيه
ضمير الآيات، معناه: «وليقولوا دَرَسْتَها أنت يا محمد، كالقراءة العامة
«دَارَسْتَ».
ويجوز أن يكون: «دُرِسَتْ» أي عفت وتنُوسِيَتْ. وتكون
القراءة الأخرى لابن مسعود: «دَرَسْنَ» أي: عفون ويكون كقوله تعالى في
الآية 25 من سورة الأنعام: «إنْ هذا إلا أساطيرُ الأولين».
وأما
«دَرَسَ» ففيه ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهد هذا (َدَارَسْت»).
أي: فإذا جئتهم بهذه القصص والأنباء قالوا: شيء قرأه أو قارأه فأتى به
وليس من عند الله؛ أي: يفعل هذا بهم ليقوى أثر التكليف عليهم زيادة في
الابتداء لهم كالحج والغزو وتكليف المشاق المستحق عليها الثواب. وإن شئت
كان معناه: فإذا هم يقولون كذا، كقوله في الآية من سورة القصص:
«فالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُواً وحَزَناً»، أي
فإذا هم عدو لهم.
وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 139 من سورة الأنعام
التي هي: «وقالوا ما في بُطُونِ هذه الأنعام خالصة لذِكُورِنَا ومُحرَمٌ
على أزواجنا..»؛ أقول: قرأ الحرف «خالصة» مذكرا هكذا: «خَالِصٌ» شاركه في
هذه القراءة ابن عباس والأعمش لكن بخلف عن هذا الأخير. وقرأ، رضي الله
عنه، في الآية 38 من سورة الأعراف التي هي«كُلَما دخلت أمة لعنَتْ أخْتَها
حتى إذا ادارَكوا فيها جميعا...» أقول قرأ: «حتى إذا تداركوا» مظهرا التاء
فيها، شاركه في هذه القراءة الأعمش.
وقرأ رضي الله عنه هكذا: «ويذَركَ
وإلاهَتَكَ» في الآية 127 من سورة الأعراف التي تقرأها الجماعة كمايلي:
«وقال الملأ من قوم فرعون أتَذرُ مُوسى وقومه ليُفْسِدوا في الأرض ويَذرَك
وءالِهَتَكَ» اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة علي ابن أبي طالب
وابن عباس وأنس بن مالك وعلقمة والجحدري والتيمي وأبو طالوت وأبو الرجاء.
يقال: «إلاَهَتَكَ» عبادتك؛ ومنه الإله، مستحق العبادة وقد سميت الشمس:
«إلاهَة» و«ألاهة» لأنهم كانوا يعبدونها. العلم
13/3/2009-
بقلم: الدكتور التهامي الراجي الهاشمي
قرأ
عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 284 من سورة البقرة، هكذا:
«يُحاسِبْكُم به الله يغْفرْ لِمن يشاء ويعذِّب من يشاء» بجزم الفعل:
«يَغْفِرْ» ويجرده من الفاء، جعله مجزوما على البدل من «يُحَاسِبْكُمْ»
على وجه التفصيل لجملة الحساب؛ ولا شك أن التفصيل أوضح من المفصَّل، فجرى
مجرى بدل البعض أو الاشتمال. أما بدل البعض فهو كـ«ضرب زيداً رأسه» وأما
بدل الاشتمال فهو كـ«أحبُّ زيداً عقله». هذا البدل ونحوه واقع في الأفعال
وقوعه في الأسماء لحاجة المستعملين لهذا البيان. من ذلك ما نقرأه من قول
الله سبحانه في الآيتين 68 و96 من سورة الفرقان: «ومَنْ يَفْعَل ذلك يلْقَ
أثاماً يُضاعف لهُ العذاب يوم القيامة ويخْلُدْ فيه مُهانا» لأن مضاعفة
العذاب هو لُقِي الإثم، يُوضح هذا أكثر قول الشاعر وداك بن ثميل المازني؛
قال:
رُويْداً بَنٍي شَيْبانَ بَعْضَ وَعِيدِكُمْ
تُلاقُوا غداً خَيْلِي على سَفْوَانِ
تُلاقُوا جِياداً لاَ تَحِيدُ عَنِ الوَغَى
إذا ما غَدَتْ في المُأْزِق المُتَدانِي
تُلاَقُوهُم فَتَعْرفوا كَيْفَ صَبْرُهُمْ
عَلى ما جَنَتْ فيهم يَدا الحَدَثَانِ
فأبدلوا:
«تُلاقُوا جياداً» من قوله: «تُلاقُوا غَداً خَيْلي» وجاز إبداله منه
للبيان وإن كان من لفظه وعلى مثاله، لما اتصل بالثاني من قوله: «جِياداً
لا تَحِيدُ عن الوَغَى»، وأبدل: «تُلاقُوهُمْ» من: «تُلاقُوا جياداً» لما
اتصل به من المعطوف عليه من قوله: «فتعرفوا كيف صبرهم». وإذا حصلت فائدة
البيان لم تُبَلْ أمِنْ نفس المبدل كانت أم مِمَّا اتصل به فضلة عليه أم
من معطوف مضموم إليه. فإن أكثر الفوائد إنما تجتنى من الألحاق والفضلات.
وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في آل عمران، الآية الثانية (بالعد
الكوفي وهي الأولى بعد الآخرين) تماما كما قرأها عمر بن الخطاب هكذا: «ألم
الله لا إله إلا هو الحي القِيَّام». هكذا: «القِيَّام».
واندرج معهما
في هذه القراءة، كما سبق أن رأينا كل من عثمان بن عفان رضي الله عنه
وإبراهيم النخعي والأعمش وأصحاب عبد الله وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي
الرجاء لكن بخلف عن هذا الأخير. لقد سبق أن ذكرنا هذه القراءة وحللناها في
الحلقة السادسة؛ فالرجاء التفضل بالرجوع إليها.
نقرأ في مصحف عبد الله
بن مسعود الآية 144 من سورة آل عمران كمايلي: «وما مُحمَّدٌ إلا رسولٌ قد
خَلَت مِنْ قَبْلِهِ رُسُلُ»؛ هكذا نكرة: «رُسُلٌ» وهي قراءة حسنة في
معناها؛ دالة على أن الموضع موضع اقتصاد بالنبي صلى الله عليه وسلم وإعلام
بأنه لا يلزم ذمته ممن يخالفه وامتنع من اتباعه لقوله تعالى في الآية 18
من سورة العنكبوت: «وما عَلى الرَسُولِ إلا البَلاغُ المُبينُ» وقوله
تعالى في الآية 28 من سورة فاطر: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شيء» وقوله
تعالى في الآية 7 من سورة الرعد: «إنما أنتَ مُنْذِرْ ولِكُلِ قَوْمٍ
هادٍ» وقوله في الآية 42 من سورة يونس: «أفأَنْتَ تُسْمِعُ الصُمَ».
لقد
جرى قوله تعالى: «وما مُحَمَدٌ إلا رَسُولٌ قد خَلَتْ من قبْلِهِ رُسُلٌ»
مجرى قولك لصاحبك: اخدم كما خدمنا غيرك مِن قبلك ولا تبعة عليك بعد ذلك؛
فهذا إذاً موضع إسماح له، وعليه جاء قوله تعالى في الآية 44 من سورة آل
عمران؛ قال سبحانه فيها: «أَفَإنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقلَبْتُمْ» فأضاف
سبحانه من عذرهم وأعلم أن لا متعلق عليه بشيء من أمرهم؛ فلهذا حسن تنكير
«رُسُلٌ» في هذه الآية. شارك عبد الله بن مسعود في هذه القراءة تلميذ أبي
موسى الأشعري حطان بن عبد الله الرقاشي.
أما الجماعة فعرَّفت (الرُسل)
وقرأت: «وما مُحمَدٌ إلا رَسُولٌ قد خَلَتْ مِنْ قبْلِهِ الرُسُلُ» ووجه
تعريفهم ومعناه: أنكم عرفتم حال من قبله من الرسل في أنهم لم يُطالبوا
بأفعال من خالفم وكذلك هو عليه الصلاة والسلام؛ فلما كان موضع تنبيه لهم
كان الأليق به أن يومئ إلى أمر معروف عندهم. وقرأ رضي الله عنه الآية 146
من سورة آل عمران وهي: «وكأين من نبيِ قتل معه ربيون كثير..» هكذا: «وكأين
من نبي قتل معه رُبِيون كثير»، بضم راء: «رُبِيون». روى قتادة أن عبد الله
بن عباس قرأها: «ربيون» بفتح الراء.
يقول أبو الفتح عثمان بن جني: الضم
في: «رُبيون» تميمية والكسر أيضا لغة. قال يونس: الرُبة «الجماعة. وكان
الحسن يقول: «الربيون»: العلماء الصبر. كان ابن عباس يقول: الواحدة ربْوة
(بكسر الراء)، وهي عنده عشرة آلاف.
وقرأ رضي الله عنه: «إلى الفِتْنة
رُكِسوا فيها» في الآية 91 من سورة النساء مثقلة بغير ألف، وهي عند
الجماعة: «ستجدون آخرين يُريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما رُدوا إلى
الفتنة أركِسوا فيها» وقرأ رضي الله عنه مقطعا من الآية الثانية من سورة
المائدة الذي هو: «ولا يجْرِمَنَكم شَنئان قوْمٍ أن صَدوكم عن المسجد
الحرام أن تعتدوا» هكذا: «ولا يُجْرِمَنَكم» بضم الياء؛ هذه أولا وقرأ
بعدها: «شنئان قوْمٍ إن يَصُدُوكُم» بكسر همزة «إِنْ» ومضارع «صد» وهذه
ثانيا.
علق أبو الفتح على هذه القراءة فقال: «في هذه القراءة ضعف، وذلك
لأنه جزم بأن ولم يأت لها بجواب مجزوم أو بالفاء، كقولك: «إن تزرني أعطك
درهما» أو: «فلك درهم» ولو قلت: «إن تزرني أعطيتك درهما لكان قبيحا لما
ذكر». وقرأ رضي الله عنه في الآية 60 من سورة المائدة: «وعُبُدَ
الطَاغُوتِ» بضم العين والباء وفتح الدال وخفض الطاغوت. اندرج معه في هذه
القراءة كل من ابن عباس وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تعلب وعلي بن
صالح وشيبان.
هذا ويروي لنا عبد الغفار عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود قرأ أيضا: عُبَدَ الطَاغوتِ» بضم العين وفتح الباء.
أما:
«عُبُدَ» فجمع عبيد، وقد يكون «عُبُدَ» جمع عبْد كرَهْنٍ ورُهُن وسقف
وسُقف. أما أحمد بن يحيى فيرى أن «عُبُدَ» جمع عابد؛ وهذا صحيح، كبازل
وبُزُل وشارف وشُرُف.
وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 105 من سورة
الأنعام الحرف الذي تقرأه الجماعة: «دَرَسْتَ» بفتح الدال والراء وسكون
السين وفتح التاء ويقرأه ابن كثير المكي وأبو عمرو البصري: «دَارَسْتَ»
بفتح الدال ممدودا وفتح الراء وسكون السين وفتح التاء ويقرأه ابن عامر
الشامي من السبعة ويعقوب البصري من الثلاثة المتممة للعشرة: «دَرَسَتْ»
بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء؛ أقول يقرأه هو، أي: عبد الله بن
مسعود بصيغتين؛ الأولى: «دُرِسَتَْ» بضم الدال وكسر الراء وفتح السين
وسكون التاء. واندرج معه في هذه القراءة قتادة بن دعامة السدوسي البصري
الأعمى وابن عباس لكن بخِلف عنه كما أن هذه القراءة رويت عن الحسن
الثانية: «دَرَسْنَ» بفتح الدال والراء وسين ساكنة، مسندة إلى جمع مؤنث
غائب.
يعلق أبو الفتح على هذه القراءات فيقول: «أما: دُرِسَتْ» ففيه
ضمير الآيات، معناه: «وليقولوا دَرَسْتَها أنت يا محمد، كالقراءة العامة
«دَارَسْتَ».
ويجوز أن يكون: «دُرِسَتْ» أي عفت وتنُوسِيَتْ. وتكون
القراءة الأخرى لابن مسعود: «دَرَسْنَ» أي: عفون ويكون كقوله تعالى في
الآية 25 من سورة الأنعام: «إنْ هذا إلا أساطيرُ الأولين».
وأما
«دَرَسَ» ففيه ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهد هذا (َدَارَسْت»).
أي: فإذا جئتهم بهذه القصص والأنباء قالوا: شيء قرأه أو قارأه فأتى به
وليس من عند الله؛ أي: يفعل هذا بهم ليقوى أثر التكليف عليهم زيادة في
الابتداء لهم كالحج والغزو وتكليف المشاق المستحق عليها الثواب. وإن شئت
كان معناه: فإذا هم يقولون كذا، كقوله في الآية من سورة القصص:
«فالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُواً وحَزَناً»، أي
فإذا هم عدو لهم.
وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 139 من سورة الأنعام
التي هي: «وقالوا ما في بُطُونِ هذه الأنعام خالصة لذِكُورِنَا ومُحرَمٌ
على أزواجنا..»؛ أقول: قرأ الحرف «خالصة» مذكرا هكذا: «خَالِصٌ» شاركه في
هذه القراءة ابن عباس والأعمش لكن بخلف عن هذا الأخير. وقرأ، رضي الله
عنه، في الآية 38 من سورة الأعراف التي هي«كُلَما دخلت أمة لعنَتْ أخْتَها
حتى إذا ادارَكوا فيها جميعا...» أقول قرأ: «حتى إذا تداركوا» مظهرا التاء
فيها، شاركه في هذه القراءة الأعمش.
وقرأ رضي الله عنه هكذا: «ويذَركَ
وإلاهَتَكَ» في الآية 127 من سورة الأعراف التي تقرأها الجماعة كمايلي:
«وقال الملأ من قوم فرعون أتَذرُ مُوسى وقومه ليُفْسِدوا في الأرض ويَذرَك
وءالِهَتَكَ» اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة علي ابن أبي طالب
وابن عباس وأنس بن مالك وعلقمة والجحدري والتيمي وأبو طالوت وأبو الرجاء.
يقال: «إلاَهَتَكَ» عبادتك؛ ومنه الإله، مستحق العبادة وقد سميت الشمس:
«إلاهَة» و«ألاهة» لأنهم كانوا يعبدونها. العلم
13/3/2009-
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
كنت
في الحلقة السابقة أحلل ما قرأ به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ ووصلت
في دراستي للحروف التي تميز بأدائها، إلى سورة الأعراف. واليوم، بعونه
وتوفيق منه سبحانه وتعالى، أتابع البحث في الموضوع، فأقول:
قرأ، رضي
الله عنه، الآية الأولى من سورة الأنفال وهي: «يسألونك عن الأنفال قل
الأنفالُ للّهِ والرسول فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله
ورسوله إن كنتم مؤمنين»، قرأها هكذا: «يسألنونك الانفال»!!
أعتقد أن
أحسن تحليل لقراءة عبد الله بن مسعود هذه نجده في: «المحتسب في تبيين وجوه
شواذ القراءات والإيضاح عنها»، قال فيه ابن جني، رحمه الله: «هذه القراءة
بالنصب مؤدية عن السبب للقراءة الأخرى التي هي: «عن الأنفال»، وذلك أنهم
إنما سألوه عنها تعرضا لطلبها واستعلاما لحالها: هل يسوغ طلبها؟
هذه
القراءة بالنصب تصريح بالتماس الأنفال وبيان عن الغرض في السؤال عنها قلت:
هل يحسن أن تحملها على حذف حرف الجر حتى كأنه قال: «يسألونك عن الأنفال».
فلما حذف «عنْ» نصب المفعول، كقول الشاعر عمرو بن معد يكرب:
أمرتُكَ الخيْرَ فافعلْ ما أمرْتَ بِهِ
فقد ترَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نشبِ
(النشب: المال الثابت أراد بالمال هنا الإبل خاصة)
فإن
قيل: هذا شاذ، إنما يحمله الشعر ـ فأما القرآن فيُختار له أفصح اللغات وإن
كان قد جاء في الآية 155 من سورة الأعراف: «واخْتارَ موسى قومه سبعينَ
رجلاً» وفي الآية 5 من سورة التوبة: «واقْعُدُوا لهُمْ كلَّ مرْصدٍ».
يمكن
أن يكون معنى «الأنفال» في هذه الآية: ما يعطيه الإمام لمن أراد من سيف أو
فرس أو نحوه، هذا المعنى هو الذي ذهب إليه ابن عباس. أما علي بن صالح وابن
جني والحسن فيرون أن معنى «الأنفال» في هذه الآية: الخمس. وقال عطاء:
«الأنفال» في الآية ما شذ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس الغائر
والعبد الآبق، وهو للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيه ما يشاء. وقال
بعضهم: «الأنفالُ: ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة.
يقول
أبو حيان الغرناطي في تفسيره «البحر المحيط» الجزء أربعة، صفحة 453 عن هذه
المعاني التي أعطيت للفظ الأنفال : «هذه الأقوال الأربعة مخالفة لما
تضافرت عليه أسباب النزول المروية، والجيد هو القول الأول وهو الذي تظاهرت
الرواية به. وقال الشعبي «الأنفال»: الأسرى؛ وهذا إنما هو منه على جهة
المثال.
أما الحرف الذي قبل قوله تعالى : «يسألونك» فليس عائدا على
مذكور قبله إنما يفسر وقعة بدر؛ فهو عائد على من حضرها من الصحابة وكان
السائل معلوما معينا ذلك اليوم فعاد الضمير عليه، والخطاب للرسول صلى الله
عليه وسلم.
وقد اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة كل من سعد
بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وولديْهِ زيد ومحمد الباقر وولده جعفر الصادق
وعكرمة وعطاء والضحاك وطلحة بن مصرف. وقيل «عنْ» بمعنى «منْ» أي:
«يسألونكَ من الأنفال» ولا ضرورة تدعو إلى تضمين الحرف معنى الحرف.
تجدر
الإشارة إلى أن ابن محيصن وهو القارىء الحادي عشر قرأ: «علّنْفال» نقل
حركة الهمز إلى لام التعريف وحذف الهمزة واعتد بالحركة المعارضة فأدغم نحو
: «وقد تبيّن» (العنكبوت: 38).
وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه،
في الآية 28 من سورة التوبة وهي: «يا أيها الّذين ءامنوا إنّما المشركون
نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعدعامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم
الله من فضله إن شاء إنّ الله عليمٌ حكيمٌ «نعم، لقد قرأ فيها: «وإن خفتم
عائلةً» هذا من المصادر التي جاءت على فاعلة كالعاقبة والعافية مثل قولهم
كما قال الخليل: « ما بالَيْتُ بالة» أنها في الأصل «بالية» كالعاقبة
والعافية، فحذفت لامها تخفيفاً، ومنه قوله تعالى في الآية 11 من سورة
الغاشية: «لا تسمع فيها لاغية» أيْ: لغواً. ومنه قوله: مررت به خاصة أيْ
«خصوصا» وأما قوله في الآية 13 من سورة المائدة: «ولا تزالُ تطلعُ على
خائنةٍ منهم» فيجوز فيه أن يكون مصدراً أي خيانة منهم ويجوز أن يكون على
أن معناه «على نية خائنة» أو «عقيدة خائنة» كما يجوز أن يكون أيضاً : «لا
تسمعُ فيها كلمة لاغية»، فالمصدر هنا أعذب وأحلى.
كما قرأ، رضي الله
عنه، في الآية 38 من سورة التوبة وهي: «إنّما النّسيءُ زيادةٌ في الكُفْر
يضلُّ به الذين كفروا يُحلّونهُ عاماً ويحرّمونهُ عاماً «يضلّ به» بضم
الياء وفتح الضاد؛ وفيه تأويلان؛ إن شئنا كان الفاعل اسم الله تعالى
مضمراً؛ أيْ: يضل الله الذي كفروا وإن شئنا كان تقديره يُضل به الذين
كفروا أولياءهم وأتباعهم.
اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة
كل من مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي وأبو رجاء عمران بن تيم العطار دي
البصري لكن بخلف عنه وقتادة بن دعامة الخطاب السدوسي وأبو عبد الله عمرو
بن ميمون الأودي الكوفي.
لكن الشيء المهم جداً والذي يجب التأكيد عليه
أن هذه القراءة هي قراءة متواترة يتعبد بها؛ وفعلاً قرأ بها من السبعة حفص
وحمزة والكسائي وقرأ بها من الثلاثة المتممة للعشرة خلف بن هشام البزار.
ويقرأها : «يضلَّ» من السبعة نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري وابن عامر الشامي وشعبة.
ويقرأها : «يضلّ» بضم الياء وكسر الضاد من الثلاثة المتممة للعشرة يعقوب بن إسحاق الحضرمي.
في
هذا الحرف قراءات أخرى يحسن الإشارة إليها لاسيما وأن ذكرها يعزز ذلك
الضابط الذي يحلو لي ترديده على مسامع طلبتي، وهو : «الآية القرآنية
متعددة المعاني على الدوام».
لأبي رجاء الذي اندرج، كما رأينا، مع عبد
الله بن مسعود في قراءته لقوله : «يُضَلُّ به» قراءة أخرى لهذا الحرف وهي:
«يضلُّ به الذين كفروا» بفتح الياء والضاد وهي لغة استعملتها بعض قبائل
العرب؛ تقول : «ضَلِلْتُ أضلّ» ومعلوم أن اللغة الفصحى: «ضللْتُ أضلَّ».
وقرأ
رضي الله عنه في الآية 112 من سورة التوبة: «التّائبينَ العابدين» والآية
بقراءة الجماعة هي: «التّائبون العابدون الحامدون السّائحونَ الرّاكعون
السّاجدُون الآمرون بالمعروف والنّاهونَ عن المُنكر والحافظون لحدود الله
وبشّر المؤمنينَ» شاركه في هذه القراءة كعب بن أبي وهي ترْوى أيضاً عن
الأعمش.
أما رفع: «التّائبون العابدون» فعلى قطع واستئناف،أيْ: هم:
«التّائبون العابدون». وأما: «التّائبينَ العابدين» فيحتمل أن يكون جراً
وأن يكون نصباً. أما الجر فعلى أن يكون وصفاً للمؤمنين في قوله تعالى في
الآية 111 من سورة التوبة: «إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم «التّائبين
العابدين». وأما النصب فعلى إضمار فعل لمعنى المدح، كأنه قال: «أعني أو
أمدح» التّائبين العابدين» كما أننا مع الرفع نضمر الرافع لمعنى المدح.
وقرأ
رضي الله عنه في الآية 16 من سورة هود التي هي: «أولئك الذين ليس لهم في
الآخرة إلاّ النّار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون «قرأ»
وباطلا ما كانوا يعملون، شاركه في هذه القراءة عبد الله بن أبي. يحلل هذه
القراءة ويخرجها اللغوي الكبير أبو الفتح بن جني فيقول: (باطلاً) منصوب ب
(يعملون)، وأما (ما) فزائدة للتوكيد. فكأنه قال: «وباطلا كانوا يعملون».
ومن بعد ففي هذه القراءة دلالة على جواز تقديم خبر كان عليها، كقولك
«قائما كان زيدٌ»، و «واقفا كان جعفر» ووجه الدلالة من ذلك أنه إنما يجوز
وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل. و«باطلا» منصوب ب «يعملون» والموضع
إذا ل «يعملون» لوقوع معموله متقدما عليه؛ فكأنه قال: «ويعملون باطلا
كانوا».
ومثله قوله تعالى في الآية 40 من سورة سبأ: «أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون».
استدل
أبو علي الفارسي بذلك على جواز تقديم خبر كان عليها، لأن (إيّاكم) معمول
(يعبدون)، وهو خبر (كان)، وإنما يجوز وقوع المعمول فيه بحيث يجوز وقوع
العامل على ما قدمناه» (المحتسب ـ الجزء الأول، صفحة 321)
وقرأ عبد
الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 111 من سورة هود وهي: «وإن كلاّ
لمّا ليوفِّينهم ربّك أعمالهم إنّه بما يعملون خبيرٌ»؛ قرأ: «إن كلّ إلاّ
ليوفّينهم ربّك»؛ معنى هذه القراءة، أيْ قراءة عبد الله بن مسعود «ما كلّ
إلاّ والله ليوفّينّهمْ»، كقولك : «ما زيد إلاّ لأضربنّهُ» أي: ما زيد إلا
مستحق لأن يقال فيه هذا. ويجوز فيه وجه ثان، وهو أن تكون (إنْ) مخففة من
الثقيلة وتجعل (إلاّ) زائدة.
وقرأ رضي الله عنه في الآية 51 من سورة
يوسف التي هي: «قال ما خطبُكُنّ إذ راودتّنَّ يوسف عن نفسه قُلْنَ حاش لله
ما علمنا عليهِ منْ سوءٍ..» قرأ فيها : «حاشا الله» اندرج مع عبد الله بن
مسعود في هذه القراءة أبيّ بن كعب. وقرأها الحسن البصري بقراءتين؛ الأولى:
«حاش الإله» والثانية: «حاش لله». أما: «حاشا الله» فعلى أصل اللفظة، وهي
حرف جر. وأما: «حاش الإله» فمحذوف من حاشا تخفيفا وبهذا قال المفسران ابن
عطية وأبو حيان الغرناطي. وأما: «حاشْ لله» بسكون الشين فضعيف من موضعين:
أحدهما: التقاء الساكنين الألف والشين، وليست الشين مدغمة. والآخر: إسكان
الشين بعد حذف الألف ولا موجب لذلك. 20/3/2009
في الحلقة السابقة أحلل ما قرأ به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ ووصلت
في دراستي للحروف التي تميز بأدائها، إلى سورة الأعراف. واليوم، بعونه
وتوفيق منه سبحانه وتعالى، أتابع البحث في الموضوع، فأقول:
قرأ، رضي
الله عنه، الآية الأولى من سورة الأنفال وهي: «يسألونك عن الأنفال قل
الأنفالُ للّهِ والرسول فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله
ورسوله إن كنتم مؤمنين»، قرأها هكذا: «يسألنونك الانفال»!!
أعتقد أن
أحسن تحليل لقراءة عبد الله بن مسعود هذه نجده في: «المحتسب في تبيين وجوه
شواذ القراءات والإيضاح عنها»، قال فيه ابن جني، رحمه الله: «هذه القراءة
بالنصب مؤدية عن السبب للقراءة الأخرى التي هي: «عن الأنفال»، وذلك أنهم
إنما سألوه عنها تعرضا لطلبها واستعلاما لحالها: هل يسوغ طلبها؟
هذه
القراءة بالنصب تصريح بالتماس الأنفال وبيان عن الغرض في السؤال عنها قلت:
هل يحسن أن تحملها على حذف حرف الجر حتى كأنه قال: «يسألونك عن الأنفال».
فلما حذف «عنْ» نصب المفعول، كقول الشاعر عمرو بن معد يكرب:
أمرتُكَ الخيْرَ فافعلْ ما أمرْتَ بِهِ
فقد ترَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نشبِ
(النشب: المال الثابت أراد بالمال هنا الإبل خاصة)
فإن
قيل: هذا شاذ، إنما يحمله الشعر ـ فأما القرآن فيُختار له أفصح اللغات وإن
كان قد جاء في الآية 155 من سورة الأعراف: «واخْتارَ موسى قومه سبعينَ
رجلاً» وفي الآية 5 من سورة التوبة: «واقْعُدُوا لهُمْ كلَّ مرْصدٍ».
يمكن
أن يكون معنى «الأنفال» في هذه الآية: ما يعطيه الإمام لمن أراد من سيف أو
فرس أو نحوه، هذا المعنى هو الذي ذهب إليه ابن عباس. أما علي بن صالح وابن
جني والحسن فيرون أن معنى «الأنفال» في هذه الآية: الخمس. وقال عطاء:
«الأنفال» في الآية ما شذ من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس الغائر
والعبد الآبق، وهو للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيه ما يشاء. وقال
بعضهم: «الأنفالُ: ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة.
يقول
أبو حيان الغرناطي في تفسيره «البحر المحيط» الجزء أربعة، صفحة 453 عن هذه
المعاني التي أعطيت للفظ الأنفال : «هذه الأقوال الأربعة مخالفة لما
تضافرت عليه أسباب النزول المروية، والجيد هو القول الأول وهو الذي تظاهرت
الرواية به. وقال الشعبي «الأنفال»: الأسرى؛ وهذا إنما هو منه على جهة
المثال.
أما الحرف الذي قبل قوله تعالى : «يسألونك» فليس عائدا على
مذكور قبله إنما يفسر وقعة بدر؛ فهو عائد على من حضرها من الصحابة وكان
السائل معلوما معينا ذلك اليوم فعاد الضمير عليه، والخطاب للرسول صلى الله
عليه وسلم.
وقد اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة كل من سعد
بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وولديْهِ زيد ومحمد الباقر وولده جعفر الصادق
وعكرمة وعطاء والضحاك وطلحة بن مصرف. وقيل «عنْ» بمعنى «منْ» أي:
«يسألونكَ من الأنفال» ولا ضرورة تدعو إلى تضمين الحرف معنى الحرف.
تجدر
الإشارة إلى أن ابن محيصن وهو القارىء الحادي عشر قرأ: «علّنْفال» نقل
حركة الهمز إلى لام التعريف وحذف الهمزة واعتد بالحركة المعارضة فأدغم نحو
: «وقد تبيّن» (العنكبوت: 38).
وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه،
في الآية 28 من سورة التوبة وهي: «يا أيها الّذين ءامنوا إنّما المشركون
نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعدعامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم
الله من فضله إن شاء إنّ الله عليمٌ حكيمٌ «نعم، لقد قرأ فيها: «وإن خفتم
عائلةً» هذا من المصادر التي جاءت على فاعلة كالعاقبة والعافية مثل قولهم
كما قال الخليل: « ما بالَيْتُ بالة» أنها في الأصل «بالية» كالعاقبة
والعافية، فحذفت لامها تخفيفاً، ومنه قوله تعالى في الآية 11 من سورة
الغاشية: «لا تسمع فيها لاغية» أيْ: لغواً. ومنه قوله: مررت به خاصة أيْ
«خصوصا» وأما قوله في الآية 13 من سورة المائدة: «ولا تزالُ تطلعُ على
خائنةٍ منهم» فيجوز فيه أن يكون مصدراً أي خيانة منهم ويجوز أن يكون على
أن معناه «على نية خائنة» أو «عقيدة خائنة» كما يجوز أن يكون أيضاً : «لا
تسمعُ فيها كلمة لاغية»، فالمصدر هنا أعذب وأحلى.
كما قرأ، رضي الله
عنه، في الآية 38 من سورة التوبة وهي: «إنّما النّسيءُ زيادةٌ في الكُفْر
يضلُّ به الذين كفروا يُحلّونهُ عاماً ويحرّمونهُ عاماً «يضلّ به» بضم
الياء وفتح الضاد؛ وفيه تأويلان؛ إن شئنا كان الفاعل اسم الله تعالى
مضمراً؛ أيْ: يضل الله الذي كفروا وإن شئنا كان تقديره يُضل به الذين
كفروا أولياءهم وأتباعهم.
اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة
كل من مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي وأبو رجاء عمران بن تيم العطار دي
البصري لكن بخلف عنه وقتادة بن دعامة الخطاب السدوسي وأبو عبد الله عمرو
بن ميمون الأودي الكوفي.
لكن الشيء المهم جداً والذي يجب التأكيد عليه
أن هذه القراءة هي قراءة متواترة يتعبد بها؛ وفعلاً قرأ بها من السبعة حفص
وحمزة والكسائي وقرأ بها من الثلاثة المتممة للعشرة خلف بن هشام البزار.
ويقرأها : «يضلَّ» من السبعة نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري وابن عامر الشامي وشعبة.
ويقرأها : «يضلّ» بضم الياء وكسر الضاد من الثلاثة المتممة للعشرة يعقوب بن إسحاق الحضرمي.
في
هذا الحرف قراءات أخرى يحسن الإشارة إليها لاسيما وأن ذكرها يعزز ذلك
الضابط الذي يحلو لي ترديده على مسامع طلبتي، وهو : «الآية القرآنية
متعددة المعاني على الدوام».
لأبي رجاء الذي اندرج، كما رأينا، مع عبد
الله بن مسعود في قراءته لقوله : «يُضَلُّ به» قراءة أخرى لهذا الحرف وهي:
«يضلُّ به الذين كفروا» بفتح الياء والضاد وهي لغة استعملتها بعض قبائل
العرب؛ تقول : «ضَلِلْتُ أضلّ» ومعلوم أن اللغة الفصحى: «ضللْتُ أضلَّ».
وقرأ
رضي الله عنه في الآية 112 من سورة التوبة: «التّائبينَ العابدين» والآية
بقراءة الجماعة هي: «التّائبون العابدون الحامدون السّائحونَ الرّاكعون
السّاجدُون الآمرون بالمعروف والنّاهونَ عن المُنكر والحافظون لحدود الله
وبشّر المؤمنينَ» شاركه في هذه القراءة كعب بن أبي وهي ترْوى أيضاً عن
الأعمش.
أما رفع: «التّائبون العابدون» فعلى قطع واستئناف،أيْ: هم:
«التّائبون العابدون». وأما: «التّائبينَ العابدين» فيحتمل أن يكون جراً
وأن يكون نصباً. أما الجر فعلى أن يكون وصفاً للمؤمنين في قوله تعالى في
الآية 111 من سورة التوبة: «إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم «التّائبين
العابدين». وأما النصب فعلى إضمار فعل لمعنى المدح، كأنه قال: «أعني أو
أمدح» التّائبين العابدين» كما أننا مع الرفع نضمر الرافع لمعنى المدح.
وقرأ
رضي الله عنه في الآية 16 من سورة هود التي هي: «أولئك الذين ليس لهم في
الآخرة إلاّ النّار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون «قرأ»
وباطلا ما كانوا يعملون، شاركه في هذه القراءة عبد الله بن أبي. يحلل هذه
القراءة ويخرجها اللغوي الكبير أبو الفتح بن جني فيقول: (باطلاً) منصوب ب
(يعملون)، وأما (ما) فزائدة للتوكيد. فكأنه قال: «وباطلا كانوا يعملون».
ومن بعد ففي هذه القراءة دلالة على جواز تقديم خبر كان عليها، كقولك
«قائما كان زيدٌ»، و «واقفا كان جعفر» ووجه الدلالة من ذلك أنه إنما يجوز
وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل. و«باطلا» منصوب ب «يعملون» والموضع
إذا ل «يعملون» لوقوع معموله متقدما عليه؛ فكأنه قال: «ويعملون باطلا
كانوا».
ومثله قوله تعالى في الآية 40 من سورة سبأ: «أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون».
استدل
أبو علي الفارسي بذلك على جواز تقديم خبر كان عليها، لأن (إيّاكم) معمول
(يعبدون)، وهو خبر (كان)، وإنما يجوز وقوع المعمول فيه بحيث يجوز وقوع
العامل على ما قدمناه» (المحتسب ـ الجزء الأول، صفحة 321)
وقرأ عبد
الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 111 من سورة هود وهي: «وإن كلاّ
لمّا ليوفِّينهم ربّك أعمالهم إنّه بما يعملون خبيرٌ»؛ قرأ: «إن كلّ إلاّ
ليوفّينهم ربّك»؛ معنى هذه القراءة، أيْ قراءة عبد الله بن مسعود «ما كلّ
إلاّ والله ليوفّينّهمْ»، كقولك : «ما زيد إلاّ لأضربنّهُ» أي: ما زيد إلا
مستحق لأن يقال فيه هذا. ويجوز فيه وجه ثان، وهو أن تكون (إنْ) مخففة من
الثقيلة وتجعل (إلاّ) زائدة.
وقرأ رضي الله عنه في الآية 51 من سورة
يوسف التي هي: «قال ما خطبُكُنّ إذ راودتّنَّ يوسف عن نفسه قُلْنَ حاش لله
ما علمنا عليهِ منْ سوءٍ..» قرأ فيها : «حاشا الله» اندرج مع عبد الله بن
مسعود في هذه القراءة أبيّ بن كعب. وقرأها الحسن البصري بقراءتين؛ الأولى:
«حاش الإله» والثانية: «حاش لله». أما: «حاشا الله» فعلى أصل اللفظة، وهي
حرف جر. وأما: «حاش الإله» فمحذوف من حاشا تخفيفا وبهذا قال المفسران ابن
عطية وأبو حيان الغرناطي. وأما: «حاشْ لله» بسكون الشين فضعيف من موضعين:
أحدهما: التقاء الساكنين الألف والشين، وليست الشين مدغمة. والآخر: إسكان
الشين بعد حذف الألف ولا موجب لذلك. 20/3/2009
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
رد: لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
تحدثت
في الحلقات السابقة عن قراءة الإمام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وكنت
بدأت في تحليلي لقراءته من سورة البقرة كما كان، طبعاً، يُنتظر مني.
وأنهيْت، كما لا شك لاحظتم، الحلقة السابقة بما قرأ به رضي الله عنه في
سورة طه، وأواصل، الآن بعون الله وقوته، الحديث في الموضوع، فأقول:
قرأ
عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 96 من سورة الأنبياء التي هي:
«حتى إذا فُتحتْ يأجوجُ ومأجوجُ وهم منْ كلِّ حدب ينْسلُون»؛ قرأ: «منْ
كلِّ جَدب ينْسلون»، بالجيم. و«الجدب» هو القبر بلغة أهل الحجاز. و«الجدف»
بالفاء لغة لبني تميم. لم يشاركه في هذه القراءة أحد.
يقول ابن جني عن
هذا الموضوع: «ألا ترى الثاء أذهب في التصرف من الفاء؟ وقد يجوز أن يكون
أصلين إلا أن أحدهما أوسع تصرفاً من ثاحبه كما قالوا «وكًْدّتُ عهده
وأكدته» إلا أن الواو أوسع تصرفا من الهمزة ألا ترهم قالوا:» «قدْ وكدَ
وكْدهُ»، أي شغل به ولم يقولوا: «أكدَ أكْدَهُ»؟ (الوكد: الهمُّ، والمراد،
والقصد). فالواو إذا أوسع تصرفاً؛ وعليه قالوا: «موَدَّةَ وكيدَة» ولم
يقولوا: «أكيدَة» وقالوا: «وكَّدْتُ السَّرْجَ». و«الوكادُ»: سير يشد به
الرجل وجمعه «وكاد».
وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 36 من سورة الحج
التي هي: «والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خيرٌ فاذكروا اسم
الله عليها صوافَّ» قرأها هكذا: «والبدْن جعلناها لكم من شعائر الله لكم
فيها خيرٌ فاذكروا اسم الله عليها صوافنَ». اندرج معه في هذه القراءة كل
من ابن عمر وابن عباس وابراهيم وأبي جعفر محمد بن علي والأعمش بخلف عن
هاذين الأخيرين وعطاء بن أبي رباح والضحاك والكلبي.
أما أبو موسى
الأشعري والحسن وأبو وائل شفيق بن سلمة الكوفي الأسدي وأبو أسامة زيد بن
أسلم المدني وسليمان التميمي فقرأ وها: «صوافي» ورويت عن الأعرج أيضاً.
يوضح
هذه القراءة صاحب «المحتسب» فيقول: «هي (الصافِنات) في قوله تعالى في
الآية 31 من سورة ص، قال فيها سبحانه: «إذْ عرض عليْه بالعَشيِّ الصافناتُ
الجيادُ»، إلا أنها استعملت هنا في الإبل. و«الصافنُ»: الرافع إحدى رجليْه
واعتماده منها على سُنْبُكها. قال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه * مقلّدة أعنَّتها صفونا
و«صوافي» أيْ: خوالص لوجهه وطاعته. قال العجاج:
حتّى إذا ما آض ذا اعْرافِ كالْكَوَدْن المشدود بالوكاف
قال الذي عندك صوافي
وقرأ
عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 67 من سورة المؤمنون وهي
بقراءة الإمام نافع المدني: «مُسْتكبرين به سامراً تُهْجرون» وبقراءة
الآخرين: «مستكْبرينَ به سامراً تهْجرون»؛ أما عبد الله ابن مسعود فقرأها
هكذا: «مستَكبرين به سمَّراً يهجِّرون». شاركه في هذه القراءة عبد الله بن
عباس وأبو خالد عكرمة بن خالد بن العاص المخزومي المكي، وقرأ ابن محيصن
هذه الآية هكذا: «مسْتكبرين به سُمَّرا يُهجرون».
«السَّمَّرُ» جمع «سامر» و«السّامرُ» القوم يسمرون ليلا، أيْ: يتحدثون ليلا، قال ذو الرمة:
وكمْ عرَّست بعد السّرى منْ معرَّس به منْ عزيف الجنِّ أصْواتُ سامر
وأما «يُهجرون» بسكون الهاء وضم الياء فتفسيره: يفحشون في القول، يقال: «هجر الرجل في منطقه» إذا هذى وأهجر: أفحش.
وقال
الحسن في: «تهْجرون» أيْ: تهجرون كتابي ونبيي. وأما: «تُهجرون» فقد تكون
بمعنى: «تكفرون من الهُجر»، وهو الهذيان، أو «هجر النبي صلى الله عليه
وسلم وكتاب الله أو تكفرون من الإهجار، وهو إفحاش القول؛ لأن فعل تأتي
للتكثير.
ثم يضيف صاحب «المحتسب» قائلا: «وروينا عن أبي حاتم، قال:
قرأ: «سمارا» أبو رجاء؛ فهذا ككتاب وكتاب وشارب وشراب. ولو ذهب ذاهب إلى
أن معنى: «تُهجرون»، أي: تكثرون من الهذيان حتى تكونوا - وأنتم في سواد
الليل لقلة احتشامكم لظهور ذلك عليكم - كأنكم مهجرون؛ أي: مبادون به غير
مسايرين له، كالذي يهجر في مسيره، أي: يسير في الهاجرة، فهذا كقولك
لصاحبك: «أنت مساتراً معلن، وأنت محسناً مسيء، أي: أنت في حال مساترتك
معلن، وأنت في حال إحسانك عندي مسيء - لكان وجهاً.
وقرأ، رضي الله عنه،
في الآيتين 108 و109 من سورة المؤمنون التي هي: «قال اخسئوا فيها
ولاتكلمون (108) إنه كانَ فريق من عبادي يقولون ربنا ءامنا فاغفرْ لنا
وارْحمنا وأنت خير الراحمين (109)»، قرأها هو هكذا: «قال اخْسئوا فيها
ولاتكلمون (108) كان فريق من عبادي يقولون ربنا ءامنا فاغفر لناوارحمنا
وأنت خير الراحمين(109) بغير «أنه».
أما أبي بن كعب فقرأ فيها: «ولاتكلمون (108) أنه كان فريق من عبادي يقولون » بفتح الألف. قال هارون: كيف شئت (إنه) و(أنه).
وقال يونس عن هارون في حرف أبي: «ولا تكلمون(108) أن كان فريق» .
يتدخل
كعادته اللغوي الكبير أبو الفتح بن جني فيوضح لنا، رحمه الله، اختلاف
القراء في هذه الألفاظ القرآنية، فيقول: «قراءة ابن مسعود: «كان فريقٌ»
بغير «أنه «تشهد للكسر، لأنه موضع استئناف، والكسر أحق بذلك. والقراءة:
«أنْ كان فريق «تشهد أنه، ألا ترى أن معناه: «ولا تكلمون لأنه كان فريق
كذا» وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه الآية 111 من سورة الشعراء
وهي: «قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون» هكذا: «قالوا أنؤمن لك وأتْباعك
الأرذلون». اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة كل من الضحاك وطلحة
وابن السميفع ويعقوب وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري.
حلل لنا ابن جني خفايا هذه القراءة فقال: «تحتمل هذه القراءة ضربين من القول مختلفي الطريق إلا أنهما متفقا المعنى.
أحدهما أن يكون أراد : «أنؤمن لك وإنما أتْباعك الأرذلون» ف (أتباعك) مرفوع بالابتداء و«الأرذلون» خبر.
والآخر
أن يكون: «وأتباعك» معطوفا على الضمير في: «أنؤمن»، أي: «أنؤمنُ لك
وأتْباعك الأرذلون»؟ . فالأرذلون إذا وصف للأتباع، وجاز العطف على الضمير
المرفوع المتصل من غير توكيد لما وقع هناك من الفصل، وهو قوله: «لك»، فصار
طول الكلام، به كالعوض من توكيد الضمير بقوله: «نحنُ». وإذا جاز قوله
تعالى في الآية 148 من سورة الأنعام: «ما أشركنا ولا آباؤنا» كان الأول من
طريق الإعراب أمثل؛ وذلك أن العوض ينبغي أن يكون في شق المعوض منه وأن
يكون قبل حرف العطف، وهذه صورة قوله: «لك»،وأما (لا) من قوله تعالى: «ولا
آباؤنا» فإنهابعد حرف العطف، فهي في شق المعطوف نفسه لا في شق المعطوف
عليه، والجامع بينهما طول الكلام بكل واحد منهما، والمعنى منْ بعدُ:
«أنؤمنُ لك نحن وأتْباعك الأرذلون فنعد في عدادهم»؟ وهذا هو معنى القول
الآخر: «أنؤمن لك وإنماأتباعك الأرذلون فنساويهم في أن نكون مرذولين
مثلهم».
وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 82 من سورة النور التي هي: «وإذا
وقع القولُ عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلِّمهم أن الناس كانوا
بآياتنا لايوقنون» أقول قرأها هو هكذا: «وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم
دابة من الأرض تكلمهم بأنَّ الناس كانوا بآياتنا لايوقنون» بزيادة الباء
قبل «أن الناس». يقوم هذا شاهدا لمن ذهب إلى أن «تكلمهم» : تجرحهم، أي:
تفعل بهم ذلك بكفرهم وزوال يقينهم.
وجدير بالذكر أن نشير إلى أن في هذه
اللفظة، أي: «تكلمهم» قراءة أخرى قرأ بها كل من عبد الله بن عباس وسعيد بن
جبير ومجاهد والجحدري وأبي زرعة؛ هذه القراءة هي: «تكلمهم» ومعناها:
تجرحهم بأكلها إياهم. وهذا شاهد لمن ذهب في قوله: «تكلمهم» إلى أنه بمعنى:
تجرحهم بأكلها إياهم. ولا يكون: «تكلمهم» إلا من «الكلم» وهو الجرح. هذه
المادة هي مما وضعته العرب عبارة عن الشدة هي وتقاليبها الستة 1 - (ك ل م
) ، 2 - (ك م ل)، 3 - (م ل ك)، 4 - (ل ك م)، 5 - (م ك ل)، 6 - (ل م ك).
ويشهد لمن قال في قوله: «تكلمهم» إلى أنه من الكلام قراءة أبي بن كعب: «تنبؤهم».
الدكتور التهامي الراجي الهاشمي
جريدة العلم المغربية
3/4/2009
-
في الحلقات السابقة عن قراءة الإمام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وكنت
بدأت في تحليلي لقراءته من سورة البقرة كما كان، طبعاً، يُنتظر مني.
وأنهيْت، كما لا شك لاحظتم، الحلقة السابقة بما قرأ به رضي الله عنه في
سورة طه، وأواصل، الآن بعون الله وقوته، الحديث في الموضوع، فأقول:
قرأ
عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 96 من سورة الأنبياء التي هي:
«حتى إذا فُتحتْ يأجوجُ ومأجوجُ وهم منْ كلِّ حدب ينْسلُون»؛ قرأ: «منْ
كلِّ جَدب ينْسلون»، بالجيم. و«الجدب» هو القبر بلغة أهل الحجاز. و«الجدف»
بالفاء لغة لبني تميم. لم يشاركه في هذه القراءة أحد.
يقول ابن جني عن
هذا الموضوع: «ألا ترى الثاء أذهب في التصرف من الفاء؟ وقد يجوز أن يكون
أصلين إلا أن أحدهما أوسع تصرفاً من ثاحبه كما قالوا «وكًْدّتُ عهده
وأكدته» إلا أن الواو أوسع تصرفا من الهمزة ألا ترهم قالوا:» «قدْ وكدَ
وكْدهُ»، أي شغل به ولم يقولوا: «أكدَ أكْدَهُ»؟ (الوكد: الهمُّ، والمراد،
والقصد). فالواو إذا أوسع تصرفاً؛ وعليه قالوا: «موَدَّةَ وكيدَة» ولم
يقولوا: «أكيدَة» وقالوا: «وكَّدْتُ السَّرْجَ». و«الوكادُ»: سير يشد به
الرجل وجمعه «وكاد».
وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 36 من سورة الحج
التي هي: «والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خيرٌ فاذكروا اسم
الله عليها صوافَّ» قرأها هكذا: «والبدْن جعلناها لكم من شعائر الله لكم
فيها خيرٌ فاذكروا اسم الله عليها صوافنَ». اندرج معه في هذه القراءة كل
من ابن عمر وابن عباس وابراهيم وأبي جعفر محمد بن علي والأعمش بخلف عن
هاذين الأخيرين وعطاء بن أبي رباح والضحاك والكلبي.
أما أبو موسى
الأشعري والحسن وأبو وائل شفيق بن سلمة الكوفي الأسدي وأبو أسامة زيد بن
أسلم المدني وسليمان التميمي فقرأ وها: «صوافي» ورويت عن الأعرج أيضاً.
يوضح
هذه القراءة صاحب «المحتسب» فيقول: «هي (الصافِنات) في قوله تعالى في
الآية 31 من سورة ص، قال فيها سبحانه: «إذْ عرض عليْه بالعَشيِّ الصافناتُ
الجيادُ»، إلا أنها استعملت هنا في الإبل. و«الصافنُ»: الرافع إحدى رجليْه
واعتماده منها على سُنْبُكها. قال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه * مقلّدة أعنَّتها صفونا
و«صوافي» أيْ: خوالص لوجهه وطاعته. قال العجاج:
حتّى إذا ما آض ذا اعْرافِ كالْكَوَدْن المشدود بالوكاف
قال الذي عندك صوافي
وقرأ
عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في الآية 67 من سورة المؤمنون وهي
بقراءة الإمام نافع المدني: «مُسْتكبرين به سامراً تُهْجرون» وبقراءة
الآخرين: «مستكْبرينَ به سامراً تهْجرون»؛ أما عبد الله ابن مسعود فقرأها
هكذا: «مستَكبرين به سمَّراً يهجِّرون». شاركه في هذه القراءة عبد الله بن
عباس وأبو خالد عكرمة بن خالد بن العاص المخزومي المكي، وقرأ ابن محيصن
هذه الآية هكذا: «مسْتكبرين به سُمَّرا يُهجرون».
«السَّمَّرُ» جمع «سامر» و«السّامرُ» القوم يسمرون ليلا، أيْ: يتحدثون ليلا، قال ذو الرمة:
وكمْ عرَّست بعد السّرى منْ معرَّس به منْ عزيف الجنِّ أصْواتُ سامر
وأما «يُهجرون» بسكون الهاء وضم الياء فتفسيره: يفحشون في القول، يقال: «هجر الرجل في منطقه» إذا هذى وأهجر: أفحش.
وقال
الحسن في: «تهْجرون» أيْ: تهجرون كتابي ونبيي. وأما: «تُهجرون» فقد تكون
بمعنى: «تكفرون من الهُجر»، وهو الهذيان، أو «هجر النبي صلى الله عليه
وسلم وكتاب الله أو تكفرون من الإهجار، وهو إفحاش القول؛ لأن فعل تأتي
للتكثير.
ثم يضيف صاحب «المحتسب» قائلا: «وروينا عن أبي حاتم، قال:
قرأ: «سمارا» أبو رجاء؛ فهذا ككتاب وكتاب وشارب وشراب. ولو ذهب ذاهب إلى
أن معنى: «تُهجرون»، أي: تكثرون من الهذيان حتى تكونوا - وأنتم في سواد
الليل لقلة احتشامكم لظهور ذلك عليكم - كأنكم مهجرون؛ أي: مبادون به غير
مسايرين له، كالذي يهجر في مسيره، أي: يسير في الهاجرة، فهذا كقولك
لصاحبك: «أنت مساتراً معلن، وأنت محسناً مسيء، أي: أنت في حال مساترتك
معلن، وأنت في حال إحسانك عندي مسيء - لكان وجهاً.
وقرأ، رضي الله عنه،
في الآيتين 108 و109 من سورة المؤمنون التي هي: «قال اخسئوا فيها
ولاتكلمون (108) إنه كانَ فريق من عبادي يقولون ربنا ءامنا فاغفرْ لنا
وارْحمنا وأنت خير الراحمين (109)»، قرأها هو هكذا: «قال اخْسئوا فيها
ولاتكلمون (108) كان فريق من عبادي يقولون ربنا ءامنا فاغفر لناوارحمنا
وأنت خير الراحمين(109) بغير «أنه».
أما أبي بن كعب فقرأ فيها: «ولاتكلمون (108) أنه كان فريق من عبادي يقولون » بفتح الألف. قال هارون: كيف شئت (إنه) و(أنه).
وقال يونس عن هارون في حرف أبي: «ولا تكلمون(108) أن كان فريق» .
يتدخل
كعادته اللغوي الكبير أبو الفتح بن جني فيوضح لنا، رحمه الله، اختلاف
القراء في هذه الألفاظ القرآنية، فيقول: «قراءة ابن مسعود: «كان فريقٌ»
بغير «أنه «تشهد للكسر، لأنه موضع استئناف، والكسر أحق بذلك. والقراءة:
«أنْ كان فريق «تشهد أنه، ألا ترى أن معناه: «ولا تكلمون لأنه كان فريق
كذا» وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه الآية 111 من سورة الشعراء
وهي: «قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون» هكذا: «قالوا أنؤمن لك وأتْباعك
الأرذلون». اندرج مع عبد الله بن مسعود في هذه القراءة كل من الضحاك وطلحة
وابن السميفع ويعقوب وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري.
حلل لنا ابن جني خفايا هذه القراءة فقال: «تحتمل هذه القراءة ضربين من القول مختلفي الطريق إلا أنهما متفقا المعنى.
أحدهما أن يكون أراد : «أنؤمن لك وإنما أتْباعك الأرذلون» ف (أتباعك) مرفوع بالابتداء و«الأرذلون» خبر.
والآخر
أن يكون: «وأتباعك» معطوفا على الضمير في: «أنؤمن»، أي: «أنؤمنُ لك
وأتْباعك الأرذلون»؟ . فالأرذلون إذا وصف للأتباع، وجاز العطف على الضمير
المرفوع المتصل من غير توكيد لما وقع هناك من الفصل، وهو قوله: «لك»، فصار
طول الكلام، به كالعوض من توكيد الضمير بقوله: «نحنُ». وإذا جاز قوله
تعالى في الآية 148 من سورة الأنعام: «ما أشركنا ولا آباؤنا» كان الأول من
طريق الإعراب أمثل؛ وذلك أن العوض ينبغي أن يكون في شق المعوض منه وأن
يكون قبل حرف العطف، وهذه صورة قوله: «لك»،وأما (لا) من قوله تعالى: «ولا
آباؤنا» فإنهابعد حرف العطف، فهي في شق المعطوف نفسه لا في شق المعطوف
عليه، والجامع بينهما طول الكلام بكل واحد منهما، والمعنى منْ بعدُ:
«أنؤمنُ لك نحن وأتْباعك الأرذلون فنعد في عدادهم»؟ وهذا هو معنى القول
الآخر: «أنؤمن لك وإنماأتباعك الأرذلون فنساويهم في أن نكون مرذولين
مثلهم».
وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 82 من سورة النور التي هي: «وإذا
وقع القولُ عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلِّمهم أن الناس كانوا
بآياتنا لايوقنون» أقول قرأها هو هكذا: «وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم
دابة من الأرض تكلمهم بأنَّ الناس كانوا بآياتنا لايوقنون» بزيادة الباء
قبل «أن الناس». يقوم هذا شاهدا لمن ذهب إلى أن «تكلمهم» : تجرحهم، أي:
تفعل بهم ذلك بكفرهم وزوال يقينهم.
وجدير بالذكر أن نشير إلى أن في هذه
اللفظة، أي: «تكلمهم» قراءة أخرى قرأ بها كل من عبد الله بن عباس وسعيد بن
جبير ومجاهد والجحدري وأبي زرعة؛ هذه القراءة هي: «تكلمهم» ومعناها:
تجرحهم بأكلها إياهم. وهذا شاهد لمن ذهب في قوله: «تكلمهم» إلى أنه بمعنى:
تجرحهم بأكلها إياهم. ولا يكون: «تكلمهم» إلا من «الكلم» وهو الجرح. هذه
المادة هي مما وضعته العرب عبارة عن الشدة هي وتقاليبها الستة 1 - (ك ل م
) ، 2 - (ك م ل)، 3 - (م ل ك)، 4 - (ل ك م)، 5 - (م ك ل)، 6 - (ل م ك).
ويشهد لمن قال في قوله: «تكلمهم» إلى أنه من الكلام قراءة أبي بن كعب: «تنبؤهم».
الدكتور التهامي الراجي الهاشمي
جريدة العلم المغربية
3/4/2009
-
ندى- عدد الرسائل : 596
العمر : 34
Localisation : اسفي
Emploi : مستخدمة في القطاع الخاص
تاريخ التسجيل : 16/10/2007
رد: لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أواصل في هذه
الحلقة أيضا الحديث عن قراءة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، ولا شك
أنكم تذكرون أننا وصلنا، أنا وأنتم، في اللقاء السابق إلى سورة النور
وفيها رأيناه، رضي الله عنه، يقرأ قوله تعالى: «وإِذا وَقَع القَوْلُ
عَلَيْهِم أخْرَجْنا لهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُم أنَّ
النَّاسَ كَانُوا بآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ» هكذا: «وإِذَا وَقَع
القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ بأنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ» بزيادة
الباء قبل «أنَّ النَّاسَ». وكنا رأينا أن هذا يقومُ شاهداً لمن ذهب إلى
أن معنى «تُكَلِّمُهُمُ»: تُجْرحُهُم، أي: تفعل بهم ذلك بكفرهم وزوال
يقينهم.
وقرأ، رضي الله عنه، الآية 82 من سورة القصص التي هي:
«وأَصْبَح الَّذين تمنّوا مكانَهُ بالأمس يقولون ويْكَأنَّ الله يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لمَنْ يشاء مِنْ عِبَادِِهِ ويَقْدِرْ لَوْلا أنْ مَنَّ الله
عَلَيْنا لَخَسَفَ بنا ويْكأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرون»، هكذا:
«وأصْبح الذِين تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق
لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويْكَأنَّه لا
يُفْلِحُ الكَافِرون».
لفظ «بِنَا» في قراءة عبد الله بن مسعود مرفوعة
الموضع لإقامتها مقام الفاعل؛ فهو كقوله: انقطع بالرجل وانْجُدِبَ إلى ما
يريد وانقيد له إلى هواه. ومعلوم أن (انفعل) وإن لم يتعد إلى مفعول به
فإنه يتعدى إلى حرف الجر، فيقام حرف الجر مقام الفاعل، كقولهم: سير بزيد.
وإن شئت اضمرْتَ المصدر لدلالة فعله عليه؛ فكأنه قال: لا تخْسِف الانخِساف
بنا. فــ(بنا) على هذا منصوبة الموضع.
كما قرأ عبد الله بن مسعود، رضي
الله عنه، في الآية 27 من سورة لقمان وهي: ولوْ أنَّما في الأرض من شجرة
أقلامٌ والبحرُ يَمُدُّه من بعْدِهِ سبْعَة أبْحُرٍ مَا نَفَدَتْ
كَلِمَاتُ الله إن الله عزيز حكيمٌ»؛ أقول: قرأ هو: «وبَحْرٌ يُمِدَّهُ»
بضم الياء في الفعل «يَمُدُّهُ» وكسر ميمه وقبله «بَحْرٌ» غير معرف خلافا
لما نراه في قراءة الجماعة. شاركه في هذه القراءة طلحة بن مصرف. أما جعفر
بن محمد فقرأ: «والبَحْرُ مِدَادُهُ»، وقرأ الأعرج والحسن: «والبحْرُ
يُمِدُّهُ» عرَّفا «البَحْرُ» في قراءتهما.
أفادتنا قراءة جعفر بن محمد
أن قوله «والبَحْرُ» مرفوع بالابتداء وخبره محذوف ولا يجوز أن يكون معطوفا
على «أقْلاَمٌ»، لأن البحر وما فيه من الماء ليس من حديث الشجر والأقلام
وإنما هو من حديث المداد.
ما يدل على صحة العطف هنا، وما يدل كذلك على
أن الواو ليست بواو حال قراءة أبي عمرو البصري من السبعة ويعقوب بن إسحاق
البصري من الثلاثة المتممة للعشرة: «والبَحْرَ يَمُدُّهُ» بالنصب. فهذا
عطف على «ما» دون شك ولا ريب؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى تشهد بجواز كون
الواو حالا هنا قراءة طلحة بن مصرف: «وبَحْرٌ يُمِدُّهُ»، أي: وهناك بحر
يمده من بعده سبعة أبحر؛ فهذه إذن واو حال، والله أعلم.
وأما القراءة:
«والبَحْرُ يُمِدُّه» بضم الياء فتشبيه بإمداد الجيش، يعزز هذا قوله تعالى
في الآية 9 من سورة الأنفال: «مُمِدُّكُم بألْفٍ مِنَ المَلاَئكَةِ
مُرْدَفِينَ» كما قرأ، رضي الله عنه، الآية 17 من سورة السجدة التي هي:
«فلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً
بما كانوا يعملون» هكذا: «فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لَهُم مِنْ
قُرَّات أعْيُنٍ جَزاءً بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ». قرأ «قُرَّةِ» التي
جاءت في قراءة الجماعة المتعبد بتلاوتها بالجمع هكذا «قُرَّات».
ومعلوم
أن «القُرَّة» مصدر والمفروض ألا يجمع لأن المصدر اسم جنس، والأجناس أبعد
شيء عن الجمع لاستحالة المعنى في ذلك، ولربما جعلت «القُرَّةِ» هنا نوعاً
ولذا جاز جمعها.
وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، الآية 69 من
سورة الأحزاب التي هي: «يَا أيُّها الذِينَ ءامَنُوا لا تَكُونوا كالذين
ءاذَوْا مُوسى فبَرَّأه الله مِمَّا قَالوا وكان عِنْدَ الله وَجِيهاً»
هكذا: «يَا أيُّهَا الذِين ءامَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالذينَ ءاذوا مُوسَى
فبرَّأهُ الله مِمّا قالوا وكان عبد الله وجِيها» نعم، قرأ: «عبْداً لله
وجِيها».
لا شك أن قراءة الجماعة أقوى معنى بكثير من قراءة عبد الله بن
مسعود، وذلك أن هذه يفهم منها أنه عبد الله ولا تفهم منها وجاهته عند من
هي؟ أعند الله، أم عند الناس؟ وأما قراءة الجماعة فإنها تفيد كون وجاهته
عند الله وهذا أشرف من القول الأول لإسناد وجاهته إلى الله تعالى؛ وفي هذا
كما لا يخفى الشرف العظيم.
هناك مسألة أخرى في هذه القراءة من الوجاهة
بمكان يجب التنبؤ لها واعتبارها وإلا وقع لنا لبس خطير. ذلك أن لنا، نحن
القراء، ضوابط مهمة بواسطتها نميز بين القراءة المتواترة المتعبد بتلاوتها
والقراءة الشاذة التي لا يجوز، بحال من الأحوال التقرب بتلاوتها إلى الله
بل لا يجوز حتى قراءتها في المساجد؛ عدد هذه الضوابط ثلاثة في الحقيقة؛
يهمنا منها الآن الضابط الذي يتعلق بالرسم العثماني؛ هذا الضابط هو:
«لا بد لتكون القراءة صحيحة لا يجوز ردها ولايحل إنكارها من أن تكون مطابقة للرسم العثماني».
ينطبق،
كما نرى، هذا الضابط على قراءة عبد الله بن عباس المشار إليها أعلاه.
وفعلا إنَّ رسم الألفاظ التي قرأ بها عبد الله بن مسعود موافقة تماما لرسم
الألفاظ التي تقرأ بها الجماعة.
تعلمون أن الرسم العثماني الذي نقصده
هو الرسم الذي جرد تجريدا تاما من كل الحركات ومن جميع النقط ومن كل
الهمزات المحمولة وغير المحمولة وعدم اعتبار الفواصل بين حروفه. فإن أردنا
أن نتحقق مما نقول، وهو: هل رسم ما قرأ به هنا عبد الله بن مسعود مطابقا
لرسم ما قرأت به الجماعة أم غير مطابق وجب تجريد القراءتين مما ذكر
ومقارنة كل صيغة منهما بالرسم العثماني التوقيفي، والرسم التوقيفي.
للألفاظ المتحدث عنها هو هذا: وكان عند الله
وقراءة الجماعة هي هذه: وكانَ عِنْدَ الله
وقراءة عبد الله هي هذه: وكَانَ عبْدَ الله
نلاحظ بمقارنتنا للقراءتين مع الرسم التوقيفي أن لا فرق بين القراءتين؛ هنا يحق لمتابع هذا التحليل أن يضع هذا السؤال:
إذا كانت قراءة عبد الله بن مسعود هي أيضا مطابقة للرسم العثماني فلماذا نحكم عليها بأنها غير صحيحة لا يتعبد بها؟
أقول
لأنها لا ينطبق عليها الضوابط الثلاثة كلها. وضابط موافقة الرسم لا يكفي
لتكون القراءة صحيحة؛ لابد أن يتوفر فيها، وفي نفس الآن، ضابطان آخران،
وهما:
أولا: لا بد للقراءة الصحيحة أن تكون موافقة للغة العربية ولو
بوجه من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحا مجمعا عليه أم مختلفا فيه
اختلافا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع، وقراءة عبد الله بن
مسعود موافقة للغة العربية.
ثانيا: أن يصح سندها عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وقراءة عبد الله بن مسعود لا يتوفر فيها الضابط الأخير وهو
سندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك لا تعد صحيحة.
الدكتور التهامي الراجي الهاشمي- العلم
10-4-2009
الحلقة أيضا الحديث عن قراءة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، ولا شك
أنكم تذكرون أننا وصلنا، أنا وأنتم، في اللقاء السابق إلى سورة النور
وفيها رأيناه، رضي الله عنه، يقرأ قوله تعالى: «وإِذا وَقَع القَوْلُ
عَلَيْهِم أخْرَجْنا لهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُم أنَّ
النَّاسَ كَانُوا بآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ» هكذا: «وإِذَا وَقَع
القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ بأنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ» بزيادة
الباء قبل «أنَّ النَّاسَ». وكنا رأينا أن هذا يقومُ شاهداً لمن ذهب إلى
أن معنى «تُكَلِّمُهُمُ»: تُجْرحُهُم، أي: تفعل بهم ذلك بكفرهم وزوال
يقينهم.
وقرأ، رضي الله عنه، الآية 82 من سورة القصص التي هي:
«وأَصْبَح الَّذين تمنّوا مكانَهُ بالأمس يقولون ويْكَأنَّ الله يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لمَنْ يشاء مِنْ عِبَادِِهِ ويَقْدِرْ لَوْلا أنْ مَنَّ الله
عَلَيْنا لَخَسَفَ بنا ويْكأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرون»، هكذا:
«وأصْبح الذِين تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق
لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويْكَأنَّه لا
يُفْلِحُ الكَافِرون».
لفظ «بِنَا» في قراءة عبد الله بن مسعود مرفوعة
الموضع لإقامتها مقام الفاعل؛ فهو كقوله: انقطع بالرجل وانْجُدِبَ إلى ما
يريد وانقيد له إلى هواه. ومعلوم أن (انفعل) وإن لم يتعد إلى مفعول به
فإنه يتعدى إلى حرف الجر، فيقام حرف الجر مقام الفاعل، كقولهم: سير بزيد.
وإن شئت اضمرْتَ المصدر لدلالة فعله عليه؛ فكأنه قال: لا تخْسِف الانخِساف
بنا. فــ(بنا) على هذا منصوبة الموضع.
كما قرأ عبد الله بن مسعود، رضي
الله عنه، في الآية 27 من سورة لقمان وهي: ولوْ أنَّما في الأرض من شجرة
أقلامٌ والبحرُ يَمُدُّه من بعْدِهِ سبْعَة أبْحُرٍ مَا نَفَدَتْ
كَلِمَاتُ الله إن الله عزيز حكيمٌ»؛ أقول: قرأ هو: «وبَحْرٌ يُمِدَّهُ»
بضم الياء في الفعل «يَمُدُّهُ» وكسر ميمه وقبله «بَحْرٌ» غير معرف خلافا
لما نراه في قراءة الجماعة. شاركه في هذه القراءة طلحة بن مصرف. أما جعفر
بن محمد فقرأ: «والبَحْرُ مِدَادُهُ»، وقرأ الأعرج والحسن: «والبحْرُ
يُمِدُّهُ» عرَّفا «البَحْرُ» في قراءتهما.
أفادتنا قراءة جعفر بن محمد
أن قوله «والبَحْرُ» مرفوع بالابتداء وخبره محذوف ولا يجوز أن يكون معطوفا
على «أقْلاَمٌ»، لأن البحر وما فيه من الماء ليس من حديث الشجر والأقلام
وإنما هو من حديث المداد.
ما يدل على صحة العطف هنا، وما يدل كذلك على
أن الواو ليست بواو حال قراءة أبي عمرو البصري من السبعة ويعقوب بن إسحاق
البصري من الثلاثة المتممة للعشرة: «والبَحْرَ يَمُدُّهُ» بالنصب. فهذا
عطف على «ما» دون شك ولا ريب؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى تشهد بجواز كون
الواو حالا هنا قراءة طلحة بن مصرف: «وبَحْرٌ يُمِدُّهُ»، أي: وهناك بحر
يمده من بعده سبعة أبحر؛ فهذه إذن واو حال، والله أعلم.
وأما القراءة:
«والبَحْرُ يُمِدُّه» بضم الياء فتشبيه بإمداد الجيش، يعزز هذا قوله تعالى
في الآية 9 من سورة الأنفال: «مُمِدُّكُم بألْفٍ مِنَ المَلاَئكَةِ
مُرْدَفِينَ» كما قرأ، رضي الله عنه، الآية 17 من سورة السجدة التي هي:
«فلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً
بما كانوا يعملون» هكذا: «فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لَهُم مِنْ
قُرَّات أعْيُنٍ جَزاءً بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ». قرأ «قُرَّةِ» التي
جاءت في قراءة الجماعة المتعبد بتلاوتها بالجمع هكذا «قُرَّات».
ومعلوم
أن «القُرَّة» مصدر والمفروض ألا يجمع لأن المصدر اسم جنس، والأجناس أبعد
شيء عن الجمع لاستحالة المعنى في ذلك، ولربما جعلت «القُرَّةِ» هنا نوعاً
ولذا جاز جمعها.
وقرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، الآية 69 من
سورة الأحزاب التي هي: «يَا أيُّها الذِينَ ءامَنُوا لا تَكُونوا كالذين
ءاذَوْا مُوسى فبَرَّأه الله مِمَّا قَالوا وكان عِنْدَ الله وَجِيهاً»
هكذا: «يَا أيُّهَا الذِين ءامَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالذينَ ءاذوا مُوسَى
فبرَّأهُ الله مِمّا قالوا وكان عبد الله وجِيها» نعم، قرأ: «عبْداً لله
وجِيها».
لا شك أن قراءة الجماعة أقوى معنى بكثير من قراءة عبد الله بن
مسعود، وذلك أن هذه يفهم منها أنه عبد الله ولا تفهم منها وجاهته عند من
هي؟ أعند الله، أم عند الناس؟ وأما قراءة الجماعة فإنها تفيد كون وجاهته
عند الله وهذا أشرف من القول الأول لإسناد وجاهته إلى الله تعالى؛ وفي هذا
كما لا يخفى الشرف العظيم.
هناك مسألة أخرى في هذه القراءة من الوجاهة
بمكان يجب التنبؤ لها واعتبارها وإلا وقع لنا لبس خطير. ذلك أن لنا، نحن
القراء، ضوابط مهمة بواسطتها نميز بين القراءة المتواترة المتعبد بتلاوتها
والقراءة الشاذة التي لا يجوز، بحال من الأحوال التقرب بتلاوتها إلى الله
بل لا يجوز حتى قراءتها في المساجد؛ عدد هذه الضوابط ثلاثة في الحقيقة؛
يهمنا منها الآن الضابط الذي يتعلق بالرسم العثماني؛ هذا الضابط هو:
«لا بد لتكون القراءة صحيحة لا يجوز ردها ولايحل إنكارها من أن تكون مطابقة للرسم العثماني».
ينطبق،
كما نرى، هذا الضابط على قراءة عبد الله بن عباس المشار إليها أعلاه.
وفعلا إنَّ رسم الألفاظ التي قرأ بها عبد الله بن مسعود موافقة تماما لرسم
الألفاظ التي تقرأ بها الجماعة.
تعلمون أن الرسم العثماني الذي نقصده
هو الرسم الذي جرد تجريدا تاما من كل الحركات ومن جميع النقط ومن كل
الهمزات المحمولة وغير المحمولة وعدم اعتبار الفواصل بين حروفه. فإن أردنا
أن نتحقق مما نقول، وهو: هل رسم ما قرأ به هنا عبد الله بن مسعود مطابقا
لرسم ما قرأت به الجماعة أم غير مطابق وجب تجريد القراءتين مما ذكر
ومقارنة كل صيغة منهما بالرسم العثماني التوقيفي، والرسم التوقيفي.
للألفاظ المتحدث عنها هو هذا: وكان عند الله
وقراءة الجماعة هي هذه: وكانَ عِنْدَ الله
وقراءة عبد الله هي هذه: وكَانَ عبْدَ الله
نلاحظ بمقارنتنا للقراءتين مع الرسم التوقيفي أن لا فرق بين القراءتين؛ هنا يحق لمتابع هذا التحليل أن يضع هذا السؤال:
إذا كانت قراءة عبد الله بن مسعود هي أيضا مطابقة للرسم العثماني فلماذا نحكم عليها بأنها غير صحيحة لا يتعبد بها؟
أقول
لأنها لا ينطبق عليها الضوابط الثلاثة كلها. وضابط موافقة الرسم لا يكفي
لتكون القراءة صحيحة؛ لابد أن يتوفر فيها، وفي نفس الآن، ضابطان آخران،
وهما:
أولا: لا بد للقراءة الصحيحة أن تكون موافقة للغة العربية ولو
بوجه من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحا مجمعا عليه أم مختلفا فيه
اختلافا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع، وقراءة عبد الله بن
مسعود موافقة للغة العربية.
ثانيا: أن يصح سندها عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وقراءة عبد الله بن مسعود لا يتوفر فيها الضابط الأخير وهو
سندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك لا تعد صحيحة.
الدكتور التهامي الراجي الهاشمي- العلم
10-4-2009
abdelhamid- مشرف (ة)
- عدد الرسائل : 4741
العمر : 67
Localisation : SUD
تاريخ التسجيل : 01/03/2007
مواضيع مماثلة
» لمحة موجزة عن قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
» لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن عباس، رضي الله عنه
» لمحة موجزة عن قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
» القرآن المتعبد به هو القراءات القرآنية الـمتواترة لمحة موجزة عن قراءة أبي بن كعب، رضي الله عنه
» القرآن المتعبد به هو القراءات القرآنية الـمتواترة لمحة موجزة عن قراءة قتادة بن دعامة رضي الله عنه
» لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن عباس، رضي الله عنه
» لمحة موجزة عن قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
» القرآن المتعبد به هو القراءات القرآنية الـمتواترة لمحة موجزة عن قراءة أبي بن كعب، رضي الله عنه
» القرآن المتعبد به هو القراءات القرآنية الـمتواترة لمحة موجزة عن قراءة قتادة بن دعامة رضي الله عنه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى