من طرف izarine الخميس 24 سبتمبر 2009 - 19:41
تعتمد الحركات الإسلاموية المعاصرة في تكفيرها للأنظمة والمجتمعات العربية والإسلامية، على مسوغات فقهية يمكن إدراجها في إطار فقه جماعات العنف، الذي هو نتيجة لنهج معين ولفقه خاص له وجهته ومفاهيمه. وعلى الرغم من ان هذه الجماعات تتمسك بحرفية النصوص التأسيسية، وتغفل المقاصد، وتخرج بأدلة بعيدة عن سياقها وإطارها، إلاّ أنها استطاعت توظيفها بشكل سمح لها بممارسة عنفها وتكفيرها للداخل والخارج. بدأت هذه الجماعات العنف في داخل أوطانها، أي العنف ضد الأنظمة الحاكمة واعتبرت أن الحكومات المعاصرة حكومات غير شرعية وكافرة، لأنها لم تحكم بما أنزل الله، واستبدلت الشريعة بالقوانين الوضعية، ولذلك وجب الحكم عليها بالكفر والردة والخروج من المِلّة؛ لهذا يجب قتالها حتى تتخلى عن السلطة. ويؤكد فقه هذه الجماعات كما يشير الشيخ يوسف القرضاوي عدم شرعية الحكومات العربية والإسلامية أو كفر الأنظمة الحاكمة بأمر آخر وهو 'أنها توالي أعداء الله من الكفار، الذين يكيدون للمسلمين، وتعادي أولياء الله من دعاة الإسلام، الذين ينادون بتحكيم شرع الله وتضطهدهم وتؤذيهم (ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم) ومن دلائل ذلك أن هذه الأنظمة فرطت في الدفاع عن المسجد الأقصى، وأرض الإسراء والمعراج بل بعضه وضع يده في يد الدولة الصهيونية، والبعض سار في ركاب الأمريكيين. الى ذلك شكلت فتوى الإمام ابن تيمية في قتال كل فئة تمتنع عن أداء الشريعة، سنداً فقهياً شرعياً، وأساساً نظرياً، لجأت إليه الحركات الاسلاموية لشرعنة عنفها، وهم يستدلون بقتال أبي بكر ومن معه من الصحابة لمانعي الزكاة. أما بالنسبة للانظمة العربية فيستند فقه جماعات العنف كما خلص القرضاوي الى 'أن هذه الأنظمة غير شرعية لأنها لم تقم على أساس شرعي في اختيار جماهير الناس، أو اختيار أهل الحل والعقد، وبيعة عموم الناس. فهي تفتقد الرضا العام، الذي هو أساس الشريعة وإنما قامت على أسنة الرماح بالتغلب والسيف والعنف، وما قام بقوة السيف يجب أن يقاوم بسيف القوة ولا يمكن أن يقاوم بسيف القلم. وترى الحركات الإسلاموية أن الحكومات تقر المُنْكَر وتبيح المحرمات من الخمر والزنا والميسر والربا والخلاعة والمجون وسائر المحظورات الشرعية 'لذا وجب محاربتها بالقوة وتكفيرها والقاعدة التي يعتمدون عليها: أن من لم يكفِّر الكافر فهو كافر. وبالنظر إلى الأقليات غير المسلمة يُقر فقه العنف بوجوب حل دمهم ومالهم لأنهم نقضوا العهد بعد أدائهم الجزية، وبتأييدهم للأنظمة المرتدة لم يعد لهم في أعناق المسلمين عهد ولا ذمة. لهذا دماؤهم حلال، وأموالهم حلال للمسلمين، ولتبرير ذلك يذكرون آيات وأحاديث يفسرّونها بأسلوب يخدم أهدافهم التي هي في الأساس ذات منحى "سياسي". يستخدم الفقه الكلاسيكي الإسلامي مصطلح الدار للتعبير عن مفهوم المجتمع وتنقسم الدار فقهياً إلى دار الإسلام ودار الحرب أو دار الكفر، فكيف وظفت الحركات الاسلاموية هذه المصطلحات لتكفير الأنظمة والمجتمعات؟ خلص أحمد البغدادي الى أن انتقال المجتمعات الإسلامية الراهنة من دار الإسلام إلى دار الحرب شكل مظهراً بارزاً من مظاهر تكفيرها، لذلك عمدت الاسلاموية إلى اعتبار ديار الإسلام دار كفر، وإن لم يكن جميع أفرادها كفاراً، باستثناء من اعتقد منهم بفصل الدين عن الدولة، فهذا مرتد قطعاً ويجب أن يُستتاب أو يقتل، والواجب هو قتل كل من ارتد ولو بلغ عدد المرتدين الملايين. هذا الموقف الذي اعتمده حزب التحرير الذي أسسه تقي الدين النبهاني عام 1957، لا يختلف كثيراً عن مواقف تنظيم الجهاد الذي اغتال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981، فيرون في ضوء فتاوى ابن تيمية وإسقاطها المعاصر أن المجتمعات الإسلامية الراهنة مركبة من دار الإسلام ودار الحرب، فالدولة تحكم بأحكام الكفر بالرغم من أن أغلب أهلها مسملون. بينما يتجه صالح سرية إلى التأكيد على أن البلاد الإسلامية الراهنة هي بلاد جاهلية، والجاهلي يترادف لديه فعلياً مع الكافر، وتبعاً لمفهوم الأحكام التي تعلو الدار، يرى سرية أن الدار الراهنة في المجتمعات الإسلامية هي دار حرب، ومن خصائص فكره تصنيفه للإنسانية إلى ثلاث مجموعات فقط: المسلمون، والكفار، والمنافقون. تنطلق جماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري مصطفى من تكفير المجتمعات الإسلامية كهيئة أو كمجتمعات، أما الفرد الذي ينطق بالشهادتين فيبقى حكمه معلقاً، لا هو مسلم ولا هو غير مسلم حتى يهاجر إلى جماعة المسلمين متى بلغته الدعوة. (راجع: الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية، مجموعة من الباحثين، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية) وقد صاغ مصطفى قواعد تكفيرية أخرى، منها قاعدة من قلد فقد كفر أي تكفير من يتبع أحداً من أصحاب المذاهب الفقهية كالشافعي أو المالكي أو أبي حنيفة إلخ وقاعدة من أصر على المعصية فهو كافر والمعصية شرك، وقاعدة من فسق فقد كفر (راجع النبهاني، تقي الدين: نظام الحكم في الإسلام). يمكن اعتبار "جماعة التكفير والهجرة" على أنها الجماعة الأساسية التي تمثل الوجه المتطرف لأيديولوجية تكفير المجتمعات الإسلامية سواء اكتسبت مضموناً ثورياً انقلابياً، أم مضموناً انعزالياً لا يجيز المواجهة مع السلطة أو مع غيرها في مرحلة الهجرة أو الاستضعاف بلغة الجماعة. تشكل نظرية الحاكمية التي تعود أسسها إلى أبي الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في الهند عام 1941، والتي اكتسبت مضموناً جهادياً إنقلابياً مع سيد قطب في كتابه الشهير "معالم في الطريق"، منطلقاً تأسيسياً لتكفير الدولة، فكافة التيارات التي تعتنق نظرية الحاكمية تجمع على تكفير الديمقراطية ووصف المجالس النيابية بالمجالس الكفرية أو الشركية، وترى أن المشاركة في هذه المجالس تصويتاً أو ترشيحاً هو معصية. لقد قادت الفتاوى التكفيرية والايديولوجيات الراديكالية التي أسس لها سيد قطب، حركات إسلاموية عديدة، منذ سبعينيات القرن الماضي، في دول مختلفة، إلى ممارسة العنف ضد السلطات القائمة، وأقحمت بلدانها بذلك في دوامة من العنف والعنف المضاد، أي عنف الإسلامويين وعنف أجهزة الدولة. وإذا كان الاسلاميون يبررون عنفهم ضد الدولة بتبريرات دينية، فإن السلطة السياسية تلجأ إلى حملات القمع ضد العمل الإسلامي العنيف بالقانون أحياناً وبالدين أحياناً أخرى. هكذا كان الدين والعنف طرفين في معركة متواصلة بين السلطة السياسية والخارج عنها الذي يسعى إلى إسقاطها بشتى الأساليب. هذا على مستوى العنف الداخلي التبادلي، فكيف تنظر الحركات الإسلاموية إلى الغرب؟ لا شك أن العلاقة الصراعية بين الإسلام والغرب تتداخل فيها عوامل ومعطيات مختلفة، وما الموقف الذي تتخذه الحركات الاسلاموية المتنوعة إلا إمتداداً للفكرة القائلة باستعمارية الغرب واحتقاره للإسلام. من هنا لم تتأسس القراءات المتعلقة بهذا الشأن إلا من منظور العداء والصدام، هذا الصراع التاريخي بين الغرب والإسلام، المنطلق من أسباب استعمارية ومادية، لا علاقة له بالعوامل الوجودية التي تحفظ كيانية هذا الدين أو ذاك على الرغم من التبريرات القائلة بالتهديد الإسلامي وصليبية الغرب في آن. إن الطابع الجهادي للحركات الإسلامية بشقيها الراديكالي والوسطي لا يخرج عن النمط النضالي ضد الحركة الاستعمارية الغربية القديمة والجديدة، ولذلك فالاتجاه السائد حالياً في أوساط تيارات المقاومة الشرعية والاسلاموية العنفية يعتبر أن الغرب معاد له بشكل منتظم ودائم ولا يهدف من سياساته الدولية إلا السيطرة على موارد ديار الإسلام، لذا وجب محاربته باشكال مختلفة تندرج معظمها تحت إسم الجهاد الذي وفقاً لرؤية محمد أركون يحتل أهمية اليوم في ساحة الإسلام المعاصر الذي يرى نفسه وكأنه قد غلب على أمره، واعتدي عليه، وشوه من قبل القوى الباغية في الغرب. والحال ما بين الايديولوجية التكفيرية الإلغائية والسياسة القمعية للسلطة الحاكمة المتكافلة مع الاستراتيجيات الدولية، دخلت المجتمعات العربية والإسلامية في حلقة من الأزمات المتتالية، بدأت بفشل التجارب الوحدوية والتنموية وبتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، والحروب الخاسرة في مواجهة إسرائيل، وبهذا اكتمل تشكل الحركات الإسلاموية، وأصبحت التيار الرئيسي للمعارضة، وخاضت حروبها في إطار العمل السياسي والمسلح في آن، الأمر الذي مكنَّها من التسلل التدريجي في النسيج الاجتماعي عبر خلو الساحة السياسية من الأحزاب الليبرالية والقومية، وبنائها لشبكة من المؤسسات الاجتماعية والصحية مما ساعدها على بناء امبراطوريتها الاجتماعية الرعائية. ومع توسع قاعدتها الجماهيرية بدأت المواجهة الفعلية بين الاسلامويين والدولة من جهة وبينهم وبين الغرب الذي حمل شعار التصدي للأصولية الإسلامية وإرهابها من جهة ثانية. وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتوصل حالة التأزم إلى ذروتها. ولكن رغم ثقل الاطار الايديولوجي المعتمد منذ زمن من قبل الحركات الإسلامية، ودخولها في حلقة من الصدام مع الداخل والخارج، إلاَّ أن الكثير منها أجرى مراجعات نوعية ومفصلية حول الكثير من المفاهيم، ولعل المراجعة التي قامت بها جماعة الجهاد في مصر، وإسقاطها للمفاهيم المتعلقة بجاهلية المجتمع وتكفير الدولة، يبرهن على تحول مهم لديها، مما قد يمهد الى انتقالها من جبهة العمل المسلح، الى المشاركة في الحياة السياسية على قاعدة الديمقراطية إنما بنكهة إسلامية، وهذا ما أسماه يوسف شلحد بالشوراقراطية.
د. ريتا فرج باحثة وكاتبة لبنانية 23/9/2009 |
| |
|